كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

والصالحية وإلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم، وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء الذي جدده وزخرفه بالقلعة، وكان ميمون النقيبة ما كسرت له راية قط، وقد استدعى الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه صحيح البخاري وغيره، وكان له ميل إلى الحديث وأهله، ولما توفي رحمه الله رآه بعض الناس وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال: ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا ؟ فقال ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم، وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء فهي معهم، ولقد صدق رحمه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرء مع
من أحب " (1) وقد كان أوصى بالملك من بعده لاخيه الصالح إسماعيل (2)، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناس بين يديه، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه، ثم إنه صادر جماعة من الدماشقة الذي قيل عنهم أنهم مع الكامل، منهم العالم تعاسيف وأولاد ابن مزهر وحبسهم ببصرى، وأطلق الحريري من قلعة عزاز، وشرط عليه أن لا يدخل دمشق، ثم قدم الكامل من مصر وانضاف إليه الناصر داود صاحب الكرك ونابلس والقدس، فحاصروا دمشق حصارا شديدا، وقد حصنها الصالح إسماعيل، وقطع المياه ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا، وأحرقت العقيبة وقصر حجاج، فافتقر خلق كثير واحترق آخرون، وجرت خطوب طويلة، ثم آل الحال في آخر (3) جمادى الاولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الكامل، على أن له بعلبك وبصرى، وسكن الامر، وكان الصلح بينهما على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، اتفق أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق فجزاه الله تعالى خيرا.
ودخل الكامل دمشق وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي كان أودعه فيه الاشرف، ونقل الاشرف إلى تربته، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى الامام الكبير، لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسب اجتماعهم في وقت واحد، ولنعم ما فعل رحمه الله.
وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح، اجتمع الناس على قارئ واحد وهو الامام الكبير في المحراب المقدم عند المنبر، ولم يبق به إمام يومئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد علي ولو ترك لكان حسنا والله أعلم.
ذكر وفاة الملك الكامل محمد بن العادل رحمه الله تعالى.
تملك الكامل [ دمشق ] (4) مدة شهرين (5) ثم أخذه أمراض
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وذلك لانه لم يخلف من الاولاد إلا بنتا واحدة تزوجها الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل.
(3) في تاريخ أبي الفداء 3 / 160: لاحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الاولى.
(4) من أبي الفداء وابن إياس.
(5) في تاريخ أبي الفداء: لم يلبث غير أيام.
وفي بدائع الزهور لابن إياس: فأقام في دمشق مدة يسيرة.

مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موته في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفي فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجدوه ميتا رحمه الله تعالى.
وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفر معرفته، وقد كان جيد الفهم يحب العلماء، ويسألهم أسئلة مشكلة، وله كلام جيد على صحيح مسلم، وكان ذكيا مهيبا ذا بأس شديد، عادل منصف له حرمة وافرة، وسطوة قوية، ملك مصر ثلاثين سنة (1)، وكانت الطرقات في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسر أحد أن يظلم أحدا، شنق جماعة من الاجناد أخذوا شعيرا لبعض الفلاحين بأرض آمد، واشتكى إليه بعض الركبدارية أن أستاذه استعمله ستة أشهر بلا أجرة، فأحضر الجندي وألبسه قباب الركبدارية، وألبس الركبداري ثياب الجندي، وأمر الجندي أن يخدم الركبدار ستة أشهر على هذه الهيئة، ويحضر الركبدار الموكب والخدمة حتى ينقضي الاجل فتأدب الناس بذلك غاية الادب.
وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج لعنهم الله، فرابطهم أربع سنين حتى استنقذه منهم، وكان يوم أخذه له واسترجاعه إياه يوما مشهودا، كما ذكرنا مفصلا رحمه الله تعالى.
وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين (2) من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع ذات الشباك الذي هناك قريبا من مقصورة ابن سنان، وهي الكندية التي عند الحلبية، نقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، ومن شعره يستحث أخاه الاشرف من بلاد الجزيرة حين كان محاصرا بدمياط: يا مسعفي إن كنت حقا مسعفي * فارحل بغير تقيد وتوقف
واطو المنازل والديار ولا تنخ * إلا على باب المليك الاشرف قبل يديه لا عدمت وقل له: * عني بحسن تعطف وتلطف إن مات صنوك عن قريب تلقه * ما بين حد مهند ومثقف أو تبط عن إنجاده فلقاؤه * يوم القيامة في عراص الموقف ذكر ما جرى بعده كان قد عهد لولده العادل وكان صغيرا بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، ولولده
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 268: نحو عشرين سنة، وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 161: عشرين سنة، وكان بها نائبا قبل ذلك قريبا من عشرين سنة، فحكم نائبا وملكا نحو أربعين سنة.
(2) في تاريخ أبي الفداء: لتسع بقين من رجب، وفي بدائع الزهور: في العشرين من رجب.

الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الامراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الامراء بها في الملك الناصر داود بن المعظم، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل، فكان ميل عماد الدين ابن الشيخ إلى الجواد، وآخرون إلى الناصر، وكان نازلا بدار أسامة، فانتظم أمر الجواد وجاءت الرسالة إلى الناصر أن أخرج من البلد، فركب من دار أسامة والعامة وراءه إلى القلعة لا يشكون في ولايته الملك، فسلك نحو القلعة فلما جاوز العمادية عطف برأس فرسه نحو باب الفرج، فصرخت العامة: لا لا لا، فسار حتى نزل القابون عند وطأة برزة.
فعزم بعض الامراء الاشرفية على مسكه، فساق فبات بقصر أم حكيم، وساقوا وراءه فتقدم إلى عجلون فتحصن بها وأمن.
وأما الجواد فإنه ركب في أبهة الملك وأنفق الاموال والخلع على الامراء قال السبط: فرق ستة آلاف ألف دينار وخمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى الخواطئ واستقر ملكه بدمشق، واجتمع عليه الامراء الشاميون والمصريون، ورحل الناصر داود من عجلون نحو غزة وبلاد
الساحل فاستحوذ عليها، فركب الجواد في طلبه ومعه العساكر الشامية والمصرية، وقال للاشرفية كاتبوه وأطمعوه، فلما وصلت إليه كتبهم طمع في موافقتهم، فرجع في سبعمائة راكب إلى نابلس، فقصده الجواد وهو نازل على جيتين، والناصر على سبسطية، فهرب منه الناصر فاستحوذوا على حواصله وأثقاله، فاستغنوا بها وافتقر بسببها فقرا مدقعا، ورجع الناصر إلى الكرك جريدة قد سلب أمواله وأثقاله، وعاد الجواد إلى دمشق مؤيدا منصورا.
وفيها اختلفت الخوارزمية على الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب كيفا، وتلك النواحي، وعزموا على القبض عليه، فهرب منهم ونهبوا أمواله وأثقاله، ولجأ إلى سنجار فقصده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ليحاصره ويأخذه في قفص إلى الخليفة، وكان أهل تلك الناحية يكرهون مجاورته لتكبره وقوة سطوته، فلم يبق إلى أخذه إلا القليل، فكاتب الخوارزمية واستنجد بهم ووعدهم بأشياء كثيرة، فقدموا إليه جرائد ليمنعوه من البدر لؤلؤ، فلما أحس بهم لؤلؤ هرب منهم فاستحوذوا على أمواله وأثقاله، فوجدوا فيها شيئا كثيرا لا يحد ولا يوصف، ورجع إلى بلده الموصل جريدة خائبا، وسلم الصالح أيوب مما كان فيه من الشدة.
وممن توفي فيها من الاعيان: محمد بن زيد ابن ياسين الخطيب جمال الدين الدولعي، نسبة إلى قرية بأصل الموصل، وقد ذكرنا ذلك عند ترجمة عمه عبد الملك بن ياسين الخطيب بدمشق أيضا، وكان مدرسا بالغزالية مع الخطابة،

وقد منعه المعظم في وقت عن الافتاء، فعاتبه السبط في ذلك، فاعتذر بأن شيوخ بلده هم الذين أشاروا عليه بذلك، لكثرة خطئه في فتاويه، وقد كان شديد المواظبة على الوظيفة حتى كاد أن لا يفارق بيت الخطابة، ولم يحج قط مع أنه كانت له أموال جزيلة، وقف مدرسة بجيرون وسبعا في الجامع.
ولما توفي ودفن بمدرسته التي بجيرون ولي الخطابة بعده أخ له وكان جاهلا، ولم يستقر فيها وتولاها الكمال بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبي، وولي تدريس الغزالية الشيخ عبد
العزيز بن عبد السلام.
محمد بن هبة الله بن جميل الشيخ أبو نصر بن الشيرازي، ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الكثير على الحافظ ابن عساكر وغيره، واشتغل في الفقه وأفتى ودرس بالشامية البرانية، وناب في الحكم عدة سنين، وكان فقيها عالما فاضلا ذكيا حسن الاخلاق عارفا بالاخبار وأيام العرب والاشعار، كريم الطباع حميد الآثار، وكانت وفاته يوم الخميس الثالث من جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
القاضي شمس الدين يحيى بن بركات ابن هبة الله بن الحسن الدمشقي قاضيها بن سنا الدولة، كان عالما عفيفا فاضلا عادلا منصفا نزها كان الملك الاشرف يقول: ما ولي دمشق مثله، وقد ولي الحكم ببلده المقدس وناب بدمشق عن القضاة، ثم استقل بالحكم، وكانت وفاته يوم الاحد السادس في القعدة، وصلي عليه بالجامع ودفن بقاسيون، وتأسف الناس عليه رحمه الله تعالى.
وتوفي بعده: الشيخ شمس الدين بن الحوبي القاضي زين الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الاسدي، عرف بابن الاستاذ الحلبي قاضيها بعد بهاء الدين بن شداد، وكان رئيسا عالما عارفا فاضلا، حسن الخلق والسمت، وكان أبوه من الصالحين الكبار رحمهم الله تعالى.
الشيخ الصالح المعمر أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز البغدادي، ظهر سماعه من أبي الوقت في سنة خمس عشرة وستمائة فانثال الناس عليه يسمعون منه، وتفرد بالرواية عنه في الدنيا بعد الزبيدي وغيره، توفي ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان رحمه الله تعالى.

الامير الكبير المجاهد المرابط: صارم الدين
خطلبا بن عبد الله مملوك شركس ونائبه بعده مع ولده على تنين وتلك الحصون، وكان كثير الصدقات، ودفن مع أستاذه بقباب شركس، وهو الذي بناها بعد أستاذه، وكان خيرا قليل الكلام كثير الغزو مرابطا مدة سنين رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة فيها قضى الملك الجواد على الصفي بن مرزوق وصادره بأربعمائة ألف دينار، وحبسه بقلعة حمص، فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء.
وكان ابن مرزوق محسنا إلى الجواد قبل ذلك إحسانا كثيرا.
وسلط الجواد خادما لزوجته يقال له الناصح فصادر الدماشقة وأخذ منهم نحوا من ستمائة ألف دينار، ومسك الامير عماد الدين بن الشيخ الذي كان سبب تمليكه دمشق، ثم خاف من أخيه فخر الدين بن الشيخ الذي بديار مصر، وقلق من ملك دمشق، وقال إيش أعمل بالملك ؟ باز وكلب أحب إلي من هذا.
ثم خرج إلى الصيد وكاتب الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فتقايضا من حصن كيفا وسنجار وما تبع ذلك إلى دمشق، فملك الصالح دمشق ودخلها في مستهل جمادى الاولى (1) من هذه السنة، والجواد بين يديه بالغاشية، وندم على ما كان منه، فأراد أن يستدرك الفائت فلم يتفق له، وخرج من دمشق والناس يلعنونه بوجهه، بسبب ما أسداه إليهم من المصادرات، وأرسل إليه الصالح أيوب ليرد إلى الناس أموالهم فلم يلتفت إليه، وسار وبقيت في ذمته.
ولما استقر الصالح أيوب في ملك مصر كما سيأتي حبس الناصح الخادم، فمات في أسوأ حالة، من القلة والقمل، جزاء وفاقا (وما ربك بظلام للعبيد) [ فصلت: 46 ].
وفيها ركب الصالح أيوب من دمشق في رمضان قاصدا الديار المصرية ليأخذها من أخيه العادل لصغره، فنزل بنابلس واستولى عليها وأخرجها من يد الناصر داود، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ليقدم عليه ليكون في صحبته إلى الديار المصرية، وكان قد جاء إليه إلى دمشق ليبايعه فجعل يسوف به ويعمل عليه ويحالف الامراء بدمشق ليكون ملكهم، ولا يتجاسر أحد من الصالح أيوب لجبروته أن يخبره بذلك، وانقضت السنة وهو مقيم بنابلس يستدعي إليه وهو يماطله.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: في جمادى الآخرة.

جمال الدين الحصيري الحنفي محمود بن أحمد العلامة شيخ الحنفية بدمشق، ومدرس النورية، أصله من قرية يقال لها حصير من معاملة بخارى، تفقه بها وسمع الحديث الكثير، وصار إلى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها، لا سيما في أيام المعظم، كان يقرأ عليه الجامع الكبير، وله عليه شرح، وكان يحترمه ويعظمه ويكرمه، وكان رحمه الله غزير الدمعة كثير الصدقات، عاقلا نزها عفيفا، توفي يوم الاحد ثامن صفر ودفن بمقابر الصوفية تغمده الله برحمته.
توفي وله تسعون سنة، وأول درسه بالنورية في سنة إحدى عشرة (1) وستمائة، بعد الشرف داود الذي تولاها بعد البرهان مسعود، وأول مدرسيها رحمهم الله تعالى الامير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ صدر الدين علي بن حمويه، كان سببا في ولاية الجواد دمشق ثم سار إلى مصر فلامه صاحبها العادل بن الكامل بن العادل، فقال الآن أرجع إلى دمشق وآمر الجواد بالمسير إليك، على أن تكون له اسكندرية عوض دمشق، فإن امتنع عزلته عنها وكنت أنا نائبك فيها، فنهاه أخوه فخر الدين بن الشيخ عن تعاطي ذلك فلم يقبل، ورجع إلى دمشق فتلقاه الجواد إلى المصلى وأنزله عنده بالقلعة بدار المسرة، وخادعه عن نفسه ثم دس إليه من قتله (2) جهرة في صورة مستغيث به، واستحوذ على أمواله وحواصله، وكانت له جنازة حافلة، ودفن بقاسيون.
الوزير جمال الدين علي بن حديد (3) وزر للاشرف واستوزره الصالح أيوب أياما، ثم مات عقب ذلك، كان أصله من الرقة، وكان له أملاك يسيرة يعيش منها، ثم آل أمره أن وزر للاشرف بدمشق، وقد هجاه بعضهم، وكانت وفاته بالجواليق في جمادى الآخرة، ودفن بمقابر الصوفية.
جعفر بن علي
ابن أبي البركات بن جعفر بن يحيى الهمداني، راوية السلفي، قدم إلى دمشق صحبة الناصر داود، وسمع عليه أهلها، وكانت وفاته بها ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى، وله تسعون سنة.
__________
(1) في الاصل: احدى عشر.
(2) قال أبو الفداء في تاريخه: وجهز على عماد الدين ابن الشيخ من وقف له بقصة فلما أخذها منه عماد الدين ضربه ذلك الرجل بسكين فقتله.
وقال في شذرات الذهب 5 / 181: جهز عليه من الاسماعيلية من قتله في جمادى الاولى وله 55 سنة.
(3) في شذرات الذهب 5 / 181: علي بن جرير الرقي.

الحافظ الكبير زكي الدين أبو عبد الله (1) محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الاشبيلي، أحد من اعتنى بصناعة الحديث وبرز فيه، وأفاد الطلبة، وكان شيخ الحديث بمشهد ابن عروة، ثم سافر إلى حلب، فتوفي بحماه في رابع عشر رمضان من هذه السنة، وهو جد شيخنا الحافظ علم الدين بن القاسم بن محمد البرزالي، مؤرخ دمشق الذي ذيل على الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ذيلت أنا على تاريخه بعون الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة استهلت هذه السنة وسلطان دمشق نجم الدين الصالح أيوب بن الكامل مخيم عند نابلس، يستدعي عمه الصالح إسماعيل ليسير إلى الديار المصرية، بسبب أخذها من صاحبها العادل بن الكامل، وقد أرسل الصالح إسماعيل ولده وابن يغمور إلى صحبة الصالح أيوب، فهما ينفقان الاموال في الامراء ويحلفانهم على الصالح أيوب للصالح إسماعيل، فلما تم الامر وتمكن الصالح إسماعيل من مراده أرسل إلى الصالح أيوب يطلب منه ولده ليكون عوضه ببعلبك، ويسير هو إلى خدمته، فأرسله إليه وهو لا يشعر بشئ مما وقع، وكل ذلك عن ترتيب أبي الحسن غزال المتطبب
وزير الصالح - وهو الامين واقف أمينية بعلبك - فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر هجم الملك الصالح إسماعيل وفي صحبته أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى دمشق، فدخلاها بغتة من باب الفراديس، فنزل الصالح إسماعيل بداره من درب الشعارين، ونزل صاحب حمص بداره، وجاء نجم الدين بن سلامة فهنأ الصالح إسماعيل ورقص بين يديه وهو يقول: إلى بيتك جئت.
وأصبحوا فحاصروا القلعة وبها المغيث عمر بن الصالح نجم الدين، ونقبوا القلعة من ناحية باب الفرج، وهتكوا حرمتها ودخلوها وتسلموها واعتقلوا المغيث في برج هنالك.
قال أبو شامة: واحترقت دار الحديث وما هنالك من الحوانيت والدور حول القلعة.
ولما وصل الخبر بما وقع إلى الصالح أيوب تفرق عنه أصحابه والامراء خوفا على أهاليهم من الصالح إسماعيل، وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه وجاريته أم ولده خليل، وطمع فيه الفلاحون والفوارنة، وأرسل الناصر داود صاحب الكرك إليه من أخذه من نابلس مهانا على بغلة بلا مهماز ولا مقدمة، فاعتقله عنده سبعة أشهر، وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه الصالح أيوب ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراج الصالح من سجنه والافراج عنه وإطلاقه من الحبس يركب وينزل، فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر
__________
(1) في الاصل: أبو عبد الله بن محمد وهو خطأ.

داود، وبرز العادل من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدا قتال الناصر داود، فاضطرب الجيش عليه واختلفت الامراء، وقيدوا العادل واعتقلوه في خركاه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصر داود من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والاموال والجواهر.
قال الصالح أيوب: فأجبت إلى ذلك مكرها، ولا تقدر على ما اشترط جميع ملوك الارض، وسرنا فأخذته معي خائفا أن تكون هذه الكائنة من المصريين مكيدة، ولم يكن لي به حاجة، وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الامور ويخالف في الآراء السديدة.
فلما وصل الصالح إلى
المصريين ملكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالما مؤيدا منصورا مظفرا محبورا مسرورا، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فردها عليه ولم يقبلها منه.
واستقر ملكه بمصر (1).
وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم، فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقصدهم - وقد خرج الجواد للصيد - فأخذ البلد بغير شئ وصار الجواد إلى عانة، ثم باعها من الخليفة بعد ذلك.
وفي ربيع الاول درس القاضي الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد الجيلي بالشامية البرانية.
وفي يوم الاربعاء ثالث ربيع الآخر ولي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي خطابة جامع دمشق، وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم ببلد دمشق وغيرها، لانه حالفه على الصالح أيوب.
قال أبو شامة: وفي حزيران أيام المشمش جاء مطر عظيم هدم كثيرا من الحيطان وغيرها، وكنت يومئذ بالمزة.
وممن توفي فيها من الاعيان: صاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، ولاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعا (2) وخمسين سنة، وكان من أحسن الملوك سيرة، طهر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غاية الامن والعدل، لا يتجاسر أحد من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه غاية الاهانة، وكانت ملوك بني أيوب يتقونه لانه يرى أنه أحق بالامر منهم، لان جده هو
__________
(1) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 269: الصالح نجم الدين أيوب وهو السابع من ملوك بني أيوب بمصر، بويع بالسلطنة بعد خلع أخيه العادل، في يوم الاثنين خامس عشرين ذي القعدة سنة ست وثلاثين وستمائة، وكان له من العمر لما تولى السلطنة نحو أربع وثلاثين سنة (وفي أبي الفداء: لست بقين من ذي القعدة سنة 637 ه).
(2) في تاريخ أبي الفداء: نحو ست وخمسين سنة.

الذي فتح مصر، وأول من ملك منهم، وكانت وفاته رحمه الله بحمص، وعمل عزاءه بجامع دمشق عفا الله عنه بمنه.
القاضي الخويي (1) شمس الدين أحمد بن خليل ابن سعادة بن جعفر الخويي قاضي القضاة بدمشق يومئذ، وكان عالما بفنون كثيرة من الاصول والفروع وغير ذلك، كانت وفاته يوم السبت بعد الظهر السابع من شعبان، وله خمس وخمسون سنة بالمدرسة العادلية، وكان حسن الاخلاق جميل المعاشرة، وكان يقول لا أقدر على إيصال المناصب إلى مستحقيها، له مصنفات منها عروض قال فيه أبو شامة: أحمد بن الخليل أرشده ال * له لما أرشد الخليل بن أحمد ذاك مستخرج العروض وه * ذا مظهر السر منه والعود أحمد وقد ولي القضاء بعد رفيع الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل بن عبد الهادي الحنبلي مع تدريس العادلية، وكان قاضيا ببعلبك.
فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدين الذي كان سامريا فأسلم، وزر للصالح إسماعيل، واتفق هو وهذا القاضي على أكل أموال الناس بالباطل.
قال أبو شامة: ظهر منه سوء سيرة وعسف وفسق وجور ومصادرة في الاموال.
قلت: وقد ذكر غيره عنه أنه ربما حضر يوم الجمعة في المشهد الكمالي بالشباك وهو سكران، وأن قناني الخمر كانت تكون على بركة العادلية يوم السبت، وكان يعتمد في التركات اعتمادا سيئا جدا، وقد عامله الله تعالى بنقيض مقصوده، وأهلكه الله على يدي من كان سبب سعادته، كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة فيها سلم الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون (2) لصاحب صيدا الفرنجي، فاشتد الانكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما، وولى الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الابار، ثم خرج الشيخان من دمشق فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار
المصرية، فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والاكرام، وولاه خطابة القاهرة وقضاء مصر، واشتغل
__________
(1) من الوافي بالوفيات وشذرات الذهب، وفي الاصل: الحوبي خطأ.
والخويي: نسبة إلى خوي: مدينة باذربيجان من أقليم تبريز.
(2) من تاريخ أبي الفداء 3 / 169.
وفي الاصل: " شعيف أربون " وهو تحريف.

عليها أهلها فكان ممن أخذ عنه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمهما الله تعالى.
وفيها قدم رسول من ملك التتار تولى بن جنكيزخان إلى ملوك الاسلام يدعوهم إلى طاعته ويأمرهم بتخريب أسوار بلدانهم.
وعنوان الكتاب: من نائب رب السماء ماسح وجه الارض ملك الشرق والغرب قان قان.
وكان الكتاب مع رجل مسلم من أهل أصبهان لطيف الاخلاق، فأول ما ورد على شهاب الدين غازي بن العادل بميا فارقين، وقد أخبر بعجائب في أرضهم غريبة، منها أن في البلاد المتاخمة للسد أناسا أعينهم في مناكبهم، وأفواههم في صدورهم، يأكلون السمك وإذا رأوا أحدا من الناس هربوا.
وذكر أن عندهم بزرا ينبت الغنم يعيش الخروف منها شهرين وثلاثة، ولا يتناسل.
ومن ذلك أن بمازندران عينا يطلع فيها كل ثلاثين سنة خشبة عظيمة مثل المنارة، فتقيم طول النهار فإذا غابت الشمس غابت في العين فلا ترى إلى مثل ذلك الوقت، وأن بعض الملوك احتال ليمسكوها بسلاسل ربطت فيها فغارت وقطعت تلك السلاسل، ثم كانت إذا طلعت ترى فيها تلك السلاسل وهي إلى الآن كذلك.
قال أبو شامة: وفيها قلت المياه من السماء والارض، وفسد كثير من الزرع والثمار والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير: محيي الدين بن عربي صاحب " الفصوص " وغيره، محمد بن علي بن محمد بن عربي أبو عبد الله الطائي الاندلسي (1)، طاف البلاد وأقام بمكة مدة، وصنف فيها كتابه المسمى ب " الفتوحات المكية " في نحو عشرين مجلدا، فيها ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف،
وله كتابه المسمى بفصوص الحكم فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح، وله كتاب العبادلة وديوان شعر رائق، وله مصنفات أخر كثيرة جدا، وأقام بدمشق مدة طويلة قبل وفاته، وكان بنو الزكي لهم عليه اشتمال وبه احتفال ولجميع ما يقوله احتمال.
قال أبو شامة: وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل، وله شعر حسن وكلام طويل على طريق التصوف، وكانت له جنازة حسنة، ودفن بمقبرة القاضي محيي الدين بن الزكي بقاسيون، وكانت جنازته في الثاني (2) والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة.
وقال ابن السبط: كان يقول إنه يحفظ الاسم الاعظم ويقول إنه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلا في علم التصوف، وله تصانيف كثيرة.
__________
(1) ولد في شهر رمضان سنة 560 بمرسية من الاندلس له مصنفات كثيرة أوردها صاحب الوافي (4 / 176).
وله ترجمة طويلة في الشذرات 5 / 190 وما بعدها.
(2) في الوافي: الثامن والعشرين.

القاضي نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الشافعي، المعروف بابن الحنبلي، كان شيخا فاضلا دينا بارعا في علم الخلاف، ويحفظ الجمع بين الصحيحين للحميدي، وكان متواضعا حسن الاخلاق، قد طاف البلدان يطلب العلم ثم استقر بدمشق ودرس بالفداوية والصارمية والشامية الجوانية وأم الصالح، وناب في الحكم عن جماعة من القضاة إلى أن توفي بها، وهو نائب الرفيع الجيلي، وكانت وفاته يوم الجمعة سادس شوال ودفن بقاسيون.
ياقوت بن عبد الله أمين الدين الرولي منسوب إلى بيت أتابك، قدم بغداد مع رسول صاحب الموصل لؤلؤ.
قال ابن الساعي، اجتمعت به وهو شاب أديب فاضل، يكتب خطا حسنا في غاية الجودة، وينظم شعرا جيدا، ثم روى عنه شيئا من شعره.
قال وتوفي في جمادى الآخرة محبوسا.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة فيها قصد الملك الجواد أن يدخل مصر ليكون في خدمة الصالح أيوب، فلما وصل إلى الرمل توهم منه الصالح أيوب وأرسل إليه كمال الدين ابن الشيخ ليقبض عليه، فرجع الجواد فاستجار بالناصر داود، وكان إذ ذاك بالقدس الشريف، وبعث منه جيشا فالتقوا مع ابن الشيخ فكسروه وأسروه فوبخه الناصر داود ثم أطلقه، وأقام الجواد في خدمة الناصر حتى توهم منه فقيده وأرسله تحت الحوطة إلى بغداد، فأطلقه بطن من العرب عن قوة ملجأ إلى صاحب دمشق مدة، ثم انتقل إلى الفرنج، ثم عاد إلى دمشق فحبسه الصالح إسماعيل بعزتا إلى أن مات في سنة إحدى وأربعين كما سيأتي (1).
وفيها شرع الصالح أيوب في بناء المدارس بمصر، وبنى قلعة بالجزيرة غرم عليها شيئا كثيرا من بيت المال، وأخذ أملاك الناس وخرب نيفا وثلاثين مسجدا، وقطع ألف نخلة (2).
ثم أخربها
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه أن هلاكه كان سنة 638 ه.
بعد أن اعتقله الصالح اسماعيل صاحب دمشق ثم خنقه.
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 271: وكانت هذه القلعة من محاسن الزمان، وقد أسكن فيها مماليكه - وهو أول من جلب المماليك الاتراك إلى مصر حتى ضاقت بهم القاهرة وصاروا يشوشوا على الناس وينهبوا البضائع من الدكاكين فضج الناس بهم - البحرية وعمل لهذه القلعة ستين برجا محيطة بها وأشحنها بالاسلحة والآلات الحربية وادخر فيها الغلال خشية من محاصرة الفرنج.
وفيها يقول ابن قادوس: انظر لحسن القلعة الغراء إذ * محاسنها مثل النجوم تلالا

الترك في سنة إحدى وخمسين كما سيأتي بيانه.
وفيها ركب الملك المنصور بن إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص ومعه الحلبيون، فاقتتلوا مع الخوارزمية بأرض حران، فكسروهم ومزقوهم كل ممزق، وعادوا منصورين إلى بلادهم، فاصطلح شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين مع الخوارزمية وآواهم إلى بلده ليكونوا من حزبه.
قال أبو شامة: وفيها كان دخول الشيخ عز الدين إلى الديار المصرية فأكرمه صاحبها وولاه الخطابة بالقاهرة وقضاء القضاة بمصر، بعد وفاة القاضي
شرف الدين المرقع ثم عزل نفسه مرتين وانقطع في بيته رحمه الله تعالى.
قال: وفيها توفي الشمس ابن الخباز النحوي الضرير في سابع رجب.
والكمال بن يونس الفقيه في النصف من شعبان، وكانا فاضلي بلدهما في فنهما.
قلت أما: الشمس بن الخباز فهو أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي، الضرير النحوي الموصلي المعروف بابن الخباز، اشتغل بعلم العربية وحفظ المفصل والايضاح والتكملة والعروض والحساب، وكان يحفظ المجمل في اللغة وغير ذلك، وكان شافعي المذهب كثير النوادر والملح، وله أشعار جيدة، وكانت وفاته عاشر رجب وله من العمر خمسون سنة رحمه الله تعالى.
وأما: الكمال بن يونس فهو موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك العقيلي، أبو الفتح الموصلي شيخ الشافعية بها، ومدرس بعدة مدارس فيها، وكانت له معرفة تامة بالاصول والفروع والمعقولات والمنطق والحكمة، ورحل إليه الطلبة من البلدان، وبلغ ثمانيا وثمانين عاما، وله شعر حسن.
فمن ذلك ما امتدح به البدر لؤلؤ صاحب الموصل وهو قوله: لئن زينت الدنيا بما لك أمرها (1) * فمملكة الدنيا بكم تتشرف بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ * وسعيك مشكور وحكمك ينصف (2) كان مولده سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وتوفي للنصف من شعبان هذه السنة، رحمه الله تعالى قال أبو شامة: وفيها توفي بدمشق: عبد الواحد الصوفي الذي كان قسا راهبا في كنيسة مريم سبعين سنة، أسلم قبل موته بأيام، ثم توفي شيخا
__________
(1) البيت في الوفيات 5 / 315 وصدره: لئن شرفت أرض بمالك رقها...(2) في الوفيات: منصف.

كبيرا بعد أن أقام بخانقاه السميساطية أياما، ودفن بمقابر الصوفية، وكانت له جنازة حافلة، حضرت دفنه والصلاة عليه رحمه الله تعالى.
أبو الفضل احمد بن اسفنديار ابن الموفق بن أبي علي البوسنجي الواعظ، شيخ رباط الارجوانية.
قال ابن الساعي: كان جميل الصورة حسن الاخلاق كثير التودد والتواضع، متكلما متفوها منطقيا حسن العبارة جيد الوعظ طيب الانشاد عذب الايراد، له نظم حسن، ثم ساق عنه قصيدة يمدح بها الخليفة المستنصر.
أبو بكر محمد بن يحيى ابن المظفر بن علم بن نعيم المعروف بابن الحبير (1) السلامي، شيخ عالم فاضل، كان حنبليا ثم صار شافعيا، ودرس بعدة مدارس ببغداد للشافعية، وكان أحد المعدلين بها، تولى مباشرات كثيرة، وكان فقيها أصوليا عالما بالخلاف، وتقدم ببلده وعظم كثيرا، ثم استنابه ابن فضلان بدار الحريم، ثم صار من أمره أن درس بالنظامية وخلع عليه ببغلة، وحضر عنده الاعيان، وما زال بها حتى توفي عن ثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
قاضي القضاة ببغداد أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل (2) بن علي الواسطي الشافعي، اشتغل ببغداد وحصل وأعاد في بعض المدارس، ثم استنابه قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر في أيام الخليفة الظاهر بن الناصر، ثم ولي قضاء القضاة مستقلا، ثم ولي تدريس المستنصرية بعد موت أول من درس بها محيي الدين محمد بن فضلان، ثم عزل عن ذلك كله وعن مشيخة بعض الربط.
ثم كانت وفاته في هذا العام، وكان فاضلا دينا متواضعا رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ثم دخلت سنة أربعين وستمائة فيها توفي الخليفة المستنصر بالله وخلافة ولده المستعصم بالله، فكانت وفاة الخليفة أمير
__________
(1) في المطبوعة: الحسر تحريف.
والحبير: تصغير حبر.
(2) في شذرات الذهب 5 / 204: ابن نفيل.

المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة (1)، وله من العمر إحدى وخمسون سنة، وأربعة أشهر وسبعة أيام (2)، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما (3)، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة.
وكان جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة في دار الخلافة، فكان يقف على حافتها ويقول: أترى أعيش حتى أملاها، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول أترى أعيش حتى أنفقها كلها.
فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الاربعين فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب، تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والارامل والايتام وغيرهم، تقبل الله تعالى منه وجزاه خيرا، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الاربعة، وجعل فيها دار حديث وحماما ودار طب، وجعل لمستحقيها من الجوامك والاطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافا عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها.
ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد (4)، وقد احترق في أول هذه السنة المشهد الذي بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي، في حدود سنة خمسين وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه، وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له، وصنفوا فيه أخبارا وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها، وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه
المنتظر الذي لا حقيقة له، فلا عين ولا أثر، ولو لم يبن لكان أجدر، وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي بن محمد بن الباقر بن علي زين
__________
(1) في نهاية الارب 23 / 322: لعشر خلون من جمادى الاولى، وفي الجواهر الثمين 1 / 218: في ثاني وعشرين جمادى الآخرة سنة 639 ه.
(2) في دول الاسلام 2 / 145: وله اثنتان وخمسون سنة.
وفي خلاصة الذهب المسبوك ص 288: اثنتان وخمسون سنة وستة أشهر وسبعة عشر يوما.
(3) في خلاصة الذهب المسبوك ص 289: ست عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما.
وفي نهاية الارب 23 / 322: سبع عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر وثلاثين يوما.
وفي دول الاسلام 2 / 146: سبع عشرة سنة.
(4) وتسمى أيضا بالمدرسة الشاطئية.
قال صاحب مرآة الزمان 8 / 739 فيها: " وليس في الدنيا مثل هذه المدرسة، ولا بني مثلها في سالف الاعوام، فهي في العراق كجامع دمشق وقبة الصخرة بالشام " وبشأنها جاء في دول الاسلام حوليات 631 ه: " وفيها تكامل بناء المدرسة المستنصرية، قيل أن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار، غلت في بعض السنين سبعين ألف دينار ".

العابدين بن الحسين الشهيد بكربلاء بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم.
وكان المستنصر رحمه الله كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس، وكان جميل الصورة حسن الاخلاق بهي المنظر، عليه نور بيت النبوة رضي الله عنه وأرضاه.
وحكى أنه اجتاز راكبا في بعض أزفة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى شيخا كبيرا ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخرى، فقال: أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك ؟ أو أنت محتاج تأخذ من المحلتين ؟ فقال لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ كبير، وقد نزل بي الوقت وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام، فيشمت بي من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا
يراني أحد.
فبكى الخليفة رحمه الله وأمر له بألف دينار، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا حتى قيل إنه انشق قلبه من شدة الفرح، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما، ثم مات فخلف الالف دينار إلى الخليفة، لانه لم يترك وارثا.
وقد أنفق منها دينارا واحدا، فتعجب الخليفة من ذلك وقال: شئ قد خرجنا عنه لا يعود إلينا، تصدقوا بها على فقراء محلته، فرحمه الله تعالى.
وقد خلف من الاولاد ثلاثة، اثنان شقيقان وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله، والامير أبو القاسم عبد العزيز وأختهما من أم أخرى كريمة صان الله حجابها.
وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة، ولم يستوزر أحدا بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة، ثم كان بعده نصر الدين أبو الازهر أحمد بن محمد الناقد الذي كان أستاذ دار الخلافة، والله تعالى أعلم بالصواب.
خلافة المستعصم بالله أمير المؤمنين وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار بأمر هلاكو بن تولى ملك التتار بن جنكيزخان لعنهم الله، في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضئ بالله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن أمير المؤمنين المقتفي لامر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الخليفة المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر، وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولي الخلافة يتلو بعضهم بعضا، ولم يتفق هذا لاحد قبل

المستعصم، أن في نسبه ثمانية نسقا ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد، وهو التاسع رحمه الله تعالى بمنه.
لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة أربعين وستمائة استدعي هو من التاج
يومئذ بعد الصلاة فبويع بالخلافة، ولقب بالمستعصم، وله من العمر يومئذ ثلاثون سنة وشهور، وقد أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حفظا وتجويدا، وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد أئمة الشافعية في زمانه، وقد أكرمه وأحسن إليه في خلافته، وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة حسن الاداء طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، وقد نظر في شئ من التفسير وحل المشكلات، وكان مشهورا بالخير مشكورا مقتديا بأبيه المستنصر جهده وطاقته، وقد مشت الامور في أيامه على السداد والاستقامة بحمد الله، وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل إقبال المستنصري، فبايعه أولا بنو عمه وأهله من بني العباس، ثم أعيان الدولة من الامراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من أولي الحل والعقد والعامة وغيرهم، وكان يوما مشهودا ومجمعا محمودا ورأيا سعيدا، وأمرا حميدا، وجاءت البيعة من سائر الجهات والاقطار والبلدان والامصار، وخطب له في سائر البلدان، والاقاليم والرساتيق، وعلى سائر المنابر شرقا وغربا، بعدا وقربا، كما كان أبوه وأجداده، رحمهم الله أجمعين.
وفيها وقع من الحوادث أنه كان بالعراق وباء شديد في آخر أيام المستنصر وغلا السكر والادوية فتصدق الخليفة المستنصر بالله رحمه الله بسكر كثير على المرضى، تقبل الله منه.
وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان أذن الخليفة المستعصم بالله لابي الفرج عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - وكان شابا ظريفا فاضلا - في الوعظ بباب البدرية، فتكلم وأجاد وأفاد وامتدح الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة، سردها ابن الساعي بكمالها، ومن يشابه أباه فما ظلم، والشبل في المخبر مثل الاسد.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الحلبيين وبين الخوارزمية (1)، ومع الخوارزمية شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين، فكسرهم الحلبيون كسرة عظيمة منكرة، وغنموا من أموالهم شيئا كثيرا جدا، ونهبت نصيبين مرة أخرى، وهذه سابع عشر مرة نهبت في هذه السنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعاد الغازي إلى ميافارقين وتفرقت الخوارزمية يفسدون في الارض صحبة مقدمهم بركات خان، لا بارك الله فيه، وقدم على الشهاب
غازي منشور بمدينة خلاط فتسلمها وما فيها من الحواصل.
وفيها عزم الصالح أيوب صاحب مصر على دخول الشام فقيل له إن العساكر مختلفة فجهز عسكرا إليها وأقام هو بمصر يدير مملكتها.
__________
(1) وذلك قريب الخابور عند المجدل يوم الخميس لثلاث بقين من صفر، وعاد صاحب حلب وحمص إلى حلب في مستهل جمادى الاولى مؤيدين منصورين (تاريخ أبي الفداء 3 / 171).

وممن توفي فيها من الاعيان: المستنصر بالله أمير المؤمنين كما تقدم.
والحرمة المصونة الجليلة: خاتون بنت عز الدين مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر الاتابكية واقفة المدرسة الاتابكية بالصالحية، وكانت زوجة السلطان الملك الاشرف رحمه الله وفي ليلة وفاتها كانت وقفت مدرستها وتربتها بالجبل قاله أبو شامة: ودفن بها رحمها الله تعالى وتقبل منها (1).
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة فيها ترددت الرسل بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على أن يرد إليه ولده المغيث عمر بن الصالح أيوب المعتقل في قلعة دمشق، وتستقر دمشق في يد الصالح إسماعيل، فوقع الصلح على ذلك، وخطب للصالح أيوب بدمشق، فخاف الوزير أمين الدولة أبو الحسن غزال المسلماني، وزير الصالح إسماعيل من غائلة هذا الامر، فقال لخدومه: لا ترد هذا الغلام لابيه تخرج البلاد من يدك، هذا خاتم سليمان بيدك للبلاد، فعند ذلك أبطل ما كان وقع من الصلح ورد الغلام إلى القلعة، وقطعت الخطبة للصالح أيوب، ووقعت الوحشة بين الملكين، وأرسل الصالح أيوب إلى الخوارزمية يستحضرهم لحصار دمشق فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكانت الخوارزمية قد فتحوا في هذه السنة بلاد الروم وأخذوها من أيدي ملكها ابن علاء الدين، وكان قليل العقل يلعب
بالكلاب والسباع، ويسلطها على الناس، فاتفق أنه عضه سبع فمات فتغلبوا على البلاد حينئذ.
وفيها احتيط على أعوان القاضي الرفيع الجيلي، وضرب بعضهم بالمقارع، وصودروا ورسم على القاضي الرفيع بالمدرسة المقدمية داخل باب الفراديس، ثم أخرج ليلا وذهب به فسجن بمغارة أفقه من نواحي البقاع، ثم انقطع خبره.
وذكر أبو شامة: أنه توفي، ومنهم من قال إنه ألقي من شاهق، ومنهم من قال خنق، وذلك كله بذي الحجة من هذه السنة.
وفي يوم الجمعة الخامس
__________
(1) ولدت بقلعة حلب.
ودفنت بها - سنة 581 وماتت ليلة الجمعة لاحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى وكان مرضها قرحة في مراق البطن وحمى.
وكان عمرها نحو 59 سنة (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 171).

والعشرين منه قرئ منشور ولاية القضاء بدمشق لمحيي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي، بالشباك الكمالي من الجامع، كذا قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة.
وزعم السبط أن عزله إنما كان في السنة الآتية، وذكر أن سبب هلاكه أنه كتب إلى الملك الصالح يقول له: إنه قد أورد إلى خزانته من الاموال ألف ألف دينار من أموال الناس.
فأنكر الصالح ذلك، ورد عليه الجواب أنه لم يرد سوى ألف ألف درهم، فأرسل القاضي يقول فأنا أحاقق الوزير، وكان الصالح لا يخالف الوزير، فأشار حينئذ على الصالح فعزله لتبرأ ساحة السلطان من شناعات الناس، فعزله وكان من أمره ما كان.
وفوض أمر مدارسه إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح فعين العادلية للكمال التفليسي، والعذراوية لمحيي الدين بن الزكي الذي ولي القضاء بعده، والامينية لابن عبد الكافي، والشامية البرانية للتقي الحموي، وغيب القاضي الرفيع وأسقط عدالة شهوده، قال السبط: أرسله الامين مع جماعة على بغل باكاف لبعض النصارى إلى مغارة أفقه في جبل لبنان من ناحية الساحل، فأقام بها أياما ثم أرسل إليه عدلين من بعلبك ليشهدا عليه ببيع أملاكه من أمين الدولة، فذكر أنهما شاهداه وعليه يخفيفة وقندورة، وأنه استطعمهما شيئا من الزاد وذكر أن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا، فأطعماه من زوادتهما وشهدا عليه وانصرفا، ثم جاءه داود النصراني فقال له قم فقد أمرنا بحملك إلى بعلبك، فأيقن بالهلاك حينئذ، فقال دعوني أصلي ركعتين، فقال له:
قم، فقام يصلي فأطال الصلاة فرفسه النصراني فألقاه من رأس الجبل إلى أسفل الوادي الذي هناك، فما وصل حتى تقطع، وحكي أنه تعلق ذيله بسن الجبل فما زال داود يرميه بالحجارة حتى ألقاه إلى أسفل الوادي، وذلك عند السقيف المطل على نهر إبراهيم.
قال السبط: وقد كان فاسد العقيدة دهريا مستهزئا بأمور الشرع، يخرج إلى المجلس سكرانا ويحضر إلى الجمعة كذلك، وكانت داره كالحانات.
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال: وأخذ الموفق الواسطي أحد أمنائه - وكان من أكبر البلايا - أخذ لنفسه من أموال الناس ستمائة ألف درهم، فعوقب عقوبة عظيمة حتى أخذت منه، وقد كسرت ساقاه ومات تحت الضرب، فألقي في مقابر اليهود والنصارى، وأكلته الكلاب.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ شمس الدين أبو الفتوح أسعد بن المنجى التنوخي المعري الحنبلي، قاضي حران قديما، ثم قدم دمشق ودرس بالمسمارية وتولى خدما في الدولة المعظمية، وكانت له رواية عن ابن صابر والقاضيين الشهرزوري وابن أبي عصرون، وكانت وفاته في سابع ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله تعالى.

الشيخ الحافظ الصالح تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الازهر الصريفيني (1)، كان يدري الحديث وله به معرفة جيدة، أثنى عليه أبو شامة وصلي عليه بجامع دمشق ودفن بقاسيون رحمه الله.
واقف الكروسية محمد بن عقيل بن كروس، جمال الدين محتسب دمشق، كان كيسا متواضعا، توفي بدمشق في شوال ودفن بداره التي جعلها مدرسة، وله دار حديث رحمه الله تعالى وعفا عنه.
الملك الجواد يونس بن ممدود ابن العادل أبي بكر بن أيوب الملك الجواد، وكان أبوه أكبر أولاد العادل، تقلبت به
الاحوال وملك دمشق بعد عمه الكامل محمد بن العادل، وكان في نفسه جيدا محبا للصالحين، ولكن كان في بابه من يظلم الناس وينسب ذلك إليه، فأبغضته العامة وسبوه وألجأوه إلى أن قايض بدمشق الملك الصالح أيوب بن الكامل إلى سنجار وحصن كيفا، ثم لم يحفظهما بل خرجتا عن يده، ثم آل به الحال إلى أن سجنه الصالح إسماعيل بحصن عزتا، حتى كانت وفاته في هذه السنة، ونقل في شوال إلى تربة المعظم بسفح قاسيون، وكان عنده ابن يغمور معتقلا فحوله الصالح إسماعيل إلى قلعة دمشق، فلما ملكها الصالح أيوب نقله إلى الديار المصرية وشنقه مع الامين غزال وزير الصالح إسماعيل، على قلعة القاهرة، جزاء على صنعهما في حق الصالح أيوب رحمه الله تعالى.
أما ابن يغمور فإنه عمل عليه حتى حول ملك دمشق إلى الصالح إسماعيل، وأما أمين الدولة فإنه منع الصالح من تسليم ولده عمر إلى أبيه فانتقم منهما بهذا، وهو معذور بذلك.
مسعود بن أحمد بن مسعود ابن مازه المحاربي أحد الفقهاء الحنفية الفضلاء، وله علم بالتفسير وعلم الحديث، ولديه فضل غزير قدم بغداد صحبة رسول التتار للحج، فحبس مدة سنين ثم أفرج عنه، فحج ثم عاد، فمات ببغداد في هذه السنة، رحمه الله تعالى.
أبو الحسن علي بن يحيى بن الحسن ابن الحسين بن علي بن محمد البطريق بن نصر بن حمدون بن ثابت الاسدي الحلي، ثم
__________
(1) الصريفيني: نسبة إلى صريفين قرية ببغداد، وصريفين أخرى من قرى واسط.

الواسطي، ثم البغدادي، الكاتب الشاعر الشيعي، فقيه الشيعة، أقام بدمشق مدة وامتدح كثيرا من الامراء والملوك، منهم الكامل صاحب مصر غيره، ثم عاد إلى بغداد فكان يشغل الشيعة في مذهبهم، وكان فاضلا ذكيا جيد النظم والنثر، لكنه مخذول محجوب عن الحق.
وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من أشعاره الدالة على غزارة مادته في العلم والذكاء رحمه الله وعفا عنه.
ثم دخلت سنة اثنين وأربعين وستمائة فيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي (1) المشؤم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضى الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده قبحه الله وإياهم، وقد كان ابن العلقمي قبل هذه الوزارة أستاذ دار الخلافة، فلما مات نصر الدين محمد بن الناقد استوزر ابن العلقمي وجعل مكانه في الاستادارية الشيخ محيي الدين يوسف ابن أبي الفرج بن الجوزي، وكان من خيار الناس، وهو واقف الجوزية التي بالنشابين بدمشق تقبل الله منه.
وفيها جعل الشيخ شمس الدين علي بن محمد بن الحسين بن النيار مؤدب الخليفة شيخ الشيوخ ببغداد، وخلع عليه، ووكل الخليفة عبد الوهاب بن المطهر وكالة مطلقة، وخلع عليه.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق، فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والاموال والاقمشة والعساكر، فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك، والمنصور صاحب حمص، مع الفرنج (2) واقتتلوا مع الخوارزمية قتالا شديدا، فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة، هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤوس أطلاب المسلمين، وكانت كؤوس الخمر دائرة بين الجيوش فنابت كؤوس المنون عن كؤوس الزرجون، فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم، وخلقا من أمراء المسلمين، وبعثوا بالاسارى إلى الصالح أيوب بمصر، وكان يومئذ يوما مشهودا وأمرا محمودا، ولله الحمد.
وقد قال بعض أمراء المسلمين قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح.
وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئا كثيرا، وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها، فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعا كثيرة،
__________
(1) جاء في الفخري ص 337: وقيل لجده العلقمي لانه حفر النهر المسمى بالعلقمي.
(2) كان الصالح اسماعيل اتفق سنة 641 مع الفرنج - لما علم باستدعاء الصالح أيوب للخوارزمية - لمساعدته في
الاستيلاء على دمشق مقابل تسليمهم القدس بما فيها من المزارات، وعسقلان وطبريا فعمر الافرنج قلعتيهما (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 172 وابن خلدون 5 / 358).

وكسر جسر باب توما فسار النهر فتراجع الماء حتى صار بحيرة من باب توما وباب السلامة، فغرق جميع ما كان بينهما من العمران، وافتقر كثير من الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك المغيث عمر بن الصالح أيوب كان الصالح إسماعيل قد أسره وسجنه في برج قلعة دمشق، حين أخذها في غيبة الصالح أيوب.
فاجتهد أبوه بكل ممكن في خلاصه فلم يقدر، وعارضه فيه أمين الدولة غزال المسلماني، واقف المدرسة الامينية التي ببعلبك، فلم يزل الشاب محبوسا في القلعة من سنة ثمان وثلاثين إلى ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر من هذه السنة، فأصبح ميتا في محبسه غما وحزنا، ويقال إنه قتل فالله أعلم.
وكان من خيار أبناء الملوك، وأحسنهم شكلا، وأكملهم عقلا.
ودفن عند جده الكامل في تربته شمالي الجامع، فاشتد حنق أبيه أيوب على صاحب دمشق.
وممن توفي فيها شيخ الشيوخ بدمشق: تاج الدين أبو عبد الله بن عمر بن حمويه أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات، ذكر فيه أصول، وله السياسة الملوكية صنفها للكامل محمد وغير ذلك، وسمع الحديث وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل إنه لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب في سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، فقدم إلى ديار مصر وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه رحمه الله تعالى.
الوزير نصر الدين أبو الازهر أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الناقد البغدادي وزير المستنصر ثم ابنه المستعصم، كان من
أبناء التجار، ثم توصل إلى أن وزر لهذين الخليفتين، وكان فاضلا بارعا حافظا للقرآن كثير التلاوة، نشأ في حشمة باذخة، ثم كان في وجاهة هائلة، وقد أقعد في آخر أمره، وهو مع هذا في غاية الاحترام والاكرام، وله أشعار حسنة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة، توفي في هذه السنة وقد جاوز الخمسين رحمه الله تعالى.
نقيب النقباء خطيب الخطباء وكيل الخلفاء أبو طالب الحسين بن أحمد بن علي بن أحمد بن معين بن هبة الله بن محمد بن

علي بن الخليفة المهتدي بالله العباسي، كان من سادات العباسيين وأئمة المسلمين، وخطباء المؤمنين، استمرت أحواله على السداد والصلاح، لم ينقطع قط عن الخطابة ولم يمرض قط حتى كانت ليلة السبت الثامن والعشرين من هذه السنة، قام في أثناء الليل لبعض حاجاته فسقط على أم رأسه، فسقط من فمه دم كثير وسكت فلم ينطق كلمة واحدة يومه ذلك إلى الليل، فمات وكانت له جنازة حافلة رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة وهي سنة الخوارزمية، وذلك أن الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر بعث الخوارزمية ومعهم ملكهم بركات خان في صحبة معين الدين ابن الشيخ، فأحاطوا بدمشق يحاصرون عمه الصالح أبا الجيش صاحب دمشق، وحرق قصر حجاج، وحكر السماق، وجامع جراح خارج باب الصغير، ومساجد كثيرة، ونصب المنجنيق عند باب الصغير وعند باب الجابية، ونصب من داخل البلد منجنيقان أيضا، وتراأى الفريقان وأرسل الصالح إسماعيل إلى الامير معين الدين بن الشيخ بسجادة وعكاز وإبريق وأرسل يقول: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بمحاصرة الملوك، فأرسل إليه المعين بزمر وجنك وغلالة حرير أحمر أصفر، وأرسل يقول له: أما السجادة فإنها تصلح لي، وأما أنت فهذا أولى بك.
ثم أصبح ابن الشيخ فاشتد الحصار بدمشق، وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق قصر والده العادل، وامتد الحريق في زقاق الرمان إلى العقيبة
فأحرقت بأسرها، وقطعت الانهار وغلت الاسعار، وأخيفت الطرق وجرى بدمشق أمور بشعة جدا، لم يتم عليها قط، وامتد الحصار شهورا من هذه السنة إلى جمادى الاولى، فأرسل أمين الدولة يطلب من ابن الشيخ شيئا من ملابسه، فأرسل إليه بفرجية وعمامة وقميص ومنديل، فلبس ذلك الامين وخرج إلى معين الدين، فاجتمع به بعد العشاء طويلا، ثم عاد ثم خرج مرة أخرى فاتفق الحال على أن يخرج الصالح إسماعيل إلى بعلبك ويسلم دمشق إلى الصالح أيوب، فاستبشر الناس بذلك وأصبح الصالح إسماعيل خارجا إلى بعلبك ودخل معين الدين بن الشيخ فنزل في دار أسامة، فولى وعزل وقطع ووصل، وفوض قضاء القضاة إلى صدر الدين بن سنى الدولة، وعزل القاضي محيي الدين بن الزكي، واستناب ابن سنى الدولة التفليسي الذي ناب لابن الزكي والفرز السنجاري، وأرسل معين الدين بن الشيخ أمين الدولة غزال بن المسلماني وزير الصالح إسماعيل تحت الحوطة إلى الديار المصرية.
وأما الخوارزمية فإنهم لم يكونوا حاضرين وقت الصلح، فلما علموا بوقوع الصلح غضبوا وساروا نحو داريا فنهبوها وساقوا نحو بلاد الشرق، وكاتبوا الصالح إسماعيل فحالفوه على الصالح أيوب، ففرح بذلك ونقض الصلح الذي كان وقع منه، وعادت الخوارزمية فحاصروا دمشق، وجاء إليهم الصالح إسماعيل من بعلبك فضاق الحال على الدماشقة، فعدمت الاموال وغلت

الاسعار جدا، حتى إنه بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل وقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة وبيعت الاملاك بالدقيق، وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات وعجزوا عن التغسيل والتكفين والاقبار، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار، حتى أنتنت المدينة وضجر الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي هذه الايام توفي الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، شيخ دار الحديث وغيرها من المدارس، فما أخرج من باب الفرج إلا بعد جهد جهيد، ودفن بالصوفية رحمه الله.
قال ابن السبط: ومع هذا كانت الخمور دائرة والفسق ظاهرا، والمكوس بحالها وذكر
الشيخ شهاب الدين أن الاسعار غلت في هذه السنة جدا، وهلك الصعاليك بالطرقات، كانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابة ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها، كالدجاج.
قال: وأنا شاهدت ذلك.
وذكر تفاصيل الاسعار وغلاءها في الاطعمة وغيرها، ثم زال هذا كله في آخر السنة بعد عيد الاضحى ولله الحمد.
ولما بلغ الصالح أيوب أن الخوارزمية قد مالؤا عليه وصالحوا عمه الصالح إسماعيل، كانت الملك المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، فاستماله إليه وقوي جانب نائب دمشق معين الدين حسين بن الشيخ، ولكنه توفي في رمضان من هذه السنة كما سيأتي في الوفيات.
ولما رجع المنصور صاحب حمص عن موالاة الصالح إسماعيل شرع في جمع الجيوش من الحلبيين والتركمان والاعراب لاستنقاذ دمشق من الخوارزمية، وحصارهم إياها، فبلغ ذلك الخوارزمية فخافوا من غائلة ذلك، وقالوا دمشق ما تفوت، والمصلحة قتاله عند بلده، فساروا إلى بحيرة حمص، وأرسل الناصر دواد جيشه إلى الصالح إسماعيل مع الخوارزمية، وساق جيش دمشق فانضافوا إلى صاحب حمص، والتقوا مع الخوارزمية عند بحيرة حمص، وكان يوما مشهودا، قتل فيه عامة الخوارزمية، وقتل ملكهم بركات خان، وجئ برأسه على رمح، فتفرق شملهم وتمزقوا شذر مذر، وساق المنصور صاحب حمص إلى بعلبك فتسلمها الصالح أيوب، وجاء إلى دمشق فنزل ببستان سامة خدمة للصالح أيوب، ثم حدثته نفسه بأخذها فاتفق مرضه، فمات رحمه الله في السنة الآتية، ونقل إلى حمص، فكانت مدة ملكه بعد أبيه عشر سنين، وقام من بعده فيها ابنه الملك الاشرف مدة سنتين، ثم أخذت منه على ما سيأتي وتسلم نواب الصالح أيوب بعلبك وبصرى، ولم يبق بيد الصالح إسماعيل بلد يأوي إليه ولا أهل ولا ولد ولا مال، بل أخذت جميع أمواله ونقلت عياله تحت الحوطة إلى الديار المصرية، وسار هو فاستجار بالملك الناصر بن العزيز بن الظاهر غازي صاحب حلب، فآواه وأكرمه واحترمه، وقال الاتابك لؤلؤ الحلبي لابن أستاذه الناصر، وكان شابا صغيرا: انظر إلى عاقبة الظلم.
وأما الخوارزمية فإنهم ساروا إلى ناحية الكرك فأكرمهم الناصر داود صاحبها، وأحسن إليهم وصاهرهم وأنزلهم بالصلت

فأخذوا معها نابلس، فأرسل إليهم الصالح أيوب جيشا مع فخر الدين ابن الشيخ فكسرهم على الصلت وأجلاهم عن تلك البلاد، وحاصر الناصر بالكرك وأهانه غاية الاهانة، وقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية فدخل دمشق في أبهة عظيمة، وأحسن إلى أهلها، وتصدق على الفقراء والمساكين، وسار إلى بعلبك وإلى بصرى وإلى صرخد، فتسلمها من صاحبها عز الدين أيبك المعظمي، وعوضه عنها ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا.
وهذا كله في السنة الآتية.
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفا من غائلة مكرهم وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم " اتركوا الترك ما تركوكم " (1).
وفي هذه السنة ظهر ببلاد خوزستان على شق جبل داخله من الابنية الغريبة العجيبة ما يحار فيه الناظر، وقد قيل إن ذلك من بناء الجن، وأورد صفته ابن الساعي في تاريخه.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: الشيخ تقي الدين ابن (2) الصلاح عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الامام العلامة، مفتي الشام ومحدثها، الشهرزوري ثم الدمشقي، سمع الحديث ببلاد الشرق وتفقه هنالك بالموصل وحلب وغيرها، وكان أبوه مدرسا بالاسدية التي بحلب، وواقفها أسد الدين شيركوه بن شادي، وقدم هو الشام وهو في عداد الفضلاء الكبار.
وأقام بالقدس مدة ودرس بالصلاحية، ثم تحول منه إلى دمشق، ودرس بالرواحية ثم بدار الحديث الاشرفية، وهو أول من وليها من شيوخ الحديث، وهو الذي صنف كتاب وقفها، ثم بالشامية الجوانية، وقد صنف كتبا كثيرة مفيدة في علوم الحديث والفقه [ وله ] تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها.
وكان دينا زاهدا ورعا ناسكا، على طريق السلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين، مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة،
ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت وفاته بمنزله في دار الحديث الاشرفية ليلة الاربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وصلي عليه بجامع دمشق وشيعه الناس إلى داخل باب الفرج، ولم يمكنهم البروز لظاهره لحصار الخوارزمية، وما صحبه إلى جبانة الصوفية إلا نحو العشرة رحمه الله وتغمده برضوانه.
وقد أثنى عليه القاضي شمس الدين بن خلكان، وكان من شيوخه.
قال السبط أنشدني الشيخ تقي الدين من لفظه رحمه الله:
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) من تاريخ أبي الفداء 3 / 174 من شذرات الذهب: وفي الاصل " أبو ".

احذر من الواوات أربعة * فهن من الحتوف واو الوصية والوديعة * والوكالة والوقوف وحكى ابن خلكان عنه أنه قال: ألهمت في المنام هؤلاء الكلمات: ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك فإن لكل يوم رزقا جديدا، والالحاح في الطلب يذهب البهاء، وما أقرب الصنيع من الملهوف، وربما كان العسر نوعا من آداب الله، والحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة قبل أن تدرك، فإنك ستنالها في أوانها، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعا، ويغشاك القنوط.
ابن النجار الحافظ صاحب التاريخ محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار، أبو عبد الله البغدادي الحافظ الكبير، سمع الكثير ورحل شرقا وغربا، ولد (1) سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمس عشرة (2) سنة، والقراءات وقرأ بنفسه على المشايخ كثيرا حتى حصل نحوا من ثلاثة آلاف شيخ، من ذلك نحو من أربعمائة امرأة، وتغرب ثمانيا وعشرين سنة، ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياء كثيرة، من ذلك القمر المنير في المسند الكبير، يذكر لكل صحابي ما روى.
وكنز الايام (3) في معرفة السنن والاحكام، والمختلف والمؤتلف، والسابق واللاحق، والمتفق والمفترق، وكتاب الالقاب، ونهج الاصابة في معرفة الصحابة، والكافي في أسماء الرجال، وغير
ذلك مما لم يتم أكثره وله كتاب الذيل على تاريخ مدينة السلام، في ستة عشر مجلدا كاملا، وله أخبار مكة والمدينة وبيت المقدس، وغرر الفوائد في خمس مجلدات، وأشياء كثيرة جدا سردها ابن الساعي في ترجمته، وذكر أنه لما عاد إلى بغداد عرض عليه الاقامة في المدارس فأبى وقال: معي ما أستغني به عن ذلك فأشتري جارية وأولدها وأقام برهة ينفق مدة على نفسه من كيسه، ثم احتاج إلى أن نزل محدثا في جماعة المحدثين بالمدرسة المستنصرية حين وضعت، ثم مرض شهرين وأوصى إلى ابن الساعي في أمر تركته وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس من شعبان من هذه السنة، وله من العمر خمس وسبعون سنة وصلي عليه بالمدرسة النظامية، وشهد جنازته خلق كثير، وكان ينادى حول جنازته هذا حافظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان ينفي الكذب عنه.
ولم يترك وارثا، وكانت تركته عشرين دينارا وثياب بدنه، وأوصى أن يتصدق بها، ووقف خزانتين من الكتب بالنظامية تساوي ألف دينار، فأمضى ذلك الخليفة المستعصم، وقد أثنى عليه الناس ورثوه بمراث كثيرة، سردها ابن الساعي في آخر ترجمته.
__________
(1) في الوافي بالوفيات 5 / 9 وفوات الوفيات 4 / 36: ولد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
(2) في الاصل: خمسة عشر.
(3) في الوافي والفوات: كنز الامام، وفي شذرات الذهب: كنز الانام.

