كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

وأناة، حكى أبو إسحاق الصابي قال: كنت يوما عنده وقد جئ بدواة قد صنعت له ومرفع قد حليا له بحلية كثيرة، فقال أبو محمد الفضل بن عبد الله الشيرازي - سرا بيني وبينه -: ما كان أحوجني إليها لابيعها وأنتفع بها، قلت: وأي شئ ينتفع الوزير بها ؟ فقال: تدخل في خزانتها، فسمعها الوزير - وكان مصغ لنا ولا نشعر - فلما أمسى بعث بالدواة إلى أبي محمد الشيرازي ومرفعها وعشرة ثياب وخمسة آلاف درهم، واصطنع له غيرها.
فاجتمعنا يوما آخر عنده وهو يوقع من تلك الدواة الجديدة، فنظر إلينا فقال: من يريدها منكما ؟ قال: فاستحيينا وعلمنا أنه قد سمع كلامنا ذلك اليوم، وقلنا يمتع الله الوزير بها ويبقيه ليهب لنا مثلها.
توفي المهلبي في هذه السنة عن أربع وستين سنة.
دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن أبو محمد (1) السجستاني المعدل، سمع بخراسان وحلوان وبغداد والبصرة والكوفة ومكة، وكان من ذوي اليسار والمشهورين بالبر والافضال، وله صدقات جارية، وأوقاف دارة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان، كانت له دار عظيمة ببغداد، وكان يقول: ليس في الدنيا مثل بغداد، ولا في بغداد مثل القطيعة، ولا في القطيعة مثل دار (2) أبي خلف، ولا في دار (3) أبي خلف مثل داري.
وصنف الدار قطني له مسندا.
وكان إذ شك في حديث طرحه جملة، وكان الدار قطني يقول: ليس في مشايخنا أثبت منه، وقد أنفق في ذوي العلم والحاجات أموالا جزيلة كثيرة جدا، اقترض منه بعض التجار عشرة آلاف دينار فاتجر بها، فربح في مدة ثلاث سنين ثلاثين ألف دينار، فعزل منها عشرة آلاف دينار وجاءه بها فأضافه دعلج ضيافة حسنة، فلما فرغ من شأنها قال له: ما شأنك ؟ قال له: هذه العشرة آلاف دينار التي تفضلت بها، قد أحضرت فقال: يا سبحان الله إني لم أعطكها لتردها فصل بها الاهل.
فقال: إني قد ربحت بها ثلاثين ألف دنيار فهذه منها: فقال له دعلج: أذهب بارك الله لك، فقال له: كيف يتسع مالك لهذا ؟ ومن أين أفدت هذا المال ؟ قال: إني كنت في حداثة سني أطلب الحديث، فجاءني رجل تاجر من أهل البحر فدفع إلى ألف ألف درهم، وقال: اتجر في هذه، فما كان من ربح فبيني وبيك، وما كان من خسارة فعلي دونك، وعليك عهد الله وميثاقه إن وجدت ذا حاجة أو خلة إلا سددتها من مالي هذا دون مالك، ثم جاءني فقال: إني أريد الركوب في البحر فإن هلكت فالمال في يدك على ما شرطت عليك.
فهو في يدي على ما قال.
ثم قال لي: لا تخبر بها أحدا مدة حياتي.
فلم أخبر به أحد حتى مات.
توفي في جمادى الاخرة من هذه السنة عن أربع أو خمس وتسعين سنة.
رحمه الله.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 881: أبو اسحاق السجزي المعدل.
وفي الكامل لابن الاثير 8 / 545: السجزي العدل (2) في ابن خلكان 2 / 271: درب.

عبد الباقي بن قانع ابن مرزوق أبو الحسن الاموي مولاهم، سمع الحارث بن أسامة، وعنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة أمينا حافظا، ولكنه تغير في آخر عمره.
قال الدار قطني: كان يخطئ ويصر على الخطأ، توفي في شوال منها.
أبو بكر النقاش المفسر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون بن جعفر، أبو بكر النقاش المفسر المقرئ، مولى أبي دجانة سماك بن خرشة، أصله من الموصل، كان عالما بالتفسير وبالقراءات، وسمع الكثير في بلدان شتى عن خلق من المشايخ، وحدث عنه أبو بكر بن مجاهد والخلدي وابن شاهين وابن زرقويه وخلق، وآخر من حدث عنه ابن شاذان، وتفرد بأشياء منكرة، وقد وثقه الدار قطني على كثير من خطئه ثم رجع عن ذلك، وصرح بعضهم بتكذيبه والله أعلم.
وله كتاب التفسير الذي سماه شفاء الصدور وقال بعضهم: بل هو سقام الصدور، وقد كان رجلا صالحا في نفسه عابدا ناسكا، حكى من حضره وهو يجود بنفسه وهو يدعو بدعاء ثم رفع صوته يقول (لمثل هذا فليعمل العاملون) [ الصافات: 61 ] يرددها ثلاث مرات ثم خرجت روحه رحمه الله.
توفي يوم الثلاثاء الثاني من شوال منها ودفن بداره بدار القطن.
محمد بن سعيد أبو بكر الحربي الزاهد، ويعرف بابن الضرير، كان ثقة صالحا عابدا.
ومن كلامه: دافعت الشهوات حتى صارت شهوتي المدافعة.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه قبحه الله أن تغلق الاسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر وأن يخرجن في الاسواق حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن يلطمن وجوههن ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يمكن أهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم، وكون السلطان معهم.
وفي عشر (1) ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد وأن تفتح الاسواق بالليل كما في الاعياد، وأن تضرب الدبادب والبوقات، وأن تعشل
النيران في أبواب الامراء وعند الشرط، فرحا بعيد الغدير - غدير خم - فكان وقتا عجيبا مشهودا، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة.
وفيها أغارت الروم على الرها، فقتلوا وأسروا ورجعوا موقرين، ثم ثارت الروم بملكهم فقتلوه وولوا غيره، ومات الدمستق أيضا ملك الارمن واسمه النقفور، وهو الذي أخذ حلب وعمل فيها ما عمل، وولوا غيره.
__________
(1) في الكامل 8 / 549: ثامن عشر.
وفي تاريخ ابي الفداء 2 / 104: ثامن ذي الحجة .

ترجمة النقفور ملك الارمن واسمه الدمستق الذي توفي في سنة ثنتين - وقيل خمس وقيل ست - وخمسين وثلثمائة لا رحمه الله.
كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا، وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسا، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرا، واستمرت في يده قهرا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا.
وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشوا البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الاسلام، فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد، فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الاعداء وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستقان.
وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين، وجال فيها جولة.
ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها من الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله.
وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب، وأخذ أموالها وحواصلها وعددها وبدد شملها، وفرق عددها، واستفحل أمر الملعون بها فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبالغ في الاجتهاد في قتال الاسلام وأهله، وجد في التشمير، فالحكم لله العلي الكبير.
وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والاطفال، وجعل جامعها اصطبلا لخيوله، وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله.
ولم يزل ذلك دأبه وديدنه حتى سلط الله عليه زوجته فقتلته بجواريها في
وسط مسكنه.
وأراح الله منه الاسلام وأهله، وأزاح عنهم قيام ذلك الغمام ومزق شمله، فلله النعمة والافضال، وله الحمد على كل حال.
واتفق في سنة وفاته موت صاحب القسطنطينية.
فتكاملت المسرات وخلصت الامنية، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتذهب السيئات، وبرحمته تغفر الزلات.
والمقصود أن هذا اللعين - أعني النقفور الملقب بالدمستق ملك الارمن كان قد أرسل قصيده إلى الخليفة المطيع لله، نظمها له بعض كتابه ممن كان قد خذله الله وأذله، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وصرفه عن الاسلام وأصله.
يفتخر فيها بهذا اللعين، ويتعرض لسب الاسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الاسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين، عما قريب من الاعوام، وهو أقل وأذل وأخس وأضل من الانعام، ويزعم أنه ينتصر لدين المسيح عليه السلام ابن البتول.
وربما يعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والاكرام، ودوام الصلاة مدى الايام.
ولم يبلغني عن أحد من أهل ذلك العصر أنه رد عليه جوابه، إما لانها لم تشتهر، وإما لانه أقل من أن يردوا خطابه لانه كالمعاند الجاحد.
ونفس نظمها تدل على أنه شيطان مارد وقد انتخى للجواب عنها بعد ذلك أبو محمد بن حزم الظاهري: فأفاد وأجاد، وأجاب عن كل فصل باطل بالصواب والسداد، فبل الله بالرحمة ثراه.
وجعل الجنة متقله ومثواه.

وها أنا أذكر القصيدة الارمنية المخذولة الملعونة، وأتبعها بالفريدة الاسلامية المنصورة الميمونة قال المرتد الكافر الارمني على لسان ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يا رب العالمين.
ومن خط ابن عساكر كتبتها، وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني: من الملك الطهر المسيحي مالك * إلى خلف الاملاك من آل هاشم إلى الملك الفضيل المطيع أخي العلا * ومن يرتجى للمعضلات العظائم أما سمعت أذناك ما أنا صانع * ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم فإن تك عما قد تقلدت نائما * فإني عما همني غير نائم
ثغوركم لم يبق فيها - لوهنكم * وضعفكم - إلا رسوم المعالم فتحنا الثغور الارمنية كلها * بفتيان صدق كالليوث الضراغم ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها * وتبلغ منها قضمها للشكائم (1) إلى كل ثغر بالجزيرة آهل * إلى جند قنسريتكم فالعواصم ملطية مع سميساط من بعد كركر * وفي البحر أضعاف الفتوح التواخم وبالحدث الحمراء جالت عساكري * وكيسوم بعد الجعفري للمعالم وكم قد ذللنا من أعزة أهلها * فصاروا لنا من بين عبد وخادم وسد سروج إذ خربنا بجمعنا * لنا رتبة تعلوا على كل قائم وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا * بمنديل مولى علا عن وصف آدمي وصبح رأس العين منا بطارق * ببيض غزوناها بضرب الجماجم ودارا وميا فارقين وأزرنا * أذقناهم بالخيل طعم العلاقم واقريطش قد جازت إليها مراكبي * على ظهر بحر مزبد متلاطم فحزتهم أسرى وسيقت نساؤهم * ذوات الشعور المسبلات النواعم هناك فتحنا عين زربة عنوة * نعم وأبدنا كل طاغ وظالم إلى حلب حتى استبحنا حريمها * وهدم منها سورها كل هادم أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم * وصبيانهم مثل المماليك خادم وقد فر عنها سيف دولة دينكم * وناصركم منا على رغم راغم وملنا على طرسوس ميلة حازم * أذقنا لمن فيها لحز الحلاقم فكم ذات عز حرة علوية * منعمة الاطراف ريا المعاصم سبينا فسقنا خاضعات حواسرا * بغير مهور، لا ولا حكم حاكم وكم من قتيل قد تركنا مجندلا * يصب دما بين اللها واللهازم
__________
(1) الشكائم: جمع شكيمة، وهي الحديدة توضع في فم الخيل .

وكم وقعة في الدرب أفنت كماتكم * وسقناهم قسرا كسوق البهائم وملنا على أرياحكم وحريمها * مدوخة تحت العجاج السواهم فأهوت أعاليها وبدل رسمها * من الانس وحشا بعد بيض نواعم إذا صاح فيهم البوم جاوبه الصدى * وأتبعه في الربع نوح الحمائم وإنطاك لم تبعد علي وإنني * سأفتحها يوما بهتك المحارم ومسكن آبائي دمشق فإنني * سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي ومصر سأفتحها بسيفي عنوة * وآخذ أموالا بها وبهائمي وأجزي كافورا بما يستحقه * بمشط ومقراض وقص محاجم الا شمروا يا أهل حمدان شمروا * أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم فأن تهربوا تنجوا كراما وتسلموا * من الملك الصادي بقتل المسالم (1) كذاك نصيبين وموصلها إلى * جزيرة آبائي وملك الاقادم سأفتح سامرا وكوثا وعكبرا * وتكريتها مع ماردين العواصم وأقتل أهليها الرجال بأسرها * وأغنم أموالا بها وحرائم ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم * فكلكم مستضعف غير رائم رضيتم بحكم الديلمي ورفضه * فصرتم عبيدا للعبيد الديالم ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا * إلى أرض صنعا راعيين البهائم وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة * وخلوا بلاد الروم أهل المكارم سألقي جيوشا نحو بغداد سائرا * إلى باب طاق حيث دار القماقم وأحرق أعلاها وأهدم سورها * وأسبي دراريها على رغم راغم وأحرز أموالا بها وأسرة * وأقتل من فيها بسيف النقائم وأسري بجيشي نحو الاهواز مسرعا * لاحراز ديباج وخز السواسم
وأشعلها نهبا وأهدم قصورها * وأسبي ذراريها كفعل الاقادم ومنها إلى شيراز والري فاعلموا * خراسان قصري والجيوش بحارم إلى شاس بلخ بعدها وخواتها * وفرغانة مع مروها والمخازم وسابور أهدمها وأهدم حصونها * وأوردها يوما كيوم السمائم (2) وكرمان لا أنسى سجستان كلها * وكابلها النائي وملك الاعاجم أسير بجندي نحو بصرتها التي * لها بحر عجاج رائع متلازم إلى واسط وسط العراق وكوفة * كما كان يوما جندنا ذو العزائم
__________
(1) الصادي: المتعطش يريد ارواء ظمأه.
هنا المتعطش للقتال واهراق الدماء.
(3) يوم السمائم: يوم الرياح الحارة التي تشوي الوجوه شيا

واخرج منها نحو مكة مسرعا * أجر جيوشا كالليالي السواجم (1) فأملكها دهرا عزيزا مسلما * أقيم بها للحق كرسي عالم وأحوي نجدا كلها وتهامها * وسرا واتهام مدحج وقحاطم وأغزو يمانا كلها وزبيدها * وصنعاء هنا مع صعدة والتهائم فاتركها أيضا خرابا بلاقعا * خلاء من الاهلين أهل نعائم وأحوي أموال اليمانين كلها * وما جمع القرماط يوم محارم أعود إلى القدس التي شرفت بنا * بعز مكين ثابت الاصل قائم وأعلو سريري للسجود معظما * وتبقى ملوك الارض مثل الخوادم هنالك تخلوا الارض من كل مسلم * لكل نقي الدين أغلف زاعم نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم * وأعلنتمو بالمنكرات العظائم قضاتكم باعوا القضاء بدينهم * كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم عدولكم بالزور يشهد ظاهرا * وبالافك والبرطيل مع كل قائم
سأفتح أرض الله شرقا ومغربا * وأنشر دينا للصليب بصارمي فعيسى علا فوق السموات عرشه * يفوز الذي والاه يوم التخاصم وصاحبكم بالترب أودى به الثرى * فصار رفاتا بين تلك الرمائم تناولتم أصحابه بعد موته * بسب وقذف وانتهاك المحارم هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار، (يوم لا تنفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) [ غافر: 52 ] يوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا (يوم يعض الظالم على يديه، يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا) [ الفرقان: 27 - 29 ].
إن كان مات كافرا.
وهذا جوابها لابي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الاندلسي قالها ارتجالا حين بلغته هذه الملعونة عضبا لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه وغفر له خطاياه.
من المحتمي بالله رب العوالم * ودين رسول الله من آل هاشم محمد الهادي إلى الله بالتقى * وبالرشد والاسلام أفضل قائم عليه من الله السلام مرددا * إلى أن يوافي الحشر كل العوالم إلى قائل بالافك جهلا وضلة * عن النقفور المفتري في الاعاجم دعوت إماما ليس من أمرائه * بكفيه إلا كالرسوم الطواسم (2) * (هامش * (1) السواجم: الكثيفة.
وسجم الدمع والمطر: إذا سال وانصب غزيرا.
(2) الطواسم: التي طمسها الغبار واخفى معالمها ورسومها .

دهته الدواهي في خلافته كما * دهت قبله الاملاك دهم الدواهم ولا عجب من نكبة أو ملمة * تصيب الكريم الجدود الاكارم ولو أنه في حال ماضي جدوده * لجرعتم منه سموم الاراقم عسى عطفة لله في أهل دينه * تجدد منه دارسات المعالم
فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة * لكان بفضل الله أحكم حاكم إذن لا عترتكم خجلة عند ذكره * وأخرس منكم كل فاه مخاصم سلبناكم كرا ففزتم بغرة * من الكر أفعال الضعاف العزائم فطرتم سرورا عند ذاك ونشوة * كفعل المهين الناقص المتعالم وما ذاك إلا في تضاعيف عقله * عريقا وصرف الدهر جم الملاحم ولما تنازعنا الامور تخاذلا * ودانت لاهل الجهل دولة ظالم وقد شعلت فينا الخلائف فتنة * لعبدانهم مع تركهم والدلائم بكفر أياديهم وجحد حقوقهم * بمن رفعوه من حضيض البهائم وثبتم على أطرافنا عند ذاكم * وثوب لصوص عند غفلة نائم ألم تنتزع منك بأعظم قوة * جميع بلاد الشام ضربة لازم ومصرا وأرض القيروان بأسرها * وأندلسا قسرا بضرب الجماجم ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا * صقلية في بحرها المتلاطم مشاهد تقد يساتكم وبيوتها * لنا وبأيدينا على رغم راغم أما بيت لحم والقمامة بعدها * بأيدي رجال المسلمين الاعاظم وسركيسكم في أرض اسكندرية * وكرسيكم في القدس في أدرثاكم ضممناكم قسرا برغم أنوفكم * وكرسي قسطنطينية في المعادم ولا بد من عود الجميع بأسره * إلينا بعز قاهر متعاظم أليس يزيد حل وسط دياركم * على باب قسطنطينية بالصوارم ومسلمة قد داسها بعد ذاكم * بجيش تهام قد دوى بالضراغم وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي * بنى فيكم في عصره المتقادم إلى جنب قصر الملك من دار ملككم * ألا هذه حق صرامة صارم وأدى لهارون الرشيد مليككم * رفادة مغلوب وجزية غارم
سلبناكم مصر شهود بقوة * حبانا بها الرحمن أرحم راحم إلى بيت يعقوب وأرباب دومة * إلى لجة البحر المحيط المحاوم فهل سرتم في أرضنا قط جمعة * أبى لله ذا كم يا بقايا الهزائم فما لكم إلا الاماني وحدها * بضائع نوكي تلك أحلام نائم

رويدا بعد نحو الخلافة نورها * وسفر مغير وجوه الهواشم وحينئذ تدرون كيف قراركم * إذا صدمتكم خيل جيش مصادم على سالف العادات منا ومنكم * ليالي بهم في عداد الغنائم سبيتم سبايا يحصر العد دونها * وسبيكم فينا كقطر الغمائم فلو رام خلق عدها رام معجزا * وأني بتعداد لرش الحمائم بأبناء بني حمدان وكافور صلتم * أراذل أنجاس قصار المعاصم دعي وحجام سطوتم عليهما * وما قدر مصاص دماء المحاجم فهلا على دميانة قبل ذاك أو * على محل أربا رماة الضراغم ليالي قادوكم كما اقتادكم * أقيال جرجان بحز الحلاقم وساقوا على رسل بنات ملوككم * سبايا كما سيقت ظباء الصرائم ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلى * لكم من ملوك مكرمين قماقم (1) يخبركم عنا التنوخ وقيصر * وكم قد سبينا من نساء كرائم وعما فتحنا من منيع بلادكم * وعما أقمنا فيكم من مآتم ودع كل نذل مفتر لا تعده * إماما ولا الدعوى له بالتقادم فهيهات سامرا وتكريت منكم * إلى جبل تلكم أماني هائم منى يتمناها الضعيف ودونها * نظائرها..وحز الغلاصم تريدون بغداد سوقا جديدة * مسيرة شهر للفنيق القواصم (2)
محلة أهل الزهد والعلم والتقى * ومنزلة يختارها كل عالم دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها * من المسلمين الغر كل مقاوم ودون دمشق جمع جيش كأنه * سحائب طير ينتحي بالقوادم وضرب يلقي الكفر كل مذلة * كما ضرب السكي بيض الدراهم ومن دون أكناف الحجاز جحافل * كقطر الغيوم الهلائلات السواحم بها من بني عدنان كل سميدع * ومن حي قحطان كرام العمائم ولو قد لقيتم من قضاعة كبة * لقيتم ضراما في يبيس الهشائم إذا أصبحوكم ذكروكم بما خلا * لهم معكم من صادق متلاحم زمان يقودون الصوافن نحوكم * فجئتم ضمانا أنكم في الغنائم سيأتيكم منهم قريبا عصائب * تنسيكم تذكار أخذ العواصم وأموالكم حل لهم ودماؤكم * بها يشتفي حر الصدور الحوايم
__________
(1) القماقم: السادة الكرام الذين يكثرون في أعطياتهم.
(2) الفنيق: الفحل من الابل.
والقواصم: هنا: القوية والشديدة

وأرضيكم حقا سيقتسمونها * كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم ولو طرقتكم من خراسان عصبة * وشيراز والري الملاح القوائم لما كان منكم عند ذلك غير ما * عهدنا لكم: ذل وعض الاباهم فقد طالما زاروكم في دياركم * مسيرة عام بالخيول الصوادم فأما سجستان وكرمان بال * أولى وكابل حلوان بلاد المراهم وفي فارس والسوس جمع عرمرم * وفي أصبهان كل أروع عارم فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتم * فرائس كالاساد فوق البهائم وبالبصرة الغراء والكوفة التي * سمت وبآدي واسط بالعظائم
جموع تسامي الرمل عدا وكثرة * فما أحد عادوه منه بسالم ومن دون بيت الله في مكة التي * حباها بمجد للبرايا مراحم محل جميع الارض منها تيقنا * محلة سفل الخف من فص خاتم دفاع من الرحمن عنها بحقها * فما هو عنها رد طرف برائم بها وقع الاحبوش هلكى وفيلهم * بحصباء طير في ذرى الجو حائم وجمع كجمع البحر ماض عرمرم * حمى بنية البطحاء ذات المحارم ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة * جموع كمسود من الليل فاحم يقودهم جيش الملائكة العلى * دفاعا ودفعا عن مصل وصائم فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما * كما فرق الاعصار عظم البهائم وباليمن الممنوع فتيان غارة * إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم وفي جانبي أرض اليمامة عصبة * معاذر أمجاد طوال البراجم نستفينكم والقرمطيين دولة * تقووا بميمون التقية حازم خليفة حق ينصر الدين حكمه * ولا يتقي في الله لومة لائم إلى ولد العباس تنمي جدوده * بفخر عميم مزبد الموج فاعم ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم * فأهلا بماض منهم وبقادم محلهم في مسجد القدس أو لدى * منازل بغداد محل المكارم وإن كان من عليا عدي وتيمها * ومن أسد هذا الصلاح الحضارم فأهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا * بهم من خيار سالفين أقادم هم نصروا الاسلام نصرا مؤزرا * وهم فتحوا البلدان فتح المراغم رويدا فوعد الله بالصدق وارد * بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم سنفتح قسطنطينية وذواتها * ونجعلكم فوق النسور القعاشم ونفتح أرض الصين والهند عنوة * بجيش الارض الترك والخزر حاطم

مواعيد للرحمن فينا صحيحة * وليست كآمال العقول السواقم ونملك أقصى أرضكم وبلادكم * ونلزمكم ذل الحر أو الغارم إلى أن ترى الاسلام قد عم حكمه * جميع الاراضي بالجيوش الصوارم أتقرن يا مخذول دينا مثلثا * بعيدا عن المعقول بادي المآثم تدين لمخلوق يدين لغيره * فيا لك سحقا ليس يخفى لعالم أنا جيلكم مصنوعة قد تشابهت * كلام الاولى فيها أتوا بالعظائم وعود صليب ما تزالون سجدا * له يا عقول الهاملات السوائم تدينون تضلالا بصلب إلهكم * بأيدي يهود أذلين لآئم إلى ملة الاسلام توحيد ربنا * فما دين ذي دين لها بمقاوم وصدق رسالات الذي جاء بالهدى * محمد الآتي برفع المظالم وأذعنت الاملاك طوعا لدينه * ببرهان صدق طاهر في المواسم كما دان في صنعاء مالك دولة * وأهل عمان حيث رهط الجهاضم (1) وسائر أملاك اليمانين أسلموا * ومن بلد البحرين قوم اللهازم أجابوا لدين الله لا من مخافة * ولا رغبة يحضى بها كف عادم فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة * بحق يقين بالبراهين فاحم وحاباه بالنصر المكين إلهه * وصير من عاداه تحت المناسم (2) فقير وحيد لم تعنه عشيرة * ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم ولا عنده ما عتيد لناصر ولا دفع مرهوب ولا لمسالم ولا وعد الانصار مالا يخصهم * بلى كان معصوما لاقدر عاصم ولم تنهنهه قط قوة آسر * ولا مكنت من جسمه يد ظالم كما يفترى إفكا وزورا وضلة * على وجه عيسى منكم كل لاطم
على أنكم قد قلتموا هو ربكم * فيا لضلال في القيامة عائم أبى لله أن يدعى له ابن وصاحب * ستلقى دعاة الكفر حالة نادم ولكنه عبد نبي رسول مكرم * من الناس مخلوق ولا قول زاعم أيلطم وجه الرب ؟ تبا لدينكم * لقد فقتم في قولكم كل ظالم وكم آية أبدى النبي محمد * وكم علم أبداه للشرك حاطم تساوى جميع الناس في نصر حقه * بل لكل في إعطائه حال خادم
__________
(1) الجهاضم: جمع جهضم، وهو الضخم الهامة والمستدير الوجه، رحب الجبين، واسع الصدر، كناية عن الرجال الاقوياء الاشداء.
(2) المناسم: جمع منسم، وهو عند الجمال كالظفر عند الانسان، أي طرف خف الجمل .

معرب واحبوش وفرس وبربر * وكرديهم قد فاز قدح المراحم وقبط وأنباط وخزر وديلم * وروم رموكم دونه بالقواصم أبو كفر أسلاف لهم فتمنعوا * فآبوا بحظ في السعادة لازم به دخلوا في ملة الحق كلهم * ودانوا لاحكام الاله اللوازم به صح تفسير المنام الذي أتى * به دانيال قبله حتم حاتم وهند وسند أسلموا وتدينوا * بدين الهدى رفض لدين الاعاجم وشق له بدر السموات آية * وأشبع من صاع له كل طاعم وسالت عيون الماء في وسط كفه * فأروى به جيشا كثيرا هماهم وجاء بما تقضى العقول بصدقه * ولا كدعاء غير ذات قوائم عليه سلام الله ما ذر شارق * تعقبه ظلماء أسحم قاتم براهينه كالشمس لا مثل قولكم * وتخليطكم في جوهر وأقانم لنا كل علم من قديم ومحدث * وأنتم حمير داميات المحازم أتيتم بشعر بارد متخاذل * ضعيف معاني النظم جم البلاعم
فدونكها كالعقد فيه زمرد * ودر وياقوت بأحكام حاكم وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن القضاء ونقضت سجلاته وأبطلت وأحكامه مدة أيامه، وولي القضاء عوضه أبو بشر عمر بن أكتم (1) بن رزق، ورفع عنه ما كان يحمله ابن أبي الشوارب في كل سنة.
وفي ذي الحجة منها استسقى الناس لتأخر المطر - وذلك في كانون الثاني - فلم يسقوا.
وحكى ابن الجوزي في المنتظم عن ثابت بن سنان المؤرخ قال: حدثني جماعة ممن أثق بهم أن بعض بطارقة الارمن أنفذ في سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين من الارمن ملتصقين سنهما خمس وعشرون سنة، ملتحمين ومعهما أبوهما، ولهما سرتان وبطنان ومعدتان وجوعهما وريهما يختلفان، وكان أحدهما يميل إلى النساء والآخر يميل إلى الغلمان، وكان يقع بينهما خصومة وتشاجر، وربما يحلف الآخر لا يكلم الآخر فيمكث كذلك أياما ثم يصطلحان، وهبهما ناصر الدولة ألفي درهم وخلع عليهما ودعاهما إلى الاسلام فيقال إنهما أسلما.
وأراد أن يبعثهما إلى بغداد ليراهما الناس ثم رجع عن ذلك، ثم إنهما رجعا إلى بلدهما مع أبيهما فاعتل أحدهما ومات وأنتن ريحه وبقي الآخر لا يمكنه التخلص منه، وقد كان اتصال ما بينهما من الخاصرتين، وقد كان ناصر الدولة أراد فصل أحدهما عن الآخر وجمع الاطباء لذلك فلم يمكن، فلما مات أحدهما حار أبوهما في فصله عن أخيه فاتفق اعتلال الآخر من غمه ونتن أخيه فمات غما فدفنا جميعا في قبر واحد.
وممن توفي فيها من الاعيان عمر بن أكثم بن أحمد بن حيان بن بشر أبو بشر الاسدي، ولد سنة
__________
(1) في الكامل 8 / 549: عمرو بن أكثم .

أربع وثمانين ومائتين، وولي القضاء في زمن المطيع نيابة عن أبي السائب عتبة بن عبيد الله، ثم ولي قضاء القضاة، وهو أول من ولي قضاء القضاة من الشافعية سوى أبي السائب، وكان جيد السيرة في القضاء.
توفي في ربيع الاول منها.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية اقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالا شديدا، وانتهبت الاموال.
وفيها عصى نجا غلام سيف الدولة عليه، وذلك أنه كان في العام الماضي قد صادر أهل حران وأخذ منهم أموالا جزيلة فتمرد بها وذهب إلى أذربيجان (1) وأخذ طائفة منها من يد رجل من الاعراب يقال له أبو الورد، فقتله وأخذ من أمواله شيئا كثيرا، وقويت شوكته بسبب ذلك، فسار إليه سيف الدولة فأخذه وأمر بقتله (2) فقتل بين يديه، وألقيت جثته في الاقذار.
وفيها جاء الدمستق إلى المصيصة فحاصرها وثقب سورها، فدافعه أهلها فأحرق رستاقها وقتل ممن حولها خمسة عشر ألفا وعاثوا فسادا في بلاد أذنة وطرسوس، وكر راجعا إلى بلاده.
وفيها قصد معز الدولة الموصل وجزيرة ابن عمر فأخذ الموصل وأقام بها، فراسله في الصلح صاحبها فاصطلحا على أن يكون الحمل في كل سنة (3)، وأن يكون أبو تغلب بن ناصر الدولة ولي عهد أبيه من بعده، فأجاب معز الدولة إلى ذلك، وكر راجعا إلى بغداد بعد ما جرت له خطوب كثيرة استقصاها ابن الاثير.
وفيها ظهر رجل ببلاد الديلم وهو أبو عبد الله محمد بن الحسين من أولاد الحسين بن علي، ويعرف بابن الداعي، فالتف عليه خلق كثير، ودعا إلى نفسه وتسمى بالمهدي، وكان أصله من بغداد وعظم شأنه بتلك البلاد، وهرب منه ابن الناصر العلوي.
وفيها قصد ملك الروم وفي صحبته الدمستق ملك الارمن بلاد طرسوس فحاصرها مدة ثم غلت عليهم الاسعار وأخذهم الوباء فمات كثير منهم فكروا راجعين (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) [ الاحزاب: 25 ] وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذوا على البلاد الاسلامية كلها، وذلك لسوء حكامها وفساد عقائدهم في الصحابة فسلم الله ورجعوا خائبين.
وفيها كانت وقعة المختار (4) ببلاد صقلية، وذلك أنه أقبل من الروم خلق كثير، ومن الفرنج ما يقارب مائة ألف، فبعث أهل صقلية إلى المعز الفاطمي يستنجدونه، فبعث إليهم جيوشا
__________
(1) في الكامل 8 / 551: سار إلى ميافارقين، وقصد أرمينية (انظر العبر 4 / 240).
(2) في الكامل والعبر: حضر نجا عنده (عند سيف الدولة) فأمنه هو وأخاه وأعاده إلى مرتبته ثم وثب عليه غلمان سيف الدولة فقتلوه - قال في العبر في ربيع ثلاث وخمسين، وقال ابن الاثير في ربيع الاولى سنة
354 ه.
(3) وهو ألف ألف درهم يحملها ناصر الدولة كل سنة (الكامل 8 / 553).
(4) في الكامل: 8 / 558: وهذه الوقعة معروفة بوقعة المجاز .

كثيرة في الاسطول، وكانت بين المسلمين والمشركين وقعة عظيمة صبر فيها الفريقان من أول النهار إلى العصر، ثم قتل أمير الروم منويل، وفرت الروم وانهزموا هزيمة قبيحة فقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا وسقط الفرنج في واد من الماء عميق فغرق أكثرهم وركب الباقون في المراكب، فبعث الامير أحمد صاحب صقلية في آثارهم مراكب أخر فقتلوا أكثرهم في البحر أيضا، وغنموا في هذه الغزوة كثيرا من الاموال والحيوانات والامتعة والاسلحة، فكان في جملة ذلك سيف مكتوب عليه: هذا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالا، طالما قوتل به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به في جملة تحف إلى المعز الفاطمي إلى إفريقية.
وفيها قصدت القرامطة مدينة طبرية ليأخذوها من يد الاخشيد صاحب مصر والشام، وطلبوا من سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحا، فقلع لهم أبواب الرقة - وكانت من حديد صامت - وأخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ أواقي الباعة والاسواق، وأرسل بذلك كله إليهم، فأرسلوا إليه يقولون اكتفينا وفيها طلب معز الدولة من الخليفة أن يأذن له في دخول دار الخلافة ليتفرج فيها فأذن له فدخلها، فبعث الخليفة خادمه وصاحبه معه فطافوا بها وهو مسرع خائف، ثم خرج منها وقد خاف من غائلة ذلك وخشي أن يقتل في دهاليزها، فتصدق بعشرة آلاف لما خرج شكرا لله على سلامته، وازداد حبا في الخليفة المطيع من يومئذ، وكان في جملة ما رأى فيها من العجائب صنم من نحاس على صورة امرأة حسناء جدا، وحولها أصنام صغار في هيئة الخدم لها كان قد أتي بها في زمن المقتدر فأقيمت هناك ليتفرج عليها الجواري والنساء، فهم معز الدولة أن يطلبه من الخليفة ثم ارتأى فترك ذلك.
وفي ذي الحجة منها خرج رجل بالكوفة فادعى أنه علوي، وكان يتبرقع فسمي المتبرقع وغلظت فتنته وبعد صيته، وذلك في غيبة معز الدولة عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل كما تقدم، فا
رجع إلى بغداد اختفى المتبرقع وذهب في البلاد فلم ينتج له أمر بعد ذلك.
وممن توفي فيها من الاعيان..بكار بن أحمد ابن بكار بن بيان بن بكار بن درستويه بن عيسى المقري، روى الحديث عن عبد الله بن أحمد وعنه أبو الحسن الحماني، وكان ثقة أقرأ القرآن أزيد من ستين سنة رحمه الله.
توفي في ربيع الاول منها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين، ودفن بمقبرة الخيزران عند قبر أبي حنيفة.
أبو إسحاق الجهمي ولد سنة خمسين ومائتين، وسمع الحديث وكان إذا سئل أن يحدث يقسم أن لا يحدث حتى يجاوز المائة فأبر الله قسمه وجاوزها فأسمع.
توفي عن مائة سنة وثلاثين سنة رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مآتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وغلقت الاسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الاسواق والازقة على الحسين، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الاسلام، ولو كان هذا امرا محمودا لفعله خير القرون وصدر هذه الامة وخيرتها وهم أولى به (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) [ الاحقاف: 11 ] وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون، ثم تسلطت أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض وقتلوا بعض من كان فيه من القومة.
وفيها في رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرا وقتلا من أهلها خلقا، واستاق بقيتهم معه أسارى، وكانوا قريبا من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم جاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الامان فأمنهم وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها، واتخذ مسجدها الاعظم اسطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر أهلها معه لعنه الله.
وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل ذلك بلاء وغلاء عظيم، ووباء شديد، بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثمانمائة نفر، ثم
دهمهم هذا الامر الشديد فانتقلوا من شهادة إلى شهادة أعظم منها.
وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين، ثم عن له فسار إلى القسطنطينية، وفي خدمته الدمستق ملك الارمن لعنه الله.
وفيها جعل أمر تسفير الحجيج إلى نقيب الطالبيين وهو أبو أحمد الحسن (1) بن موسى الموسوي، وهو والد الرضى والمرتضى، وكتب له منشور بالنقابة والحجيج.
وفيها توفيت أخت معز الدولة فركب الخليفة في طيارة وجاء لعزائه فقبل معز الدولة الارض بين يديه وشكر سعيه إليه، وصدقاته عليه.
وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عملت الروافض عيد غدير خم على العادة الجارية كما تقدم.
وفيها تغلب على إنطاكية رجل يقال له رشيق النسيمي بمساعدة رجل يقال له ابن الاهوازي، وكان يضمن الطواحين، فأعطاه أموالا عظيمة وأطمعه في أخذ انطاكية، وأخبره أن سيف الدولة قد اشتغل عنه بميا فارقين وعجز عن الرجوع إلى حلب، ثم تم لهما ما راماه من أخذ إنطاكية، ثم ركبا منها في جيوش إلى حلب فجرت بينهما وبن نائب سيف الدولة حروب عظيمة، ثم أخذ البلد وتحصن النائب بالقلعة وجائته نجدة من سيف الدولة مع غلام له اسمه بشارة، فانهزم رشيق فسقط عن فرسه فابتدره بعض الاعراب فقتله وأخذ رأسه وجاء به إلى حلب، واستقل ابن الاهوازي سائرا إلى إنطاكية، فأقام رجلا من الروم اسمه دزبر (2) فسماه الامير، وأقام آخر من العلويين ليجعله خليفة وسماه الاستاذ.
فقصده نائب حلب وهو قرعويه (3)
__________
(1) في الكامل 8 / 565.
الحسين.
(2) في العبر لابن خلدون 4 / 241: وزيرا.
وفي تاريخ ابن الوردي 1 / 434: دزير.
(3) في الكامل 8 / 566: قرغويه، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 105: قرعوبه.
العبر 4 / 241: عرقوبة .

