كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم (1) كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ".
فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات.
قال: " تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه ".
فصفقوا بأيديهم.
ثم قالوا: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا ؟ ! إن أمرك لعجب.
قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.
قال فقال أبو طالب: والله يا ابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططا.
قال: فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له: " أي عم، فأنت قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لاسرك بها.
قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بإذنه، قال فقال: يا بان أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أسمع " قال وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط: (ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق) [ ص: 1 - 2 ]
الآيات.
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة (2).
وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما يقول العباس هذا الحديث، يا ابن أخي، لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها - " يعني لا إله إلا الله - والجواب عن هذا من وجوه.
أحدها: أن في السند مبهما لا يعرف حاله وهو قول عن بعض أهله وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد.
وقد روى الامام أحمد والنسائي وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبي أسامة عن الاعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير فذكره ولم يذكر قول العباس.
ورواه الثوري أيضا عن الاعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس.
ورواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير أيضا (3).
ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الاعمش، عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب، فجلس رجل (4) فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك.
وشكوه إلى أبي طالب.
فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ فقال: " يا عم إنما أريد
__________
(1) في الاصل وبعض نسخ ابن هشام: يا عم.
(2) الخبر في سيرة ابن هشام 2 / 59، والخبر نقله البيهقي عن ابن اسحاق في الدلائل ج 2 / 345، وانظر تفسير ابن كثير - تفسير سورة ص.
(3) أخرجه الترمذي في 48 كتاب التفسير 39 باب ومن سورة ص ح 3232.
(4) في دلائل البيهقي 2 / 345 وردت العبارة: وعند رأس أبي طالب مجلس رجل.
منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة ".
قال: ماهي ؟ قال: " لا إله إلا الله " قال فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب ! قال: ونزل فيهم: (ص والقرآن ذي الذكر) الآيات إلى قوله: (إلا اختلاق) [ ص: 1 - 7 ] ثم قد عارضه - أعني سياق ابن إسحاق - ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلا: حدثنا
محمود [ بن غيلان ] حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه (1) رضي الله عنه.
أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل.
فقال: " أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ".
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاستغفر لك ما لم أنه عنك " فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) [ التوبة: 112 ] ونزلت: (إنك لا تهدي من أحببت) ورواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله عن عبد الرزاق (2).
وأخرجاه أيضا من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه بنحوه وقال فيه: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال: على ملة عبد المطلب.
وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما لاستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله - يعني بعد ذلك -: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) ونزل في أبي طالب: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) وهكذا روى الامام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: " يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع (3) الموت لاقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لاقر بها عينك.
فأنزل الله عزوجل: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) [ القصص: 56 ] وهكذا قال عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال: هو على ملة الاشياخ وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى [ بن محمد بن يحيى ]، عن سفيان عن عبد الملك بن عمير حدثني عبد الله بن الحارث [ بن
__________
(1) وهو المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم والد سعيد بن المسيب.
(2) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير تفسير سورة التوبة 16 باب فتح الباري 8 / 341 وفي تفسير سورة القصص (1) باب فتح الباري 8 / 506 وفي 7 / 193 ومسلم في (1) كتاب الايمان (9) باب ح 40 صفحة 1 / 54.
(3) في مسلم: جزع بالجيم والزاي ومعناه الخوف وقال أبو عبيد: الخرع بالخاء والراء: يعني الضعف والخور.
نوفل ] قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال: " [ هو ] في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الاسفل [ من النار ] " (1) ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن عبد الملك بن عمير به [ و ] أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث حدثني [ يزيد ] ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه فقال: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه " لفظ البخاري (2).
وفي رواية " تغلي منه أم دماغه " وروى مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أهون أهل النار عذابا أبو طالب، منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه " وفي مغازي يونس بن بكير " يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه " ذكره السهيلي.
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا عمرو - هو ابن اسماعيل بن مجالد - حدثنا أبي عن مجالد عن الشعبي عن جابر.
قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قيل له - هل نفعت أبا طالب ؟ قال: " أخرجته من النار إلى ضحضاح منها " تفرد به البزار.
قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: " لم أسمع " لان العباس كان إذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم.
ومما يدل على ذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفسا إيمانها والله أعلم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت ناجية بن كعب يقول سمعت عليا يقول: لما توفي أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك قد توفي.
فقال: " إذهب فواره " فقلت إنه مات مشركا، فقال: " إذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتي " ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.
ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة.
ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية عن علي: لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه ؟ قال: " اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الارض من شئ (3).
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده 1 / 206 و 3 / 9، 50، 55.
(2) وأخرجه مسلم في 1 كتاب الايمان ح 360 ص 1 / 195.
(3) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، والامام أحمد في مسنده 1 / 97، 103، 130، 131 وابن خزيمة في صحيحه
محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد (1) من جنازة أبي طالب فقال: " وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم ".
قال: وروي عن أبي اليمان الهوزني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وزاد، ولم يقم على قبره.
قال: وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه.
قلت: قد روى عنه غير واحد منهم الفضل بن موسى السيناني (2) ومحمد بن سلام البيكندي (3)، ومع هذا قال ابن عدي ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.
وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولاصحابه من المودة
والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه.
وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري، وشاهد ذلك قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) وقال تعالى في قوم فرعون: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم).
وقال موسى لفرعون: (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لاظنك يا فرعون مثبورا) وقول بعض السلف في قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.
فقد روي عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم.
والاظهر والله أعلم الرواية الاخرى عن ابن عباس، وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به.
وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به.
ولهذا قال: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين، وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن
__________
(1) في دلائل البيهقي 2 / 349: عارض جنازة أبي طالب.
(2) السيناني: نسبة إلى سينان إحدى قرى مرو، كان من أقران ابن المبارك في السن والعلم ولد سنة 115 ه ومات سنة 191.
(3) البيكندي: نسبة إلى بيكند بلدة بين بخارى وجيحون، مقبول من الحادية عشرة.
تقريب التهذيب 2 / 294 / 168.
يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) وهذا اللفظ وهو قوله (وهم) يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام وقوله: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) يدل على تمام الذم.
وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال.
ولكن مع هذا لم يقدر الله له الايمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الايمان بها والتسليم لها، ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لابي طالب وترحمنا عليه (1).
فصل موت خديجة بنت خويلد وذكر شئ من فضائلها ومناقبها رضي الله عنه وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها.
وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: قال عروة بن الزبير: وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة.
ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة.
وقال محمد بن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد.
وقال البيهقي: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.
ذكره عبد الله بن منده في كتاب المعرفة، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ.
قال البيهقي وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة (2).
__________
(1) أنظر في موت أبي طالب: سيرة ابن هشام ج 1 / 26 - 27 ابن سعد 1 / 141 الروض الآنف 1 / 258 ونهاية الارب للنويري 16 / 277 السيرة الحلبية 1 / 466 والسيرة الشامية 2 / 563.
(2) في وفاة خديجة ذكر ابن سعد في الطبقات أكثر من رواية وبأسانيد مختلفة قال: عن محمد بن عمر عن عبد محمد بن صالح: توفيت خديجة لعشر خلون من شهر رمضان وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين وهي يومئذ بنت
خمس وستين سنة.
وعن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.
وعن حكيم بن حزام روى موسى بن عقبة قال قال أبو حبيبة مولى الزبير سمعت حكيم يقول: توفيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من النبوة وهي يومئذ بنت خمس وستين ودفناها بالحجون ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها وذلك قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها وبعد خروج بني هاشم من الشعب ولم تكن سنة الجنازة الصلاة عليها.
=
قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الاسراء، وكان الانسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب وخديجة قبل الاسراء كما ذكره البيهقي وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الاسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.
قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به (1).
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل.
قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ؟ قال نعم ! ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب ورواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به.
قال السهيلي: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لانها حازت قصب السبق إلى الايمان، لا صخب فيه ولا نصب لانها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتبعه يوما من الدهر فلم تصخب عليه يوما ولا آذته أبدا.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة.
وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من
قصب.
وإن كان ليذبح الشاة فيهدى في خلائلها منها ما يسعهن.
لفظ البخاري، وفي لفظ عن عائشة ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه - أو جبرائيل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب (2).
وفي لفظ له قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة - وما رأيتها - ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة.
فربما قلت كأنه لم يكن في
__________
= وقال البلاذري في الانساب 1 / 186 عن عروة: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة وروى البيهقي عن الزهري: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقبل أن تفرض الصلاة.
وقاله البخاري عن عروة.
وقال بعضهم: ماتت قبل الهجرة بخمس سنين، قال البلاذري: وهو غلط.
وكانت خديجة رضي الله عنها أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاده كلهم منها غير إبراهيم بن مارية، وكانت وزيرة صدق للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة وكانت تكنى أم هند بولدها من زوجها أبي هالة.
(1) البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 20 باب حديث 3820 فتح الباري 7 / 133 ومسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة 12 باب ح 71 ص 1887.
(2) البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 20 باب ح 3817 فتح الباري 7 / 133 ومسلم في فضائل الصحابة (44) حديث 71 - 72 - 73.
والامام أحمد في مسنده 6 / 58، 202، 279.
الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: " إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد " ثم قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع فقال: " اللهم هالة ".
[ قالت ] فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر [ قد ] (1) أبدلك الله خيرا منها.
وهكذا رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به.
وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلا وإما عشرة.
إذا
لم ينكر عليها ولا رد عليها ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله ولكن قال الامام أحمد حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك - هو ابن عمير - عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين.
قال فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا لم أره تغير عند شئ قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمة أو عذابا.
وكذا رواه عن بهز بن أسد وعثمان بن مسلم كلاهما عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير به.
وزاد بعد قوله حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الاول.
قال: قال فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا.
تفرد به أحمد.
وهذا إسناد جيد.
وقال الامام أحمد أيضا عن ابن إسحاق أخبرنا مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة.
قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء.
قالت فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها.
قال: " ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبنني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء " تفرد به أحمد أيضا.
وإسناده لا بأس به ومجالد روى له مسلم متابعة وفيه كلام مشهور والله أعلم.
ولعل هذا أعني قوله: ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء.
كان قبل أن يولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذ معين.
فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها.
وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وتكلم آخرون في إسناده وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة وهو محتمل أو ظاهر.
وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها قد أبدلك الله خيرا منها أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة، فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عزوجل كما قال (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) [ النجم: 32 ] وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء) [ النساء: 49 ] الآية وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل، على عادة ابن كثير في نقله، واستدركت من البخاري.
العلماء قديما وحديثا وبجانبها طرقا يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم لا يعدلون بخديجة أحدا من النساء لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم - إلا إبراهيم منها.
وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها، وتقدير إسلامها، وكونها من الصديقات ولها مقام صدق في أول البعثة.
وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة فإنه لم يكن في الامم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها ونزلت براءتها من فوق سبع سموات وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور " خذوا شطر دينكم عن الحميراء " (1) (والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والاحسن التوقف في ذلك إلى الله عزوجل.
ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الاقوم والمسلك الاسلم أن يقول الله أعلم.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " (2) أي خير زمانهما.
وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث، مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد.
وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (3) رواه ابن مردويه في
__________
(1) قال القاري في الموضوعات الصغرى: لا يعرف له أصل.
قال ابن القيم الجوزية في المنار المنيف ص 60 وكل حديث فيه " يا حميراء " أو ذكر حميراء فهو كذب مختلق.
والحميراء تصغير حمراء بمعنى بيضاء اللون مشرب بياضها بحمرة، والعرب تسمي الرجل الابيض: أحمر والمرأة حمراء.
وقال القرطبي صاحب الفهم: والعرب تطلق على الابيض الاحمر: كراهة اسم البياض لكونه يشبه البرص.
قال المزي: كل حديث فيه يا حميراء فهو موضوع إلا حديثا عند النسائي، وقال ابن حجر نحوه في فتح الباري.
وهذا الحصر من هذين الحافظين غير سديد، فقد ورد ذكر الحميراء في حديثين آخرين.
روى الحاكم 3 / 119 في مستدركه عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنظري يا حميراء..قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب اللدنية 7 / 216 بعد ذكر حديث القسطلاني حديث أم سلمة هذا من رواية الحاكم والبيهقي.
حديث صحيح..(2) تقدم تخريجه فليراجع.
(3) تقدم تخريجه فليراجع.
تفسيره.
وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده.
قالوا والقدر المشترك بين الثلاث نسوة، آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته فآسية ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل.
وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عزوجل.
وقوله: " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " هو ثابت في الصحيحين من طريق شعبة أيضا عن عمرو بن مرة عن مرة الطيب الهمداني عن أبي موسى الاشعري.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون.
ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " والثريد هو الخبز واللحم جميعا وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء: إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك، أمانة الله الثريد
ويحمل قوله " وفضل عائشة على النساء " أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم.
فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة - رضي الله عنها - [ بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما ] (1) والصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي.
قال البخاري في باب تزويج عائشة * حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة من حرير، ويقول هذه امرأتك.
فاكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا (2) من عند الله يمضه " قال البخاري باب نكاح الابكار.
وقال ابن أبي مليكة قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك * حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال: " في التي (3) لم يرتع منها " تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها.
انفرد
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل، واستدركت من سيرة ابن كثير.
(2) في كتاب المناقب ج 4 / 252 (دار الفكر).
وفيه: إن يك هذا، وقوله: ويقول: أي جبريل.
(3) في كتاب النكاح فتح الباري ج 9 / 98 وفيه: الذي بدل التي.
به البخاري ثم قال حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتك في المنام فيجئ بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي، فقلت إن يكن هذا من عند الله يمضه " (1) وفي رواية " أريتك في المنام ثلاث ليال " وعند الترمذي أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة
من حرير خضراء فقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وقال البخاري [ في باب ] تزويج الصغار من الكبار، حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن يزيد عن عراك عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك.
فقال: " أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال " (2) هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل وهو عند البخاري والمحققين متصل لانه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها، وهذا من إفراد البخاري رحمه الله.
وقال يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه.
قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين وعائشة يومئذ ابنة ست سنين، وبني بها وهي ابنة تسع.
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة.
وهذا غريب.
وقد روى البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه.
قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين (3) أو قريبا من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين، وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا ولكنه في حكم المتصل في نفس الامر.
وقوله تزوجها وهي ابنت ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في الصحاح وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة.
وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو من ثلاث سنين ففيه نظر.
فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة، وأنا ابنة سبع - أو ست سنين، فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة (4)، فهيآنني وصنعنني ثم أتين بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فبنى بي ] وأنا ابنة تسع سنين.
فقوله في هذا الحديث متوفى خديجة يقتضي أنه على أثر ذلك قريبا، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير وأبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج.
فوعكت فتمزق
__________
(1) رواية البخاري تخالف هذا النص راجع المصدر السابق ص 99.
(2) في كتاب النكاح فتح الباري ج 9 / 102.
(3) في كتاب المناقب - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ج 4 / 252 (دار الفكر).
(4) مجممة: التي شعرها نازل إلى أذنيها، والخبر نقله البيهقي في الدلائل ج 2 / 409.
شعري وقد وفت لي جميمة فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لانهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمست (1) به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار قال: فإذا نسوة من الانصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمنني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
وقال الامام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو [ حدثنا ] أبو سلمة ويحيي.
قالا [ قالت عائشة ] (2): لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال: من ؟ قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر ؟ قالت أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر.
قال ومن الثيب ؟ قالت: سودة بنت زمعة.
قد آمنت بك واتبعتك.
قال: فاذهبي فاذكريهما علي.
فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة ؟ قالت: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: أنظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قال وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال: وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: " ارجعي إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الاسلام، وابنتك تصلح لي " فرجعت فذكرت ذلك له قال: انتظري، وخرج.
قالت أم رومان إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على
مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي.
فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبى صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك ؟ فقال أبو بكر للمطعم بن عدي أقول هذه تقول ؟ [ قال ] (3) إنها تقول ذلك.
فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده.
فرجع فقال لخولة ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذ بنت ست سنين، ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك ؟ قالت أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه.