الحافظ ضياء الدين المقدسي ابن الحافظ محمد بن عبد الواحد [ بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل ] (1) سمع الحديث الكثير وكتب كثيرا وطوف وجمع وصنف وألف كتبا مفيدة حسنة كثيرة الفوائد، من ذلك كتاب الاحكام ولم يتمه، وكتاب المختارة وفيه علوم حسنة حديثية، وهي أجود من مستدرك الحاكم لو كمل، وله فضائل الاعمال وغير ذلك من الكتب الحسنة الدالة على حفظه واطلاعه وتضلعه من علوم الحديث متنا وإسنادا.
وكان رحمه الله في غاية العبادة والزهادة والورع والخير، وقد وقف كتبا كثيرة عظيمة لخزانة المدرسة الضيائية التي وقفها على أصحابهم من المحدثين والفقهاء، وقد وقفت
عليها أوقاف أخر كثيرة بعد ذلك (2).
الشيخ علم الدين أبو الحسن السخاوي (3) علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الاحد بن عبد الغالب الهمذاني المصري، ثم الدمشقي شيخ القراء بدمشق، ختم عليه ألوف من الناس، وكان قد قرأ على الشاطبي وشرح قصيدته، وله شرح المفصل وله تفاسير وتصانيف كثيرة، ومدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له حلقة بجامع دمشق، وولي مشيخة الاقراء بتربة أم الصالح، وبها كان مسكنه وبه توفي ليلة الاحد ثاني عشر جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون.
وذكر القاضي ابن خلكان أن مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وذكر من شعره قوله: قالوا غدا نأتي ديار الحمى * وينزل الركب بمغناهم وكل من كان مطيعا لهم * أصبح مسرورا بلقياهم قلت فلي ذنب فما حيلتي * بأي وجه أتلقاهم قالوا أليس العفو من شأنهم * لا سيما عمن ترجاهم ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان صلاح الدين، زوجها أخوها أولا بالامير سعد الدين مسعود بن معين الدين وتزوج هو بأخته عصمة الدين خاتون، التي كانت زوجة الملك نور الدين واقفة الخاتونية الجوانية،
__________
(1) ما بين معكوفين، مكانه بياض بالاصول، استدرك من الوافي بالوفيات 4 / 65.
(2) كانت ولادته بالدير المبارك بدمشق سنة 569 وتوفي يوم الاثنين 28 جمادى الآخرة سنة 643 وله من العمر 84 سنة ودفن بسفح قاسيون.
(3) السخاوي: نسبة إلى سخا بليدة من أعمال مصر، وقياسه سخوي ولكن الناس أطبقوا على النسبة الاولى.

والخانقاه البرانية، ثم لما مات الامير سعد الدين زوجها من الملك مظفر الدين صاحب إربل، فأقامت عنده بإربل أزيد من أربعين سنة حتى مات، ثم قدمت دمشق فسكنت بدار العقيقي حتى
كانت وفاتها في هذه السنة وقد جاوزت الثمانين، ودفنت بقاسيون، وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي، وكانت فاضلة، ولها تصانيف، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة، ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى وهي الآن شرقي الرباط الناصري، ثم لما ماتت الخاتون وقعت العالمة بالمصادرات وحبست مدة ثم أفرج عنها وتزوجها الاشرف صاحب حمص، وسافرت معه إلى الرحبة وتل راشد، ثم توفيت في سنة ثلاث وخمسين، ووجد لها بدمشق ذخائر كثيرة وجواهر ثمينة، تقارب ستمائة ألف درهم، غير الاملاك والاوقاف رحمها الله تعالى.
معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ (1) وزير الصالح نجم الدين أيوب، أرسله إلى دمشق فحاصرها مع الخوارزمية أول مرة حتى أخذها من يد الصالح إسماعيل، وأقام بها نائبا من جهة الصالح أيوب، ثم مالا الخوارزمية مع الصالح إسماعيل عليه فحصروه بدمشق، ثم كانت وفاته في العشر الاخر من رمضان هذه السنة، عن ست وخمسين سنة، فكانت مدة ولايته بدمشق أربعة أشهر ونصف.
وصلي عليه بجامع دمشق، ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين.
وفيها كانت وفاة القليجية للحنفية.
وهو الامير: سيف الدين بن قلج ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة، التي كانت سكنه بدار فلوس تقبل الله تعالى منه.
وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله بن الشيخ أبي عمر رحمه الله.
والسيف أحمد بن عيسى بن الامام موفق الدين بن قدامة (2) وفيها توفي إمام الكلاسة الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن أبي جعفر (3) مسند وقته، وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحا رحمه الله تعالى.
والمحدثان الكبيران
__________
(1) وهو صدر الدين محمد بن عمر الجويني.
(2) وهو أبو العباس أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي المحدث الحافظ ولد سنة 605 توفي في مستهل شعبان بسفح قاسيون ودفن به.
(3) وهو محمد بن أبي جعفر أحمد بن علي القرطبي ولد بدمشق أول سنة 575 سمع من عبد المنعم الفراوي بمكة ومن يحيى الثقفي والفضل البانياسي بدمشق، وكان حافظا ذا دين ووقار.
توفي في جمادى الاولى (شذرات الذهب 5 / 226).

الحافظان المفيدان شرف الدين أحمد بن الجوهري (1) وتاج الدين عبد الجليل الابهري.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة فيها كسر المنصور الخوارزمية عند بحيرة حمص واستقرت يد نواب الصالح أيوب على دمشق وبعلبك وبصرى، ثم في جمادى الآخرة كسر فخر الدين بن الشيخ الخوارزمية على الصلت كسرة فرق بقية شملهم، ثم حاصر الناصر بالكرك ورجع عنه إلى دمشق.
وقدم الصالح أيوب إلى دمشق في ذي القعدة فأحسن إلى أهلها وتسلم هذه المدن المذكورة، وانتزع صرخد من يد عز الدين أيبك، وعوضه عنها، وأخذ الصلت من الناصر داود بن المعظم وأخذ حصن الصبية من السعيد بن العزيز بن العادل، وعظم شأنه جدا، وزار في رجوعه بيت المقدس وتفقد أحواله وأمر بإعادة أسواره أن تعمر كما كانت في الدولة الناصرية، فاتح القدس، وأن يصرف الخراج وما يتحصل من غلات بيت المقدس في ذلك، وإن عاز شيئا صرفه من عنده.
وفيها قدمت الرسل من عند البابا الذي للنصارى تخبر بأنه قد أباح دم الا بدور ملك الفرنج لتهاونه في قتال المسلمين، وأرسل طائفة من عنده ليقتلوه، فلما انتهوا إليه كان استعد لهم وأجلس مملوكا له على السرير فاعتقدوه الملك فقتلوه، فعند ذلك أخذهم الا بدور فصلبهم على باب قصره بعد ما ذبحهم وسلخهم وحشى جلودهم تبنا، فلما بلغ ذلك البابا أرسل إليه جيشا كثيفا لقتاله فأوقع الله الخلف بينهم بسبب ذلك، وله الحمد والمنة.
وفيها هبت رياح عاصفة شديدة بمكة في يوم الثلاثاء من عشر ربيع الآخر، فألقت ستارة الكعبة المشرفة، وكانت قد عتقت، فإنها من سنة أربعين لم تجدد لعدم الحج في تلك السنين من ناحية الخليفة، فما سكنت الريح إلا والكعبة عريانة قد زال عنها شعار السواد، وكان هذا فألا على
زوال دولة بني العباس، ومنذرا بما سيقع بعد هذا من كائنة التتار لعنهم الله تعالى.
فاستأذن نائب اليمن عمر بن سول شيخ الحرم العفيف بن منعة في أن يكسو الكعبة، فقال لا يكون هذا إلا من مال الخليفة، ولم يكن عنده مال فاقترض ثلثمائة دينار واشترى ثياب قطن وصبغها سوادا وركب عليها طرازاتها العتيقة وكسى بها الكعبة ومكثت الكعبة ليس عليها كسوة إحدى وعشرين ليلة.
وفيها فتحت دار الكتب التي أنشأها الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي بدار الوزارة، وكانت في نهاية الحسن، ووضع فيها من الكتب النفيسة والنافعة شئ كثير، وامتدحها الشعراء بأبيات وقصائد حسانا وفي أواخر ذي الحجة طهر الخليفة المستعصم بالله ولديه الاميرين أبا العباس أحمد، وأبا الفضائل عبد الرحمن، وعملت ولائم فيها كل أفراح ومسرة، لا يسمع بمثلها من
__________
(1) وهو أحمد بن محمد بن ابراهيم بن نبهان الدمشقي " أبو العباس " سمع من أبي المجد القزويني كان ذكيا متقنا رئيسا ثقة مات وله أربعون سنة.

أزمان متطاولة، وكان ذلك وداعا لمسرات بغداد وأهلها في ذلك الزمان.
وفيها احتاط الناصر داود صاحب الكرك على الامير عماد الدين داود بن موسك بن حسكو، وكان من خيار الامراء الاجواد، واصطفى أمواله كلها وسجنه عنده في الكرك، فشفع فيه فخر الدين بن الشيخ لما كان محاصره في الكرك فأطلقه، فخرجت في حلقه جراحة فبطها فمات ودفن عند قبر جعفر والشهداء بمؤته (1) رحمه الله تعالى.
وفيها توفي ملك الخوارزمية قبلا بركات خان لما كسرت أصحابه عند بحيرة حمص كما تقدم ذكره وفيها توفي: الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص بدمشق، بعد أن سلم بعلبك للصالح أيوب، ونقل إلى حمص، وكان نزوله أولا ببستان أسامة (2)، فلما مرض (3) حمل إلى الدهشة بستان الاشرف بالنيرب فمات فيه.
وفيها توفي:
الصائن محمد بن حسان ابن رافع العامري الخطيب، وكان كثير السماع مسندا، وكانت وفاته بقصر حجاج رحمه الله تعالى.
وفيها توفي: الفقيه العلامة محمد بن محمود بن عبد المنعم المرامي (4) الحنبلي وكان فاضلا ذا فنون، أثنى عليه أبو شامة.
قال: صحبته قديما ولم يترك بعده بدمشق مثله في الحنابلة، وصلي عليه بجامع دمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
والضياء عبد الرحمن الغماري المالكي الذي ولي وظائف الشيخ أبي عمرو بن الحاجب حين خرج من دمشق سنة ثمان
__________
(1) في المطبوعة: بحوته وهو تحريف.
(2) في الاصل: سامة.
(3) وكان مرضه السل وقد مات في 11 صفر وحمل تابوته إلى حمص فدفن عند أبيه (شذرات الذهب - تاريخ أبي الفداء).
(4) في الوافي بالوفيات 5 / 11: المراتبي، والمراتبي نسبة إلى باب المراتب ببغداد.

وثلاثين وجلس في حلقته ودرس مكانه بزاوية المالكية والفقيه تاج الدين إسماعيل بن جميل بحلب، وكان فاضلا دينا سليم الصدر رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة فيها كان عود السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل من الشام إلى الديار المصرية، وزار في طريقه بيت المقدس وفرق في أهله أموالا كثيرة، وأمر بإعادة سوره كما كان في أيام عم أبيه الملك الناصر فاتح القدس.
ونزل الجيوش لحصار الفرنج ففتحت طبرية في عاشر صفر وفتحت عسقلان في أواخر جمادى الآخرة، وفي رجب عزل الخطيب عماد الدين داود بن خطيب بيت الابار عن الخطابة بجامع الاموي، وتدريس الغزالية، وولي ذلك للقاضي عماد الدين بن عبد
الكريم بن الحرستاني شيخ دار الحديث بعد ابن الصلاح.
وفيها أرسل الصالح أيوب يطلب جماعة من أعيان الدماشقة اتهموا بممالاة الصالح إسماعيل، منهم القاضي محيي الدين بن الزكي، وبنو صصرى وابن العماد الكاتب، والحليمي مملوك الصالح إسماعيل، والشهاب غازي والي بصرى، فلما وصلوا إلى مصر لم يكن إليهم شئ من العقوبات والاهانة، بل خلع على بعضهم وتركوا باختيارهم مكرمين.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسين بن الحسين بن علي ابن حمزة العلوي الحسيني، أبو عبد الله الافساسي النقيب قطب الدين، أصله من الكوفة وأقام ببغداد، وولي النقابة، ثم اعتقل بالكوفة، وكان فاضلا أديبا شاعرا مطبقا، أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة رحمه الله.
الشلوبين (1) النحوي هو عمر بن محمد بن عبد الله الازدي، أبو علي الاندلسي الاشبيلي، المعروف بالشلوبين.
وهو بلغة الاندلسيين الابيض الاشقر.
قال ابن خلكان: ختم به أئمة النحو، وكان فيه تغفل، وذكر له شعرا ومصنفات منها شرح الجزولية وكتاب التوطئة.
وأرخ وفاته بهذه السنة.
وقد جاوز الثمانين رحمه الله تعالى وعفا عنه.
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: الشلوبيني، قال: والشلوبيني نسبة إلى شلوبين وهو حصن منيع من حصون الاندلس من معاملة سواحل غرناطة على بحر الروم.
فقد وهم القاضي ابن خلكان ومن تابعه أن الشلوبين هو الابيض الاشقر.
بلغة أهل الاندلس لعدم وقوفهم على كتاب المغرب في حلى أهل المغرب لابن سعيد المغربي (3 / 177).

الشيخ علي المعروف بالحريري (1) أصله من قرية بسر شرقي ذرع، وأقام بدمشق مدة يعمل صنعة الحرير، ثم ترك ذلك وأقبل يعمل الفقيري على يد الشيخ علي المغربل، وابتنى له زاوية على الشرف القبلي، وبدرت منه
أفعال أنكرها عليه الفقهاء، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقي الدين بن الصلاح، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية وغيرهم، فلما كانت الدولة الاشرفية حبس في قلعة عزتا مدة سنين ثم أطلقه الصالح إسماعيل واشترط عليه أن لا يقيم بدمشق، فلزم بلده بسر مدة حتى كانت وفاته في هذه السنة، قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل: وفي رمضان أيضا توفي الشيخ علي المعروف بالحريري المقيم بقرية بسر في زاويته، وكان يتردد إلى دمشق، وتبعه طائفة من الفقراء وهم المعروفون بأصحاب الحريري أصحاب المنافي للشريعة، وباطنهم شر من ظاهرهم، إلا من رجع إلى الله منهم، وكان عند هذا الحريري من الاستهزاء بأمور الشريعة والتهاون فيها من إظهار شعائر أهل الفسوق والعصيان شئ كثير، وانفسد بسببه جماعة كبيرة من أولاد كبراء دمشق وصاروا على زي أصحابه، وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار، يجمع مجلسه الغنا الدائم والرقص والمردان، وترك الانكار على أحد فيما يفعله، وترك الصلوات وكثرت النفقات، فأضل خلقا كثيرا وأفسد جما غفيرا، ولقد أفتى في قتله مرارا جماعة من علماء الشريعة، ثم أراح الله تعالى منه.
هذا لفظه بحروفه.
واقف العزيه الامير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم، كان من العقلاء الاجواد الامجاد، استنابه المعظم على صرخد وظهرت منه نهضة وكفاية وسداد، ووقف العزيتين الجوانية والبرانية، ولما أخذ منه الصالح أيوب صرخد عوضه عنها وأقام بدمشق ثم وشي عليه بأنه يكاتب الصالح إسماعيل فاحتيط عليه وعلى أمواله وحواصله فمرض وسقط إلى الارض، وقال: هذا آخر عهدي.
ولم يتكلم حتى مات ودفن بباب النصر بمصر رحمه الله تعالى، ثم نقل إلى تربته التي فوق الوراقة.
وإنما أرخ السبط وفاته في سنة سبع وأربعين فالله أعلم.
الشهاب غازي بن العادل صاحب ميافارقين وخلاط وغيرهما من البلدان، كان من عقلاء بني أيوب وفضلائهم، وأهل الديانة منهم، ومما أنشد قوله:
__________
(1) وهو أبو محمد، علي بن منصور الدمشقي مات فجأة يوم الجمعة 26 رمضان وقد نيف على التسعين.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة فيها قدم السلطان الصالح نجم الدين من الديار المصرية إلى دمشق وجهز الجيوش والمجانيق إلى حمص، لانه كان صاحبها الملك الاشرف بن موسى بن المنصور بن أسد الدين قد قايض بها إلى تل باشر لصاحب حلب الناصر يوسف بن العزيز، ولما علمت الحلبيون بخروج الدماشقة برزوا أيضا في جحفل عظيم ليمنعوا حمص منهم، واتفق الشيخ نجم الدين البادزاي (1) مدرس النظامية ببغداد في رسالة فأصلح بين الفريقين، ورد كلا من الفئتين إلى مستقرها ولله الحمد.
وفيها قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده علي دفعه عنه لما أراد به من الفاحشة، فصلب الغلام مسمرا، وكان شابا حسنا جدا فتأسف الناس له لكونه صغيرا ومظلوما وحسنا، ونظموا فيه قصائد، وممن نظم فيه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل، وقد أطال قصته جدا، وفيها سقطت قنطرة رومية قديمة البناء بسوق الدقيق من دمشق، عند قصر أم حكيم، فتهدم بسببها شئ كثير من الدور والدكاكين، وكان سقوطها نهارا.
وفي ليلة الاحد الخامس والعشرين من رجب وقع حريق بالمنارة الشرقية فأحرق جميع حشوها، وكانت سلالمها سقالات من خشب، وهلك للناس ودائع كثيرة كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الحمد.
وقدم السلطان بعد أيام إلى دمشق فأمر بإعادتها كما كانت، قلت: ثم احترقت وسقطت بالكلية بعد سنة أربعين وسبعمائة وأعيدت عمارتها أحسن مما كانت ولله الحمد.
وبقيت حينئذ المنارة البيضاء الشرقية بدمشق كما نطق به الحديث في نزول عيسى عليه السلام عليها، كما سيأتي بيانه وتقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ثم عاد السلطان الصالح أيوب مريضا في محفة إلى الديار المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هو فيه عن أمره بقتل أخيه العادل أبي بكر بن الكامل الذي كان صاحب الديار المصرية بعد أبيه، وقد كان سجنه سنة استحوذ على مصر، فلما كان في هذه السنة في شوالها أمر بخنقه فخنق بتربة شمس الدولة، فما عمر بعده إلا إلى النصف من شعبان في العام القابل في أسوأ حال، وأشد مرض،
فسبحان من له الخلق والامر.
وفيها كانت وفاة قاضي القضاة بالديار المصرية:
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب الباذراي، وهو عبد الله بن محمد بن الحسن البغدادي، كان رئيسا للقضاة اعتاد الخليفة بعثه رسولا عنه - النجوم الزهراء 7 / 57.

فضل الدين الخونجي (1) الحكيم المنطقي البارع في ذلك، وكان مع ذلك جيد السيرة في أحكامه.
قال أبو شامة: أثنى عليه غير واحد.
علي بن يحيى جمال الدين أبو الحسن المحرمي كان شابا فاضلا أديبا شاعرا ماهرا، صنف كتابا مختصرا وجيزا جامعا لفنون كثيرة في الرياضة والعقل وذم الهوى، وسماه نتائج الافكار.
قال فيه من الكلم المستفادة الحكمية: السلطان إمام متبوع، ودين مشروع، فإن ظلم جارت الحكام لظلمه، وإن عدل لم يجر أحد في حكمه، من مكنه الله في أرضه وبلاده وأئتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الامانة، ويخلص الديانة، ويجمل السريرة، ويحسن السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والاجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب الفقر، ويهلك الامم.
وقال أيضا: معارضة الطبيب توجب التعذيب، رب حيلة أنفع من قبيلة، سمين الغضب مهزول، ووالي الغدر معزول، قلوب الحكماء تستشف الاسرار من لمحات الابصار، أرض من أخيك في ولايته بعشر ما كنت تعهده في مودته، التواضع من مصائد الشرف، ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز.
ما أقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم.
وذكر في غضون كلامه: أن خادما لعبد الله بن عمر أذنب فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه فقال: يا سيدي أما لك ذنب تخاف من الله فيه ؟ قال: بلى، قال بالذي أمهلك لما أمهلتني، ثم أذنب العبد ثانيا فأراد عقوبته فقال له مثل ذلك فعفا عنه، ثم أذنب الثالثة فعاقبه وهو لا يتكلم فقال له ابن
عمر: ما لك لم تقل مثل ما قلت في الاولتين ؟ فقال: يا سيدي حياء من حلمك مع تكرار جرمي.
فبكى ابن عمر وقال: أنا أحق بالحياء من ربي، أنت حر لوجه الله تعالى.
ومن شعره يمدح الخليفة: يا من إذا بخل السحاب بمائه * هطلت يداه على البرية عسجدا جورت كسرى يا مبخل حاتم * فغدت بنو الآمال نحوك سجدا وقد أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة حسنة رحمه الله تعالى.
__________
(1) وهو محمد بن ناماور بن عبد الملك قاضي القضاة أبو عبد الله الشافعي، مولده في جمادى الاولى سنة 590 مات في رمضان ودفن بسفح المقطم، له: الموجز في المنطق وكتاب أدوار الحميات.

الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري، العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحبا (1) للامير عز الدين موسك الصلاحي، واشتغل هو بالعلم فقرأ القراءات وحرر النحو تحريرا بليغا، وتفقه وساد أهل عصره، ثم كان رأسا في علوم كثيرة، منها الاصول والفروع والعربية والتصريف والعروض والتفسير وغير ذلك.
وقد كان استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، ودرس بها للمالكية بالجامع حتى كان خروجه بصحبة الشيخ عز الدين بن عبد السلام في سنة ثمان وثلاثين، فصارا إلى الديار المصرية حتى كانت وفاة الشيخ أبي عمرو في هذه السنة بالاسكندرية، ودفن بالمقبرة التي بين المنارة والبلد.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وكان من أذكى الائمة قريحة، وكان ثقة حجة متواضعا عفيفا كثير الحياء منصفا محبا للعلم وأهله، ناشرا له محتملا للاذى صبورا على البلوى، قدم دمشق مرارا آخرها سنة سبع عشرة، فأقام بها مدرسا للمالكية وشيخا للمستفيدين عليه في علمي القراءات والعربية، وكان ركنا من أركان الدين في العلم والعمل، بارعا في العلوم متقنا لمذهب مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا، وذكر أنه جاء إليه في أداء شهادة حين كان نائبا في الحكم بمصر وسأله عن مسألة
اعتراض الشرط على الشرط، إذا قال: إن أكلت إن شربت فأنت طالق، لم كان يقع الطلاق حين شربت أولا ؟ وذكر أنه أجاب عن ذلك في تؤدة وسكون.
قلت ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات، انتظم فيه فوائد ابن شاش، ومختصره في أصول الفقه، استوعب فيه عامة فوائد الاحكام لسيف الدين الآمدي، وقد من الله تعالى علي بحفظه وجمعت كراريس في الكلام على ما أودعه فيه من الاحاديث النبوية، ولله الحمد.
وله شرح المفصل والامالي في العربية والمقدمة المشهورة في النحو، اختصر فيها مفصل الزمخشري وشرحها، وقد شرحها غيره أيضا، وله التصريف وشرحه، وله عروض على وزن الشاطبية رحمه الله ورضي عنه.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة فيها كانت وفاة الملك الصالح أيوب (2)، وقتل ابنه توران شاه (3) وتولية المعز عز الدين أيبك التركماني (4).
وفي رابع المحرم يوم الاثنين توجه الملك الصالح من دمشق إلى الديار المصرية في
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 277: حاجبا للامير يوشك الصلاحي.
(انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 178).
(2) توفي ليلة الاحد ل 14 ليلة مضت من شعبان وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما وكان عمره نحو 44 سنة.
(تاريخ أبي الفداء - بدائع الزهور).
(3) وكان ذلك 9 محرم سنة ثمان وأربعين، (بدائع الزهور 1 / 1 / 285) وقال أبو الفداء في تاريخه: يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم يعني سنة 648 (3 / 181).
(4) بعد قتل تورانشاه اتفق الامراء والعسكر على تولية شجرة الدر زوجة الملك الصالح أيوب وعلى أن يكون أيبك =

محفة.
قاله ابن السبط.
وكان قد نادى في دمشق: من له عندنا شئ فليأت، فاجتمع خلق كثير بالقلعة، فدفعت إليهم أموالهم وفي عاشر صفر دخل إلى دمشق نائبها الامير جمال الدين بن يغمور من جهة الصالح أيوب فنزل بدرب الشعارين داخل باب الجابية، وفي جمادى الآخرة أمر النائب بتخريب الدكاكين المحدثة وسط باب البريد، وأمر أن لا يبقى فيها دكان سوى ما في جانبيه إلى جانب الخياطين القبلي والشامي، وما في الوسط يهدم.
قال أبو شامة: وقد كان العادل هدم ذلك
ثم أعيد ثم هدمه ابن يغمور، والمرجو استمراره على هذه الصفة.
وفيها توجه الناصر داود من الكرك إلى حلب فأرسل الصالح أيوب إلى نائبه بدمشق جمال الدين بن يغمور بخراب دار أسامة المنسوبة إلى الناصر بدمشق، وبستانه الذي بالقابون، وهو بستان القصر، وأن تقلع أشجاره ويخرب القصر، وتسلم الصالح أيوب الكرك من الامجد حسن بن الناصر، وأخرج من كان بها من بيت المعظم (1)، واستحوذ على حواصلها وأموالها، فكان فيها من الذهب ألف ألف دينار، وأقطع الصالح الامجد هذا إقطاعا جيدا.
وفيها طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئا كثيرا من المحال والدور الشهيرة، وتعذرت الجمع في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاث جوامع، ونقلت توابيت جماعة من الخلفاء إلى الترب من الرصافة خوفا عليهم من أن تغرق محالهم، منهم المقتصد بن الامير أبي أحمد المتوكل، وذلك بعد دفنه بنيف وخمسين سنة وثلثمائة سنة، وكذا نقل ولده المكتفي وكذا المقتفي بن المقتدر بالله رحمهم الله تعالى.
وفيها هجمت الفرنج على دمياط فهرب من كان فيها من الجند والعامة (2) واستحوذ الفرنج على الثغر وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين، وذلك في ربيع الاول منها، فنصب السلطان المخيم تجاه العدو بجميع الجيش، وشنق خلقا ممن هرب من الفرنج، ولامهم على ترك المصابرة قليلا ليرهبوا عدو الله وعدوهم، وقوي المرض وتزايد بالسلطان جدا، فلما كانت ليلة النصف من شعبان توفي إلى رحمة الله تعالى بالمنصورة، فأخفت جاريته أم خليل المدعوة شجرة الدر موته، وأظهرت أنه مريض مدنف لا يوصل إليه، وبقيت تعلم عنه بعلامته سواء.
وأعلمت إلى أعيان الامراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا،
__________
= التركماني مدبر المملكة معها.
ثم تنازلت شجرة الدر وتزوجت بأيبك وبويع بالسلطنة له بعد خلع شجرة الدر وذلك يوم السبت آخر ربيع الآخرة سنة 648.
(بدائع الزهور - تاريخ أبي الفداء).
(1) والمعظم عيسى هو ابن الملك الناصر داود، وقد استنابه على الكرك عندما ذهب مستجيرا بصاحب حلب الملك الناصر.
وكان للمعظم أخوان هما الامجد حسن والظاهر شاذي - وهما أكبر منه - وقد غضبا لتقديمه عليهما، فتوجه الامجد حسن إلى الصالح أيوب وهو مريض بالمنصورة وعرض عليه تسليمه الكرك مقابل اعطاءه وأخيه اقطاعا لهما بديار مصر.
وتسلمها الصالح أيوب لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة 647 ه (ابن خلدون - أبي
الفداء).
(2) وخاصة بنو كنانة الذين جعلهم الصالح أيوب على ثغر دمياط لحمايته، وقد هربوا وتركوا أبواب دمياط مفتحة فتملكها الفرنج بغير قتال.
وقد لجأ الصالح أيوب إلى القبض على بني كنانة وأمر بشنقهم فشنقوا عن أخرهم (تاريخ أبي الفداء - بدائع الزهور).

فأقدموه إليهم سريعا، وذلك بإشارة أكابر الامراء منهم فخر الدين بن الشيخ، فلما قدم عليهم ملكوه عليهم وبايعوه أجمعين، فركب في عصائب الملك وقاتل الفرنج فكسرهم وقتل منهم ثلاثين ألفا ولله الحمد.
وذلك في أول السنة الداخلة.
ثم قتلوه بعد شهرين من ملكه، ضربه بعض الامراء وهو عز الدين أيبك التركماني، فضربه في يده فقطع بعض أصابعه فهرب إلى قصر من خشب في المخيم فحاصروه فيه وأحرقوه عليه، فخرج من بابه مستجيرا برسول الخليفة فلم يقبلوا منه، فهرب إلى النيل فانغمر فيه ثم خرج فقتل سريعا شر قتلة وداسوه بأرجلهم ودفن كالجيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان فيمن ضربه البند قداري على كتفه فخرج السيف من تحت إبطه الآخر وهو يستغيث فلا يغاث.
وممن قتل في هذه السنة: فخر الدين يوسف بن الشيخ بن حمويه وكان فاضلا دينا مهيبا وقورا خليقا بالملك، كانت الامراء تعظمه جدا، ولو دعاهم إلى مبايعته بعد الصالح لما اختلف عليه اثنان، ولكنه كان لا يرى ذلك حماية لجانب بني أيوب، قتلته الداوية من الفرنج شهيدا قبل قدوم المعظم توران شاه إلى مصر، في ذي القعدة، ونهبت أمواله وحواصله وخيوله، وخربت داره ولم يتركوا شيئا من الافعال الشنيعة البشعة إلا صنعوه به، مع أن الذين تعاطوا ذلك من الامراء كانوا معظمين له غاية التعظيم.
ومن شعره: عصيت هوى نفسي صغيرا فعندما * رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر أطعت الهوى عكس القضية ليتني * خلقت كبيرا ثم عدت إلى الصغر
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة في ثالث المحرم يوم الاربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفا وقيل مائة ألف، وغنموا شيئا كثيرا ولله الحمد.
ثم قتل جماعة من الامراء الذين أسروا، وكان فيمن أسر ملك الفرنسيس وأخوه، وأرسلت غفارة ملك الافرنسيس إلى دمشق فلبسها نائبها في يوم الموكب، وكانت من سقرلاط تحتها فروسنجاب، فأنشد في ذلك جماعة من الشعراء فرحا بما وقع، ودخل الفقراء كنيسة مريم فأقاموا بها فرحا لما نصر الله تعالى على النصارى، وكادوا أن يخربوها وكانت النصارى ببعلبك فرحوا حين أخذت النصارى دمياط، فلما كانت هذه الكسرة عليهم سخموا وجوه الصور، فأرسل نائب البلد فجناهم وأمر اليهود فصفعوهم، ثم لم يخرج شهر المحرم (1) حتى قتل الامراء ابن أستاذهم توران شاه، ودفنوه إلى
__________
(1) في بدائع الزهور: في تاسع المحرم.