فاقتتلا قتالا شديدا فهزمه ابن الاهوازي واستقر بإنطاكية، فلما عاد سيف الدولة إلى حلب لم يبت بها إلا ليلة واحدة حتى سار إلى إنطاكية فالتقاه ابن الاهوازي فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم دزبر وابن الاهوازي وأسر فقتلهما سيف الدولة (1).
وفيها ثار رجل من القرامطة اسمه مروان كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة.
ثار بحمص
فملكها وما حولها، فقصده جيش من حلب مع الامير بدر فاقتتلوا معه فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه، واتفق أن أسر أصحاب مروان بدرا فقتله مروان بين يديه صبرا ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه.
وفيها عصى أهل سجستان أميرهم خلف بن أحمد، وذلك أنه حج في سنة ثلاث وخمسين واستخلف عليهم طاهر بن الحسين، فطمع في الملك بعده واستمال أهل البلد، فلما رجع من الحج لم يسلمه البلد وعصي عليه، فذهب إلى بخارى إلى الامير منصور بن نوح الساماني فاستنجده، فبعث معه جيشا فاستنقذ البلد من طاهر وسلمها إلى الامير خلف بن أحمد - وقد كان خلف عالما محبا للعلماء - فذهب طاهر فجمع جموعا ثم جاء فحاصر خلفا وأخذ منه البلد.
فرجع خلف إلى الامير منصور الساماني فبعث معه من استرجع له البلد ثانية وسلمها إليه، فلما استقر خلف بها وتمكن منها منع ماكان ان يحمله من الهدايا والتحف والخلع إلى الامير منصور الساماني ببخارا، فبعث إليه جيشا فتحصن خلف في حصن يقال له حصن إراك (2)، فنازله الجيش فيه تسع سنين (3) لم يقدروا عليه، وذلك لمناعة هذا الحصن وصعوبته وعمق خندقه وارتفاعه، وسيأتي ما آل إليه أمر خلف بعد ذلك.
وفيها قصدت طائفة في الترك بلاد الخزر فاستنجد أهل الخزر بأهل خوارزم فقالوا لهم: لو أسلمتم لنصرناكم.
فأسلموا إلا ملكهم، فقاتلوا معهم الترك فأجلوهم عنها ثم أسلم الملك بعد ذلك ولله الحمد والمنة.
وممن توفي من الاعيان...المتنبي الشاعر المشهور أحمد بن الحسين بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الشاعر المعروف بالمتنبي، كان أبوه يعرف بعيدان السقا وكان يسقي الماء لاهل الكوفة على بعير له، وكان شيخا كبيرا.
وعيدان هذا قال ابن ماكولا والخطيب: هو بكسر العين المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت، وقيل بفتح العين لا كسرها، فالله أعلم كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست (4) وثلثمائة ونشأ بالشام بالبادية فطلب الادب ففاق أهل
__________
(1) في الكامل والعبر: قتل دزبر (وزيرا) وحبس ابن الاهوازي مدة (في العبر: أياما) ثم قتله.
(2) في الكامل 8 / 564: أرك.
وفي معجم البلدان أرك بالفتح ثم سكون.
اسم لابنية عظيمة بزرنج مدينة
سجستان، وكانت خزانة بناها عمرو بن الليث ثم صارت دار الامارة والقلعة، 1 / 153.
(3) في الكامل: سبع سنين.
(4) في الوافي 6 / 336 ووفيات الاعيان 1 / 123 والنجوم الزاهرة 3 / 340: ثلاث .

زمانه فيه، ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظي عنده، ثم صار إلى مصر وامتدح الاخشيد ثم هجاه وهرب منه، وورد بغداد فامتدح بعض أهلها، وقدم الكوفة ومدح ابن العميد فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار، ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه فأطلق له أموالا جزيلة تقارب مائتي ألف درهم، وقيل بل حصل هل منه نحو من ثلاثين ألف دينار، ثم دس إليه من يسأله أيما أحسن عطايا عضد الدولة بن بويه أو عطايا سيف الدولة بن حمدان ؟ فقال: هذا أجزل وفيها تكلف، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها، لانها عن طبيعة وهذه عن تكلف.
فذكر ذلك لعضد الدولة فتغيظ عليه ودس عليه طائفة من الاعراب فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد، ويقال إنه كان قد هجى مقدمهم ابن فاتك الاسدي - وقد كانوا يقطعون الطريق - فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ويأخذوا له ما معه من الاموال، فانتهوا إليه ستون راكبا في يوم الاربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام، وقيل بل قتل في يوم الاربعاء لخمس بقين من رمضان، وقيل بل كان ذلك في شعبان، وقد نزل عند عين تحت شجرة أنجاص، وقد وضعت سفرته ليتغدى، ومعه ولده محسن وخمسة عشر غلاما له، فلما رآهم قال.
هلموا يا وجوه العرب إلى الغداء، فلما لم يكلموه أحس بالشر فنهض إلى سلاحه وخيله فتواقفوا ساعة فقتل ابنه محسن وبعض غلمانه وأراد وهو أن ينهزم.
فقال له مولى له: أين تذهب وأنت القائل: فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والطعن والضرب والقرطاس والقلم فقال له: ويحك قتلتني، ثم كر راجعا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله.
ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه وأخذوا جميع ما معه، وذلك بالقرب من النعمانية (1)، وهو آيب إلى بغداد، ودفن هناك وله من العمر ثمان وأربعون سنة (2).
وذكر ابن عساكر أنه لما نزل تلك المنزلة التي
كانت قبل منزلته التي قتل بها، سأله بعض الاعراب أن يعطيهم خمسين درهما ويخفرونه، فمنعه الشح والكبر ودعوى الشجاعة من ذلك.
وقد كان المتنبي جعفي النسب صلبيبة منهم، وقد ادعى حين كان مع بني كلب (3) بأرض السماوة قريبا من حمص أنه علوي، ثم ادعى أنه نبي يوحى إليه، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم، وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله: " والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي خسار، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من
__________
(1) النعمانية: بليدة بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من أعمال الزاب الاعلى (معجم البلدان) (2) إحدى وخمسون سنة على اعتبار ولادته كانت سنة 303 ه.
(النجوم الزاهرة 3 / 343.
تاريخ الاسلام).
(3) بطن من قضاعة.
قال ابن سعيد: وبقية كلب الآن في خلق عظيم على خليج القسطنطينية منهم المسلمون وفيهم نصارى (سبائك الذهب ص 26) .

المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه، وضل عن سبيله " وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لكن أشعر الشعراء، وأفصح الفصحاء ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والانس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سوره لما استطاعوا.
ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الاخشيد وهو الامير لؤلؤ بيض الله وجهه، فقاتله وشرد شمله، وأسر مذموما مدحورا، وسجن دهرا طويلا، فمرض في السجن وأشرف على التلف، فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتابا اعترف فيه ببطلان ما ادعاه من النبوة، وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الاسلام، فأطلق الامير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيا، وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الافك والبهتان، وهي لفظة المتنبي، الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة وقد
قال بعضهم يهجوه: أي فضل لشاعر يطلب ال * فضل من الناس بكرة وعشيا عاش حينا يبيع في الكوفة الما * ء وحينا يبيع ماء المحيا وللمتنبي ديوان شعر مشهور، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة، بل مبتكرة شائقة.
وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في المتقدمين، وهو عندي كما ذكر من له خبرة بهذه الاشياء مع تقدم أمره.
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في منتظمه قطعا رائقة استحسنها من شعره، وكذلك الحافظ ابن عساكر شيخ إقليمه، فمما استحسنه ابن الجوزي قوله: عزيزا سبى من داؤه الحدق النجل * عياء به مات المحبون من قبل فمن شاء فلينظر إلى فمنظري * نذير إلى من ظن أن الهوى سهل جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي * فأصبح لي عن كل شغل بها شغل ومن جسدي لم يترك السقم شعرة * فما فوقها إلا وفا له فعل كأن رقيبا منك سد مسامعي * عن العذل حتى ليس يدخلها العذل كأن سهاد الليل يعشق مقلتي * فبينهما في كل هجر لنا وصل ومن ذلك قوله: كشفت ثلاث ذوائب من شعرها * في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها * فأرتني القمرين في وقت معا ومن ذلك قوله:

ما نال أهل الجاهلية كلهم * شعري ولا سمعت بسحري بابل وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل (1) من لي بفهم أهيل عصر يدعي * أن يحسب الهندي منهم باقل ومن ذلك قوله:
ومن نكد الدينا على الحر أن يرى * عدوا له ما من صداقته بد (2) وله: وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الاجسام وله: ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت * على عينيه يرى صدقها كدبا وله: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به * في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل وله في مدح بعض الملوك: تمضي الكواكب والابصار شاخصة * منها إلى الملك الميمون طائره قد حزن في بشر في تاجه قمر * في درعه أسد تدمى أظافره حلو خلائقة شوس حقائقه * يحصى الحصى قبل أن تحصى ماثره ومنها قوله: يا من ألوذ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان يكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى.
وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو لله بما تضمناه من الذل والخضوع.
ومما أورده ابن عساكر للمتنبي في ترجمته قوله: أبعين مفتقر إليك رأيتني (3) * فأهنتني وقذفتني من حالقي * (هامش * (1) في النجوم الزاهرة 3 / 341: فاضل.
(2) يرى سيبويه ان هذا المعنى لا يستقيم من حيث المنطق، فالصداقة والعداوة ضدان لا يجتمعان فكان يرى أن المعنى لا يصح إلا إذا جاءت صياغته:...* عدوا له ما من مداجاته بد
(3) في الوافي 6 / 337 ووفيات الاعيان 1 / 121: نظرتني .

لست الملوم، أنا الملوم، لانني * أنزلت آمالي بغير الخالق قال ابن خلكان: وهذان البيتان ليسا في ديوانه، وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح (1).
ومن ذلك قوله: إذا ما كنت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير * كطعم الموت في أمر عظيم وله قوله: وما أنا بالباغي على الحب رشوة * قبيح هوى يرجى عليه ثواب (2) إذا نلت منك الود فالكل هين (3) * وكل الذي فوق التراب تراب وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست (4) وثلثمائة، وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
قال ابن خلكان: وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة أربع وخمسين (5) لما كان من ابن خالويه إليه ما كان من ضربه إياه بمفتاح في وجهه فأدماه، فصار إلى مصر فامتدح كافور الاخشيد وأقام عنده أربع سنين، وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه فتوهم منه كافور فجأة، فخاف المتنبي فهرب، فأرسل في طلبه فأعجزه، فقيل لكافور: ما هذا حتى تخافه ؟ فقال: هذا رجل أراد أن يكون نبيا بعد محمد، أفلا يروم أن يكون ملكا بديار مصر ؟ والملك أقل وأذل من النبوة.
ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة فامتدحه فأعطاه مالا كثيرا ثم رجع من عنده فعرض له فاتك بن أبي الجهل الاسدي فقتله وابنه محسن وغلامه مفلح يوم الاربعاء لست بقين من رمضان وقيل لليلتين، بسواد بغداد، وقد رثاه الشعراء، وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو حاتم البستي صاحب الصحيح.
محمد بن حبان ابن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد أبو حاتم البستي صاحب الانواع والتقاسيم، وأحد
__________
(1) قال في الوافي: والصحيح انهما لابي الفرج صاحب الاغاني.
(2) في الديوان ويتيمة الدهر 1 / 237: ضعيف هوى يبغي.
(3) في النجوم الزاهرة 3 / 341 ويتيمة الدهر 1 / 237: فالمال هين.
(4) انظر حاشية 4 صفحة 289 (5) في ابن خلكان المطبوع لا يذكر تاريخ مفارقته سيف الدولة قال ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة (انظر الوافي 6 / 336)

الحفاظ الكبار المصنفين المجتهدين، رحل إلى البلدان وسمع الكثير من المشايخ، ثم ولي قضاء بلده ومات بها في هذه السنة وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبه إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وهي نزعة فلسفية والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه.
وقد ذكرته في طبقات الشافعية.
محمد بن الحسن بن يعقوب ابن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر بن مقسم المقري، ولد سنة خمس ومائتين، وسمع الكثير من المشايخ، روى عنه الدار قطني وغيره، وكان من أعرف الناس بالقراءات، وله كتاب في النحو على طريقة الكوفيين، سماه كتاب الانوار.
قال ابن الجوزي: ما رأيت مثله، وله تصانيف غيره، ولكن تكلم الناس فيه بسبب تفرده بقراءات لا تجوز عند الجميع، وكان يذهب إلى أن كل ما لا يخالف الرسم ويسوغ من حيث المعنى تجوز القراءة به كقوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) [ يوسف: 80 ] أي يتناجون.
قال: لو قرئ نجيبا من النجابة لكان قويا.
وقد ادعي عليه وكتب عليه مكتوب أنه قد رجع عن مثل ذلك، ومع هذا لم ينته عما كان يذهب إليه حتى مات.
قاله ابن الجوزي.
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد ربه ابن موسى أبو بكر الشافعي، ولد بجبلان سنة ستين ومائتين، وسمع الكثير، وسكن بغداد،
وكان ثقة ثبتا كثير الرواية، سمع منه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وكان يحدث بفضائل الصحابة حين منعت الديالم من ذلك جهرا بالجامع بمدينة المنصور مخالفة لهم، وكذلك بمسجده بباب الشام.
توفي في هذه السنة عن أربع (1) وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد.
وفيها أجلى القرامطة الهجريين من عمان.
وفيها قصدت الروم آمد فحاصروها فلم يقدروا عليها، ولكن قتلوا من أهلها ثلثمائة وأسروا منهم أربعمائة، ثم ساروا إلى نصيبين، وفيها سيف الدولة فهم بالهرب مع العرب، ثم تأخر مجئ الروم فثبت مكانه وقد كادت تزلزل أركانه.
وفيها وردت طائفة من جيش خراسان - وكانوا بضعة عشر ألفا (2) - يظهرون أنهم يريدون * غزو الروم، فأكرمهم ركن
__________
(1) في النجوم الزاهرة 3 / 343: في ذي الحجة وعمره خمس وتسعون سنة.
(شذرات - الكامل).
(2) في الكامل 8 / 569: عشرين ألفا .

الدولة بن بويه وأمنوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الديلم على غرة فقاتلهم ركن الدولة فظفر بهم لان البغي له مصرع وخيم وهرب أكثرهم.
وفيها خرج معز الدولة من بغداد إلى واسط لقتال عمران بن شاهين حين تفاقم الحال بشأنه، واشتهر أمره في تلك النواحي، فقوي المرض بمعز الدولة فاستناب على الحرب ورجع إلى بغداد فكانت وفاته في السنة الآتية كما سنذكره - إلى حيث ألقت.
وفيها قوي أمر أبي عبد الله بن الداعي ببلاد الديلم وأظهر النسك والعبادة، ولبس الصوف وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله لمن (1) سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وفي جمادى الآخرة نودي برفع المواريث الحشرية وأن ترد إلى ذوي الارحام.
وفيها وقع الفداء بين سيف الدولة وبين الروم فاستنقذ منهم أسارى كثيرة، منهم ابن عمه أبو فراس بن سعيد بن حمدان، وأبو الهيثم بن حصن القاضي، وذلك في رجب منها (2).
وفيها ابتدأ معز الدولة بن بويه في بناء مارستان وأرصد له أوقافا جزيلة.
وفيها قطعت بنو سليم السابلة على الحجيج من أهل الشام ومصر والمغرب،
وأخذوا منهم عشرين ألف جمل بأحمالها، وكان عليها من الاموال والامتعة ما لا يقدر كثرة، وكان لرجل يقال له ابن الخواتيمي قاضي طرسوس مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار عينا، وذلك أنه أراد التحول من بلاد الشام إلى العراق بعد الحج، وكذلك أراد كثير من الناس، وحين أخذوا جمالهم تركوهم على يرد الديار لا شئ لهم، فقل منهم من سلم والاكثر عطب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن داود ابن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي الحسني.
قال الحاكم: أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد، ويبكي.
وما سمعته ذكر عائشة إلا قال: الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، ويبكي.
وقد سمع الحديث من ابن خزيمة وطبقته، وكان آباؤه بخراسان وفي سائر بلدانهم سادات نجباء حيث كانوا:
__________
(1 - 1) سقطت من ابن الاثير.
(2) قال ابن الوردي 1 / 436:..ولما لم يبق معه (أي مع سيف الدولة) من أسرى الروم أحد اشترى الباقين (ما بقي من أسارى المسلمين) كل نفس باثنين وسبعين دينار حتى نفذ ما معه من المال فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته الجوهر المعدومة المثل.
وقال الذهبي في تاريخ الاسلام: أنفق في سنة وثلاثة أشهر نيفا وعشرين ألف ألف درهم ومائتين وستين ألف دينار وتم الفداء في رجب.
فخلص من الاسر ما بين أمير إلى راجل ثلاثة آلاف ومئتان وسبعون نفسا .

من آل بيت رسول الله منهم * لهم دانت رقاب بني معد محمد بن الحسين بن علي بن الحسن
ابن يحيى بن حسان بن الوضاح، أبو عبد الله الانباري الشاعر المعروف بالوضاحي، كان يذكر أنه سمع الحديث من المحاملي وابن مخلد وأبي روق.
روى عنه الحاكم شيئا من شعره كان أشعر من في وقته، ومن شعره: سقى الله باب الكرخ ربعا ومنزلا * ومن حله صوب السحاب المجلل فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى * وجارتها أم الرباب بمأسل رأى عرصات الكرخ أوحل أرضها * لامسك عن ذكر الدخول فحومل أبو بكر بن الجعابي محمد بن عمر (1) بن سلم بن البراء بن سبرة بن سيار، أبو بكر الجعابي، قاضي الموصل، ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين، سمع الكثير وتخرج بأبي العباس بن عقدة، وأخذ عنه علم الحديث وشيئا من التشيع أيضا، وكان حافظا مكثرا، يقال إنه كان يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها، ويذاكر بستمائة ألف حديث ويحفظ من المراسيل والمقاطيع والحكايات قريبا من ذلك، ويحفظ أسماء الرجال وجرحهم وتعديلهم، وأوقات وفياتهم ومذاهبهم، حتى تقدم على أهل زمانه، وفاق سائر أقرانه.
وكان يجلس للاملاء فيزدحم الناس عند منزله، وإنما كان يملي من حفظه إسناد الحديث ومتنه جيدا محررا صحيحا، وقد نسب إلى التشيع كأستاذه ابن عقدة، وكان يسكن بباب البصرة عندهم، وقد سئل عنه الدار قطني فقال: خلط.
وقال أبو بكر البرقاني: صاحب غرائب، ومذهبه معروف في التشيع، وقد حكى عنه قلة دين وشرب خمر فالله أعلم.
ولما احتضر أوصى أن تحرق كتبه فحرقت، وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس، فبئس ما عمل.
ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلثمائة استهلت هذه السنة والخليفة المطيع لله، والسلطان معز الدولة بن بويه الديلمي، وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء عزاء الحسين على عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 925: محمد بن عمر بن محمد بن سلم.
وفي الشذرات: محمد بن عمر بن أحمد .

وفاة معز الدولة بن بويه ولما كان ثالث عشر ربيع الاول منها توفي أبو الحسن بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض ويقال له معز الدولة، بعلة الذرب، فصار لا يثبت في معدته شئ بالكلية، فلما أحس بالموت أظهر التوبة (1) وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيرا من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالامر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن عليا زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، فقال: والله ما سمعت بهذا قط، ورجع إلى السنة ومتابعتها، ولما حضر وقت الصلاة خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة: إلى أين تذهب ؟ فقال: إلى الصلاة فقال له ألا تصلي ههنا ؟ قال: لا، قال: ولم ؟ قال: لان دارك مغصوبة.
فاستحسن منه ذلك.
وكان معز الدولة حليما كريما عاقلا، وكانت إحدى يديه مقوطعة وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعا إلى شيراز، وحضي عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل، وبرغوش، يتعصب لهذا عوام أهل السنة، ولهذا عوام أهل الشيعة، وجرت لهما مناصف ومواقف.
ولما مات معز الدولة دفن بباب التبن في مقابر قريش، وجلس ابنه للعزاء.
وأصاب الناس مطر ثلاثة أيام تباعا، وبعث عز الدولة إلى رؤس الامراء في هذه الايام بمال جزيل لئلا تجتمع الدولة على مخالفته قبل استحكام مبايعته، وهذا من دهائه، وكان عمر معز الدولة ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا ويومين (2)، وقد كان نادى في أيامه برد المواريث إلى ذوي الارحام قبل بيت المال وقد سمع بعض الناس ليلة توفي معز الدولة هاتفا يقول: لما بلغت أبا الحسين * مراد نفسك بالطلب وأمنت من حدث الليا * لي واحتجبت عن النوب مدت إليك يد الردى * وأخذت من بين الرتب (3) ولما مات قام بالامر بعده ولده عز الدولة فأقبل على اللعب واللهو والاشتغال بأمر النساء فتفرق
شمله واختلفت الكلمة عليه، وطمع الامير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان في ملك بني بويه، وأرسل الجيوش الكثيرة صحبة وشمكير، فلما علم بذلك ركن الدولة بن بويه أرسل إلى ابنه عضد الدولة وابن أخيه عز الدولة يستنجدهما، فأرسلا إليه بجنود كثيرة، فركب فيها ركن الدولة
__________
(1) قال ابن مسكويه في تجارب الامم: واظهر التوبة واحضره وجوه المتكلمين والفقهاء وسألهم عن حقيقة التوبة وهل تصح له فأفتوه بصحتها ولقنوه ما يجب أن يفعل ويقول.
وجاء في التكملة: أنه أحضر أبا عبد الله البصري وتاب على يده.
(2) في العبر لابن خلدون 3 / 426: اثنتين وعشرين سنة.
(3) في الوفيات 1 / 176: من بيت الذهب .

وبعث إليه وشمكير يتهدده ويتوعده، ويقول لئن قدرت عليك لافعلن بك ولافعلن، فبعث إليه ركن الدولة يقول: لكني إن قدرت عليك لاحسنن إليك ولاصفحن عنك.
فكانت الغلبة لهذا، فدفع الله عنه شره، وذلك أن وشمكير ركب فرسا صعبا يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الفرس فألقته على الارض فخرج الدم من أذنيه فمات من ساعته وتفرقت العساكر.
وبعث ابن وشمكير (1) يطلب الامان من ركن الدولة فأرسل إليه بالمال والرجال، ووفى بما قال من الاحسان، وصرف الله عنه كيد السامانية، وذلك بصدق النية وحسن الطوية والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو الفرج الاصبهاني صاحب كتاب الاغاني.
واسمه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الاموي، صاحب كتاب الاغاني وكتاب أيام العرب، ذكر فيه ألفا وسبعمائة يوم من أيامهم، وكان شاعرا أديبا كاتبا، عالما بأخبار الناس وأيامهم، وكان فيه تشيع.
قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الاغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر، وقد روى
الحديث عن محمد بن عبد الله بن بطين وخلق، وروى عنه الدار قطني وغيره، توفي في ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، التي توفي فيها البحتري الشاعر، وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها الاغاني والمزارات وأيام العرب.
وفيها توفي: سيف الدولة أحد الامراء الشجعان، والملوك الكثيري الاحسان، على ما كان فيه من تشيع، وقد ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له أشياء غريبة، منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء.
ومنها أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي.
وكان سيف الدولة كريما جوادا معطيا للجزيل.
ومن شعره في أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل: رضيت (2) لك العليا، وقد كنت أهلها * وقلت لهم: بيني وبين أخي فرق ومان كان لي عنها نكول، وإنما * تجاوزت عن حقي فتم لك السبق (3)
__________
(1) وهو: بيستون.
(2) في الكامل 8 / 580 وتاريخ أبي الفداء 2 / 107: وهبت.
(3) في الكامل وأبي الفداء: وما كان بي..الحق .

أما كنت ترضى أن أكون مصليا * إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق وله: قد جرن في دمعه دمه * قال لي كم أنت تظلمه رد عنه الطرف منك * فقد جرحته منك أسهمه كيف تستطيع التجلد * من خطرات الوهم تؤلمه وكان سبب موته الفالج، وقيل عسر البول.
توفي بحلب وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وعمره ثلاث وخمسون سنة، ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سعد (1) الدولة أبو المعالي الشريف، ثم تغلب عليه مولى أبيه قرعويه فأخرجه من حلب إلى أمه بميافارقين، ثم عاد إليها كما
سيأتي.
وذكر ابن خلكان أشياء كثيرة مما قاله سيف الدولة، وقيل فيه، قال ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم، وقال: إنه ولد سنة ثلاث، وقيل إحدى وثلثمائة وأنه ملك حلب بعد الثلاثين (2) والثلثمائة، وقبل ذلك ملك واسطا ونواحيها، ثم تقلبت به الاحوال حتى ملك حلب.
انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الاخشيد وقد قال يوما: أيكم يجيز قولي وما أضن أحدا منكم يجيز ذلك: لك جسمي تعله فدمي لم تحله ؟.
فقال أبو فراس أخوه بديهة: إن كنت مالكا الامر كله.
وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول.
وفيها توفي: كافور الاخشيد مولى محمد بن طغج الاخشيدي، وقد قام بالامر بعده مولاه لصغر ولده.
تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدولة وغيره.
وقد كتب على قبره: أنظر إلى غير الايام ما صنعت * أفنت قرونا بها كانوا وما فنيت (3) دنياهم ضحكت أيام دولتهم * حتى إذا فنيت (4) ناحت لهم وبكت أبو علي القالي صاحب الامالي، إسماعيل بن القاسم بن عبدون (5) بن هارون بن عيسى بن محمد بن
__________
(1) من وفيات الاعيان 3 / 406 ومختصر أخبار البشر 2 / 108، وفي الاصل: سيف تحريف.
(2) في الوفيات: سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
(3) في الكامل 8 / 581:..أفنت أناسا بها كانوا وقد فنيت.
(4) في الكامل: حتى إذا انقرضوا.
(5) في الوفيات 1 / 226: عيذون .

سليمان (1)، أبو علي القاضي القالي اللغوي الاموي مولاهم، لان سليمان هذا كان مولى لعبد الملك بن مروان، والقالي نسبة إلى قالي قلا.
ويقال إنها أردن (2) الروم فالله أعلم.
وكان مولده
بميا فارقين، جزء من أرض الجزيرة من ديار بكر، وسمع الحديث من أبي يعلى الموصلي وغيره، وأخذ النحو واللغة عن ابن دريد وأبي بكر الانباري ونفطويه وغيرهم، وصنف الامالي وهو مشهور، وله كتاب التاريخ على حروف المعجم في خسمة آلاف ورقة، وغير ذلك من المصنفات في اللغة، ودخل بغداد وسمع بها ثم ارتحل إلى قرطبة فدخلها في سنة ثلاثين وثلثمائة واستوطنها، وصنف بها كتبا كثيرة إلى أن توفي بها في هذه السنة عن ثمان وستين سنة قاله ابن خلكان.
وفيها توفي أبو علي محمد بن إلياس صاحب بلاد كرمان ومعاملاتها، فأخذ عضد الدولة بن ركن الدولة بلاد كرمان، من أولاد محمد بن إلياس - وهم ثلاثة - اليسع، وإلياس، وسليمان، والملك الكبير وشمكير، كما قدمنا.
وفيها توفي من الملوك أيضا الحسن بن الفيرزان.
فكانت هذه السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة، وكافور، وسيف الدولة، قال ابن الاثير: وفيها هلك نقفور ملك الارمن وبلاد الروم - يعني الدمستق كما تقدم -.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلثمائة فيها شاع الخبر ببغداد وغيرها من البلاد أن رجلا ظهر يقال له محمد بن عبد الله وتلقب بالمهدي وزعم أنه الموعود به، وأنه يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، ودعا إليه ناس من الشيعة، وقالوا: هذا علوي من شيعتنا، وكان هذا الرجل إذ ذاك مقيما بمصر عن كافور الاخشيدي قبل أن يموت وكان يكرمه، وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب، وكان شيعيا فظنه علويا، وكتب إليه أن يقدم إلى بغداد ليأخذ له البلاد، فترحل عن مصر قاصدا العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إلى قريب الانبار، فلما رآه عرفه وإذا هو محمد بن المستكفي بالله العباسي، فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثتى رأيه فيه، فتفرق شمله وتمزق أمره، وذهب أصحابه كل مذهب، وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى المطيع لله فجدع أنفه واختفى أمره، فلم يظهر له خبر بالكلية بعد ذلك.
وفيها وردت طائفة من الروم إلى بلاد إنطاكية فقتلوا خلقا من حواضرها وسبوا اثني عشر ألفا من أهلها ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد.
وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين، وفي
يوم غدير خم الهناء والسرور.
وفيها في تشرين عرض للناس داء الماشري فمات به خلق كثير وفيها
__________
(1) في الوفيات: سلمان.
(2) في الوفيات: أرزن، قال ياقوت: وهي بلدة من بلاد إرمينية (وهي غير أرزن المدينة القريبة من خلاط والتي كانت من أعمر نواحي إرمينية) .

مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش، ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج.
وفيها اقتتل أبو المعالي شريف بن سيف الدولة هو وخاله وابن عم أبيه أبو فراس في المعركة.
قال ابن الاثير: ولقد صدق من قال: إن الملك عقيم.
وفيها توفي من الاعيان أيضا إبراهيم المتقي لله، وكان قد ولي الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة إلى هذه السنة، وألزم بيته فمات في هذه السنة ودفن بداره عن ستين سنة.
عمر بن جعفر بن عبد الله ابن أبي السري: أبو جعفر البصري الحافظ ولد سنة ثمانين ومائتين، حدث عن أبي الفضل ابن الحباب وغيره، وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها.
قال الدار قطني فنظرت فيها فإذا الصواب مع عمر بن جعفر.
محمد بن أحمد بن علي بن مخلد أبو عبد الله الجوهري المحتسب، ويعرف بابن المخرم، كان أحد أصحاب ابن جرير الطبري، وقد روى عن الكديمي وغيره، وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عليه جلس يكتب الحديث فجاءت أمها فأخذت الدواة فرمت بها وقالت: هذه أضر على ابنتي من مائة ضرة.
توفي في هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، وكان يضعف في الحديث.
كافور بن عبد الله الاخشيدي كان مولى السلطان محمد بن طغج، اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينارا، ثم قربه
وأدناه، وخصه من بين الموالي واصطفاه، ثم جعله أتابكا حين ملك ولداه، ثم استقل بالامور بعد موتهما في سنة خمس وخمسين، واستقرت المملكة باسمه فدعي له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية، وكان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة، مدحه الشعراء، منهم المتنبي، وحصل له منه مال، ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة، ودفن كافور بتربته المشهورة به، وقام في الملك بعده أبو الحسن علي بن الاخشيد، ومنه أخذ الفاطميون الادعياء بلاد مصر كما يسأتي.
ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة في عاشوراء منها عملت الروافض بدعتهم وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على

عادتهم.
وفيها حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية، وكاد الناس أن يهلكوا.
وفيها عاث الروم في الارض فسادا وحرقوا حمص وأفسدوا فيها فسادا عريضا، وسبوا من المسلمين نحوا من مائة ألف إنسانا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعز الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشر بقيت من شعبان فلما كان يوم الجمعة خطبوا للمعز الفاطمي على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بحي على خير العمل، وأن يجهر الائمة بالتسليمة الاولى، وذلك أنه لما مات كافور لم يبق بمصر من تجتمع القلوب عليه، وأصابهم غلاء شديد أضعفهم، فلما بلغ ذلك المعز بعث جوهر هذا - وهو مولى أبيه المنصور - في جيش إلى مصر.
فلما بلغ ذلك أصحاب كافور هربوا منها قبل دخول جوهر إليها، فدخلها بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة، ففعل ما ذكرنا، واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد.
وفيها شرع جوهر القائد في بناء القاهرة المعزية، وبناء القصرين عندها على ما نذكره.
وفيها شرع في الامامات إلى مولاه المعز الفاطمي.
وفيها أرسل جوهر جعفر بن فلاح في جيش كثيف إلى الشام فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مطاعا في أهل الشام فجاحف عن العباسيين مدة طويلة، ثم آل الحال إلى أن يخطبوا للمعز
بدمشق، وحمل الشريف أبو القاسم هذا إلى الديار المصرية، وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الامراء وحملوا إلى الديار المصرية، فحملهم جوهر القائد إلى المعز بإفريقية، واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الاتراك والاكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه.
وفيها دخلت الروم إلى حمص فوجدوا أكثر أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا، فحرقوها وأسروا ممن بقي فيها ومن حولها نحوا من مائة ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي ذي الحجة منها نقل عز الدولة والده معز الدولة بن بويه من داره إلى تربته بمقابر قريش.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء فغلقت الاسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن، والمسوح معلقة في الاسواق والتبن مدرور فيها.
وفيها دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والاطفال نحوا من عشرين ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك كله بتدبير ملك الارمن نقفور لعنه الله، وكل هذا في ذمة ملوك الارض أهل الرفض الذين قد استحودوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله.
قال ابن الجوزي: وكان قد تمرد وطغا، وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الذي كان قبله، ولهذا الملك المتقدم ابنان، فأراد أن يخصبهما ويجعلهما في الكنيسة لئلا يصلحا بعد

ذلك للملك، فلما فهمت ذلك أمهما علمت عليه وسلطت عليه الامراء فقتلوه وهو نائم وملكوا عليهم أكبر ولديها.
وفي ربيع الاول صرف عن القضاء أبو بكر أحمد بن سيار وأعيد إليه أبو محمد بن معروف.
قال ابن الجوزي: وفيها نقصت دجلة حتى غارت الآبار.
وحج بالناس الشريف أبو أحمد النقيب، وانقض كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الارض حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.
قال ابن الاثير: وفي المحرم منها خطب للمعز الفاطمي بدمشق عن أمر جعفر بن
فلاح الذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر، فقاتله أبو محمد الحسن بن عبد الله بن طغج بالرملة فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية.
وفيها وقعت المنافرة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين ابنه أبي تغلب، وسببه أنه لما مات معز الدولة بن بويه عزم أبو تغلب ومن وافقه من أهل بيته على أخذ بغداد، فقال لهم أبوهم: إن معز الدولة قد ترك لولده عز الدولة أموالا جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده، فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر، فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه، فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول ولم يزل بأبيه حتى سجنه بالقلعة، فاختلف أولاده بينهم وصاروا أحزابا، وضعفوا عما في أيديهم، فبعث أبو تغلب إلى عز الدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة، واتفق موت أبيه ناصر الدولة في هذه السنة، واستقر أبو تغلب بالموصل وملكها، إلا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين.
وفيها دخل ملك الروم إلى طرابلس فأحرق كثيرا منها وقتل خلقا، وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها منها لشدة ظلمه، فأسرته الروم واستحوذوا على جميع أمواله وحواصله، وكانت كثيرة جدا، ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلدا سوى القرى، وتنصر خلق كثير على أيديهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجاؤوا إلى حمص فأجرقوا ونهبوا وسبوا، ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه، وصارت له مهابة في قلوب الناس، ثم عاد إلي بلده ومعه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي وصبية، وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الامراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم، وبعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا وسبوا، وكان قرعويه غلام سيف الدولة قد استحوذ على حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف، فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إليهم، فذهب إلى أمه بميا فارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان فمكث عندها حينا ثم سار إلى حماه فملكها، ثم عاد إلى حلب بعد سنتين كما سيأتي، ولما عاثت الروم في هذه السنة بالشام صانعهم قرعويه عن حلب، وبعث إليهم بأموال وتحف ثم عادوا إلى إنطاكية فملكوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وسبوا عامة أهلها وركبوا إلى حلب وأبو المعالي شريف محاصر قرعويه بها، فخافهم فهرب عنها فحاصرها الروم فأخذوا البلد، وامتنعت القلعة عليهم ثم اصطلحوا مع قرعويه على هدية ومال يحمله إليهم كل سنة، وسلموا إليه البلد
ورجعوا عنه.
وفيها خرج على المعز الفاطمي وهو بإفريقية رجل يقال له أبو خزر فنهض إليه بنفسه وجنوده، وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها، ويطلبه إليها، ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها:

يقول بنو العباس قد فتحت مصر * فقل لبني العباس قد قضي الامر وفيها رام عز الدولة صاحب بغداد محاصرة عمران بن شاهين الصياد فلم يقدر عليه، فصالحه ورجع إلى بغداد.
وفيها اصطلح قرعويه وأبو المعالي شريف، فخطب له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي، وكذلك حمص ودمشق، ويخطب بمكة للمطيع بالله وللقرامطة، وبالمدينة للمعز الفاطمي.
وخطب أبو أحمد الموسوي بظاهرها للمطيع.
وذكر ابن الاثير: ان نقفور توفي في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الذي قبله، قال وكان يقال له الدمستق، وكان من أبناء المسلمين كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس، فتنصر ولده هذا وحظي عند النصارى حتى صار من أمره ما صار، وقد كان من أشد الناس على المسلمين، أخذ منهم بلادا كثيرة عنوة، من ذلك طرسوس والاذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك، وقتل من المسلمين خلقا لا يعلمهم إلا الله، وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله، وتنصروا أو غالبهم، وهو الذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم.
وممن توفي فيها من الاعيان..محمد بن أحمد بن الحسين ابن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله أبو علي الصواف، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وطبقته، وعنه خلق منهم الدار قطني.
وقال ما رأت عيناي مثله في تحريره ودينه، وقد بلغ تسعا وثمانين سنة رحمه الله.
محارب بن محمد بن محارب
أبو العلاء الفقيه الشافعي من ذرية محارب بن دثار، كان ثقة عالما، روى عن جعفر الفريابي وغيره.
أبو الحسين أحمد بن محمد المعروف بابن القطان أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وتفرد برياسة المذهب بعد موت أبي القاسم الداراني (1)، وصنف في أصوله الفقه وفروعه، وكانت الرحلة إليه ببغداد، ودرس بها وكتب شيئا كثيرا.
توفي في جمادى الاولى منها.
__________
(1) في الوفيات 1 / 70: الداركي .