قالت وددت أدخلي إلى أبي - بكر - فاذكري ذلك له - وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية، فقال من هذه ؟ قالت خولة بنت حكيم.
قال فما شأنك ؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة.
فقال كفؤ كريم، ماذا تقول صاحبتك ؟ قالت تحب ذلك.
قال ادعيها إلي فدعتها قال: أي بنية إن هذه تزعم إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفؤ
__________
(1) في البخاري: فمسحت، في كتاب المناقب - باب في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة - ج 2 / 251 - 252 دار الفكر.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) من المسند ج 6 ص 211.
كريم أتحبين أن أزوجك به ؟ قالت نعم.
قال أدعيه لي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه.
فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل (1) يحثي على رأسه التراب.
فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة.
قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح.
قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الانصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي فأنزلتني من الارجوحة ولي جميمة ففرقتها ومسحت وجهي بشئ من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لانهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الانصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك
فيهم، وبارك لهم فيك.
فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذبحت علي شاة.
حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين (2).
وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي: من طريق أحمد بن عبد الجبار، حدثنا عبد الله بن إدريس الازدي (3) عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب.
قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم [ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فقالت: يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال: ومن ؟ قالت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال من البكر ومن الثيب ؟ قالت أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك [: عائشة ]، وأم الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.
قال: فاذكريهما علي (4).
وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم.
وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم وكما سيأتي.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود حدثنا شريك عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لما كبرت سودة وهبت يومها لي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لي بيومها مع نسائه.
قالت وكانت أول امرأة تزوجها بعدي.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد حدثني شهر حدثني عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة وكانت مصبية، كان لها خمس صبية - أو ست - من بعلها مات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يمنعك مني ؟ " قالت والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني
__________
(1) من المسند وفي الاصل فجاء.
(2) مسند أحمد ج 6 / 210 و 211.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد في حديث طويل 9 / 225 - 227 وقال: " في الصحيح طرف منه، وروى أحمد بعضه، صرح فيه بالاتصال عن عائشة وأكثره مرسل، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة: وثقه غير واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
(3) في البيهقي: الاودي بدل الازدي.
(4) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي ج 2 / 411.
أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية.
قال فهل منعك مني غير ذلك ؟ قالت لا والله، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الابل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده.
قلت وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم، ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه.
هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل.
ورواه يونس عن الزهري واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة (1) وحكاه عن قتادة وأبي عبيد.
قال ورواه عقيل عن الزهري.
فصل قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان ناصرا له وقائما في صفه ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال، فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.
كما قد رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني (2) حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن جعفر.
قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: " أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك " ويقول ما بين ذلك " ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا " (3).
قد رواه زياد البكائي عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا والله أعلم.
وروى البيهقي أيضا عن الحاكم وغيره (4) عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما زالت قريش كاعين (5) حتى مات أبو طالب " ثم رواه عن الحاكم عن الاصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين، حدثنا عقبة
__________
(1) قال ابن سعد في الطبقات: إن سودة كانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعن محمد بن عبد الله بن سالم عن أبيه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة في رمضان سنة عشر من النبوة بعد وفاة خديجة وقبل تزوج عائشة ودخل بها بمكة وهاجر بها إلى مكة.
(2) في البيهقي: الصغاني بدلا من الصنعاني.
(3) الخبر في دلائل البيهقي ج 2 / 350.
(4) في دلائل البيهقي ج 2 / 349: وأبو سعيد بن أبي عمرو بدلا من " وغيره ".
(5) في دلائل البيهقي: كاعين عني: أي جبنوا، والكاعة جمع كاع وهو الجبان، يقال: كع الرجل يكع كعا: جبن عنه (راجع النهاية لابن الاثير).
المجدر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب " وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صعير (1) وحكيم بن حزام أنهما قالا: لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا في صنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت.
وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة.
فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد.
فقالوا لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال له أبو لهب يا محمد أين مدخل عبد المطلب ؟ قال مع قومه.
فخرج إليهما فقال قد سألته فقال مع قومه.
فقالا يزعم أنه في النار.
فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار.
فقال أبو لهب
- لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار.
واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الاصداء الهذلي.
وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص.
وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا ؟ ثم يلقيه في الطريق.
قلت: وعندي أن غالب ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي كما رواه ابن مسعود وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم.
وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.
وكذلك عزم أبي جهل - لعنه الله - على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، مما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب والله أعلم.
فذكرها ههنا أنسب وأشبه.
__________
(1) في الوفاء لابن الجوزي 210 وفي سيرة ابن كثير صقير وهو تحريف وما أثبتناه الصواب: ثعلبة بن صعير أو ابن أبي صعير العذري ويقال ثعلبة بن عبد الله بن صعير ويقال عبد الله بن ثعلبة بن صعير مختلف في صحبته (تقريب التهذيب 1 / 33 / 118).
فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة
والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده.
[ قال ابن إسحاق ] فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي.
قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة، عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف.
وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الاسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط (1) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك ؟ وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك (2) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي - إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم (3) ذلك عليه.
فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه.
فعمد إلى ظل حبلة (4) من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها ماذا لقينا من أحمائك.
فلما اطمأن قال - فيما ذكر [ لي ] - " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجمهني أم إلى عدو ملكته أمري.
إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات (5)، وصلح عليه أمر
__________
(1) يمرط ثياب الكعبة: أي ينزعه ويرمي به.
(2) في دلائل البيهقي من رواية موسى بن عقبة: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدا والله لئن كنت رسول الله لانت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب.
على الله لانت أشر من أن أكلمك.
(3) يذئرهم أي يثيرهم عليه ويجرئهم.
(4) حبلة: طاقات من قضبان العنب وزاد السهيلي: والكرمة.
وفي النهاية: الاصل أو القضيب من شجر الاعناب.
(5) ينقسم الوجه إلى موطنين إذا ذكر في الكتاب والسنة: ففي موطن تقرب واسترضاء بعمل كقوله تعالى: =
الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك ".
قال فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس [ وقالا له ] (1) خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه.
ففعل عداس، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: " بسم الله " ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك ؟ قال نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى.
فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخي، كان نبيا وأنا نبي.
فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه (2).
قال يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك.
فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس ! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال: يا سيدي، ما في الارض شئ خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.
قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
وقد ذكر موسى بن عقبة نحوا من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء وزاد، وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب وفي ذلك الحائط عتبة (3) وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.
ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم.
وقد روى الامام أحمد عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن
عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، فسمعته يقول: " والسماء والطارق " حتى ختمها.
قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الاسلام قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم،
__________
= (يريدون وجهه).
فالمطلوب هنا رضاه وقبوله للعمل.
والموطن الثاني من مواطن ذكر الوجه يراد به ما ظهر إلى القلوب والبصائر من أوصاف جلاله ومجده.
أما النور فعبارة عن الظهور وانكشاف الحقائق الالهية وبه أشرقت الظلمات أي أشرق محالها (أنظر الروض الآنف).
(1) من سيرة ابن هشام.
(2) قال السهيلي: وزاد التيمي فيها: إن عداسا حين سمعه يذكر ابن متى، قال: والله لقد خرجت منها - نينوى - وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت أنت متى ؟ وأنت أمي وفي أمة أمية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أخي.
(5) في دلائل البيهقي: عقبة، والصواب ما أثبتناه.
فقال من معهم من قريش نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه (1).
وثبت في الصحيحين من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته: " أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: " ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم.
ثم ناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد ! قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت إن
شئت تطبق عليهم الاخشبين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا " (2).
فصل وقد ذكر محمد بن إسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة (3) وصلى بأصحابه الصبح فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك.
قال ابن إسحاق وكانوا سبعة نفر [ من جن أهل نصيبين ] (4)، وأنزل الله تعالى فيهم قوله: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن).
قلت: وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك والله أعلم.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي وازداد قومه عليه حنقا وغيظا وجرأة وتكذيبا وعنادا والله المستعان وعليه التكلان.
وقد ذكر الاموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أريقط إلى الاخنس بن شريق، فطلب
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 335.
(2) أخرجه البخاري في 59 كتاب بدء الخلق 7 باب ح 3231 فتح الباري 6 / 312 - 313 ومسلم في 32 كتاب الجهاد 39 باب ح 111 ص 1420.
رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 417 وقال رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن ابن وهب.
- الاخشبان: هما جبلا مكة: أبو قبيس وقعيقعان.
- أصلابهم وفي رواية البيهقي أشرارهم وفي نسخة للدلائل: أسرارهم، وليست في البخاري ولا عند مسلم (3) نخلة: هما واديان على ليلة من مكة، يقال لاحدهما نخلة الشامية وللآخر نخلة اليمانية.
(4) زيادة من ابن هشام.
منه أن يجيره بمكة.
فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها.
ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي.
فبعثه إلى المطعم بن عدي
ليجيره فقال نعم ! قل له فليأت.
فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعا فدخلوا المسجد وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم.
فقال: أمجير أو تابع ؟ قال لا بل مجير.
قال إذا لا تخفر.
فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه.
وذهب أبو سفيان إلى مجلسه.
قال فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير فقال حسان بن ثابت والله لارثينه فقال فيما قال: فلو كان مجد مخلد اليوم واحد * من الناس نحى مجده اليوم مطعما أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقي بقية جرهما لقالوا هو الموفي بخفرة جاره * وذمته يوما إذا ما تجشما وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما إباء إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما قلت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النقباء (1) لوهبتهم له ".
فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عزوجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا، من لا أتهم عن زيد بن أسلم عن ربيعة بن عباد
__________
(1) كذا في الاصل النقباء وهو تحريف، والارجح ما ذكره ابن الجوزي في الوفا: النتنى.
وفي المواهب: ثم كلمني في هؤلاء النتنى لاطلقتهم له.
وفي النهاية قال: سماهم نتنى لكفرهم.
الدؤلي - أو (1) من حدثه أبو الزناد عنه - وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي.
قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: " يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا وأن تخعلوا ما تعبدون من دونه من هذه الانداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به ".
قال وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه.
قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال فقلت لابي: يا أبت، من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب (2).
وقد روى الامام أحمد هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد.
عن أبيه: أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل - وكان جاهليا فأسلم - قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب - يتبعه حيث ذهب - فسألت عنه فقالوا هذا عمه أبو لهب.
ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الانصاري عن محمد بن عمرو عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الدئلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت من هذا ؟ قالوا هذا أبو لهب.
وكذا رواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن أبي ذئب وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.
ثم رواه البيهقي من طريق شعبة عن الاشعث بن سليم عن
رجل من كنانة.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوق ذي المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، فإذا هو أبو جهل وهو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.
كذا قال في هذا السياق أبو جهل.
وقد يكون وهما ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا وأنهما كانا يتناوبان على إذائه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري: أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه: قال ابن
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل: ومن.
(2) الخبر في ابن هشام 2 / 64 - 65.
وفيه: - زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة، ويقال أبو عبد الله المدني، مولى عمر.
(تهذيب التهذيب).
- الدؤلي: وفي رواية الديلي وفي الديلي والدؤلي أقوال.
(تراجم الرجال).
إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن [ عبد الله بن ] حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: " يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم " فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم.
وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه.
فقال له رجل منهم يقال له: بيحرة بن فراس (1): والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لاكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك (2) على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الامر من بعدك ؟ قال: " الامر لله يضعه حيث يشاء ".
قال فقال له أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الامر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك.
فأبوا عليه.
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كان أدركه
السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلا بلادنا قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب (3) ؟ والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط، وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم (4) ؟.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه ويقول: " لا أكره أحدا منكم على شئ، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء ".
فلم يقبله أحد منهم، وما يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه ؟ ! وكان ذلك مما ذخره الله للانصار وأكرمهم به (5).
وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الاجلح ويحيى بن سعيد الاموي كلاهما عن
__________
(1) بيحرة بن فراس: بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قاله ابن هشام.
وفي الاصل بحيرة.
(2) في ابن هشام: بايعناك.
(3) مثل يضرب لما فات وأصله ذنابي الطير إذا أفلت من الحبالة فطلبت الاخذ به.
(4) الخبر في سيرة ابن هشام: ج 2 / 65 - 66.
(5) الخبر في دلائل البيهقي ج 2 / 414.
محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس.
قال: قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس " وكانت مجمع العرب.
قال فقلت هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك ؟ قال فبدأ بكندة فأتاهم فقال ممن القوم ؟ قالوا من أهل اليمن.
قال من أي اليمن ؟ قالوا من كندة.
قال من أي كندة ؟ قالوا من بني عمرو بن معاوية، قال فهل لكم إلى خير ؟ قالوا وما هو ؟ قال: " تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله ".
قال عبد الله بن الاجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملك لله يجعله حيث يشاء " فقالوا لا حاجة لنا فيما جئتنا به.
وقال الكلبي فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.
فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال ممن القوم ؟ قالوا من بكر بن وائل.
فقال من أي بكر بن وائل ؟ قالوا من بني قيس بن ثعلبة.
قال كيف العدد ؟ قالوا كثير مثل الثرى.
قال فكيف المنعة ؟ قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.
قال: " فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين " قالوا ومن أنت ؟ قال أنا رسول الله.
ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا هل تعرف هذا الرجل ؟ قال نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا زعم أنه رسول الله، قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه.
قالوا قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر.
قال الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري (1) عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ، فقال ممن القوم ؟ قلنا من بني عامر بن صعصعة.
قال من أي بني عامر بن صعصعة ؟ قالوا (2): بنو كعب بن ربيعة.
قال كيف المنعة [ فيكم ] ؟ قلنا لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بنارنا.
قال فقال لهم: " إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي
ولا أكره أحدا منكم على شئ " قالوا ومن أي قريش أنت ؟ قال من بني عبد المطلب.
قالوا فأين أنت من عبد مناف ؟ قال هم أول من كذبني وطردني.
قالوا ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك قال فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة (3) بن فراس
__________
(1) في دلائل أبي نعيم.
العامري.
(2) في أبي نعيم: قلنا.
(3) في الطبري وابن هشام: بحيرة، وقد تقدم.
القشيري فقال من هذا الرجل أراه عندكم أنكره ؟ قالوا محمد بن عبد الله القرشي قال فما لكم وله ؟ قالوا زعم لنا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.
قال ماذا رددتم عليه ؟ قالوا بالترحيب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا.
قال بيحرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشئ أشد من شئ ترجعون به بدأتم (1) ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه ؟ فبئس الرأي رأيتم.
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك.
قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته.
وعند بني عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم ؟ فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الارض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء " قال فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم: غطيف (2) وغطفان ابنا سهل، وعروة - أو عذرة - بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي في مغازيه عن أبيه به.
وهلك الآخرون
وهم: بيحرة بن فراس، وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل لعنهم الله لعنا كثيرا.
وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم.
وقد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه.
وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لابي نعيم رحمهم الله - من حديث أبان بن عبد الله البجلي (3)، عن أبان بن تغلب (4)، عن عكرمة عن ابن عباس [ قال ]: حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله رسوله [ ص ] أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة، فقال: ممن القوم ؟ قالوا من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها ؟
__________
(1) من الدلائل، وفي الاصل بدءا ثم، وهو تحريف.
(2) في الدلائل غطريف.
(3) وهو أبان بن أبي حازم البجلي الكوفي، وثقه ابن معين والعجلي وابن نمير وقال الذهبي في الميزان 1 / 9 حسن الحديث، قال ابن عدي: هو عزيز الحديث سرده ابن حبان في المجروحين.
(4) في دلائل البيهقي: بن ثعلب.
قالوا بل من هامها العظمى.
قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى [ أنتم ] فقالوا (1) ذهل الاكبر، قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذي كان يقال [ له ] لا حر بوادي عوف ؟ قالوا: لا.
قال فمنكم بسطام بن قيس: أبو اللواء (2) ومنتهى الاحياء ؟ قالوا: لا.