جانب النيل من الناحية الاخرى رحمه الله تعالى ورحم أسلافه بمنه وكرمه.
المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب لما قتل الامراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن أستاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان ملكه بعد أبيه بشهرين كما تقدم بيانه، ولما انفصل أمره بالقتل نادوا فيما بينهم لا بأس لا بأس، واستدعوا من بينهم الامير عز الدين أيبك التركماني، فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز، وركبوا إلى القاهرة، ثم بعد خمسة (1) أيام أقاموا لهو صبيا من أيوب ابن عشر سنين (2) وهو الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف بن المسعود إقسيس بن الكامل، وجعلوا المعز أتابكه فكانت السكة والخطبة بينهما، وكاتبوا أمراء الشام بذلك، فما تم لهم الامر بالشام، بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية، وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل حظية الصالح أيوب، فتزوجت بالمعز، وكانت الخطبة والسكة لها، يدعى لها على المنابر أيام الجمع
بمصر وأعمالها، وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل (3)، والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها، مدة ثلاثة أشهر قبل المعز، ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل.
الناصر بن العزيز بن الظاهر صاحب حلب يملك دمشق لما وقع بالديار المصرية من قتل الامراء للمعظم توران شاه بن الصالح أيوب ركب الحلبيون معهم ابن أستاذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف فاتح بيت المقدس، ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب منهم الصالح إسماعيل بن العادل، وكان أحق الموجودين بالملك، من حيث السن والتعدد والحرمة والرياسة، ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل، والاشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه، الذي كان صاحب حمص
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: أن ذلك تم في يوم السبت لخمس مضين من جمادى الاولى، (3 / 181) وقد اتفقت الاخبار انه بعد مقتل تورانشاه عمل الامراء على تأمير شجرة الدر أم خليل جارية الصالح أيوب وتمت مبايعتها بالسلطنة وذلك يوم الخميس 2 صفر وألبست خلعة السلطنة وهي قندورة مخمل مرقومة بالذهب، وكان مدبر أمر مملكتها عز الدين ايبك لا يتصرف في شئ إلا بعد مشورتها.
ثم خلعت نفسها من السلطنة وتزوجت بالامير أيبك الذي بويع بالسلطنة - وهو أول ملوك الترك بمصر - وذلك 29 ربيع الآخرة فلم ترض به أهل مصر حتى وقع الاتفاق بين الامراء على احضار شخص من ذرية بني أيوب ليأمروه عليهم فتم احضار الاشرف فسلطنوه عليهم (بدائع الزهور 1 / 1 / 285 وما بعدها - تاريخ أبي الفداء 3 / 181 - 182 تاريخ ابن خلدون 5 / 262).
(2) في بدائع الزهور: نحو عشرين سنة.
(3) في بدائع الزهور وتاريخ أبي الفداء: والدة خليل.

وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصرها فملكوها سريعا، ونهبت دار ابن يغمور وحبس في القلعة وتسلموا ما حولها كبعلبك وبصرى والصلت وصرخد، وامتنعت عليهم الكرك والشوبك بالملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل، كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قتل المعظم توران شاه، فطلبه المصريون ليملكوه عليهم فخاف مما حل بابني عمه، فلم يذهب إليهم ولما استقرت
يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصر في القلعة وطيب قلوب الناس، ثم ركبوا إلى غزة ليتسلموا الديار المصرية، فبرز إليهم الجيش المصري فاقتتلوا معهم أشد القتال، فكسر المصريون أولا بحيث إنه خطب للناصر في ذلك بها، ثم كانت الدائرة على الشاميين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقا كثيرا، وعدم من الجيش الصالح إسماعيل رحمه الله تعالى، وقد أنشد هنا الشيخ أبو شامة لبعضهم: ضيع إسماعيل أموالنا * وخرب المغنى بلا معنى وراح من جلق هذا جزاء * من أفقر الناس وما استغنى شئ من ترجمة الصالح إسماعيل واقف تربة الصالح وقد كان الصالح رحمه الله ملكا عاقلا حازما تتقلب به الاحوال أطوارا كثيرة، وقد كان الاشرف أوصى له بدمشق من بعده، فملكها شهورا ثم انتزعها منه أخوه الكامل، ثم ملكها من يد الصالح أيوب خديعة ومكرا، فاستمر فيها أزيد من أربع سنين، ثم استعادها منه الصالح أيوب عام الخوارزمية سنة ثلاث وأربعين، واستقرت بيده بلداه بعلبك وبصرى، ثم أخذتا منه كما ذكرنا، ولم يبق به بلد يأوي إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها، فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا عدم بالديار المصرية في المعركة فلا يدرى ما فعل به والله تعالى أعلم.
وهو واقف التربة والمدرسة ودار الحديث والاقراء بدمشق رحمه الله بكرمه.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: الملك المعظم توران شاه بن الصالح أيوب ابن الكامل بن العادل، كان أولا صاحب حصن كيفا في حياة أبيه، وكان أبوه يستدعيه في أيامه فلا يجيبه، فلما توفي أبوه كما ذكرنا استدعاه الامراء فأجابهم وجاء إليهم فملكوه عليهم، ثم قتلوه كما ذكرنا، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم (1)، وقد قيل إنه كان متخلفا لا يصلح للملك، وقد رئي أبوه في المنام بعد قتل ابنه وهو يقول:
__________
(1) في بدائع الزهور: تاسع المحرم.

قتلوه شر قتله * صار للعالم مثله لم يراعوا فيه إلا (1) * لا ولا من كان قبله ستراهم عن قريب * لاقل الناس أكله فكان كما ذكرنا من اقتتال المصريين والشاميين.
وممن عدم فيما بين الصفين من أعيان الامراء والمسلمين فمنهم الشمس لؤلؤ مدبر ممالك الحلبيين، وكان من خيار عباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف وعن المنكر ناهين.
وفيها كانت وفاة: الخاتون ارغوانية الحافظية سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ، صاحب قلعة جعبر، وكانت امرأة عاقلة مدبرة عمرت دهرا ولها أموال جزيلة عظيمة، وهي التي كانت تصلح الاطعمة للمغيث عمر بن الصالح أيوب، فصادرها الصالح إسماعيل فأخذ منها أربعمائة صندوق من المال، وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها، واشترت بستان النجيب ياقوت الذي كان خادم الشيخ تاج الدين الكندي، وجعلت فيه تربة ومسجدا، ووقفت فيها عليها أوقافا كثيرة جيدة رحمها الله.
واقف الامينية التي ببعلبك: أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب وزير الصالح إسماعيل أبي الجيش الذي كان مشؤما على نفسه، وعلى سلطانه، وسببا في زوال النعمة عنه وعن مخدومه، وهذا هو وزير السوء، وقد اتهمه السبط بأنه كان مستهترا بالدين، وأنه لم يكن له في الحقيقة دين، فأراح الله تعالى منه عامة المسلمين، وكان قتله في هذه السنة لما عدم الصالح إسماعيل بديار مصر، عمد من عمد من الامراء إليه وإلى ابن يغمور فشنقوهما وصلبوهما على القلعة بمصر متنا وحين.
وقد وجد لامين الدولة غزال هذا من الاموال والتحف والجواهر والاثاث ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، وعشرة آلاف مجلد بخط منسوب وغير ذلك من الخطوط النفيسة الفائقة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة فيها عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق وقدمت عساكر المصريين فحكموا على بلاد السواحل إلى حد الشريعة، فجهز لهم الملك الناصر جيشا فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 285: أبا.

المصرية، وقصروهم عليها، وتزوجت في هذه السنة أم خليل شجرة الدر بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني (1)، مملوك زوجها الصالح أيوب.
وفيها نقل تابوت الصالح أيوب إلى تربته بمدرسته، ولبست الاتراك ثياب العزاء، وتصدقت أم خليل عنه بأموال جزيلة.
وفيها خربت الترك دمياط (2) ونقلوا الاهالي إلى مصر وأخلوا الجزيرة أيضا خوفا من عود الفرنج.
وفيها كمل شرح الكتاب المسمى بنهج البلاغة في عشرين مجلدا مما ألفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني، الكاتب للوزير مؤيد الدين بن العلقمي، فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعة وفرسا، وامتدحه عبد الحميد بقصيدة، لانه كان شيعيا معتزليا.
وفي رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهر قلي مدرس النظامية ببغداد فولي قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور، وخلع عليه.
وفي شعبان ولي تاج الدين عبد الكريم بن الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهدا عنها، وخلع عليه بطرحة، ووضع على رأسه غاشية، وركب الحجاب في خدمته.
وفي هذه السنة صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، وهذا اتفاق غريب.
وفيها وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن صلاح الدين بن يوسف بن عمر بن رسول يذكر فيه أن رجلا باليمن خرج فادعى الخلافة، وأنه أنفذ إليه جيشا فكسروه وقتلوا خلقا من أصحابه وأخذ منهم صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقي من أصحابه.
وفيها أرسل الخليفة إليه بالخلع والتقليد وفيها كانت وفاة: بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة الحميري (3) خطيب القاهرة، رحل في صغره إلى العراق فسمع بها وغيرها، وكان فاضلا قد أتقن معرفة
مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وكان دينا حسن الاخلاق واسع الصدر كثير البر، قل أن يقدم عليه أحد إلا أطعمه شيئا، وقد سمع الكثير على السلفي وغيره، وأسمع الناس شيئا كثيرا من مروياته، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة، وله تسعون سنة، ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
وممن توفي فيها: القاضي أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمعاني الحنفي من بيت العلم والقضاء، درس
__________
(1) تقدم انها تزوجت من عز الدين أيبك سنة 648 (انظر بدائع الزهور - وتاريخ أبي الفداء 3 / 182).
(2) في بدائع الزهور وتاريخ أبي الفداء: ان تخريب دمياط تم في يوم الاثنين 18 شعبان سنة 648 وقد بنيت بالقرب منها في البر مدينة سموها المنشية.
(البدائع 1 / 1 / 282 - أبو الفداء 3 / 184).
(3) في شذرات الذهب 5 / 246: الجميزي.

بمشهد أبي حنيفة وناب عن قاضي القضاة ابن فضلان الشافعي، ثم عن قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق الحنبلي، ثم عن قاضي القضاة عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، ثم بعد وفاته في سنة ثلاث وثلاثين استقل القاضي عبد الرحمن اللمعاني بولاية الحكم ببغداد، ولقب أقضى القضاة، ولم يخاطب بقاضي القضاة، ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين، وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه.
ولما توفي تولى بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهرقلي رحمهما الله تعالى وتجاوز عنهما بمنه وكرمه آمين.
ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية فيها وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران ورأس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية، وستمائة ألف دينار، وكان عدة من قتلوا في هذه
السنة من أهل الجزيرة نحوا من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال السبط: وفيها حج الناس من بغداد، وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر.
وفيها وقع حريق بحلب احترق بسببه ستمائة دار (1)، ويقال إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيه قصدا.
وفيها أعاد قاضي القضاة عمر بن علي النهرقلي أمر المدرسة التاجية التي كان قد استحوذ عليها طائفة من العوام، وجعلوها كالقيسارية يبتاعون فيها مدة طويلة، وهي مدرسة جيدة حسنة قريبة الشبه من النظامية، وقد كان بانيها يقال له تاج الملك، وزير ملك شاه السلجوقي، وأول من درس بها الشيخ أبو بكر الشاشي.
وفيها كانت وفاة: جمال الدين بن مطروح (2) وقد كان فاضلا رئيسا كيسا شاعرا من كبار المتعممين، ثم استنابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق فلبس لبس الجند.
قال السبط: وكان لا يليق في ذلك.
ومن شعره في الناصر داود صاحب الكرك لما استعاد القدس من الفرنج حين سلمت إليهم في سنة ست وثلاثين في الدولة الكاملية فقال هذا الشاعر، وهو ابن مطروح رحمه الله: المسجد الاقصى له عادة * سارت فصارت مثلا سائرا
__________
(1) أرخه ابن إياس في بدائعه سنة 651 ه.
(2) وهو أبو الحسن يحيى بن عيسى بن ابراهيم بن مطروح، ولد سنة 592 توفي في عاشر شعبان، قال أبو الفداء في تاريخه، مات سنة 649.

إذا غدا للكفر مستوطنا * أن يبعث الله له ناصرا فناصر طهره أولا * وناصر طهره آخرا ولما عزله الصالح من النيابة أقام خاملا وكان كثير البر بالفقراء والمساكين، وكانت وفاته بمصر وفيها توفي:
شمس الدين محمد بن سعد المقدسي الكاتب الحسن الخط، كان كثير الادب، وسمع الحديث كثيرا، وخدم السلطان الصالح إسماعيل والناصر داود، وكان دينا فاضلا شاعرا له قصيدة (1) ينصح فيها السلطان الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من وزيره وقاضيه وغيرهما، من حواشيه.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد العزيز بن علي ابن عبد الجبار المغربي، أبوه ولد ببغداد، وسمع بها الحديث، وعني بطلب العلم وصنف كتابا في مجلدات على حروف المعجم في الحديث، وحرر فيه حكاية مذهب الامام مالك رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو عبد الله محمد بن غانم بن كريم الاصبهاني، قدم بغداد وكان شابا فاضلا، فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردي، وكان حسن الطريقة، له يد في التفسير، وله تفسير على طريقة التصوف، وفيه لطافة، ومن كلامه في الوعظ: العالم كالذرة في فضاء عظمته، والذرة كالعالم في كتاب حكمته، الاصول فروع إذا تجلى جمال أوليته، والفروع أصول إذا طلعت من مغرب نفي الوسائط شمس أخريته، أستار الليل مسدولة، وشموع الكواكب مشعولة، وأعين الرقباء عن المشتاقين مشغولة، وحجاب الحجب عن أبواب الوصل معزولة ما هذه الوقعة والحبيب قد فتح الباب ؟ ما هذه الفترة والمولى قد خرق حاجب الحجاب ؟ وقوفي بأكناف العقيق عقوق * إذا لم أرد والدمع فيه عقيق
__________
(1) ومنها في الوافي 3 / 92: يا مالكا لم أجد لي من نصيحته * بدا وفيها دمي أخشاه منسفكا إلى قوله: وزيره ابن غزال والرفيع له * قاضي القضاة ووالي حربه ابن بكا

وإذ لم أمت شوقا إلى ساكن الحمى * فما أنا فيما أدعيه صدوق أيا ربع ليلى ما المحبون في الهوى * سواء، ولا كل الشراب رحيق ولا كل من تلقاه يلقاك قلبه * ولا كل من يحنو إليك مشوق تكاثرت الدعوى على الحب فاستوى * أسير صبابات الهوى وطليق أيها الآمنون، هل فيكم من يصعد إلى السماء ؟ أيها المحبوسون في مطامير مسمياتهم، هل فيكم سليم في الفهم يفهم رموز الوحوش والاطيار ؟ هل فيكم موسوي الشوق يقول بلسان شوقه أرني أنظر إليك، فقد طال الانتظار ؟ ولما استسقى الناس قال بعد الاستسقاء: لما صعدت إلى الله عز وجل نفس المشتاق بكت آماق الآفاق، وجادت بالدر مرضعة السحاب، وامتص لبن الرحمة رضيع التراب وخرج من أخلاف الغمام نطاف الماء النمير، فاهتزت به الهامدة، وقرت عيون المدر، وتزينت الرياض بالسندس الاخضر، فحبر الصبغ حبرها أحسن تحبير، وانفلق بأنملة الصبا أكمام الانوار، وانشقت بنفحات أنفاسه جيوب الازهار، ونطقت أجزاء الكائنات بلغات صفاتها، وعادات عبرها: أيها النائمون تيقظوا، أيها المبعدون تعرضوا (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الارض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى إنه عليه كل شئ قدير) [ الروم: 50 ].
أبو الفتح نصر الله بن هبة الله ابن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن صاقعة الغفاري الكناني المصري ثم الدمشقي كان من أخصاء الملك المعظم، وولده الناصر داود، وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان أديبا مليح المحاضرة رحمه الله تعالى.
ومن شعره قوله: ولما أبيتم سادتي عن زيارتي * وعوضتموني بالبعاد عن القرب ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتي * ولم يصطبر عنكم لرقته قلبي نصبت لصيد الطيف جفني حبالة * فأدركت خفض العيش بالنوم والنصب ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة فيها دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رسول الخليفة بين صاحب مصر وصاحب الشام،
وأصلح بين الجيشين، وكانوا قد اشتد الحرب بينهم ونشبت، وقد مالا الجيش المصري الفرنج ووعدهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين، وجرت خطوب كثيرة، فأصلح بينهم وخلص جماعة من بيوت الملوك من الديار المصرية، منهم أولاد الصالح إسماعيل، وبنت الاشرف وغيرهم من أولاد صاحب حمص وغيرهم، جزاه الله خيرا.
وفيها فيما ذكر ابن الساعي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسي فزلق فتكسرت ووقف يبكي، فتألم الناس له

لفقره وحاجته، وأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجل من الحاضرين دينارا، فلما أخذه نظر فيه طويلا ثم قال: والله هذا الدينار أعرفه، وقد ذهب مني في جملة دنانير عام أول، فشتمه بعض الحاضرين فقال له ذلك الرجل: فما علامة ما قلت ؟ قال زنة هذا كذا وكذا، وكان معه ثلاثة وعشرون دينارا، فوزنوه فوجدوه كما ذكر، فأخرج له الرجل ثلاثة وعشرين دينارا، وكان قد وجدها كما قال حين سقطت منه، فتعجب الناس لذلك.
قال: ويقرب من هذا أن رجلا بمكة نزع ثيابه ليغتسل من ماء زمزم وأخرج من عضده دملجا زنته خمسون مثقالا (1) فوضعه مع ثيابه، فلما فرغ من اغتساله لبس ثيابه ونسي الدملج ومضى، وصار إلى بغداد وبقي مدة سنتين بعد ذلك وأيس منه، ولم يبق معه شئ إلا يسير فاشترى به زجاجا وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف بها إذ زلق فسقطت القوارير فتكسرت فوقف يبكي واجتمع الناس عليه يتألمون له، فقال في جملة كلامه والله يا جماعة لقد ذهب مني من مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون دينارا، ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير، وما ذاك إلا لان هذه كانت جميع ما أملك، فقال له رجل من الجماعة: فأنا والله لقيت ذلك الدملج، وأخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون.
والله أعلم بالصواب.
وممن توفي فيها من الاعيان (2)..
__________
(1) مثقال: مفرد مثاقيل.
قال المقريزي: إن المثقال منذ وضع لم يختلف في جاهلية ولا اسلام.
ويقال: إن الذي اخترع الوزن في الدهر الاول بدأه بوضع المثقال أولا.
فجعله ستين حبة زنة الحبة مائة من حب الخردل البري
المعتدل.
وأقر النبي أهل مكة على ميزانهم فقال: " الميزان ميزان أهل مكة انظر الاحكام السلطانية لابي يعلى ص 159 الحاشية (1) وجاء في كتاب الاوزان للمقريزي ص 60: المثقال اسم لما له ثقل، سواء كبر أو صغر، وغلب عرفه على الصغير، وصار في عرف الناس اسما على الدينار.
(وذلك في سنة 76 ه في أيام عبد الملك بن مروان) بعد اصلاحه نظام النقد وقرر أن يكون وزن الدينار مثقالا واحدا اي (5، 65) حبة أو (25، 4) غراما.
(2) في هامش المطبوعة: " بياض بجميع الاصول، وقال الذهبي: وفيها توفي أبو البقاء صالح بن شجاع بن محمد بن سيدهم المدلجي الخياط في المحرم.
[ وهو راوي صحيح مسلم عن أبي المفاخر المأموني وكان صالحا متعففا ]، وسبط السلفي عبد الرحمن بن أبي الحرم المكي بن عبد الرحمن الطرابلسي الاسكندراني في شوال عن احدى وثمانين سنة [ سمع من جده السلفي الكبير وانتهى إليه علو الاسناد بالديار المصرية ] وأبو محمد بن جميل البندنيجي البواب، آخر من روى عن عبد الحق اليوسفي.
" - ما بين معكوفين في الحاشية زيادة من شذرات الذهب، قال في الشذرات 5 / 254: وفيها أي في سنة 651 توفي: ابن الزملكاني كمال الدين عبد الواحد ابن خطيب زملكا عبد الكريم بن خلف الانصاري صاحب علم المعاني والبيان.
وفيها علي بن عبد الله بن محمد الانصاري القرطبي في ربيع الاول بمراكش وله 88 سنة.
وفيها علي بن عبد الرحمن البغدادي البابصري الفقيه الحنفي توفي ببغداد في شعبان.
وفيها محمد بن الشيخ عبد الله اليونيني، توفي ببعلبك في شهر رجب.

ثم دخلت سنة اثنين وخمسين وستمائة قال سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان: فيها وردت الاخبار من مكة شرفها الله تعالى بأن نارا ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث إنه يطير شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار، فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات (1).
وفيها قدم الفارس أقطاي من الصعيد ونهب أموال المسلمين وأسر بعضهم، ومعه جماعة من البحرية المفسدين في الارض، وقد بغوا وطغوا وتجبروا، ولا يلتفتون إلى الملك المعز أيبك التركماني، ولا إلى زوجته شجرة الدر.
فشاور المعز زوجته شجرة الدر في قتل أقطاي، فأذنت له، فعمل عليه حتى قتله في هذه السنة بالقلعة المنصورة بمصر، فاستراح المسلمون من شره (2).
وفيها درس الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمدرسة الصالح أيوب بين القصرين.
وفيها قدمت بنت ملك الروم (3) في تجمل عظيم وإقامات هائلة إلى دمشق زوجة لصاحبها الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، وجرت أوقات حافلة بدمشق بسببها.
وممن توفي فيها من المشاهير: عبد الحميد بن عيسى الشيخ شمس الدين بن الخسروشاهي، أحد مشاهير المتكلمين، وممن اشتغل على الفخر الرازي في الاصول وغيرها، ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن المعظم وحظي عنده.
قال أبو شامة: وكان شيخا مهيبا فاضلا متواضعا حسن الظاهر رحمه الله تعالى.
قال السبط: وكان متواضعا كيسا محضر خير، لم ينقل عنه أنه آذى أحدا فإن قدر على نفع وإلا سكت، توفي بدمشق ودفن بقاسيون على باب تربة الملك المعظم رحمه الله تعالى.
الشيخ مجد الدين بن تيمية صاحب الاحكام [ عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي، جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين، وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره، ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران ] (4).
__________
(1) ذكرها أبو الفداء في تاريخه في حوادث سنة 651.
(انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 291).
(2) قال ابن خلدون في تاريخه 5 / 363: ان اقطاي وقف بوجه طموح الامير أيبك في الاستيلاء على الملك الاشرف والاستبداد بالسلطنة والاستقلال بها فرصد له قطز وبهادر وسنجر الغنمي قتلوه يوم الاثنين 21 شعبان (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 190 بدائع الزهور 1 / 1 / 291).
(3) وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك الروم.
(4) ما بين معكوفين زيادة من المطبوعة وبهامشها قال: " بياض بأصل التركية والمصرية.
وكملت الترجمة من النجوم =

الشيخ كمال الدين بن طلحة الذي ولي الخطابة بدمشق بعد الدولعي، ثم عزل وصار إلى الجزيرة فولي قضاء نصيبين، ثم صار إلى حلب فتوفي بها في هذه السنة.
قال أبو شامة: وكان فاضلا عالما طلب أن يلي الوزارة فامتنع من ذلك، وكان هذا من التأييد رحمه الله تعالى.
السيد (1) بن علان آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعا بدمشق.
الناصح فرج بن عبد الله الحبشي كان كثير السماع مسندا خيرا صالحا مواظبا على سماع الحديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحديث النورية بدمشق رحمه الله.
النصرة بن صلاح الدين يوسف بن أيوب توفي بحلب في هذه السنة.
وآخرون رحمهم الله أجمعين.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة قال السبط: فيها عاد الناصر داود من الانبار إلى دمشق، ثم عاد وحج من العراق وأصلح بين العراقيين، وأهل مكة، ثم عاد معهم إلى الحلة.
قال أبو شامة: وفيها في ليلة الاثنين ثامن عشر صفر توفي بحلب الشيخ الفقيه: ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم وكان فاضلا دينا، ومن شعره قوله رحمه الله تعالى: من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرع
__________
= الزاهرة.
" وقال الذهبي في العبر: انه ربي يتيما وانه سافر مع ابن عمه إلى العراق وهو ابن ثلاث عشرة فسمع مسائل الخلاف وحفظها، وألين له الفقه كما ألين الحديد لداود، إلى قوله فيه: كان معدوم النظير في زمانه رأسا في
الفقه وأصوله بارعا في الحديث ومعانيه أشتهر اسمه وبعد صيته.
(1) في شذرات الذهب 5 / 260: السديد بن مكي بن المسلم بن مكي بن خلف بن علان القيسي الدمشقي.

فلا تكونن له صاحبا * فإنه ضر بلا نفع وهو واقف القوصية.
أبو العز إسماعيل بن حامد ابن عبد الرحمن الانصاري القوصي، واقف داره بالقرب من الرحبة على أهل الحديث وبها قبره، وكان مدرسا بحلقة جمال الاسلام تجاه البدارة (2)، فعرفت به، وكان ظريفا مطبوعا حسن المحاضرة، وقد جمع له معجما حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة.
قال أبو شامة: وقد طالعته بخطه فرأيت فيه أغاليط وأوهاما في أسماء الرجال وغيرها، فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة بن دلم فقال سعد بن عبادة بن الصامت وهذا غلط، وقال في شدة خرقة التصوف فغلط وصحف حييا أبا محمد حسينا.
قال أبو شامة: رأيت ذلك بخطه، توفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله.
وقد توفي الشريف المرتضى نقيب الاشراف بحلب، وكانت وفاته بها، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الابل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الامام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه الذيل وشرحه، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب: دلائل النبوة من السيرة النبوية، في أوائل هذا الكتاب ولله الحمد والمنة.
وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال: وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها،
ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ لها أعناق الابل ببصرى " فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب.
قال وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عزوجل ".
قال أبو شامة: وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها.

" لما كانت ليلة الاربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الارض والحيطان والسقوف والاخشاب والابواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجئ إلينا، ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة، فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) [ المرسلات: 32 ] وقد أكلت الارض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج.
وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والام الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شئ يتم بعد ذلك، والله
يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار ".
قال أبو شامة: " وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم: انفجرت من الارض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة ".
قال " وفي كتاب آخر: لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الاربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل، فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي برأي العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له أجيلين (1) وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الارض ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الارض وهو صخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك.
فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه
__________
(1) بهامش المطبوعة: " وفي النسخة المصرية: الراجلين.
وفي النجوم الزاهرة " اجيلين " وبهامشه: في تاريخ مكة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة: أخيلين ".

احمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها ".
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: " ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه: لما كانت ليلة الاربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الاخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة
قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه [ إذ سمعنا ] صوتا للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما، وطلعت إلى الامير كلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت: اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سار منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشفا، وما عاد يجئ في الوادي سيل قط لانها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج، وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفئ بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الاهوال، وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب، وهي على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية ".
قال أبو شامة: وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو ؟ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.
قلت: وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجئ الكتب بأمر هذه النار، فقال: وفيها في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى،
وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياما متغيرة اللون ضعيفة النور، والله على كل شئ قدير، ثم قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النجامة.

ثم قال أبو شامة: " ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شئ كثير، وأشرف الناس على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد.
قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم: لما كان بتاريخ ليلة الاربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين، عاد الناس يسمعون صوتا مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى، وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الاربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الارض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر، ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الارض، فارتاع لها الناس روعة عظيمة، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الابيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا بنبيه عليه الصلاة والسلام، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله،
وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد، وداع إلى الله عزوجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الامير يعظونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل ما لنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهابا، وهي كالجبل العظيم [ ارتفاعا و ] كالمدينة عرضا، يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوي فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد.
وبقيت كذلك أياما ثم سالت سيلانا إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض، ثم سكنت ووقفت أياما، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي.
والشمس والقمر كأنهما

منكسفان إلى الآن.
وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر ".
وقد قال فيها بعضهم أبياتا: يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا * لقد أحاطت بنا يا رب بأساء (1) نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها * حملا ونحن بها حقا أحقاء زلازل تخشع الصم الصلاب لها * وكيف يقوى على الزلزال شماء (2) أقام سبعا يرج الارض فانصدعت * عن منظر منه عين الشمس عشواء (3) بحر من النار تجري فوقه سفن * من الهضاب لها في الارض أرساء كأنما فوقه الاجبال طافية * موج عليه لفرط البهج وعثاء ترمي لها شررا كالقصر طائشة * كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت * رعبا وترعد مثل السعف أضواء منها تكاثف في الجو الدخان إلى * أن عادت الشمس منه وهي دهماء قد أثرت سفعة (4) في البدر لفحتها * فليلة التيم بعد النور ليلاء تحدث النيرات السبع ألسنها * بما يلاقي بها تحت الثرى الماء وقد أحاط لظاها بالبروج إلى * أن كاد يلحقها بالارض إهواء فيا لها آية من معجزات رسو * ل الله يعقلها القوم الالباء (5) فباسمك الاعظم المكنون إن عظمت * منا الذنوب وساء القلب أسواء فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد * واصفح فكل لفرط الجهل خطاء فقوم يونس لما آمنوا كشف ال * عذاب عنهم وعم القوم نعماء ونحن أمة هذا المصطفى ولنا * منه إلى عفوك المرجو دعاء هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت * محجة في سبيل الله بيضاء فارحم وصل على المختار ما خطبت * على علا منبر الاوراق ورقاء قلت: والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ أعناق الابل ببصرى " (6) وهذا لفظ البخاري.
__________
(1) الضر: السوء والضرر، والبأساء: الضائقة والشدة.
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 299: شملاء.
(3) في بدائع الزهور: عوراء.
(4) في بدائع الزهور: شنعة..فنوره التم بعد الضوء ليلاء.
(5) البيت في البدائع: فيالها معجزات عن رسول الله قد ظهرت والناس أحياء.
(6) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن باب (24).
ومسلم في الفتن ح (42) والامام أحمد في مسنده (5 / 114).

وقد وقع هذا في هذه السنة - أعني سنة أربع وخمسين وستمائة - كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الايام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال: سمعت رجلا من الاعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الابل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز.
قلت: وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرسا للحنفية ببصرى وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولي قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الاحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الاعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله: سبحان من أصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقدار أغرق بغداد بالمياه كما * أحرق أرض الحجاز بالنار قال أبو شامة: والصواب أن يقال: في سنة أغرق العراق وقد * أحرق أرض الحجاز بالنار وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة: في يوم الجمعة ثامن عشررجب - يعني من هذه السنة - كنت جالسا بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم زلزلت يوم الثلاثاء ثانى جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوما.
قال القاصد: وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي
الجهات ترمي ؟ فقال: إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها.
وأخرج قيماز المذكور شيئا من الصخر المحترق وهو كالفحم لونا وخفة.
قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رؤوسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع.
وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوما وإلى الآن.
قال ابن الساعي: وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الا معاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول: إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عزوجل قبل الموت.
وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت،

وهي تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين.
قال أبو شامة: وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة (1) احترق مسجد المدينة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، ابتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة (2) إلى خزانة ثم ومعه نار فعلقت في الابواب ثم، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف، وأخذت قبلة فأعجلت الناس عن قطعها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه وذاب رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية ووقع ما وقع منه في الحجرة، وبقي على حاله حتى شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وأصبح الناس فعزلوا موضعا للصلاة، وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات على ما سنذكره.
هذا كلام الشيخ شهاب الدين أبي شامة.
وقد قال أبو شامة:
في الذي وقع في هذه السنة وما بعدها شعرا وهو قوله: بعد ست من المئين والخمس * ين لذي أربع جرى في العام نار أرض الحجاز مع حرق المس * جد معه تغريق دار السلام ثم أخذ التتار بغداد في أو * ل عام، من بعد ذاك وعام لم يعن أهلها وللكفر أعوا * ن عليهم، يا ضيعة الاسلام وانقضت دولة الخلافة منها * صار مستعصم بغير اعتصام فحنانا على الحجاز ومصر * وسلاما على بلاد الشآم رب سلم وصن وعاف بقايا * المدن، يا ذا الجلال والاكرام وفي هذه السنة كملت المدرسة الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس، وحضر فيها الدرس واقفها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس، ودرس فيها قاضي البلد صدر الدين بن سناء الدولة، وحضر عنده الامراء والدولة والعلماء وجمهور أهل الحل والعقد بدمشق.
وفيها أمر بعمارة الرباط الناصري بسفح قاسيون.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان:
__________
(1) أرخ ابن إياس في البدائع هذا الحريق سنة 651 ه.
(2) قال في شذرات الذهب 5 / 263: حرقه الفراش أبي بكر المراغي بسقوط ذبالة من يده فأتت النار على جميع سقوفه...