ثم دخلت سنة ستين وثلثمائة في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة.
وفي ذي القعدة منها أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح، وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام وقد أمده عز الدولة من بغداد بسلاح وعدد كثيرة، ثم ساروا إلى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نوابا.
ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة في جمع كثير من الاعراب والاخشيدية والكافورية، فوصلوا عين شمس فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالا شديدا، والظفر للقرامطة وحصروا المغاربة حصرا عظيما، ثم حملت المغاربة في بعض الايام على ميمنة القرامطة فهزمتها ورجعت القرامطة إلى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة فأرسل جوهر إلى أصحابه خمسة عشر مركبا ميرة لاصحابه، فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الافرنج.
وجرت خطوب كثيرة.
ومن شعر الحسين بن أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك: زعمت رجال الغرب أني هبتها * فدمي إذن ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دم * يروي ثراك فلا سقاني النيل وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان بنت بختيار عز الدولة وعمرها ثلاث سنين على صداقة مائة ألف دينار، ووقع العقد في صفر منها.
وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا
القاسم بن عباد فأصلح أموره وساس دولته جيدا.
وفيها أذن بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل.
قال ابن عساكر في ترجمة جعفر بن فلاح نائب دمشق: وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين، أخبرنا أبو محمد الاكفاني قال: قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام: وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر من سنة ستين وثلثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد، وسائر المساجد بحي على خير العمل بعد حي على الفلاح، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح، ولم يقدروا على مخالفته، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بدا.
وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الاذان والتكبير في الاقامة مثنى مثنى.
وأن يقولوا في الاقامة حي على خير العمل، فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى: وفيها توفي من الاعيان..سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير، والاوسط، والصغير.
وله كتاب السنة وكتاب مسند الشاميين، وغير ذلك من المصنفات المفيدة، عمر مائة سنة.
توفي بأصبهان ودفن على بابها عند قبر حممة الصحابي.
قاله أبو الفرج بن الجوزي.
قال ابن خلكان: سمع من ألف شيخ، قال: وكانت وفاته في يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة

وقيل في شوال منها، وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة.
الرفا الشاعر أحمد (1) بن السري أبو الحسن الكندي الرفا الشاعر الموصلي، أرخ وفاته ابن الاثير في هذه السنة، توفي في بغداد.
وذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة ثنتين وستين وثلثمائة كما سيأتي.
محمد بن جعفر ابن محمد بن الهيثم بن عمران بن يزيد أبو بكر بن المنذر أصله أنباري.
سمع من أحمد بن الخليل بن البرجلاني، ومحمد بن العوام الرياحي، وجعفر بن محمد الصائغ، وأبي إسماعيل
الترمذي.
قال ابن الجوزي وهو آخر من روى عنهم.
قالوا: وكانت أصوله جيادا بخط أبيه، وسماعه صحيحا، وقد انتقى عنه أبو عمرو البصري.
توفي فجأة يوم عاشرواء وقد جاوز التسعين.
محمد بن الحسن (2) بن عبد الله أبو بكر الآجري سمع جعفر الفريابي، وأبا شعيب الحراني، وأبا مسلم الكجي وخلقا، وكان ثقة صادقا دينا، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها الاربعون الآجرية، وقد حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلثمائة، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها حتى مات بعد إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله.
محمد بن جعفر بن محمد أبو عمرو الزاهد، سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع منه الحفاظ الكبار، وكان فقرا متقللا يضرب اللبن بقبور الفقراء، ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة، ويقوم الليل كله.
توفي في جمادى الآخرة منها عن خمس وتسعين سنة.
محمد بن داود أبو بكر الصوفي ويعرف بالدقي أصله من الدينور أقام ببغداد، ثم ارتحل وانتقل إلى دمشق، وقد قرأ على ابن مجاهد وسمع الحديث من محمد بن جعفر الخرائطي، صاحب ابن الجلاء، والدقاق.
توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة.
__________
(1) في الوفيات 2 / 359: السري بن أحمد بن السري.
وترجمته في اليتيمة 2 / 117 ومعجم الادباء 11 / 182 وتاريخ بغداد 9 / 194.
(2) في تذكرة الحفاظ 3 / 936: الحسين (انظر وفيات الاعيان 4 / 292) .

محمد بن الفرحاني ابن زرويه المروزي الطبيب، دخل بغداد وحدث بها عن أبيه بأحاديث منكرة، روى عن الجنيد وابن مرزوق، قال ابن الجوزي: وكان فيه ظرف ولباقة، غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث.
أحمد بن الفتح ويقال ابن أبي الفتح الخاقاني، أبو العباس النجاد، إمام جامع دمشق.
قال ابن عساكر: كان عابدا صالحا، وذكر أن جماعة جاؤوا لزيارته فسمعوه يتأوه من وجع كان به، فأنكروا عليه ذلك.
فلما خرج إليهم قال لهم: إن آه اسم من تستروح إليه الاعلى، قال: فزاد في أعينهم وعظموه.
قلت: لكن هذا الذي قاله لا يؤخذ عنه مسلما إليه فيه، بل يحتاج إلى نقل صحيح عن المعصوم، فإن أسماء الله تعالى توقيفية على الصحيح.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت الروافض بدعتهم كما تقدم، وفي المحرم منها أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقا من أهل الرها، وساروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك، ولم يغن عن تلك النوحي أبو تغلب بن حمدان متوليها شيئا، ولا دافع عنهم ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخون، فرثا لهم أهل بغداد وجاؤوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة مشغولا بالصيد فذهبت الرسل وراءه فبعث الحاجب سبكتكين يستنفر الناس، فتجهز خلق كثير من العامة، وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والاقامة، فأظهر السرور والفرح، ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم، وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس، وتناقض النقيب أبو أحمد الموسوي والوزير أبو الفضل الشيرازي، وأرسل بختيار بن معز الدولة إلى الخليفة يطلب منه أموالا يستعين بها على هذه الغزوة، فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجئ إلى لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه، ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شئ أرسله إليك.
فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده فاحتاج الخليفة أن يحصل له شيئا فباع بعض ثياب بدنه وشيئا من أثاث بيته، ونقض بعض سقوف داره وحصل له أربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك
الغزاة، فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وترك

الجهاد، فلا جزاه الله خيرا عن المسلمين.
وفيها تسلم أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين فنقل حواصلها وما فيها إلى الموصل.
وفيها اصطلح الامير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وركن الدولة بن بويه وابنه عضد الدولة على أن يحملا إليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج بابنة ركن (1) الدولة، فحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يعد ولا يحصى.
وفي شوال منها خرج المعز الفاطمي بأهله وحاشيته وجنوده من المدينة المنصورة من بلاد المغرب قاصدا البلاد المصرية، بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين، واستخلف المعز على بلاد المغرب ونواحيها وصقلية وأعمالها نوابا من جهته وحزبه وأنصاره من أهل تلك البلاد، واستصحب معه شاعره محمد بن هانئ الاندلسي، فتوفي (2) في أثناء الطريق، وكان قدوم المعز إلى القاهرة في رمضان من السنة الآتية على ما سيأتي.
وفيها حج بالناس الشريف أبو أحمد الموسوي النقيب على الطالبيين كلهم.
وفيها توفى من الاعيان...سعيد بن أبي سعيد الجنابي أبو القاسم القرمطي الهجري، وقام بالامر من بعده أخوه أبو يعقوب يوسف، ولم يبق من سلالة أبي سعيد سواه.
عثمان بن عمر بن خفيف أبو عمر المقري المعروف بالدارج، روى عن أبي بكر بن أبي داود وعنه ابن زرقويه، وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة، وكان يعد من الابدال.
توفي يوم الجمعة في رمضان منها...علي بن إسحاق بن خلف أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالزاهي (3).
ومن شعره:
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 626: عضد الدولة.
(تاريخ أبي الفداء 2 / 112).
(2) قال ابن الاثير 8 / 621: قتل غيلة، رئي ملقى على جانب البحر قتيلا لا يدرى من قتله.
وفي العبر لابن خلدون 4 / 49: قتل غيلة في برقة.
وانظر تاريخ ابن الوردي 1 / 444.
(3) من ابن خلكان 3 / 371 ويتيمة الدهر - بيروت 1 / 289، وفي الاصل: المراهي تحريف والزاهي نسبة إلى قرية من قرى نيسابور - قال السمعاني في الانساب..، وهي قرية أزاه ويقال لها الزاه أيضا .

قم فهن عاشقين * أصبحا مصطحبين جمعا بعد فراق * فجعا منه ببين ثم عادا في سرور * من صدود آمنين بهما روح ولكن * ركبت في بدنين أحمد بن سهل ابن شداد أبو بكر المخرمي، سمع أبا خليفة وجعفر الفريابي، وابن أبي الفوارس وابن جرير وغيرهم، وعنه الدار قطني وابن زرقويه وأبو نعيم.
وقد ضعفه البرقاني وابن الجوزي وغيرهم.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلثمائة في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الاسواق ما تقدم قبلها.
وفيها اجتمع الفقيه أبو بكر الرازي الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي بعز الدولة بختيار بن بويه وحرضوه على غزو الروم فبعث جيشا لقتالهم فأظفر الله بهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا وبعثوا برؤوسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس.
وفيها سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد وعليها هزر (1) مرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستنصره فبعث إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان، فاجتعما لقتاله فلقياه في آخر يوم من رمضان في مكان ضيق لا مجال للخيل فيه، فاقتتلوا مع الروم قتالا شديدا فعزمت الروم على الفرار فلم يقدروا فاستحر
فيهم القتل وأخذ الدمستق أسيرا فأودع السجن فلم يزل فيه حتى مرض ومات في السنة القابلة، وقد جمع أبو تغلب الاطباء له فلم ينفعه شئ.
وفيها أحرق الكرخ ببغداد وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلا من العامة فمات فثارت عليه العامة وجماعة من الاتراك، فهرب منهم فدخل دارا فأخرجوه مسجونا وقتلوه وحرقوه، فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي - وكان شديد التعصب للنسة - وبعث حاجبه إلى أهل الكرخ فألقى في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والاموال من ذلك ثلثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا، وسبعة عشر ألف إنسان.
فعند ذلك عزله بختيار عن الوزارة وولاها محمد بن بقية، فتعجب الناس من ذلك، وذلك أن هذا الرجل كان وضيعا عند الناس لا حرمة له، كان أبوه فلاحا بقرية كوثا (2)، وكان هو ممن يخدم عز الدولة، كان يقدم له الطعام ويحمل منديل الزفر على كتفه، إلى أن ولى الوزارة، ومع هذا كان أشد ظلما للرعية من الذي
__________
(1) في الكامل 8 / 628: هزار (2) في الكامل 8 / 628 وأبي الفداء 2 / 113: أو انا

قبله، وكثر في زمانه العيارون ببغداد، وفسدت الامور.
وفيها وقع الخلاف بين عز الدولة وبين حاجبه سبكتكين ثم اصطلحا على دخن.
وفيها كان دخول المعز الفاطمي الديار المصرية وصحبته توابيت آبائه، فوصل إلى اسكندرية في شعبان، وقد تلقاه أعيان مصر إليها، فخطب الناس هنالك خطبة بليغة ارتجالا، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب فقال فيها: إن الله أغاث الرعايا بهم وبدولتهم.
وحكى قاضي بلاد مصر وكان جالسا إلى جنبه فسأله: هل رأيت خليفة أفضل مني ؟ فقال له لم أر أحدا من الخلفاء سوى أمير المؤمنين.
فقال له: أحججت ؟ قال: نعم.
قال: وزرت قبر الرسول ؟ قال: نعم.
قال: وقبر أبي بكر وعمر ؟ قال فتحيرت ما أقول فإذا ابنه العزيز مع كبار الامراء فقلت: شغلني عنهما رسول الله كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد من بعده، ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره.
ثم سار من الاسكندرية إلى مصر فدخلها في الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل القصرين، فقيل إنه أول ما دخل إلى محل ملكه
خر ساجدا شكرا لله عز وجل، ثم كان أول حكومة انتهت إليه أن امرأة كافور الاخشيدي ذكرت أنها كانت أودعت رجلا من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوخ بالذهب، وأنه جحدها ذلك، فاستحضره وقرره فجحد ذلك وأنكره.
فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها ما فيها، فوجدوا القباء بعينه قد جعله في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره، فسلمه المعز إليها ووفره عليها، ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها فاستحسن الناس منه ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (1).
وفيها توفي من الاعيان السري بن أحمد بن أبي السري أبو الحسن الكندي الموصلي، الرفا الشاعر، له مدائح في سيف الدولة بن حمدان وغيره من الملوك والامراء، وقد قدم بغداد فمات بها في هذه السنة، وقيل في سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وأربعين.
وقد كان بينه وبين محمذ بن سعيد معاداة، وادعى عليه أنه سرق شعره، وكان مغنيا ينسج على ديوان كشاجم الشاعر، وربما زاد فيه من شعر الخالديين ليكثر حجمه.
قال ابن خلكان: وللسري الرفا هذا ديوان كبير جدا وأنشد من شعره: يلقى الندى برقيق وجه مسفر * فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا رحب المنازل ما أقام، فإن سرى * في جحفل ترك الفضاء مضيقا (2) محمد بن هاني الاندلسي الشاعر استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر، فمات
__________
(1) رواه البخاري معلقا.
فتح الباري 7 / 471 وقال البخاري عقبه: تابعه معمر عن الزهري عن سعيد.
(2) البيتان من قصيدة - في ديوانه ص 185 - قالها في مدح سيف الدولة .

ببعض الطريق، وجد مقتولا على حافة البحر في رجب منها، وقد كان قوي النظم إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق، فمن ذلك قوله يمدح المعز: ما شئت لا ما شاءت الاقدار * فاحكم فأنت الواحد القهار
وهذا من أكبر الكفر.
وقال أيضا قبحه اله وأخزاه: * ولطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا * ومن ذلك قوله - قال ابن الاثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه -: جل بزيادة جل المسيح * بها وجل آدم ونوح جل (1) بها الله ذو المعالي * فكل شئ سواه ريح وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له.
قلت: هذا الكلام إن صح عنه فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة ولا في هذه الدار.
وفيها توفي: إبراهيم بن محمد ابن شجنونة بن عبد الله المزكي أحد الحفاظ أنفق على الحديث وأهله أموالا جزيلة، وأسمع الناس بتخريجه، وعقد له مجلس للاملاء بنيسابور، ورحل وسمع من المشايخ غربا وشرقا، ومن مشايخه ابن جرير وابن أبي حاتم، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من كبار المحدثين، منهم أبو العباس الاصم وأضرابه، توفي عن سبع وستين سنة سعيد بن القاسم بن خالد أبو عمر البردعي (2) أحد الحفاظ، روى عنه الدار قطني وغيره.
محمد بن الحسن بن كوثر بن علي أبو بحر البربهاري، روى عن إبراهيم الحربي وتمام والباغندي والكديمي وغيرهم، وقد روى عنه ابن زرقويه وأبو نعيم وانتخب عليه الدار قطني، وقال: اقتصروا على ما خرجته له فقد اختلط
__________
(1) في الكامل 8 / 621: حل، في البيتين.
(2) البردعي: نسبة إلى بردعة بلد بأذربيجان .

صحيح سماعه بفاسده.
وقد تكلم فيه غير واحد من حفاظ زمانه بسبب تخليطه وغفلته واتهمه بعضهم بالكذب أيضا (1).
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلثمائة فبها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافصة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد، وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأه وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيارون في البلد فسادا، ونهبت الاموال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا فسكنت الفتنة.
وفيها أخذ بختيار بن معز الدولة الموصل، وزوج ابنته بابن (2) أبي تغلب بن حمدان.
وفيها وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والاتراك، فقويت الديلم على الترك بسبب أن الملك فيهم فقتلوا خلقا كثيرا، وحبسوا رؤسهم ونهبوا كثيرا من أموالهم.
وكتب عز الدولة إلى أهله إني سأكتب إليكم أني قد مت فإذا وصل إليكم الكتاب فأظهروا النوح واجلسوا للعزاء، فإذا جاء سبكتكين للعزاء فاقبضوا عليه فإنه ركن الاتراك ورأسهم، فلما جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا النوح وجلسوا للعزاء ففهم سبكتكين أن هذه مكيدة فلم يقربهم، وتحقق العداوة بينه وبين عز الدولة، وركب من فوره في الاتراك فحاصر دار عز الدولة يومين، ثم أنزل أهله منها ونهب ما فيها وأحدرهم إلى دجلة وإلى واسط منفيين، وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معهم، فتوسل إليه الخليفة فعفا عنه وأقره بداره، وقويت شوكته سبكتكين والاتراك ببغداد، ونهبت الاتراك دور الديلم، وخلع سبكتكين على رؤس العامة، لانهم كانوا معه على الديلم، وقويت السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ - لانه محل الرافضة - ثانيا، وظهرت السنة على يدي الاتراك، وخلع المطيع وولي ولده على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
خلافة الطائع وخلع المطيع ذكر ابن الاثير أنه لما كان الثالث عشر من ذي القعدة، وقال ابن الجوزي: كان ذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر (3) من ذي القعدة من هذه السنة خلع المطيع لله وذلك لفالج أصابه فثقل
__________
(1) ذكرت وفاته في الوافي بالوفيات 2 / 338 سنة 332.
وانظر ترجمة له في تاريخ بغداد 2 / 209 ميزان الاعتدال 3 / 45 الانساب للسمعاني ص 71.
(2) سقطت " ابن " من ابن الاثير، وقد تقدم ان بختيار زوج ابنته من أبي تغلب (وفي العبر: أبي ثعلب).
(3) في العقد الفريد 5 / 131: لسبع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة.
وفي العبر 3 / 428: منتصف ذي القعدة .

لسانه (1)، فسأله سبكتكين أن يخلع نفسه ويولي من بعده ولده الطائع، فأجاب إلى ذلك فعقدت البيعة للطائع بدار الخلافة على يدي الحاجب سبكتكين، وخلع أبو ه المطيع بعد تسع وعشرين سنة (2) كانت له في الخلافة، ولكن تعوض بولاية ولده.
واسم الطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع أبي القاسم، ولم يل الخلافة من اسمه عبد الكريم سواه، ولا من أبوه حي سواه، ولا من كنيته أبو بكر سواه وسوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم يل الخلافة، من بني العباس أسن منه، كان عمره لما تولى ثمانيا وأربعين سنة، وكانت أمه أم ولد اسمها غيث (3)، تعيش يوم ولي.
ولما بويع ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين والجيش، ثم خلع من الغد على سبكتكين خلع الملوك ولقبه ناصر الدولة، وعقد له الامارة.
ولما كان يوم الاضحى ركب الطائع وعليه السواد، فخطب الناس بعد الصلاة خطبة خفيفة حسنة.
وحكى ابن الجوزي في منتظمه أن المطيع لله كان يسمى بعد خلعه بالشيخ الفاضل.
الحرب بين المعز الفاطمي والحسين (4) لما استقر المعز الفاطمي بالديار المصرية وابتنى فيها القاهرة والقصرين وتأكد ملكه، سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي من الاحساء في جمع كثيف من أصحابه، والتف معه أمير العرب ببلاد الشام وهو حسان بن الجراح الطائي، في عرب الشام بكمالهم، فلما سمع بهم المعز الفاطمي أسقط في يده لكثرتهم، وكتب إلى القرمطي يستميله ويقول: إنما دعوة آبائك كانت إلى آبائي قديما، فدعوتنا واحدة، ويذكر فيه فضله وفضل آبائه، فرد عليه الجواب: وصل كتابك الذي كثر تفضيله وقل تحصيله ونحن سائرون إليه على إثره والسلام.
فلما انتهوا إلى ديار مصر عاثوا فيها قتلا ونهبا
وفسادا وحار لمعز فيما يصنع وضعف جيشه عن مقاومتهم، فعدل إلى المكيدة والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب ووعده بمائة ألف دينار إن هو خذل بين الناس، فبعث إليه حسان يقول أن ابعث إلى بما التزمت وتعالى بمن معك، فإذا لقيتنا انهزمت بمن معي فلا يبقى للقرمطي قوة فتأخذه كيف شئت.
فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها، ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس وألبسه ذهبا وجعله في أسفل الاكياس، وجعل في رؤوسها الدنانير الخالصة، ولما بعثها إليه ركب في إثرها في جيشه
__________
(1) قال في دول الاسلام 1 / 222: كان انفلاج المطيع وثقل لسانه سنة ستين وثلاثمائة.
(2) في الكامل 8 / 637: تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 428: ست وعشرين سنة ونصف.
وفي المنتظم 7 / 66 ونهاية الارب 23 / 201: 29 سنة وأربعة أشهر وعشرين يوما.
وفي العقد الفريد 5 / 131:..وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
(3) في مآثر الخلافة 1 / 311: هزار.
(4) في ابن الاثير 8 / 638 ذكره في هذا الخبر باسم الحسن، وقد تقدم عنده في حوادث سنة 360 ه باسم: الحسين .

فالتقى الناس فانهزم حسان بن معه، فضعف جانب القرمطي وقوي عليه الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله، وبعث المعز في آثارهم القائد أبا محمود بن إبراهيم في عشرة آلاف فارس، ليحسم مادة القرامطة ويطفئ نارهم عنه.
المعز الفاطمي ينتزع دمشق من القرامطة لما انهزم القرمطي بعث المعز سرية وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي، فجاؤوا إلى دمشق فتسلمها من القرامطة بعد حصار شديد واعتقل متوليها أبا الهيجاء (1) القرمطي وابنه، واعتقل رجلا يقال له أبو بكر من أهل نابلس، كان يتكلم في الفاطميين ويقول: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بواحد ورميت الفاطميين بتسعة.
فأمر به فسلخ بين يدي المعز وحشي جلده تبنا وصلب بعد ذلك.
ولما تفرغ أبو محمود القائد من قتال القرامطة أقبل نحو دمشق فخرج إليه ظالم بن موهوب فتلقاه
إلى ظاهر البلد وأكرمه وأنزله ظاهر دمشق، فأفسد أصحابه في الغوطة ونهبوا الفلاحين وقطعوا الطرقات، فتحول أهل الغوطة إلى البلد من كثرة النهب، وجئ بجماعة من القتلى فألقوا فكثر الضجيج، وغلقت الاسواق، واجتمعت العامة للقتال، والتقوا مع المغاربة فقتل من الفريقين جماعة وانهزمت العامة غير مرة، وأحرقت المغاربة ناحية باب الفراديس، فاحترق شئ كثير من الاموال والدور، وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين وأحرقت البلد مرة أخرى بعد عزل ظالم بن موهوب وتولية جيش بن صمصامة ابن أخت أبي محمود قبحه الله، وقطعت القنوات وسائر المياه عن البلد، ومات كثير من الفقراء في الطرقات من الجوع والعطش، ولم يزل الحال كذلك حتى ولي عليهم الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فسكنت النفوس ولله الحمد فصل ولما قويت الاتراك ببغداد تحير بختيار بن معز الدولة في أمره وهو مقيم بالاهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد، فأرسل إلى عمه ركن الدولة يستنجده فأرسل إليه بعسكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وأرسل إلى ابن عمه عضد الدولة بن ركن الدولة فأبطأ عليه وأرسل إلى عمران بن شاهين فلم يجبه، وأرسل إلى أبي تغلب بن حمدان فأظهر نصره وإنما يريد في الباطن أخذ بغداد، وخرجت الاتراك من بغداد في جحفل عظيم ومعهم الخليفة المطيع وأبوه، فلما انتهوا إلى واسط توفي المطيع وبعد أيام توفي سبكتكين، فحملا إلى بغداد والتف الاتراك على أمير يقال له افتكين، فاجتمع شملهم والتقوا مع بختيار فضعف أمره جدا وقوي عليه ابن عمه عضد الدولة فأخذ منه ملك العراق وتمزق شمله، وتفرق أمره.
وفيها خطب للمعز الفاطمي بالحرمين مكة والمدينة النبوية.
وفيها خرج
__________
(1) في الكامل 8 / 640: أبا المنجا، وفي تاريخ أخبار القرامطة ص 61: ابن أبي المنجى.

طائفة من بني هلال وطائفة من العرب على الحجاج فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام.
وفيها انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة وأوله من سنة خمس وتسعين ومائتين، وهي أول دولة المقتدر.
وفيها كانت زلزلة شديدة بواسط، وحج بالناس فيها
الشريف أبو أحمد الموسوي، ولم يحصل لاحد حج في هذه السنة سوى من كان معه على درب العراق، وقد أخذ بالناس على طريق المدينة فتم حجهم.
وفيها توفي من الاعيان...العباس بن الحسين أبو الفضل السراجي الوزير لعز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه، وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها، عكس مخدومه، فعزله وولى محمد بن بقية البابا كما تقدم، وحبس هذا فقتل في محبسه في ربيع الآخر منها، عن تسع وخمسين سنة، وكان فيه ظلم وحيف فالله أعلم.
وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه الحنبلي المعروف بغلام، أحد مشاهير الحنابلة الاعيان، وممن صنف وجمع وناظر، وسمع الحديث من ابي القاسم البغوي وطبقته، ومات وقد عدا الثمانين.
قال ابن الجوزي: وله المقنع في مائة جزء، والشافي في ثمانين جزء، وزاد المسافر والخلاف مع الشافعي وكتاب القولين ومختصر السنة، وغير ذلك في التفسير والاصول.
علي بن محمد أبو الفتح السبتي الشاعر المشهور، له ديوان جيد قوي، وله في المطابقة والمجانسة اليد الطولى، ومبتكرات أولى.
وقد ذكر أبن الجوزي له في منتظمه من ذلك قطعة كبيرة مرتبة على حروف المعجم، من ذلك قوله: إذا قنعت بميسور من القوت * بقيت في الناس حرا غير ممقوت ياقوت يومي إذا ما در خلفك لي * فلست آسي على در وياقوت وقوله يا أيها السائل عن مذهبي * ليقتدى فيه بمنهاجي منهاجي الحق وقمع الهوى * فهل لمنهاجي من هاجي

وقوله: افد طبعك المكدود بالجد راحة * تجم، وعلله بشئ من المزح
ولكن إذا أعطيت ذلك فليكن * بمقدار ما تعطي الطعام من الملح أبو فراس بن حمدان الشاعر له ديوان مشهور.
استنابه أخوه سيف الدولة على حران ومنبج، فقاتل مرة الروم فأسروه ثم ستنقذه سيف الدولة، واتفق موته في هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة، وله شعر رائق ومعان حسنة، وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال: المرء رهن (1) مصائب لا تنقضي * حتى يوارى جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في أهله * ومعجل يلقى الاذى في نفسه فلما قالهما كان عنده رجل من العرب فقال قل في معناهما فقال الاعرابي من يتمنى العمر فليتخذ * صبرا على فقد أحبابه ومن يعمر يلق في نفسه * ما يتمناه لاعدائه كذا ذكر ابن الساعي هذين البيتين من شعر سيف الدولة في أخيه (2) أبي فراس، وذكرها ابن الجوزي من شعر أبي فراس نفسه، وأن الاعرابي أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما.
ومن شعر أبي فراس: سيفقدني قومي إذا جد جدهم * وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ولو سد غيري ما سددت اكتفوا * به وما فعل النسر الرفيق مع الصقر وقوله من قصيدة: إلى الله أشكو إننا بمنازل * تحكم في آسادهن كلاب فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والانام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب ثم دخلت سنة أربع وستين وثلثمائة فيها جاء عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى واسط ومعه وزير أبيه أبو الفتح بن العميد،
__________
(1) في الوفيات 2 / 63 واليتيمة: نصب.
وفي اليتيمة 1 / 84 نسب البيتين إلى أبي فراس.
(2) كذا بالاصل، والمعروف ان أبا فراس هو ابن عم سيف الدولة .

فهرب منه الفتكين في الاتراك إلى بغداد، فسار خلفهم فنزل في الجانب الشرقي منها، وأمر بختيار أن ينزل على الجانب الغربي، وحصر الترك حصرا شديدا، وأمر أمراء الاعراب أن يغيروا على الاطراف ويقطعوا عن بغداد الميرة الواصلة إليها، فغلت الاسعار وامتنع الناس من المعاش من كثرة العيارين والنهوب، وكبس الفتكين البيوت لطلب الطعام واشتد الحال، ثم التقت الاتراك وعضد الدولة فكسرهم وهربوا إلى تكريت واستحوذ عضد الدولة على بغداد وما والاها من البلاد، وكانت الترك قد اخرجوا معهم الخليفة فرده عضد الدولة إلى دار الخلافة مكرما، ونزل هو بدار الملك وضعف أمر بختيار جدا، ولم يبق معه شئ بالكلية، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عن بابه واستعفى عن الامارة، وكان ذلك بمشورة عضد الدولة، فاستعطفه عضد الدولة في الظاهر، وقد أشار عليه في الباطن أن لا يقبل فلم يقبل.
وترددت الرسل بينهما فصمم بختيار على الامتناع ظاهرا، فألزم عضد الدولة بذلك وأظهر للناس أنه إنما يفعل هذا عجزا منه عن القيام بأعباء الملك فأمر بالقبض على بختيار وعلى أهله وإخوته، ففرح بذلك الخليفة الطائع، وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا، وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها آنسا، وأرسل إلى الخليفة بالاموال والامتعة الحسنة العزيزة وقتل المفسدين من مردة الترك وشطار العيارين.
قال ابن الجوزي: وفي هذه السنة عظم البلاء بالعيارين ببغداد، وأحرقوا سوق باب الشعير، وأخذوا أموالا كثيرة، وركبوا الخيول وتلقبوا بالقواد، وأخذوا الخفر من الاسواق والدروب، وعظمت المحنة بهم جدا واستفحل أمرهم، حتى أن رجلا منهم أسود كان مستضعفا نجم فيهم وكثر ماله حتى اشترى جارية بألف دينار، فلما حصلت عنده حاولها عن نفسها فأبت عليه فقال لها: ماذا تكرهين مني ؟ قال: أكرهك كلك.
فقال: فما تحبين ؟ فقالت: تبيعني.
فقال: أو خير من ذلك ؟ فحملها إلى القاضي فأعتقها وأعطاها ألف دينار وأطلقها، فتعجب الناس من حلمه وكرمه مع فسقه وقوته.
قال: وورد الخبر في المحرم بأنه خطب للمعز الفاطمي بمكة والمدينة في الموسم، ولم
يخطب للطائع.
قال: وفي رجب منها غلت الاسعار ببغداد حتى بيع الكر الدقيق الحواري بمائة ونيف وسبعين دينارا.
قال: وفيها اضمحل أمر عضد الدولة بن بويه وتفرق جنده عنه ولم يبق معه سوى بغداد وحدها، فأرسل إلى أبيه يشكو له ذلك، فأرسل يلومه على الغدر بابن عمه بختيار، فلما بلغه ذلك خرج من بغداد إلى فارس بعد أن أخرج ابن عمه من السجن وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه، وشرط عليه أن يكون نائبا له بالعراق يخطب له بها، وجعل معه أخاه أبا إسحاق أمير الجيوش لضعف بختيار عن تدبير الامور، واستمر ذاهبا إلى بلاده، وذلك كله عن أمر أبيه له بذلك، وغضبه عليه بسبب غدره بابن عمه وتكرار مكاتباته فيه إليه.
ولما سار ترك بعده وزير أبيه أبا الفتح بن العميد، ولما استقر عز الدولة بختيار ببغداد وملك العراق لم يف لابن عمه عضد الدولة بشئ مما قال، ولا ما كان التزم، بل تمادى على ضلاله القديم، واستمر على مشيه الذي هو غير مستقيم من الرفض وغيره.

قال وفي يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع شاه باز بنت عز الدولة على صداق مائة ألف دينار، وفي سلخ ذي القعدة عز القاضي أبو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان وقلده أبو محمد معروف.
وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي، وخطب له بالحرمين دون الطائع والله سبحانه أعلم.
ذكر أخذ دمشق من أيدي الفاطميين ذكر ابن الاثير في كامله: أن الفتكين (1) غلام معز الدولة الذي كان قد خرج عن طاعته كما تقدم، والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والاعراب، نزل في هذه السنة على دمشق، وكان عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها فذكروا له ما هم فيه من الظلم والغشم ومخالفة الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يصمم على أخذها ليستنقذها منهم، فعند ذلك صمم على أخذها ولم يزل حتى أخذها وأخرج منها ريان (2) الخادم وكسر أهل الشر بها، ورفع أهل الخير، ووضع في أهلها العدل وقمع أهل اللعب واللهو، وكف
أيدي الاعراب الذين كانوا قد عاثوا في الارض فسادا، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ونهبوا أهلها.
ولما استقامت الامور على يديه وصلح أمر أهل الشام كتب إليه المعز الفاطمي (3) يشكر سعيه ويطلبه إليه ليخلع عليه ويجعله نائبا من جهته، فلم يجبه إلى ذلك، بل قطع خطبته من الشام وخطب للطائع العباسي، ثم قصد صيدا وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ، وفيهم ظالم بن موهب العقيلي الذي كان نائبا على دمشق للمعز الفاطمي، فأساء بهم السيرة، فحاصرهم ولم يزل حتى أخذ البلد منهم وقتل منهم نحو من أربعة آلاف من سراتهم، ثم قصد طبرية ففعل بأهلها مثل ذلك، فعند ذلك عزم المعز الفاطمي على المسير إليه، فبينما هو يجمع له العساكر إذ توفي المعز في سنة خمس وستين كما سيأتي، وقام بعده ولده العزيز، فأطمأن عند ذلك الفتكين بالشام، واستفحل أمره وقويت شوكته، ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا جوهرا القائد لقتاله وأخذ الشام من يده، فعند ذلك حلف أهل الشام لافتكين أنهم معه على الفاطميين، وأنهم ناصحون له غير تاركيه وجاء جوهر فحصر دمشق سبعة أشهر (4) حصرا شديدا ورأى من شجاعة الفتكين ما بهره، فلما طال الحال أشار من أشار من الدماشقة على الفتكين أن يكتب إلى الحسين (5) بن أحمد القرمطي وهو بالاحساء (6)، ليجئ
__________
(1) في العبر والنجوم الزاهر وتاريخ أبي الفداء وابن الوردي: أفتكين.
(2) في العبر 4 / 51: زياد وفي رواية أخرى 3 / 430: ريان كالاصل.
وفي ابن الورد 1 / 448: زبان.
(3) في الكامل 8 / 657: وكاتب (أي افتكين) المعز يداريه، ويظهر له الانقياد، فشكره، وطلب منه ان يحضره عنده ليخلع عليه.
(انظر العبر / 431).
(4) في العبر 4 / 52: شهرين.
(5) في الكامل 8 / 658: الحسن.
وفي العبر لابن خلدون 4 / 52: الاعصم.
(6) من الكامل والعبر، وفي الاصل: الحساء .

إليه، فلما كتب إليه أقبل لنصره، فلما سمع به جوهر لم يمكنه ان يبقى بين عدوين من داخل البلد وخارجها، فارتحل قاصدا الرملة فتبعه الفتكين والقرمطي في نحو من خمسين ألفا، فتواقعوا عند نهر
الطواحين على ثلاث فراسخ من الرملة، وحصروا جوهرا بالرملة فضاق حاله جدا من قلة الطعام والشراب، حتى أشرف هو ومن معه على الهلاك، فسأل من الفتكين على أن يجتمع هو وهو على ظهور الخيل، فأجابه إلى ذلك، فلم يزل يترفق له أن يطلقه حتى يذهب بمن معه من أصحابه إلى أستاذه شاكرا له مثنيا عليه الخير، ولا يسمع من القرمطي فيه - وكان جوهر داهية - فأجابه إلى ذلك فندمه القرمطي وقال: الرأي أنا كنا نحصرهم حتى يموتوا عن آخرهم فإنه يذهب إلى أستاذه ثم يجمع العساكر ويأتينا، ولا طاقة لنا به.
وكان الامر كما قال، فإنه لما أطلقه الفتكين من الحصر لم يكن له دأب إلا أنه حث العزيز على الخروج إلى الفتكين بنفسه، فأقبل في جحافل أمثال الجبال، وفي كثرة من الرجال والعدد والاثقال والاموال، وعلى مقدمته جوهر القائد.
وجمع الفتكين والقرمطي الجيوش والاعراب وساروا إلى الرملة فاقتتلوا في محرم سنة سبع وستين، ولما تواجهوا رأى العزيز من شجاعة الفتكين ما بهره، فأرسل إليه يعرض عليه إن أطاعه ورجع إليه أن يجعله مقدم عساكره، وأن يحسن إليه غاية الاحسان.
فترجل افتكين عن فرسه بين الصفين وقبل الارض نحو العزيز، وأرسل إليه يقول: لو كان هذا القول سبق قبل هذا الحال لامكنني وسارعت وأطعت، وأما الآن فلا.
ثم ركب فرسه وحمل على ميسرة العزيز ففرق شملها وبدد حيلها ورجلها.
فبرز عند ذلك العزيز من القلب وأمر الميمنة فحملت حملة صادقة فانهزم القرمطي وتبعه بقية الشاميين وركبت المغاربة أقفيتهم يقتلون ويأسرون من شاؤوا، وتحول العزيز فنزل خيام الشاميين بمن معه، وأرسل السرايا وراءهم، وجعل لا يؤتى بأسير إلا خلع على من جاء به، وجعل لمن جاءه الفتكين مائة ألف دينار، فاتفق أن الفتكين عطش عطشا شديدا، فاجتاز بمفرج بن دغفل، وكان صاحبه، فاستسقاه فسقاه وأنزله عنده في بيوته، وأرسل إلى العزيز يخبره بأن طلبته عنده، فليحمل المال إلي وليأخذ غريمه، فأرسل إليه بمائة ألف دينار وجاء من تسلمه منه، فلما أحيط بالفتكين لم يشك أنه مقتول، فما هو إلا أن حضر عند العزيز أكرمه غاية الاكرام، ورد إليه حواصله وأمواله لم يفقد منها شيئا، وجعله من أخص أصحابه وأمرائه، وأنزله إلى جانب منزله، ورجع به إلى الديار المصرية مكرما معظما، وأقطعه هنالك إقطاعات جزيلة، وأرسل إلى القرمطي أن، يقدم عليه ويكرمه كما أكرم الفتكين، فامتنع عليه وخاف
منه، فأرسل إليه بعشرين ألف دينار، وجعلها له عليه في كل سنة، يكف بها شره، ولم يزل الفتكين مكرما عند العزيز حتى وقع بينه وبين الوزير ابن كلس، فعمل عليه حتى سقاه سما فمات، وحين علم العزيز بذلك غضب على الوزير وحبسه بضعا وأربعين يوما، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ثم رأى أن لا غنى به عنه فأعاده إلى الوزارة.
وهذا ملخص ما ذكره ابن الاثير.
وفيها توفي من الاعيان...