قال فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا: لا.
قال فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار ؟ قالوا: لا.
قال فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا: لا.
قال فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا: لا.
قال فأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا: لا.
قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: فلستم بذهل الاكبر، بل أنتم [ من ] ذهل الاصغر.
قال فوثب إليه منهم
غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي - حين بقل (3) وجهه - فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول: إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله (4) يا هذا إنك سالتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئا، ونحن نريد أن نسأل فمن أنت ؟ قال رجل من قريش.
فقال الغلام: بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة، قادمة العرب وهاديها (5) فمن أنت من قريش ؟ فقال له رجل من بني تيم بن مرة.
فقال له الغلام: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة ؟ أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها وأجلى بقيتهم وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة ثم استولى على الدار وأنزل قريشا منازلها فسمته العرب بذلك مجمعا، وفيه يقول الشاعر: أليس أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر فقال أبو بكر لا.
قال فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة ؟ فقال أبو بكر: لا.
قال فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولاهل مكة، ففيه يقول الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف سنوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الاصياف كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخ خالصة لعبد مناف الرايشين وليس يعرف رايش * والقائلين هلم للاضياف
__________
(1) من دلائل البيهقي، وفي الاصل فقال وهو تحريف.
(2) كذا في الاصل وفي البيهقي، وفي أبي نعيم: أبو الملوك.
(3) في البيهقي: تبين.
(4) في البيهقي: والعبو لا نعرفه أو نجهله.
(5) في دلائل أبي نعيم: أزمة العرب وهداتها.
والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالاسياف لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف (1) فقال أبو بكر: لا.
قال فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلالا في الليلة الظلماء.
؟ قال: لا.
قال أفمن أهل الافاضة أنت ؟ قال: لا.
قال أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال: لا.
قال أفمن أهل الندوة أنت ؟ قال: لا.
قال أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال: لا.
قال أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال: لا.
قال فمن المفيضين أنت ؟ قال: لا ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده، فقال له الغلام: صادف در السيل در يدفعه * يهيضه حينا وحينا يرفعه (2) ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب.
قال فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم قال علي: فقلت له يا أبا بكر لقد وقعت من الاعرابي على باقعة.
فقال أجل يا أبا الحسن، إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول.
قال ثم انتهينا إلى مجلس عليه (3) السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم - قال علي وكان أبو بكر مقدما في كل خير - فقال لهم أبو بكر ممن القوم ؟ قالوا من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم، وفي رواية ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.
وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك.
وكان أقرب القوم إلى أبي بكرمفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره (4).
فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم ؟ فقال له إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة.
فقال له: فكيف المنعة فيكم ؟ فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ فقال مفروق إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على
الاولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله.
يديلنا مرة ويديل علينا [ أخرى ] (5).
لعلك أخو قريش ؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا فقال مفروق قد بلغنا
__________
(1) الازل: الضيق والشدة، والاقراف التهمة.
(2) في البيهقي: يصدعه بدل يرفعه.
(3) في البيهقي: عليهم.
(4) في البيهقي: تريبته.
(5) من دلائل البيهقي وعند أبي نعيم ويديل علينا مرة.
أنه يذكر ذلك [ فإلى ما تدعو يا أخا قريش ] (1)، ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال صلى الله عليه وسلم: " أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد ".
قال له وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) إلى قوله: (ذلك وصاكم به لعلكم تتقون) [ الانعام: 151 ] فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الارض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [ النحل: 90 ] فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإني أرى إن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة،
وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا.
ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به.
والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا وإنا إنما نزلنا بين صريين (2) أحدهما اليمامة، والآخر السماوة (3).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هذان الصريان ؟ فقال له أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا.
ولعل هذا الامر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول.
فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من
__________
(1) من البيهقي وأبي نعيم.
(2) الصريين، وقيل صيرين تثنية صير، والصرى للماء إذا طال مكثة وتغير، وفي النهاية، الصير، الماء الذي يحضره الناس.
(3) السماوة: وفي دلائل البيهقي: السمامة.
وسميت بالسماوة لانها أرض مستوية لا حجر فيها، وهي ماء بالبادية، وهي بين الكوفة والشام.
(معجم البلدان - معجم ما استعجم).
حاطه من جميع جوانبه ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه ؟ " فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش ! فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) [ الاحزاب: 45 ] ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يدي أبي بكر.
قال علي ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا علي أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما
أشرفها - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا " (1).
قال ثم دفعنا إلى مجلس الاوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال علي: وكانوا صدقاء صبراء فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم (2).
قال فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: " احمدوا لله كثيرا فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا ".
قال وكانت الوقعة بقراقر (3) إلى جنب ذي قار وفيها يقول الاعشى: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلت هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت (4) فلله عينا من رأى من فوارس * كذهل بن شيبان بها حين ولت (5) فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت
__________
(1) العبارة في البيهقي: بها يدفع الله عزوجل بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم.
(2) رواه الحاكم وأبو نعيم في دلائل النبوة 1 / 237 - 241.
والبيهقي في الدلائل ج 2 / 422 - 427 وفيه: عن العماني وعن الغلابي عن البجلي فذكره بإسناده ومعناه وروي أيضا باسناد آخر مجهول عن أبان بن تغلب.
وقال القسطلاني في المواهب: أخرجه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم بإسناد حسن.
وما بين معكوفتين زيادة اقتضاها السياق استدركت من دلائل البيهقي.
(3) وقعة ذي قار كانت - لبكر على العجم - وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وخبر أصحابه بها.
وذوقار ماء لبكر قريب من الكوفة وبعد هذا اليوم من مفاخر بكر.
أنظر في الوقعة (العقد الفريد - الطبري 2 / 148 - ابن الاثير 1 / 289 - الاغاني ج 2 / 97 خزانة الادب ج 1 / 343 النقائض 638 طبع أوروبا - معجم البلدان).
(4) رواية البيت في أيام العرب: فصبحهم بالحنو حنو قراقر * وذي قارها منها الجنود فقلت ورواية اللسان: وهم ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت
قال: وصواب إنشاده: هم ضربوا، وهذه هي رواية الديوان ورواية النقائض أيضا.
بنو شيبان بطن في بكر بن وائل.
هامرز: كان على مسلحة كسرى بالسواد، وكان على ألف من الاساورة.
(5) هذا البيت والذي بعده لم نجدهما في ديوانه ولا في المراجع التي بين أيدينا.
هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الاخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب وقد ورد هذا من طريق أخرى وفيه أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم قراقر - مكان قريب من الفرات - جعلوا شعارهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الاسلام.
وقال الواقدي: أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى ونحن نازلون بازاء الجمرة الاولى التي تلي مسجد الخيف وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي.
فقال لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي.
فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ.
فقال القوم دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به.
وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميسرة فكلمه فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى (1) أبعد.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم.
فقال لهم ميسرة: ميلوا نأتي فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل.
فمالوا إلى يهود فاخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الامي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالسبط، وفي عينيه حمرة مشرق اللون.
فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا [ منه ] في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.
فقال
ميسرة: يا قوم ألا [ إن ] هذا الامر بين، فقال القوم نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه.
فقال: يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل من مات على غير دين الاسلام فهو في النار " فقال: الحمد لله الذي أنقذني.
فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان.
وقد استقصى الامام محمد بن عمر الواقدي فقص [ خبر ] القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وغيرهم.
وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في النهاية: العدى بالكسر: الغرباء والاجانب والاعداء، وبالضم: الاعداء خاصة.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أنا اسرائيل [ بن يونس ] عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله.
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: " هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل ؟ " (1) فأتاه رجل من همدان فقال ممن أنت ؟ قال الرجل من همدان.
قال فهل عند قومك من منعة ؟ قال نعم ! ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل ! قال نعم ! فانطلق وجاء وفد الانصار في رجب (2).
وقد رواه أهل السنن الاربعة من طرق عن اسرائيل به، وقال الترمذي حسن صحيح.
فصل [ في ] قدوم وفد الانصار عاما بعد عام حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيعة بعد بيعة ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حديث سويد بن صامت الانصاري وهو سويد بن الصامت (1) بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، وأمه ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم.
فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الاسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به [ من الله ] من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة [ الانصاري ]
__________
(1) أخرجه الترمذي في 46 - كتاب فضائل القرآن ح 2925 وقال: هذا حديث غريب صحيح.
وأخرجه أبو داود في السنة - باب في القرآن ح 4734.
وأخرجه ابن ماجة في المقدمة 13 باب في الجهمية ح 201 وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 413.
وقال البيهقي هذه الزيادة من رواية مصعب بن المقدام.
(2) في السهيلي: هو سويد بن الصامت بن حوط..وبنت سويد هي أم عاتكة، أخت سعيد بن ريد امرأة عمر بن الخطاب فهو جدها لامها واسم أمها زينب.
عن أشياخ من قومه.
قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا - أو معتمرا - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري مقالته كالشهد ما كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر (1) يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبتري عقب الظهر تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير ظالما قد بريتني * وخير الموالي من يريش ولا يبري (2) قال فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به فدعاه إلى الله والاسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك ؟ قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان - فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعرضها علي، فعرضها عليه فقال: " إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور " فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الاسلام.
فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن.
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج (3).
فإن كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قتل وهو مسلم.
وكان قتله قبل بعاث (4).
وقد رواه البيهقي (5) عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا.
إسلام إياس بن معاذ قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد.
قال: لما قدم أبوالحيسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الاشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم، فقال [ لهم ]: " هل لكم في خير مما جئتم له ؟ قال: قالوا: وما ذاك ؟
__________
(1) المأثور: السيف الموشى.
(2) في ابن هشام: فخير الموالي بدلا من وخير الموالي.
(3) قتل سويدا المجذر بن ذياد واسمه عبد الله، وكان قتله في الجاهلية فهيج قتله وقعة بعاث بين الاوس والخزرج ثم أسلم المجذر والحارث بن سويد بن الصامت، وكان الحارث يطلب غرة المجذر بن ذياد ليقتله بأبيه، ويوم أحد جاءه الحارث من خلفه فضرب عنقه وقتله غيله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الحارث وضرب عنقه عويم بن ساعدة على باب مسجد قباء (طبقات ابن سعد).
(4) بعاث موضع كانت فيه حرب بين الاوس والخزرج.
(5) دلائل النبوة ج 2 / 419.
قال: أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب.
ثم ذكر لهم الاسلام وتلا عليهم القرآن قال فقال: إياس بن معاذ - وكان غلاما حدثا - يا قوم (1) هذا والله خير مما جئتم له.
فأخذ ابوالحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا.
قال فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الاوس والخزرج.
قال ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الاسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع (2).
قلت: كان يوم بعاث - وبعاث موضع بالمدينة - كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الاوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة (3) عن هشام عن أبيه عن عائشة.
قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم، وقتل سراتهم (4).
باب بدء إسلام الانصار رضي الله عنهم قال إبن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه.
وانجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الانصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم " من أنتم ؟ " قالوا نفر من الخزرج.
قال: " أمن موالي يهود ؟ " قالوا نعم ! قال " أفلا تجلسون أكلمكم ؟ " قالوا: بلى.
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال
وكان مما صنع الله بهم في الاسلام أن يهود كان معهم في بلادهم.
وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا
__________
(1) في السيرة: أي قوم.
(2) الخبر في دلائل النبوة للبيهقي وفيه: الحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ.
(3) من البخاري وفي الاصل أبي أمامة وهو تحريف.
وأخرجه في 63 كتاب مناقب الانصار (1) باب مناقب الانصار ح 3777 فتح الباري 7 / 87.
(4) في البخاري: وقتلت سرواتهم وجرحوا فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الاسلام.
[ لهم ] إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله.
قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام وقالوا له: إنا د تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا [ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لي ستة نفر كلهم من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة (1) بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.
قال أبو نعيم: وقد قيل إنه أول من أسلم من الانصار من الخزرج.
ومن الاوس أبو الهيثم بن التيهان.
وقيل إن أول من أسلم رافع بن مالك ومعاذ بن عفراء والله أعلم.
وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار - وهو ابن عفراء - النجاريان، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو [ بن عامر ] بن زريق الزرقي وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد (2) بن جشم بن الخزرج
السلمي ثم من بني سواد، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمي أيضا، ثم من بني حرام.
وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أيضا، ثم من بني عبيد رضي الله عنهم.
وهكذا روي عن الشعبي والزهري وغيرهما أنهم كانوا ليلتئذ ستة نفر من الخزرج.
وذكر موسى بن عقبة في ما رواه عن الزهري وعروة بن الزبير أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية (3) وهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان - وهو ابن عبد قيس - وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة.
فأسلموا وواعدوه إلى قابل.
فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الاسلام،
__________
(1) شهد العقبة الاولى والثانية وبايع فيهما، مات قبل بدر، كان نقيبا، أمه سعاد ويقال الفريعة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن الابجر.
لما أسلم عمل على تكسير أصنام بني مالك بن النجار.
أخذته الذبحة ولما توفي مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام جنازته وهو أول من دفع بالبقيع.
(طبقات ابن سعد - الاستيعاب) (2) في الاصل: ساوة بن يزيد، وما أثبتناه من ابن هشام.
ولا يعرف في العرب تزيد إلا هذا، وتزيد بن الحاف بن قضاعة، وإليهم تنسب الثياب التزيدية.
(3) في ابن سعد: قال محمد بن عمر: وأمر الستة أثبت الاقاويل عندنا أنهم أول من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانصار فدعاهم إلى الاسلام فأسلموا
وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن أبعث إلينا رجلا يفقهنا.
فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن إسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان
العام المقبل وافى الموسم من الانصار اثنا عشر رجلا وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك المتقدم أيضا.
وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق الزرقي.
قال ابن هشام: وهو أنصاري مهاجري.
وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم (1) بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة (2) بن أصرم البلوي، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابي المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم، فهؤلاء عشرة من الخزرج، ومن الاوس اثنان وهما، عويم بن ساعدة.
وأبو الهيثم مالك بن التيهان.
قال ابن هشام التيهان يخفف ويثقل كميت وميت.
قال السهيلي: أبو الهيثم بن التيهان: اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعون (3) بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس (4).
قال وقيل إنه أراشي وقيل بلوي.
وهذا لم ينسبه ابن إسحاق ولا ابن هشام.
قال: والهيثم فرخ العقاب، وضرب من النبات، والمقصود أن هؤلاء الاثني عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذ، وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء وهي العقبة الاولى.
وروى أبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم: " وإذ قال إبراهيم رب
__________
(1) في نسخة لابن هشام: أحرم والصواب ما أثبتناه.
(2) قال ابن اسحاق وابن الكلبي خزمة بسكون الزاي، وقال الطبري خزمة بفتح الزاي.
قال في الاستيعاب: ليس في الانصار خزمة بالتحريك.
(3) في ابن سعد: زعوراء.
(4) قال ابن سعد: واسمه مالك بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة حليف لبني عبد الاشهل، أجمع على ذلك موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأبو معشر ومحمد بن عمر.
شهد أبو الهيثم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خارصا فخرص عليهم التمرة.
مات في خلافة عمر سنة عشرين
بالمدينة وقيل بقى إلى أيام علي وشهد معه صفين وقتل يومئذ.
قال الواقدي القول الاول اثبت عندنا (الاستيعاب - الطبقات الكبرى - الروض الآنف) .
اجعل هذا البلد آمنا) إلى آخرها.
وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن [ أبي ] (1) مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة - وهو ابن الصامت - قال: كنت ممن حضر العقبة الاولى، وكنا اثني عشر رجلا.
فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب، على أن لانشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به نحوه (2).
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني أن عبادة بن الصامت حدثه.
قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الاولى أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه.
وقوله على بيعة النساء - يعني وفق على ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية - وكان هذا مما نزل علي وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة.
وليس هذا عجيب فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن كما بيناه في سيرته وفي التفسير، وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو فهو أظهر.
والله أعلم.
قال إبن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب (3) بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي.
وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين.
وقد روى البيهقي عن ابن إسحاق قال فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدم، إلا أنه جعل المرة الثانية هي الاولى.