الشيخ عماد الدين عبد الله بن الحسن بن النحاس ترك الخلائق وأقبل على الزهادة والتلاوة والعبادة والصيام المتتابع والانقطاع بمسجده بسفح قاسيون نحوا من ثلاثين سنة، وكان من خيار الناس.
ولما توفي دفن عند مسجده بتربة مشهورة به، وحمام ينسب إليه في مساريق الصالحية، وقد أثنى عليه السبط، وأرخوا وفاته كما ذكرت (1).
يوسف بن الامير حسام الدين قزأوغلي بن عبد الله عتيق الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى.
الشيخ شمس الدين.
أبو المظفر الحنفي البغدادي ثم الدمشقي، سبط ابن الجوزي، أمه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ، وقد كان حسن الصورة طيب الصوت حسن الوعظ كثير الفضائل والمصنفات، وله مرآة الزمان في عشرين مجلدا من أحسن التواريخ، نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه، وهو من أبهج التواريخ، قدم دمشق في حدود الستمائة وحظي عند ملوك بني أيوب، وقدموه وأحسنوا إليه، وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التي تقوم عندها الوعاظ اليوم عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين، وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن، على طريقة جده.
وقد كان الشيخ تاج الدين الكندي، وغيره من المشايخ، يحضرون عنده تحت قبة يزيد، التي عند باب المشهد، ويستحسنون ما يقول.
ودرس بالعزية البرانية التي بناها الامير عز الدين أيبك المعظمي، أستاذ دار المعظم، وهو واقف العزية الجوانية التي بالكشك أيضا، وكانت قديما تعرف بدور ابن منقذ.
ودرس السبط أيضا بالشبلية التي بالجبل عند جسر كحيل، وفوض إليه البدرية التي قبالتها، فكانت سكنه، وبها توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحضر جنازته سلطان البلد الناصر بن العزيز فمن دونه.
وقد أثنى عليه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في علومه وفضائله ورياسته وحسن وعظه وطيب صوته ونضارة وجهه، وتواضعه وزهده وتودده، لكنه قال: وقد كنت مريضا ليلة وفاته فرأيت وفاته في المنام قبل اليقظة، ورأيته في حالة منكرة، ورآه غيري أيضا، فنسأل الله العافية.
ولم أقدر على حضور جنازته، وكانت جنازته حافلة حضره السلطان والناس، ودفن هناك.
وقد كان فاضلا عالما ظريفا منقطعا منكرا على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات، وقد كان مقتصدا في لباسه مواظبا على المطالعة والاشتغال والجمع والتصنيف، منصفا لاهل العلم والفضل، مباينا لاولي الجهل، وتأتي الملوك وأرباب
__________
(1) كان مولده سنة 572 ومات في 22 صفر من هذه السنة.

المناصب إليه زائرين وقاصدين، وربي في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوام نحو خمسين سنة، وكان مجلس وعظه مطربا، وصوته فيما يورده حسنا طيبا، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وقد سئل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئا من مقتل الحسين فصعد المنبر وجلس طويلا لا يتكلم، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديدا ثم أنشأ يقول وهو يبكي: ويل لمن شفعاؤه خصماؤه * والصور في نشر الخلائق ينفخ لا بد أن ترد القيامة فاطم * وقميصها بدم الحسين ملطخ ثم نزل عن المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو كذلك رحمه الله.
واقف مرستان الصالحية الامير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكردي، أكبر أمراء القيمرية، كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك، ومن أكبر حسناته وقفه المارستان الذي بسفح قاسيون، وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكور، وكان ذا مال كثير وثروة رحمه الله.
مجير الدين يعقوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب دفن عند والده بتربة العادلية (1).
الامير مظفر الدين إبراهيم ابن صاحب صرخد عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم واقف المعزيتين البرانية والجوانية على الحنفية، ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة رحمهما الله تعالى.
الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي الفقيه الشافعي مدرس الرواحية بعد شيخه تقي الدين بن الصلاح، ودفن
بالصوفية أيضا، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله.
قال أبو شامة، وكثر في هذه السنة موت الفجأة.
فمات خلق كثير بسبب ذلك، وممن توفي
__________
(1) يلقب بالملك المعز كان فاضلا أجاز له أبو روح الهروي وطائفة توفي في ذي القعدة.

فيها زكي الدين أبو الغورية أحد المعدلين بدمشق.
وبدر الدين بن السني أحد رؤسائها.
وعز الدين عبد العزيز بن أبي طالب بن عبد الغفار الثعلبي أبي الحسين، وهو سبط القاضي جمال الدين بن الحرستاني، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم أجمعين.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة فيها أصبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين أيبك بداره ميتا وقد ولي الملك بعد أستاذ الصالح نجم الدين أيوب بشهور.
كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح، ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك، ومعه الملك الاشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس بن الكامل مدة، ثم استقل بالملك بلا منازعة، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الاشرف واستقل بالملك وحده، ثم تزوج بشجرة الدر أم خليل.
وكان كريما شجاعا حييا دينا، ثم كان موته في يوم الثلاثاء (1) الثالث والعشرين من ربيع الاول، وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الاشياء، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة.
وقد قال بعضهم: هذه مجاز لا حقيقة له.
ولما قتل رحمه الله فاتهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به، وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقيبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك (2)، ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الاكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع، وقد علمت على المناشير والتواقيع، وخطب الخطباء باسمها، وضربت السكة برسمها، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن
تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير) [ آل عمران: 26 ] وأقامت الاتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني، بإشارة أكبر مماليكه الامير سيف الدين قطز، ولده نور الدين عليا (3) ولقبوه الملك المنصور، وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الامور على ما يختاره برأيه ورسمه.
وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 294: يوم الاربعاء خامس وعشرين ربيع الاول.
(2) في تاريخ أبي الفداء 3 / 192: قتله سنجر الجوهري مملوك الطواشي والخدام.
وفي بدائع ابن إياس، ندبت له خمسة من الخدام الروم، فدخل عليهما هؤلاء وبأيديهم سيوف مسلولة، فدخلوا عليه الحمام فقتلوه في الحمام خنقا.
(1 / 1 / 294).
(3) قال ابن إياس: بويع بالسلطنة يوم الخميس سادس عشرين ربيع الاول 655 وكان له من العمر إحدى وعشرين سنة (1 / 1 / 296) وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 192: و عمره يومئذ خمس عشرة سنة.

دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وأن ذلك من أقوى الاسباب في ممالاته للتتار.
وفيها دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتركوا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وليس لهم في شيخهم قدوة.
وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريبا من العونية.
وفي يوم الاربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي (1) البغدادي مدرس النظامية، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الامور المهمة، وإصلاح الاحوال المدلهمة، وقد كان فاضلا بارعا رئيسا وقورا متواضعا، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الامير أسامة، وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس، وإنما أراد بذلك توفر خاطر الفقيه وجمعه على طلب العلم، ولكن حصل
بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير وقد كان شيخنا الامام العلامة شيخ الشافعية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري، قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة.
فقال السلطان ولا صبي ؟ فقال الواقف: يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين.
فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها رحمه الله تعالى.
وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار في ذريته إلى الآن.
وقد نظر فيه بعض الاوقات القاضي شمس الدين بن الصائغ ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر، وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافا حسنة دارة، وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولي بها قضاء القضاة كرها منه، فأقام فيه سبعة عشر يوما ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة.
ودفن بالشونيزية رحمه الله تعالى.
وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيزخان عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله - وبالله المستعان.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى.
__________
(1) البادرائي نسبة إلى بادرايا قرية من أعمال واسط.

والشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني (1) بها في ثامن ربيع الاول ودفن فيها، وكان شيخا صالحا مشتغلا بالحديث سماعا وكتابة وإسماعا، إلى أن توفي وله نحو مائة سنة.
قلت: وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة، وقد رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله ما أنا رجل
جيد ؟ قال: بلى أنت رجل جيد، رحمه الله وأكرم مثواه.
الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي، وكان شيخا فاضلا متقنا محققا للبحث كثير الحج، له مكانة عند الاكابر، وقد اقتنى كتبا كثيرة، وكان أكثر مقامه بالحجاز، وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصدا في أموره وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله.
المشد الشاعر الامير سيف الدين علي بن عمر بن قزل مشد الديوان بدمشق، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده: نقلت إلى رمس القبور وضيقها * وخوفي ذنوبي أنها بي تعثر فصادفت رحمانا رؤوفا وأنعما * حباني بها سقيا لما كنت أحذر ومن كان حسن الظن في حال موته * جميلا بعفو الله فالعفو أجدر بشارة بن عبد الله الارمني الاصل بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي، سمع الكندي وغيره، وكان يكتب خطا جيدا، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته، فهم إلى الآن ينظرون في الشبليتين، وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة.
القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري ناب عن أبيه ودرس بالشامية، وله شعر فمنه قوله:
__________
(1) اليلداني: نسبة إلى يلدا قرية من قرى دمشق، وفي معجم البلدان: يلدان، وقيل يلدا دون نون وهي من دمشق على ثلاثة أميال.
قال ياقوت: ولا أدرى أهما واحد أم اثنان.

صيرت فمي لفيه باللثم لثام * عمدا ورشفت من ثناياه مدام فأزور وقال أنت في الفقه إمام * ريقي خمر وعندك الخمر حرام الملك الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل، ملك دمشق بعد أبيه، ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الاشرف واقتصر على الكرك ونابلس، ثم تنقلت به الاحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شئ من المحال، وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فأنكره إياها ولم يردها عليه، وقد كان له فصاحة وشعر جيد، ولديه فضائل جمة، واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الاوائل جدا، وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم.
وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة، فقال بعضهم في جملة قصيدة له: لو كنت في يوم السقيفة شاهدا * كنت المقدم والامام الاعظما فقال الناصر داود للشاعر: اسكت فقد أخطأت، قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهدا يومئذ، ولم يكن المقدم، وما الامام الاعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال الخليفة: صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى، وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة، فاجتمع الناس بجنازته، وحمل منها فصلي عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون.
الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، أول ملوك الاتراك، كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكان دينا صينا عفيفا كريما، مكث في الملك نحوا من سبع سنين (1) ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل، وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي، ولقب بالملك المنصور، وكان مدير مملكته مملوك أبيه سيف الدين قطز، ثم عزله واستقل بالملك بعده نحوا من
سنة وتلقب بالمظفر، فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت.
وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي.
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 295: سبع سنين وثلاثة أشهر.
منها مدة انفراده بالسلطنة خمس سنين وثلاثة أشهر.
وفي ابن خلدون 5 / 377: لثلاث سنين من ولايته.

شجرة الدر بنت عبد الله أم خليل التركية، كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور، فمات صغيرا، وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضرا ولا سفرا من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه، فكان يخاطب لها وتضرب لسكة باسمها وعلمت على المناشير (1) مدة ثلاثة أشهر، ثم تملك المعز كما ذكرنا، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره، فتمالا عليها مماليكه المعزية فقتلوها (2) وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام، ثم نقلت إلى تربة لها (3) بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى، وكانت قوية النفس، لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئا كثيرا من الجواهر النفيسة واللآلئ المثمنة، كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها، وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن حنا وهو أول مناصبه.
الشيخ الاسعد هبة الله بن صاعد شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانيا فأسلم، وكان كثير الصدقات والبر والصلات، استوزره المعز وكان حظيا عنده جدا، لا يفعل شيئا إلا بعد مراجعته ومشاورته، وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز (4)، وقبله القاضي بدر الدين السنجاري (5)، ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الاسعد المسلماني، وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك، ثم لما قتل المعز أهين الاسعد حتى صار
شقيا، وأخذ الامير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار، وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي، فقال: لعن الله صاعدا * وأباه، فصاعدا
__________
(1) اصطلح كتاب ذلك الزمان على تسمية (أي المنشور) جميع ما يكتب في الاقطاعات من عاليها ودانيها للامراء والجند والعربان والتركمان وغيرهم مناشير جمع منشور.
(انظر صبح الاعشى 13 / 157، المواعظ 2 / 217).
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 294: ان الامير علي قبض على شجرة الدر، وسلمها إلى أمه، فأمرت جواريها ان يقتلوها بالقباقيب والنعال، فقتلوها حتى ماتت.
(3) دفنت في المدرسة التي بجوار بيت الخليفة (بدائع الزهور).
(4) في بدائع الزهور: كان قبله بهاء الدين زهير محمد بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن الازدي فلما مات تولى الوزارة الاسعد هبة الله الفائزي (1 / 1 / 301).
(5) في بدائع الزهور: السخاوي: تابع ابن إياس قائلا: واستقر به وزيرا عوضا عن الفائزي، وقد جمع بين الوزارة وقضاء الشافعية (1 / 1 / 301).

وبنيه فنازلا * واحدا ثم واحدا ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة، وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير، وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة.
ابن أبي الحديد الشاعر العراقي عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح نهج البلاغة في عشرين مجلدا، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والادب والفضيلة، وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة،
وكان أكثر فضيلة وأدبا من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلا بارعا أيضا، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الاميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا، كما ورد في الاثر " لن يغني حذر عن قدر " وكما قال تعالى (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) [ نوح: 4 ] وقال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) [ الرعد: 11 ] وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة - وكان قدوم هلاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل - إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الامر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو

أن هلاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجها إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك
التتار بما يبعثه إليه من الاموال، وأشاروا بأن يبعث بشئ يسير، فأرسل شيئا من الهدايا فاحتقرها هلاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالا به حتى أزف قدومه، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الاسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الاسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الاسلام وأهله ما وقع من الامر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الاوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هلاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤس الامراء والدولة والاعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هلاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الاهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والاشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملا من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الامر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى
السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الالموت، وانتزعها من أيدي الاسماعيلية، وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ولابيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فقتلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الارض شئ من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق،

ويقال بل أغرق فالله أعلم، فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والاكابر والرؤساء والامراء وأولي الحل والعقد ببلاده - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الابواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الامكنة فيقتلونهم بالاسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الازقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الامراء من هو كالملوك الاكابر الاكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر
البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والاطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الارض والسماء.
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا.
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا) الآيات [ الاسراء: 17 - 22 ].
وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الانبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معمورا بالعباد والزهاد والاحبار والانبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة.
فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الاربعاء

رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر (1)، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام (2)، وقتل معه ولده الاكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الاوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الاصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الابكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدا
بعد واحده، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.
وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.
وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والائمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الاسفل من النار.
ولما انقضى الامر المقدر وانقضت الاربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالامان خرج من تحت الارض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الاخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى.
وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الاولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الامير علي بهادر، فوض
__________
(1) في فوات الوفيات 2 / 231: سبعا وأربعين سنة.
(2) كذا بالاصل ومرآة الزمان 1 / 254 وفوات الوفيات 2 / 231 وفي نهاية الارب 23 / 324: خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 194: نحو ست عشرة سنة تقريبا.

إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الانشاء ولديه فضيلة في الادب، ولكنه كان شيعيا جلدا رافضيا خبيثا، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.
وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم.
وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير، وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية، منهم ركن الدين بيبرس البند قداري، فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الاثقال والاموال، وأسروا جماعة من رؤس الامراء فقتلوا صبرا، وعادوا إلى الكرك في أسوأ حال وأشنعه، وجعلوا يفسدون في الارض ويعيثون في البلاد، فأرسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشا ليكفهم عن ذلك، فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: خليفة الوقت المستعصم بالله أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لامر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي
العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الامير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الامير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي، مولده سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الاولى (1) سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الاربعاء الرابع عشر من صفر (2) سنة ست
__________
(1) في مآثر الانافة 2 / 89: لعشر خلون من جمادى الآخرة.
(2) في مآثر الانافة 2 / 89 والجوهر الثمين 1 / 220: في المحرم.

وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعا وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
وقد كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة مقتديا بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النيار، وأجاز هو للامام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين البادرائي، وحدثا عنه بهذه الاجازة.
وقد كان رحمه الله سنيا على طريقة السلف واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار فاستقبح هذا من مثل الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، كما قال الله تعالى (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) [ آل عمران: 75 ].
قتلته التتار مظلوما مضطهدا في يوم الاربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة، وله من العمر
ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر.
وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياما (1)، فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرأفة ثراه.
وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بني العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجى منهم النوال ويخشى البأس، وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام، فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة، ثم عادت كما كانت.
وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد.
ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والاقطار والامصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الامر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب، وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الاحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولا بعد دول، حتى لم يبق مع الخليفة
__________
(1) تقدم التعليق على مدة خلافته ومقدار عمره عند وفاته.
انظر هوامش صفحة 236.

منهم إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الاموال في أكثر الاوقات، كما ذكر ذلك مبسوطا في الحوادث والوفيات.
واستمرت دولة الفاطميين قريبا من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكا متخلفا، ومدة ملكهم تحريرا من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع
وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح (1)، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم، فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم.
وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم.
وكذلك أول خلفاء الفاطميين فالاول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم.
وهذه أرجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء: الحمد لله العظيم عرشه * القاهر الفرد القوي بطشه مقلب الايام والدهور * وجامع الانام للنشور ثم الصلاة بدوام الابد * على النبي المصطفى محمد وآله وصحبه الكرام * السادة الائمة الاعلام وبعد فإن هذه أرجوزة * نظمتها لطيفة وجيزة نظمت فيها الراشدين الخلفا * من قام بعد النبي المصطفى ومن تلاهم وهلم جرا * جعلتها تبصرة وذكرى ليعلم العاقل ذو التصوير * كيف جرت حوادث الامور وكل ذي مقدرة وملك * معرضون للفنا والهلك
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة 4 / 221 والامام أحمد في مسنده 4 / 273 و 5 / 220 والترمذي في الفتن 4 / 503.
وقد تقدم الحديث في كتابنا في الجزء السادس: وعزاه المؤلف هناك لابي داود والترمذي والنسائي.

وفي اختلاف الليل والنهار * تبصرة لكل ذي اعتبار والملك الجبار في بلاده * يورثه من شاء من عباده وكل مخلوق فللفناء * وكل ملك فإلى انتهاء ولا يدوم غير ملك الباري * سبحانه من ملك قهار منفرد بالعز والبقاء * وما سواه فإلى انقضاء أول من بويع بالخلافة * بعد النبي ابن أبي قحافة أعني الامام الهادي الصديقا * ثم ارتضى من بعده الفاروقا ففتح البلاد والامصارا * واستأصلت سيوفه الكفارا وقام بالعدل قياما يرضي * بذاك جبار السما والارض ورضي الناس بذي النورين * ثم علي والد السبطين ثم أتت كتائب مع الحسن * كادوا بأن يجددوا بها الفتن فأصلح الله على يديه * كما عزا نبينا إليه (1) وجمع الناس على معاوية * ونقل القصة كل راويه فمهد الملك كما يريد * وقام فيه بعده يزيد ثم ابنه وكان برا راشدا * أعني أبا ليلى وكان زاهدا فترك الامرة لا عن غلبه * ولم يكن إليها منه طلبه وابن الزبير بالحجاز يدأب * في طلب الملك وفيه ينصب وبالشام بايعوا مروانا * بحكم من يقول كن فكانا ولم يدم في الملك غير عام * وعافصته أسهم الحمام
واستوثق الملك لعبد الملك * ونار نجم سعده في الفلك وكل من نازعه في الملك * خر صريعا بسيوف الهلك وقتل المصعب (2) بالعراق * وسير الحجاج ذا الشقاق إلى الحجاز بسيوف النقم * وابن الزبير لائذ بالحرم فجار بعد قتله بصلبه * ولم يخف في أمره من ربه وعندما صفت له الامور * تقلبت بجسمه الدهور ثم أتى من بعده الوليد * ثم سليمان الفتى الرشيد
__________
(1) اشارة إلى الحديث الشريف قال فيه: ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
لفظ البخاري.
في كتاب الصلح بين الناس، وأعاده في باب علامات النبوة في الاسلام - كتاب المناقب وأخرجه محمد في مسنده 5 / 49.
(2) يعني مصعب بن الزبير.

ثم استفاض في الورى عدل عمر * تابع أمر ربه كما أمر وكان يدعى بأشج القوم * وذي الصلاة والتقى والصوم فجاء بالعدل والاحسان * وكف أهل الظلم والطغيان مقتديا بسنة الرسول * والراشدين من ذوي العقول فجرع الاسلام كأس فقده * ولم يروا مثلا له من بعده ثم يزيد بعده هشام * ثم الوليد فت منه الهام ثم يزيد وهو يدعى الناقصا * فجاءه حمامه معافصا ولم تطل مدة إبراهيما * وكان كل أمره سقيما وأسند الملك إلى مروانا * فكان من أموره ما كانا وانقرض الملك على يديه * وحادث الدهر سطا عليه
وقتله قد كان بالصعيد * ولم تفده كثرة العديد وكان فيه حتف آل الحكم * واستنزعت عنهم ضروب النعم ثم أتى ملك بني العباس * لا زال فينا ثابت الاساس وجاءت البيعة من أرض العجم * وقلدت بيعتهم كل الامم وكل من نازعهم من أمم * خر صريعا لليدين والفم وقد ذكرت من تولى منهم * حين تولى القائم المستعصم أولهم ينعت بالسفاح * وبعده المنصور ذو الجناح ثم أتى من بعده المهدي * يتلوه موسى الهادي الصفي وجاء هارون الرشيد بعده * ثم الامين حين ذاق فقده وقام بعد قتله المأمون * وبعده المعتصم المكين واستخلف الواثق بعد المعتصم * ثم أخوه جعفر موفي الذمم وأخلص النية في المتوكل * لله ذي العرش القديم الاول فأدحض البدعة في زمانه * وقامت السنة في أوانه ولم يبق فيها بدعة مضلة * وألبس المعتزلي ثوب ذله فرحمة الله عليه أبدا * ما غار نجم في السماء أو بدا وبعده استولى وقام المعتمد * ومهد الملك وساس المقتصد وعندما استشهد قام المنتصر * والمستعين بعده كما ذكر وجاء بعد موته المعتز * والمهتدي الملتزم الاعز والمكتفي في صحف العلا أسطر * وبعده ساس الامور المقتدر واستوثق الملك بعز القاهر * وبعده الراضي أخو المفاخر والمتقي من بعد ذا المستكفي * ثم المطيع ما به من خلف

والطائع الطائع ثم القادر * والقائم الزاهد وهو الشاكر والمقتدي من بعده المستظهر * ثم أتى المسترشد الموقر وبعده الراشد ثم المقتفي * وحين مات استنجدوا بيوسف المستضئ العادل في أفعاله * الصادق الصدوق في أقواله والناصر الشهم الشديد الباس * ودام طول مكثه في الناس ثم تلاه الظاهر الكريم * وعدله كل به عليم ولم تطل أيامه في المملكة * غير شهور واعترته الهلكه وعهده كان إلى المستنصر * العادل البر الكريم العنصر دام يسوس الناس سبع عشرة * وأشهرا بعزمات بره ثم توفي عام أربعينا * وفي جمادى صادف المنونا وبايع الخلائق المستعصما * صلى عليه ربنا وسلما فأرسل الرسل إلى الآفاق * يقضون بالبيعة والوفاق وشرفوا بذكره المنابرا * ونشروا في جوده المفاخرا وسار في الآفاق حسن سيرته * وعدله الزائد في رعيته قال الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتا: ثم ابتلاه الله بالتتار * أتباع جنكيزخان الجبار صحبته ابن ابنه هولاكو * فلم يكن من أمره فكاك فمزقوا جنوده وشمله * وقتلوه نفسه وجهله ودمروا بغداد والبلادا * وقتلوا الاحفاد والاجدادا وانتهبوا المال مع الحريم * ولم يخافوا سطوة العظيم وغرهم إنظاره وحلمه * وما اقتضاه عدله وحكمه وشغرت من بعده الخلافة * ولم يؤرخ مثلها من آفة
ثم أقام الملك أعني الظاهرا * خليفة أعني به المستنصرا ثم ولي من بعد ذاك الحاكم * مسيم بيبرس الامام العالم ثم ابنه الخليفة المستكفي * وبعض هذا للبيب يكفي ثم ولي من بعده جماعة * ما عندهم علم ولا بضاعة ثم تولى وقتنا المعتضد * ولا يكاد الدهر مثله يجد في حسن خلق واعتقاد وحلى * وكيف لا وهو من السيم الاولى سادوا البلاد والعباد فضلا * وملاوا الاقطار حكما وعدلا

أولاد عم المصطفى محمد * وأفضل الخلق بلا تردد صلى عليه الله ذو الجلال * ما دامت الايام والليالي فصل والفاطميون قليلوا العدة * لكنهم مد لهم في المدة فملكوا بضعا وستين سنة * من بعده مائتين وكان كالسنة والعدة أربع عشرة المهدي * والقائم المنصور المعدي أعني به المعز باني القاهرة * ثم العزيز الحاكم الكوافرة والظاهر المستنصر المستعلي * فالآمر الحافظ عنه سوء الفعل والظافر الفائز ثم العاضد * آخرهم وما لهذا جاحد أهلك بعد البضع والسنينا * من قبلها خمسمائة سنينا وأصلهم يهود ليسوا شرفا * بذاك أفتى السادة الائمة * أنصار دين الله من ذي الامة * فصل وهكذا خلفاء بني أمية * عدتهم كعدة الرافضية
ولكن المدة كانت ناقصة * عن مائة من السنين خالصة وكلهم قد كان ناصبيا * إلا الامام عمر التقيا معاوية ثم ابنه يزيد * وابن ابنه معاوية السديد مروان ثم ابن له عبد الملك * منابذ لابن الزبير حتى هلك ثم استقل بعده بالملك * في سائر الارض بغير شك ثم الوليد النجل باني الجامع * وليس مثله بشكله من جامع ثم سليمان الجواد وعمر * ثم يزيد وهشام وغدر أعني الوليد بن يزيد الفاسقا * ثم يزيد بن الوليد فائقا يلقب الناقص وهو كامل * ثم إبراهيم وهو عاقل ثم مروان الحمار الجعدي * آخرهم فاظفر بذا من عندي والحمد لله على التمام * كذاك نحمده على الانعام ثم الصلاة مع تمام العدد * على النبي المصطفى محمد وآله وصحبه الاخيار * في سائر الاوقات والاعصار وهذه الابيات نظم الكاتب * ثمانية تتمة المناقب

وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن أحمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي، ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شابا حسنا، وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدما في مناصب الدنيا، فولي حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والاشعار الحسنة، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له تداريس أخر، ولي أستاذ دار الخلافة، وكان رسولا للملوك
من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء، وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ، ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الكريم.
وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله.
ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد، وقد ذكر له ابن الساعي أشعارا حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والاعياد، تدل على فضيلة وفصاحة، وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس، تقبل الله منه.
الصرصري المادح رحمه الله يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر عبد السلام الشيخ الامام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم، جمال الدين أبو زكريا الصرصري (1)، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة.
وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبد القادر، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم الكافي الذي ألفه موفق الدين بن قدامة، ومختصر الخرقي، وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إنها تبلغ عشرين مجلدا، وما اشتهر عنه أنه مدح أحدا من المخلوقين من بني آدم إلا الانبياء، ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هلاكو فأبى أن يجيب إليه، وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الاحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم (2)، ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى، وله من العمر ثمان وستون سنة.
وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في الذيل، استوعب حروف المعجم، وذكر غير ذلك قصائد طوالا كثيرة حسنة.
__________
(1) الصرصري: نسبة إلى صرصر قرية على فرسخين من بغداد.
(2) في شذرات الذهب 5 / 286: نحو اثني عشر نفسا.

البهاء زهير صاحب الديوان
وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين (1) بن جعفر المهلبي العتكي المصري، ولد بمكة (2) ونشأ بقوص، وأقام بالقاهرة، الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور، وقدم على السلطان الصالح أيوب، وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس، ودفع الشر عنهم، وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال أجاز لي رواية ديوانه، وقد بسط ترجمته القطب اليونيني.
الحافظ زكي الدين المنذري عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد، الامام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري، أصله من الشام وولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة، وقيل إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وعني بهذا الشأن، حتى فاق أهل زمانه فيه، وصنف وخرج، واختصر صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وهو أحسن اختصارا من الاول، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، وكان ثقة حجة متحريا زاهدا، توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر.
ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز ابن عبد الرحيم (3) بن رستم الاسعردي (4) الشاعر المشهور الخليع، كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الاجناد، فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتابا سماه " الزرجون (5) في الخلاعة والمجون " وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة، ومن شعره الذي لا يحمد:
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 300: الحسن (انظر ابن خلكان 2 / 332).
(2) في ابن خلكان: سنة 551 في خامس ذي الحجة بوادي نخلة بالقرب من مكة.
وتوفي يوم الاحد رابع ذي القعدة (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 197).
(3) في الوافي بالوفيات: عبد الصمد.
(4) من فوات الوفيات 2 / 161 والوافي بالوفيات 1 / 188 وفي الاصل: الاشعري.
قال في الوافي: ولد سنة تسع عشرة وستمائة.
(5) في الوافي والفوات: سلافة الزرجون في الخلاعة والمجون.

لذة العمر خمسة فاقتنيها * من خليع غدا أديبا فقيها في نديم وقينة وحبيب * ومدام وسب من لام فيها الوزير ابن العلقمي الرافضي قبحه الله محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب بن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وخدمه في زمان المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة، ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الانشاء والادب، وكان رافضيا خبيثا ردئ الطوية على الاسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالا على الاسلام وأهله الكفار هولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالاسلام وأهله مما تقدم ذكره، ثم حصل له بعد ذلك من الاهانة والذل على أيدي التتار الذين مالاهم وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه وقالت له: يا بن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك ؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا (1)، وقلة وذلة، في مستهل جمادى الآخرة (2) من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الاهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف.
وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه:
يا فرقة الاسلام نوحوا واندبوا * أسفا على ما حل بالمستعصم دست الوزارة كان قبل زمانه * لابن الفرات فصار لابن العلقمي محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق، كان مشكورا حسن الطريقة، وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة، وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيرا.
__________
(1) في مآثر الانافة 2 / 92: واستبقى هولاكو الوزير ابن العلقمي مدة يسيرة في الوزارة ثم قتله، وبهامشه: " في هامش الاصل ما يأتي بخط مختلف: وهولاكو احسن في قتله الوزير العلقمي ".
وفي الفخري ص 338: فمكث الوزير شهورا ثم مرض ومات.
(2) في الفخري ص 339: جمادى الاولى.

القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الانصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالاسكندرية، ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك، واختصر الصحيحين، وشرح صحيح مسلم المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله.
الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وكان مدرسا بالرواحية، توفي في ذي القعدة من هذه السنة.
العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي ثم الدمشقي خطيب بيت الابار، وقد خطب بالاموي ست سنين بعد ابن عبد السلام، ودرس بالغزالية، ثم عاد إلى بيت الابار فمات بها.
علي بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد، وكان
أولا مؤدبا للامام المستعصم، فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده، وانضمت إليه أزمة الامور، ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار.
الشيخ علي العابد الخباز كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتلته التتار وألقي على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته.
محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي خطيب براد (1)، سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، ولد في سنة ثلاث وخمسين (2) فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده برادا (1) في هذه السنة، رحمه الله.
__________
(1) في الوافي 2 / 219: مردا، وفي معجم البلدان: مردا قرية قرب نابلس.
(2) في الوافي: ولد سنة 566 ه.
فيكون عمره عند وفاته تسعين سنة.