سبكتكين الحاجب التركي مولى المعز الديلمي وحاجبه، وقد ترقى في المراتب حتى آل به الامر إلى أن قلده الطائع الامارة وخلع عليه وأعطاه اللواء، ولقبه بنور الدولة، وكانت مدة أيامه في هذه المقام شهرين وثلاثة عشر يوما، ودفن ببغداد وداره هي دار الملك ببغداد، وهي دار عظيمة جدا، وقد اتفق له أنه سقط مرة عن فرسه فانكسر صلبه فداواه الطبيب حتى استقام ظهره وقدر على الصلاة إلا أنه لا يستطيع الركوع، فأعطاه شيئا كثيرا من الاموال، وكان يقول للطبيب: إذا ذكرت وجعي ومداواتك لي لا أقدر على مكافأتك، لكن إذا تذكرت وضعك قدميك على ظهري اشتد غضبي منك.
توفي ليلة الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها، وقد ترك من الاموال شيئا كثيرا جدا، من ذلك ألف ألف دينار وعشر آلاف ألف درهم، وصندوقان من جوهر، وخمسة عشر صندوقا من البلور، وخمسة وأربعين صندوقا من آنية الذهب، ومائة وثلاثون كوكبا من ذهب، منها خمسون وزن كل واحد ألف دينار، وستمائة مركب من فضة وأربعة آلاف ثوب من ديباج، وعشرة آلاف ديبقي وعتابي، وثلثمائة عدل معكومة من الفرش، وثلاثة آلاف فرس وألف جمل وثلثمائة غلام وأربعون خادما وذلك غير ما أودع عند أبي بكر البزار.
وكان صاحبه.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلثمائة فيها قسم ركن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده عندما كبرت سنه، فجعل لولده عضد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همدان والدينور،
وجعل ولده أبا العباس في كنف عضد الدولة وأوصاه به.
وفيها جلس قاضي القضاة ببغداد أبو محمد بن معروف في دار عز الدولة لفصل الحكومات عن أمره له بذلك، فحكم بين يديه بين الناس وفيها حج بالناس أمير المصريين من جهة العزيز الفاطمي بعد ما حاصر أهل مكة ولقوا شدة عظيمة، وغلت الاسعار بها جدا.
وفيها ذكر ابن الاثير: أن يوسف بلكين (1) نائب المعز الفاطمي على بلاد إفريقية ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فجعل يتأمل من أين يحاصرها، فحاصرها نصف يوم فخافه أهلها خوفا شديدا، ثم انصرف عنها إلى مدينة هنالك يقال لها بصرة في المغرب، فأمر بهدمها ونهبها، ثم سار إلى مدينة برغواطة وبها رجل يقال له عيسى (2) بن أم الانصار، وهو ملكها، وقد اشتدت المحنة به لسحره وشعبذته وادعى أنه نبي فأطاعوه، ووضع لهم شريعة يقتدون بها، فقاتلهم بلكين فهزمهم وقتل هذا الفاجر ونهب أموالهم وسبى ذراريهم فلم ير سبي أحسن أشكالا منهم فيما ذكره أهل تلك البلاد في ذلك الزمان.
__________
(1) في البيان المغرب لابن عذارى 1 / 231: أبو الفتوح، وذكر وصوله إلى سبتة سنة 367 ه.
(2) في الكامل 8 / 666: عبس .

وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن جعفر بن محمد بن مسلم أبو بكر الختلي (1)، له مسند كبير، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وأبي محمد الكجي وخلق، وروى عنه الدار قطني وغيره، وكان ثقة وقد قارب التسعين.
ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي المؤرخ فيما ذكره ابن الاثير في الكامل.
الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي الماسرجسي الحافظ، رحل وسمع الكثير وصنف مسندا في ألف وثلثمائة جزء، بطرقه وعلله، وله المغازي والقبائل، وخرج على الصحيح وغيره، قال ابن الجوزي: وفي بيته وسلفه تسعة عشر محدثا، توفي في رجب منها.
أبو أحمد (2) بن عدي الحافظ أبو عبد الله بن محمد بن أبي أحمد الجرجاني - أبو أحمد بن عدي - الحافظ الكبير المفيد الامام العالم الجوال النقال الرحال، له كتاب الكامل في الجرح والتعديل، لم يسبق إلى مثله ولم يلحق في شكله قال حمزة عن الدار قطني: فيه كفاية لا يزاد عليه.
ولد أبو أحمد بن عدي في سنة سبع وسبعين ومائتين وهي السنة التي توفي فيها أبو حاتم الرازي، وتوفي ابن عدي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
المعز الفاطمي باني القاهرة معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد الله أبو تميم المدعي أنه فاطمي، صاحب الديار المصرية، وهو أول من ملكها من الفاطميين، وكان أولا ملكا ببلاد إفريقية وما والاهامن بلاد المغرب، فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، بعث بين يديه جوهرا القائد فأخذ له بلاد مصر من كافور الاخشيدي بعد حروب تقدم ذكرها، واستقرت أيدي الفاطميين عليها، فبنى بها القاهرة وبنى منزل الملك وهما القصران، ثم أقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلثمائة، ثم
__________
(1) في الوافي 6 / 290 وتاريخ بغداد 4 / 71 والمنتظم 7 / 80 وفي الاصل: الحنبلي وهو تحريف.
(2) واسمه عبد الله، ويعرف أيضا بابن القطان.
(تذكرة الحفاظ 3 / 940) .

قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل من الجيوش، وأمراء من المغاربة والاكابر، وحين نزل الاسكندرية تلقاه وجوه الناس فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه وأن الله قد رحم الامة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا كما قاله القاضي الباقلاني إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قبحهم الله وإياه.
وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم، فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله فقال: كيف قلت ؟ قال: قلت
ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر.
قال: ولم ؟ قال: لانكم غيرتم دين الامة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الالهية، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجئ بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله.
فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير، وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة وقوة حزم وشدة عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق ولكنه كان مع ذلك منجما يعتمد على حركات النجوم، قال له منجمه: إن عليك قطعا - أي خوفا - في هذه السنة فتوار عن وجه الارض حتى تنقضي هذه المدة.
فعمل له سردابا وأحضر الامراء وأوصاهم بولده نزار ولقبه العزيز وفوض إليه الامر حتى يعود إليهم، فبايعوه على ذلك، ودخل المعز ذلك السرداب فتوارى فيه سنة فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجل الفارس منهم له عن فرسه وأومأ إليه بالسلام ظانين أن المعز في ذلك الغمام، (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) [ الزخرف: 54 ] ثم برز إليهم بعد سنة وجلس في مقام الملك وحكم على عادته أياما، ولم تطل مدته بل عاجله القضاء المحتوم، ونال رزقه المقسوم، فكانت وفاته في هذه السنة، وكانت أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام (1)، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي ببلاد المغرب، وجملة عمره كلها خمسة وأربعون سنة وستة أشهر، لانه ولد بإفريقية (2) في عاشر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة وكانت وفاته بمصر في اليوم السابع عشر (3) من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة وهي هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلثمائة فيها توفي ركن الدولة بن علي بن بويه وقد جاوز التسعين (4) سنة، وكانت أيام ولايته نيفا
__________
(1) في العبر 4 / 51: ثلاث وعشرين وسنة.
(2) في الكامل 8 / 663 ووفيات الاعيان 5 / 228: بالمهدية من افريقيا في حادي عشر رمضان.
(3) في العبر 4 / 51: في منتصف ربيع الآخر.
(4) في الكامل 8 / 670 وابي الفداء 2 / 116: السبعين .

وأربعين (1) سنة، وقبل موته بسنة قسم ملكه بين أولاده كما ذكرنا، وقد عمل ابن العميد مرة ضيافة في داره وكانت حافلة حضرها ركن الدولة وبنوه وأعيان الدولة، فعهد ركن الدولة في هذا اليوم إلى ابنه عضد الدولة وخلع عضد الدولة على إخوته وسائر الامراء الاقبية والاكسية على عادة الديلم، وحفوه بالريحان على عادتهم أيضا، وكان يوما مشهودا.
وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر وتوفي بعد هذه الوليمة بقليل في هذه السنة، وكان حليما وقورا كثير الصدقات محبا للعلماء فيه بر وكرم وإيثار، وحسن عشرة ورياسة، وحنو على الرعية وعلى أقاربه.
وحين تمكن ابنه عضد الدولة قصد العراق ليأخذها من ابن عمه بختيار لسوء سيرته ورداءة سريرته، فالتقوا في هذه السنة بالاهواز فهزمه عضد الدولة وأخذ أثقاله وأمواله، وبعث إلى البصرة فأخذها وأصلح بين أهلها حيي ربيعة ومضر، وكان بينهما خلف متقادم من نحو مائة وعشرين سنة، وكانت مضر تميل إليه وربيعة عليه، ثم اتفق الحيان عليه وقويت شوكته، وأذل بختيار وقبض على وزيره ابن بقية لانه استحوذ على الامور دونه، وجبى الاموال إلى خزائنه، فاستظهر عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لابن بقية ولم يبق له منها بقية.
وكذلك أمر عضد (2) الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدمت منه إليه، وقد سلف ذكرها.
ولم يبق لا بن العميد أيضا في الارض بقية، وقد كانت الاكابر تتقيه.
وقد كان ابن العميد من الفسوق والعصيان بأوفر مكان، فخانته المقادير ونزل به غضب السلطان، ونحن نعوذ بالله من غضب الرحمن.
وفي منتصف شوال منها توفي الامير منصور بن نوح الساماني صاحب بلاد خراسان وبخاري وغيرها، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وقام بالامر من بعده ولده أبو القاسم نوح، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، ولقب بالمنصور.
وفيها توفي الحاكم وهو المستنصر بالله بن الناصر لدين الله عبد الرحمن الاموي، وقد كان هذا من خيار الملوك وعلمائهم، وكان عالما بالفقه والخلاف والتواريخ محبا للعلماء محسنا إليهم.
توفي وله
من العمر ثلاث وستون سنة وسبعة أشهر، ومدة خلافته منها خمس عشرة (3) سنة وخمسة أشهر، وقام بالامر من بعده ولده هشام وله عشر سنين ولقب بالمؤيد بالله، وقد اختلف عليه في أيامه واضطربت الرعايا عليه وحبس مدة ثم أخرج وأعيد إلى الخلافة، وقام بأعباء أمره حاجبه المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المغافري، وابناه المظفر والناصر، فساسوا الرعاية جيدا وعدلا فيهم وغزوا الاعداء واستمر لهم الحال كذلك نحوا من ست وعشرين سنة.
وقد ساق ابن الاثير هنا قطعة من أخبارهم وأطال.
__________
(1) في الكامل وابي الفداء: أربعا وأربعين.
(2) من الكامل 8 / 675 والعبر 3 / 431 وفي الاصل: ركن الدولة وهو تحريف.
(3) من الكامل: وفي الاصل خمسة عشر وهو خطأ.
وفي العبر 4 / 146: ست عشرة سنة .

وفيها رجع ملك حلب إلى أبي المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، وذلك أنه لما مات أبوه وقام هو من بعده تغلب قرعويه مولاهم واستولى عليهم سار إليه فأخرجه منها خائفا يترقب، ثم جاء فنزل حماه وكانت الروم قد خربت حمص فسعى في عمارتها وترميمها وسكنها، ثم لما اختلفت الامور على قرعويه كتب أهل حلب إلى أبي المعالي هذا وهو بحمص أن يأتيهم، فسار إليهم فحاصر حلب أربعة أشهر فافتتحها وامتنعت منه القلعة وقد تحصن بها نكجور (1)، ثم اصطلح مع أبي المعالي على أن يؤمنه على نفسه ويستنيبه بحمص، ثم انتقل إلى نيابة دمشق وإليه تنسب هذه المرزعة ظاهر دمشق التي تعرف بالقصر النكجوري..ابتداء ملك بني سبكتكين (2) والد محمود صاحب غزنة.
وقد كان سبكتكين مولى الامير أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة وأعمالها للسامانية، وليس هذا بحاجب معز الدولة، ذاك توفي قبل هذه السنة كما تقدم، وأما هذا فإنه لما مات مولاه لم يترك أحدا يصلح للملك من بعده لا من ولده ولا من قومه فاصطلح الجيش على مبايعة سبكتكين هذا لصلاحه فيهم وخيره وحسن سيرته، وكمال عقله وشجاعته وديانته، فاستقر الملك في يده واستمر من بعده في ولده السعيد محمود بن سبكتكين، وقد
غزا هذا بلاد الهند وفتح شيئا كثيرا من حصونهم، وغنم أموالا كثيرة، وكسر من أصنامهم ونذروهم أمرا هائلا، وباشر من معه من الجيوش حربا عظيمة هائلة، وقد قصده جيبال ملك الهند الاعظم بنفسه وجنوده التي تعم السهول والجبال، فكسره مرتين وردهم إلى بلادهم في أسوأ حال وأردأ بال.
وذكر ابن الاثير في كامله: أن سبكتكين لما التقى مع جيبال ملك الهند في بعض الغزوات كان بالقرب منهم عين في عقبة باغورك (3) وكان من عادتهم أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذر اكفهرت السماء وأرعدت وأبرقت وأمطرت، ولا تزال كذلك حتى تطهر تلك العين من ذلك الشئ الذي ألقي فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة فيها - وكانت قريبة من نحو العدو - فلم يزالوا في رعود وبروق وأمطار وصواعق حتى ألجأهم ذلك إلى الهرب والرجوع إلى بلادهم خائبين هاربين، وأرسل ملك الهند يطلب من سبكتكين الصلح فأجابه بعد امتناع من ولده محمود، على مال جزيل يحمله إليه، وبلاد كثيرة يسلمها إليه، وخمسين فيلا ورهائن من رؤس قومه يتركها عنده حتى يقوم بما التزمه من ذلك.
__________
(1) في الكامل 8 / 682 والعبر 4 / 247 وتاريخ أبي الفداء 2 / 118: بكجور.
(2) قال ابن خلدون في العبر 4 / 360: هذه الدولة من فروع دولة بني سامان وناشئة عنها وبلغت من الاستطالة والعز المبالغ العظيمة واستولت على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون وما وراء النهر وخراسان وعراق العجم وبلاد الترك.
(3) في الكامل المطبوع 8 / 686: غورك .

وفيها توفي...أبو يعقوب يوسف ابن الحسين (1) الجنابي، صاحب هجر ومقدم القرامطة، وقام بالامر من عبده ستة من قومه وكانوا يسمون بالسادة، وقد اتفقوا على تدبير الامر من بعده ولم يختلفوا فمشى حالهم.
وفيها كانت وفاة: الحسين (2) بن أحمد
ابن أبي سعيد الجنابي أبو محمد القرمطي.
قال ابن عساكر: واسم أبي سعيد الحسين بن بهرام، ويقال ابن أحمد، يقال أصلهم من الفرس، وقد تغلب هذا على الشام في سنة سبع وخمسين وثلثمائة ثم عاد إلى الاحساء بعد سنة ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين، وكسر جيش جعفر بن فلاح، أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي وقتله، ثم توجه إلى مصر فحاصرها في مستهل ربيع الاول من سنة إحدى وستين، واستمر محاصرها شهورا، وقد كان استخلف على دمشق ظالم بن موهب ثم عاد إلى الاحساء ثم رجع إلى الرملة فتوفي بها في هذه السنة، وقد جاوز التسعين، وهو يظهر طاعة عبد الكريم الطائع لله العباسي، وقد أورد له ابن عساكر أشعارا رائقة، من ذلك ما كتب به إلى جعفر بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما وهي من أفحل الشعر: الكتب معذرة والرسل مخبرة * والحق متبع والخير محمود والحرب ساكنة والخيل صافنة * والسلم مبتذل والضل ممدود فإن أنبتم فمقبول إنابتكم * وإن أبيتم فهذا الكور مشدود على ظهور المنايا (3) أو يردن بنا * دمشق والباب مسدود ومردود إني امرؤ ليس من شأني ولا أربي * طبل يرن ولا ناي ولا عود ولا اعتكاف على خمر ومخمرة * وذات دل لها غنج (4) وتفنيد ولا أبيت بطين البطن من شبع * ولي رفيق خميص البطن مجهود
__________
(1) في الكامل وتاريخ أخبار القرامطة: الحسن.
(2) في تاريخ أخبار القرامطة: الحسن، قال: وهو الحسن الاعصم بن أحمد بن الحسن بن بهرام بن أبي منصور بن أبي سعيد الجنابي.
وبهامشه قال: الاعصم من الظباء الذي في ذراعه بياض وغراب أعصم في أحد جناحيه ريشة بيضاء.
(3) في أخبار القرامطة ص 111: المطايا.
(4) في أخبار القرامطة لابن العديم: دل .

ولا تسامت بي الدنيا إلى طمع * يوما ولا غرني فيها المواعيد ومن شعره أيضا: يا ساكن البلد المنيف تعززا * بقلاعه وحصونه وكهوفه لا عز إلا للعزيز بنفسه * وبخيله وبرجله وسيوفه وبقية بيضاء قد ضربت على * شرف الخيام بجاره (1) وضيوفه قوم (2) إذا اشتد الوغا أردى العدا * وشفى النفوس بضربه وزحوفه لم يجعل الشرف التليد لنفسه * حتى أفاد تليده بطريفه وفيها تملك قابوس بن وشمكير بلاد جرجان وطبرستان وتلك النواحي.
وفيها دخل الخليفة الطائع بشاه بار بنت عز الدولة بن بويه، وكان عرسا حافلا.
وفيها حجت جميلة بنت ناصر الدولة بن حمدان في تجمل عظيم، حتى كان يضرب المثل بحجها، وذلك أنها عملت أربعمائة محمل كان لا يدرى في أيها هي، ولما وصلت إلى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار على الفقراء المجاورين، وكست المجاورين بالحرمين كلهم، وأنفقت أموالا جزيلة في ذهابها وإيابها.
وحج بالناس من العراق الشريف أحمد بن الحسين بن محمد العلوي، وكذلك حج بالناس إلى سنة ثمانين وثلثمائة، وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين.
وممن توفي فيها من الاعيان...إسماعيل بن نجيد ابن أحمد بن يوسف أبو عمرو السلمي، صحب الجنيد وغيره، وروى الحديث وكان ثقة، ومن جيد كلامه قوله: من لم تهدك رؤيته فليس بمهذب.
وقد احتاج شيخه أبو عثمان مرة إلى شئ فسأله أصحابه فيه فجاءه ابن نجيد بكيس فيه ألفا درهم فقبضه منه وجعل يشكره إلى أصحابه، فقال له ابن نجيد بين أصحابه: يا سيدي إن المال الذي دفعته إليك كان من مال أمي أخذته وهي كارهة فأنا أحب أن ترده إلي حتى أرده إليها.
فأعطاه إياه، فلما كان الليل جاء به وقال أحب أن تصرفها في أمرك ولا تذكرها لاحد.
فكان أبو عثمان يقول: أنا أجتني من همة أبي عمرو بن نجيد رحمهم الله
تعالى.
الحسن بن بويه أبو علي ركن الدولة عرض له قولنج فمات في ليلة السبت الثامن والعشرين من المحرم منها،
__________
(1) في أخبار القرامطة: لجاره.
(2) في أخبار القرامطة: قرم.

وكانت مدة ولايته أربعا وأربعين سنة وشهرا وتسعة أيام، ومدة عمره ثمان وسبعون سنة، وكان حليما كريما.
محمد بن إسحاق ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بن رافع بن إبراهيم بن أفلح بن عبد الرحمن بن رفاعة بن رافع أبو الحسن الانصاري الزرقي، كان نقيب الانصار، وقد سمع الحديث من أبي القاسم البغوي وغيره، وكان ثقة يعرف أيام الانصار ومناقبهم، وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها.
محمد بن الحسن ابن أحمد بن إسماعيل أبو الحسن السراج، سمع يوسف بن يعقوب القاضي وغيره، وكان شديد الاجتهاد في العبادة.
صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، توفي يوم عاشوراء منها.
القاضي منذر البلوطي رحمه الله قاضي قضاة الاندلس، كان إماما عالما فصيحا خطيبا شاعرا أديبا، كثير الفضل، جامعا لصنوف من الخير والتقوى والزهد، وله مصنفات واختيارات، منها أن الجنة التي سكنها آدم وأهبط منها كانت في الارض وليسة بالجنة التي أعدها الله لعباده في الآخرة، وله في ذلك مصنف مفرد، له وقع في النفوس وعليه حلاوة وطلاوة، دخل يوما على الناصر لدين الله عبد الرحمن الاموي وقد فرغ من بناء المدينة الزهراء وقصورها، وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع الدهانات وكسي الستور، وجلس عنده رؤس دولته وأمراؤه، فجاءه القاضي فجلس إلى جانبه
وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه، والقاضي ساكت لا يتكلم، فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم ؟ فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته وقال: ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك، المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.
قال الله تعالى (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا) الآية [ الزخرف: 33 ].
قال: فوجم الملك عند ذلك وبكى وقال: جزاك الله خيرا، وأكثر في المسلمين مثلك.
وقد قحط في بعض السنين فأمره الملك أن يستسقي للناس، فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك ؟ فقال تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعا.
فقال القاضي: سقيم والله، إذا خشع جبار الارض رحم جبار السماء.
ثم قال لغلامه: ناد في الناس

الصلاة.
فجاء الناس إلى محل الاستسقاء وجاء القاضي منذر فصعد المنبر والناس ينظرون إليه ويسمعون ما يقول، فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به قال: (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) [ الانعام: 54 ] ثم أعادها مرارا فأخذ الناس في البكاء والنحيب والتوبة والانابة، فلم يزالوا كذلك حتى سقوا ورجعوا يخوضون الماء.
أبو الحسن علي بن أحمد ابن المرزبان الفقيه الشافعي، تفقه بأبي الحسين بن القطان وأخذ عنه الشيخ أبو حامد الاسفراييني.
قال ابن خلكان: كان ورعا زاهدا ليس لاحد عنده مظلمة، وله في المذهب وجه، وكان له درس ببغداد.
توفي في رجب منها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلثمائة فيها دخل عضد الدولة إلى بغداد وخرج منها عز الدولة بختيار واتبعه عضد الدولة وأخذ معه
الخليفة فاستعفاه فأعفاه، وسار عضد الدولة وراه فأخذه أسيرا، ثم قتل سريعا وتصرمت دولته واستقر أمر عضد الدولة ببغداد، وخلع عليه الخليفة الخلع السنية والاسورة والطوق، وأعطاه لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة، ولم يكن هذا لغيره إلا لاولياء العهد، وأرسل إليه الخليفة بتحف سنية، وبعث عضد الدولة إلى الخليفة أموالا جزيلة من الذهب والفضة واستقرت يده على بغداد وما والاها من البلاد، وزلزلت بغداد مرارا في هذه السنة، وزادت دجلة زيادة كثيرة غرق بسببها خلق كثير، وقيل لعضد الدولة إن أهل بغداد قد قلوا كثيرا بسبب الطاعون وما وقع بينهم من الفتن بسبب الرفض والسنة وأصابهم حريق وغرق، فقال: إنما يهيج الشر بين الناس هؤلاء القصاص والوعاظ، ثم رسم أن أحدا لا يقص ولا يعظ في سائر بغداد ولا يسأل سائل باسم أحد من الصحابة، وإنما يقرأ القرآن فمن أعطاه أخذ منه.
فعمل بذلك في البلد، ثم بلغه أن أبا الحسين بن سمعون الواعظ - وكان من الصالحين - لم يترك الوعظ بل استمر على عادته، فأرسل إليه من جاء به، وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن مسعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون: إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبل التراب.
فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون في حقه كلام بحضرة الناس يؤثر عنه.
ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح القراءة بقوله (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) الآية [ هود: 102 ].
ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ (ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظرهم كيف تعملون) [ يونس: 14 ] ثم أخذ في مخاطبة الملك ووعظه فبكى عضد الدولة بكاء كثيرا، وجزاه خيرا.
فلما خرج من عنده قال للحاجب:

اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فإن قبلها جئني برأسه، قال الحاجب: فجئته فقلت: هذا أرسل به الملك إليك.
فقال: لا حاجة لي به، هذه ثيابي من عهد أبي منذ أربعين سنة كلما خرجت إلى الناس لبستها، فإذا رجعت طويتها، ولي دار آكل من أجرتها تركها لي أبي، فأنا في غنية عما أرسل به الملك.
فقلت: فرقها في فقراء أهلك.
فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء
أهلي، وأفقر إليها منهم.
فرجعت إلى الملك لاشاوره وأخبره بما قال، فسكت ساعة ثم قال: الحمد لله الذي سلمه منا وسلمنا منه.
ثم إن عضد الدولة أخذ ابن بقية الوزير لعز الدولة فأمر به فوضع بين قوائم الفيل فتخبطته بأرجلها حتى هلك، ثم صلب على رأس الجسر في شوال منها، فرثها أبو الحسين بن الانباري بأبيات يقول فيها: علو في الحياة وفي الممات * بحق أنت (1) إحدى المعجزات كأن الناس حولك حين قاموا * وفود نداك أيام الصلات كأنك واقف (2) فيهم خطيبا * وكلهم وقوف (2) للصلاة مددت يديك نحوهم احتفاء * كمدهما إليهم بالهباء (3) وهي قصيدة طويلة أورد كثيرا منها ابن الاثير في كامله.
مقتل عز الدين بختيار لما دخل عضد الدولة بغداد وتسلمها خرج منها بختيار ذليلا طريدا في فل من الناس، ومن عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لابي تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات، فحلف له على ذلك، وحين خرج من بغداد كان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فحسن لعز الدولة أخذ بلاد الموصل من أبي تغلب، لانها أطيب وأكثر مالا من الشام وأقرب إليه، وكان عز الدولة ضعيف العقل قليل الدين، فلما بلغ ذلك أبا تغلب أرسل إلى عز الدولة يقول له: لئن أرسلت إلى ابن أخي حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة، وأردك إليها.
فعند ذلك أمسك حمدان وأرسله إلى عمه أبي تغلب فسجنه في بعض القلاع وبلغ ذلك عضد الدولة وأنهما قد اتفقا على حربه فركب إليهما بجيشه وأراد إخراج الخليفة الطائع معه فاستعفاه فأعفاه، فذهب إليهما فالتقى معهما فكسرهما وهزمهما (4)، وأخذ عز
__________
(1) في الكامل المطبوع 6 / 690: لحق تلك.
(2) كأنك قائم..وكلهم قيام (كذا في الكامل).
(3) في الكامل: نحوهم اقتفاء...في الهبات.
(4) وكان ذلك في ثامن عشر شوال بقصر الجص بنواحي تكريت.
فأسر بختيار ثم قتل وكان عمره ستا وثلاثين سنة وملك إحدى عشرة سنة وشهورا (الكامل 8 / 691 وانظر العبر 3 / 431) .

الدولة أسيرا وقتله من فوره، وأخذ الموصل ومعاملتها، وكان قد حمل معه ميرة كثيرة، وشرد أبا تغلب في البلاد وبعث وراءه السرايا في كل وجه، وأقام بالموصل إلى أواخر سنة ثمان وستين، وفتح ميافارقين وآمد وغيرهما من بلاد بكر وربيعة، وتسلم بلاد مضر من أيدي نواب أبي تغلب، وأخذ منهم الرحبة ورد بقيتها على صاحب حلب سعد الدولة بن سيف الدولة، وتسلط على سعد الدولة، وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا الوفا، وعاد إلى بغداد فتلقاه الخليفة ورؤس الناس إلى ظاهر البلد، وكان يوما مشهودا.
مما وقع من الحوادث فيها الوقعة التي كانت بين العزيز بن المعز الفاطمي وبين الفتكين غلام معز الدولة صاحب دمشق فهزمه وأسره وأخذه معه إلى الديار المصرية مكرما معظما كما تقدم، وتسلم العزيز دمشق وأعمالها، وقد تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين.
وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي بقضاء قضاة الري وما تحت حكم مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وله مصنفات حسنة، منها دلائل النبوة وعمد الادلة وغيرها.
وحج بالناس فيها نائب المصريين وهو الامير باديس بن زيري أخو يوسف بن بلكين.
ولما دخل مكة اجتمع إليه اللصوص وسألوا منه أن يضمنهم الموسم هذا العام بما شاء من الاموال.
فأظهر لهم الاجابة إلى ما سألوا وقال لهم: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون حراميا، فقال: هل بقي منكم أحد ؟ فحلفوا له إنه لم يبق منهم أحد.
فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم، ونعما ما فعل.
وكانت الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين، وممن توفي فيها من الاعيان الملك عز الدولة بخيتار بن بويه الديلمي ملك بعد أبيه وعمره فوق العشرين سنة بقليل، وكان حسن الجسم شديد البطش قوي
القلب، يقال إنه كان يأخذ بقوائم الثور الشديد فيلقيه في الارض من غير أعوان، ويقصد الاسود في أماكنها، ولكنه كان كثير اللهو واللعب والاقبال على اللذات، ولما كسره ابن عمه ببلاد الاهواز كان في جملة ما أخذ منه أمرد كان يحبه حبا شديدا لا يهنأ بالعيش إلا معه، فبعث يترفق له في رده إليه، وأرسل إليه بتحف كثيرة وأموال جزيلة وجاريتين عوادتين لا قيمة لهما، فرد عليه الغلام المذكور فكثر تعنيف الناس له عند ذلك وسقط من أعين الملوك، فإنه كان يقول: ذهاب هذا الغلام مني أشد علي
__________
= وذكر ابن مسكويه في تجارب الامم، أن عضد الدولة دهش عندما أشار عليه أبو الوفاء بقتله، فألح عليه، وخوفه من الابقاء عليه، وقال له: " ما تنظر به، أن يعود ثانيا، وإلى متى يثير علينا الفتن التي لعلنا نكون من صرعاه في بعضها.
افرغ منه " فرفع عضد الدولة يده إلى عينه يمسحها من الدموع وقال: أنتم أعلم.
فبادر الحاجب إلى بختيار واحتز رأسه .

من أخذ بغداد من يدي، بل وأرض العراق كلها، ثم كان من أمره بعد ذلك أن ابن عمه أسره كما ذكرنا وقتله سريعا فكانت مدة حياته ستا وثلاثين سنة، ومدة دولته منها إحدى وعشرين (1) سنة وشهور، وهو الذي أظهر الرفض ببغداد وجرى بسبب ذلك شرور كما تقدم.
محمد بن عبد الرحمن أبو بكر القاضي المعروف بابن قريعة، ولي القضاء بالسندية، وكان فصيحا يأتي بالكلام المسجوع من غير تكلف ولا تردد، وكان جميل المعاشرة ومن شعره: لي حيلة في من ينم * م وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقو * ل فحيلتي فيه قليله وكان يقول للرجل من أصحابه إذا تماشيا: إذا تقدمت بين يديك فإني حاجب وإن تأخرت فواجب.
توفي يوم السبت لعشر بقين من جمادى الآخرة منها.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلثمائة في شعبان منها أمر الطائع لله أن يدعى لعضد الدولة بعد الخليفة على المنابر ببغداد، وأن
تضرب الدبادب على بابه وقت الفجر وبعد المغرب والعشاء.
قال ابن الجوزي: وهذا شئ لم يتفق لغيره من بني بويه، وقد كان معز الدولة سأل من الخليفة أن يضرب الدبادب على بابه فلم يأذن له، وقد افتتح عز الدولة في هذه السنة وهو مقيم بالموصل أكثر بلاد أبي تغلب بن حمدان، كآمد والرحبة وغيرهما، ثم دخل بغداد في سلخ في ذي القعدة فتلقاه الخليفة والاعيان إلى أثناء الطريق.
قسام التراب (2) يملك دمشق لما ذهب الفتكين إلى ديار مصر نهض رجل من أهل دمشق يقال له قسام التراب، كان الفتكين يقربه ويدنيه، ويأمنه على أسراره، فاستحوذ على دمشق وطاوعه أهلها وقصدته عساكر العزيز من مصر فحاصروه فلم يتمكنوا منه، وجاء أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدر أن يدخل دمشق، فانصرف عنه خائبا إلى طبرية، فوقع بينه وبين بني عقيل وغيرهم من العرب حروب طويلة، آل الحال إلى أن قتل أبو تغلب وكانت معه أخته وجميلة امرأته وهي بنت سيف الدولة، فردتا إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، فأخذ أخته وبعث بجميلة إلى بغداد فحبست في دار وأخذ
__________
(1) انظر الحاشية السابقة.
(2) قال ياقوت: وكان في أول عمره ينقل التراب على الدواب (تلفيتا).

منها أموال جزيلة.
وأما قسام التراب هذا - وهو من بني الحارث بن كعب من اليمن - فإنه أقام بالشام فسد خللها وقام بمصالحها مدة سنين عديدة، وكان مجلسه بالجامع يجتمع الناس إليه فيأمرهم وينهاهم فيمتثلون ما يأمر به.
قال ابن عساكر: أصله من قرية تلفيتا، وكان ترابا.
قلت والعامة يسمونه قسيم الزبال، وإنما هو قسام، ولم يكن زبالا بل ترابا من قرية تلفيتا بالقرب من قرية منين، وكان بدو أمره أنه انتمى إلى رجل من أحداث أهل دمشق يقال له أحمد بن المسطان (1)، فكان من حزبه ثم استحوذ على الامور وغلب على الولاة والامراء إلى أن قدم بلكتكين التركي من مصر في يوم الخميس السابع عشر من المحرم سنة ست وسبعين وثلثمائة، فأخذها منه واختفى قسام التراب مدة ثم ظهر فأخذه أسيرا وأرسله مقيدا إلى الديار المصرية فأطلق وأحسن إليه وأقام بها مكرما.
وممن توفي فيها من الاعيان...العقيقي صاحب الحمام والدار المنسوبتين إليه بدمشق بمحلة باب البريد، واسمه أحمد بن الحسن العقيقي بن ضعقن بن عبد الله بن الحسين الاصغر بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الشريف أبو القاسم الحسين العقيقي، قال ابن عساكر: كان من وجوه الاشراف بدمشق وإليه تنسب الدار والحمام بمحلة باب البريد.
وذكر أنه توفي يوم الثلاثاء لاربع خلون من جمادى الاولى منها، وأنه دفن من الغد وأغلقت البلد لاجل جنازته، وحضرها نكجور (2) وأصحابه - يعني نائب دمشق - ودفن خارج باب الصغير.
قلت: وقد اشترى الملك الظاهر بيبرس داره وبناها مدرسة ودار حديث وتربة وبها قبره، وذلك في حدود سنة سبعين ستمائة كما سيأتي بيانه.
أحمد بن جعفر ابن مالك بن شبيب بن عبد الله بن أبو بكر بن مالك القطيعي - من قطيعة الدقيق ببغداد - راوي مسند أحمد عن ابنه عبد الله، وقد روى عنه غير ذلك من مصنفات أحمد، وحدث عن غيره من المشايخ، وكان ثقة كثير الحديث، حدث عنه الدار قطني وابن شاهين والبرقاني وأبو نعيم الحاكم، ولم يمتنع أحد من الرواية عنه ولا التفتوا إلى ما طعن عليه بعضهم وتكلم فيه، بسبب غرق كتبه حين غرقت القطيعة بالماء الاسود، فاستحدث بعضها من نسخ أخرى، وهذا ليس بشئ، لانها قد تكون معارضة على كتبه التي غرقت والله أعلم.
ويقال إنه تغير في آخر عمره فكان لا يدري ما جرى عليه، وقد جاوز التسعين.
__________
(1) في معجم البلدان: الحطار.
(2) تقدم.
راجع حاشية 1 صفحة 224 .

تميم بن المعز الفاطمي وبه كان يكنى، وقد كان من أكابر أمراء دولة أبيه وأخيه العزيز، وقد اتفقت له كائنة غريبة
وهي أنه أرسل إلى بغداد فاشتريت له جارية مغنية بمبلغ جزيل، فلما حضرت عنده أضاف أصحابه ثم أمرها فغنت - وكانت تحب شخصا ببغداد -: وبدا له من بعد ما انتقل الهوى * برق تألق من هنا لمعانه يبدو لحاشية اللواء ودونه * صعب الذرى ممتنع أركانه فبدا لينظر كيف لاح فلم يطق * نظرا إليه وشده أشجانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه * والماء ما سمحت به أجفانه ثم غنته أبياتا غيرها فاشتد طرب تميم هذا وقال لها: لابد أن تسأليني حاجة، فقالت: عافيتك.
فقال: ومع العافية.
فقالت: تردني إلى بغداد حتى أغني بهذه الابيات، فوجم لذلك ثم لم يجد بدا من الوفاء لها بما سألت، فأرسلها مع بعض أصحابه فأحجبها ثم سار بها على طريق العراق، فلما أمسوا في الليلة التي يدخلون فيها بغداد من صبيحتها ذهبت في الليل فلم يدر أين ذهبت، فلما سمع تميم خبرها شق عليه ذلك وتألم ألما شديد، وندم ندما شديدا حيث لا ينفعه الندم.
أبو سعيد السيرافي النحوي الحسن بن عبد الله بن المرزبان.
القاضي، سكن بغداد وولي القضاء بها نيابة، وله شرح كتاب سيبويه، وطبقات النحاة، روى عن أبي بكر بن دريد وغيره، وكان أبوه مجوسيا (1)، وكان أبو سعيد هذا عالما باللغة والنحو والقراءات والفرائض والحساب وغير ذلك من فنون العلم، وكان مع ذلك زاهدا لا يأكل إلا من عمل يده، كان ينسخ في كل يوم عشر ورقات بعشرة دراهم، تكون منها نفقته، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وكان ينتحل مذهب أهل العراق في الفقه، وقرأ القراءات على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على ابن السراج وابن المرزبان، ونسبه بعضهم إلى الاعتزال وأنكره آخرون.
توفي في رجب منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن بمقبرة الخيزران.
__________
(1) في الوفيات 2 / 78 واسمه بهزاد، فأسلم فسماه ابنه أبو سعيد: عبد الله.
وقال القفطي في أخباره، وكان
يذكر عنه الاعتزال ولم يكن يظهر ذلك.
والسيرافي: نسبة إلى سيراف وهي مدينة من بلاد فارس على ساحل البحر مما يلي كرمان (8 *).