قال البيهقي: وسياق ابن إسحاق أتم.
وقال ابن إسحاق: فكان عبد الله بن أبي بكر
__________
(1) سقطت من الاصل واستدركت من ابن هشام.
وفي دلائل البيهقي: عن أبي الخير وهو مرثد.
(2) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 43 باب فتح الباري 7 / 219 ومسلم في 29 كتاب الحدود 10 باب ح 44.
(3) يكنى: أبا عبد الله وفي ابن سعد: أبا محمد من أوائل المهاجرين إلى الحبشة، من فضلاء الصحابة شهد بدرا بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يفقههم في الدين ويقرأ عليهم القرآن حتى ظهر الاسلام وفشا في دور الانصار، وهو أول من جمع في الاسلام، قتل يوم أحد شهيدا قتله ابن قمئة وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم معه يوم بدر وأحد، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد (طبقات ابن سعد - الاستيعاب - الروض الآنف).
يقول: لا أدري ما العقبة الاولى.
ثم يقول ابن إسحاق: بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة.
قالوا كلهم: فنزل مصعب على أسعد بن زرارة فكان يسمى بالمدينة المقرئ، قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الاوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الآذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة.
قال: فمكث حينا على ذلك لا يسمع لاذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له.
قال فقلت في نفسي والله أن هذا بي لعجز، ألا أسأله ؟ فقلت يا أبت مالك إذا سمعت الاذان للجمعة صليت على أبي أمامة ؟ فقال أي بني كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت (1) من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات قال: قلت وكم أنتم يومئذ ؟ قال أربعون رجلا.
وقد روى هذا الحديث أبو داود وابن ماجه من طريق
محمد بن إسحاق رحمه الله.
وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة (2)، وفي إسناده غرابة والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبيدالله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الاشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة ؟ فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال له: بئر مرق فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الاشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد لاسيد: لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.
قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكمله.
قال فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟
__________
(1) هزم النبيت: جبل على بريد من المدينة قاله السهيلي وأنكره ياقوت في معجمه ونفى أن يكون هزم النبيت جبلا لان هزم: المطمئن من الارض واستحسن قولا - قال: إن صح فهو المعول عليه - وهو: جمع بنا في هزم بني النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات.
(2) قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: إنما كان مصعب بن عمير يصلي بهم ويجمع بهم الجمعات بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهاجر معه صلى بهم أسعد بن زرارة وقال البيهقي: يحتمل أن لا يخالف هذا قول ابن شهاب، وكأن مصعب جمع بهم معونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه والله أعلم.
(أنظر الحاشية السابقة - وترجمة ابن زرارة وابن عمير في الطبقات ج 3) .
اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
وقال موسى بن عقبة: فقال (1) له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد.
الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه (2) مصعب بالاسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا - فيما يذكر عنهما - والله لعرفنا في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا.
قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟ قال كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا.
وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك (3)، قال: فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما سعد فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف [ عليهما ] متشمتما ؟ ثم قال لاسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه [ من ] قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان.
قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الاسلام وقرأ عليه القرآن.
وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف (4).
قال فعرفنا والله في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا تغتسل فتطهر
__________
(1) نقل البيهقي الخبر عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري، وجاءت العبارة فيه: فقال لابي أمامة: علام تأتينا في دورنا بهذا الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، لا أراك بعدها تسئ من
جوارنا، فقاموا ورجعوا.
(2) في رواية موسى بن عقبة أن ذلك كان في مرة أخرى، حيث توعدهم وعيدا دون وعيده الاول، فلما رأى منه أسعد بن زرارة لينا قال له: يا ابن خالة استمع من قوله فإن سمعت منكرا فأردده بأهدى منه، وإن سمعته حقا فأجب إليه.
إنما نسب موسى هذا القول لسعد بن معاذ وقال: ويقول بعض الناس: بل أسيد بن حضير.
(3) في ابن هشام: ليخفروك، والاخفار: نقض العهد والغدر.
(4) في البيهقي من رواية موسى قرأ: حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.
وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.
قال فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير (1)، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا [ وأوصلنا ] وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال فوالله ما أمسى في دار بني عبد الاشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو (2) مسلمة، ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الاسلام حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ماكان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس وهم من الاوس بن حارثة وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الاسلت واسمه صيفي.
وقال الزبير بن بكار: اسمه الحارث، وقيل عبيدالله واسم أبيه الاسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الاوس.
وكذا نسبه الكلبي أيضا.
وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الاسلام حتى كان بعد الخندق.
قلت: وأبو قيس بن الاسلت هذا ذكر له ابن إسحاق أشعارا بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن [ أبي ] الصلت الثقفي.
قال ابن إسحاق فيما تقدم: ولما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الاوس والخزرج، وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود.
فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الاسلت أخو بني واقف - قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو (3) بن غنم بن عدي بن النجار، قال وهو الذي أنزل فيه وفي عمر: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) الآية.
قال ابن إسحاق (4): وكان يحب قريشا، وكان لهم صهرا.
كانت تحته أرنب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وكان يقيم عندهم السنين بامرأته.
قال قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهى قريشا فيها عن الحروب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه
__________
(1) في رواية ابن عقبة: فقال سعد بن معاذ: بعد قراءة مصعب عليه - ما أسمع إلا ما أعرف، فرجع سعد بن معاذ وقد هداه الله ولم يظهر لهما إسلامه حتى رجع إلى قومه.
(2) في ابن هشام: ومسلمة.
(3) في السيرة: عن ابن هشام: عامر.
(4) سيرة ابن هشام ج 1 / 302.
عنهم الفيل وكيده ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلة عني لؤي بن غالب (1) رسول امرئ قد راعه ذات بينكم * على النأي محزون بذلك ناصب وقد كان عندي للهموم معرس * ولم اقض منها حاجتي ومآربي (2) نبيتكم شرجين، كل قبيلة * لها أزمل من بين مذك وحاطب (3) أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودس العقارب وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة * كوخز الاشافي وقعها حق صائب (4)
فذكرهم بالله أول وهلة * واحلال أحرام الظباء الشوازب (5) وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب متى تبعثوها تبعثوها ذميمة * هي الغول للاقصين أو للاقارب تقطع أرحاما وتهلك أمة * وتبري السديف من سنام وغارب وتستبدلوا بالاتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثياب المحارب (6) وبالمسك والكافور غبرا سوابغا * كأن قتيريها عيون الجنادب (7) فاياكم والحرب لا تعلقنكم * وحوضا وخيم الماء مر المشارب تزين للاقوام ثم يرونها * بعاقبة إذ بيتت أم صاحب تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي * ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا أو كان في حرب حاطب وكم ذا أصابت من شريف مسود * طويل العماد ضيفه غير خائب عظيم رماد النار يحمد أمره * وذي شيمة محض كريم المضارب وماء هريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب يخبركم عنها امرؤ حق عالم * بأيامها والعلم علم التجارب فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا * حسابكم والله خير محاسب ولي امرئ فاختار دينا فلا يكن * عليكم رقيبا غير رب الثواقب
__________
(1) المغلغلة: الرسالة.
(2) المعرس: المكان الذي ينزل فيه المسافر آخر الليل، يقيم فيه للراحة ثم يرتحل.
(3) شرجين: نوعين مختلفين.
الازمل: الصوت المختلط.
المذكى: الموقد، والمذكي: الذي يوقد النار.
(4) الاشافى: جمع اشفى وهي المخرز.
(5) أحرام الظباء: التي يحرم صيدها في الحرم، والشوازب: الضامرة البطون.
(6) الاتحمية: ثياب رقاق تصنع باليمن.
(7) القتير: حلق الدرع.
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتموا * لنا غاية، قد يهتدى بالذوائب وأنتم لهذا الناس نور وعصمة * تؤمون والاحلام غير عوازب وأنتم إذا ما حصل الناس جوهر * لكم سرة البطحاء شم الارانب تصونون أنسابا كراما عتيقة * مهذبة الانساب غير أشائب (1) يرى طالب الحاجات نحو بيوتكم * عصائب هلكى تهتدي بعصائب لقد علم الاقوام أن سراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب (2) وأفضله رأيا وأعلاه سنة * وأقوله للحق وسط المواكب فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الاخاشب (3) فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رؤوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب فإن تهلكوا نهلك وتهلك مواسم * يعاش بها، قول امرئ غير كاذب وحرب داحس التي (4) ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة، وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره: أن فرسا يقال له داحس كانت لقيس (5) بن زهير بن جذيمة بن رواحة الغطفاني.
أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤبة الغطفاني أيضا يقال لها الغبراء، فجاءت داحس سابقا فأمر حذيفة من ضرب وجهه فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم مالكا، ثم إن أبا جنيدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله، فشبت الحرب بين بني عبس وفزارة فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر وجماعات آخرون، وقالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها وذكرها.
قال ابن هشام: وأرسل قيس داحسا والغبراء وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء، والاول أصح (6) قال وأما حرب حاطب [ فيعني حاطب ] بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن
__________
(1) في ابن هشام: تصونون أجسادا بدل تصونون أنسابا.
(2) الجباجب: المنازل، واحدها، جبجبة، قال السهيلي هي منازل منى.
(3) الاخاشب: أراد الاخشبين، جبلا مكة.
(4) في الاصل: الذي، والصواب ما أثبتناه.
(5) قيس بن زهير سيد بني عبس وكان يلقب بقيس الرأي.
لجودة رأيه من أقواله: أربعة لا يطاقون: عبد ملك.
نذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحة تزوجت.
(6) اختلفت الآراء حول ملكية داحس والغبراء، أنظر في ذلك: العقد الفريد ج 3 / 313 سيرة ابن هشام 1 / 303 =
أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس.
كان قتل يهوديا جارا للخزرج، فخرج إليه يزيد (1) بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج وهو الذي يقال له ابن فسحم (2) في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين الاوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وكان الظفر للخزرج، وقتل يومئذ الاسود (3) بن الصامت الاوسي، قتله المجذر بن ذياد حليف بني عوف بن الخزرج، ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضا.
والمقصود أن أبا قيس بن الاسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الاسلام، فأسلم من أهلها بشر كثير ولم يبق دار - أي محلة - من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات غير دار بني واقف قبيلة أبي قيس ثبطهم عن الاسلام وهو القائل أيضا: أرب الناس أشياء ألمت * يلف الصعب منها بالذلول أرب الناس إما أن ضللنا * فيسرنا لمعروف السبيل فلولا ربنا كنا يهودا * وما دين اليهود بذي شكول (4)
ولولا ربنا كنا نصارى * مع الرهبان في جبل الجليل ولكنا خلقنا إذ خلقنا * حنيفا ديننا عن كل جيل نسوق الهدي ترسف مذعنات * مكشفة المناكب في الجلول (5) وحاصل ما يقول أنه حائر فيما وقع من الامر الذي قد سمعه من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقف الواقفي في ذلك مع علمه ومعرفته.
وكان الذي ثبطه عن الاسلام أولا عبد الله بن أبي بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بشر [ به ] يهود فمنعه عن الاسلام.
قال ابن إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج، وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم.
وكذا الواقدي.
قال: كان عزم على الاسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلامه عبد الله بن أبي فحلف لا يسلم إلى حول فمات في ذي القعدة (6).
وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن
__________
= الكامل لابن الاثير 1 / 343 الاغاني 8 / 240، 16 / 26 معجم البلدان (أصاد - هباءة) شرح ديوان الحماسة للتبريزي 1 / 397 مجمع الامثال للميداني 2 / 51.
(1) في الاصول زيد وهو تحريف، من ابن هشام وشرح القاموس مادة فسحم.
(2) في الاصول قسحم، وما أثبتناه من ابن هشام وشرح القاموس مادة فسحم.
(3) في ابن هشام: سويد، وقد تقدم التعليق على ذلك يوم بعاث.
(4) البيتان الاول والثاني ليسا في الطبقات.
ويبدأ الثالث والرابع: ولوشا بدل " ولولا ربنا ".
(5) في الطبقات شطره: تكشف عن مناكبها الجلول.
(6) في ابن سعد: ذي الحجة على رأس عشرة أشهر من الهجرة.
لاثير في كتابه [ أسد ] الغابة، أنه لما حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فسمع يقول: لا له إلا الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من الانصار، فقال " يا خال: قل لا إله إلا الله " فقال: أخال أم عم ؟ قال بل خال قال: فخير لي أن أقول لا إله إلا الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
نعم ! تفرد به أحمد (1) رحمه الله وذكر عكرمة وغيره أنه لما توفي أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأنزل الله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [ النساء: 22 ] الآية.
وقال ابن إسحاق وسعيد بن يحيى الاموي في مغازيه: كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الاوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب وقال: أعبد إله إبراهيم حين فارق الاوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه (2)، وكان شيخا كبيرا وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته يقول في ذلك أشعارا حسانا وهو الذي يقول: يقول أبو قيس وأصبح غاديا * ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا فأوصيكم بالله والبر والتقى * وأعراضكم والبر بالله أول وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم * وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن ناب.
غر فادح فارفقوهم * وما حملوكم في الملمات فاحملوا وإن أنتم أمعزتم فتعففوا * وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا (3) وقال أبو قيس أيضا: سبحوا الله شرق كل صباح * طلعت شمسه وكل هلال عالم السر والبيان جميعا * ليس ما قال ربنا بضلال (4) وله الطير تستزيد وتأوي * في وكور من آمنات الجبال
__________
(1) مسند أحمد ج: 3 / 152، 154، 268 حلبي.
(2) في ابن سعد: كاد أن يسلم، وبقي على دين ابراهيم وكان يقال له بيثرب الحنيف، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في شعره وكان يقول: ليس على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل.
(أنظر الطبقات ج 4 / 383 وما بعدها).
(3) أمعزتم: وتروى أمعرتم بالراء: أفتقرتم وأصابتكم شدة.
(4) في ابن هشام: لدينا مكان جميعا.
وله الوحش بالفلاة تراها * في حقاف وفي ظلال الرمال (1) وله هودت يهود ودانت * كل دين مخافة من عضال (2) وله شمس النصارى وقاموا * كل عيد لربهم واحتفال وله الراهب الحبيس تراه * رهن بؤس وكان أنعم بال (3) يا بني الارحام لا تقطعوها * وصلوها قصيرة من طوال واتقوا الله في ضعاف اليتامى * وبما يستحل غير الحلال واعلموا أن لليتيم وليا * عالما يهتدي بغير سؤال ثم مال اليتيم لا تأكلوه * إن مال اليتيم يرعاه والي يا بني التخوم لا تخزلوها * إن جزل التخوم ذو عقال (4) يا بني الايام لا تأمنوها * واحذروا مكرها ومر الليالي واعلموا أن مرها (5) لنفاد * الخلق ما كان من جديد وبالي واجمعوا أمركم على البر والتق * وى وترك الخنا وأخذ الحلال قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم.
ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وسيأتي ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة.
قصة بيعة العقبة الثانية (6) قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الانصار من المسلمين [ إلى الموسم ] مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا
__________
(1) الحقاف: جمع حقف، وهو الكدس المستدير من الرمل.
(2) في ابن هشام: كل دين دين إذا ذكرت عضال (3) في ابن هشام: وكان ناعم بال.
(4) في الاصل تجزلوها.
وهو تحريف.
وتخزلوها: تقطعوها.
(5) في الاصل أمرها.
(6) أنظر العقبة الثانية في: طبقات ابن سعد 1 / 221 تاريخ الطبري 2 / 361 وما بعدها سيرة ابن هشام 2 / 81 وما بعدها.
تاريخ الاسلام للذهبي 2 / 200 ابن سيد الناس 1 / 192، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر (68).
رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه واعزاز الاسلام وأهله [ وإذلال الشرك وأهله ].
فحدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الانصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه - وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها -.
قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور (1) سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء: يا هؤلاء إني قد رأيت رأيا والله ما أدري أتوا فقونني عليه أم لا ؟ قلنا وما ذاك ؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني الكعبة - وأن أصلي إليها.
قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن خالفه.
فقال: إني لمصل إليها، قال فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة.
[ قال: وقد كنا قد عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الاقامة على ذلك.