البدر لؤلؤ صاحب الموصل الملقب بالملك الرحيم، توفي في شعبان عن مائة سنة (1) وقد ملك الموصل نحوا من خمسين سنة (2)، وكان ذا عقل ودهاء ومكر، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه حتى أبادهم، وأزال الدولة الاتابكية عن الموصل، ولما انفصل هولاكو خان عن بغداد - بعد الوقعة الفظيعة العظيمة - سار إلى خدمته طاعة له، ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه، ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيرة، ثم مات ودفن بمدرسته البدرية، وتأسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته، وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى بالكامل في التاريخ فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطي لبعض الشعراء ألف دينار.
وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل.
وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الاتابكي صاحب الموصل، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم
في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه.
ثم إنه قتل أولاد أستاذه غيلة واحدا بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل هو بالملك، وصفت له الامور، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد علي قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة، وكان شابا حسن الشباب من نضارة وجهه، وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه قضيب الذهب، وكان ذا همة عالية وداهية شديد المكر بعيد الغور، وبعثه إلى مشهد علي بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه والله أعلم.
الملك الناصر داود المعظم ترجمه الشيخ قطب الدين اليونيني في تذييله على المرآة في هذه السنة، وبسط ترجمته جدا وما جرى له من أول أمره إلى آخره.
وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث، وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة، فتكرر وفوده إليه، وتوسله بالناس في ردها إليه، فلم يفد من ذلك شيئا، وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله: لو كنت في يوم السقيفة حاضرا * كنت المقدم والامام الاورعا فقال له الناصر داود: أخطأت فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضرا يوم السقيفة ولم يكن
__________
(1) كذا بالاصل، وفي نسخة: ثمانين سنة وسيأتي بعد قليل: نحو تسعين.
وفي تاريخ أبي الفداء: 3 / 198: جاوز الثمانين.
(2) في تاريخ أبي الفداء: ثلاث وأربعين سنة تقريبا.

المقدم، وهو أفضل من أمير المؤمنين، وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق، فقال الخليفة صدق وخلع عليه، ونفى ذلك الشاعر - وهو الوجيه الفزاري - إلى مصر، وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا (1) مرسما عليه وشهد جنازته صاحب دمشق.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة
استهلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن أبي الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين، وهو واقع بينه وبين المصريين وقد ملكوا نور الدين علي بن المعز أيبك التركماني ولقبوه بالمنصور، وقد أرسل الملك الغاشم هولاكو خان إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه، فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه هدايا كثيرة وتحف، فلم يحتفل به هولاكو خان بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه، وأخذ ابنه وقال: أنا أسير إلى بلاده بنفسي، فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك ليحصنهم بها وخاف أهل دمشق خوفا شديدا، ولا سيما لما بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناس كثير منهم ونهبوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأقبل هولاكو خان فقصد الشام بجنوده وعساكره، وقد امتنعت عليه ميافارقين مدة سنة ونصف (2)، فأرسل إليها ولده أشموط (3) فافتتحها قسرا وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي بن العادل فأرسله إلى أبيه وهو محاصر حلب فقتله بين يديه، واستناب عليها بعض مماليك الاشرف، وطيف برأس الكامل في البلاد، ودخلوا برأسه إلى دمشق، فنصب على باب الفراديس البراني، ثم دفن بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الجواني، فنظم أبو شامة في ذلك قصيدة يذكر فيها فضله وجهاده، وشبهه بالحسين في قتله مظلوما، ودفن رأسه عند رأسه.
وفيها عمل الخواجه نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة، ونقل إليه شيئا كثيرا من كتب الاوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دار حكمة ورتب فيها فلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم، ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهمان، ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم، ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم.
وفيها قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم إلى الديار المصرية رسولا من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار، وأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وقد استولوا على
__________
(1) البويضا: " قرية شرقي دمشق " وبها مولده سنة 603 ه وكان عمره نحو 53 سنة.
وقد مات بالطاعون الذي لحق الناس في الشام.
ونقل منها ودفن بالصالحية في تربة والده المعظم (تاريخ أبي الفداء 3 / 195).
(2) في تاريخ أبي الفداء: سنتين، وفي تاريخ ابن خلدون 3 / 537: سنين.
(3) في تاريخ أبي الفداء 3 / 199: سموط.

بلاد الجزيرة وغيرها، وقد جاز أشموط (1) بن هولاكو خان الفرات وقرب من حلب، فعند ذلك عقدوا مجلسا بين يدي المنصور بن المعز التركماني (2)، وحضر قاضي مصر بدر الدين السنجاري (3)، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شئ من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال: إذا لم يبق في بيت المال شئ ثم أنفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذ أخذ شئ من أموال الناس في دفع الاعداء عنهم، لانه إذا دهم العدو البلاد، وجب على الناس كافة دفعهم بأموالهم وأنفسهم (4).
ولاية الملك المظفر قطز وفيها قبض الامير سيف الدين قطز على ابن أستاذه نور الدين علي الملقب بالمنصور، وذلك في غيبة أكثر الامراء من مماليك أبيه وغيرهم في الصيد، فلما مسكه سيره مع أمه وابنيه وأخوته إلى بلاد الاشكري، وتسلطن هو وسمى نفسه بالملك المظفر (5)، وكان هذا من رحمة الله بالمسلمين، فإن الله جعل على يديه كسر التتار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وبان عذره الذي اعتذر به إلى الفقهاء والقضاة وإلى ابن العديم، فإنه قال: لا بد للناس من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم، وهذا صبي صغير لا يعرف تدبير المملكة.
وفيها برز الملك الناصر صاحب دمشق إلى وطاء، برز في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والاعراب وغيرهم، ولما علم ضعفهم عن مقاومة المغول ارفض ذلك الجمع، ولم يسر لا هو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها توفي من الاعيان:
واقف الصدرية صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مؤمل (6) التنوخي المغربي ثم الدمشقي الحنبلي أحد المعدلين، ذوي الاموال، والمروءات والصدقات
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 3 / 199: سموط.
(2) وكان الاجتماع برعاية الاتابكي قطز وأخذ رأي الامراء ومشايخ العلم (بدائع الزهور).
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 301: السخاوي.
(4) انظر تفاصيل ما حصل في المجلس من مشاورات في بدائع الزهور 1 / 1 / 301 - 302.
(5) كان ذلك يوم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة 657، وفي تاريخ أبي الفداء: في أوائل ذي الحجة.
(6) في الوافي بالوفيات 9 / 44: أسعد المذكور توفي سنة 606 ه.
وهو جد صدر الدين المتوفى هذه السنة وهو أسعد بن عثمان بن أسعد - الذي ذكره المؤلف أنه توفي هذه السنة.
ولعل ايراده هنا سهو من الناسخ - وأسعد بن =

الدارة البارة، وقف مدرسة للحنابلة، وقبره بها إلى جانب تربة القاضي المصري في رأس درب الريحان من ناحية الجامع الاموي، وقد ولي نظر الجامع مدة، واستجد أشياء كثيرة منها سوق النحاسين قبلي الجامع، ونقل الصاغة إلى مكانها الآن، وقد كانت قبل ذلك في الصاغة العتيقة، وجدد الدكاكين التي بين أعمدة الزيارة، وثمر الجامع أموالا جزيلة، وكانت له صدقات كثيرة، وذكر عنه أنه كان يعرف صنعة الكيميا وأنه صح معه عمل الفضة، وعندي أن هذا لا يصح ولا يصح عنه والله أعلم.
الشيخ يوسف الاقميني كان يعرف بالاقميني لانه كان يسكن قمين حمام نور الدين الشهيد، وكان يلبس ثيابا طوالا تحف على الارض، ويبول في ثيابه، ورأسه مكشوفة، ويزعمون أن له أحوالا وكشوفا كثيرة، وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته، وذلك لانهم لا يعلمون شرائط الولاية ولا الصلاح، ولا يعلمون أن الكشوف قد تصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كالرهبان وغيرهم، وكالدجال وابن صياد وغيرهم، فإن الجن تسترق السمع وتلقيه على أذن الانسي، ولا
سيما من يكون مجنونا أو غير نقي الثياب من النجاسة، فلا بد من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة، فمن وافق حاله كتاب الله وسنة رسوله فهو رجل صالح سواء كاشف أو لم يكاشف، ومن لم يوافق فليس برجل صالح سواء كاشف أم لا.
قال الشافعي: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
ولما مات هذا الرجل دفن بتربة بسفح قاسيون وهي مشهورة به شرقي الرواحية، وهي مزخرفة قد اعتنى بها بعض العوام ممن كان يعتقده، فزخرفها وعمل على قبره حجارة منقوشة بالكتابة، وهذا كله من البدع، وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة، وكان الشيخ إبراهيم بن سيعد جيعانة لا يتجاسر فيما يزعم أن يدخل البلد والقميني حي، فيوم مات الاقميني دخلها، وكانت العوام معه فدخلوا دمشق وهم يصيحون ويصرخون أذن لنا في دخول البلد، وهم أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، فقيل لجيعانة: ما منعك من دخولها قبل اليوم ؟ فقال: كنت كلما جئت إلى باب من أبواب البلد أجد هذا السبع رابضا فيه فلا أستطيع الدخول، وقد كان سكن الشاغور، وهذا كذب واحتيال ومكر وشعبذة، وقد دفن جيعانة عنده في تربته بالسفح والله أعلم بأحوال العباد.
الشمس علي بن الشبي المحدث ناب في الحسبة عن الصدر البكري، وقرأ الكثير بنفسه، وسمع وأسمع، وكتب بخطه كثيرا.
__________
= عثمان ولد بدمشق سنة 598 ه وتوفي تاسع عشر رمضان سنة 657 ه.
(وانظر شذرات الذهب 5 / 288).

أبو عبد الله الفاسي شارح الشاطبية اشتهر بالكنية، وقيل إن اسمه القاسم، مات بحلب، وكان عالما فاضلا في العربية والقراءات وغير ذلك، وقد أجاد في شرحه للشاطبية وأفاد، واستحسنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة شارحها أيضا.
النجم أخو البدر مفضل
وكان شيخ الفاضلية بالكلاسة، وكان له إجازة من السلفي خطيب العقبية بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ودفن بباب الصغير على جده، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
سعد الدين محمد بن الشيخ محيي الدين بن عربي ذكره أبو شامة وأثنى عليه في فضيلته وأدبه وشعره، هذا إن لم يكن من أتباع أبيه، وقد ذكر أبو شامة وفاة الناصر داود في هذه السنة.
سيف الدين بن صبرة متولي شرطة دمشق، ذكر أبو شامة: أنه حين مات جاءت حية فنهشت أفخاذه، وقيل: إنها التفت في أكفانه، وأعيى الناس دفعها.
قال وقيل: إنه كان نصيريا رافضيا خبيثا مدمن خمر، نسأل الله الستر والعافية.
النجيب بن شعيشعة الدمشقي أحد الشهود بها، له سماع حديث ووقف داره بدرب البانياسي دار حديث، وهي التي كان يسكنها شيخنا الحافظ المزي قبل انتقاله إلى دار الحديث الاشرفية، قال أبو شامة: وكان ابن شعيشعة وهو النجيب أبو الفتح نصر الله بن أبي طالب الشيباني، مشهورا بالكذب ورقة الدين وغير ذلك، وهو أحد الشهود المقدوح فيهم، ولم يكن بأهل أن يؤخذ عنه، قال وقد أجلسه أحمد بن يحيى الملقب بالصدر ابن سنى الدولة في حال ولايته القضاء بدمشق، فأنشد فيه بعض الشعراء: جلس الشعيشعة الشقي ليشهدا * تبا لكم، ماذا عدا فيما بدا ؟ هل زلزل الزلزال ؟ أم قد خرج الد * جال أم عدم الرجال ذوو الهدى ؟

عجبا لمحلول العقيدة جاهل * بالشرع قد أذنوا له أن يقعدا قال أبو شامة: في سنة سبع وخمسين وستمائة مات شخص زنديق يتعاطى الفلسفة والنظر في
علم الاوائل، وكان يسكن مدارس المسلمين، وقد أفسد عقائد جماعة من الشبان المشتغلين فيما بلغني، وكان أبو يزعم أنه من تلامذة ابن خطيب الري الرازي صاحب المصنفات حية ولد حية.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة استهلت هذه السنة بيوم الخميس وليس للناس خليفة، وملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد المشرق للسلطان هولاكو خان ملك التتار، وسلطان ديار مصر الملك المظفر سيف الدين قطز، مملوك المعز أيبك التركماني، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز بن الظاهر، وبلاد الكرك والشوبك للملك المغيث بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وهو حرب مع الناصر صاحب دمشق على المصريين، ومعهما الامير ركن الدين بيبرس البند قداري، وقد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم.
وبينما الناس على هذه الحال وقد تواترت الاخبار بقصد التتار بلاد الشام إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو خان وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالامان، ثم غدروا بأهلها وقتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عزوجل، ونهبوا الاموال، وسبوا النساء والاطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، فجاسوا خلال الديار وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وامتنعت عليهم القلعة شهرا ثم استلموها بالامان، وخرب أسوار البلد وأسوار القلعة وبقيت حلب كأنها حمار أجرب، وكان نائبها الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وكان عاقلا حازما، لكنه لم يوافقه الجيش على القتال، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
وقد كان أرسل هولاكو يقول لاهل حلب (1): نحن إنما جئنا لقتال الملك الناصر بدمشق، فاجعلوا لنا عندكم شحنة، فإن كانت النصرة لنا فالبلاد كلها في حكمنا، وإن كانت علينا فإن شئتم قبلتم الشحنة وإن شئتم أطلقتموه.
فأجابوه ما لك عندنا إلا السيف، فتعجب من ضعفهم وجوابهم، فزحف حينئذ إليهم وأحاط بالبلد، وكان ما كان بقدر الله سبحانه.
ولما فتحت حلب أرسل صاحب حماه بمفاتيحها إلى هولاكو، فاستناب عليها رجلا من العجم يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له: خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب.
صفة أخذهم دمشق وزوال ملكهم عنها سريعا أرسل هولاكو وهو نازل على حلب جيشا مع أمير من كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم (3 / 201).

دمشق في آخر صفر فأخذوها سريعا من غير ممانعة ولا مدافع، بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة، وقد كتب هولاكو أمانا لاهل البلد، فقرئ بالميدان الاخضر ونودي به في البلد، فأمن الناس على وجل من الغدر، كما فعل بأهل حلب، هذا والقلعة ممتنعة مستورة، وفي أعاليها المجانيق منصوبة والحال شديدة، فأحضرت التتار منجنيقا يحمل على عجل والخيول تجرها، وهم راكبون على الخيل وأسلحتهم على أبقار كثيرة، فنصب المنجانيق على القلعة من غربيها، وخربوا حيطانا كثيرة وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رميا متواترا كالمطر المتدارك، فهدموا كثيرا من أعاليها وشرافاتها وتداعت للسقوط فأجابهم متوليها في آخر ذلك النهار للمصالحة، ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها، وأعالي بروجها، وذلك في نصف جمادى الاولى من هذه السنة، وقتلوا المتولي بها بدر الدين بن قراجا، ونقيبها جمال الدين بن الصيرفي الحلبي، وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم يقال له إبل سيان، وكان لعنه الله معظما لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جدا، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفا، وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان من جهته، ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، هم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح.
ويذمون دين الاسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرا، وقماقم ملآنة خمرا يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الازقة والاسواق أن يقوم لصليبهم، ودخلوا من درب الحجر فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان، ورشوا عنده خمرا، وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير، واجتازوا في السوق حتى وصلوا درب الريحان أو قريب منه، فتكاثر عليهم
المسلمون فردوهم إلى سوق كنيسة مريم، فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دنى النصارى وذم دين الاسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم وكانت عامرة ولكن هذا سبب خرابها ولله الحمد.
وحكى الشيخ قطب الدين في ذيله على المرآة أنهم ضربوا بالناقوس في كنيسة مريم فالله أعلم.
قال: وذكر أنهم دخلوا إلى الجامع بخمر وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرا من المساجد وغيرها، ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها إبل سيان فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا كان في أول هذه السنة وسلطان الشام الناصر بن العزيز مقيم في وطأة برزه، ومعه جيوش كثيرة من الامراء وأبناء الملوك ليناجزوا التتار إن قدموا عليهم، وكان في جملة من معه الامير بيبرس البند قداري في جماعة من البحرية، ولكن الكلمة بين الجيوش مختلفة غير مؤتلفة، لما يريده الله عزوجل.
وقد عزمت طائفة من الامراء على خلع الناصر وسجنه ومبايعة أخيه شقيقه الملك الظاهر علي، فلما عرف الناصر ذلك هرب إلى القلعة وتفرقت العساكر شذر مذر

وساق الامير ركن الدين بيبرس في أصحابه إلى ناحية غزة، فاستدعاه الملك المظفر قطز إليه واستقدمه عليه، وأقطعه قليوب، وأنزله بدار الوزارة وعظم شأنه لديه، وإنما كان حتفه على يديه.
وقعة عين جالوت اتفق وقوع هذا كله في العشر الاخير من رمضان من هذه السنة، فما مضت سوى ثلاثة أيام حتى جاءت البشارة بنصرة المسلمين على التتار بعين جالوت، وذلك أن الملك المظفر قطز صاحب مصر لما بلغه أن التتار قد فعلوا بالشام ما ذكرنا، وقد نبهوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى غزة، وقد عزموا على الدخول إلى مصر، وقد عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر، وليته فعل، وكان في صحبته الملك المنصور صاحب حماه وخلق من الامراء وأبناء الملوك، وقد وصل إلى
قطية وأكرم الملك المظفر قطز صاحب حماه ووعده ببلده ووفاه له، ولم يدخل الملك الناصر مصر بل كر راجعا إلى ناحية تيه بني إسرائيل، ودخل عامة من كان معه إلى مصر، ولو دخل كان أيسر عليه مما صار إليه، ولكنه خاف منهم لاجل العداوة فعدل إلى ناحية الكرك فتحصن بها وليته استمر فيها، ولكنه قلق فركب نحو البرية - وليته ذهب فيها - واستجار ببعض أمراء الاعراب، فقصدته التتار وأتلفوا ما هنالك من الاموال وخربوا الديار وقتلوا الكبار والصغار وهجموا على الاعراب التي بتلك النواحي فقتلوا منهم خلقا وسبوا من نسلهم ونسائهم، وقد اقتص منهم العرب بعد ذلك، فأغاروا على خيل جشارهم في نصف شعبان فساقوها بأسرها، فساقت وراءهم التتار فلم يدركوا لهم الغبار ولا استردوا منهم فرسا ولا حمارا، وما زال التتار وراء الناصر حتى أخذوه عند بركة زيزي وأرسلوه مع ولده العزيز وهو صغير وأخيه إلى ملكهم هولاكو خان وهو نازل على حلب، فما زالوا في أسره حتى قتلهم في السنة الآتية كما سنذكره.
والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه (1) ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الاشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعا، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان
__________
(1) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 304: فلما كان يوم السبت خامس صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، حضر إلى الابواب الشريفة، قاصد هولاكو، وهو شخص من التتار، يقال له كتبغانويزبك وصحبته أربعة من التتار وعلى يده كتاب من هولاكو..(وذكر تمام الكتاب بما حواه من ألفاظ فاحشة) فنادى بالنفير عاما إلى الغزاة في سبيل الله ثم عرض العسكر، فاجتمع عنده نحو أربعين ألفا.
وخرج من القاهرة في الثاني والعشرين من شعبان سنة 658.

اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فاقتتلوا قتالا عظيما،
فكانت النصرة ولله الحمد للاسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الامير جمال الدين آقوش الشمسي، واتبعهم الجيش الاسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالا شديدا، وكذلك الامير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل فأمر المظفر بضرب عنقه، واستأمن الاشرف صاحب حمص، وكان مع التتار وقد جعله هولاكو خان نائبا على الشام كله، فأمنه الملك المظفر ورد إليه حمص، وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها، وأطلق سلمية للامير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الامير بيبرس البند قداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الاحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الاسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيد الله الاسلام وأهله تأييدا وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة إلى النصارى، وملا الله بيوتهم وقبورهم نارا، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، وقد كان هولاكو أرسل تقليدا بولاية القضاء على جميع المدائن: الشام، والجزيرة، والموصل، وماردين، والاكراد وغير ذلك، للقاضي كمال الدين عمر بن بدار التفليسي.
وقد كان نائب الحكم بدمشق عن القاضي صدر الدين أحمد بن يحيى بن هبة الله بن سنى الدولة من مدة خمس عشرة سنة، فحين وصل التقليد في
سادس عشرين ربيع الاول قرئ بالميدان الاخضر فاستقل بالحكم في دمشق وقد كان فاضلا، فسار القاضيان المعزولان صدر الدين بن سنى الدولة ومحيي الدين بن الزكي إلى خدمة هولاكو خان إلى حلب، فخدع ابن الزكي لابن سنى الدولة وبذل أموالا جزيلة، وتولى القضاء بدمشق ورجعا، فمات ابن سنى الدولة ببعلبك، وقدم ابن الزكي على القضاء ومعه تقليده وخلعة مذهبة فلبسها وجلس في خدمة إبل سنان تحت قبة النسر عند الباب الكبير، وبينهما الخاتون زوجة إبل سنان حاسرة عن وجهها، وقرئ التقليد هناك والحالة كذلك، وحين ذكر اسم هولاكو نثر الذهب والفضة فوق رؤوس الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قبح الله ذلك القاضي والامير والزوجة والسلطان.
وذكر أبو شامة: أن ابن الزكي استحوذ على مدارس كثيرة في مدته هذه القصيرة،

فإنه عزل قبل رأس الحول، فأخذ في هذه المدة العذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والعزيزية مع المدرستين اللتين كانتا بيده التقوية والعزيزية، وأخذ لولده عيسى تدريس الامينية ومشيخة الشيوخ، وأخذ أم الصالح لبعض أصحابه وهو العماد المصري، وأخذ الشامية البرانية لصاحب له، واستناب أخاه لامه شهاب الدين إسماعيل بن أسعد بن حبيش في القضاء وولاه الرواحية والشامية البرانية.
قال أبو شامة: مع أن شرط واقفها أن لا يجمع بينها وبين غيرها.
ولما رجعت دمشق وغيرها إلى المسلمين، سعى في القضاء وبذل أموالا ليستمر فيه وفيما بيديه من المدارس، فلم يستمر بل عزل بالقاضي نجم الدين أبي بكر بن صدر الدين بن سنى الدولة، فقرئ توقيعه بالقضاء يوم الجمعة بعد الصلاة في الحادي والعشرين من ذي القعدة عند الشباك الكمالي من مشهد عثمان من جامع دمشق.
ولما كسر الملك المظفر قطز عساكر التتار بعين جالوت ساق وراءهم ودخل دمشق في أبهة عظيمة وفرح به الناس فرحا شديدا ودعوا له دعاء كثيرا، وأقر صاحب حمص الملك الاشرف عليها، وكذلك المنصور صاحب حماه، واسترد حلب من يد هولاكو (1)، وعاد الحق إلى نصابه ومهد القواعد، وكان قد أرسل بين يديه الامير ركن الدين بيبرس البند قداري ليطرد التتار عن حلب ويتسلمها ووعده بنيابتها، فلما طردهم عنها وأخرجهم
منها وتسلمها المسلمون استناب عليها غيره وهو علاء الدين ابن صاحب الموصل، وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينهما واقتضت قتل الملك المظفر قطز سريعا، ولله الامر من قبل ومن بعد.
فلما فرغ المظفر من الشام عزم على الرجوع إلى مصر (2) واستناب على دمشق الامير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والامير مجير الدين بن الحسين بن آقشتمر، وعزل القاضي ابن الزكي عن قضاء دمشق، وولى ابن سنى الدولة ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الاسلامية في خدمته، وعيون الاعيان تنظر إليه شزرا من شدة هيبته.
ذكر سلطنة الملك الظاهر بيبرس البند قداري وهو الاسد الضاري، وذلك أن السلطان الملك المظفر قطز لما عاد قاصدا مصر، وصل إلى ما بين الغزالي والصالحية، عدا عليه الامراء فقتلوه هنالك، وقد كان رجلا صالحا كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى المسكر ولا شيئا مما يتعاطاه الملوك، وكانت مدة ملكه من حين عزل ابن
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: وفوض نيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد ابن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وشمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميرا بالسواحل وغزة (3 / 206 - 207 وابن خلدون 5 / 380).
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 307، وبعد فراغه من التتار ودخوله الشام: " أرسل بالبشارة إلى القاهرة وفي ذلك بقول أبو شامة: غلب التتار على البلاد فجاءهم * من مصر تركي يجود بنفسه بالشام أهلكهم وبدد شملهم * ولكل شئ آفة من جنسه

أستاذه المنصور علي بن المعز التركماني إلى هذه المدة، وهي أواخر (1) ذي القعدة نحوا (2) من سنة، رحمه الله وجزاه عن الاسلام وأهله خيرا.
وكان الامير ركن الدين بيبرس البند قداري قد اتفق مع جماعة من الامراء على قتله، فلما وصل إلى هذه المنزلة ضرب دهليزه وساق خلف أرنب، وساق معه أولئك الامراء فشفع عنده ركن الدين بيبرس في شئ (3) فشفعه، فأخذ يده ليقبلها فأمسكها وحمل عليه أولئك الامراء بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى قتلوه رحمه
الله، ثم كروا راجعين إلى المخيم وبأيديهم السيوف مصلتة، فأخبروا من هناك بالخبر، فقال بعضهم من قتله ؟ فقالوا: ركن الدين بيبرس، فقالوا أنت قتلته ؟ فقال: نعم، فقالوا: أنت الملك إذا، وقيل لما قتل حار الامراء بينهم فيمن يولون الملك، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعا، فاتفقت كلمتهم على أن بايعوا بيبرس البند قداري، ولم يكن هو من أكابر المقدمين، ولكن أرادوا أن يجربوا فيه، ولقبوه الملك الظاهر، فجلس على سرير المملكة وحكمه، ودقت البشائر وضربت الطبول والبوقات وصفرت الشغابة، وزعقت الشاووشية بين يديه، وكان يوما مشهودا وتوكل على الله واستعان به، ثم دخل مصر والعساكر في خدمته، فدخل قلعة الجبل وجلس على كرسيها، فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل، وكان شهما شجاعا أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والامر العسير، وكان أولا لقب نفسه بالملك القاهر، فقال له الوزير: إن هذا اللقب لا يفلح من يلقب به.
تلقب به القاهر بن المعتمد فلم تطل أيامه حتى خلع وسملت عيناه، ولقب به القاهر صاحب الموصل فسم فمات، فعدل عنه حينئذ إلى الملك الظاهر، ثم شرع في مسك من يرى في نفسه رئاسة من أكابر الامراء حتى مهد الملك.
وقد كان هولاكو خان لما بلغه ما جرى على جيشه من المسلمين بعين جالوت أرسل جماعة من جيشه الذين معه كثيرين ليستعيدوا الشام من أيدي المسلمين، فحيل بينهم وبين ما يشتهون فرجعوا إليه خائبين خاسرين، وذلك أنه نهض إليهم الهزبر الكاسر والسيف الباتر الملك الظاهر، فقدم دمشق وأرسل العساكر في كل وجه لحفظ الثغور والمعاقل بالاسلحة، فلم يقدر التتار على الدنو إليه، ووجدوا الدولة قد تغيرت، والسواعد قد شمرت، وعناية الله بالشام وأهله قد حصلت، ورحمته بهم قد نزلت، فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم، وكروا راجعين القهقرى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقد كان الملك المظفر قطز رحمه الله استناب على دمشق الامير علم الدين سنجر الحلبي أحد الاتراك، فلما بلغه مقتل المظفر دخل القلعة ودعا
__________
(1) في بدائع ابن إياس: يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 207: سابع عشر ذي القعدة.
(2) في تاريخ أبي الفداء: أحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما.
(3) قال ابن إياس: انه أنعم عليه (أي على بيبرس) بجارية مليحة.
وفي تاريخ أبي الفداء: شفع عنده في انسان فأجابه إلى ذلك.

لنفسه وتسمى بالملك المجاهد، فلما جاءت البيعة للملك الظاهر خطب له يوم الجمعة السادس من ذي الحجة فدعا الخطيب أولا للمجاهد ثم للظاهر ثانيا وضربت السكة باسمهما معا، ثم ارتفع المجاهد هذا من البين كما سيأتي.
وقد اتفق في هذا العام أمور عجيبة، وهي أن أول هذه السنة كانت الشام للسلطان الناصر ابن العزيز، ثم في النصف من صفر صارت لهولاكو ملك التتار، ثم في آخر رمضان صارت للمظفر قطز ثم في أواخر [ ذي ] القعدة صارت للظاهر بيبرس، وقد شركه في دمشق الملك المجاهد سنجر، وكذلك كان القضاء في أولها بالشام لابن سنى الدولة صدر الدين، ثم صار للكمال عمر التفليسي من جهة هولاكو ثم لابن الزكي ثم لنجم الدين بن سنى الدولة.
وكذلك كان خطيب جامع دمشق عماد الدين بن الحرستاني من سنين متطاولة، فعزل في شوال منها بالعماد الاسعردي، وكان صينا قارئا مجيدا، ثم أعيد العماد الحرستاني في أول ذي القعدة منها.
فسبحان من بيده الامور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وفيها توفي من الاعيان: قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس بن سنى الدولة أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسين (1) بن يحيى بن محمد بن علي يحيى بن صدقة بن الخياط، قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس بن سنى الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي، وسنى الدولة الحسين (1) بن يحيى المذكور كان قاضيا لبعض ملوك دمشق في حدود الخمسمائة، وله أوقاف على ذريته.
وابن الخياط الشاعر صاحب الديوان وهو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي هو عم سنى الدولة.
ولد سنى الدولة سنة تسع وخمسين (2) وخمسمائة، وسمع الخشوعي وابن طبرزد، والكندي وغيرهم، وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى، وكان
عارفا بالمذاهب مشكور السيرة، ولكن أبو شامة ينال منه ويذمه فالله أعلم.
وقد ولي الحكم بدمشق استقلالا سنة ثلاث وأربعين واستمر إلى مدة السنة وسافر حين عزل بالكمال التفليسي هو والقاضي محيي الدين ابن الزكي، وقد سافر هو وابن الزكي إلى هولاكو لما أخذ حلب فولى ابن الزكي القضاء، واختار ابن سنى الدولة بعلبك فقدمها وهو متمرض فمات بها ودفن عند الشيخ عبد الله اليونيني، وقد كان الملك الناصر يثني عليه كما كان الملك الاشرف يثني على والده شمس الدين.
ولما استقر الملك الظاهر بيبرس ولى القضاء ولده نجم الدين بن سنى الدولة وهو الذي حدث زمن المشمش بطالة الدروس لانه كان له بستان بأرض السهم، فكان يشق عليه مفارقة المشمش، والنزول إلى المدارس، فبطل الناس هذه الايام واتبعوه في ذلك،
__________
(1) في الوافي بالوفيات: 8 / 250: الحسن.
(2) ولد سنة تسعين (الوافي).