عبد الله بن إبراهيم ابن أبي القاسم الريحاني، ويعرف بالآبندوني (1)، رحل في طلب الحديث إلا الآفاق ووافق ابن عدي في بعض ذلك، ثم سكن بغداد وحدث بها عن أبي يعلى، والحسن بن سفيان، وابن خزيمة وغيرهم، وكان ثقة ثبتا، له مصنفات، زاهدا روى عن البرقاني وأثنى عليه خيرا، وذكر أن أكثر أدم أهله الخبز المأدوم بمرق الباقلا، وذكر أشياء من تقلله وزهده وورعه.
توفي عن خمس وتسعين سنة.
عبد الله بن محمد بن ورقاء الامير أبو أحمد الشيباني من أهل البيوتات والحشمة، بلغ التسعين سنة، روى عن ابن الاعرابي أنه أنشد في صفة النساء هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أيجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى * أليس عجيبا ضعفها واقتدارها ؟ قلت: وهذا المعنى أخذه من الحديث الصحيح: " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج " (2).
محمد بن عيسى ابن عمرويه الجلودي راوي صحيح مسلم، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، عن مسلم بن الحجاج وكان من الزهاد، يأكل من كسب يده من النسخ وبلغ ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلثمائة في المحرم منها توفي الامير عمر بن شاهين صاحب بلاد البطيحة منذ أربعين سنة، تغلب عليها وعجز عنه الامراء والملوك والخلفاء، وبعثوا إليه الجنود والسرايا والجيوش غير مرة، فكل ذلك يفلها
ويكسرها، وكل ماله في تمكن وزيادة وقوة، ومكث كذلك هذه المدة، ومع هذا كله مات على فراشه حتف أنفه، فلا نامت أعين الجبناء، وقام بالامر من بعده ولده الحسن فرام عضد الدولة أن ينتزع
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 3 / 943 وفي الاصل: الانبدري وهو تحريف.
والآبندوني نسبة إلى ابندون قرية من قرى جرجان.
(2) أخرجه البخاري في الانبياء باب (1) ومسلم في الرضاع ح (61 - 62) والدارمي في النكاح باب (35) وأحمد في المسند 5 / 8، 151 .

الملك من يده، فأرسل إليه سرية حافلة من الجنود فكسرهم الحسن بن عمر بن شاهين، وكاد أن يتلفهم بالكلية حتى أرسل إليه عضد الدولة فصالحه على مال يحمله إليه في كل سنة، وهذا من العجائب الغريبة.
وفي صفر قبض على الشريف أبي أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين، وقد كان أمير الحج مدة سنين، اتهم بأنه يفشي الاسرار وأن عز الدولة أودع عنده عقدا ثمينا، ووجدوا كتابا بخطه في إفشاء الاسرار فأنكر أنه خطه وكان مزورا عليه، واعترف بالعقد فأخذ منه وعزل عن النقابة وولوا غيره، وكان مظلوما.
وفي هذا الشهر أيضا عزل عضد الدولة قاضي القضاة أبا محمد بن معروف وولى غيره (1) وفي شعبان منها ورد البريد من مصر إلى عضد الدولة بمراسلات كثيرة فرد الجواب بما مضمونه صدق النية وحسن الطوية، ثم سأل عضد الدولة من الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر، وأن يزيد في إنشائه تاج الدولة، فأجابه إلى ذلك، وخلع عليه من أنواع الملابس ما لم يتمكن معه من تقبيل الارض بين يدي الخليفة، وفوض إليه ما وراء بابه من الامور ومصالح المسلمين في مشارق الارض ومغاربها، وحضر ذلك أعيان الناس، وكان يوما مشهودا.
وأرسل في رمضان إلى الاعراب من بني شيبان وغيرهم فعقرهم وكسرهم، وكان أميرهم منبه بن محمد الاسدي متحصنا بعين التمر مدة نيف وثلاثين سنة.
فأخذ ديارهم وأموالهم.
وفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة تزوج الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى، وعقد العقد بحضرة الاعيان على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وكان وكيل عضد الدولة الشيخ أبا
الحسين بن أحمد الفارسي النحوي، صاحب الايضاح والتكملة، وكان الذي خطب خط القاضي أبو علي الحسن بن علي التنوخي.
قال ابن الاثير: وفيها جدد عضد الدولة عم ومحاسنها، وجدد المساجد والمشاهد، وأجرى على الفقهاء الارزاق، على الائمة من الفقهاء والمحدثين والاطباء والحساب وغيرهم، وأطلق الصلات لارباب البيوتات والشرف، وألزم أصحاب الاملاك بعمارة بيوتهم ودورهم، ومهد الطرقات وأطلق المكوس وأصلح الطريق للحجاج من بغداد إلى مكة، وأرسل الصدقات للمجاورين بالحرمين.
قال: وأذن لوزيره نصر بن هارون - وكان نصرانيا - بعمارة البيع والاديرة وأطلق الاموال لفقرائهم.
وفيها توفي حسنويه بن حسين الكردي، وكان قد استحوذ على نواحي البلاد الدينور وهمدان ونهاوند مدة خمسين سنة، وكان حسن السيرة كثير الصدقة بالحرمين وغيرهما، فلما توفي اختلف أولاده (2) من بعده وتمزق شملهم، وتمكن عضد الدولة من أكثر بلادهم، وقويت شوكته في ذلك الارض.
__________
(1) في الكامل 8 / 710: استعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير، وكان مقيما بفارس واستناب على القضاء ببغداد.
(2) بعضهم انحاز إلى فخر الدولة وبعضهم إلى عضد الدولة، وهم أبو العلاء، وعبد الرزاق، وأبو النجم بدر، وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك (الكامل 8 / 706) .

وفيها ركب عضد الدولة في جنود كثيفة إلى بلاد أخيه فخر الدولة، وذلك لما بلغه من ممالاته لعز الدولة واتفاقهم عليه، فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة وهمدان والري وما بينهما من البلاد، وسلم ذلك إلى مؤيد الدولة - وهو أخوه الاخر - ليكون نائبه عليها، ثم سار إلى بلاد حسنويه الكردي فتسلمها وأخذ حواصله وذخائره، وكانت كثيرة جدا، وحبس بعض أولاده وأسر بعضهم، وأرسل إلى الاكراد الهكارية فأخذ منهم بعض بلادهم، وعظم شأنه وارتفع صيته، إلا أنه أصابه في هذا السفر داء الصداع، وكان قد تقدم له بالموصل مثله، وكان يكتمه إلى أن غلب عليه كثرة النسيان فلا يذكر
الشئ إلا بعد جهد جهيد، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر: دار إذا ما أضحكت في يومها * أبكت غدا، بعدا لها من دار وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن زكريا أبو الحسن (1) اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة وغيره، ومن شعره قبل موته بيومين: يا رب إن ذنوبي قد أحطت بها * علما وبي وبإعلاني وأسراري أنا الموحد لكني المقر بها * فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري ذكر ذلك ابن الاثير (2) أحمد بن عطاء بن أحمد أبو عبد الله الروذباري - ابن أخت أبي علي الروذباري - أسند الحديث، وكان يتكلم على مذهب الصوفية، وكان قد انتقل من بغداد فأقام بصور وتوفي بها في هذه السنة.
قال: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: أي شئ أصح في الصلاة ؟ فقلت صحة القصد، فسمعت قائلا يقول: رؤية المقصود بإسقاط رؤية القصد أتم.
وقال: مجالسة الاضداد ذوبان الروح، ومجالسة الاشكال تلقيح العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الاسرار، ولا يؤمن على الاسرار إلا الامناء فقط.
وقال: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح.
قال
__________
(1) في الكامل 8 / 711 ووفيات الاعيان 1 / 118: أبو الحسين، وهو أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب، وقد وهم ابن الجوزي وابن الاثير في اسم أبيه فجعلاه - كالاصل - زكريا.
(2) اختلفوا اختلافا في تحديد سنة وفاته وقد بلغ الختلاف في بعضها حتى زاد الفرق بين السنوات على الثلاثين.
في المنتظم 7 / 103: سنة 389 وفي وفيات الاعيان 1 / 119: 390 ه.
وفي مختصر أخبار البشر 2 / 135: 395 ه.
وقد وهم ابن الاثير في ذكر وفاته سنة 369 ولعله يقصد وفاة والده فارس الذي توفي هذا العام كما في النجوم الزاهرة 4 / 135 .

تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) [ المؤمنون: 1 ] وترك الخشوع في الصلاة علامة النفاق وخراب القلب.
قال تعالى (إنه لا يفلح الكافرون) [ المؤمنون: 117 ].
عبد الله بن إبراهيم ابن أيوب بن ماسي أبو محمد البزاز، أسند الكثير وبلغ خمسا وتسعين سنة، وكان ثقة ثبتا.
توفي في رجب منها..محمد بن صالح ابن علي بن يحيى أبو الحسن الهاشمي، يعرف بابن أم شيبان، كان عالما فاضلا، له تصانيف، وقد ولي الحكم ببغداد قديما وكان جيد السيرة، توفي فيها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين.
ثم دخلت سنة سبعين وثلثمائة فيها ورد الصاحب بن عباد من جهة مؤيد الدولة إلى أخيه عضد الدولة فتلقاه عضد الدولة إلى ظاهر البلد وأكرمه وأمر الاعيان باحترامه، وخلع عليه وزاده في إقطاعه، ورد معه هدايا كثيرة.
وفي جمادى الآخرة منها رجع عضد الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة الطائع وضرب له القباب وزينت الاسواق.
وفي هذا الشهر أيضا وصلت هدايا من صاحب اليمن إلى عضد الدولة، وكانت الخطبة بالحرمين لصاحب مصر، وهو العزيز بن المعز الفاطمي.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو بكر الرازي الحنفي أحمد بن علي أبو بكر الفقيه الحنفي الرازي أحد أئمة أصحاب أبي حنيفة، وله من المصنفات المفيدة كتاب أحكام القرآن، وهو تلميذ أبي الحسن الكرخي، وكان عابدا زاهدا وورعا، انتهت إليه رياسة الحنفية في وقته ورحل إليه الطلبة من الآفاق، وقد سمع الحديث من أبي العباس الاصم، وأبي القاسم الطبراني، وقد أراده الطائع على أن يوليه القضاء فلم يقبل، توفي في ذي الحجة من هذا العام، وصلى عليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي.

محمد بن جعفر ابن (1) محمد بن زكريا أبو بكر الوراق، ويلقب بغندر، كان جوالا رحالا، سمع الكثير ببلاد فارس وخراسان، وسمع الباغندي وابن صاعد وابن دريد وغيرهم، وعنه الحافظ أبو نعيم الاصفهاني، وكان ثقة حافظا.
ابن خالويه الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبد الله النحوي اللغوي صاحب المصنفات، أصله من همذان، ثم دخل بغداد فأدرك بها مشايخ هذا الشأن: كابن دريد وابن مجاهد، وأبي عمر الزاهد، واشتغل على أبي سعيد السيرافي ثم صار إلى حلب فعظمت مكانته عند آل حمدان، وكان سيف الدولة يكرمه وهو أحد جلسائه، وله مع المتنبي مناظرات.
وقد سرد له ابن خلكان مصنفات كثيرة منها كتاب ليس في كلام العرب - لانه كان يكثر أن يقول ليس في كلام العرب كذا وكذا - وكتاب الآل تكلم فيه على أقسامه وترجم الائمة لاثني عشر وأعرب ثلاثين سورة من القرآن، وشرح الدريدية وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان به داء كانت به وفاته.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلثمائة في ربيع الاول منها وقع حريق عظيم بالكرخ، وفيها سرق شئ نفيس لعضد الدولة فتعجب الناس من جرأة من سرقه مع شدة هيبة عضد الدولة، ثم مع هذا اجتهدوا كل الاجتهاد فلم يعرفوا من أخذ.
ويقال إن صاحب مصر بعث من فعل ذلك فالله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان...الاسماعيلي أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الاسماعيلي الجرجاني الحافظ الكبير الرحال الجوال، سمع الحديث الكثير وحدث وخرج وصنف فأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد والاعتقاد، صنف كتابا على صحيح البخاري فيه فوئد كثيرة، وعلوم غزيرة.
قال الدار قطني: كنت عزمت غير مرة على
الرحلة إليه فلم أرزق.
وكانت وفاته يوم السبت عاشر رجب (2) سنة إحدى وسبعين وثلثمائة، وهو ابن أربع وسبعين (3) سنة رحمه الله.
__________
(1) في ابن الاثير 9 / 9 وتذكرة الحفاظ 3 / 960: ابن الحسين بن محمد..(2) في طبقات الشافعية 2 / 80: صفر.
(3) في تذكرة الحفاظ 3 / 650 وتاريخ جرجان للسهمي ص 109: أربع وتسعين .

الحسن بن صالح أبو محمد السبيعي، سمع ابن جرير وقاسما المطرز وغيرهما، وعنه الدار قطني والبرقاني، وكان ثقة حافظا مكثرا، وكان عسر الرواية.
الحسن بن علي بن الحسن ابن الهيثم بن طهمان أبو عبد الله الشاهد، المعروف بالبادي، سمع الحديث وكان ثقة، عاش سبعا وتسعين سنة، منها خمس عشرة سنة مقيدا أعمى.
عبد الله بن الحسين ابن إسماعيل بن محمد أبو بكر الضبي، ولي الحكم ببغداد، وكان عفيفا نزها دينا.
عبد العزيز بن الحارث ابن أسد بن الليث أبو الحسن التميمي الفقيه الحنبلي.
له كلام ومصنف في الخلاف، وسمع الحديث وروى عن غير واحد، وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه وضع حديثا.
وأنكر ذلك ابن الجوزي وقال: ما زال هذا دأب الخطيب في أصحاب أحمد بن حنبل.
قال: وشيخ الخطيب الذي حكى عنه هذا هو أبو القاسم عبد الواحد بن أسد العكبري لا يعتمد على قوله، فإنه كان معتزليا وليس من أهل الحديث، وكان يقول بأن الكفار لا يخلدون في النار.
قلت: وهذا غريب فإن المعتزلة يقولون بأن الكفار يخلدون في النار، بل يقولون بتخليد أصحاب الكبائر.
قال: وعنه حكى الكلام عن ابن بطة أيضا.
علي بن إبراهيم أبو الحسن الحصري الصوفي الواعظ شيخ المتصوفة ببغداد، أصله من البصرة صحب الشبلي وغيره، وكان يعظ الناس بالجامع، ثم لما كبرت سنه بنى له الرباط المقابل لجامع المنصور، ثم عرف بصاحبه المروزي، وكان لا يخرج إلا من الجمعة إلى الجمعة، وله كلام جيد في التصوف على طريقتهم.
ومما نقله ابن الجوزي عنه أنه قال: ما على مني ؟ وأي شئ لي في ؟ حتى أضاف وأرجو، إن رحم رحم ماله، وإن عذب عذب ماله.
توفي في ذي الحجة وقد نيف على الثمانين، ودفن بمقبرة دار حرب من بغداد.

علي بن محمد الاحدب المزور كان قوي الخط، له ملكة على التزوير لا يشاء يكتب على أحد كتابه إلا فعل، فلا يشك ذلك المزور عليه أنه خطه، وحصل للناس به بلاء عظيم، وختم السلطان على يده مرارا فلم يقدر، وكان يزور ثم كانت وفاته في هذه السنة.
الشيخ أبو زيد المروزي الشافعي محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد أبو زيد المروزي شيخ الشافعية في زمانه وإمام أهل عصره في الفقه والزهد والعبادة والورع، سمع الحديث ودخل بغداد وحدث بها فسمع منه الدار قطني وغيره.
قال أبو بكر البزار: عادلت الشيخ أبا زيد في طريق الحج فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وقد ذكرت ترجمته بكمالها في طبقات الشافعية.
قال الشيخ أبو نعيم: توفي بمرو يوم الجمعة الثالث عشر من رجب من هذه السنة.
محمد بن خفيف أبو عبد الله الشيرازي أحد مشاهير الصوفية، صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.
قال ابن الجوزي: وقد ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس عنه حكايات تدل على أنه كان يذهب مذهب الاباحية.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في المحرم منها جرى الماء الذي ساقه عضد الدولة إلى داره وبستانه.
وفي صفر فتح المارستان الذي أنشأه عضد الدولة في الجانب الغربي من بغداد، وقد رتب فيه الاطباء والخدم، ونقل إليه من الادوية والاشربة والعقاقير شيئا كثيرا (1).
وقال: وفيها توفي عضد الدولة فكتم أصحابه وفاته حتى أحضروا ولده صمصامة فولوه الامر وراسلوا الخليفة فبعث إليه بالخلع والولاية.
شئ من أخبار عضد الدولة أبو شجاع بن ركن الدولة أبو علي الحسين بن بويه الديلمي، صاحب ملك بغداد وغيرها،
__________
(1) ذكر ابن الاثير في الكامل 9 / 16 ان فتح المارستان العضدي تم سنة 371 ه .

وهو أول من تسمى شاهنشاه، ومعناه ملك الملوك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوضع اسم - وفي رواية أخنع اسم - عند الله رجل تسمى ملك الملوك " وفي رواية " ملك الاملاك لا ملك إلا الله عز وجل " (1).
وهو أول من ضربت له الدبادب ببغداد، وأول من خطب له بها مع الخليفة.
وذكره ابن خلكان أنه امتدحه الشعراء بمدائح هائلة منهم المتنبي وغيره، فمن ذلك قول أبي الحسن محمد بن عبد الله السلامي في قصيدة له: إليك طوى عرض البسيطة جاعل * قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمي في الضلام وصارمي * ثلاثة أشياء (2) كما اجتمع النسر وبشرت آمالي بملك هو الورى * ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر وقال المتنبي أيضا: هي الغرض الاقصى ورؤيتك المنى * ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق قال وقال أبو بكر أحمد الارجاني في قصيدة له بيتا فلم يلحق السلامي أيضا وهو قوله: لقيته فرأيت الناس في رجل * والدهر في ساعة والارض في دار
قال: وكتب إليه افتكين مولى أخيه يستمده بجيش إلى دمشق يقاتل به الفاطميين، فكتب إليه عضد الدولة " غرك عزك فصار قصاراك ذلك، فاخش فاحش فعلك، فعلك بهذا تهدأ ".
قال ابن خلكان: ولقد أبدع فيها كل الابداع، وقد جرى له من التعظيم من الخليفة ما لم يقع لغيره قبله، وقد اجتهد في عمارة بغداد والطرقات، وأجرى النفقات على المساكين والمحاويج، وحفر الانهار وبنى المارستان العضدي وأدار السور على مدينة الرسول، فعل ذلك مدة ملكه على العراق، وهي خمسة (3) سنين، وقد كان عاقلا فاضلا حسن السياسة شديد الهيبة بعيد الهمة، إلا أنه كان يتجاوز في سياسة الامور الشرعية، كان يحب جارية فألهته عن تدبير المملكة، فأمر بتغريقها.
وبلغه أن غلاما له أخذ لرجل بطيخة فضربه بسيفه فقطعه نصفين، وهذه مبالغة.
وكان سبب موته الصرع.
وحين أخذ في علة موته لم يكن له كلام سوى تلاوة قوله تعالى (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) [ الحاقة: 28 ] فكان هذا هجيراه حتى مات.
وحكى ابن الجوزي: أنه كان يحب العلم والفضيلة، وكان يقرأ عنده كتاب إقليدس وكتاب النحو لابي علي الفارسي، وهو الايضاح والتكملة الذي صنفه له.
وقد خرج مرة إلى بستان له فقال أود لو جاء المطر، فنزل المطر فأنشأ يقول:
__________
(1) أخرجه البخاري في الادب باب (114) ومسلم في الادب ح (20 - 21) وأبو داود في الادب باب (62) والترمذي في الادب باب (65) وأحمد في المسند 2 / 244، 315، 492.
(2) في وفيات الاعيان 4 / 52: أشباه.
(3) كذا بالاصل، وفي الكامل 9 / 18 خمسين سنة ونصفا .

ليس شرب الراح (1) إلا في المطر * وغناء من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى * ناعمات (2) في تضاعيف الوتر راقصات زاهرات نجل * رافلات في أفانين الحبر مطربات غنجات لحن رافضات الهم أمال الفكر مبرزات الكاس من مطلعها مسقيات الخمر (3) من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها * مالك الاملاك غلاب القدر (4) سهل الله إليه نصره * في ملوك الارض ما دام القمر (5) وأراه الخير في أولاده * ولباس الملك فيهم بالغرر قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه قد اجترأ في أبياته هذه فلم يفلح بعدها، فيقال: إنه حين أنشد قوله غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه، ويقال: إن هذه الابيات إنما أنشدت بين يديه ثم هلك عقيبها.
مات في شوال من هذه السنة عن سبع أو ثمان وأربعين سنة، وحمل إلى مشهد علي فدفن فيه، وكان فيه رفض وتشيع، وقد كتب على قبره في تربته عند مشهد علي: هذا قبر عضد الدولة، وتاج المملكة، أبي شجاع بن ركن الدولة، أحب مجاورة هذا الامام المتقي لطمعه في الخلاص (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) [ النحل: 111 ] والحمد لله وصلواته على محمد وعترته الطاهرة.
وقد تمثل عند موته بهذه الابيات وهي للقاسم بن عبيد الله: قتلت صناديد الرجال فلم أدع * عدوا ولم أمهل على ظنه خلقا وأخليت در الملك من كان باذلا * فشردتهم غربا وشردتهم شرقا فلما بلغت النجم عزا ورفعة * وصارت رقاب الخلق اجمع لي رقا رماني الردى سهما فأخمد جمرتي * فها أنا ذا في حفرتي عاطلا ملقى فأذهبت دنياي وديني سفا * فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى ؟ ثم جعل يكرر هذه الابيات وهذه الآية (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) [ الحاقة 28 - 29 ] إلى أن مات.
وأجلس ابنه صمصامه على الارض وعليه ثياب السواد، وجاءه الخليفة معزيا وناح النساء عليه في الاسواق حاسرات عن وجوههن أياما كثيرة، ولما انقضى العزاء ركب ابنه
__________
(1) في اليتيمة 2 / 259 والكامل لابن الاثير 9 / 20: الكأس.
(2) في الكامل واليتيمة: ناغمات.
(3) في اليتيمة والكامل ووفيات الاعيان: ساقيات الراح.
(4) بهامش الاصل: كذب القائل في لحنته، وكذا في شعره أيضا كفر.
(5) في اليتيمة: سهل الله له بغيته..ما دار القمر .

صمصامة إلى دار الخلافة فخلع عليه الخليفة سبع خلع وطوقه وسوره وألبسه التاج ولقبه شمس الدولة، وولاه ما كان يتولاه أبوه، وكان يوما مشهودا.
محمد بن جعفر ابن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب أبو بكر الجريري المعروف بزوج الحرة، سمع ابن جرير والبغوي وابن أبي داود وغيرهم، وعنه ابن رزقويه وابن شاهين والبرقاني، وكان أحد العدول الثقات جليل القدر.
وذكر ابن الجوزي والخطيب سبب تسميته بزوج الحرة: أنه كان يدخل إلى مطبخ أبيه بدار مولاته التي كانت زوجة المقتدر بالله، فلما توفي المقتدر وبقيت هذه المرأة سالمة من الكتاب والمصادرات وكانت كثيرة الاموال، وكان هذا غلاما شابا حدث السن يحمل شيئا من حوائج المطبخ على رأسه فيدخل به إلى مطبخها مع جملة الخدم، وكان شابا رشيقا حركا، فنفق على القهرمانة حتى جعلته كاتبا على المطبخ، ثم ترقى إلى أن صار وكيلا للست على ضياعها، ينظر فيها وفي أموالها، ثم آل به الحال حتى صارت الست تحدثه من وراء الحجاب، ثم علقت به وأحبته وسألته أن يتزوج بها فاستصغر نفسه وخاف من غائلة ذلك فشجعته هي وأعطته أموالا كثيرة ليظهر عليه الحشمة والسعادة مما يناسبها ليتأهل لذلك، ثم شرعت تهادي القضاة والاكابر، ثم عزمت على تزويجه ورضيت به عند حضور القضاة، واعترض أولياؤها عليها فغلبتهم بالمكارم والهدايا، ودخل عليها فمكثت معه دهرا طويلا ثم ماتت قبله فورث منها نحو ثلثمائة ألف دينار، وطال عمره بعدها حتى كانت وفاته في هذه السنة والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة فيها غلت الاسعار ببغداد حتى بلغ الكر من الطعام إلى أربع آلاف وثمانمائة، ومات كثير من الناس جوعا، وجافت الطرقات من الموتى من الجوع، ثم تساهل الحال في ذي الحجة منها، وجاء الخبر بموت مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وأن أبا القاسم بن عباد الوزير بعث إلى أخيه فخر الدولة
فولاه الملك مكانه، فاستوزر ابن عباد أيضا على ما كان عليه، ولما بلغ القرامطة موت عضد الدولة قصدوا البصرة ليأخذوها مع الكوفة فلم يتم لهم ذلك، ولكن صولحوا على مال كثير فأخذوه وانصرفوا.
وممن توفي فيها من الاعيان بويه مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وكان ملكا على بعض ما كان أبوه يملكه، وكان الصاحب أبو القاسم بن عباد وزيره، وقد تزوج مؤيد الدولة هذا ابنة عمه معز الدولة، فغرم على عرسه سبعمائة ألف دينار، وهذا سرف عظيم.

بلكين بن زيري بن منادي الحميري الصنهاجي، ويسمى أيضا يوسف، وكان من أكابر أمراء المعز الفاطمي، وقد استخلفه على بلاد إفريقية حين سار إلى القاهرة، وكان حسن السيرة، له أربعمائة حظية، وقد بشر في ليلة واحدة بتسعة (1) عشر ولدا، وهو جد باديس المغربي.
سعيد بن سلام أبو عثمان المغربي، أصله من بلاد القيروان، ودخل الشام وصحب أبا الخير الاقطع، وجاور بمكة مدة سنين، وكان لا يظهر في المواسم، وكانت له كرامات، وقد أثنى عليه أبو سليمان الخطابي وغيره، وروى له أحوال صالحة رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن عثمان بن المختار بن محمد المري الواسطي، يعرف بابن السقا، سمع عبدان وأبا يعلى الموصلي وابن أبي داود والبغوي، وكان فهما حافظا، دخل بغداد فحدث بها مجالس كثيرة من حفظه، وكان يحضره الدا رقطني وغيره من الحفاظ فلم ينكروا عليه شيئا، غير أنه حدث مرة عن أبي يعلى بحديث أنكروه عليه ثم وجوده في أصله بخط الضبي، كما حدث به، فبرئ من عهدته.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ثلثمائة فيها جرى الصلح بين صمصامة وبين عمه فخر الدولة، فأرسل الخليفة لفخر الدولة خلعا
وتحفا.
قال ابن الجوزي: وفي رجب منها عمل عرس في درب رياح فسقطت الدار على من فيها فهلك أكثر النساء بها، ونبش من تحت الردم فكانت المصيبة عامة.
وفيها كانت وفاة: الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسن (2) ابن أحمد ابن الحسين الازدي الموصلي المصنف في الجرح والتعديل، وقد سمع الحديث من أبي يعلى وطبقته، وضعفه كثير من الحفاظ من أهل زمانه، واتهمه بعضهم بوضع حديث رواه لابن
__________
(1) في الوفيات 1 / 287: سبعة.
(2) في الكامل 9 / 40: الحسين .

بويه، حين قدم عليه بغداد، فساقه بإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أن جبريل كان ينزل عليه في مثل صورة ذلك الامير ".
فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة.
والعجب إن كان هذا صحيحا كيف راج على أحد ممن له أدنى فهم وعقل، وقد أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، وقد قيل إنه توفي سنة تسع وستين.
وفيها توفي...الخطيب بن نباته الحذاء (1) في بطن من قضاعة، وقيل إياد الفارقي خطيب حلب في أيام سيف الدولة بن حمدان، ولهذا أكثر ديوانه الخطب الجهادية، ولم يسبق إلى مثل ديوانه هذا، ولا يلحق إلا أن يشاء الله شيئا، لانه كان فصيحا بليغا دينا ورعا، روى الشيخ تاج الدين الكندي عنه أنه خطب يوم جمعة بخطبة المنام ثم رأى ليلة السبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه بين المقابر، فلما أقبل عليه قال: له: مرحبا بخطيب الخطباء، ثم أومأ إلى قبور هناك فقال لابن نباتة: كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الاحياء مرة، أبادهم الذي خلقهم، وأسكتهم الذي أنطقهم، وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، فتم الكلام ابن نباتة حتى أنتهى إلى قوله (يوم تكونوا شهداء على الناس - وأشار إلى الصحابة الذين مع الرسول - ويكون الرسول عليكم شهيدا) [ البقرة: 143 ] وأشار إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أحسنت أحسنت أدنه أدنه، فقبل وجهه وتفل في فيه وقال: وفقك الله.
فاستيقظ وبه من السرور أمر كبير، وعلى وجهه بهاء ونور، ولم يعش بعد ذلك إلا سبعة عشر يوما لم يستطعم بطعام، وكان يوجد منه مثل رائحة المسك حتى مات رحمه الله.
قال ابن الازرق الفارقي: ولد ابن نباتة في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلثمائة.
حكاه ابن خلكان.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلثمائة فيها خلع الخليفة على صمصامة الدولة وسوره وطوقه وأركب على فرس بسرج ذهب، وبين يديه جنيب مثله، وفيها ورد الخبر بأن اثنين من سادة القرامطة وهما إسحاق وجعفر، دخلا الكوفة في حفل عظيم فانزعجت النفوس بسبب ذلك، وذلك لصرامتهما وشجاعتهما، ولان عضد الدولة مع شجاعته كان يصانعهما، وأقطعهما أراضي من أراضي واسط، وكذلك عز الدولة من قبله أيضا.
فجهز إليهما صمصامة جيشا فطردهما عن تلك النواحي التي قد أكثروا فيها الفساد، وبطل ما كان في
__________
(1) وهو عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة الحذاقي الفارقي.
والحذاقي نسبة إلى حذاقة بطن من قضاعة....

نفوس الناس منهما، وفيها عزم صمصامة الدولة على أن يضع مكسا على الثياب الابريسمات فاجتمع الناس بجامع المنصور وأرادوا تعطيل الجمعة وكادت الفتنة تقع بينهم فأعفوا من ذلك.
وفي ذي الحجة ورد الخبر بموت مؤيد الدولة فجلس صمصامة للعزاء، وجاء إليه الخليفة معزيا له فقام إليه صمصامة وقبل الارض بين يديه وتخاطبا في الغزاء بألفاظ حسنة.
وفيها توفي الشيخ: أبو علي بن أبي هريرة واسمه الحسن بن الحسين، وهو أحد مشايخ الشافعية، وله اختيارات كثيرة غريبة في المذهب وقد ترجمناه في طبقات الشافعية.
الحسين بن علي
ابن محمد بن يحيى أبو أحمد النيسابوري المعروف بحسنك (1)، كانت تربيته عند ابن خزيمة وتلميذا له، وكان يقدمه على أولاده ويقر له ما لا يقر لغيره، وإذا تخلف ابن خزيمة عن مجالس السلطان بعث حسنك مكانه.
ولما توفي ابن خزيمة كان عمر حسنك ثلاثا وعشرين سنة، ثم عمر بعده دهرا طويلا، وكان من أكثر الناس عبادة وقراءة للقرآن، لا يترك قيام الليل حضرا ولاسفرا، كثير الصدقات والصلات، وكان يحكي وضوء ابن خزيمة وصلاته، ولم يكن في الاغنياء أحسن صلاة منه رحمه الله، وصلى عليه الحافظ أبو أحمد النيسابوري.
أبو القاسم الداركي (2) عبد العزيز بن عبد الله بن محمد: أبو القاسم الداركي أحد أئمة الشافعية في زمانه، نزل نيسابور ثم سكن بغداد إلى أن مات بها، قال الشيخ أبو حامد الاسفراييني: ما رأيت أفقه منه.
وحكى الخطيب عنه أنه كان يسأل عن الفتوى فيجيب بعد تفكر طويل، فربما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فيقال له في ذلك فيقول: ويلكم روى فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فالاخذ به أولى من الاخذ بمذهب الشافعي وأبي حنيفة، ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث.
قال ابن خلكان: وله في المذهب وجوه جيدة دالة على متانة علمه، وكان يتهم بالاعتزال، وكان قد أخذ العلم عن الشيخ أبي إسحاق المروزي، والحديث عن جده لامه الحسن بن
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 968: حسينك، ويعرف أيضا بابن منينة.
وحسينك أشهر.
(2) الداركي: قال السمعاني في الانساب 5 / 276 هذه النسبة إلى دارك، وأظنها أنها من قرى أصبهان وذكره باسم عبد العزيز بن الحسن بن أحمد الداركي .

محمد الداركي، وهو أحد مشايخ أبي حامد الاسفراييني، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق، وكانت وفاته في شوال، وقيل في ذي القعدة منها، وقد نيف على السبعين رحمه الله.
محمد بن أحمد بن محمد بن حسنويه أبو سهل النيسابوري، ويعرف بالحسنوي، كان فقيها شافعيا أديبا محدثا مشتغلا بنفسه عما لا
يعينه.
محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح أبو بكر الفقيه المالكي، سمع من أبي عمرويه والباغندي وأبي بكر بن أبي داود وغيرهم، وعنه البرقاني، وله تصانيف في شرح مذهب مالك، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك، وعرض عليه القضاء فأباه وأشار بأبي بكر الرازي الحنفي، فلم يقبل الآخر أيضا.
توفي في يوم شوال منها عن ست وثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في محرمها كثرت الحيات في بغداد فهلك بسبب ذلك خلق كثير.
ولسبع خلون من ربيع الاول - وكان يوم العشرين من تموز - وقع مطر كثير ببرق ورعد.
وفي رجب غلت الاسعار جدا ووردا الخبر فيه بأنه وقع بالموصل زلزلة عظيمة سقط بسببها عمران كثر، ومات من أهلها أمة عظيمة.
وفيها وقع بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة فاقتتلا فغلبه شرف الدولة ودخل بغداد فتلقاه الخليفة وهنأه بالسلامة، ثم استدعى شرف الدولة بفراش ليكحل صمصام الدولة فاتفق موته فأكحله بعد موته (1)، وهذا من غريب ما وقع.
وفي ذي الحجة منها قبل قاضي القضاة أبو محمد بن معروف شهادة القاضي الحافظ أبي الحسن الدار قطني، وأبي محمد بن عقبة، فذكر أن الدار قطني ندم على ذلك وقال: كان يقبل قولي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدي فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع غيري.
__________
(1) ذكر ابن الاثير في الكامل 9 / 61 أن ذلك وقع سنة 379 ه.
وكان صمصام الدولة يقول بعد سلمه، ما أعماني إلا العلاء (بن الحسن الناظر في القلعة التي حبس فيها صمصام) لانه أمضى في حكم سلطان قد مات (يعني شرف الدولة) .

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلثمائة
في صفرها عقد مجلس بحضرة الخليفة فيه القضاة وأعيان الدولة وجددت البيعة بين الطائع وبين شرف الدولة بن عضد الدولة وكان يوما مشهودا، ثم في ربيعها الاول ركب شرف الدولة من داره إلى دار الخليفة وزينت البلد وضربت البوقات والطبول والدبادب، فخلع عليه الخليفة وسوره وأعطاه لواءين معه، وعقد له على ما وراء داره، واستخلفه على ذلك، وكان في جملة من قدم مع شرف الدولة القاضي أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، فلما رآه الخليفة قال: مرحبا بالاحبة القادمينا * أو حشونا وطال ما آنسونا فقبل الارض بين يدي الخليفة، ولما قضيت البيعة دخل شرف الدولة على أخته امرأة الخليفة فمكث عندها إلى العصر والناس ينتظرونه، ثم خرج وسار إلى داره للتهنئة.
وفيها اشتد الغلاء جدا ثم لحقه فناء كثير.
وفيها توفيت أم شرف الدولة - وكانت تركية أم ولد - فجاءه الخليفة فعزاه.
وفيها ولد لشرف الدولة ابنان توأمان.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن الحسين بن علي (1) أبو حامد المروزي، ويعرف بابن الطبري، كان حافظا للحديث مجتهدا في العبادة، متقنا بصيرا بالاثر، فقيها حنفيا، درس على أبي الحسين الكرخي وصنف كتبا في الفقه والتاريخ، وولي قضاء القضاة بخراسان، ثم دخل بغداد وقد علت سنه، فحدث الناس وكتب الناس عنه، منهم الدار قطني.
إسحاق بن المقتدر بالله توفي ليلة الجمعة لسبع عشرة (2) من ذي الحجة عن ستين سنة، وصلى عليه ابنه القادر بالله وهو إذ ذاك أمير المؤمنين، ودفن في تربة جدته شغب أم المقتدر، وحضر جنازته الامراء والاعيان من جهة الخليفة وشرف الدولة، وأرسل شرف الدولة من عزى الخليفة فيه، واعتذر من الحضور لوجع حصل له.
جعفر بن المكتفي بالله
كان فاضلا توفي فيها أيضا.
__________
(1) في الاصل لسبع عشر والصواب ما أثبتناه.
(2) تاريخ بغداد 4 / 107 والجواهر المضيئة 1 / 65 والوافي بالوفيات 6 / 347 المنتظم 7 / 137 .

أبو علي الفارسي النحوي (1) صاحب الايضاح والمصنفات الكثيرة، ولد ببلده ثم دخل بغداد وخدم الملوك وحظي عند عضد الدولة بحيث إن عضد الدولة كان يقول أنا غلام أبي على في النحو، وحصلت له الاموال، وقد اتهمه قوم بالاعتزال وفضله قوم من أصحابه على المبرد، وممن أخذ عنه أبو عثمان بن جني وغيره، توفي فيها عن بضع وتسعين سنة.
ستيتة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، وتكنى أم عبد الواحد، قرأت القرآن وحفظت الفقه والفرائض والحساب والدرر والنحو وغير ذلك، وكانت من أعلم الناس في وقتها بمذهب الشافعي، وكانت تفتي به مع الشيخ أبي علي بن أبي هريرة، وكانت فاضلة في نفسها كثيرة الصدقة، مسارعة إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضا، وكانت وفاتها في رجب عن بضع وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلثمائة في محرمها كثر الغلاء والفناء ببغداد إلى شعبان كثرت الرياح والعواصف، بحيث هدمت كثيرا من الابنية، وغرق شئ كثير من السفن، واحتملت بعض الزوارق فألقته بالارض من ناحية جوخى، وهذا أمر هائل وخطب شامل.
وفي هذا الوقت لحق أهل البصرة حر شديد بحيث سقط كثير من الناس في الطرقات وماتوا من شدته.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن بن علي بن ثابت
أبو عبد الله المقري، ولد أعمى، وكان يحضر مجلس ابن الانباري فيحفظ ما يقول وما يمليه كله، وكان ظريفا حسن الزي، وقد سبق الشاطبي إلى قصيدة عملها في القراءات السبع، وذلك في حياة النقاش، وكانت تعجبه جدا، وكذلك شيوخ ذلك الزمان أذعنوا إليها.
__________
(1) وهو الحسن بن أحمد عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان.
ولد بمدينة فسا.
ذكر ابن الاثير وفاته سنة 376 ه .