فلما قدمنا مكة ] قال لي يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه قد وقع في نفسي منه شئ.
لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك - فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل تعرفانه ؟ فقلنا لا، فقال هل تعرفان
العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قال: قلنا نعم ! وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، قال: فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: " هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ " قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر ؟ قال: نعم ! فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للاسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شئ فماذا ترى ؟ قال: " قد كنت على قبلة لو صبرت عليها " قال فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معنا إلى الشام، قال وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا نحن أعلم به منهم.
قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا،
__________
(1) البراء بن معرور: يكنى أبا بشر، وهو أحد النقباء الاثني عشر من الانصار، وهو أول من تكلم من النقباء ليلة العقبة حين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم السبعون.
أوصى بثلث ماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء، مات وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر، قال الواقدي: كان أول من مات من النقباء (الطبقات 3 / 618).
فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الاسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة قال فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا (1).
وقد روى البخاري: حدثني إبراهيم، حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال عطاء قال
جابر: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة.
قال عبد الله بن محمد قال ابن عيينة: أحدهم البراء بن معرور.
حدثنا علي بن المديني، حدثنا سفيان، قال كان عمرو يقول سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهد بي خالاي العقبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير عن جابر.
قال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول " من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة " فلا يجد أحدا يؤويه ولا بنصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: إحذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم [ يدعوهم إلى الله عزوجل ] (2) وهم يشيرون إليه بالاصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا.
فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال " تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة " فقمنا إليه [ نبايعه ] (3) وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي - وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال رويدا يا أهل يثرب: فإنا لم نضرب إليه أكباد الابل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم، [ وأن ] تعضكم السيوف.
فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه.
فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.
قالوا أبط (4) عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا
__________
(1) ما بين معكوفتين في الخبر زيادة من ابن هشام.
(2) زيادة من البيهقي.
(3) من البيهقي.
(4) العبارة في البيهقي: فقلنا: أمط يدك يا أسعد بن زرارة فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقبلها فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا..
نسلبها أبدا.
قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.
وقد رواه الامام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم (1) كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي إدريس به نحوه.
وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقال البزار وروى غير واحد عن ابن خثيم ولا نعلمه يروي عن جابر إلا من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر.
قال: كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخذت وأعطيت " وقال البزار حدثنا محمد بن معمر حدثنا قبيصة حدثنا سفيان - هو الثوري - عن جابر - يعني الجعفي - عن داود - وهو ابن أبي هند - عن الشعبي عن جابر - يعني ابن عبد الله - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء من الانصار: " تؤووني وتمنعوني ؟ " قالو: نعم قالوا: فما لنا ؟ قال: " الجنة " ثم قال: لا نعلمه يروي إلا بهذا الاسناد عن جابر، ثم قال ابن إسحاق عن معبد عن عبد الله عن أبيه كعب بن مالك.
قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع.
وقد صرح ابن إسحاق - في رواية يونس بن بكير عنه - بسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الاحاديث أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيرا ما تحذف الكسر، وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة.
كانوا
سبعين رجلا وامرأة واحدة (2)، قال منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم قال وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبد الله.
قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج - قال وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه
__________
= أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 339 - 440 والبيهقي في الدلائل ج 2 / 442، 443.
(1) في البيهقي 2 / 443: يحيى بن سليمان عن ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر، وزاد في وسطه: قال: فقال له عمه العباس: يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم هؤلاء أحداث..(2) وفي رواية ابن بكير عن ابن اسحاق قال: كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين من الخزرج والاوس.
وفي ابن سعد: إنهم كانوا سبعين يزيدون رجلا أو رجلين.
إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام.
قال: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " قال: فأخذ البراء بن معرور بيده [ و ] قال نعم ! فوالذي بعثك بالحق [ نبيا ] لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (1) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله ابناء الحروب [ وأهل الحلقة ] (2) ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم
أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم، والهدم الهدم (3).
أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " قال كعب وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم " فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
قال ابن إسحاق: وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة [ بن ثعلبة ] (4) بن امرئ القيس [ بن عمرو بن امرئ القيس الاكبر ] (4) بن مالك [ الاغر ] (5) بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم، وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن (6) خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن
__________
(1) أزرنا: أي نساءنا، والمرأة قد يكنى عنها بالازار، وقد يكنى بالازار عن النفس أيضا.
(2) ما بين معكوفين من ابن هشام.
(3) كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك وهدمي هدمك أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا.
ويروى أيضا: اللدم اللدم، والهدم الهدم.
وعن ابن هشام الهدم: يعني الحرمة: أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم.
وعلق السهيلي على قول ابن هشام قال: وإنما كنى ابن هشام على حرمة الرجل وأهله بالهدم " لانهم كانوا أهل نجعة وارتحال، ولهم بيوت يستخفونها يوم ظعنهم، فكلما ظعنوا هدموها.
(الخبر في ابن هشام 2 / 82 ونقله الطبري عنه 2 / 362).
(4) من ابن هشام.
(5) من الاستيعاب.
(6) في الاصول والاستيعاب، بن خزيمة، وفي ابن هشام ابن أبي خزيمة، وفي شرح السيرة لابي ذر ابن أبي حزيمة،
وقال في الاستيعاب: ويقال فيه: ابن أبي حليمة.
كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.
فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الاوس ثلاثة وهم، أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل بن جشم [ بن الحارث ] (1) بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الاوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير (2) بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس.
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق (3).
واختاره السهيلي وابن الاثير في [ أسد ] الغابة.
ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الانصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الاثني عشر هذه الليلة - ليلة العقبة الثانية - حين قال: أبلغ أبيا أنه فال رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع (4) أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راء وسامع وأبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا * بأحمد نور من هدى الله ساطع فلا ترغبن في حشد أمر تريده * وألب وجمع كل ما أنت جامع ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهط حين تبايعوا (5) أباه البراء وابن عمرو كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع وسعد أباه الساعدي ومنذر * لانفك إن حاولت ذلك جادع وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلمه لا يطمعن ثم طامع وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة * وإخفاره من دونه السم ناقع
وفاء به، والقوقلي بن صامت * بمندوحة عما تحاول يافع أبو هيثم أيضا وفي بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع وما ابن حضير إن أردت بمطمع * فهل أنت عن أحموقه الغي نازع
__________
(1) من ابن هشام.
(2) في ابن هشام والاستيعاب: ابن زبير.
(3) واختاره ابن سعد في الطبقات قال: وهو أحد النقباء الاثني عشر من الانصار وشهد العقبتين جميعا ووافقه البيهقي في الدلائل من رواية ابن بكير عن ابن سحاق ولم يذكره ابن عبد البر في الدرر في اختصار المغازي (ص 71) بل ذكر رفاعة.
(4) فال: بطل.
(5) قوله تبايعوا: ضبطها محقق سيرة ابن هشام: تتابعوا.
وسعد أخو عمرو بن عوف فانه * ضروح لما حاولت ملامر مانع (1) أولاك نجوم لا يغبك منهم * عليك بنحس في دجى الليل طالع قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة.
قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة.
وروى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب عن مالك.
قال: كان الانصار ليلة العقبة سبعون رجلا، وكان نقباؤهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
وحدثني شيخ من الانصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة.
رواه البيهقي (2).
وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر [ بن حزم ] (3): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: " أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي [ يعني المسلمين ] (4) " قالوا نعم ! وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة
الانصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم ! قال إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والاسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له له بما دعوتموه إليه على نهكة الاموال وقتل الاشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الاشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال " الجنة " قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.
قال عاصم بن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعنقاهم وزعم عبد الله بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر [ القوم ] البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون اقوى لامر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده.
وبنو عبد الاشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.
قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك.
قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع [ بعد ] القوم (5) وقال *.
__________
* (1) ضروح: مانع ودافع عن نفسه.
(2) دلائل البيهقي ج 2 / 453.
(3) من دلائل البيهقي.
(4) من ابن هشام.
(5) سيرة ابن هشام: 2 / 89 وما بين معقوفتين من السيرة.
ابن الاثير في [ أسد ] الغابة: وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.
وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك.
قال: ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أكثر (1) في
الناس منها.
وقال البيهقي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا [ أبو ] (2) عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم [ الفضل بن دكين ] حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العباس عمه إلى السبعين من الانصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: " ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم " فقال قائلهم - وهو أبو أمامة - سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت.
ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك.
قال: " أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم " قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال: " لكم الجنة " قالوا فلك ذلك.
ثم رواه حنبل عن الامام أحمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الانصاري فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم.
وقال أحمد عن يحيى عن اسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش (3) أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلي، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقي، حدثنا زهير، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن اسماعيل بن عبيدالله (4) بن رفاعة عن أبيه قال: قدمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها (5) وقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة.
فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها، وهذا إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.
وقد روى يونس عن ابن إسحاق [ قال ] حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت.
قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا،
__________
(1) في البخاري " بدر أذكر " وفي نسخ البداية المطبوعة: " بدرا كثيرة " وهو تحريف.
(2) من دلائل البيهقي 2 / 451.
(3) في الدلائل: محمد بن محمد بن محمش الفقيه.
(4) في البيهقي عبيد.
(5) في البيهقي: فحرقها.
وأثرة علينا (1)، وأن لا ننازع الامر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك.
قال: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط ؟ يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب " (2).
قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب.
" أتسمع أي عدو الله ؟ أما والله لا تفرغن لك (3).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفضوا إلى رحالكم " قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ".
قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا (4)، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا.
وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شئ وما علمناه، قال: وصدقوا لم يعلموا، قال وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال ثم قال القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان (5)، قال فقلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي.
قال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه، أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه.
قال: قلت والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لاسلبنه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم إن هذا الامر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا (6) علي مثل هذا وما علمته كان.
قال فانصرفوا عنه.
قال ونفر الناس من منى فتنطس (7) القوم الخبر فوجدوه قد كان،
__________
(1) نقل الخبر البيهقي في الدلائل 2 / 452 وزاد هنا فيه: يقول - أي النبي صلى الله عليه وسلم - وإن استوثر عليكم - تابع الوليد - وقومي يلومونني على هذا الحرف.
(2) في النهاية لابن الاثير: هو شيطان اسمه: أزب الكعبة، وقيل الازب: القصير الدميم.
(3) في ابن هشام: لافرعن لك.
(4) كذا في الاصل والسيرة، وفي رواية البيهقي: فرجعنا إلى رحالنا فاضطجعنا على فرشنا.
(5) قال السهيلي: والنعل مؤنثة، ولكن لا يقال: جديدة في الفصيح من الكلام، وإنما يقال: ملحفة جديدة.
قال سيبويه: قال جديدة، فإنما أراد معنى حديثة.
(6) في ابن هشام: ليتفوتوا علي بمثل هذا.
(7) التنطس: تدقيق النظر، وتنطس القوم الخبر: أكثروا البحث عنه.
فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبا.
فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى ؟ عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته - وكان ذا شعر كثير -.
قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش، فيهم رجل وضئ أبيض، شعشاع، حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.
فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي لا والله ما عندهم بعد هذا من خير، فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى (1) لي رجل ممن معهم.
قال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد ؟ قال: قلت: بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.
وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس: فقال: ويحك فاهتف باسم
الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الان ليضرب بالابطح ليهتف بكما [ ويذكر أن بينه وبينكما جوار ]، قالا ومن هو ؟ قال: سعد بن عبادة.
قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده، قال: فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.
وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو.
قال ابن هشام: وكان الذي أوى له أبو البختري بن هشام (2).
وروى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير (3) قال سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى خلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان من السعدان أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم (4) ؟ فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول: أيا [ يا ] سعد سعد الاوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى * جنان من الفردوس ذات رفارف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
__________
(1) أوى لي: رحمني ورق لي.
(2) سيرة ابن هشام: ج 2 / 93.
(3) الخبر في دلائل البيهقي وفيه عن: عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير - كذا قال الكلبي - وهو عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن خير.
والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا، والخرائطي.
(4) قال السهيلي في الروض الآنف 1 / 272: فحسبوا أنه يريد بالسعدين القبيلتين: سعد هذيم من قضاعة، وسعد بن زيد بن تميم.
فصل
قال ابن إسحاق: فلما رجع الانصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الاسلام بها.
وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم، عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة [ وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ]، وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له مناة (1) كما كانت الاشراف يصنعون، تتخذه إلها يعظمه ويظهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة، ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟ ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لاخزينه.
فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الاذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه.
ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع، هذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من [ رجال ] قومه فأسلم برحمة الله، وحسن إسلامه، فقال حين أسلم، وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول: والله لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن اف لملقاك إلها مستدن * الآن فتشناك عن سوء الغبن (2) الحمد لله العلي ذي المنن * الواهب الرزاق ديان الدين (3)
هو الذي أنقذني من قبل أن * أكون في ظلمة قبر مرتهن
__________
(1) مناة: مأخوذ من قولك: منيت الدم وغيره، إذا صببته، لان الدماء كانت تمنى عنده تقربا إليه، ومنه سميت الاصنام الدمى.
(2) مستدن: مستدن، من السدانة، وهي خدمة البيت وتعظيمه، قاله السهيلي، وقال أبو ذر في شرح السيرة: المستدن: الذليل.
(3) قال السهيلي: الدين: في قوله ديان الدين: جمع دينة وهي العادة.
ويجوز أن يكون أراد: الاديان أي هو ديان أهل الاديان، وجمعها على الدين لانها ملل ونحل كما قالوا في جمع حرة: حرائر.
فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان (1) فمن الاوس أحد عشر رجلا، أسيد بن حضير أحد النقباء [ لم يشهد بدرا ]، وأبو الهيثم بن التيهان بدري أيضا (2)، وسلمة بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن دينار (3) بدري، ونهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري وقتل بها شهيدا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير (4) نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة، ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث (5) بن ضبيعة البلوي حليف للاوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا، أبو أيوب خالد بن زيد وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا، ومعاذ بن الحارث وأخواه عوف ومعوذ وهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر، وسهل بن عتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري، وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر،
وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد بدرا وقتل يوم أحد، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه (6) الذي أري النداء [ للصلاة ] وهو بدري، وخلاد بن سويد بدري أحدي خندقي وقتل يوم بني قريظة شهيدا،
__________
(1) رتب ابن هشام في السيرة أسماءهم على حسب القبائل 2 / 97 - 99 ورتبهم الصالحي في السيرة الشامية أبجديا على الاحرف 3 / 293.
(2) يعني أن أسيد حضر بدرا، ولكن أسيد بن حضير لم يشهد بدرا وتخلف هو وغيره من أگابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من النقباء وغيرهم عن بدر، وشهد أحد والخندق والمشاهد كلها.
(3) كذا في الاصل وفي نسخة لابن هشام وهو تحريف والصواب: أبو بردة بن نيار، واسمه هانئ بن نيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب..بن الحاف بن قضاعة كما في سيرة ابن هشام والاستيعاب والقاموس مادة (نير).
(4) في ابن هشام: زنبر، وفي الاستيعاب: زبير.
(5) في ابن هشام: حارثة.
(6) في ابن هشام والاستيعاب: بن عبد الله بن زيد مناة بن الحارث بن الخزرج.
طرحت عليه رحى فشدخته فيقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن له لاجر شهيدين وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا (1)، وزياد بن لبيد (2) بدري، وفروة بن عمرو بن وذفة (3)، وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذي يقال له مهاجري أنصاري لانه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها وهو بدري قتل يوم أحد، وعباد بن قيس بن عامر بن خالد (4) بن عامر بن زريق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا، والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورثته، وابنه بشر بن
البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الشاة المسمومة رضي الله عنه، وسنان بن صيفي بن صخر بدري (5)، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن زيد (6) بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري، ويزيد بن خذام (7) بن سبيع، وجبار بن صخر [ بن أمية ] بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك (8)، وسليم بن عامر (9) بن حديدة بدري وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفي بن سواد بن عباد، وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي (10) بدري واستشهد بالخندق،
__________
(1) خرج في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب بفدك في صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطبقات: 2 / 126).