والنفوس إنما تؤثر الراحة والبطالة، ولا سيما أصحاب البساتين في أيام الفواكه وكثرت الشهوات في تلك الايام ولا سيما القضاة.
وفيها توفي: الملك السعيد صاحب ماردين نجم الدين بن ايل غازي بن المنصور أرتق بن أرسلان بن ايل غازي بن السني بن تمرتاش ابن ايل غازي بن اريثي وكان شجاعا ملك يوما، وقد وقع في قلعته توران شاه بن الملك صلاح الدين كان نائبا للملك الظاهر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر صاحب دمشق على حلب، وقد حصن حلب من أيدي المغول مدة شهر، ثم تسلمها بعد محاصرة شديدة صلحا.
كانت وفاته في هذه السنة ودفن بدهليز داره.
وفيها قتل: الملك السعيد حسن بن عبد العزيز (1) ابن العادل أبي بكر بن أيوب، كان صاحب الصبيبة وبانياس بعد أبيه (2)، ثم أخذتا منه
وحبس بقلعة المنيرة (3)، فلما جاءت التتار كان معهم وردوا عليه بلاده، فلما كانت وقعة عين جالوت أتي به أسيرا إلى بين يدي المظفر قطز فضرب عنقه، لانه كان قد لبس سرقوج (4) التتار وناصحهم على المسلمين.
عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر ابن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، شرف الدين بن العجمي الحلبي الشافعي، من بيت العلم والرئاسة بحلب، درس بالظاهرية ووقف مدرسة بها ودفن بها، توفي حين دخلت لتتار حلب في صفر، فعذبوه وصبوا عليه ماء باردا في الشتاء فتشنج حتى مات رحمه الله تعالى.
الملك المظفر قطز بن عبد الله سيف الدين التركي، أخص مماليك المعز التركماني، أحد مماليك الصالح أيوب بن
__________
(1) وهو العزيز عثمان بن العادل.
(2) توفي أبوسنة 630 ه فقام مكانه ابنه الظاهر ثم مات سنة 631 ه فتملك حسن هذا بعده انتزع منه نجم الدين أيوب الصبيبة وأعطاه " خبزا بالقاهرة " كما في ذيل مرآة الزمان.
وفي العبر " وأعطاه امرة مصر ".
ولما ملك الناصر الشام أخذه واعتقله بقلعة البيرة.
(ذيل مرآة الزمان 2 / 16 العبر 5 / 245 الوافي بالوفيات 12 / 100).
(3) كذا بالاصل، وهو تحريف والصواب: البيرة.
(4) في العبر: سراقوس، وفي هامش مرآة الزمان: السراقوج: قبعة مغولية.

الكامل.
لما قتل أستاذه المعز قام في تولية ولده نور الدين المنصور علي، فلما سمع بأمر التتار خاف أن تختلف الكلمة لصغر ابن أستاذه فعزله ودعا إلى نفسه، فبويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة كما تقدم، ثم سار إلى التتار فجعل الله على يديه نصرة الاسلام كما ذكرنا، وقد كان شجاعا بطلا كثير الخير ناصحا للاسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرا.
ذكر عنه أنه لما كان يوم المعركة بعين جالوت قتل جواده ولم يجد أحدا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب، فترجل وبقي واقفا على الارض ثابتا، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع
السلطان من القلب، فلما رآه بعض الامراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها فامتنع وقال لذلك الامير: ما كنت لاحرم المسلمين نفعك.
ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل فركب، فلامه بعض الامراء وقال: يا خوند لم لا ركبت فرس فلان ؟ فلو أن بعض الاعداء رآك لقتلك وهلك الاسلام بسببك، فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الاسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقا من الملوك، فأقام للاسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الاسلام.
رحمه الله وكان حين سار من مصر في خدمته خلق من كبار الامراء البحرية وغيرهم، ومعه المنصور صاحب حماه وجماعة من أبناء الملوك.
فأرسل إلى صاحب حماه يقول له لا تتعني في مد سماط في هذه الايام، وليكن مع الجندي لحمة يأكلها، والعجل العجل، وكان اجتماعه مع عدوه كما ذكرنا في العشر الاخير من رمضان يوم الجمعة، وهذه بشارة عظيمة، فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان، وكان فيها نصر الاسلام.
ولما قدم دمشق في شوال أقام بها العدل ورتب الامور، وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرجهم ويطردهم عن حلب، ووعده بنيابتها فلم يف له لما رآه من المصلحة (1)، فوقعت الوحشة بينهما بسبب ذلك، فلما عاد إلى مصر تمالا عليه الامراء مع بيبرس فقتلوه بين القرابى والصالحية (2) ودفن بالقصر، وكان قبره يزار، فلما تمكن الظاهر من الملك بعث إلى قبره فغيبه عن الناس، وكان لا يعرف بعد ذلك، قتل يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة رحمه الله.
وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني في الذيل على المرآة عن الشيخ علاء الدين بن غانم عن المولى تاج الدين أحمد بن الاثير كاتب السر في أيام الناصر صاحب دمشق، قال: لما كنا مع الناصر بوطاه برزه جاءت البريدية بخبر أن قطز قد تولى الملك بمصر، فقرأت ذلك على السلطان، فقال:
__________
(1) تقدم أنه فوض نيابة حلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وبعد أن استقر السعيد في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية.
وفي الروض الزاهر ص 67: ان الملك صار يظهر تكبرا وتغيرت نيته وفهم السلطان منه ذلك وطلب السلطان أن يفعل في الجهاد شيئا يشكره الله والناس عليه والملك المظفر يمنعه لئلا ينفرد السلطان بالذكر الحسن دونه (وانظر السلوك 1 / 435 والنجوم 7 / 82، 101).
(2) الصالحية: قرية بناها الصالح أيوب لجنده في منطقة السانح على طرف المنطقة الرملية في الطريق بين مصر والشام (السلوك 1 / 330).

اذهب إلى فلان وفلان فأخبرهم بهذا، قال: فلما خرجت عنه لقيني بعض الاجناد فقال لي: جاءكم الخبر من مصر بأن قطز قد تملك ؟ فقلت: ما عندي من هذا علم وما يدريك أنت بهذا ؟ فقال: بلى والله سيلي المملكة ويكسر التتار، فقلت من أين تعلم هذا ؟ فقال: كنت أخدمه وهو صغير وكان عليه قمل كثير فكنت أفليه وأهينه وأذمه، فقال لي يوما: ويلك إيش تريد أعطيك إذا ملكت الديار المصرية ؟ فقلت له أنت مجنون ؟ فقال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه، فقلت له حينئذ - وكان صادقا - أريد منك إمرة خمسين فارسا، فقال: نعم أبشر.
قال ابن الاثير: فلما قال لي هذا قلت له: هذه كتب المصريين بأنه قد تولى السلطنة، فقال والله ليكسرن التتار، وكان كذلك، ولما رجع الناصر إلى ناحية الديار المصرية وأراد دخولها ورجع عنها ودخلها أكثر الجيوش الشامية كان هذا الامير الحاكي في جملة من دخلها، فأعطاه المظفر إمرة خمسين فارسا، ووفى له بالوعد، وهو الامير جمال الدين التركماني.
قال ابن الاثير: فلقيني بمصر بعد أن تأمر فذكرني بما كان أخبرني عن المظفر، فذكرته ثم كانت وقعة التتار على إثر ذلك فكسرهم وطردهم عن البلاد وقد روى عنه أنه لما رأى عصائب التتار قال للامراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفئ الظلال وتهب الرياح، ويدعوا لنا الخطباء والناس في صلاتهم، رحمه الله تعالى.
وفيها هلك كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشام لعنه الله، ومعنى نوين يعني أمير عشرة آلاف، وكان هذا الخبيث قد فتح لاستاذه هولاكو من أقصى بلاد العجم إلى الشام، وقد أدرك جنكيزخان جد هولاكو، وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها، كان إذا فتح بلدا ساق مقاتلة هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يؤوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصوده في تضييق الاطعمة والاشربة عليهم، فتقصر مدة
الحصار عليه لما ضاق على أهل البلد من أقواتهم، وإن امتنعوا من إيوائهم عندهم قاتلهم بأولئك المقاتلة الذين هم أهل البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حصل الفتح وإلا كان قد أضعف أولئك بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتلة، فإن حصل الفتح وإلا قاتلهم بجنده وأصحابه مع راحة أصحابه وتعب أهل البلد وضعفهم حتى يفتحهم سريعا.
وكان يبعث إلى الحصن يقول: إن ماءكم قد قل فنخشى أن نأخذكم عنوة فنقتلكم عن آخركم ونسبي نساءكم وأولادكم فما بقاؤكم بعد ذهاب مائكم، فافتحوا صلحا قبل أن نأخذكم قسرا فيقولون له: إن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى ماء.
فيقول لا أصدق حتى أبعث من عندي من يشرف عليه فإن كان كثيرا انصرفت عنكم، فيقولون: ابعث من يشرف عليه، فيرسل رجالا من جيشه معهم رماح مجوفة محشوة سما، فإذا دخلوا الحصن الذي قد أعياه ساطوا ذلك الماء بتلك الرماح على أنهم يفتشونه ويعرفون قدره، فينفتح ذلك السم ويستقر في ذلك الماء فيكون سبب هلاكهم وهم لا يشعرون لعنه الله لعنة تدخل معه قبره.
وكان

شيخا كبيرا قد أسن وكان يميل إلى دين النصارى ولكن لا يمكنه الخروج من حكم جنكيزخان في الياساق (1).
قال الشيخ قطب الدين اليونيني: وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها، وكان شيخا حسنا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة، وتارة يعلقها من خلفه بأذنه، وكان مهيبا شديد السطوة، قال: وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكانا خرابا فقضى حاجته والناس ينظرون إليه وهو مكشوف العورة، فلما فرغ من حاجته مسحه بعض أصحابه بقطن ملبد مسحة واحدة.
قال ولما بلغه خروج المظفر بالعساكر من مصر تلوم في أمره وحار ماذا يفعل، ثم حملته نفسه الابية على لقائه، وظن أنه منصور على جاري عادته، فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها ثم أيد الله المسلمين وثبتهم في المعركة فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم هزيمة لا تجبر أبدا، وقتل أميرهم كتبغانوين في المعركة وأسر ابنه، وكان شابا حسنا، فأحضر بين يدي المظفر قطز فقال له أهرب أبوك ؟ قال: إنه لا يهرب، فطلبوه
فوجدوه بين القتلى، فلما رآه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثم قال: أنام طيبا.
كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم، وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبدا، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وكان الذي قتله الامير آقوش الشمسي رحمه الله.
الشيخ محمد الفقيه اليونيني الحنبلي البعلبكي الحافظ، هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق، كذا نقل هذه النسبة الشيخ قطب الدين اليونيني من خط أخيه الاكبر أبي الحسين علي وأخبره أن والده قال له نحن من سلالة جعفر الصادق، قال وإنما قال له هذا عند الموت ليتخرج من قبول الصدقات.
أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي تقي الدين الفقيه الحنبلي الحافظ المفيد البارع العابدة الناسك، ولد سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع الخشوعي وحنبلا الكندي والحافظ عبد الغني وكان يثني عليه، وتفقه على الموفق، ولزم الشيخ عبد الله اليونيني فانتفع به، وكان الشيخ عبد الله يثني عليه ويقدمه ويقتدي به في الفتاوى، وقد لبس الخرقة من شيخ شيخه عبد الله البطائحي،
__________
(1) الياساق أو الياسا أو السياسة: وهي مجموعة القوانين التي خمنها جنكيزخان وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا أكثرها مخالف للشريعة المحمدية لذلك سماها الياسا الكبرى وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزائنه تتوارث عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته (خطط المقريزي 3 / 60 صبح الاعشى 4 / 310).

وبرع في علم الحديث وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو، وحفظ قطعة صالحة من مسند أحمد، وكان يعرف العربية أخذها عن التاج الكندي، وكتب مليحا حسنا، وكان الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة، ويأخذون عنه الطرق الحسنة، وقد حصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك، توضأ مرة عند الملك الاشرف بالقلعة حال سماع البخاري على الزبيدي، فلما فرغ من الوضوء نفض السلطان تخفيفته وبسطها على الارض ليطأ عليها، وحلف السلطان له إنها طاهرة ولا بد أن يطأ
برجليه عليها ففعل ذلك.
وقدم الكامل على أخيه الاشرف دمشق فأنزله القلعة وتحول الاشرف لدار السعادة وجعل يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه، فقال الكامل: أحب أن أراه، فأرسل إليه إلى بعلبك بطاقة واستحضره فوصل إلى دار السعادة، فنزل الكامل إليه وتحادثا وتذاكرا شيئا من العلم، فجرت مسألة القتل بالمثقل، وجرى ذكر حديث الجارية التي قتلها اليهودي فرض رأسها بين حجرين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال الكامل: إنه لم يعترف.
فقال الشيخ الفقيه في صحيح مسلم " فاعترف "، فقال الكامل: أنا اختصرت صحيح مسلم ولم أجد هذا فيه، فأرسل الكامل فأحضر خمس مجلدات اختصاره لمسلم، فأخذ الكامل مجلدا والاشرف آخر وعماد الدين بن موسك آخر وأخذ الشيخ الفقيه مجلدا فأول ما فتحه وجد الحديث كما قال الشيخ الفقيه، فتعجب الكامل من استحضاره وسرعة كشفه، وأراد أن يأخذه معه إلى الديار المصرية فأرسله الاشرف سريعا إلى بعلبك، وقال للكامل: إنه لا يؤثر ببعلبك شيئا، فأرسل له الكامل ذهبا كثيرا، قال ولده قطب الدين: كان والدي يقبل بر الملوك ويقول أنا لي في بيت المال أكثر من هذا، ولا يقبل من الامراء ولا من الوزراء شيئا إلا أن يكون هدية مأكول ونحوه، ويرسل إليهم من ذلك فيقبلونه على سبيل التبرك والاستشفاء.
وذكر أنه كثر ماله وأثرى، وصار له سعة من المال كثيرة، وذكر له أن الاشرف كتب له كتابا بقرية يونين وأعطاه لمحيي الدين بن الجوزي ليأخذ عليه خط الخليفة، فلما شعر والدي بذلك أخذ الكتاب ومزقه وقال: أنا في غنية عن ذلك، قال وكان والدي لا يقبل شيئا من الصدقة ويزعم أنه من ذرية علي بن أبي طالب من جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال وقد كان قبل ذلك فقيرا لا شئ له، وكان للشيخ عبد الله زوجه ولها ابنة جميلة، وكان الشيخ يقول لها: زوجيها من الشيخ محمد، فتقول إنه فقير وأنا أحب أن تكون ابنتي سعيدة، فيقول الشيخ عبد الله كأني أنظر إليهما إياه وإياها في دار فيها بركة وله رزق كثير والملوك يترددون إلى زيارته، فزوجتها منه فكان الامر كذلك، وكانت أولى زوجاته رحمه الله تعالى.
وكانت الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه ويجيئون إلى مدينته، بنو العادل وغيرهم، وكذلك
كان مشايخ الفقهاء كابن الصلاح، وابن عبد السلام، وابن الحاجب، والحصري، وشمس الدين بن سنى الدولة، وابن الجوزي، وغيرهم يعظمونه ويرجعون إلى قوله لعلمه وعمله وديانته

وأمانته.
وقد ذكرت له أحوال ومكاشفات وكرامات كثيرة رحمه الله، وزعم بعضهم أنه قطب منذ ثنتي عشرة سنة فالله أعلم.
وذكر الشيخ الفقيه قال: عزمت مرة على الرحلة إلى حران، وكان قد بلغني أن رجلا بها يعلم علم الفرائض جيدا، فلما كانت الليلة التي أريد أن أسافر في صبيحتها جاءتني رسالة الشيخ عبد الله اليونيني يعزم علي إلى القدس الشريف، وكأني كرهت ذلك وفتحت المصحف فطلع قوله (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) [ يس: 21 ] فخرجت معه إلى القدس فوجدت ذلك الرجل الحراني بالقدس الشريف، فأخذت عنه علم الفرائض حتى خيل لي أني صرت أبرع فيه منه.
وقال الشيخ أبو شامة: كان الشيخ الفقيه رجلا ضخما، وحصل له قبول من الامراء وغيرهم، وكان يلبس قبعا صوفه إلى خارج كما كان شيخه الشيخ عبد الله اليونيني، قال: وقد صنف شيئا في المعراج فرددت عليه في كتاب سميته الواضح الجلي في الرد على الحنبلي، وذكر ولده قطب الدين أنه مات في التاسع عشر من رمضان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبو عبد الله البيطار الاكال، أصله من جبل بني هلال، وولد (1) بقصر حجاج، وكان مقيما بالشاغور وكان فيه صلاح ودين وإيثار للفقراء والمحاويج والمحابيس، وكانت له حال غريبة لا يأكل لاحد شيئا إلا بأجرة، وكان أهل البلد يترامون عليه ليأكل لهم الاشياء المفتخرة الطيبة فيمتنع إلا بأجرة جيدة، وكلما امتنع من ذلك حلي عند الناس وأحبوه ومالوا إليه ويأتونه بأشياء كثيرة من الحلاوات والشواء وغير ذلك فيرد عليهم عوض ذلك أجرة جيدة مع ذلك، وهذا غريب جدا، رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه وكرمه آمين.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وستمائة
استهلت بيوم الاثنين لايام خلون من كانون الاول، وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة أبو نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة الحسني، وعمه إدريس بن علي شريكه، وصاحب المدينة الامير عز الدين جماز بن شيحه الحسيني، وصاحب مصر والشام السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وشريكه في دمشق وبعلبك والصبيبة وبانياس الامير علم الدين سنجر الملقب بالملك المجاهد، وشريكه في حلب الامير حسام الدين لاشين (2) الجو كنداري (3) العزيزي، والكرك
__________
(1) كان مولده سنة 600 ه وتوفي في شهر رمضان سنة 658 (انظر الوافي 3 / 50).
(2) في الروض الزاهر ص 96: علاء الدين ابن صاحب الموصل وسماه: الملك السعيد - وقد تقدم - وبعد أن أساء السيرة قبض عليه أهل حلب وقدموا عليهم حسام الدين المذكور فكتب السلطان له تقليدا بالمملكة الحلبية.
(3) الجوكندار: مركب من كلمتين: إحداهما جوكان وهو المحجن أو الصولجان الذي تضرب به الكرة.
والجو كاندار =

والشوبك للملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن سيف الدين أبي بكر الكامل محمد بن العادل الكبير سيف الدين أبي بكر بن أيوب.
وحصن جهيون وبازريا في يد الامير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين مكورس، وصاحب حماه الملك المنصور بن تقي الدين محمود، وصاحب حمص الاشرف بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين الناصر، وصاحب الموصل الملك الصالح بن البدر لؤلؤ، وأخوه الملك المجاهد صاحب جزيرة ابن عمر، وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين ايل غازي بن أرتق، وصاحب بلاد الروم ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو السلجوقي، وشريكه في الملك أخوه كيكاوس والبلاد بينهما نصفين، وسائر بلاد المشرق بأيدي التتار أصحاب هولاكو، وبلاد اليمن تملكها غير واحد من الملوك، وكذلك بلاد الجوكندي المغرب في كل قطر منها ملك.
وفي هذه السنة أغارت التتار على حلب فلقيهم صاحبها حسام الدين العزيزي، والمنصور صاحب حماه، والاشرف صاحب حمص، وكانت الوقعة شمالي حمص قريبا من قبر خالد بن الوليد، والتتار في ستة آلاف والمسلمون في ألف وأربعمائة فهزمهم الله عزوجل، وقتل المسلمون
أكثرهم فرجع التتار إلى حلب فحصروها أربعة أشهر وضيقوا عليها الاقوات، وقتلوا من الغرباء خلقا صبرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والجيوش الذين كسروهم على حمص مقيمون لم يرجعوا إلى حلب بل ساقوا إلى مصر، فتلقاهم الملك الظاهر في أبهة السلطنة وأحسن إليهم، وبقيت حلب محاصرة لا ناصر لها في هذه المدة ولكن سلم الله سبحانه وتعالى.
وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الظاهر في أبهة الملك (1) ومشى الامراء والاجناد بين يديه، وكان ذلك أول ركوبه واستمر بعد ذلك يتابع الركوب واللعب بالكرة.
__________
= هو الذي يحمل الجوكان مع السلطان في لعب الكرة.
صبح الاعشى 5 / 458.
(1) وفي الروض الزاهر: بشعار السلطنة، وهي علامة السلطنة التي تصاحب السلطنة في المواكب وتشمل على ما أورده صبح الاعشى 2 / 127 - 4 / 8.
ا - الغاشية وهي غطاء للسرج من الجلد ومخروز بالذهب يحمله الركبدار أمام السلطان في المواكب وينقله من يد إلى يد طوال الطريق.
ب - المظلة: من الحرير الاصفر تحمل فوق رأس السلطان في المواكب.
ج - الرقبة: وهي طوق من أطلس أصفر مزركشة بالذهب، تجعل على رقبة الفرس.
د - الجفتاه: وهما اثنان من أو شاقية اصطبل السلطان عليهما قباءان أصفران من حرير وعلى رأسهما قبعتان من زركش وتحتهما فرسان أشهبان.

وفي سابع عشر صفر خرج الامراء بدمشق على ملكها علم الدين سنجر فقاتلوه فهزموه، فدخل القلعة فحاصروه فيها فهرب منها إلى قلعة بعلبك، وتسلم قلعة دمشق الامير علم الدين أيدكين البند قداري، وكان مملوكا لجمال الدين يغمور ثم للصالح أيوب بن الكامل وإليه ينسب الملك الظاهر، فأرسله الظاهر ليتسلم دمشق من الحلبي علم الدين سنجر، فأخذها وسكن قلعتها نيابة عن الظاهر، ثم حاصروا الحلبي ببعلبك حتى أخذوه فأرسلوه إلى الظاهر على بغل إلى مصر، فدخل عليه ليلا فعاتبه ثم أطلق له أشياء وأكرمه.
وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الاول استوزر الظاهر بهاء الدين علي بن محمد المعروف بابن الحنا وفي ربيع الآخر قبض الظاهر على جماعة من الامراء بلغه عنهم أنهم يريدون الوثوب عليه وفيه أرسل إلى الشوبك فتسلمها من أيدي نواب المغيث صاحب الكرك، وفيها جهز الظاهر جيشا إلى حلب ليطردوا التتار عنها، فلما وصل الجيش إلى غزة كتب الفرنج إلى التتار ينذرونهم، فرحلوا عنها مسرعين واستولى على حلب جماعة من أهلها، فصادروا ونهبوا وبلغوا أغراضهم، وقدم إليهم الجيش الظاهري فأزالوا ذلك كله، وصادروا أهلها بألف ألف وستمائة ألف، ثم قدم الامير شمس الدين آقوش التركي من جهة الظاهر فاستلم البلد فقطع ووصل وحكم وعدل.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الاولى باشر القضاء بمصر تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الاعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين بن أبي الثناء محمود بن بدر العلائي، وذلك بعد شروط ذكرها للظاهر شديدة، فدخل تحتها الملك الظاهر وعزل عن القضاء بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن علي السنجاري (1) ورسم عليه أياما، ثم أفرج عنه.
البيعة بالخلافة للمستنصر بالله أبي القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر وكان معتقلا ببغداد فأطلق، وكان مع جماعة الاعراب بأرض العراق، ثم قصد الظاهر حين بلغه ملكه، فقدم مصر صحبة جماعة من أمراء الاعراب عشرة، منهم الامير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب، فخرج السلطان ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلقوه (2) وكان يوما مشهودا، وخرج أهل التوراة بتوراتهم، والنصارى بأنجيلهم، ودخل من باب النصر في أبهة عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالايوان بقلعة الجبل، والوزير والقاضي والامراء على طبقاتهم، وأثبت نسب الخليفة المذكور على الحاكم تاج الدين بن الاعز (3)، وهذا
__________
(1) في بدائع الزهور: السخاوي.
وفي السلوك 1 / 458 كالاصل قال وهو: كمال الدين محمد بن عز الدين السنجاري.
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 313: خرج إلى تلقيه إلى العكرشا.
(3) في ابن إياس وتاريخ أبي الفداء: ابن بنت الاعز.

الخليفة هو أخو المستنصر باني المستنصرية، وعم المستعصم، بويع بالخلافة بمصر بايعه الملك الظاهر والقاضي والوزير والامراء، وركب في دست الخلافة باديار مصر والامراء بين يديه والناس حوله، وشق القاهرة في ثالث عشر رجب، وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبا، وكان أول من بايعه القاضي تاج الدين لما ثبت نسبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الامراء والدولة، وخطب له على المنابر وضرب اسمه على السكة وكان منصب الخلافة قد شغر منذ ثلاث سنين ونصفا، لان المستعصم قتل في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة - أعني سنة تسع وخمسين وستمائة - وكان أسمر (1) وسيما شديد القوى عالي الهمة له شجاعة وإقدام، وقد لقبوه بالمستنصر كما كان أخاه باني المدرسة، وهذا أمر لم يسبق إليه أن خليفتين أخوين يلقب كل منهما بالآخر، ولي الخلافة أخوين كهذين السفاح وأخوه المنصور، وكذا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، والهادي والرشيد، والمسترشد والمقتفي ولدا المستظهر، وأما ثلاثة فالامين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد، والمنتصر والمعتز والمطيع أولاد المقتدر، وأما أربعة فأولاد عبد الملك بن مروان الوليد وسليمان ويزيد وهشام.
وكانت مدة خلافته إلى أن فقد كما سيأتي خمسة أشهر وعشرين يوما، أقصر مدة من جميع خلفاء بني العباس، وأما بنو أمية فكانت مدة خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية أربعين يوما، وإبراهيم بن يزيد الناقص سبعين يوما، وأخوه يزيد بن الوليد خمسة أشهر.
وكانت مدة خلافة الحسن بن علي بعد أبيه سبعة أشهر وأحد عشر يوما.
وكانت مدة مروان بن الحكم تسعة أشهر وعشرة أيام، وكان في خلفاء بني العباس من لم يستكمل سنة منهم المنتصر بن المتوكل ستة أشهر، والمهتدي بن الواثق أحد عشر شهرا وأياما، وقد أنزل الخليفة هذا بقلعة الجبل في برج هو وحشمه، فلما كان يوم سابع (2) رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس (3)، ثم استفتح فقرأ صدرا من سورة الانعام ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ترضى عن الصحابة ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل
فصلى بالناس فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتا حسنا ويوما مشهودا.
تولية الخلافة المستنصر بالله للملك الظاهر السلطنة لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان (4)، ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والامراء وأهل الحل والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة فجلسوا فيها، فألبس الخليفة
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: أسود اللون، وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 313: أسمر اللون، أمه حبشية.
(2) كذا بالاصل، وفي الروض الزاهر ص 101: سابع عشر رجب.
(3) نسخة الخطبة في ابن إياس 1 / 1 / 315.
(4) في بدائع الزهور: ربيع الاول.

السلطان بيده خلعة سوداء، وطوقا في عنقه، وقيدا في رجليه وهما من ذهب، وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان وهو رئيس الكتاب منبرا فقرأ على الناس تقليد السلطان، وهو من إنشائه وبخط نفسه (1)، ثم ركب السلطان بهذه الابهة والقيد في رجليه، والطوق في عنقه، والوزير بين يديه، وعلى رأسه التقليد (2) والامراء والدولة في خدمته مشاة سوى الوزير، فشق القاهرة وقد زينت له، وكان يوما مشهودا، وقد ذكر الشيخ قطب الدين هذا التقليد بتمامه، وهو مطول والله أعلم.
ذهاب الخليفة إلى بغداد ثم إن الخليفة طلب من السلطان أن يجهزه إلى بغداد، فرتب السلطان له جندا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك.
ثم سار السلطان صحبته قاصدين دمشق (3)، وكان سبب خروج السلطان من مصر إلى الشام، أن التركي كما تقدم كان قد استحوذ على حلب، فأرسل إليه الامير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان قد تغلب على دمشق فطرده عن حلب وتسلمها، وأقام بها نائبا عن السلطان، ثم لم يزل التركي حتى استعادها منه وأخرجه منها هاربا، فاستناب الظاهر على مصر عز الدين أيد مر الحلبي وجعل تدبير المملكة إلى الوزير بهاء الدين بن الحنا، وأخذ ولده فخر الدين معه وزيرا وجعل تدبير العساكر والجيوش إلى الامير بدر الدين بيليك الخازندار، ثم
ساروا فدخلوا دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يوما مشهودا، وصليا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخول الخليفة من باب البريد، ودخل السلطان من باب الزيارة.
وكان يوما مشهودا أيضا، ثم جهز السلطان الخليفة إلى بغداد ومعه أولاد صاحب الموصل، وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقل معه من الجيش الذين يردون عنه ما لم يقدر الله من الذهب العين ألف ألف دينار (4)، وأطلق له وزاده فجزاه الله خيرا، وقدم إليه صاحب حمص الملك الاشرف فخلع عليه وأطلق له وزاده تل باشر، وقدم صاحب حماه المنصور فخلع عليه وأطلق له وكتب له تقليدا ببلاده، ثم جهز جيشا صحبة الامير علاء الدين البند قداري إلى حلب لمحاربة التركي المتغلب عليها المفسد فيها.
وهذا كل ما بلغنا من وقائع هذه السنة ملخصا.
__________
(1) نسخة التقليد في الروض الزاهر ص 102 وما بعدها.
وفي السلوك 1 / 453.
(2) في الروض الزاهر: حمل التقليد الامير جمال الدين النجيبي استاذ الدار والصاحب بهاء الدين.
(3) وكان ذلك يوم السبت سادس شوال كما في الروض الزاهر، وفي تاريخ أبي الفداء: في رمضان من هذه السنة.
(4) في الروض الزاهر ص 112: ألف ألف دينار وستون ألف دينار عينا.

ثم دخلت سنة ستين وستمائة في أوائل هذه السنة في ثالث المحرم قتل (1) الخليفة المستنصر بالله الذي بويع له في رجب في السنة الماضية بمصر، وكان قتله بأرض العراق بعد ما هزم من كان معه من الجنود فإنا لله وإنا إليه راجعون، واستقل الملك الظاهر بجميع الشام ومصر وصفت له الامور، ولم يبق له منازع سوى التركي فإنه ذهب إلى المنيرة (2) فاستحوذ عليها وعصى عليه هنالك.
وفي اليوم الثالث من المحرم من هذه السنة خلع السلطان الملك الظاهر ببلاد مصر على جميع الامراء والحاشية وعلى الوزير وعلى القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز وعزل عنها برهان الدين السنجاري، وفي أواخر المحرم أعرس الامير بدر الدين بيليك الخازندار على بنت الامير لؤلؤ صاحب الموصل، واحتفل الظاهر بهذا العرس احتفالا بالغا.
قال ابن خلكان: وفي هذه السنة اصطاد بعض أمراء الظاهر بحدود حماة حمار وحش فطبخوه فلم ينضج ولا أثر فيه كثرة الوقود، ثم افتقدوا جلده فإذا هو مرسوم على أذنه بهرام جور، قال: وقد أحضروه إلي فقرأته كذلك، وهو يقتضي أن لهذا الحمار قريبا من ثمانمائة سنة، فإن بهرام جور كان قبل المبعث بمدة متطاولة، وحمر الوحش تعيش دهرا طويلا، قلت: يحتمل أن يكون هذا بهرام شاه الملك الامجد، إذ يبعد بقاء مثل هذا بلا اصطياد هذه المدة الطويلة، ويكون الكاتب قد أخطأ فأراد كتابة بهرام شاه فكتب بهرام جور فحصل اللبس من هذا والله أعلم.
ذكر بيعة الحاكم بأمر الله العباسي في السابع والعشرين من ربيع الآخر (3) دخل الخليفة أبو العباس الحاكم بأمر الله أحمد بن الامير أبي علي القبي بن الامير علي بن الامير أبي بكر بن الامام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد، وقد شهد الوقعة صحبة المستنصر، وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم، فلما كان يوم دخوله تلقاه السلطان الظاهر وأظهر السرور له والاحتفال به، وأنزله في البرج الكبير من قلعة الجبل، وأجريت عليه الارزاق الدارة والاحسان.
وفي ربيع الآخر عزل الملك الظاهر الامير جمال الدين آقوش النجيبي عن استداريته (4)
__________
(1) في النجوم الزاهرة 7 / 117 والجوهر الثمين 1 / 228: لم يعرف له خير إلى الآن (انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 319).
(2) كذا بالاصل وهو تحريف، والصواب: البيرة كما في ابن خلدون 5 / 384.
(3) في بدائع الزهور والروض الزاهر ص 141: ثاني محرم سنة 661.
وفي تاريخ أبي الفداء: أواخر ذي الحجة من سنة 660.
(4) استادار - استاذ الدار: هو الذي يتولى شؤون مسكن السلطان أو الامير وصرفه، وتنفيذه فيه أوامره (الصبح =

واستبدل به غيره وبعد ذلك أرسله نائبا على الشام كما سيأتي.
وفي يوم الثلاثاء تاسع رجب حضر السلطان الظاهر إلى دار العدل في محاكمة في بئر إلى بيت
القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الاعز فقام الناس إلا القاضي فإنه أشار عليه أن لا يقوم.
وتداعيا وكان الحق مع السلطان وله بينة عادلة، فانتزعت البئر من يد الغريم وكان الغريم أحد الامراء.
وفي شوال استناب الظاهر على حلب الامير علاء الدين أيدكين الشهابي وحينئذ انحاز عسكر سيس على القلعة من أرض حلب فركب إليهم الشهابي فكسرهم وأسر منهم جماعة فبعثهم إلى مصر فقتلوا.
وفيها استناب السلطان على دمشق الامير جمال الدين آقوش النجيبي، وكان من أكابر الامراء وعزل عنها علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة.
وفي ذي القعدة خرج مرسوم السلطان إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز أن يستنيب من كل مذهب من المذاهب الثلاثة نائبا فاستناب من الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ومن الحنابلة شمس الدين محمد بن الشيخ العماد، ومن المالكية شرف الدين عمر السبكي المالكي.
وفي ذي الحجة (1) قدمت وفود كثيرة من التتار على الملك الظاهر مستأمنين فأكرمهم وأحسن إليهم وأقطعهم إقطاعات حسنة، وكذلك فعل بأولاد صاحب الموصل ورتب لهم رواتب كافية.
وفيها أرسل هولاكو طائفة من جنده نحو عشرة آلاف فحاصروا الموصل ونصبوا عليها أربعة وعشرين منجنيقا، وضاقت بها الاقوات.
وفيها أرسل الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ إلى التركي يستنجده فقدم عليه فهزمت التتار ثم ثبتوا والتقوا معه، وإنما كان معه سبعمائة مقاتل فهزموه وجرحوه وعاد إلى البيرة وفارقه أكثر أصحابه فدخلوا الديار المصرية، ثم دخل هو إلى الملك الظاهر فأنعم عليه وأحسن إليه وأقطعه سبعين فارسا، وأما التتار فإنهم عادوا إلى الموصل ولم يزالوا حتى استنزلوا صاحبها الملك الصالح إليهم ونادوا في البلد بالامان حتى اطمأن الناس ثم مالوا عليهم فقتلوهم تسعة أيام وقتلوا الملك الصالح إسماعيل وولده علاء الدين وخربوا أسوار البلد وتركوها بلاقع ثم كروا راجعين قبحهم الله.
__________
= 4 / 20) وقال ابن إياس: إن هذه الوظيفة حادثة من أيام بني أيوب، وهي فرع من الوزارة، وأول من أطلق
عليه الاستادار المظفر بن جهير (بدائع 1 / 1 / 310).
(1) في الروض الزاهر ص 137: وصلوا يوم الخميس رابع وعشرين واستقبلهم السلطان يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة وكانوا فوق المائتي فارس، وفي مفرج الكروب 2 / 406: فوق الثلاثمائة.