الخليل بن أحمد القاضي شيخ الحنفية في زمانه، كان مقدما في الفقه والحديث، سمع ابن جرير والبغوي وابن صاعد وغيرهم، ولهذا سمي باسم النحوي المتقدم.
زياد بن محمد بن زياد بن الهيثم أبو العباس الخرخاني بخاءين معجمتين نسبة إلى قرية من قرى قومس، ولهم الجرجاني بجيمين، وهم جماعة، ولهم الخرجاني بخاء معجمة ثم جيم (1).
وقد حرر هذه المواضع الشيخ ابن الجوزي في منتظمه.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلثمائة فيها كانت وفاة شرف الدولة بن عضد الدولة بن بويه الديلمي، وكان قد انتقل إلى قصر معز الدولة عن إشارة الاطباء لصحة الهواء، وذلك لشدة ما كان يجده من الداء، فلما كان في جمادى الاولى تزايد به ومات في هذا الشهر، وقد عهد إلى أخيه (2) أبي نصر، وجاء الخليفة في طيارة لتعزيته في والده (3) فتلقاه أبو نصر والترك بين يديه والديلم، فقبل الارض بين يديه الخليفة، وكذلك بقية العسكر والخليفة في الطيارة وهم يقبلون الارض إلى ناحيته.
وجاء الرئيس أبو الحسين علي بن عبد العزيز من عند الخليفة إلى أبي نصر فبلغه تعزيته له في والده (3) فقبل الارض أيضا ثانية، وعاد الرسول أيضا إلى الخليفة فبلغه شكر الامير، ثم عاد من جهة الخليفة لتوديع أبي نصر فقبل الارض ثالثا، ورجع الخليفة.
فلما كان يوم السبت عاشر هذا الشهر ركب الامير أبو نصر إلى حضرة الخليفة الطائع
لله ومعه الاشراف والاعيان والقضاة والامراء، وجلس الخليفة في الرواق، فلما وصل الامير أبو نصر خلع عليه الخليفة سبع خلع أعلاهن السواد وعمامة سوداء وفي عنقه طوق وفي يده سواران ومشى الحجاب بين يديه بالسيوف والمناطق، فقبل الارض ثانية ووضع له كرسي فجلس عليه وقرأ الرئيس أبو الحسن عهده، وقدم إلى الطائع لواء فعقده بيده ولقبه بهاء الدولة وضياء الملة، ثم خرج من بين
__________
(1) قال السهمي في تاريخ جرجان ص 508: الخرجان فهي قرية من قرى أصفهان (أصبهان في معجم البلدان) منها أبو العباس زياد بن محمد بن زياد بن الهيثم الخرجاني ".
وهي غير خرخان إحدى قرى قومس.
(2) من وفيات الاعيان ومآثر الانافة والعبر لابن خلدون 4 / 435 والكامل 9 / 62، وفي الاصل: ابنه، وهو تحريف.
(3) كذا بالاصل وهو تحريف والصواب: أخيه .

يديه والعسكر معه حتى عاد إلى دار المملكة، وأقر الوزير أبا منصور بن صالح (1) على الوزارة، وخلع عليه.
وفيها بنى جامع القطيعة - قطيعة أم جعفر - بالجانب الغربي من بغداد، وكان أصل بناء هذا المسجد أن امرأة رأت في منامها رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مكانه، ووضع يده في جدار هناك، فلما أصبحت فذكرت ذلك فوجدوا أثر الكف في ذلك فبني مسجدا ثم توفيت تك المرأة في ذلك اليوم، ثم إن الشريف أبا أحمد الموسوي جدده وجعله جامعا، وصلى الناس فيه في هذه السنة.
وفيها توفي من الاعيان...شرف الدولة ابن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي، تملك بغداد بعد أبيه، وكان يحب الخير ويبغض الشر، وأمر بترك المصادرات.
وكان مرضه بالاستسقاء فتزايد به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة الثاني من جمادى الآخرة عن ثمان وعشرين سنة أشهر، وكانت مدة ملكه سنتين وثمانية أشهر، وحمل تابوته إلى تربة أبيه بمشهد علي، وكلهم فيهم تشيع ورفض.
محمد بن جعفر بن العباس أبو جعفر، وأبو بكر النجار، ويلقب غندر أيضا، روى عن أبي بكر النيسابوري وطبقته، وكان فهما يفهم القرآن فهما حسنا وهو من ثقات الناس (2).
عبد الكريم بن عبد الكريم ابن بديل أبو الفضل الخزاعي الجرجاني قدم بغداد وحدث بها.
قال الخطيب: كانت له عناية بالقراءات وصنف أسانيدها، ثم ذكر أنه كان يخلط ولم يكن مأمونا على ما يرويه، وأنه وضع كتابا في الحروف ونسبه إلى أبي حنيفة، فكتب الدار قطني وجماعة أن هذا الكتاب موضوع لا أصل له، فافتضح وخرج من بغداد إلى الجبل فاشتهر أمره هناك وحبطت منزلته، وكان يسمي نفسه أولا جميلا، ثم غيره إلى محمد.
__________
(1) في الكامل 9 / 62: صالحان.
وهو محمد بن الحسن بن صالحان ولي الوزارة للاميرين شرف الدولة وبهاء الدولة.
قدم إلى بغداد سنة 377 ه.
كان أبو منصور خيرا متدينا متمكنا من عمله.
قال أبو شجاع يروي عن الصابي: ما رأينا وزيرا دبر من الممالك ما دبر، فإن مملكة شرف الدولة أحاطت بما بين الحد من كرمان طولا إلى ديار ربيعة وبكر، وعرضا إلى الاحساء والرقة والرحبة وحلوان (ذيل تجارب الامم ص 138).
(2) في تذكرة الحفاظ 3 / 963: توفي في المحرم سنة سبع وستعين وثلاثمائة .

محمد بن المظفر (1) ابن موسى بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن سلمة بن إياس، أبو الحسين البزار الحافظ، ولد في محرم سنة ثلثمائة (2)، ورحل إلى بلاد شتى، وروى عن ابن جرير والبغوي وخلق، وروى عنه جماعة من الحفاظ - منهم الدار قطني - شيئا كثيرا، وكان يعظمه ويجله ولا يستند بحضرته، كان ثقة ثبتا، وكان قديما ينتقد على المشايخ، ثم كانت وفاته في هذه السنة ودفن يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الاولى أو الاخرى منها.
ثم دخلت سنة ثمانين وثلثمائة من الهجرة فيها قلد الشريف أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقابة الاشراف الطالبيين والنظر في المظالم وإمرة الحاج، وكتب عهده بذلك واستخلف ولداه المرتضى أبو القاسم والرضي أبو الحسين على النقابة وخلع عليهما.
وفيها تفاقم الامر بالعيارين ببغداد وصار الناس أحزابا في كل محلة أمير مقدم، واقتتل الناس وأخذت الاموال واتصلت الكبسات وأحرقت دور كبار، ووقع حريق بالنهار في نهر الدجاج، فاحترق بسببه شئ كثير للناس والله أعلم.
وفيها توفي من الاعيان...يعقوب بن يوسف أبو الفتوح بن كلس، وزير العزيز صاحب مصر، وكان شهما فهما ذا همة وتدبير وكلمة نافذة عند مخدومه، وقد فوض إليه أموره في سائر مملكته، ولما مرض عاده العزيز ووصاه الوزير بأمر مملكته ولما مات دفنه في قصره وتولى دفنه بيده وحزن عليه كثيرا، وأغلق الديوان أياما من شدة حزنه عليه.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلثمائة فيها كان القبض على الخليفة الطائع لله وخلافة القادر بالله أبي العباس أحمد بن الامير إسحاق بن المقتدر بالله، وكان ذلك في يوم السبت التاسع عشر من شعبان منها، وذلك أنه جلس الخليفة على عادته في الرواق وقعد الملك بهاء الدولة على السرير، ثم أرسل من اجتذب الخليفة
__________
(2) من تذكرة الحفاظ 3 / 980: المظفر (والوافي بالوفيات 5 / 34 وتاريخ بغداد 3 / 262) وفي الاصل المطرف وهو تحريف.
(3) في التذكرة: ست وثمانين ومائتين .

بحمائل عن السرير ولفوه في كساء وحملوه إلى الخزانة بدار المملكة، وتشاغل الناس بالنهب ولم يدر أكثر الناس ما الخطب وما الخبر، حتى أن كبير المملكة بهاء الدولة ظن الناس أنه هو الذي مسك، فنهبت الخزائن والحواصل وأشياء من أثاث دار الخلافة، حتى أخذ ثياب الاعيان والقضاة
والشهود وجرت كائنة عظيمة جدا، ورجع بهاء الدولة إلى داره وكتب على الطائع كتابا بالخلع من الخلافة (1)، وأشهد عليه الاشراف وغيرهم أنه قد خلع نفسه من الخلافة وسلمها إلى القادر بالله، ونودي بذلك في الاسواق، وسبقت الديلم والاتراك وطالبوا برسم البيعة، وراسلوا بهاء الدولة في ذلك وتطاول الامر في يوم الجمعة، ولم يمكنوا من الدعاء له على المنبر بصريح اسمه، بل قالوا اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله، ثم أرضوا وجوههم وأكابرهم وأخذت البيعة له واتفقت الكلمة، وأمر بهاء الدولة بتحويل جميع ما في دار الخلافة من الاواني والاثاث وغيره إلى داره، وأبيحت للعامة والخاصة، فقلعوا وشعثوا أبنيتها، هذا والخليفة القادر قد هرب إلى أرض البطيحة من الطائع حين كان يطلبه، ولما رجع إلى بغداد مانعته الديم من الدخول إليها حتى يعطيهم رسم البيعة، وجرت بنهم خطوب طويلة، ثم رضوا عنه ودخل بغداد، وكانت مدة هربه إلى أرض البطيحة ثلاث سنين.
ولما دخل بغداد جلس في اليوم الثاني جلوسا عاما إلى التهنئة وسماع المدائح والقصائد فيه، وذلك في العشر الاخير من شوال، ثم خلع على بهاء الدولة وفوض إليه ما وراء بابه، وكان الخليفة القادر بالله من خيار الخلفاء وسادات العلماء في ذلك الزمان، وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد، وصنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث كل جمعة في جامع المهدي، وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته، وكان ينشد هذه الابيات يترنم بها وهي لسابق البربري: سبق القضاء بكل ما هو كائن * والله يا هذا لرزقك ضامن تعنى بما تكفي وتترك ما به * تعنى كأنك للحواث آمن أو ما ترى الدنيا ومصرع أهلها * فاعمل ليوم فراقها يا خائن واعلم بأنك لا أبا لك في الذي * أصبحت تجمعه لغير خازن يا عامر الدنيا أتعمر منزلا * لم يبق فيه مع المنية ساكن الموت شئ أنت تعلم أنه * حق وأنت بذكره متهاون إن المنية لا تؤامر من أتت * في نفسه يوما ولا تستأذن
__________
(1) في الكامل 9 / 79 والعبر 3 / 436: كان السبب في خلعه: أن بهاء الدولة قلت عنده الاموال، فكثر شغب الجند فقبض على وزيره سابور فلم يغن عنه ذلك شيئا وانظر أبي شجاع: ذيل تجارب الامم ص 201، وقال ابن دقماق في الجوهر الثمين 1 / 188 إن سبب خلعه أنه استوزر وزيرين استخفا بالشريعة ومالا إلى النجامة والقول بالطبيعة فقبض على ابن المعلم وهو من خواص بهاء الدولة.
(انظر دول الاسلام 1 / 232 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 164) .

وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة - وهو يوم غدير خم - جرت فتنة بين الروافض والسنة واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واستظهر أهل باب البصرة وحرقوا أعلام السلطان، فقتل جماعة اتهموا بفعل ذلك.
وصلبوا على القناطر ليرتدع أمثالهم.
وفيها ظهر أبو الفتوح الحسين بن جعفر العلوي أمير مكة، وادعى أنه خليفة، وسمى نفسه الراشد بالله، فمالاه أهل مكة وحصل له أموال من رجل أوصى له بها، فانتظم أمره بها، وتقلد سيفا وزعم أنه ذو الفقار، وأخذ بيده قضيبا زعم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قصد بلاد الرملة ليستعين بعرب الشام، فتلقوه بالرحب وقبلوا له الارض، وسلموا عليه بأمير المؤمنين، وأظهر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود.
ثم أن الحاكم صاحب مصر - وكان قد قام بالامر من بعد أبيه العزيز في هذه السنة - بعث إلى عرب الشام بملطفات ووعدهم من الذهب بألوف ومئات، وكذلك إلى عرب الحجاز، واستناب على مكة أميرا وبعث إليه بخمسين ألف دينار، فانتظم أمر الحاكم وتمزق أمر الراشد، وانسحب إلى بلاده كما بدأ منها، وعاد إليها كما خرج عنها، واضمحل حاله وانتقضت حباله، وتفرق عنه رجاله.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن الحسين بن مهران أبو بكر المقري، توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة، واتفق له أنه مات في يوم وفاته أبو الحسن العامري الفيلسوف، فرأى بعض الصالحين أحمد بن الحسين بن مهران هذا في المنام فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: أقام أبا الحسن العامري بجانبي، وقال: هذا فداؤك من النار.
عبد الله بن أحمد بن معروف أبو محمد قاضي قضاة بغداد روى عن ابن صاعد وعنه الخلال والازهري وغيرهما، وكان من العلماء الثقات العقلاء الفطناء، حسن الشكل جميل اللبس، عفيفا عن الاموال، توفي عن خمس وسبعين سنة، وصلى عليه أبو أحمد الموسوي، فكبر عليه خمسا، ثم صلى عليه ابنه بجامع المنصور فكبر عليه أربعا، ثم دفن في داره سامحه الله.
جوهر بن عبد الله القائد باني القاهرة، أصله أرمني ويعرف بالكاتب، أخذ مصر بعد موت كافور الاخشيدي، أرسله مولاه العزيز الفاطمي إليها في ربيع الاول سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، فوصل إليها في شعبان منها في مائة ألف مقاتل، ومائتي صندوق لينفقه في عمارة القاهرة، فبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الامان لاهلها، ودخلها يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلت من شعبان، فشق مصر ونزل في مكان القاهرة

اليوم، وأسس من ليلته القصرين وخطب يوم الجمعة الآتية لمولاه، وقطع خطبة بني العباس، وذكر في خطبته الائمة الاثني عشر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، وكان يظهر الاحسان إلى الناس، ويجلس كل يوم سبت مع الوزير ابن الفرات والقاضي، واجتهد في تكميل القاهرة وفرغ من جامعها الازهر سريعا، وخطب به في سنة إحدى وستين، وهو الذي يقال له الجامع الازهر، ثم أرسل جعفر بن فلاح إلى الشام فأخذها، ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وستين كما تقدم، فنزل بالقصرين ولم تزل منزلته عالية عنده إلى أن مات في هذه السنة، وقام مكانه الحسين (1) الذي كان يقال له قائد القواد، وهو أكبر أمراء الحاكم، ثم كان قتله على يديه في سنة إحدى وأربعمائة، وقتل معه صهره زوج أخته القاضي عبد العزيز بن النعمان، وأظن هذا القاضي هو الذي صنف البلاغ الاكبر، والناموس الاعظم، الذي فيه من الكفر ما لم يصل إبليس إلى مثله، وقد رد على هذا الكتاب أبو بكر الباقلاني رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وثلثمائة
في عاشر محرمها أمر الوزير أبو الحسن علي بن محمد الكوكبي - ويعرف بابن المعلم وكان قد استحوذ على السلطان - أهل الكرخ وباب الطاق من الرافضة بأن لا يفعلوا شيئا من تلك البدع التي كانوا يتعاطونها في عاشوراء: من تعليق المسوح وتغليق الاسواق والنياحة على الحسين، فلم يفعلوا شيئا من ذلك ولله الحمد.
وقد كان هذا الرجل من أهل السنة إلا أنه كان طماعا، رسم أن لا يقبل أحدا من الشهود ممن أحدثت عدالته بعد ابن معروف، وكان كثير منهم قد بذل أموالا جزيلة في ذلك، فاحتاجوا إلى أن جمعوا له شيئا فوقع لهم بالاستمرار، ولما كان في جمادى الآخرة سعت الديلم والترك على ابن المعلم هذا وخرجوا بخيامهم إلى باب الشماسية وراسلوا بهاء الدولة ليسلمه إليهم، لسوء معاملته لهم، فدافع عنه مدافعة عظيمة في أيام متعددة، ولم يزالوا يراسلونه في أمره حتى خنقه في حبل ومات ودفن بالمحرم.
وفي رجب منها سلم الخليفة الطائع الذي خلع إلى الخليفة القادر فأمر بوضعه في حجرة من دار الخلافة وأمر أن تجري عليه الارزاق والتحف والالطاف، مما يستعمله الخليفة القادر من مأكل وملبس وطيب وغيره ووكل به من يحفظه ويخدمه، وكان يتعنت على القادر في تقلله في المأكل والملبس، فرتب من يحضر له من سائر الانواع، ولم يزالوا كذلك حتى توفي وهو في السجن.
وفي شوال منها ولد للخليفة القادر ولد وذكر، وهو أبو الفضل محمد بن القادر بالله، وقد ولاه العهد من بعده وسماه الغالب بالله، فلم يتم له الامر.
وفي هذا الوقت غلت الاسعار ببغداد حتى بيع رطل الخبز بأربعين درهما، والجزر بدرهم.
وفي ذي القعدة قام صاحب الصفراء الاعرابي والتزم بحراسة
__________
(1) وهو الحسين بن جوهر، وكان قد خاف على نفسه من الحاكم فهرب هو وولده وصهره فأرسل الحاكم من ردهم وطيب قلوبهم وآنسهم مدة مديدة ثم قتلهم.
(الوفيات 1 / 380) .

الحجاج في ذهابهم وإيابهم، وأن يخطب للقادر من اليمامية والبحرين إلى الكوفة، فأجيب إلى ذلك، وأطلقت له الخلع والاموال والاواني وغيرها.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن العباس
ابن محمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن معاذ أبو عمر الخزاز (1) المعروف بابن حيوة (2)، سمع البغوي والباغندي وابن صاعد وخلقا كثيرا، وانتقد عليه الدار قطني وسمع منه الاعيان، وكان ثقة دينا متيقظا ذا مروءة، وكتب من الكتب الكبار كثيرا بيده، وكانت وفاته في ربيع الآخر منها وقد قارب التسعين.
أبو أحمد العسكري الحسن بن عبد الله بن سعيد أحد الائمة في اللغة والادب والنحو والنوادر، وله في ذلك تصانيف مفيدة، منها التصحيف وغيره، وكان الصاحب بن عباد يود الاجتماع به فسافر إلى عسكر خلفه حتى اجتمع به فأكرمه وارسله بالاشعار.
توفي فيها وله تسعون سنة.
كذا ذكره ابن خلكان.
وذكره ابن الجوزي فيمن توفي في سنة سبع وثمانين كما سيأتي.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة فيها أمر القادر بالله بعمارة مسجد الحربية وكسوته، وأن يجري مجرى الجوامع في الخطب وغيرها وذلك بعد أن استفتى العلماء في جواز ذلك.
قال الخطيب البغدادي: أدركت الجمعة تقام ببغداد في مسجد المدينة، ومسجد الرصافة، ومسجد دار الخلافة، ومسجد براثا، ومسجد قطيعة أم جعفر، ومسجد الحربية.
قال: ولم يزل الامر على هذا إلى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، فتعطلت في مسجد براثا.
وفي جمادى الاولى فرغ من الجسر الذي بناه بهاء الدولة في مشرعة القطانين، واجتاز عليه هو بنفسه، وقد زين المكان.
وفي جمادى الآخرة شعثت الديالم والاتراك في نواحي البلد لتأخر العطاء عنهم، وغلت الاسعار وراسلوا بهاء الدولة فأزيحت عللهم.
وفي يوم الخميس الثاني من ذي القعدة تزوج الخليفة سكينة بنت بهاء الدولة على صداق مائة
__________
(1) من الوافي 3 / 199 وابن الاثير 9 / 95: الخزاز، وفي الاصل القزاز.
(2) في ابن الاثير: حسنويه، وفي الوافي حيويه.
وفيه ذكره: محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن يحيى بن معاذ .

ألف دينار وكان وكيل بهاء الدولة الشريف أبو أحمد الموسوي، ثم توفيت هذه المرأة قبل دخول الخليفة
بها.
وفيها ابتاع الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير دارا بالكرخ وجدد عمارتها، ونقل إليها كتبا كثيرة، ووقفها على الفقهاء، وسماها دار العلم.
وأظن أن هذه أول مدرسة وقفت على الفقهاء، وكانت قبل النظامية بمدة طويلة.
وفيها في أواخرها ارتفعت الاسعار وضاق الحال وجاع العيال (1).
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان بن حرب بن مهران، أبو بكر البزار، سمع الكثير من البغوي وابن صاعد وابن أبي داود وابن دريد، وعنه الدار قطني والبرقاني والازهري وغيرهم، وكان ثبتا صحيح السماع، كثير الحديث، متحريا ورعا.
توفي عن خمس وثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلثمائة فيها عظم الخطب بأمر العيارين، عاثوا ببغداد فسادا وأخذوا الاموال والعملات الثقال ليلا ونهارا، وحرقوا مواضع كثيرة، وأخذوا من الاسواق الجبايات، وتطلبهم الشرط فلم يفد ذلك شيئا ولا فكروا في الدولة، بل استمروا على ما هم عليه من أخذ الاموال، وقتل الرجال، وإرعاب النساء والاطفال، في سائر المحال.
فلما تفاقم الحال بهم تطلبهم السلطان بهاء الدولة وألح في طلبهم فهربوا بين يديه واستراح الناس من شرهم.
وأظن هذه الحكايات التي يذكرها بعض الناس عن أحمد الدنف عنهم، أو كان منهم والله أعلم.
وفي ذي القعدة عزل الشريف الموسوي وولداه عن نقابة الطالبيين (2).
وفيها رجع ركب العراق من أثناء الطريق بعد ما فاتهم الحج، وذلك أن الاصيفر الاعرابي الذي كان قد تكفل بحراستهم اعترض لهم في الطريق وذكر لهم أن الدنانير التي أقطعت له من دار الخلافة كانت دارهم مطلية، وأنه يريد من الحجيج بدلها وإلا لا يدعهم يتجاوزوا هذا المكان، فمانعوه وراجعوه، فحبسهم عن السير حتى ضاق الوقت ولم يبق فيه ما يدركوا فيه الحج فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج منهم أحد، وكذلك ركب الشام وأهل اليمن لم يحج منهم أحد، وإنما حج أهل مصر والمغرب خاصة.
وفي يوم عرفة قلد الشريف أبو الحسين (3) الزينبي محمد بن علي بن أبي تمام الزينبي نقابة
__________
(1) بيعت كارة الدقيق بمائتين وستين درهما، وكر الحنطة بستة آلاف وستمائة درهم.
(2) وولى مكانه نقابة الطالبيين أبا الحسن النهر سابسي.
(الكامل 9 / 105).
(3) في الكامل: أبو الحسن.
وقد تولاها بعد وفاة والده أبي القاسم .

العباسيين، وقرئ عهده بين يدي الخليفة بحضرة القضاة والاعيان.
وفيها توفي من الاعيان الصابئي الكاتب المشهور صاحب التصانيف، وهو: إبراهيم بن هلال ابن إبراهيم بن زهرون بن حبون أبو إسحاق الحراني كاتب الرسائل للخليفة ولمعز الدولة بن بويه، كان على دين الصابئة إلى أن مات عليه، وكان مع هذا يصوم رمضان ويقرأ القرآن من حفظه، وكان يحفظه حفظا حسنا، ويستعمل منه في الرسائل، وكانوا يحرضون عليه أن يسلم فلم يفعل، وله شعر جيد قوي.
توفي في شوال منها وقد تجاوز السبعين، وقد جاوز السبعين، وقد رثاه الشريف الرضي وقال: إنما رثيت فضائله (1)، وليس له فضائل ولا هو أهل لها ولا كرامة.
عبد الله بن محمد ابن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد، ورث من آبائه أموالا كثيرة فأنفقها كلها في وجوه الخير والقرب، وكان كثير العبادة، يقال إنه مكث سبعين سنة لم يستند إلى حائط ولا إلى شئ، ولا اتكأ على وسادة، وحج من نيسابور ماشيا حافيا، ودخل الشام وأقام بيت المقدس شهورا، ثم دخل مصر وبلاد المغرب، وحج من هناك ثم رجع إلى بلاده بست، وكان له بها بقية أموال وأملاك فتصدق بها كلها، ولما حضرته الوفاة جعل يتألم ويتوجع، فقيل له في ذلك فقال: أرى بين يدي أمورا هائلة، ولا أدري كيف أنجو منها.
توفي في الحرم من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، وليلة موته رأت امرأة أمها بعد موتها وعليها ثياب حسان وزينة فقالت: يا أمه ما هذه الزينة ؟ فقالت: نحن في عيد لاجل قدوم عبد الله بن محمد الزاهد البستي علينا رحمه الله تعالى.
علي بن عيسى بن عبيد الله (2)
أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني، روى عن ابن دريد، وكانت له يد طولى في النحو واللغة والمنطق والكلام، وله تفسير كبير وشهد عند ابن معروف فقبله، وروى عنه التنوخي والجوهري، قال ابن خلكان: والرماني نسبة إلى بيع الرمان أو إلى قصر الرمان بواسط، توفي عن ثمان وثمانين سنة ودفن في الشونيزية عند قبر أبي علي الفارسي.
__________
(1) ومنها في ديوانه 1 / 381: جبل هوى لو خر في البحر اغتدى * من وقعه متتابع الازباد ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى * أن الثرى يعلو على الاطواد (2) في الكامل 9 / 106 والوفيات 3 / 299: علي بن عيسى بن علي بن عبد الله .

محمد بن العباس بن أحمد بن القزاز أبو الحسن الكاتب المحدث الثقة المأمون.
قال الخطيب: كان ثقة، كتب الكثير وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته، بلغني أنه كتب مائة تفسير ومائة تاريخ، وخلف ثمانية عشر صندوقا مملوءة كتبا أكثرها بخطه سوى ما سرق له، وكان حفظه في غاية الصحة، ومع هذا كان له جارية تعارض معه - أي تقابل ما يكتبه - رحمه الله تعالى.
محمد بن عمران بن موسى بن (1) عبيد الله أبو عبد الله (2) الكاتب المعروف بابن المرزبان، روى عن البغوي وابن دريد وغيرهما، وكان صاحب اختيار وآداب، وصنف كتبا كثيرة في فنون مستحسنة، وهو مصنف كتاب تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وكان مشايخه وغيرهم يحضرون عنده ويبيتون في داره على فرش وأطعمة وغير ذلك، وكان عضد الدولة إذا اجتاز بداره لا يجوز حتى يسلم عليه، وكان يقف حتى يخرج إليه، وكان أبو علي الفارسي يقول عنه: هو من محاسن الدنيا.
وقال العقيقي: كان ثقة.
وقال الازهري: ما كان ثقة.
وقال ابن الجوزي: ما كان من الكذابين وإنما كان فيه تشيع واعتزال.
ويخلط السماع بالاجازة، وبلغ الثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلثمائة فيها استوزر ابن ركن الدولة بن بويه أبا العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، الملقب بالكافي، وذلك بعد وفاة الصاحب إسماعيل بن عباد، وكان من مشاهير الوزراء.
وفيها قبض بهاء الدولة على القاضي عبد الجبار وصادره بأموال جزيلة، فكان من جملة ما بيع له في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب معدني، ولم يحج في هذه السنة وما قبلها وما بعدها ركب العراق، والخطبة في الحرمين للفاطميين.
وممن توفي فيها من الاعيان...الصاحب بن عباد وهو إسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني (3)، أبو القاسم الوزير
__________
(1) في الوفيات 4 / 354: ابن سعيد بن عبيد الله.
(2) في الكامل 9 / 106 والوفيات: أبو عبيد الله.
(3) الطالقاني: نسبة إلى الطالقان بلدة بين قزوين وأبهر.
وهناك طالقان أخرى في خراسان فالصاحب من طالقان قزوين .

المشهور بكافي الكفاة، وزر لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، وقد كان من العلم والفضيلة والبراعة والكرم والاحسان إلى العلماء والفقراء على جانب عظيم، كان يبعث في كل سنة إلى بغداد بخمسة آلاف دينار لتصرف على أهل العلم، وله اليد الطولى في الادب، وله مصنفات في فنون العلم واقتنى كتبا كثيرة، وكانت تحمل على أربعمائة بعير، ولم يكن في وزراء بني بويه مثله ولا قريب منه في مجموع فضائله، وقد كانت دولة بني بويه مائة وعشرين سنة وأشهرا، وفتح خمسين قلعة لمخدومه مؤيد الدولة، وابنه فخر الدولة، بصرامته وحسن تدبيره وجودة رأيه، وكان يحب العلوم الشرعية، ويبغض الفلسفة وما شابهها من علم الكلام والآراء البدعية، وقد مرض مرة بالاسهال فكان كلما قام عن المطهرة وضع عندها عشر دنانير لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت
علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوي نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب، وقد سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الاسناد، وعقد له في وقت مجلس للاملاء فاحتفل الناس لحضوره، وحضره وجوه الامراء، فلما خرج إليه لبس زي الفقهاء وأشهد على نفسه بالتوبة والانابة مما يعانيه من أمور السلطان، وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، واتخذ بناء في داره سماه بيت التوبة، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته، وحين حدث استملى عليه جماعة لكثرة مجلسه، فكان في جملة من يكتب عنه ذلك اليوم القاضي عبد الجبار الهمداني وأضرابه من رؤس الفضلاء وسادات الفقهاء والمحدثين، وقد بعث إليه قاضي قزوين بهدية كتب سنية، وكتب معها: العميدي (1) عبد كافي الكفاة وأنه * أعقل في وجوه القضاة خدم المجلس الرفيع، بكتب * منعمات (2)، من حسنها مترعات فلما وصلت إليه أخذ منها كتابا واحدا ورد باقيها وكتب تحت البيتين: قد قبلنا من الجميع كتابا * ورددنا لوقتها الباقيات لست أستغنم الكثير وطبعي * قول: خذ ليس مذهبي قول هات وجلس مرة في مجلس شراب فناوله الباقي كأسا، فلما أراد شربها قال له بعض خدمه: إن هذا الذي في يدك مسموم.
قال: وما الشاهد على صحة قولك ؟ قال تجربه، قال: فيمن ؟ قال في الساقي.
قال ويحك لا أستحل ذلك، قال ففي دجاجة، قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، ثم أمر بصب ما في ذلك القدح وقال للساقي: لا تدخل بعد اليوم داري، ولم يقطع عنه معلومه.
وقد عمل عليه الوزير أبو الفتح ابن ذي الكفايتين حتى عزله عن وزارة مؤيد الدولة في وقت وباشرها
__________
(1) في اليتيمة 3 / 231: العميري، وهو قاضي قزوين، صاحب البيتين (2) في اليتيمة: مفعمات .

عوضه واستمر فيها مدة فبينما هو ذات ليلة قد اجتماع عنده أصحابه وهو في أتم السرور، قد هيئ
له في مجلس حافل بأنواع اللذات، وقد نظم أبياتا والمغنون يغنونه بها وهو في غاية الطرب والسرور والفرح، وهي هذه الابيات: دعوت الهنا ودعوت العلا (1) * فلما أجابا دعوت القدح وقلت لايام شرخ الشبا * ب إلي.
فهذا أوان الفرح إذا بلغ المرء آماله * فليس له بعدها منتزح (2) ثم قال لاصحابه: باكروني غدا إلى الصبوح، ونهض إلى بيت منامه فما أصبح حتى قبض عليه مؤيد الدولة وأخذ جميع ما في داره من الحواصل والاموال، وجعله مثلة في العباد، وأعاد إلى وزارته ابن عباد.
وقد ذكر ابن الجوزي: أن ابن عباد هذا حين حضرته الوفاة جاءه الملك فخر الدولة بن مؤيد الدولة يعوده ليوصيه في أموره فقال له: إني موصيك أن تستمر في الامور على ما تركتها عليه، ولا تغيرها، فإنك إن استمريت بها نسبت إليك من أول الامر إلى آخره، وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير المتقدم إلى لا إليك، وأنا أحب أن تكون نسبة الخير إليك وإن كنت أنا المشير بها عليك.
فأعجبه ذلك منه واستمر بما أوصاه به من الخير، وكانت وفاته في عشية يوم الجمعة لست بقين من صفر منها.
قال ابن خلكان: وهو أول من تسمى من الوزراء بالصاحب، ثم استعمل بعده منهم، وإنما سمي بذلك لكثرة صحبته الوزير أبا الفضل بن العميد، ثم أطلق عليه أيام وزارته.
وقال الصابئ في كتابه الناجي: إنما سماه الصاحب مؤيد الدولة لانه كان صحابه من الصغر، وكان إذ ذاك يسميه الصاحب، فلما ملك واستوزره سماه به واستمر فاشتهر به، وسمي به الوزراء بعده، ثم ذكر ابن خلكان قطعة صالحة من مكارمه وفضائله وثناء الناس عليه، وعدد له مصنفات كثيرة، منها كتابه المحيط في اللغة في سبع مجلدات، يحتوي على أكثر اللغة وأورد من شعره أشياء منها في الخمر: رق الزجاج وراقت (3) الخمر * وتشابها فتشاكل الامر فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر قال ابن خلكان: توفي بالري في هذه السنة وله نحو ستين سنة ونقل إلى أصبهان رحمه الله.
الحسن بن حامد أبو محمد الاديب، كان شاعرا متجولا كثير المكارم، روى عن علي بن محمد بن سعيد الموصلي
__________
(1) في اليتيمة 3 / 218: المنى.
(2) في اليتيمة: مقترح.
(3) في الوفيات 1 / 230: رقت .

عنه الصوري، وكان صدوقا.
وهو الذي أنزل المتنبي داره حين قدم بغداد وأحسن إليه حتى قال له لمتنبي: لو كنت مادحا تاجرا لمدحتك، وقد كان أبو محمد هذا شاعرا ماهرا، فمن شعره الجيد قوله: شربت المعالي غير منتظر بها * كسادا ولا سوقا يقام لها أحرى وما أنا من أهل المكاسب كلما * توفرت الاثمان كنت لها أشرى ابن شاهين الواعظ عمر بن أحمد بن عثمان بن محمد بن أيوب بن زذان، أبو حفص المشهور، سمع الكثير وحدث عن الباغندي وأبي بكر بن أبي داود والبغوي، وابن صاعد، وخلق.
وكان ثقة أمينا، يسكن الجانب الشرقي من بغداد، وكانت له المصنفات العديدة.
ذكر عنه أنه صنف ثلثمائة وثلاثين مصنفا منها التفسير في ألف جزء، والمسند في ألف وخمسمائة جزء، والتاريخ في مائة وخمسين جزءا، والزاهد في مائة جزء.
توفي في ذي الحجة منها وقد قارب التسعين رحمه الله.
الحافظ الدار قطني علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ الكبير، أستاذ هذه الصناعة، وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا، سمع الكثير، وجمع وصنف وألف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريد عصره، ونسيج وحده، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل، والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف، وأتساع الرواية،
والاطلاع التام في الدراية، له كتابه المشهور من أحسن المصنفات في بابه، لم يسبق إلى مثله ولا يلحق في شكله إلا من استمد من بحره وعمل كعمله، وله كتاب العلل بين فيه الصواب من الدخل، والمتصل من المرسل والمنقطع والمعضل، وكتاب الافراد الذي لا يفهمه، فضلا عن أن ينظمه، إلا من هو من الحفاظ الافراد، والائمة النقاد، والجهابذة الجياد، وله غير ذلك من المصنفات التي هي كالعقود في الاجياد، وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر، والفهم الثاقب، والبحر الزاخر، جلس مرة في مجلس إسماعيل الصفار وهو يملي على الناس الاحاديث، والدار قطني ينسخ في جزء حديث، فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس: إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ، فقال الدار قطني: فهمي للاملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل: أتحفظ كم أملى حديثا ؟ فقال: إنه أملى ثمانية عشر حديثا إلى الآن، والحديث الاول منها عن فلان عن فلان، ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا، فتعجب الناس منه.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: لم ير الدار قطني مثل نفسه.
وقال ابن الجوزي: وقد اجتمع له مع معرفة الحديث والعلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الامامة والعدالة، وصحة العقيدة، وقد كانت وفاته في

يوم الثلاثاء السابع (1) من ذي القعدة منها، وله من العمر سبع وسبعون سنة ويومان، ودفن من الغد بمقبرة معروف الكرخي رحمه الله.
قال ابن خلكان: وقد رحل إلى الديار المصرية فأكرمه الوزير أبو الفضل جعفر بن خنزابة وزير كافور الاخشيدي، وساعده هو والحافظ عبد الغني على إكمال مسنده، وحصل للدار قطني منه مال جزيل.
قال: والدار قطني نسبة إلى دار القطن وهي محلة كبيرة ببغداد، وقال عبد الغني بن سعيد الضرير: لم يتكلم على الاحاديث مثل علي بن المديني (2) في زمانه، وموسى بن هارون (3) في زمانه، والدار قطني في زمانه.
وسئل الدار قطني: هل رأى مثل نفسه ؟ قال: أما في فن واحد فربما رأيت من هو أفضل مني، وأما فيما اجتمع لي من الفنون فلا.
وقد روى الخطيب البغدادي عن الامير أبي نصر هبة الله بن ماكولا قال: رأيت في المنام كأني أسأل عن حال أبي الحسن الدار قطني وما آل أمره إليه في
الآخرة، فقيل لي ذاك يدعى في الجنة الامام.
عباد بن عباس بن عباد أبو الحسن الطالقاني، والد الوزير إسماعيل بن عباد المتقدم ذكره، سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والاصفهانيين والرازيين وغيرهم، وحدث عنه ابنه الوزير أبو الفضل القاسم، وأبو بكر بن مردويه، ولعباد هذا كتاب في أحكام القرآن، وقد اتفق موته وموت ابنه في هذه السنة رحمهما الله.
عقيل بن محمد بن عبد الواحد أبو الحسن الاحنف العكبري الشاعر المشهور، له ديوان مفرد، ومن مستجاد شعره ما ذكره ابن الجوزي في منتظمه قوله: أقضى علي من الاجل * عذل العذول إذا عذل وأشد من عذل العذو * ل صدود إلف قد وصل وأشد من هذا وذا * طلب النوال من السفل وقوله: من أراد العز والرا * حة من هم طويل
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 995 ووفيات الاعيان 3 / 298: ثامن.
(2) علي بن عبد الله بن جعفر المديني ولد سنة 161 وتوفي بسامرا سنة 234 ه.
وقد تقدم.
(3) موسى بن هارون الحمال الحجة البغدادي محدث العراق توفي سنة 294.
وقد تقدم .