(2) شهد زياد أحد والخندق والمشاهد كلها، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على حضرموت، ومات زياد في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
(3) قال ابن هشام ودفة كما في الاصل.
وفي سيرة ابن هشام وذفة، قال السهيلي: ودفة وهو الاصح..وعمرو بن ودفة هذا هو البياضي.
وذكره أبو ذر ودفة وكذلك ذكره صاحب العين بالدال المهملة، وفي الاشتقاق لابن دريد وذفة بالذال.
(4) في نسخة ابن هشام - محققة - خلدة.
وأشار محققه إلى أن الاصول: خالد.
وفي طبقات ابن سعد: خالد.
شهد عباد وأخوه الحارث بدرا وأحدا.
وشهد الحارث الخندق وشهد اليمامة وجرح ومات في خلافه عمر.
(5) قتل يوم الخندق شهيدا.
(6) في ابن هشام: يزيد.
(7) في ابن هشام والاستيعاب: حرام.
(8) شهد تبوك، ولم يشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها، بقي إلى زمن معاوية ومات سنة 50 ه.
(9) في ابن هشام: عمرو في المكانين، ويقال عامر.
(10) في الاستيعاب: هانئ.
وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي، وعبس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدري واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيدا بالطائف، وعمير (1) بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخديج بن سلامة (2) حليف لهم من بلى، ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس (3) في خلافة عمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له مهاجري أنصاري أيضا وقتل يوم أحد شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة (4) بن أصرم حليف لهم [ من بني غصينة ] من بلى، وعمرو بن الحارث بن كندة (5)، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري ! وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم (6) بدري وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له مهاجري أنصاري أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء (7)، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذي يقال له أعتق ليموت، وأما المرأتان فأم عمارة نسيبة (8) بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجارية.
قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب (9) وعبد الله، وابنها خبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول نعم، فيقول أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول لا أسمع فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثني عشر جرحا من بين طعنة
__________
(1) قال ابن هشام: هو عمير بن الحارث بن لبدة بن ثعلبة وهو كذلك في رواية موسى بن عقبة، أما في الطبقات
فكالاصل.
وشهد بدرا وأحدا.
(2) قال الطبري شهد العقبة ولم يشهد بدرا وكان يكنى أبا رشيد.
(3) عمواس: بكسر أوله وسكون الثاني، أو بفتح ثانيه، قرية بفلسطين قرب بيت المقدس (معجم البلدان).
(4) خزمة: بسكون الزاي عند ابن اسحاق وابن الكلبي، وبتحريكها عند الطبري.
(5) في ابن هشام: لبدة بن عمرو بن ثعلبة.
(6) أي لبني سالم بن غنم.
(7) استعد للخروج إلى بدر فنهش قبل أن يخرج فلم يشهد بدرا، وشهد أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مهاجرا إلى الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب ومات بحوران - لسنتين ونصف من خلافة عمر - سنة خمس عشرة، وقيل مات في خلافة أبي بكر سنة إحدى عشرة (طبقات ابن سعد 3 / 616).
(8) أسلمت وحضرت ليلة العقبة وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت أحدا والحديبية وعمرة القضية وحنينا واليمامة وقطعت يدها وقد ضربها ابن قميئة على عاتقها.
(9) من ابن هشام وابن سعد، وفي الاصل خبيب وهو تحريف.
وضربة رضي الله عنها، والاخرى أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي [ بن سنان ] (1) بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة رضي الله عنها.
باب الهجرة من مكة إلى المدينة قال الزهري عن عروة عن عائشة، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين " (2) فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة (3) من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.
رواه البخاري.
وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب " وهذا الحديث قد
أسنده البخاري في مواضع أخر بطوله ورواه مسلم كلاهما عن أبي كريب زاد مسلم وعبد الله بن مراد كلاهما عن أبي أسامة عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى عبد الله بن قيس الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري بمرو، حدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أوحى إلي أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دار هجرتك، المدينة، أو البحرين، أو قنسرين " قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة فأمر أصحابه بالهجرة إليها (4).
__________
(1) من طبقات ابن سعد، وهي زوجة خديج بن سلامة شهدت معه العقبة فأسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت خيبرا معه صلى الله عليه وسلم.
ويقال لها: أم شباث.
(2) تقدم تخريجه.
(3) في دلائل البيهقي: بعض من كان هاجر.
(4) دلائل النبوة ج 2 / 458، وأخرجه الترمذي في: 50 - كتاب المناقب (68) باب في فضل المدينة ح 3923 وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل بن موسى.
وفي سند الحديث غيلان ذكره ابن حبان في الثقات 7 / 311 وقال: يروي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير حديثا منكرا وروى عنه عيسى بن عبيد قال: إن الله أوحى إلي أن دار هجرتك بالمدينة اه.
والحديث رواه البخاري في التاريخ وابن حجر في التهذيب 8 / 254.
وقال: في ثبوته نظر لمخالفته ما في الصحيح وقال الزرقاني: صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: حديث منكر، ما أقدم الترمذي على تحسينه بل قال غريب.
(شرح المواهب 1 / 318).
هذا حديث غريب جدا وقد رواه الترمذي في المناقب من جامعه منفردا به عن أبي عمار
الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبد الله العامري عن أبي زرعة بن عمر بن جرير، عن جرير.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة، أو البحرين، أو قنسرين " ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار.
قلت: وغيلان بن عبد الله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه قال: روى عنه أبي زرعة حديثا منكرا في الهجرة والله أعلم.
قال ابن إسحاق: لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) [ الحج: 39 - 40 ] الآية.
فلما أذن الله في الحرب وتابعه (1) هذا الحي من الانصار على الاسلام والنصرة له، ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الانصار، وقال: " إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها " فخرجوا إليها أرسالا وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة، فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش: من بني مخزوم، أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعه من الحبشة فعزم على الرجوع إليها ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبي عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة عن جدته أم سلمة [ زوج النبي صلى الله عليه وسلم ] قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيرة ثم حملني عليه، وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، قالت وغضب عند ذلك بنو عبد
الاسد، رهط أبي سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الاسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي.
قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الابطح فما أزال أبكي حتى أمسي - سنة أو قريبا منها - حتى مر بي رجل من بني
__________
(1) في ابن هشام: وبايعه .
عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون (1) هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ قالت فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.
قالت فرد بنو عبد الاسد إلي عند ذلك ابني، قالت فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله.
حتى إذا كنت بالتنعيم (2) لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبدالدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية ؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو ما معك أحد ؟ قلت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا، فقال: والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة (3) ثم تنحى [ عني ] إلى شجرة فاضطجع تحتها.
فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله.
ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة، أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معا، وقتل يوم أحد أبوه وأخوته، الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة.
ودفع
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بني شيبة مفاتيح الكعبة أقرها عليهم في الاسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) الآية [ النساء: 58 ].
قال ابن إسحاق.
ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عمار بن ربيعة حليف بني عدي، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير (4) بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد، أبي أحمد، اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق وقيل ثمامة.
قال السهيلي: والاول أصح.
وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم.
فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن
__________
(1) في الاصل: ألا تخرجون من هذه..الخ وما أثبتناه من ابن هشام.
(2) التنعيم: موضع بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة.
(3) من ابن هشام، وفي الاصل: الشجر.
(4) في ابن هشام والاستيعاب: كثير.
عبد المطلب وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال: وكل دار وإن طالت سلامتها * يوما ستدركها النكباء والحوب (1) قال ابن هشام: وهذا البيت لابي دواد الايادي في قصيدة له.
قال السهيلي: واسم أبي دواد حنظلة بن شرقي وقيل حارثة.
ثم قال عتبة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها.
فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من فل بن فل (2) ثم قال - يعني للعباس - هذا من عمل ابن أخيك، هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.
قال ابن إسحاق: فنزل أبو سلمة وعامر بن ربيعة وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر ثم قدم المهاجرون أرسالا، قال: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، قد أوعبوا إلى المدينة هجرة، رجالهم ونساؤهم وهم: عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعكاشة بن محصن، وشجاع، وعقبة ابنا وهب، وأربد بن جميرة (3) ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وزيد (4) بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو وربيعة بن أكثم.
والزبير بن عبيدة، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبد الله بن جحش.
ومن نسائهم زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجد امة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم.
قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة: ولما رأتني أم أحمد غاديا * بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول: فإما كنت لا بد فاعلا * فيمم بنا البلدان ولننا يثرب فقلت لها ما يثرب بمظنة (5) * وما يشأ الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهي والرسول ومن يقم * إلى الله يوما وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم مناصح * وناصحة تبكي بدمع وتندب ترى أن وترا نائيا عن بلادنا * ونحن نرى أن الرغائب نطلب (6) دعوت بني غنم لحقن دمائهم * وللحق لما لاح للناس ملحب
__________
(1) الحوب: التوجع، وقيل: الحاجة وقيل: الحوب: الاثم.
(2) في ابن هشام: من قل بن قل، وقال: القل: الواحد.
(3) وقال ابن هشام: ويقال ابن حميرة، وفي الاستيعاب: ابن حمير.
(4) في ابن هشام: يزيد.
(5) في ابن هشام: فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا..(6) في ابن هشام: نأينا بدلا من نائيا .
أجابوا بحمد الله لما دعاهم * إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى * أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا كفوجين إما منهما فموفق * على الحق مهدي وفوج معذب طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم * عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا ورعنا إلى قول النبي محمد * فطاب ولاة الحق منا وطيبوا نمت بأرحام إليهم قريبة * ولا قرب بالارحام إذ لا تقرب فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم * وأية صهر بعد صهري يرقب ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا * وزيل أمر الناس للحق أصوب قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة.
فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه.
قال: اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، التناضب (1) من أضاة (2) بني غفار فوق سرف، وقلنا أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فافتتن، فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش - وكان ابن عمهما وأخاهما لامهما - حتى قدما إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: فقال: أبر قسم أمي ولي هنالك مال فاخذه قال: قلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.
قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذا فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له
__________
(1) التناضب: قال أبو ذر: بضم الضاد، موضع ومن رواه بالكسر: فهو جمع تنضب: وهو شجر واحدته تنضبة، وقيده الوقشي بكسر الضاد.
وقال السهيلي: " بكسر الضاد كأنه جمع تنضبة، وهو ضرب من الشجر تألفه الحرباء.
وذكره أبو حنيفة في النبات.
وقال ياقوت: تنضب قرية من أعمال مكة بأعلى نخلة فيها عين جارية ".
(2) أضاة: هي الغدير يجمع من ماء المطر.
يمد ويقصر قاله أبو ذر.
وقال السهيلي: الاضاة: الغدير كأنه مقلوب من وضأة على وزن فعلة واشتقاقه من الوضاء وهي النظافة، وجمع الاضاءة إضاء.
وقال السهيلي: اضاة بني غفار، على عشرة أميال من مكة.
أما ياقوت فقال: موضع قريب من مكة فوق سرب قرب التناضب، له ذكر في حديث المغازي، وغفار: قبيلة من كنانة.
أبو جهل: يا [ بن ] أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالارض عدوا عليه فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن.
قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة.
وكانوا يقولون ذلك لانفسهم حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنزل الله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) [ الزمر: 53 - 55 ] قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص.
قال هشام: فلما أتتني جعلت اقرأها بذي طوى (1) أصعد بها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وذكر ابن هشام أن الذي قدم بهشام بن العاص، وعياش بن أبي ربيعة إلى المدينة، الوليد [ بن الوليد ] بن المغيرة سرقهما من مكة وقدم بها يحملهما على بعيره وهو ماش معهما، فعثر
فدميت أصبعه فقال: هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت وقال البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء.
قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال.
وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب.
قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم.
فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الاماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الاعلى في سور من المفصل.
ورواه مسلم في صحيحه من حديث اسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب بنحوه وفيه التصريح بأن سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصواب ما تقدم (2).
قال ابن إسحاق: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه
__________
(1) ذو طوى: موضع بأسفل مكة.
(2) الحديث أخرجه البخاري في 63 كتاب المناقب (46) ح 3925.
وذكره المزي في تحفة الاشراف ولم يشر إلى أن مسلما أخرجه.
وأخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 463 وقال: اختلف في قدوم سعد، فقيل كذا - حسب رواية ابن عقبة - وابن أنه ممن قدم المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم راجع الدرر لابن عبد البر 77 - 79.
زيد بن الخطاب وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي زوج ابنته حفصة وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى حليفان لهم من بني عجل وبنو البكير إياس وخالد وعاقل وعامر وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بن زنير (1) في بني عمرو بن عوف
بقباء.
قال ابن إسحاق: ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم: فنزل طلحة بن عبيدالله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف (2) أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح (3).
ويقال بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.
قال ابن هشام: وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا: نعم ! قال فإني قد جعلت لكم مالي.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ربح صهيب، ربح صهيب " (4) وقد قال البيهقي: حدثنا الحافظ أبو عبد الله - إملاء - أخبرنا أبو العباس اسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الاهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب، حدثني أبي وعمومتي عن سعيد بن المسيب عن صهيب.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب " قال وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكيا - فناموا.
فخرجت ولحقني منهم ناس بعدما سرت بريدا (5) ليردوني فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي ففعلوا فتبعتهم إلى مكة فقلت احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها (6) أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين.
وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء
__________
(1) في ابن هشام: زنبر.
(2) إساف: ويقال: يساف.
وهو ابن عتبة.
ولم يكن حين نزول المهاجرين عليه مسلما، بل أخر إسلامه حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر (راجع الاستيعاب).
(3) السنح: بعوالي المدينة، بينها وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل (معجم البلدان).
(4) سيرة ابن هشام ج 2 / 120 - 121.
(5) من دلائل البيهقي، وفي الاصل: يريدوا ليردوني.
(6) في الدلائل: تحتها.
قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: " يا أبا يحيى ربح البيع [ ثلاثا: ] (1) فقلت يا رسول الله ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام (2).
قال ابن إسحاق: ونزول حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن الحصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة، وأنسة (3) وأبو كبشة (4) موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء، وقيل: على سعد بن خيثمة، وقيل بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة والله أعلم.
قال ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين ومسطح بن أثاثة وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبدالدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع (5)، ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة، دار بني جحجبي، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.
قال ابن إسحاق وقال الاموي: على خبيب بن أساف أخي بني حارثة، ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بني عبد الاشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار.
قال ابن إسحاق: ونزل العزاب (6) من المهاجرين على سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزبا والله أعلم أي ذلك كان.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله (7) عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قدمنا [ من ] مكة فنزلنا العصبة، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة.
فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة لانه كان أگثرهم قرآنا.
__________
(1) من الدلائل.
(2) أخرج الجزء الاول منه البخاري في 39 كتاب الكفالة.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 400 وقال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) أنس: من مولدي السراة، يكنى أبا مسروح شهد بدرا والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم ومات في خلافة أبي بكر.
(4) أبو كبشة: واسمه سليم من فارس وقيل غير ذلك.
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات في خلافة عمر، وهو غير أبي كبشة الذي كانت كفار قريش تذكره وتنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
(5) في ابن هشام زاد: أخي بلحارث بن الخزرج، في دار بلحارث بن الخزرج.
(6) في شرح السيرة لابي ذر: الاعزاب وهو أصح.
(7) الخبر في دلائل البيهقي 2 / 463 وفيه: عبد الله مكان عبيدالله.
والعصبة: موضع بقباء.
وما بين معكوفتين زيادة من الدلائل.
فصل في سبب هجرة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة قال الله تعالى: (وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) [ الاسراء: 80 ] أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء [ و ] أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا ومخرجا عاجلا، فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية حيث الانصار والاحباب، فصارت له دارا وقرارا، وأهلها له أنصارا.
قال أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة: عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان (2) عن أبيه عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأمر بالهجرة وأنزل عليه: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) (3) وقال قتادة: (أدخلني مدخل صدق) المدينة (وأخرجني مخرج صدق) الهجرة من مكة (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) كتاب الله وفرائضه وحدوده (4).
قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن (5)، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا " فيطمع أبو بكر أن يكونه.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم
__________
(1) أنظر في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: ابن هشام 2 / 123 وما بعدها.
ابن سعد 1 / 227 وما بعدها.
صحيح البخاري 5 / 56 الطبري 2 / 253 وما بعدها دار القاموس.
أنساب الاشراف 1 / 120 عيون الاثر 1 / 221 تاريخ الاسلام للذهبي 2 / 218 النويري 16 / 330.
الدرر لابن عبد البر (ص 80).
(2) قابوس بن أبي ظبيان، وفي نسخة: طهمان، ذكره ابن حبان في المجروحين وقال: كان ردى الحفظ ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، ربما رفع المراسيل وأسند الوقوف.
وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير.
وقد روى هذا الحديث مرسلا عن ابن عباس.
(3) أخرجه الترمذي في 48 كتاب تفسير القرآن - باب تفسير سورة الاسراء ح 3139 عن أحمد بن منيع.
وقال: هذا حديث صحيح حسن.
(4) زاد البيهقي: فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده، لولا ذلك لاغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم 2 / 517 وأضاف القرطبي على رواية البيهقي قال: وقال الضحاك: هو خروجه من مكة، ودخوله مكة يوم الفتح (10 / 313).
(5) في ابن سعد: أو مفتون محبوس، أو مريض، أو ضعيف عن الخروج.
قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير (1) عن عبد الله بن عباس.
وغيره
ممن لا أتهم عن عبد الله بن عباس.
قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بتلة (2) فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ ؟ قال شيخ من أهل نجد (3) سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا.
قالوا أجل فادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش عتبة وشيبة [ ابنا ربيعة ] (4) وأبو سفيان وطعيمة بن عدي وجبير بن مطعم بن عدي، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الاسود وحكيم بن حزام وأبو جهل بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم - قيل إنه أبو البختري بن هشام - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلاوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي.
فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت (5).
قال الشيخ
__________
(1) من شرح السيرة لابي ذر: جبير، وما في الاصل " جبر " وهو تحريف.
(2) البتلة: كساء غليظ، وفي رواية ابن بكير عن ابن اسحاق: في بت قال البيهقي: والبت: الكساء.
وقيل الطيلسان من خز، وفي تهذيب اللغة: البت ضرب من الطيالسة يسمى الساج مربع غليظ أخضر.
وجمعه: أبت، وبتات وبتوت.
قال الجوهري في الصحاح: البتي الذي يعمله.
(3) علق السهيلي على قوله شيخ من أهل نجد قال: " وإنما قال لهم، إني من أهل نجد، فيما ذكر بعض أهل
السيرة، لانهم قالوا، لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة، لان هواهم مع محمد، فلذلك تمثل لهم في صورة شيخ نجدي، وقال: قيل لمعنى آخر تمثل بهيئة شيخ نجدي " ا.
ه.
(4) من ابن هشام والبيهقي.
(5) صاحب هذا الرأي: أبو الأسود ربيعة بن عامر، أحد بني عامر بن لؤي.
النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب (1)، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا (2) فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهمم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا.
فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، قال يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره (3) فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
قال فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: " نم على فراشي وتسج (4) ببردي هذا الحضرمي الاخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
وهذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعلي وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي.
قال: لما اجتمعوا
له وفيهم أبو جهل قال - وهم على بابه - إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الاردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: " نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم " وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: (يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم) إلى قوله: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) [ يس: 1 - 9 ] ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع
__________
(1) في رواية البيهقي: على قبيلة من قبائل العرب.
(2) في ابن هشام: دبروا (3) وقال ابن الكلبي في جمهرة الانساب: أن إبليس لما حمد رأي أبي جهل قال: الرأي رأيان: رأي ليس يعرفه * هاد ورأي كنصل السيف معروف يكون أوله عز ومكرمة * يوما، وآخره جد وتشريف (4) تسجى بالثوب: غطى به جسده ووجهه.
على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنظرون ههنا ؟ قالوا محمدا، فقال خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته ! أفما ترون ما بكم ؟ قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش مستجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا (1) فقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا.
قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)
[ الانفال: 30 ] وقوله: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) [ الطور: 30 ] قال ابن إسحاق فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالهجرة.
باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وذلك أول التاريخ الاسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، ثنا روح، ثنا هشام (2)، ثنا عكرمة عن ابن عباس.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، فمكث فيها (3) ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وقد
__________
(1) قال في الروض الآنف 1 / 292 روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل يس، أنها: إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي أو عاطش سقي..وعلل امتناعهم من الدخول إليه صلى الله عليه وسلم قال: وذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم عليه في الدار، إنهم هموا بالولوج عليه - وإنهم إنما جاءوا لقتله - فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا..فأصبحوا ينتظرون خروجه - على باب الدار -.
(2) روح بن عبادة، وهشام بن حسان.
(3) في البخاري ورواية البيهقي: بمكة بدلا من فيها.
والحديث أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ح 3902 فتح الباري 7 / 227 والبيهقي في الدلائل 2 / 131.
كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الاول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم
الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين (1).
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين (2) فاحتبسهما في دار يعلفهما إعدادا لذلك.
قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لامر حدث ! قالت فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرج عني من عندك " قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي (4)، وما ذاك فداك أبي وأمي ؟ قال: " إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة " قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟ قال: " الصحبة " قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.
ثم قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أرقط (5) قال ابن هشام: ويقال عبد الله بن أريقط.
رجلا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر، أما علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان
__________
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء فليراجع.
(2) قال البيهقي: 2 / 472: وعلف راحلتين، كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
وفي ابن سعد: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم - عن محمد بن عمر - من نعم بني قشير.
(3) في ابن هشام: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي.
(4) في البخاري: إنما هما أهلك.
وقد كان أبو بكر قد أنكح عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك.
(5) من ابن هشام، وفي الاصل أرقد.
وقال الزرقاني في شرح المواهب 1 / 339: رقيط، وهو من بني الديل وقيل الدئل كما في فتح الباري.
وكان على دين الكفار ولم يعرف له إسلام فيما بعد كما جزم المقدسي وتبعه النووي، وقال في الاصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد وعند السهيلي 1 / 8: لم يكن مسلما إذ ذاك ولا وجدنا من طريق صحيحة أنه أسلم بعد ذلك.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته.
قال ابن اسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ الخروج ] (1) أتى بأبكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لابي بكر في ظهر بيته.
وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق.
قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال: " الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والايام.
اللهم أصحبني في سفري.
واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني ولك فذللني.
وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والارض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الاولين والآخرين، أن تحل علي غضبك، وتنزل بي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك.
لك العقبى (2) عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك ".
قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.
وأمر عامر بن فهيرة (3) مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما [ يأتيهما ] إذا أمسى في الغار.
فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما
يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا.
فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه.
وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا وقد حكى ابن جرير عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق.
وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا.
قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، قالت أسماء: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا أبنة أبي بكر ؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي.
قالت فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدي لطمة طرح منها
__________
(1) من ابن هشام.
(2) من أبي نعيم، وفي الاصل العقبى.
(3) عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق، وكان مولدا من مولدي الازد.
أسلم وهو مملوك، فاشتراه أبو بكر واعتقه، شهد بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة.
قتله عامر بن الطفيل
قرطي ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم - أو ستة آلاف درهم - فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره - فقال: والله إني لاراه قد فجعكم بماله مع نفسه ؟ قالت: قلت: كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت يا أبة ضع يدك على هذا المال.
قالت فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما
ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري.
قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية، بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
وهذا فيه انقطاع من طرفيه.
وقد قال أبو القاسم البغوي حدثنا داود بن عمرو الضبي، ثنا نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.
حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.
قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل.
وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن اسحاق، أنا موسى بن الحسن ثنا عباد، ثنا عفان بن مسلم ثنا السري بن يحيى ثنا محمد بن سيرين.
قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر.
فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي ؟ " فقال: يا رسول الله اذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك.
فقال: " يا أبا بكر لو كان شئ لاحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال: نعم، والذي بعثك بالحق [ ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك ] (1).
فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار،
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من الاصل واستدركت من دلائل البيهقي ج 2 / 477.
فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان [ في أعلاه ] (1) ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ [ الجحرة ].
فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل.
ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
وقد رواه البيهقي من وجه آخر (2) عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله.
وفيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله الصديق على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الاجحرة كلها.
وبقي منها جحر واحد، فألقمه كعبه فجعلت الافاعي تنهشه ودموعه تسيل.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحزن إن الله معنا " وفي هذا السياق غرابة ونكارة.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.
قالا: ثنا أبو العباس الاصم، ثنا عباس الدوري، ثنا أسود بن عامر: شاذان، ثنا اسرائيل، عن الاسود عن جندب بن عبد الله.
قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال: إن أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت (3) وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) (4) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم بل اقتلوه.
وقال بعضهم بل أخرجوه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم.
فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ فقال: لا أدري.
فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه.
فمكث فيه ثلاث ليال.
وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر: حدثنا بشار الخفاف
__________
(1) من دلائل البيهقي.
(2) رواه من طريق فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن الفزاري.
عن عمر..(3) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 480 ورواه ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي.
(4) الانفال 30، قال القرطبي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: (والله خير الماكرين): المكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون وقال الزمخشري في الكشاف: أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا لانه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
وفي النهاية 4 / 103: مكر الله: إيقاع بلائه بأعدائه.
وقال العسكري في الفروق اللغوية: إن الكيد والمكر متغايران والشاهد أن الكيد يتعدى بنفسه والمكر يتعدي بحرف.
فيقال كاده يكيده ومكر به ولا يقال مكره والذي يتعدى بنفسه اقوى.
ثنا جعفر وسليمان (1) ثنا أبوعمران الجوني، حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن البصري.
قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار.
وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أئل (2) ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا " وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد، وفيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى وروى هذا الرجل - أعني أبو بكر أحمد بن علي القاضي - [ عن ] عمرو الناقد عن خلف بن تميم عن موسى بن مطر عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر.
قال لابنه: يا بني إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرة وعشيا.
وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول: نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا، وقد نظم ذلك الصرصري في شعره حيث يقول:
فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا عمرو بن علي، ثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي - ويلقب بعوين (3) - حدثني أبو مصعب المكي.
قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك، يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره (4)، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا يدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر مائتي ذراع قال الدليل - وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله.
فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
__________
(1) لعله جعفر بن سليمان الضبعي.
(2) آل المريض: حن ورفع صوته عند ابتلائه بالمصيبة.
(3) الاصل: عوين.
(4) في رواية قاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي، حيث ألف كتابا في شرح الحديث سماه الدلائل وجاء فيه: هذا على ما ذكره السهيلي في الروض الآنف 2 / 4: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار، وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة، وهي شجرة معروفة، فحجبت عن النار أعين الكفار.
والراءة شجرة مثل قامة الانسان ولها خيطان وزهر أبيض كالريش.
حتى إذا أصبحوا (1) قال: أنظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع (2) فقالوا ما ردك أن تنظر في الغار ؟ قال رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما - أي برك عليهما وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى (3).
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره عن عون بن عمرو - وهو
الملقب بعوين - بإسناده مثله.
وفيه أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين، وفي هذا الحديث أن القائف الذي اقتفى لهم الاثر سراقة بن مالك المدلجي وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الاثر كرز بن علقمة.
قلت: ويحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الاثر والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه (4) وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) [ التوبة: 40 ] يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: (إلا تنصروه) أنتم فان الله ناصره ومؤيده ومظفره كما نصره (إذ أخرجه الذين كفروا) من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غيره ولهذا قال: (ثاني اثنين إذ هما في الغار) أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما، وذلك لان المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما - أو أحدهما - مائة من الابل، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم، وكان الذي يقتص الاثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرون على باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظا من الله لهما.
كما قال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا همام أنا ثابت، عن أنس بن مالك أن أبا بكر حدثه.
قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار.
لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه ؟ فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام به (5).
وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا
__________
(1) في الاصل: أصبحن وهو تحريف.
(2) في الاصل: ترجع، وهو تحريف.
(3) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة والبيهقي في الدلائل 2 / 482 وابن سعد 1 / 229 وكلهم عن أبي مصعب المكي.
(4) قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه) أي على أبي بكر بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم له فسكن جأشة (جأشه) وذهب روعه 8 / 148.
(5) أخرجه البخاري في 62 كتاب فضائل الصحابة (2) باب مناقب المهاجرين ح 3653 وأعاده في 63 كتاب الانصار باب (45).
وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير.
تفسير سورة التوبة ح 3096 والامام أحمد في مسنده 1 / 4.
بكر لما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو جاؤنا من ههنا لذهبنا من هنا " فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه.
وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به.
والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا الفضل بن سهل ثنا خلف بن تميم ثنا موسى بن مطير القرشي عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.
ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.
قلت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولهما الغار، وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا.
فمنه قوله: قال النبي - ولم أجزع - يوقرني * ونحن في سدف من ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لي منه بإظهار وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جدا، وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم.
وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير.
قال فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج - يعني الذي بايع فيه الانصار - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحبسوه.
أو يخرجوه فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الآية.
فأمر عليا فنام على
فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه، وإن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار وكان ليلا.
وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا.
وقال البخاري حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل.
قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار: بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (1) لقيه ابن الدغنة (2) وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من رده لابي بكر إلى مكة وجواره له
__________
(1) برك الغماد: موضع بناحية اليمن مما يلي ساحل البحر، وقال ابن فارس: بضم الغين، وقيل: موضع بأقاضي هجر وقيل وراء مكة بخمس ليال.
(2) ابن الدغنة: ربيعة بن رفيع بن اهبان بن ثعلبة السلمي، سمي باسم امه - الدغنة - شهد حنينا ثم قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني تميم.
كما قدمناه عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
قالت والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: " إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين: وهما الحرتان.
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال: نعم.
فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - (1) أربعة أشهر، وذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حر (2) الظهيرة، فقال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ مقبلا ] (3) متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرج
من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله.
قال: فإنه قد أذن لي في الخروج.
فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم " ! قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن (4).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين (5).
قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا (6) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج (7) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر
__________
(1) كذا في الاصل، وفي النهاية لابن الاثير: السمر بضم الميم ضرب من شجر الطلح، وأما الخبط فهو ضرب الشجرة لتناثر ورقها.
(2) في دلائل البيهقي: نحر الظهيرة: أي في أول وقت الحرارة، وهي المهاجرة، ويقال أول الزوال، وهو أشد ما يكون من حر النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها.
(3) من البيهقي.
(4) بالثمن: أي لا آخذها إلا بالثمن، وفي رواية ابن إسحاق: لا أركب بعيرا ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثمن الذي ابتعته، قال: أخذته بكذا وكذا، قال: هو لك.
وفي رواية الطبراني عن اسماء بنت أبي بكر: قال بثمنها.
وقد تقدم عن الواقدي ان ثمنها ثمانمائة اشتراها من نعم بني قشير.
فأخذ إحداهما وهي القصواء.
وأخرج ابن حبان: أنها الجذعاء.
(5) النطاق: كل شئ شددت به الوسط، وسميت ذات النطاقين: لانها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار.
(6) في البخاري والبيهقي: فكمنا.
(7) يدلج: يخرج بالسحر، يقال أدلج: إذا سار في أول الليل، وادلج: إذا سار في آخره.
منحة (1) من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيعهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا (2) - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال.
وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل (3).
قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم.
يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة (4) ثم قمت فدخلت [ بيتي ] (5) فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجه (6) الارض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي (7) حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الازلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها غبار (8) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الازلام فخرج الذي أكره،
__________
(1) منحة من غنم، أي غنم فيها لبن، وقد تقع المنحة على الهبة مطلقا لا قرضا ولا عارية.
(2) قال الخطابي: الخريت مأخوذ من خرت الابرة كأنه يهتدي لمثل خرتها من الطريق، وخرت الابرة بالضم ثقبها، قال الكسائي: خرتنا الارض إذا عرفناها ولم تخف علينا طرقها.