وفيها وقع الخلف بين هولاكو وبين السلطان بركه خان ابن عمه، وأرسل إليه بركه يطلب منه نصيبا مما فتحه من البلاد وأخذه من الاموال والاسرار، على ما جرت به عادة ملوكهم، فقتل رسله فاشتد غضب بركه، وكاتب الظاهر ليتفقا على هولاكو.
وفيها وقع غلاء شديد بالشام فبيع القمح الغرارة بأربعمائة والشعير بمائتين وخمسين، واللحم الرطل بستة أو سبعة.
وحصل في النصف من شعبان خوف شديد من التتار فتجهز كثير من الناس إلى مصر، وبيعت الغلات حتى حواصل القلعة والامراء، ورسم أولياء الامور على من له قدرة أن يسافر من دمشق إلى بلاد مصر، ووقعت رجفة عظيمة في الشام وفي بلاد الروم، ويقال إنه حصل لبلاد التتر خوف شديد أيضا، فسبحان الفعال لما يريد وبيده الامر.
وكان الآمر لاهل دمشق بالتحول منها إلى مصر نائبها الامير علاء الدين طيبرس الوزيري، فأرسل السلطان إليه في ذي القعدة فأمسكه وعزله واستناب عليها بهاء الدين النجيبي، واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة.
وفيها نزل ابن خلكان عن تدريس الركنية لابي شامة وحضر عنده حين درس وأخذ في أول مختصر المزني.
وفيها توفي من الاعيان: الخليفة المستنصر بن الظاهر بأمر الله العباسي الذي بايعه الظاهر بمصر كما ذكرنا، وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة، وكان شهما شجاعا بطلا فاتكا، وقد أنفق الظاهر عليه حتى أقام له جيشا بألف ألف دينار وأزيد، وسار في خدمته ومعه خلق من أكابر الامراء وأولاد صاحب الموصل، وكان الملك الصالح إسماعيل من
الوفد الذين قدموا على الظاهر فأرسله صحبة الخليفة، فلما كانت الوقعة فقد المستنصر ورجع الصالح إلى بلاده فجاءته التتار فحاصروه كما ذكرنا، وقتلوه وخربوا بلاده وقتلوا أهلها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
العز الضرير النحوي اللغوي واسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا من أهل نصيبين ونشأ بإربل فاشتغل بعلوم كثيرة من علوم الاوائل، وكان يشتغل عليه أهل الذمة وغيرهم، ونسب إلى الانحلال وقلة الدين، وترك الصلوات، وكان ذكيا، وليس بذكي، عالم اللسان جاهل القلب، ذكي القول خبيث الفعل،

وله شعر أورد منه الشيخ قطب الدين قطعة في ترجمته، وهو شبيه بأبي العلاء المعري قبحهما الله (1).
ابن عبد السلام عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب، الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب ومفيد أهله، وله مصنفات حسان، منها التفسير، واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى، وكتاب الصلاة والفتاوى الموصلية وغير ذلك (2).
ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيرا واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره وبرع في المذهب وجمع علوما كثيرة، وأفاد الطلبة ودرس بعدة مدارس بدمشق، وولي خطابتها ثم سافر إلى مصر ودرس بها وخطب وحكم، وانتهت إليه رئاسة الشافية، وقصد بالفتاوى من الآفاق، وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالاشعار، وكان سبب خروجه من الشام إنكاره على الصالح إسماعيل تسليمه صفد والشقيف إلى الفرنج، ووافقه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فأخرجهما من بلده فسار أبو عمرو إلى الناصر داود صاحب الكرك فأكرمه، وسار ابن عبد السلام إلى الملك الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر (3) فأكرمه وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق، ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية، فلما حضره
الموت أوصى بها للقاضي تاج الدين ابن بنت الاعز وتوفي في عاشر جمادى الاولى وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد بسفح المقطم، وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلق كثير رحمه تعالى.
كمال الدين بن العديم الحنفي عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى ابن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل الحلبي الحنفي أبو القاسم بن العديم، الامير الوزير الرئيس الكبير، ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة، سمع الحديث وحدث وتفقه وأفتى ودرس وصنف، وكان إماما في فنون كثيرة، وقد ترسل إلى الخلفاء والملوك مرارا عديدة، وكان يكتب حسنا طريقة مشهورة، وصنف لحلب تاريخا مفيدا قريبا في أربعين مجلدا، وكان جيد المعرفة بالحديث، حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير الاحسان إليهم، وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة، توفي بمصر ودفن بسفح المقطم بعد ابن عبد السلام بعشرة أيام، وقد أورد له قطب الدين أشعارا حسنة.
__________
(1) قال في العبر 5 / 260: كان عمره عند وفاته 74 سنة.
(2) زاد ابن إياس: وشجر المعارف ومجاز القرآن وبيان أحوال يوم القيامة.
(3) كان قدومه إلى مصر حوالي سنة 640 لانه أقام بها إلى حين وفاته حوالي عشرين سنة.

يوسف بن يوسف بن سلامة ابن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سليمان بن محمد القاقاني الزينبي ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، محيي الدين أبو المعز، ويقال أبو المحاسن الهاشمي العباسي الحوصلي المعروف بابن زبلاق الشاعر، قتلته التتار لما أخذوا الموصل في هذه السنة عن سبع وخمسين سنة، ومن شعره قوله: بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنا * سهادا يزود الكرى أن يألف الجفنا وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلا * فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى
وأبرزت وجها أخجل الصبح طالعا * وملت بقد علم الهيف الغصن اللدنا حكيت أخاك البدر ليلة تمه * سنا وسناء إذ تشابهتما سنا وقال أيضا وقد دعي إلى موضع، فبعث يعتذر بهذين البيتين: أنا في منزلي وقد وهب ال * له نديما وقينة وعقار فأبسطوا العذر في التأخر عنكم * شغل الخلي أهل بأن يعارا قال أبو شامة وفيها في ثاني عشر جمادى الآخرة توفي: البدر المراغي الخلافي المعروف بالطويل، وكان قليل الدين تاركا للصلاة مغتبطا بما كان فيه من معرفة الجدل والخلاف على اصطلاح المتأخرين، راضيا بما لا يفيد.
وفيها توفي: محمد بن داود بن ياقوت الصارمي المحدث.
كتب كثيرا الطبقات وغيرها، وكان دينا خيرا يعير كتبه ويداوم على الاشتغال بسماع الحديث رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة استهلت وسلطان البلاد الشامية والمصرية الظاهر بيبرس، وعلى الشام نائبه آقوش النجيبي، وقاضي دمشق ابن خلكان والوزير بها عز الدين بن وداعة، وليس للناس خليفة، وإنما تضرب السكة باسم المستنصر الذي قتل.

ذكر خلافة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الامير أبي علي القبي بن الامير علي بن الامير أبي بكر بن الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن الامام المستظهر بالله أحمد العباسي الهاشمي.
لما كان ثاني المحرم وهو يوم الخميس، جلس السلطان الظاهر والامراء في الايوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفة
الحاكم بأمر الله راكبا حتى نزل عند الايوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قرئ نسبه على الناس ثم أقبل عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده، وكان يوما مشهودا.
فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفة بالناس فقال في خطبته " الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا ظهيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء، وأستنصره على دفع الاعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء، لا سيما الاربعة، وعلى العباس كاشف غمه أبي السادة الخلفاء وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أيها الناس اعلموا أن الامامة فرض من فروض الاسلام، والجهاد محتوم على جميع الانام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم (1)، فلو شاهدتم أعداء الاسلام لما دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والاموال وقتلوا الرجال والاطفال (2)، وسبوا الصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والامهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وعلت الصيحات (3) من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه، فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد (واتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [ التغابن: 16 ] فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الاجل، العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الامامة عند قلة الانصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأصبحت البيعة بهمته (4) منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يروعكم ما جرى فالحرب
__________
(1) في الروض الزاهر ص 143: المآثم.
(2) زيد في الروض: والابطال.
(3) في الروض الزاهر: الضجات.
(4) كذا بالاصل ومفرج الكروب 2 / 411، وفي الروض الزاهر: باهتمامه.

سجال والعاقبة للمتقين، والدهر يومان والاجر للمؤمنين، جمع الله على الهدى (1) أمركم، وأعز بالايمان نصركم، واستغفر الله لي ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ".
ثم خطب الثانية (2) ونزل فصلى.
وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له وضربت السكة باسمه.
قال أبو شامة: فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة.
وهذا الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، ولم يل الخلافة من بني العباس من ليس والده وجده خليفة بعد السفاح والمنصور سوى هذا، فأما من ليس والده خليفة فكثير منهم المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، والمعتضد بن طلحة بن المتوكل، والقادر بن إسحاق بن المقتدر، والمقتدي بن الذخيرة بن القائم بأمر الله.
ذكر أخذ الظاهر الكرك وإعدام صاحبها ركب الظاهر من مصر (3) في العساكر المنصورة قاصدا ناحية بلاد الكرك، واستدعى صاحبها الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، فلما قدم عليه بعد جهد أرسله إلى مصر معتقلا فكان آخر العهد به، وذلك أنه كاتب هولاكو وحثه على القدوم إلى الشام مرة أخرى، وجاءته كتب التتار بالثبات ونيابة البلاد، وأنهم قادمون عليه عشرون ألفا لفتح الديار المصرية، وأخرج السلطان فتاوى الفقهاء بقتله وعرض ذلك على ابن خلكان، وكان قد استدعاه من دمشق، وعلى جماعة من الامراء، ثم سار فتسلم الكرك يوم الجمعة ثالث عشر (4) جمادى الاولى ودخلها يومئذ في أبهة الملك، ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا.
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الظاهر يقول له: قد علمت محبتي للاسلام، وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين، فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من ناحية حتى نصطلمه أو نخرجه من
البلاد وأعطيك جميع ما كان بيده من البلاد، فاستصوب الظاهر هذا الرأي وشكره وخلع على رسله وأكرمهم.
وفيها زلزلت الموصل زلزلة عظيمة وتهدمت أكثر دورها، وفي رمضان جهز الظاهر صناعا وأخشابا وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حريقه فطيف بتلك الاخشاب والآلات بمصر فرحة وتعظيما لشأنها، ثم ساروا بها إلى المدينة النبوية، وفي شوال سار الظاهر إلى
__________
(1) في الروض الزاهر: التقوى.
(2) نص الخطبة الثانية في الروض الزاهر ص 145.
(3) في الروض الزاهر ص 149: في سابع شهر ربيع الآخرة، وفي تاريخ أبي الفداء: حادي عشر ربيع الآخرة.
(4) في تاريخ أبي الفداء والروض الزاهر: سابع وعشرين.

الاسكندرية (1) فنظر في أحوالها وأمورها، وعزل قاضيها وخطيبها ناصر الدين أحمد بن المنير وولى غيره.
وفيها التقى بركه خان وهولاكو ومع كل واحد جيوش كثيرة فاقتتلوا فهزم الله هولاكو هزيمة فظيعة وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي وهرب هو في شرذمة يسيرة ولله الحمد.
ولما نظر بركه خان كثرة القتلى قال: يعز علي أن يقتل المغول بعضهم بعضا ولكن كيف الحيلة فيمن غير سنة جنكيز خان ثم أغار بركه خان على بلاد القسطنطينية فصانعه صاحبها وأرسل الظاهر هدايا عظيمة إلى بركه خان، وقد أقام التركي بحلب خليفة آخر لقبه بالحاكم، فلما اجتاز به المستنصر سار معه إلى العراق واتفقا على المصلحة وإنفاذ الحاكم المستنصر لكونه أكبر منه ولله الحمد، ولكن خرج عليهما طائفة من التتار ففرقوا شملهما وقتلوا خلقا ممن كان معهما، وعدم المستنصر وهرب الحاكم مع الاعراب.
وقد كان المستنصر هذا فتح بلدانا كثيرة في مسيره من الشام إلى العراق، ولما قاتله بهادر على شحنة بغداد كسره المستنصر وقتل أكثر أصحابه، ولكن خرج كمين من التتار نجدة فهرب العربان والاكراد الذين كانوا مع المستنصر وثبت هو في طائفة ممن كان معه من الترك فقتل
أكثرهم وفقد هو من بينهم، ونجا الحاكم في طائفة، وكانت الوقعة في أول المحرم من سنة ستين وستمائة، وهذا هو الذي أشبه الحسين بن علي في توغله في أرض العراق مع كثرة جنودها، وكان الاولى له أن يستقر في بلاد الشام حتى تتمهد له الامور ويصفو الحال، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
وجهز السلطان جيشا آخر من دمشق إلى بلاد الفرنج فأغاروا وقتلوا وسبوا ورجعوا سالمين، وطلبت الفرنج منه المصالحة فصالحهم مدة لاشتغاله بحلب وأعمالها، وكان قد عزل في شوال قاضي مصر تاج الدين ابن بنت الاعز وولى عليها برهان الدين الخضر بن الحسين السنجاري، وعزل قاضي دمشق نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين أحمد بن شمس الدين بن هبة الله بن سنى الدولة، وولى عليها شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، وقد ناب في الحكم بالقاهرة مدة طويلة عن بدر الدين السنجاري، وأضاف إليه مع القضاء نظر الاوقاف، والجامع والمارستان، وتدريس سبع مدارس.
العادلية والناصرية والغدراوية والفلكية والركنية والاقبالية والبهنسية، وقرئ تقليده يوم عرفة يوم الجمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من جامع دمشق، وسافر القاضي المعزول مرسما عليه.
وقد تكلم فيه الشيخ أبو شامة وذكر أنه خان في وديعة ذهب جعلها فلوسا فالله أعلم، وكانت مدة ولايته سنة وأشهرا.
وفي يوم العيد يوم السبت سافر السلطان إلى مصر، وقد كان رسول الاسماعيلية قدم على السلطان بدمشق يتهددونه ويتوعدونه، ويطلبون منه إقطاعات كثيرة، فلم يزل السلطان يوقع بينهم حتى استأصل شأفتهم واستولى على بلادهم.
__________
(1) وكان دخوله إليها يوم الاربعاء مستهل ذي القعدة، من باب رشيد.

وفي السادس والعشرين من ربيع الاول عمل عزاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس وكان عمل هذا العزاء بقلعة الجبل بمصر، بأمر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك لما بلغهم أن هولاكو ملك التتار قتله، وقد كان في قبضته منذ مدة، فلما بلغ هولاكو أن
أصحابه قد كسروا بعين جالوت طلبه إلى بين يديه وقال له: أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاؤوا فاقتتلوا مع المغول فكسروهم ثم أمر بقتله، ويقال إنه اعتذر إليه وذكر له أن المصريين كانوا أعداءه وبينه وبينهم شنآن، فأقاله ولكنه انحطت رتبته عنده، وقد كان مكرما في خدمته، وقد وعده أنه إذا ملك مصر استنابه في الشام فلما كانت وقعة حمص في هذه السنة وقتل فيها أصحاب هولاكو مع مقدمهم بيدرة غضب وقال له: أصحابك في العزيزية أمراء أبيك، والناصرية من أصحابك قتلوا أصحابنا، ثم أمر بقتله.
وذكروا في كيفية قتله أنه رماه بالنشاب وهو واقف بين يديه يسأله العفو فلم يعف عنه حتى قتله وقتل أخاه شقيقه الظاهر عليا، وأطلق ولديهما العزيز محمد بن الناصر وزبالة بن الظاهر، وكانا صغيرين من أحسن أشكال بني آدم.
فأما العزيز فإنه مات هناك في أسر التتار، وأما زبالة فإنه سار إلى مصر وكان أحسن من بها، وكانت أمه أم ولد يقال لها وجه القمر، فتزوجها بعض الامراء بعد أستاذها، ويقال إن هولاكو لما أراد قتل الناصر أمر بأربع من الشجر متباعدات بعضها عن بعض، فجمعت رؤوسها بحبال ثم ربط الناصر في الاربعة بأربعته ثم أطلقت الحبال فرجعت كل واحدة إلى مركزها بعضو من أعضائه رحمه الله.
وقد قيل إن ذلك كان في الخامس والعشرين من شوال في سنة ثمان وخمسين، وكان مولده في سنة سبع وعشرين بحلب.
ولما توفي أبوسنة أربع وثلاثين بويع بالسلطنة بحلب وعمره سبع سنين، وقام بتدبير مملكته جماعة من مماليك أبيه، وكان الامر كله عن رأي جدته أم خاتون بنت العادل أبي بكر ابن أيوب، فلما توفيت في سنة أربعين وستمائة استقل الناصر بالملك، وكان جيد السيرة في الرعية محببا إليهم، كثير النفقات، ولا سيما لما ملك دمشق مع حلب وأعمالها وبعلبك وحران وطائفة كبيرة من بلاد الجزيرة، فيقال إن سماطه كان كل يوم يشتمل أربعمائة رأس غنم سوى الدجاج والاوز وأنواع الطير، مطبوخا بأنواع الاطعمة والقلويات غير المشوي والمقلي، وكان مجموع ما يغرم على السماط في كل يوم عشرين ألفا وعامته يخرج من يديه كما هو كأنه لم يؤكل منه شئ، فيباع على باب القلعة بأرخص الاثمان حتى إن كثيرا من أرباب البيوت كانوا لا يطبخون في بيوتهم شيئا من الطرف والاطعمة بل يشترون برخص ما لا يقدرون على مثله إلا بكلفة ونفقة كثيرة، فيشتري
أحدهم بنصف درهم أو بدرهم ما لا يقدر عليه إلا بخسارة كثيرة، ولعله لا يقدر على مثله، وكانت الارزاق كثيرة دارة في زمانه وأيامه، وقد كان خليعا ظريفا حسن الشكل أديبا يقول الشعر المتوسط القوي بالنسبة إليه، وقد أورد له الشيخ قطب الدين في الذيل قطعة صالحة من شعره وهي رائقة لائقة.
قتل ببلاد المشرق ودفن هناك، وقد كان أعد له تربة برباطه الذي بناه بسفح قاسيون

فلم يقدر دفنه بها، والناصرية البرانية بالسفح من أغرب الابنية وأحسنها بنيانا من الموكد المحكم قبلي جامع الافرم، وقد بني بعدها بمدة طويلة، وكذلك الناصرية الجوانية التي بناها داخل باب الفراديس هي من أحسن المدارس، وبني الخان الكبير تجاه الزنجاري وحولت إليه دار الطعم، وقد كانت قبل ذلك غربي القلعة في اصطبل السلطان اليوم رحمه الله.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر اليعمري الاندلسي الحافظ ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وسمع الكثير، وحصل كتبا عظيمة، وصنف أشياء حسنة، وختم به الحفاظ في تلك البلاد، توفي بمدينة تونس في سابع عشرين رجب من هذه السنة.
وممن توفي فيها أيضا: عبد الرزاق بن عبد الله ابن أبي بكر بن خلف عز الدين أبو محمد الرسعني (1) المحدث المفسر، سمع الكثير، وحدث وكان من الفضلاء والادباء، له مكانة عند البدر لؤلؤ صاحب الموصل، وكان له منزلة أيضا عند صاحب سنجار، وبها توفي في ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر (2) وقد جاوز السبعين، ومن شعره: نعب الغراب فدلنا بنعيبه * أن الحبيب دنا أوان مغيبه يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم * جدلي بعيش ثم سل عن طيبه
محمد بن أحمد بن عنتر السلمي الدمشقي محتسبها، ومن عدولها وأعيانها، وله بها أملاك وأوقاف، توفي بالقاهرة ودفن بالمقطم.
علم الدين أبو القاسم (3) بن أحمد ابن الموفق بن جعفر المرسي البورقي (4) اللغوي النحوي المقري، شرح الشاطبية شرحا
__________
(1) الرسعني: نسبة إلى رأس عين - الخابور من مدن الجزيرة - قاله الذهبي في العبر.
(2) قال الداودي في طبقات المفسرين 1 / 301: توفي في رجب، وقيل في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 660 ه.
(3) صحح اسمه في الشذرات: أبو محمد القاسم.
(4) في شذرات الذهب: اللورقي نسبة إلى لورقة بلدة بالاندلس.

مختصرا، وشرح المفصل في عدة مجلدات، وشرح الجزولية وقد اجتمع بمصنفها وسأله عن بعض مسائلها، وكان ذا فنون عديدة حسن الشكل مليح الوجه له هيئة حسنة وبزة وجمال، وقد سمع الكندي وغيره.
الشيخ أبو بكر الدينوري وهو باني الزاوية بالصالحية، وكان له فيها جماعة مريدون يذكرون الله بأصوات حسنة طيبة رحمه الله.
مولد الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ الاسلام قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وفي هذه السنة ولد شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن أبي القاسم بن تيمية الحراني بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الاول من سنة إحدى وستين وستمائة.
الامير الكبير مجير الدين أبو الهيجاء عيسى بن حثير الازكشي الكردي الاموي، كان من أعيان الامراء وشجعانهم، وله يوم
عين جالوت اليد البيضاء في كسر التتار، ولما دخل الملك المظفر إلى دمشق بعد الوقعة جعله مع الامير علم الدين سنجر الحلبي نائبا على دمشق مستشارا ومشتركا في الرأي والمراسيم والتدبير، وكان يجلس معه في دار العدل وله الاقطاع الكامل والرزق الواسع، إلى أن توفي في هذه السنة.
قال أبو شامة: ووالده الامير حسام الدين توفي في جيش الملك الاشرف ببلاد الشرق هو والامير عماد الدين أحمد بن المشطوب.
قلت وولده الامير عز الدين تولى هذه المدينة أعني دمشق مدة، وكان مشكور السيرة وإليه ينسب درب ابن سنون بالصاغة العتيقة، فيقال درب ابن أبي الهيجاء لانه كان يسكنه وكان يعمل الولاية فيه فعرف به، وبعد موته بقليل كان فيه نزولنا حين قدمنا من حوران وأنا صغير فختمت فيه القرآن، ولله الحمد.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، والسلطان الظاهر بيبرس، ونائب دمشق الامير جمال الدين آقوش النجيبي وقاضيه ابن خلكان.

وفيها في أولها (1) كملت المدرسة الظاهرية التي بين القصرين، ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر بن العديم، ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الحافظ الدمياطي.
وفيها عمر الظاهر بالقدس خانا ووقف عليه أوقافا للنازلين به من إصلاح نعالهم وأكلهم وغير ذلك، وبنى به طاحونا وفرنا.
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الملك الظاهر ومعهم الاشرف ابن الشهاب غازي بن العادل، ومعهم من الكتب والمشافهات ما فيه سرور للاسلام وأهله مما حل بهولاكو وأهله.
وفي جمادى الآخرة منها درس الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي بدار الحديث الاشرفية، بعد وفاة عماد الدين بن الحرستاني، وحضر عنده القاضي ابن
خلكان وجماعة من القضاة والاعيان، وذكر خطبة كتابه المبعث، وأورد الحديث بسنده ومتنه وذكر فوائد كثيرة مستحسنة، ويقال إنه لم يراجع شيئا حتى ولا درسه ومثله لا يستكثر ذلك عليه والله أعلم.
وفيها قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو، فنظر في الاوقاف وأحوال البلد، وأخذ كتبا كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة، ثم انحدر إلى واسط والبصرة.
وفيها كانت وفاة: الملك الاشرف موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد (2) بن أسد الدين شيركوه الكبير، كانوا ملوك حمص كابرا عن كابر إلى هذا الحين، وقد كان من الكرماء الموصوفين، وكبراء الدماشقة المترفين، معتنيا بالمأكل والمشرب والملابس والمراكب وقضاء الشهوات والمآرب وكثرة التنعم بالمغاني والحبائب، ثم ذهب ذلك كأن لم يكن أو كأضغاث أحلام، أو كظل زائل، وبقيت تبعاته وعقوباته وحسابه وعاره.
ولما توفي (3) وجدت له حواصل
__________
(1) في الروض الزاهر: يوم الاحد الخامس من صفر.
(2) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء، وفي الروض الزاهر ص 186: محمود.
(3) في تاريخ أبي الفداء: مرض واشتد به المرض وتوفي في أواخر هذه السنة (يعني سنة إحدى وستين).
وفي الروض الزاهر: يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وستين.

من الجواهر النفيسة والاموال الكثيرة، وصار ملكه إلى الدولة الظاهرية، وتوفي معه في هذه السنة الامير حسام الدين الجوكندار نائب حلب (1).
وفيها كانت كسرة التتار على حمص وقتل مقدمهم بيدرة بقضاء الله وقدره الحسن الجميل.
وفيها توفي الرشيد العطار المحدث بمصر (2).
والذي حضر مسخرة الملك الاشرف موسى بن
العادل والتاجر المشهور الحاج نصر بن دس وكان ملازما للصلوات بالجامع، وكان من ذوي اليسار والخير.
الخطيب عماد الدين بن الحرستاني عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني، كان خطيبا بدمشق وناب في الحكم عن أبيه في الدولة الاشرفية، بعد ابن الصلاح إلى أن توفي في دار الخطابة في تاسع عشرين جمادى الاولى، وصلي عليه بالجامع ودفن عند أبيه بقاسيون، وكانت جنازته حافلة، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين، وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجد الدين، وباشر مشيخة دار الحديث الشيخ شهاب الدين أبو شامة.
محيي الدين محمد بن أحمد (3) بن محمد ابن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الحافظ المحدث الانصاري الشاطبي أبو بكر المغربي، عالم فاضل دين أقام بحلب مدة، ثم اجتاز بدمشق قاصدا مصر.
وقد تولى دار الحديث الكاملية بعد زكي الدين عبد العظيم المنذري، وقد كان له سماع جيد ببغداد وغيرها من البلاد، وقد جاوز السبعين.
الشيخ الصالح محمد بن منصور بن يحيى الشيخ أبي القاسم القباري الاسكندراني كان مقيما بغيط له يقتات منه ويعمل فيه ويبدره، ويتورع جدا ويطعم الناس من ثماره.
توفي في سادس شعبان بالاسكندرية وله خمس وسبعون سنة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويردع الولاة عن الظلم فيسمعون منه ويطيعونه لزهده، وإذا جاء الناس إلى زيارته إنما يكلمهم من طاقة المنزل وهم راضون منه بذلك، ومن غريب ما حكي عنه أنه باع دابة له من رجل، فلما كان
__________
(1) قال في العبر: من أكبر أمراء دمشق كان محبا للفقراء توفي في المحرم كهلا (شذرات الذهب 5 / 311).
(2) وهو أبو الحسين، يحيى بن علي بن عبد الله بن علي بن مفرج القرشي الاموي (شذرات الذهب).
(3) سقط من عمود نسبه في الوافي 1 / 208.

بعد أيام جاء الرجل الذي اشتراها فقال: يا سيدي إن الدابة التي اشتريتها منك لا تأكل عندي شيئا، فنظر إليه الشيخ فقال له: ماذا تعاني من الاسباب ؟ فقال رقاص عند الوالي، فقال له: إن دابتنا لا تأكل الحرام، ودخل منزله فأعطاه دراهم ومعها دراهم كثيرة قد اختلطت بها فلا تميز، فاشترى الناس من الرقاص كل درهم بثلاثة لاجل البركة، وأخذ دابته، ولما توفي ترك من الاساس ما يساوي خمسين درهما فبيع بمبلغ عشرين ألفا.
قال أبو شامة: وفي الرابع والعشرين من ربيع الآخر توفي: محيي الدين عبد الله بن صفي الدين إبراهيم بن مرزوق بداره بدمشق المجاورة للمدرسة النورية رحمه الله تعالى.
قلت: داره هذه هي التي جعلت مدرسة للشافعية وقفها الامير جمال الدين آقوش النجيبي التي يقال لها النجيبية تقبل الله منه.
وبها إقامتنا جعلها الله دارا تعقبها دار القرار في الفوز العظيم.
وقد كان أبو جمال الدين النجيبي وهو صفي الدين وزير الملك الاشرف، وملك من الذهب ستمائة ألف دينار خارجا عن الاملاك والاثاث والبضائع، وكانت وفاة أبيه بمصر سنة تسع وخمسين، ودفن بتربته عند المقطم.
قال أبو شامة: وجاء الخبر من مصر بوفاة الفخر عثمان المصري المعروف بعين غين.
وفي ثامن عشر ذي الحجة توفي الشمس الوبار الموصلي، وكان قد حصل شيئا من علم الادب، وخطب بجامع المزة مدة فأنشدني لنفسه في الشيب وخضابه قوله: وكنت وإياها مذ اختط عارضي * كروحين في جسم وما نقضت عهدا فلما أتاني الشيب يقطع بيننا * توهمته سيفا فألبسته غمدا وفيها استحضر الملك هولاكو خان الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وقال له: قد ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالا على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، حتى سلطهم الله عليه بأنواع العقوبات والمثلات (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) [ الانعام: 129 ] ومن أعان ظالما سلط عليه، فإن الله ينتقم من الظالم بالظالم ثم ينتقم من الظالمين جميعا، نسأل الله العافية من انتقامه وغضبه وعقابه
وشر عباده.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة فيها جهز السلطان الظاهر عسكرا جما كثيفا إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة، فلما سمعوا بالعساكر قد أقبلت ولوا مدبرين، فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة، وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد والخوف، فعمرت وأمنت.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55