فليكن فردا في النا * س ويرضى بالقليل ويرى أن سيري * كافيا عما قليل ويرى بالحزم أن الحز * م في ترك الفضول ويداوي مرض الوح * دة بالصبر الجميل
لا يماري أحدا ما * عاش في قال وقيل يلزم الصمت فإن الصم * ت تهذيب العقول يذر الكبر لاهل الكب * ر ويرضى بالخمول أي عيش لا مرئ * يصبح في حال ذليل بين قصد من عدو * ومداراة جهول واعتلال من صدي * ق وتجنى من ملول واحتراس من ظنون السو * ء مع عذل العذول ومقاسات بغيض ومداناة ثقيل أف من معرفة النا * س على كل سبيل وتمام الامر لا يع * رف سمحا من بخيل فإذا أكمل هذا كا * ن في ضل ظليل محمد بن عبد الله بن سكرة أبو الحسين الهاشمي، من ولد علي بن المهدي، كان شاعرا خليعا ظريفا، وكان ينوب في نقابة الهاشميين.
فترافع إليه رجل اسمه علي وامرأة اسمها عائشة يتحاكمان في جمل فقال هذه قضية لا أحكم فيها بشئ لئلا يعود الحال خدعة.
ومن مستجاد شعره ولطيف قوله: في وجه إنسانة كلفت بها * أربعة ما اجتمعن في أحد الوجه بدر (1)، والصدغ غالية * والريق خمر، والثغر من برد وله في قوله وقد دخل حمام فسرق نعليه فعاد إلى منزله حافيا فقال: إليك أذم حمام ابن موسى * وإن فاق المنى طيبا وحرا تكاثرت اللصوص عليه حتى * ليحفى من يطيف به ويعرى ولم أفقد به ثوبا ولكن * دخلت محمدا وخرجت بشرا
__________
(1) في اليتيمة 3 / 8: الخد ورد

يوسف بن عمر بن مسرور أبو الفتح القواس، سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وغيرهم، وعنه الخلال والعشاري والبغدادي والتنوخي وغيرهم، وكان ثقة ثبتا، يعد من الابدال، قال الدار قطني: كنا نتبرك به وهو صغير.
توفي لثلاث (1) بقين من ربيع الآخر عن خمس وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
يوسف بن أبي سعيد السيرافي أبو محمد النحوي، وهو الذي تمم شرح أبيه لكتاب سيبويه، وكان يرجع إلى علم ودين وكانت وفاته في ربيع الاول منها عن خمس وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلثمائة في محرمها كشف أهل البصرة عن قبر عتيق فإذا هم بميت طري عليه ثيابه وسيفه، فطنوه الزبير بن العوام، فأخرجوه وكفنوه ودفنوه واتخذوا عند قبره مسجدا، ووقف عليه أوقاف كثيرة، وجعل عنده خدام وقوام وفرش وتنوير.
وفيها ملك الحاكم العبيدي بلاد مصر بعد أبيه العزيز بن المعز الفاطمي، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وقام بتدبير المملكة أرجوان الخادم، وأمين الدولة الحسن بن عمار، فلما تمكن الحاكم قتلهما وأقام غيرهما، ثم قتل خلقا حتى استقام له الامر على ما سنذكره.
وحج بالناس الامير الذي من جهة المصريين والخطبة لهم.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن إبراهيم ابن محمد بن يحيى بن سحنويه أبو حامد بن إسحاق المزكي النيسابوري، سمع الاصم وطبقته وكان كثير العبادة من صغره إلى كبره، وصام في عمره سردا تسعا وعشرين سنة، وقال الحاكم: وعندي أن الملائكة لم تكتب عليه خطيئة، توفي في شعبان منها عن ثلاث وستين سنة.
أبو طالب المكي
صاحب قوت القلوب، محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي الواعظ المذكر، الزاهد
__________
(1) في صفوة الصفوة 2 / 471: يوم الجمعة لسبع بقين، وفي الكامل ذكره: ابن عمر بن مسروق وانه توفي في ربيع الاول وله خمس وخمسون سنة .

المتعبد، الرجل الصالح، سمع الحديث وروى عن غير واحد.
قال العتيقي: كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة وصنف كتابا سماه قوت القلوب، وذكر فيه أحاديث لا أصل لها، وكان يعظ الناس في جامع بغداد، وحكى ابن الجوزي أن أصله من الجبل، وأنه نشأ بمكة، وأنه دخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم، فانتمى إلى مقالته، ودخل بغداد فاجتمع عليه الناس وعقد له مجلس الوعظ بها، فغلط في كلام وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق، فبدعه الناس وهجروه، وامتنع من الكلام على الناس: وقد كان أبو طالب هذا يبيح السماع، فدعا عليه عبد الصمد بن علي ودخل عليه فعاتبه على ذلك فأنشد أبو طالب فيا ليل كم فيك من متغب * ويا صبح ليتك لم تقرب فخرج عبد الصمد مغضبا.
وقال أبو القاسم بن سرات: دخلت على شيخنا أبي طالب المكي وهو يموت فقلت له: أوص، فقال: إذا ختم لي بخير فانثر على جنازتي لوزا وسكرا فقلت: كيف أعلم بذلك ؟ فقال: اجلس عندي ويدك في يدي، فإن قبضت على يدك فاعلم أنه قد ختم لي بخير.
قال ففعلت فلما حان فراقه قبض على يدي قبضا شديدا، فلما رفع على جنازته نثرت اللوز والسكر على نعشه.
قال ابن الجوزي: توفي في جمادى الآخرة منها وقبره ظاهر في جامع الرصافة.
العزيز صاحب مصر نزار بن المعز معد أبي تميم، ويكنى نزار بأبي منصور، ويلقب بالعزيز، توفي عن اثنين وأربعين سنة (1) منها، وكانت ولايته بعد أبيه إحدى وعشرين سنة، وخمسة أشهر وعشرة أيام (2)، وقام بالامر من بعده ولده الحاكم قبحه الله، والحاكم هذا هو الذي ينسب إليه الفرقة الضالة المضلة الزنادقة الحاكمية وإليه ينسب أهل وادي التيم من الدرزية أتباع هستكر غلام الحاكم الذي بعثه إليهم
يدعوهم إلى الكفر المحض فأجابوه، لعنه الله وإياهم أجمعين، أما العزيز هذا فإنه كان قد استوزر رجلا نصرانيا يقال له عيسى بن نسطورس، وآخر يهوديا اسمه ميشا، فعز بسببهما أهل هذين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين، حتى كتبت إليه امرأة قصة في حاجة لها تقول فيها: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا وأذل المسلمين بهما لما كشفت ظلامتي، فعند ذلك أمر بالقبض على هذين الرجلين وأخذ من النصارى ثلاثمائة ألف دينار.
وفيها توفيت بنت عضد الدولة امرأة الطائع فحملت تركتها إلى ابن أخيها بهاء الدولة، وكان فيها جوهر كثير والله أعلم.
__________
(1) في الكامل 9 / 116 زيد: وثمانية أشهر ونصف.
(2) في الكامل 9 / 116: ونصف.
وفي العبر 4 / 56: احدى عشرة سنة ونصف .

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلثمائة فيها توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه، وأقيم ولده رستم في الملك مكانه، وكان عمره أربع سنين، وقام خواص أبيه بتدبير الملك في الرعايا.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو أحمد العسكري اللغوي.
الحسن بن عبد الله ابن سعيد بن أحمد العسكري اللغوي، العلامة في فنه وتصانيفه، المفيدة في اللغة وغيرها، يقال إنه كان يميل إلى الاعتزال، ولما قدم الصاحب بن عباد هو وفخر الدولة البلدة التي كان فيها أبو أحمد العسكري - وكان قد كبر وأسن - بعث إليه الحاحب رقة فيها هذه الابيات: ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم * ضعفنا فما نقوى على الوحدان أتيناكم من بعد أرض نزوركم * فكم من منزل بكر لنا وعوان نناشدكم هل من قرى لنزيلكم * بطول جوار لا يمل جفان تضمنت بنت ابن الرشيد كأنما * تعمد تشبيهي به وعناني
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه * وقد حيل بين العير والنزوان (1) ثم ركب بغلته تحاملا وصار إلى الصاحب فوجده مشغولا في خيمته بأبهة الوزارة فصعد أكمه ثم نادى بأعلى صوته: مالي أرى القبة الفيحاء مقفلة * دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها كأنها جنة الفردوس معرضة * وليس لي عمل زاك فأدخلها فلما سمع الصاحب صوته ناداه: ادخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الاولى، فلما صار إليه أحسن إليه.
توفي في يوم التروية منها.
قال ابن خلكان: وكانت ولادته يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث (2) وتسعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة.
__________
(1) قال ابن خلكان إن هذا البيت كان من أجوبة أبي أحمد على الابيات المتقدمة للصاحب وهو لصخر بن عمرو بن الشريد أخو الخنساء قاله من جملة أبيات مشهورة في مرضه وقد ضجرت امرأته سلمى من تمريضه ودقة حالته قالت: فهو لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى فسمعها فقال: انظر الخبر في الاغاني 15 / 78 - 79.
(2) في الاصل ثلاثة: وهو خطأ .

عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن إبراهيم بن عبيد الله بن زياد بن مهران، أبو القاسم الشاعر المعروف بابن الثلاج، لان جده أهدى لبعض الخلفاء ثلجا، فوقع منه موقعا، فعرف عند الخليفة بالثلاج، وقد سمع أبو القاسم هذا من البغوي وابن صاعد وأبي داود، وحدث عن التنوخي والازهري والعقيقي وغيرهم من الحفاظ.
قال ابن الجوزي: وقد اتهمه المحدثون منهم الدار قطني ونسبوه إلى أنه كان يركب الاسناد ويضع الحديث على الرجال.
توفي في ربيع الاول فجأة ابن زولاق
الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن علي بن خلد (1) بن راشد بن عبيد الله بن سليمان ابن زولاق، أبو محمد المصري الحافظ، صنف كتابا في قضاة مصر ذيل به كتاب أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي، إلى سنة ست وأربعين ومائتين، وذيل ابن زولاق من القاضي بكار إلى سنة ست وثمانين وثلثمائة، وهي أيام محمد بن النعمان قاضي الفاطميين، الذي صنف البلاغ الذي انتصب فيه للرد على القاضي الباقلاني، وهو أخو عبد العزيز بن النعمان والله أعلم.
وكانت وفاته في أواخر ذي القعدة من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.
ابن بطة عبيد الله بن محمد ابن حمران، أبو عبد الله العكبري (2)، المعروف بابن بطة، أحد علماء الحنابلة، وله التصانيف الكثيرة الحافلة في فنون من العلوم، سمع الحديث من البغوي وأبي بكر النيسابوري وابن صاعد وخلق في أقاليم متعددة، وعنه جماعة من الحفاظ، منهم أبو الفتح بن أبي الفوارس، والازجي والبرمكي، وأثنى عليه غير واحد من الائمة، وكان ممن يأمر بالعروف وينهى عن المنكر، وقد رأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد اختلفت علي المذاهب.
فقال: عليك بأبي عبد الله بن بطة، فلما أصبح ذهب إليه ليبشره بالمنام فحين رآه ابن بطة تبسم إليه وقال له - قبل أن يخاطبه - صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
وقد تصدى الخطيب البغدادي للكلام في ابن بطة والطعن عليه وفيه بسبب بعض الجرح في ابن بطة الذي أسنده إلى شيخه عبد الواحد بن علي الاسدي المعروف بابن برهان اللغوي، فانتدب ابن الجوزي للرد على الخطيب والطعن عليه أيضا بسبب بعض مشايخه والانتصار لابن بطة، فحكى عن أبي الوفا بن عقيل أن ابن برهان كان يرى مذهب
__________
(1) في الوفيات 2 / 91: خالد.
(2) العكبري: نسبة إلى عكبرا بلد تبعد عن بغداد عشرة فراسخ .

مرجئة المعتزلة، في أن الكفار لا يخلدون في النار، وإنما قالوا ذلك لان دوام ذلك إنما هو للتشفي ولا معنى له هنا مع أنه قد وصف نفسه بأنه غفور رحيم، وأنه أرحم الراحمين.
ثم شرع ابن عقيل يرد
على ابن برهان.
قال ابن الجوزي: فكيف يقبل الجرح مثل هذا ! ؟.
ثم روى ابن الجوزي بسنده عن ابن بطة أنه سمع المعجم من البغوي، قال: والمثبت مقدم على النافي.
قال الخطيب: وحدثني عبد الواحد بن برهان قال: ثنا محمد بن أبي الفوارس روى عن ابن بطة عن البغوي عن أبي مصعب، عن مالك، عن الزهري، عن أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1).
قال الخطيب: وهذا باطل من حديث مالك، والحمل فيه على ابن بطة.
قال ابن الجوزي: والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما أنه وجد بخط ابن برهان: ما حكاه الخطيب في القدح في ابن بطة وهو شيخي أخذت عنه العلم في البداية، الثاني أن ابن برهان قد تقدم القدح فيه بما خالف فيه الاجماع، فكيف قبلت القول في رجل قد حكيت عن مشايخ العلماء أنه رجل صالح مجاب الدعوة، نعوذ بالله من الهوى.
علي بن عبد العزيز بن مدرك أبو الحسن البردعي، روى عن أبي حاتم وغيره، وكان كثير المال فترك الدنيا وأقبل على الآخرة، فاعتكف في المسجد، وكان كثير الصلاة والعبادة.
فخر الدولة بن بويه علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي، ملك بلاد الري ونواحيها، وحين مات أخوه مؤيد الدولة كتب إليه الوزير ابن عباد بالاسراع إليه فولاه الملك بعده، واستوزر ابن عباد على ما كان عليه.
توفي عن ست وأربعين سنة، منها مدة ملكه ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة عشر يوما، وترك من الاموال شيئا كثيرا، من الذهب ما يقارب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الجواهر نحوا من خمسة عشر ألف قطعة، يقارب قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبا.
وغير ذلك من أواني الذهب زنته ألف ألف دينار، ومن الفضة زنته ثلاثة آلاف ألف درهم، كلها آنية، ومن الثياب ثلاثة آلاف حمل، وخزانة السلاح ألف حمل، ومن الفرش ألف وخمسمائة حمل، ومن الامتعة مما يليق بالملوك شيئا كثيرا لا يحصر، ومع هذا لم يصلوا ليلة موته إلى شئ من المال ولم يحصل له كفن إلا ثوب من المجاورين في المسجد، واشتغلوا عنه بالملك حتى تم لولده رستم من بعده، فأنتن الملك ولم يتمكن
أحد من الوصول إليه فربطوه في حبال وجروه على درج القلعة من نتن ريحه، فتقطع، جزاء وفاقا.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة باب (17) .

ابن سمعون الواعظ محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسين بن سمعون الواعظ، أحد الصلحاء والعلماء، كان يقال له الناطق بالحكمة، روى عن أبي بكر بن داود وطبقته، وكان له يد طولى في الوعظ والتدقيق في المعاملات، وكانت له كرامات ومكاشفات، كان يوما يعظ على المنبر وتحته أبو الفتح بن القواس، وكان من الصالحين المشهورين، فنعس ابن القواس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتى استيقظ، فحين استيقظ قال ابن سمعون: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامك هذا ؟ قال: نعم ! قال: فلهذا أمسكت عن الوعظ حتى لا أزعجك عما كنت فيه.
وكان لرجل ابنة مريضة مدنفة فرأى أبوها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: اذهب إلى ابن سمعون ليأتي منزلك فيدعو لابتنك تبرأ بإذن الله.
فلما أصبح اذهب إليه فلما رآه نهض ولبس ثيابه وخرج مع الرجل، فظن الرجل أنه يذهب إلى مجلس وعظه، فقال في نفسه أقول له في أثناء الطريق، فلما مر بدار الرجل دخل إليها فأحضر إليه ابنته فدعا لها وانصرف، فبرأت من ساعتها، وبعث إليه الخليفة الطائع لله من أحضره إليه وهو مغضب عليه، فخيف على ابن سمعون منه، فلما جلس بين يديه أخذ في الوعظ، وكان أكثر ما أورده من كلام علي بن أبي طالب، فبكى الخليفة حتى سمع نشيجه، ثم خرج من بين يديه وهو مكرم، فقيل للخليفة: رأيناك طلبته وأنت غضبان، فقال: بلغني أنه ينتقص عليا فأردت أن أعاقبه، فلما حضر أكثر من ذكر علي فعلمت أنه موفق، فذكرني وشفى ما كان في خاطري عليه.
ورأى بعضهم في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه عيسى بن مريم عليه السلام، وهو يقول: أليس من أمتي الاحبار أليس من أمتي أصحاب الصوامع.
فبينما هو يقول ذلك إذ دخل ابن سمعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيسى عليه السلام: أفي أمتك مثل هذا ؟ فسكت عيسى.
ولد ابن سمعون في سنة ثلثمائة، وتوفي يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة في هذه السنة، ودفن بداره.
قال ابن الجوزي: ثم أخرج بعد سنتين إلى
مقبرة أحمد بن حنبل وأكفانه لم تبل رحمه الله.
اخر ملوك السامانية نوح بن منصور ابن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل، أبو القاسم الساماني، ملك خراسان وغزنة وما وراء النهر، ولي الملك وعمره ثلاث عشرة سنة، واستمر في الملك إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر، ثم قبض عليه خواصه وأجلسوا مكانه أخاه عبد الملك، فقصدهم محمود بن سبكتكين فانتزع الملك من أيديهم، وقد كان لهم الملك مائة وستين سنة فباد ملكهم في هذا العام، ولله الامر من قبل ومن بعد.
أبو الطبيب سهل بن محمد ابن سليمان بن محمد بن سليمان الصعلوكي الفقيه الشافعي إمام أهل نيسابور، وشيخ تلك

الناحية، كان يحضر مجلسه خمسمائة محبرة، وكانت وفاته في هذه السنة على المشهور.
وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي في الارشاد: مات في سنة ستين وأربعمائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في ذي الحجة منها سقط في بغداد برد عظيم، بحيث جمد الماء في الحمامات، وبول الدواب في الطرقات.
وفيها جاءت رسل أبي طالب بن فخر الدولة في البيعة له فبايعه الخليفة وأمره على بلاد الري ولقبه مجد الدولة كهف الامة، وبعث إليه بالخلع والالوية، وكذلك فعل ببدر بن حسنويه ولقبه ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات.
وفيها هرب أبو عبد الله بن جعفر المعروف بابن الوثاب، المنتسب إلى جده الطائع، من السجن بدار الخلافة إلى البطيحة، فآواه صاحبها مهذب الدولة، ثم أرسل القادر بالله في أمره فجئ به مضيقا عليه فاعتقله، ثم هرب من الاعتقال أيضا فذهب إلى بلاد كيلان فادعى أنه الطائع لله، فصدقوه وبايعوه وأدوا إليه العشر، وغير ذلك من الحقوق، ثم اتفق مجئ بعضهم إلى بغداد فسألوا عن الامر فإذا ليس له أصل ولا حقيقة، فرجعوا عنه واضمحل أمره وفسد حاله، فانهزم عنهم.
وحج بالناس فيها
أمير المصريين، والخطبة بالحرمين للحاكم العبيدي قبحه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان...الخطابي أبو سليمان حمد ويقال أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي، أحد المشاهير الاعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، له من المصنفات معالم السنن وشرح البخاري، وغير ذلك.
وله شعر حسن.
فمنه قوله: ما دمت حيا فدار الناس كلهم * فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى * عما قليل نديما للندامات توفي بمدينة بست في ربيع الاول من هذه السنة، قاله ابن خلكان.
الحسين بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن بكير (1) بن عبد الله الصيرفي الحافظ المطبق سمع إسماعيل الصفار وابن
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 3 / 1017 وفي الاصل: بكر .

السماك والنجاد والخلدي وأبا بكر الشاشي.
وعنه ابن شاهين والازهري والتنوخي، وحكى الازهري: أنه دخل عليه وبين يديه أجزاء كبار فجعل إذا ساق إسنادا أورد متنه من حفظه وإذا سرد متنا ساق إسناده من حفظه.
قال: وفعلت هذا معه مرارا، كل ذلك يورد الحديث إسنادا ومتنا كما في كتابه.
قال: وكان ثقه فحسدوه وتكلموا فيه.
وحكى الخطيب: أن ابن أبي الفوارس اتهمه بأنه يزيد في سماع الشيوخ، ويلحق رجالا في الاحاديث ويصل المقاطيع.
توفي في ربيع الاول (1) منها عن إحدى وسبعين (2) سنة.
صمصامة الدولة ابن عضد الدولة صاحب بلاد فارس، خرج عليه ابن عمه أبو نصر بن بختيار فهرب منه ونجا في جماعة من الاكراد، فلما وغلوا به أخذوا ما في خزائنه وحواصله، ولحقه أصحاب ابن بختيار فقتلوه
وحملوا رأسه إليه، فلما وضع بين يدي ابن بختيار قال: هذه سنة سنها أبوك.
وكان ذلك في ذي الحجة من هذه السنة، وكان عمره يوم قتل خمسا وثلاثين سنة (3)، ومدة ملكه منها تسع سنين وأشهر (4).
عبد العزيز بن يوسف الحطان أبو القاسم، كاتب الانشاء لعضد الدولة، ثم وزر لابنه بهاء الدولة خمسة أشهر، وكان يقول الشعر.
توفي في شعبان منها...محمد بن أحمد ابن إبراهيم أبو الفتح (5) المعروف بغلام الشنبوذي، كان عالما بالقراءات وتفسيرها، يقال إنه كان يحفظ خمسين ألف بيت من الشعر، شواهد للقرآن، ومع هذا تكلموا في روايته عن أبي الحسين بن شنبوذ، وأساء الدار قطني القول فيه.
توفي في صفر منها، وولد سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 1017: توفي في ربيع الآخر.
309 (2) في تذكرة الحفاظ، والوافي بالوفيات 12 / 340: احدى وستين سنة.
(3) زيد في الكامل 9 / 143: وسبعة أشهر.
389 (4) في الكامل 9 / 143: تسع سنين وثمانية أشهر.
وفي العبر 4 / 467: تسع سنين.
277 (5) في الوافي 2 / 39: أبو الفرج .

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلثمائة فيها قصد محمود بن سبكتكين بلاد خراسان فاستلب ملكها من أيدي السامانية، وواقعهم مرات متعددة في هذه السنة وما قبلها، حتى أزال اسمهم ورسمهم عن البلاد بالكلية، وانقرضت دولتهم بالكلية، ثم صمد لقتال ملك الترك بما وراء النهر، وذلك بعد موت الخاقان الكبير الذي يقال له فائق، وجرت له معهم حروب وخطوب.
وفيها استولى بهاء الدولة على بلاد فارس وخوزستان،
وفيها أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون في المنتسبين إلى السنة فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضا جهل من هؤلاء، فإن هذا إنما كان في أوائل ربيع الاول من أول سني الهجرة، فإنهما أقاما فيه ثلاثا، وحين خرجا منه قصدا المدينة فدخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها، وكان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الاول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر.
ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتما يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتما كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها، ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة.
وفيها وقع برد شديد مع غيم مطبق، وريح قوية، بحيث أتلفت شيئا كثيرا من النخيل ببغداد، فلم يتراجع حملها إلى عادتها إلا بعد سنتين.
وفيها حج بركب العراق الشريفان الرضى والمرتضى فاعتقلهما أمير الاعراب ابن الجراح فافتديا أنفسهما منه بتسعة آلاف دينار من أموالهما فأطلقهما.
وممن توفي فيها من الاعيان...زاهر بن عبد الله ابن أحمد بن محمد بن عيسى السرخسي المقرئ الفقيه المحدث، شيخ عصره بخراسان، قرأ على ابن مجاهد، وتفقه بأبي إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأخذ اللغة والادب والنحو عن أبي بكر بن الانباري.
توفي في ربيع الآخر عن ست وتسعين (1) سنة.
عبد الله بن محمد بن إسحاق ابن سليمان بن مخلد بن إبراهيم بن مروز أبو القاسم المعروف بابن حبابة، روى عن البغوي وأبي بكر بن أبي داود وطبقتهما، وكان ثقة مأمونا مسندا، ولد ببغداد سنة تسع وتسعين ومائتين،
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 1021 وسبعون .

ومات في جمادى الاولى من هذه السنة عن تسعين سنة.
وصلى عليه الشيخ أبو حامد الاسفراييني شيخ الشافعية، ودفن في مقابر جامع المنصور.
ثم دخلت سنة تسعين وثلثمائة من الهجرة النبوية فيها ظهر بأرض سجستان معدن من ذهب كانوا يحفرون فيه مثل الآبار، ويخرجون منه ذهبا أحمر.
وفيها قتل الامير أبو نصر بن بختيار صاحب بلاد فارس واستولى عليها بهاء الدولة.
وفيها قلد القادر بالله القضاء بواسط وأعمالها أبا حازم محمد بن الحسن الواسطي، وقرئ عهده بدار الخلافة، وكتب له القادر وصية حسنة طويلة أوردها ابن الجوزي في منتظمه، وفيها مواعظ وأوامر ونواهي حسنة جيدة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد ابن أبي موسى أبو بكر الهاشمي الفقيه المالكي القاضي بالمدائن وغيرها، وخطب بجامع المنصور، وسمع الكثير، وروى عنه الجم الغفير، وعنه الدار قطني الكبير، وكان عفيفا نزها ثقة دينا.
توفي في محرم هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبو القاسم الدقاق، ويعرف بابن حنيفا قال القاضي العلامة أبو يعلى بن الفراء - وهذا جده - وروي باللام لا بالنون - حليفا - وقد سمى سماعا صحيحا، وروى عنه الازهري وكان ثقة مأمونا حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه.
الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء والد القاضي أبي يعلى، وكان صالحا فقيها على مذهب أبي حنيفة، أسند الحديث وروى عنه ابنه أبو حازم محمد بن الحسين.
عبد الله بن أحمد ابن علي بن أبي طالب البغدادي، نزيل مصر، وحدث بها فسمع منه الحافظ عبد الغني بن
سعيد المصري.

عمر بن إبراهيم ابن أحمد أبو نصر (1) المعروف بالكتاني المقري، ولد سنة ثلثمائة، روى عن البغوي وابن مجاهد وابن صاعد، وعنه الازهري وغيره، وكان ثقة صالحا.
محمد بن عبد الله بن الحسين ابن عبد الله بن هارون، أبو الحسين الدقاق، المعروف بابن أخي ميمي، سمع البغوي وغيره، وعنه جماعة، ولم يزل على كبر سنه يكتب الحديث إلى أن توفي وله تسعون سنة، وكان ثقة مأمونا دينا فاضلا حسن الاخلاق، توفي ليلة الجمعة لثمان وعشرين من شعبان منها.
محمد بن عمر بن يحيى ابن الحسين (2) بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشريف أبو الحسين العلوي، الكوفي، ولد سنة خمس عشرة، وسمع من أبي العباس بن عقدة وغيره، وسكن بغداد، وكانت له أموال كثيرة وضياع، ودخل عظيم وحشمة وافرة، وهمة عالية، وكان مقدما على الطالبيين في قته، وقد صادره عضد الدولة في وقت واستحوذ على جمهور أمواله وسجنه، ثم أطلقه شرف الدولة بن عضد الدولة، ثم صادره بهاء الدولة بألف ألف دينار ثم سجنه، ثم أطلقه واستنابه على بغداد.
ويقال إن غلاته كانت تساوي في كل سنة بألفي ألف دينار، وله وجاهة كبيرة جدا.
ورياسة باذخة.
الاستاذ أبو الفتوح برجوان الناظر في الامور بالديار المصرية في الدولة الحاكمية، وإليه تنسب حارة برجوان بالقاهرة، كان أولا من غلمان العزيز بن المعز، ثم صار عند الحاكم نافذ الامر مطاعا كبيرا في الدولة، ثم أمر بقتله في القصر فضربه الامير ريدان - الذي تنسب إليه الريدانية خارج باب الفتوح - بسكين في بطنه فقتله.
وقد ترك شيئا كثيرا من الاثاث والثياب، من ذلك ألف سراويل بيدقي بألف تكة من حرير،
قاله ابن خلكان.
وولى الحاكم بعده في منصبه الامير حسين بن القائد جوهر.
__________
(1) في تذكرة الحفاظ / 1011: أبو حفص.
(2) في الوافي 4 / 244: ابن أحمد بن يحيى بن الحسين بن زيد .

الجريري المعروف بابن طرار (1) المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود أبو الفرج النهرواني القاضي - لانه ناب في الحكم - المعروف بابن طرار الجريري، لانه اشتغل على ابن جرير الطبري، وسلك وراءه في مذهبه، فنسب إليه.
سمع الحديث من البغوي وابن صاعد وخلق، وروى عنه جماعة، وكان ثقة مأمونا عالما فاضلا كثير الآداب والتمكن في أصناف العلوم، وله المصنفات الكثيرة منها كتابه المسمى بالجليس والانيس، فيه فوائد كثيرة جمة، وكان الشيخ أبو محمد الباقلاني أحد أئمة الشافعية يقول: إذا حپضر المعافي حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بثلث ماله لاعلم الناس لوجب أن يصرف إليه.
وقال غيره: اجتمع جماعة من الفضلاء في دار بعض الرؤساء وفيهم المعافى فقالوا: هل نتذاكر في فن من العلوم ؟ فقال المعافى لصاحب المنزل - وكان عنده كتب كثيرة في خزانة عظيمة - مر غلامك أن يأتي بكتاب من هذه الكتب، أي كتاب كان نتذاكر فيه.
فتعجب الحاضرون من تمكنه وتبحره في سائر العلوم، وقال الخطيب البغدادي: أنشدنا الشيخ أبو الطيب الطبري أنشدنا المعافى بن زكريا لنفسه: ألا قل لمن كان لي حاسدا * أتدري على من أسأت الادب أسأت على الله سبحانه * لانك لا ترضى لي ما وهب فجازاك عني بأن زادني (2) * وسد عليك وجوه الطلب توفي في ذي الحجة من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، رحمه الله.
ابن فارس صاحب المجمل، وقيل إنه توفي في سنة خمس وتسعين كما سيأتي.
أم السلامة بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة، أم الفتح، سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره، وعنها الازهري والتنوخي وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم، وأثنى عليها غير واحد في دينها وفضلها وسيادتها، وكان مولدها في رجب من سنة ثمان وتسعين، وتوفيت في رجب أيضا من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة، رحمها الله تعالى.
__________
(1) في الوفيات 5 / 224: طرارا، وتكتب بالهاء بدل الالف.
(2) في الوفيات: فجازاك عنه بأن زادني.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلثمائة فيها بايع الخليفة القادر بالله لولده أبي الفضل بولاية العهد من بعده، وخطب له على المنابر بعد أبيه، ولقب بالغالب بالله، وكان عمره حينئذ ثماني سنين وشهورا، ولم يتم له ذلك وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له عبد الله بن عثمان الواقفي ذهب إلى بعض الاطراف من بلاد الترك، وادعى أن القادر بالله جعله ولي العهد من بعده، فخطبوا له هنالك، فلما بلغ القادر أمره بعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق، ثم أخذه بعض الملوك (1) فسجنه في قلعة إلى أن مات، فلهذا بادر القادر إلى هذه البيعة.
وفي يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة ولد الامير أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، وهذا هو الذي صارت إليه الخلافة، وهو القائم بأمر الله.
وفيها قتل الامير حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلة ببلاد الانبار، وكان قد عظم شأنه بتلك البلاد، ورام المملكة فجاءه القدر المحتوم فقتله بعض غلمانه الاتراك، وقام بالامر من بعده ولده قرواش.
وحج بالناس المصريون.
وفيها توفي من الاعيان..جعفر بن الفضل بن جعفر ابن محمد بن الفرات أبو الفضل، المعروف بابن حنزابة الوزير، ولد سنة ثمان وثلثمائة ببغداد، ونزل الديار المصرية ووزر بها للامير كافور الاخشيدي، وكان أبوه وزيرا للمقتدر، وقد
سمع الحديث من محمد بن هارون الحضرمي وطبقته من البغداديين، وكان قد سمع مجلسا من البغوي، ولم يكن عنده، وكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان له مجلس للاملاء بمصر، وبسببه رحل الدار قطني إلى مصر فنزل عنده وخرج له مسندا، وحصل له منه مال جزيل، وحدث عنه الدار قطني وغيره من الاكابر.
ومن مستجاد شعره قوله: من أخمل النفس أحياها وروحها * ولم يبت طاويا منها على ضجر إن الرياح إذا اشتدت عواصفها * فليس ترمي سوى العالي من الشجر (2) قال ابن خلكان: كانت وفاته في صفر، وقيل في ربيع الاول منها، عن ثنتين وثمانين سنة ودفن بالقرافة، وقيل بداره، وقيل إنه كان قد اشترى بالمدينة النبوية دارا فجعل له فيها تربة، فلما نقل إليها تلقته الاشراف لاحسانه إليهم، فحملوه وحجوا به ووقفوا به بعرفات، ثم أعادوه إلى المدينة فدفنونه بتربته.
__________
(1) وهو محمود بن سبكتكين (الكامل 9 / 166).
(2) في الفوات 1 / 293: فليس تقصف إلا عالي الشجر .

ابن الحجاج الشاعر (1) الحسين بن أحمد بن الحجاج أبو عبد الله الشاعر الماجن المقذع في نظمه، يستنكف اللسان عن التلفظ بها والاذنان عن الاستماع لها، وقد كان أبوه من كبار العمال، وولي وهو حسبة بغداد في أيام عز الدولة، فاستخلف عليها نوابا ستة، وتشاغل هو بالشعر السخيف والرأي الضعيف، إلا أن شعره جيد من حيث اللفظ، وفيه قوة تدل على تمكين واقتدار على سبك المعاني القبيحة التي هي في غاية الفضيحة، في الالفاظ الفصيحة وله غير ذلك من الاشعار المستجادة، وقد امتدح مرة صاحب مصر فبعث إليه بألف دينار.
وقول ابن خلكان بأنه عزل عن حسبة بغداد بأبي سعيد الاصطخري قول ضعيف لا يسامح بمثله، فإن أبا سعيد توفي في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، فكيف يعزل به ابن الحجاج وهو لا يمكن ادعاء أن يلي الحسبة بعده أبو سعيد الاصطخري، وابن خلكان قد أرخ وفاة هذا
الشاعر بهذه السنة.
ووفاة الاصطخري بما تقدم.
وقد جمع الشريف الرضي أشعاره الجيدة على حدة في ديوان مفرد ورثاه حين توفي هو وغيره من الشعراء.
عبد العزيز بن أحمد بن الحسن الجزري القاضي بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك من الجهات، وكان ظاهريا على مذهب داود، وكان لطيفا، تحاكم إليه وكيلان فبكى أحدهما في أثناء الخصومة فقال له القاضي: أرني وكالتك، فناوله فقرأها ثم قاله له: لم يجعل إليك أن تبكي عنه.
فاستضحك الناس ونهض الوكيل خجلا.
عيسى بن الوزير علي بن عيسى ابن داود بن الجراح، أبو القاسم البغدادي، وكان أبوه من كبار الوزراء، وكتب هو للطائع أيضا، وسمع الحديث الكثير، وكان صحيح السماع كثير العلوم، وكان عارفا بالمنطق وعلم الاوائل فاتهموه بشئ من مذهب الفلاسفة، ومن جيد شعره قوله: رب ميت قد صار بالعلم حيا * ومبقي قد مات جهلا وغيا فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا * لا تعدوا الحياة في الجهل شيا ولد في سنة ثنتين وثلثمائة وتوفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة، ودفن في داره ببغداد.
__________
(1) ترجمته في يتيمة الدهر 3 / 136 تاريخ بغداد 8 / 148 معجم الادباء 9 / 206 مطالع البدور 1 / 39 الامتاع والمؤانسة 1 / 137 .

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وثلثمائة في محرمها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فقصده ملكها جيبال في جيش عظيم فاقتتلوا قتالا شديدا، ففتح الله على المسلمين، وانهزمت الهنود، وأسر ملكهم جيبال، وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون (1) ألف دينار، وغنم المسلمون منهم أموالا عظيمة، وفتحوا بلادا كثيرة، ثم إن محمودا سلطان المسلمين أطلق ملك الهند احتقارا له واستهانة به (2)، ليراه أهل مملكته والناس في المذلة فحين وصل جيبال إلى بلاده ألقى نفسه في النار التي يعبدونها من دون الله فاحترق، لعنه
الله.
وفي ربيع الاول منها ثارت العوام على النصارى ببغداد فنهبوا كنيستهم التي بقطيعة الدقيق وأحرقوها، فسقطت على خلق فماتوا، وفيهم جماعة من المسلمين رجال ونساء وصبيان.
وفي رمضان منها قوي أمر العيارين وكثرت العملات ونهبت بغداد وانتشرت الفتنة.
قال ابن الجوزي: وفي ليلة الاثنين منها ثالث القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الشعاع وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراعين في رأى العين ثم توارى بعد ساعة.
وفي هذا الشهر قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد ليسيروا إلى الحجاز فبلغهم عيث الاعراب في الارض بالفساد، وأنه لا ناصر لهم ولا ناظر ينظر في أمرهم، فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج من بلاد المشرق أحد في هذه السنة.
وفي يوم عرفة منها ولد لبهاء الدولة ابنان توأمان فمات أحدهما بعد سبع سنين، وأقام الآخر حتى قام بالامر من بعد أبيه، ولقب شرف الدولة، وحج المصريون فيها بالناس.
وممن توفي فيها من الاعيان..ابن جني أبو الفتح [ عثمان بن جني ] الموصلي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة، وكان جني عبدا روميا مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الازدي الموصلي، ومن شعره في ذلك قوله: فإن أصبح بلا نسب * فعلمي في الورى نسبي على أني أؤول إلى * قروم سادة نجب قياصرة إذا نطقوا * أرمو الدهر ذا الخطب أولاك دعا النبي لهم * كفى شرفا دعاء نبي
__________
(1) في الكامل 9 / 169: قومت بمائتي ألف دينار.
وفي العبر 4 / 365: مائة ألف دينار.
(2) في العبر 4 / 365: ارتهن فيها ابنه وحافده .

وقد أقام ببغداد ودرس بها العلم إن أن توفي ليلة الجمعة لليلتين خلتا (1) من صفر منها، قال
ابن خلكان: ويقال إنه كان أعور وله في ذلك: صدودك عني ولا ذنب لي * يدل على نية فاسده فقد - وحياتك - مما بكيت * خشيت على عيني الواحدة ولولا مخافة أن لا أرا * ك لما كان في تركها فائده ويقال: إن هذه الابيات لغيره (2)، وكان قائلها أعور.
وله في مملوك حسن الصورة أعور قوله: له عين أصابت كل عين * وعين قد أصابتها العيون أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر: علي بن عبد العزيز القاضي بالري، سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد، وله أشعار حسان من ذلك قوله: يقولون لي فيك انقباض وإنما * رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم * ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما * بدا طمع صيرته لي سلما إذا قيل لي هذا مطمع قلت قد أرى * ولكن نفس الحر تحتمل الظما (3) ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي * لاخدم من لاقيت ولكن لا خدما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة * إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * ولو عظموه في النفوس عظما ولكن أهانوه، فهان، ودنسوا * محياه بالاطماع حتى تجهما ومن مستجاد شعره أيضا: ما تطمعت لذة العيش حتى * صرت للبيت والكتاب جليسا
__________
(1) في الوفيات المطبوع 3 / 248: بقيتا.
(2) في الوفيات قيل هي لابي منصور الديلمي.
(3) البيت في اليتيمة 4 / 25: إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى * ولكن نفس الحر لا تحمل الظما

ليس عندي شئ ألذ من ال * علم فما أبتغي سواه أنيسا ومن شعره أيضا: إذا شئت أن تستقرض المال منفقا * على شهوات النفس في زمن العسر فسل نفسك الانفاق من كنز صبرها * عليك وإنظارا إلى زمن اليسر فإن فعلت كنت الغني وإن أبت * فكل منوع بعدها واسع العذر توفي رحمه الله في هذه السنة، وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وفيها كانت وفاة الطائع لله على ما سنذكره وفيها منع عميد الجيوش الشيعة من النحو على الحسين في يوم عاشوراء، ومنع جهلة السنة بباب البصرة وباب الشعير من النوح على مصعب بن الزبير بعد ذلك بثمانية أيام، فامتنع الفريقان ولله الحمد والمنة.
وفي أواخر المحرم خلع بهاء الدولة وزيره أبا غالب محمد بن خلف عن الوزارة وصادره بمائة ألف دينار قاشانية، وفي أوائل صفر منها غلت الاسعار ببغداد جدا، وعدمت الحنطة حتى بيع الكر بمائة وعشرين دينارا.
وفيها برز عميد الجيوش إلى سر من رأى واستدعى سيد الدولة أبا الحسن، علي بن مزيد، وقرر عليه في كل سنة أربعين ألف دينار، فالتزم بذلك فقرره على بلاده.
وفيها هرب أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وولى بعد ذلك وزارة مجد الدولة أبو علي الخطير.
وفيها استناب الحاكم على دمشق وجيوش الشام أبا محمد الاسود ثم بلغه أنه عزر رجلا مغربيا سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وطاف به في البلد، فخاف من معرة ذلك فبعث إليه فعزله مكرا وخديعة.
وأنقطع الحج فيها من العراق بسبب الاعراب.
وممن توفي فيها الاعيان: إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو إسحاق الطبري الفقيه المالكي، مقدم المعدلين ببغداد، وشيخ القراءات، وقد سمع الكثير من الحديث، وخرج له الدار قطني خمسمائة جزء حديث، وكان كريما مفضلا على أهل العلم.
الطائع لله عبد الكريم بن المطيع تقدم خلعه وذكر ما جرى له، توفي ليلة عيد الفطر منها عن خمس أو ست وسبعين سنة (1)،
__________
(1) في المنتظم 7 / 224: ستا وسبعين، وفي دول الاسلام 1 / 237: ثلاثا وسبعين.
وفي الجوهر الثمين 1 / 188: سبع وسبعين .

منها سبع عشرة سنة وستة أشهر وخمسة أيام خليفة، وصلى عليه الخليفة القادر فكبر عليه خمسا، وشهد جنازته الاكابر، ودفن بالرصافة.
محمد بن عبد الرحمن بن العباس بن زكريا أبو طاهر المخلص، شيخ كبير الرواية، سمع البغوي وابن صاعد وخلقا، وعنه البرقاني الازهري والخلال والتنوخي، وكان ثقة من الصالحين.
توفي في رمضان منها عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله.
محمد بن عبد الله (1) أبو الحسن السلامي الشاعر المجيد، له شعر مشهور، ومدائح في عضد الدولة وغيره.
ميمونة بنت شاقولة والواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يوما في وعظها أن ثوبها الذي عليها - وأشارت إليه - له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها.
قالت والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعا، وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا حائط يريد أن
ينقض فقلت لامي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار ؟ فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئا ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة (إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا) [ فاطر: 41 ] اللهم ممسك السموات الارض أمسكه.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلثمائة وفيها ولى بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن أحمد بن موسى الموسوي، قضاء القضاة والحج والمظالم، ونقابة الطالبيين، ولقب بالطاهر الاوحد، ذوي المناقب، وكان التقليد له بسيراج، فلما وصل الكتاب إلى بغداد لم يأذن له الخليفة القادر في قضاء القضاة، فتوقف حاله بسبب ذلك.
وفيها ملك أبو العباس بن واصل بلاد البطيحة وأخرج منها مهذب الدولة، فقصده زعيم الجيوش ليأخذها منه، فهزمه ابن واصل ونهب أمواله وحواصله، وكان في جملة ما أصاب في خيمة الخزانة ثلاثون ألف دينار، وخمسون ألف درهم.
وفيها خرج الركب العراقي إلى الحجاز في جحفل
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 2 / 335 الوافي بالوفيات 3 / 317 الامتاع 1 / 134 المنتظم 7 / 225

عظيم كبير وتجمل كثير، فاعترضهم الاصيفر أمير الاعراب، فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم، يقال لهما أبو الحسن الرفا وأبو عبد الله بن الزجاجي (1)، وكان من أحسن الناس قراءة، ليكلماه في شئ يأخذه من الحجيج، ويطلق سراحهم ليدركوا الحج، فلما جلسا بين يديه قرآ جميعا عشرا بأصوات هائلة مطربة مطبوعة، فأدهشه ذلك وأعجبه جدا، وقال لهما: كيف عيشكما ببغداد ؟ فقالا: بخير لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف.
فقال لهما.
هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد ؟ فقال: لا، ولا ألف درهم في يوم واحد.
قال: فإني أطلق لكما ألف ألف دينار في هذه اللحظة، أطلق لكما الحجيج كله، ولولا كما لما قنعت منهم بألف ألف دينار.
فأطلق الحجيج كله بسببهما، فلم يتعرض أحد من الاعراب لهم، وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين.
ولما وقف الناس بعرفات قرأ هذان
الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة فضج الناس بالبكاء من سائر الركوب لقراءتهما، وقالوا لاهل العراق: ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة، لا حتمال أن يصابا جميعا، بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما وتدعوا الآخر، فإذا أصيب سلم الآخر.
وكانت الحجة والخطبة للمصريين كماهي لهم من سنين متقدمة، وقد كان أمير العراق عزم على العود سريعا إلى بغداد على طريقهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبوية خوفا من الاعراب، وكثرة الخفارات، فشق ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرآ (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) الآيات [ التوبة: 120 ] فضج الناس بالبكاء وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والامير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة.
ولما رجع هذا القارئان رتبهما ولي الامر مع أبي بكر بن البهلول - وكان مقرئا مجيدا أيضا - ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان، فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم، وكانوا يطيلون الصلاة جدا ويتناوبون في الامامة، يقرأون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية، والناس لا ينصرفون من التراويح إلا في الثلث الاول من الليل، أو قريب النصف منه.
وقد قرأ ابن البهلول يوم في جامع المنصور قول تعالى (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [ الحديد: 16 ] فنهض إليه رجل صوفي وهو يتمايل فقال: كيف قلت ؟ فأعاد الآية، فقال الصوفي: بلى والله، وسقط ميتا رحمه الله.
قال ابن الجوزي: وكذلك وقع لابي الحسن بن الخشاب شيخ ابن الرفا، وكان تلميذا لابي بكر بن الادمي المتقدم ذكره، وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضا، قرأ ابن الخشاب هذا في جامع الرصافة في الاحياء هذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا) فتواجد رجل صوفي وقال: بلى والله قد آن، وجلس وبكى بكاء طويلا، ثم سكت سكتة فإذا هو ميت رحمه الله.
__________
(1) في الكامل 9 / 182: الدجاجي .

وممن توفي فيها من الاعيان...أبو علي الاسكافي ويلقب بالموفق، وكان مقدما عند بهاء الدولة، فولاه بغداد فأخذ أموالا كثيرة من اليهود ثم هرب إلى البطيحة، فأقام بها سنتين ثم قدم بغداد فولاه بهاء الدولة الوزارة، وكان شهما منصورا في الحرب ثم عاقبه بعد ذلك وقتله في هذه السنة، عن تسع وأربعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلثمائة فيها عاد مهذب الدولة إلى البطيحة ولم يمانعه ابن واصل، وقرر عليه في كل سنة لبهاء الدولة خمسين ألف دينار.
وفيها كان غلاء عظيم بإفريقية، بحيث تعطلت المخابز والحمامات، وذهب خلق كثير من الفناء، وهلك آخرون من شدة الغلاء، فنسأل الله حسن العافية والخاتمة آمين.
وفيها أصاب الحجيج في الطريق عطش شديد بحيث هلك كثير منهم.
وكانت الخطبة للمصريين.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد بن أحمد بن موسى بن جعفر أبو نصر البخاري، المعروف بالملاحمي، أحد الحفاظ، قدم بغداد وحدث بها عن محمود بن إسحاق عن البخاري، وروى عن الهيثم بن كليب وغيره، وحدث عنه الدار قطني، وكان من أعيان أصحاب الحديث.
توفي ببخارى في شعبان منها، وقد جاوز الثمانين.
محمد بن ابي إسماعيل علي بن الحسين بن الحسن بن القاسم أبي الحسن العلوي، ولد بهمذان ونشأ ببغداد، وكتب الحديث عن جعفر الخلدي وغيره، وسمع بنيسابور من الاصم وغيره، ودرس فقه الشافعي على علي بن أبي هريرة، ثم دخل الشام فصحب الصوفية حتى صار من كبارهم، وحج مرات على الوحدة، توفي في محرم من هذه السنة...أبو الحسين أحمد بن فارس ابن زكريا بن محمد بن حبيب اللغوي الرازي، صاحب المجمل في اللغة، وكان مقيما

بهمذان، وله رسائل حسان، أخذ عنه البديع صاحب المقامات (1)، ومن رائق شعره قوله: مرت بناء هيفاء مجدولة (2) * تركية تنمى لتركي ترنو بطرف فاتر فاتن * أضعف من حجة نحوي وله أيضا: إذا كنت في حاجة مرسلا * وأنت بها كلف مغرم فأرسل حكيما ولا توصيه * وذاك الحكيم هو الدرهم قال ابن خلكان: توفي سنة تسعين وثلثمائة، وقيل سنة خمس وتسعين، والاول أشهر.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلثمائة قال ابن الجوزي: في ليلة الجمعة مستهل شعبان طلع نجم يشبه الزهرة في كبره وكثرة ضوئه عن يسار القبلة يتموج، وله شعاع على الارض كشعاع القمر.
وثبت إلى النصف من ذي القعدة، ثم غاب.
وفيها ولي محمد بن الاكفاني قضاء جميع بغداد.
وفيها جلس القادر بالله للامير قرواش بن أبي حسان وأقره في إمارة الكوفة، ولقبه معتمد الدولة.
وفيها قلد الشريف الرضي نقابة الطالبيين، ولقب بالرضي ذي الحسنيين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين.
وفيها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فافتتح مدنا كبارا، وأخذ أموالا جزيلة، وأسر بعض ملوكهم وهو ملك كراشي (3) حين هرب منه لما افتتحها، وكسر أصنامها، فألبسه منطقته وشدها على وسطه بعد تمنع شديد وقطع خنصره ثم أطلقه إهانة له، وإظهارا لعظمة الاسلام وأهله.
وفيها كانت الخطبة للحاكم العبيدي، وتجدد في الخطبة أنه إذا ذكر الخطيب الحاكم يقوم الناس كلهم إجلالا له، وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له، وكانوا يسجدون عند ذكره، يسجد من هو في الصلاة ومن هو في الاسواق يسجدون لسجودهم، لعنه الله وقبحه.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو سعد (4) الاسماعيلي إبراهيم (5) بن إسماعيل أبو سعد الجرجاني، المعروف بالاسماعيلي، ورد بغداد والدار قطني
__________
(1) وهو بديع الزمان الهمذاني.
(2) في اليتيمة 3 / 405: مقدودة.
(3) في الكامل 9 / 187: كواكير، وكان الملك يعرف ببيدا.
(العبر 4 / 366 مختصرا أخبار البشر 2 / 137).
(4) من الكامل 9 / 190 والوافي 9 / 87 / 4002 وتاريخ جرجان للسهمي: ترجمة 170.
(5) في المصادر السابقة هو: اسماعيل بن أحمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن العباس .

حي فحدث عن أبيه أبي بكر الاسماعيلي والاصم بن عدي، وحدث عنه الخلال والتنوخي، وكان ثقة فقيها فاضلا، على مذهب الشافعي، عارفا بالعربية، سخيا جوادا على أهل العلم، وله ورع ورياسة إلى اليوم في بلده إلى ولده.
قال الخطيب: سمعت الشيخ أبا الطيب يقول: ورد أبو سعد الاسماعيلي بغداد فعقد له الفقهاء مجلسين تولى أحدهما أبو حامد الاسفراييني، وتولى الثاني أبو محمد الباجي، فبعث الباجي إلى القاضي المعافى بن زكريا الجريري يستدعيه إلى حضور المجلس ليجمل المجلس، وكانت الرسالة مع ولده أبي الفضل، وكتب على يده هذين البيتين: إذا أكرم القاضي الجليل وليه * وصاحبه ألفاه للشكر موضعا ولي حاجة يأتي بني بذكرها * ويسأله فيها التطول أجمعا فأجابه الجريري مع ولد الشيخ: دعا الشيخ مطواعا سميعا لامره * نواتيه طوعا حيث يرسم أصنعا وها أنا غاد في غد نحو داره * أبادر ما قد حده لي مسرعا توفي الاسماعيلي فجأة بجرجان في ربيع الآخر (1) وهو قائم يصلي في المحراب، في صلاة المغرب، فلما قرأ (إيا نعبد وإياك نستعين) فاضت نفسه فمات رحمه الله.
محمد بن أحمد ابن محمد بن جعفر بن محمد بن محمد بن بحير أبو عمرو المزكي، الحافظ النيسابوري،
ويعرف بالحيري (2)، رحل إلى الآفاق في طلب العلم، وكان حافظا جيد المذاكرة، ثقة ثبتا، حدث ببغداد وغيرها من البلاد، وتوفي في شعبان عن ثلاث وسبعين (3) سنة.
أبو عبد الله بن منده الحافظ محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده أبو عبد الله الاصفهاني الحافظ، كان ثبت الحديث والحفظ، رحل إلى البلاد الشاسعة، وسمع الكثير وصنف التاريخ، والناسخ والمنسوخ.
قال أبو العباس جعفر بن محمد: ما رأيت أحفظ من ابن منده، توفي في أصفهان في صفر منها.
__________
(1) في الوافي وتاريخ جرجان: في منتصف شهر ربيع الآخر.
(2) في تذكرة الحفاظ ص 1082: البحيري.
(3) في تذكرة الحفاظ وشذرات الذهب: وستين .

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلثمائة فيها كان خروج أبي ركوة على الحاكم العبيدي صاحب مصر.
وملخص أمر هذا الرجل أنه كان من سلالة هاشم بن عبد الملك بن مروان الاموي، واسمه الوليد، وإنما لقب بأبي ركوة لركوة كان يصحبها في أسفاره على طريق الصوفية، وقد سمع الحديث بالديار المصرية، ثم أقام بمكة ثم رحل إلى اليمن ثم دخل الشام، وهو في غضون ذلك يبايع من انقاد له، ممن يرى عنده همة ونهضة للقيام في نصرة ولد هشام، ثم إنه أقام ببعض بلاد مصر في محلة من محال العرب، يعلم الصبيان ويظهر التقشف والعبادة والورع، ويخبر بشئ من المغيبات، حتى خضعوا له وعظموه جدا، ثم دعا إلى نفسه وذكر لهم أنه الذي يدعى إليه من الامويين، فاستجابوا له (1) وخاطبوه بأمير المؤمنين، ولقب بالثائر بأمر الله المنتصر من أعداء الله، ودخل برقة في جحفل عظيم، فجمع له أهلها نحوا من مائتي ألف دينار، وأخذ رجلا من اليهود اتهم بشئ من الودائع فأخذ منه مائتي ألف دينار أيضا، ونقشوا الدراهم والدنانير بألقابه، وخطب بالناس يوم الجمعة ولعن الحاكم في خطبته ونعما فعل، فالتف على أبي ركوة من الجنود نحو من ستة عشر ألفا، فلما بلغ الحاكم أمره وما آل إليه حاله بعث بخمسمائة
ألف دينار وخمسة آلاف ثوب إلى مقدم جيوش أبي ركوة وهو الفضل بن عبد الله (2) يستميله إليه ويثنيه عن أبي ركوة، فحين وصلت الاموال إليه رجع عن أبي ركوة وقال له: إنا لا طاقة لنا بالحاكم، وما دمت بين أظهرنا فنحن مطلوبون بسببك، فاختر لنفسك بلدا تكون فيها.
فسأل أن يبعثوا معه فارسين يوصلانه إلى النوبة فإن بينه وبين ملكها مودة وصحبة، فأرسله، ثم بعث وراءه من رده إلى الحاكم بمصر، فلما وصل إليه أركبه جملا وشهره ثم قتله في اليوم الثاني، ثم أكرم الحاكم الفضل وأقطعه أقطاعا كثيرة.
واتفق مرض الفضل فعاده الحاكم مرتين، فلما عوفي قتله وألحقه بصاحبه وهذه مكافأة التمساح.
وفي رمضان منها عزل قرواش عما كان بيده ووليه أبو الحسن علي بن يزيد، ولقب بسند الدولة.
وفيها هزم يمين الدولة محمود بن سبكتكين ملك الترك عن بلاد خراسان وقتل من الاتراك خلقا كثيرا.
وفيها قتل أبو العباس بن واصل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة فطيف به بخراسان وفارس.
وفيها ثارت على الحجيج وهم بالطريق ريح سوداء مظلمة جدا، واعترضهم ابن الجراح أمير الاعراب فاعتاقهم عن الذهاب ففاتهم الحج فرجعوا إلى بلادهم فدخلوها في يوم التروية.
وكانت الخطبة بالحرمين للمصريين.
__________
(1) قال ابن الاثير إن سبب استجابتهم له أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في قتل القواد وحبسهم وأخذ أموالهم، وسائر القبائل معه في ضنك وضيق، (وخاصة) بني قرة قد آذهم وحبس منهم جماعة من أعيانهم، وقتل بعضهم.
(9 / 198 والعبر 4 / 58).
(2) في الكامل 9 / 200: الفضل بن عبد الله كان على جيوش الحاكم التي قابلت أبا ركوة.
وفي العبر 3 / 58: الفضل بن صالح.
والقائد الذي استماله الفضل من مقدمي جيش أبي ركوة هو ماضي بن مقرب .

وفيها توفي من الاعيان..عبد الصمد بن عمر بن إسحاق أبو القاسم الدينوري الواعظ الزاهد، قرأ القرآن ودرس على مذهب الشافعي على أبي سعيد الاصطخري، وسمع الحديث من النجاد، وروى عنه الصيمري، وكان ثقة صالحا، يضرب به
المثل في مجاهدة النفس، واستعمال الصدق المحض، والتعفف والتفقه والتقشف، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن وعظه ووقعه في القلوب، جاءه يوما رجل بمائة دينار فقال: أنا غني عنها، قال خذها ففرقها على أصحابك هؤلاء، فقال: ضعها على الارض.
فوضعها ثم قال للجماعة.
ليأخذ كل واحد منكم حاجته منها، فجعلوا يأخذون بقدر حاجاتهم حتى أنفذوها، وجاء ولده بعد ذلك فشكى إليه حاجتهم فقال: اذهب إلى البقال فخذ على ربع رطل تمر.
ورآه رجل وقد اشترى دجاجة وحلواء فتعجب من ذلك فاتبعه إلى دار فيها امرأة ولها أيتام فدفعها إليهم، وقد كان يدق السعد للعطارين بالاجرة ويقتات منه، ولما حضرته الوفاة جعل يقول: سيدي لهذه الساعة خبأتك.
توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة منها، وصلي عليه بالجامع المنصوري، ودفن بمقبرة الامام أحمد.
أبو العباس بن واصل صاحب سيراف والبصرة وغيرهم، كان أولا يخدم بالكرخ، وكان منصورا له أنه سيملك، كان أصحابه يهزؤون به، فيقول أحدهم: إذا ملكت فأي شئ تعطيني ؟ ويقول الآخر: ولني، ويقول الآخر: استخدمني، ويقول الآخر: اخلع علي: فقدر له أنه تقلبت به الاحوال حتى ملك سيراف والبصرة، وأخذ بلاد البطيحة من مهذب الدولة، وأخرجه طريدا، بحيث إنه احتاج في أثناء الطريق إلى أن ركب بقرة.
واستحوذ ابن واصل على ما هناك، وقصد الاهواز وهزم بهاء الدولة، ثم ظفر به بهاء الدولة فقتله في شعبان منها، وطيف برأسه في البلاد.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلثمائة فيها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند، ففتح حصونا كثيرة، وأخذ أموالا جزيلة وجواهر نفيسة، وكان في جملة ما وجد بيت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه خمسة عشر ذراعا مملوءا فضة، ولما رجع إلى غزنة بسط هذه الاموال كلها في صحن داره وأذن لرسل الملك فدخلوا عليه فرأوا ما بهرهم وهالهم، وفي يوم الاربعاء الحادي عشر من ربيع الآخر وقع ببغداد ثلج عظيم، بحيث بقي على وجه الارض ذراعا ونصفا (1)، ومكث أسبوعا لم يذب (2) وبلغ سقوطه إلى تكريت والكوفة وعبادان
__________
(1) في الكامل 9 / 208: وكان ببغداد نحو ذراع .

والنهروان.
وفي هذا الشهر كثرت العملات جهرة وخفية، حتى من المساجد والمشاهد ثم ظفر أصحاب الشرطة بكثير منهم فقطعوا أيديهم وكحلوهم.
قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه " على فتيا الشيخ أبي حامد الاسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في منتظمه " وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سببها أن بعض الهاشمين قصد أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم - وكان فقيه الشيعة - في مسجده بدرب رباح، فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الاكفاني والشيخ أبي حامد الاسفراييني، وجرت فتنة عظيمة طويلة، وأحضرت الشيعة مصحفا ذكروا أنه مصحف عبد الله بن مسعود، وهو مخالف للمصاحف كلها، فجمع الاشراف والقضاة والفقهاء في يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الاسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب الشيعة من ذلك غظبا شديدا، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه، وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا يا حاكم يا منصور، وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة، وجرت خطوب شديدة، وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فأخرج منها ثم شفع فيه، ومنعت القصاص من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلي رضي الله عنهم، وعاد الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته.
وفي شعبان منها زلزلت الدينور زلزالا شديدا، وسقطت منها دور كثيرة، وهلك للناس شئ كثير من الاثاث والامتعة، وهبت ريح سوداء بدقوقي وتكريت وشيراز، فأتلفت كثيرا من المنازل والنخيل والزيتون، وقتلت خلقا كثيرا، وسقط بعض شيراز ووقعت رجفة بشيراز غرق بسببها مراكب كثيرة في البحر.
ووقع بواسط برد زنة الواحدة مائة درهم وستة دراهم، ووقع
ببغداد في رمضان - وذلك في أيار - مطر عظيم سالت منه المزاريب.
تخريب قمامة في هذه السنة وفيها أمر الحاكم بتخريب قمامة وهي كنيسة النصارى ببيت المقدس، وأباح للعامة ما فيها من الاموال والامتعة وغير ذلك (1)، وكان سبب ذلك البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم الفصح من
__________
(2) في الكامل: بقي في الطرق نحو عشرين يوما.
(1) تقول الرواية الكنسية المعاصرة للحادث إن هذا السجل الشهير صيغ في تلك العبارة الموجزة " خرج أمر الامامة إليك بهدم قمامة، فاجعل سماءها أرضا، وطولها عرضا " وكان كاتب هذا السجل نصرانيا يسمى =

النار التي يحتالون بها، وهي التي يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء، وإنما هي مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الابريسم، والرقاع المدهونة بالكبريت وغيره، بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم والعوام، وهم إلى الآن يستعملونها في ذلك المكان بعينه.
وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس ببلاد مصر، ونودي في النصارى: من أحب الدخول في دين الاسلام دخل ومن لا يدخل فليرجع إلى بلاد الروم آمنا، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما يشرط عليهم من الشروط التي زادها الحاكم على العمرية، من تعليق الصلبان على صدورهم، وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال.
وفي الحمام يكون في عنق الواحد منهم قربة زنة خمسة أرطال، بأجراس، وأن لا يركبوا خيلا.
ثم بعد هذا كله أمر بإعادة بناء الكنائس التي هدمها وأذن لمن أسلم منهم في الارتداد إلى دينه.
وقال ننزه مساجدنا أن يدخلها من لا نية له، ولا يعرف باطنه، قبحه الله.
وممن توفي فيها من الاعيان..أبو محمد الباجي سبق ذكره، اسمه عبد الله بن محمد الباجي البخاري الخوارزمي، أحد أئمة الشافعية، تفقه على أبي القاسم الداركي ودرس مكانه، وله معرفة جيدة بالادب والفصاحة والشعر، جاء مرة ليزور
بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه الابيات: قد حضرنا وليس نقضي التلاقي * نسأل الله خير هذا الفراق إن تغب لم أغب وإن لم تغب * غبت كأن افتراقنا باتفاق توفي في محرم هذه السنة، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.
عبد الله بن أحمد ابن علي بن الحسين، أبو القاسم المعروف بالصيدلاني (1)، وهو آخر من حدث عن ابن صاعد من الثقات، وروى عنه الازهري، وكان ثقة مأمونا صالحا.
توفي في رجب من هذه السنة وقد جاوز التسعين.
الببغاء الشاعر عبد الواحد بن نصر بن محمد، أبو الفرج المخزومي، الملقب بالببغاء، توفي في شعبان من
__________
= ابن شترين، توفي بعد أيام من كتابته.
(تاريخ الانطاكي ص 196).
(1) الصيدلاني: نسبة إلى بيع الادوية والعقاقير .

هذه السنة، وكان أديبا فاضلا مترسلا شاعرا مطبقا، فمن ذلك قوله: يامن تشابه منه الخلق والخلق * فما تسافر إلا نحوه الحدق فورد (1) دمعي من خديك مختلس * وسقم جسمي من جفنيك مسترق لم يبق لي رمق أشكو هواك به * وإنما يتشكى من به رمق محمد بن يحيى أبو عبد الله الجرجاني، أحد العلماء الزهاد العباد، المناظرين لابي بكر الرازي، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وقد فلج في آخر عمره، وحين مات دفن مع أبي حينفة.
بديع الزمان صاحب المقامات، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد.
أبو الفضل الهمذاني، الحافظ
المعروف ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة، والمقامات الفائقة، وعلى منواله نسج الحريري، واقتفى أثره وشكر تقدمه، واعترف بفضله، وقد كان أخذ اللغة عن ابن فارس، ثم برز، وكان أحد الفضلاء الفصحاء، ويقال إنه سم وأخذه سكتة، فدفن سريعا.
ثم عاش في قبره وسمعوا صراخه فنبشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخذ على لحيته من هول القبر، وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة منها، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلثمائة فيها قتل علي بن ثمال نائب الرحبة من طرف الحاكم العبيدي، قتله عيسى بن خلاط العقيلي، وملكها، فأخرجه منها عباس (2) بن مرداس صاحب حلب وملكها، وفيها صرف عمرو بن عبد الواحد عن قضاء البصرة ووليه أبو الحسن بن أبي الشوارب، فذهب الناس يهنون هذا ويعزون هذا، فقال في ذلك العصفري: عندي حديث ظريف * بمثله يتغنى من قاضيين يعزى * هذا وهذا يهنا فذا يقول أكرهوني * وذا يقول استرحنا
__________
(1) في اليتيمة 1 / 316: توريد.
(2) في الكامل 9 / 210: صالح بن مرداس الكلابي .

ويكذبان جميعا * ومن يصدق منا ؟ وفي شعبان من هذه السنة عصفت ريح شديدة فألقت وحلا أحمر في طرقات بغداد.
فيها هبت على الحجاج ريح سوداء مظلمة واعترضهم الاعراب فصدوهم عن السبيل، واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فرجعوا، وأخذت بنو هلال طائفة من حجاج البصرة نحوا من ستمائة واحد، وأخذوا منهم نحوا من ألف ألف دينار، وكانت الخطبة فيها للمصريين.
وممن توفي فيها من الاعيان...عبد الله بن بكر بن محمد بن الحسين أبو أحمد الطبراني، سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد، وكان مكرما، سمع منه الدار قطني وعبد الغني بن سعيد ثم أقام بالشام بالقرب من جبل عند بانياس يعبد الله تعالى إلى أن مات في ربيع الاول منها.
محمد بن علي بن الحسين أبو مسلم كاتب الوزير بن خنزابة، روى عن البغوي وابن صاعد وابن دريد وابن أبي داود وابن عرفة وابن مجاهد وغيرهم، وكان آخر من بقي من أصحاب البغوي، وكان من أهل العلم والحديث والمعرفة والفهم، وقد تكلم بعضهم في روايته عن البغوي لان أصله كان غالبا مفسودا.
وذكر الصوري أنه خلط في آخر عمره.
أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الواحد (1) بن أحمد بن يونس بن عبد الاعلى الصدفي المصري، صاحب كتاب الزيج الحاكمي في أربع مجلدات، كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وقد وضع لمصر تاريخا نافعا يرجع العلماء إليه فيه، وأما هذا فإنه اشتغل في علم النجوم فنال من شأنه منالا جيدا، وكان شديد الاعتناء بعلم الرصد وكان مع هذا مغفلا سئ الحال، رث الثياب، طويلا يتعمم على طرطور طويل ويتطيلس فوقه، ويركب حمارا فمن رآه ضحك منه، وكان يدخل عل الحاكم فيكرمه ويذكر من تغفله ما يدل على اعتنائه بأمر نفسه، وكان شاهدا معدلا، وله شعر جيد، فمنه ما ذكره ابن خلكان:
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 429: وشذرات الذهب 3 / 156: عبد الرحمن .

أحمل نشر الريح عند هبوبه * رسالة مشتاق إلى (3) حبيبه بنفسي من تحيا النفوس بريقه * ومن طابت الدنيا وبطيبه يجدد وجدي طائف منه في الكرا * سرى موهنا في جفنه من رقيبه
لعمري لقد عطلت كأسي بعده * وغيبتها عني لطول مغيبه تمني أم أمير المؤمنين القادر بالله مولاة عبد الواحد بن المقتدر، كانت من العابدات الصالحات، ومن أهل الفضل والدين توفيت ليلة الخميس الثاني والعشرين من شعبان منها، وصلى عليها ابنها القادر، وحملت بعد العشاء إلى الرصافة.
ثم دخلت سنة أربعمائة من الهجرة في ربيع الآخر نقصت دجلة نقصا كثيرا، حتى ظهرت جزائر لم تغرق، وامتنع سير السفن في أعاليها من أذنة (2) والراشدية، فأمر بكرى تلك الاماكن، وفيها كمل السور على مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي بناه أبو إسحاق الارجاني، وذلك أن أبا محمد بن سهلان مرض فنذر إن عوفي ليبنينه فعوفي،.
وفي رمضان أرجف الناس بالخلفية القادر بالله بأنه مات فجلس للناس يوم جمعة بعد الصلاة وعليه البردة وبيده القضيب، وجاء الشيخ أبو حامد الاسفراييني فقبل الارض بين يديه وقرأ (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم) الآيات [ الاحزاب: 60 ] فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحا.
وفيها ورد الخبر بأن الحاكم أنفذ إلى دار جعفر بن محمد الصادق بالمدينة فأخذ منها مصحفا وآلات كانت بها، وهذه الدار لم تفتح بعد موت صاحبها إلى هذا الآن، وكان مع المصحف قعب خشب مطوق بحديد ودرقة خيزران وحربة وسرير، حمل ذلك كله جماعة من العلويين إلى الديار المصرية، فأطلق لهم الحاكم أنعاما كثيرة ونفقات زائدة، ورد السرير وأخذ الباقي، وقال: أنا أحق به.
فردوا وهم ذاموا له داعون عليه وبنى الحاكم فيها دارا للعلم وأجلس فيها الفقهاء، ثم بعد ثلاث سنين هدمها وقتل خلقا كثيرا ممن كان فيها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير.
وفيها عمر الجامع المنسوب إليه بمصر وهو جامع الحاكم، وتأنق في بنائه.
وفي ذي الحجة منها أعيد المؤيد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الاموي إلى ملكه بعد خلعه وحبسه مدة طويلة، وكانت الخطبة بالحرمين للحاكم صاحب مصر والشام.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) في الوفيات: لوجه.
(2) في الكامل 9 / 219: ما بين أوانا وقريب بغداد .

أبو أحمد الموسوي النقيب الحسين (1) بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الموسوي، والد الرضي والمرتضى، ولي نقابة الطالبيين مرات نحوا من خمس مرات، يعزل ويعاد، ثم أخر في آخر عمره، وتوفي عن سبع وتسعين سنة، وصلى عليه ابنه المرتضى، ودفن في مشهد الحسين.
وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع والمطلع فمنها: سلام الله تنقله الليالي * وتهديه الغدو إلى الرواح على جدث حسيب من لؤي * لينبوع العبادة والصلاح فتى لم يرو إلا من حلال * ولم يك زاده إلا المباح ولا دنست له أزر لزور * ولا علقت له راح براح خفيف الظهر من ثقل الخطايا * وعريان الجوارح من جناح مشوق في الامور إلى علاها * ومدلول على باب النجاح من القوم الذين لهم قلوب * بذكر الله عامرة النواحي بأجسام من التقوى مراض * لنصرتها وأديان صحاح الحجاج بن هرمز أبو جعفر نائبها بهاء الدولة على العراق، وكان تليده لقتال الاعراب والاكراد، وكان من المقدمين في أيام عضد الدولة، وكانت له خبرة تامة بالحرب، وحزمة شديدة، وشجاعة تامة وافرة، وهمة عالية وآراء سديدة، ولما خرج من بغداد في سنة ثنتين وسبعين وثلثمائة كثرت بها الفتن.
توفي بالاهواز عن مائة سنة وخمس سنين.
رحمه الله.
أبو عبد الله القمي المصري التاجر
كان ذا مال جزيل جدا، اشتملت تركته على أزيد من ألف ألف دينار، من سائر أنواع المال.
توفي بأرضي الحجاز ودفن بالمدينة النبوية عند قبر الحسن بن علي، رضي الله عنهم.
أبو الحسين بن الرفا المقري تقدم ذكره وقراءته على كبير الاعراب في سنة أربع وتسعين وثلثمائة، كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وأحلاهم أداء رحمه الله.
__________
(1) من ابن الاثير والاعلام.
وفي الاصل: الحسن وهو تحريف

ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة في يوم الجمعة الرابع من المحرم منها خطب بالموصل للحاكم العبيدي عن أمر صاحبها قرواش بن مقلد أبي منيع، وذلك لقهره رعيته، وقد سرد ابن الجوزي صفة الخطبة بحروفها.
وفي آخر الخطبة صلوا على آبائه المهدي ثم ابنه القائم ثم المنصور، ثم ابنه المعز، ثم ابنه العزيز، ثم ابنه الحاكم صاحب الوقت، وبالغوا في الدعاء لهم، ولا سيما للحاكم، وكذلك تبعته أعمالها من الانبار والمدائن وغيرها.
وكان سبب ذلك أن الحاكم ترددت مكاتباته ورسله وهداياه إلى قرواش يستمليه إليه، وليقبل بوجهه عليه، حتى فعل ما فعل من الخطبة وغيرها، فلما بلغ الخبر القادر بالله العباسي كتب يعاتب قرواش على ما صنع، ونفذ بهاء الدولة إلى عميد الجيوش بمائة ألف دينار لمحاربة قرواش.
فلما بلغ قرواشا رجع عن رأيه وندم على ما كان منه، وأمر بقطع الخطبة للحاكم من بلاده، وخطب للقادر على عادته.
قال ابن الجوزي: ولخمس بقين من رجب زادت دجلة زيادة كثيرة واستمرت الزيادت إلى رمضان، وبلغت أحدا وعشرين ذراعا وثلثا (1)، ودخل إلى أكثر دور بغداد.
وفيها رجع الوزير أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر الملك بعميد الجيوش.
وفيها عصى أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي ودعا إلى نفسه وتلقب بالراشد بالله.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق والخطبة للحاكم.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو مسعود صاحب الاطراف.
إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ الكبير، مصنف كتاب الاطراف على الصحيحين، رحل إلى بلاد شتى كبغداد والبصرة والكوفة وواسط وأصبهان وخراسان، وكان من الحفاظ الصادقين، والامناء الضابطين، ولم يرو إلا اليسير، روى عنه أبو القاسم وأبو ذر الهروي، وحمزة السهمي، وغيرهم.
توفي ببغداد في رجب وأوصى إلى أبي حامد الاسفراييني فصلى عليه، ودفن في مقبرة جامع المنصور قريبا من السكك.
وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه.
عميد الجيوش الوزير الحسن بن أبي جعفر أستاذ هرمز، ولد سنة خمسين وثلثمائة، وكان أبوه من حجاب عضد الدولة، وولاه بهاء الدولة وزارته سنة ثنتين وتسعين، والشرور كثيرة منتشرة، فمهد البلاد وأخاف العيارين واستقامت به الامور، وأمر بعض غلمانه أن يحمل صينية فيها دراهم مكشوفة من أول بغداد
__________
(1) في الكامل 9 / 226: إحدى وعشرين ذراعا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55