وقال ابن الاثير في النهاية: الخريت الماهر الذي
يهتدي لآخرات المفازة، وهي طرقها الخفية.
(3) أخرجه البخاري بطوله في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج جزءا منه في كتاب الصلاة، وفي كتاب الاجارة وفي كتاب الكفالة..وفي مواضع أخر مقاطع مختصرة.
(4) وفي رواية البيهقي: ثم قل ما لبث في المجلس.
(5) من البيهقي.
(6) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(7) في البيهقي: فركبتها فرفعتها تقرب.
والتقريب: السير دون العدو، وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس بديها (بيديها) معا، وتضعهما معا.
(8) في البيهقي: عثان، وهو الدخان.
فناديتهم الامان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس عنهم (1) أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع.
فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا.
فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذي يكره لا يضره.
حتى ناداهم بالامان.
وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة (3) ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فكتب لي كتابا في عظم - أو رقعة أو خرقة - وذكر أنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة (4) مرجعه من الطائف، فقال له: " يوم وفاء وبر، أدنه " فدنوت منه وأسلمت.
قال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله
جيد.
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة.
جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه.
فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لاسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم، فكتب أو جهل - لعنه الله - إليهم: بني مدلج إني أخاف سفيهكم * سراقة مستغو لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عز وسؤدد قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لامر جوادي إذ تسوخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (5)
__________
(1) في البيهقي: عنهما، والرواية بالمثنى.
(2) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار (45) باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ح 3906.
ورواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 486 - 487.
(3) في ابن هشام: آية.
(4) الجعرانة: بكسر أوله: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.
(5) في السهيلي: علمت بدل عجبت، ببرهان: بدلا من وبرهان.
عليك فكف القوم عنه فإنني * أخال لنا يوما ستبدو معالمه (1) بأمر تود النصر فيه فإنهم * وإن جميع الناس طرا مسالمه (2) وذكر هذا الشعر الاموي في مغازيه بسنده عن أبي اسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبي جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا.
وقال البخاري بسنده إلى إبن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام [ إلى مكة ] (3)، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى (4) رجل من اليهود على أطم من آطامهم لامر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول (5) بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته: يا معشر العرب (6) هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين (7) من شهر ربيع الاول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه.
فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع (8) عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين.
وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل (9) غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة.
فقال
__________
(1) في الروض الانف: أرى أمره يوما ستبدو معالمه.
(2) في الروض: صدره بأمر يود الناس فيه بأسرهم.
(3) من دلائل البيهقي.
(4) أوفى: صعد إلى مكان عال وأشرف منه على ما تحته.
(5) قال ابن حجر، يزول بسبب عروضهم له، وفي رواية: يلوح بهم.
(6) وفي رواية: يا بني قبلة، وهي جدة الانصار: والدة الاوس والخزرج.
(أنظر شرح المواهب 1 / 350).
(7) منهم من يقول لليلتين مضتا من شهر ربيع الاول، والحديث المعروف لاثنتي عشرة خلت منه، وقيل لثمان خلون وقال أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم: لثلاث عشرة من ربيع الاول، وهذا يجمع
بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
وعن عبد الرحمن بن عويم قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه لبث فيهم ثمان عشرة ليلة (البيهقي 2 / 512).
(8) في رواية البيهقي: ثلاث ليال.
وفي ابن سعد: أربع عشرة ليلة.
وفي البيهقي عن ابن إسحاق: أقام يوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس.
(9) وهما ابنا رافع بن أبي عمرو بن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وفي البيهقي إنهما كانا في حجر معاذ =
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: " هذا إن شاء الله المنزل "، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما (1).
ثم بناه مسجدا.
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: لا هم إن الاجر أجر الآخرة * فارحم الانصار والمهاجرة (2) فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الاحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الابيات.
هذا لفظ البخاري وقد تفرد بروايته دون مسلم (3)، وله شواهد من وجوه أخر وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية، ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا.
قال الامام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد، أبو سعيد العنقزي، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب.
قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى منزلي.
فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه ؟ فقال أبو بكر: خرجنا فادلجنا فاحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم
الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلا نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية
__________
= ابن عفراء وقد شهد سهيل بدرا والمشاهد كلها ومات في خلافة عمر، ولم يشهد سهل بدرا وشهد غيرها ومات قبل أخيه سهيل.
وقال الواقدي: عن الزهري: كانا في حجر أسعد بن زرارة.
وفي سيرة ابن هشام: قال معاذ: هما يتيمان لي.
وفي رواية أخرى عنده: وهما في حجر معاذ بن عفراء.
(1) في رواية البيهقي: قال معاذ بن عفراء: سأرضيهما منه فاتخذه مسجدا، وقال قائلون: اشتراه.
وقال الواقدي: ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.
(2) وفي السيرة لابن هشام: وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: لا عيش إلا عيش الآخرة * اللهم ارحم الانصار والمهاجرة قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم المهاجرين والانصار.
(3) أخرجه البخاري في 63 كتاب مناقب الانصار 45 باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتح الباري 7 / 239 وانظر في بناء هذا المسجد: طبقات ابن سعد 1 / 239 سيرة ابن هشام: 2 / 141 صحيح البخاري الجزء الاول.
الطبري تاريخه 2 / 395 وابن عبد البر في الدرر (88) وسبل الهدى 3 / 485 ونهاية الارب للنويري 16 / 344 وغيرها كثير.
ظلها، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع، ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا براعي غنم، فقلت لمن أنت يا غلام ؟ فقال لرجل من قريش - فسماه فعرفته - فقلت هل في غنمك من لبن ؟ قال نعم ! قلت هل أنت حالب لي ؟ قال نعم ! فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة (1) من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ، فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت، ثم قلت هل آن الرحيل ؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن
مالك بن جعشم على فرس له، فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال: " لا تحزن إن الله معنا " حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح - أو رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة - قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ وبكيت، قال لم تبكي ؟ [ قلت ] أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اكفناه بما شئت " فسلخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لاعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بابلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لي فيها " ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق ورجع إلى أصحابه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة [ ليلا ] (2) وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الاناجير (3) واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد، قال وتنازع القوم أيهم ينزل عليه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لاكرمهم بذلك " فلما أصبح غدا حيث أمر.
قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبدالدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الاعمى أحد بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، فقلنا ما فعل رسول الله ؟ قال هو على أثري، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه.
قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل (4) أخرجاه في الصحيحين
__________
(1) الكثبة: كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كتب (أنظر النهاية).
(2) من دلائل البيهقي.
(3) الاناجير: في النهاية الاناجير والاجاجير: يعني السطوح.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 2 - 3 ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ 1 / 239 والبيهقي 2 / 483 و 503 و 504 وعنهم الصالحي في السيرة الشامية 3 / 345 والبخاري في 63 كتاب 45 باب ح 24 - 39 وفي 66 كتاب 6 باب فتح الباري 7 / 7 و 7 / 259 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب 4 / 2310 ح 75.
وأشار المزي في تحفة الاشراف 2 / 55 أن النسائي أخرجه في سننه عن اسماعيل بن مسعود، عن خالد.
من حديث اسرائيل بدون قول البراء أول من قدم علينا الخ.
فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به.
وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما (1) فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به.
فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك.
قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أركب بعيرا ليس لي " قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي.
قال: " لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به " قال كذا وكذا.
قال: " أخذتها بذلك " قال هي لك يا رسول الله.
وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ القصواء، قال وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم.
وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: وهي الجدعاء وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها الجدعاء والله أعلم.
قال ابن إسحق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق فحدثت عن اسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم.
قال: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي
__________
(1) العصام: ما تعلق بن السفرة وغيرها.
بكر، وعبد الله بن أرقد (1) كذا يقول ابن إسحاق، والمشهور عبد الله بن أريقط الدئلي.
وكان إذ ذاك مشركا.
قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقد سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج (2)، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا (3)، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار (4) ثم أجاز بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا (5)، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة محاج (6) ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد (7)، ثم أخذ بهما على الجداجد (8)، ثم على الاجرد (9)، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن (10)، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة.
ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل يقال له: ابن الرداء - إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، خرج بهما [ دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة - ويقال ثنية الغائر فيما قال ابن هشام - حتى هبط بهما بطن ريم، ثم قدم بهما ] (11) قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها والله
علم قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلي، حدثني أخي موسى بن عبادة حدثني عبد الله بن سيار، حدثني
__________
(1) في ابن هشام: أرقط.
وقد تقدم التعليق عليه.
(2) أمج: بلد من أعراض المدينة، وقيل واد يأخذ من حرة بني سليم.
(معجم البلدان).
(3) قديد: اسم موضع قرب مكة، وفي معجم ما استعجم: أن هذه القرية سميت قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
(4) الخرار: موضع بالحجاز، وقيل واد أو ماء في المدينة (معجم البلدان).
(5) لقف: ماء وآبار كثيرة، وقيل واد من ناحية السوارقية على فرسخ.
(6) مجاج: قال ياقوت والصحيح عندنا غير ذلك - قال الزبير بن بكار: وهو مجاح بفتح الميم.
(7) كشد: كذا بالاصل، وفي ياقوت كشر.
بين مكة والمدينة.
(8) جدا جد: يجوز أن يكون جمع جدجد، وهي البئر القديمة، وهي هنا الارض المستوية الصلبة.
(معجم البلدان).
(9) الاجرد: اسم جبل من جبال القبلية، قال نصر: بين المدينة والشام (معجم البلدان).
(10) تعهن: اسم عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة.
(11) ما بين معكوفين سقط من الاصل واستدرك من سيرة ابن هشام.
إياس بن مالك بن الاوس الاسلمي عن أبيه.
قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بابل لنا بالجحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمن هذه الابل ؟ " فقالوا لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر فقال: " سلمت إن شاء الله، فقال ما اسمك ؟ " قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر فقال: " سعدت إن شاء الله ".
قال فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له ابن الرداء.
قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما
لانه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهي أبعد من الطريق الجادة واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة، قال ابن هشام.
وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم.
وقال الاموي: هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس (2) بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو، ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد، واسمه أكتم (3) بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا.
وهذه قصة أم معبد الخزاعية: قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف (4) بن معبد بن ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى فقالت والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله، وحلب في العس حتى أرغى وقال: " اشربي يا أم معبد " فقالت: اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت، ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.
وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا كذا ؟ فوصفوه لها.
فقالت: ما أدري ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.
قالت قريش: فذاك الذي نريد.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن عقبة، بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، ثنا أبي عن أبيه عن جابر.
قال: لما
__________
(1) في ابن سعد ضبيس وفي الاصابة خبيس.
قال السهيلي: اسمها عاتكة بنت خلد إحدى بني كعب من خزاعة وهي أخت حبيش بن خلد، وخلد الاشعر أبوهما هو بن خنيف بن منقد بن ربيعة بن أصرم بن ضمبيس بن عرم بن حبشية بن كعب بن عمرو.
وذكرها ابن سعد قال: عاتكة بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام..من خزاعة: (2) في ابن سعد: اسمه تميم، وهو ابن عمها عبد العزى وذكر تمام نسبهما وكان منزلهما بقديد.
(3) في البيهقي: خالد بن منقذ بن ربيعة.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ.
فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فأرسلت إليه أم معبد إني أرى وجوها حسانا، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني، فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أردد الشفرة وهات لنا فرقا " يعني القدح فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد.
قال هات لنا فرقا فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملا القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.
ثم قال البزار لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد.
وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وإن كان معروفا في النسب.
وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثنا عبد الرحمن بن الاصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق [ رضي الله عنه ].
قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبد الله ! إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز [ لها ] يسوقها، فقالت: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " انطلق بالشفرة وجئني بالقدح " قال إنها قد عزبت وليس بها لبن، قال انطلق، [ فانطلق ] فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ثم حلب حتى ملا القدح، ثم قال: انطلق به إلى أمك، فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى.
ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم [ قال ] فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا.
فكانت تسميه المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى
ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك.
فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك ؟ قال أو ما تدرين من هو ؟ قالت: لا، قال هو نبي الله.
قالت: فأدخلني عليه.
قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها - زاد ابن عبدان (1) في روايته - قالت فدلني عليه، فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من أقط ومتاع الاعراب.
قال فكساها وأعطاها.
قال: ولا أعلمه إلا قال وأسلمت (2).
إسناد حسن.
وقال البيهقي: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله أعلم (3).
وقال
__________
(1) أحد إسناد رواية البيهقي.
واسمه أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان.
(2) قال الواقدي وغيره أنها تأخرت في إسلامها وبيعتها إلى أيام عمر بن الخطاب، وكان ذلك بعد سنة ثماني عشرة (الطبقات 8 / 289).
(3) دلائل البيهقي 2 / 491 - 492 وقال: وقد ذكر ابن اسحاق من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه واحدة.
=
البيهقي (1) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي.
قالا: ثنا أبو العباس الاصم ثنا الحسن بن مكرم حدثني أبو أحمد بشر (2) بن محمد السكري ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ثنا أبجر بن الصباح (3) عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة (4) جلدة تحتبى وتجلس بفناء الخيمة (5) فتطعم وتسقى، فسألوها هل عندها لحم أو لين (لبن) يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك.
وقالت: لو كان عندنا شئ ما أعوذكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون (6).
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر خيمتها، فقال: " ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ " فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: فهل بها من لبن " قالت هي أجهد من ذلك.
قال تأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت إن كان بها حلب فاحلبها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها وذكر اسم الله ومسح ضرعها وذكر اسم الله ودعا بأناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب فيها ثجا حتى
ملاه (7) فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال " ساقي القوم آخرهم " ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا قال فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن (8) هزلى لا نقي بهن، مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوبة في البيت والشاء عازب (9) ؟ فقالت: لا والله
__________
= وانظر الروض الآنف 2 / 8 وشرح السيرة لابي ذر 1 / 126 والسيرة الشامية 3 / 350.
(1) في دلائل البيهقي - باب حديث أم معبد - روى البيهقي حديثا طويلا من طرق ثلاث كلها عن حبيش بن خالد أخو عاتكة - أم معبد ج 1 / 277 - 278 ولم يرد في روايته من طريق أبي معبد، ولعل ابن كثير وهم في إسناد هذه الرواية إلى البيهقي، والرواية التالية - والتي رواها ابن سعد في الطبقات 1 / 230 عن أبي معبد قريبة جدا من رواية البيهقي.
(2) في ابن سعد: محمد بن بشر بن محمد السكري.
(3) في ابن سعد: الحر بن الصياح.
(4) امرأة برزة: يريد أنها خلا لها سن فهي تبرز، ليست بمنزلة الصغيرة المحجوبة، والبرزة إذا كانت كهلة لا تحجب احتجاب الشواب وهي مع ذلك عاقلة تجلس للناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور.
(5) كذا في الاصل وابن سعد وفي رواية البيهقي: القبة.
(6) مرملون: أصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل، يريد قد نفد زادهم.
مسنتون، وتروى مشتون أي دخلوا في الشتاء.
ومسنتون: أي داخلون في السنة وهي الجدب والمجاعة.
(7) هكذا في الاصل حتى ملاه، وفي الكلام نقص، وفي ابن سعد: حتى عليه الثمال.
وفي البيهقي: حتى علاه البهاء: أي بهاء اللبن، وهو وبيص رغوته، يريد أنه ملاها.
(8) في ابن سعد: ما تساوق.
والتساوك: السير الضعيف، وقيل رداءة المشي قال الازهري: تقول العرب: جاءت الغنم تساوك: أي تتمايل من الهزال والضعف في مشيها.
(9) الشاء العازب: أي بعيدة عن المرعى لا تأوي المنزل في الليل.
إنه مر بنا رجل ملوك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال صفيه لي فوالله إني لا راه صاحب قريش الذي تطلب.
فقالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة.
حسن الخلق مليح (1) الوجه لم تعبه ثجلة (2) ولم تزر به صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف (3)، وفي صوته صحل (4).
أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة.
إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر (5) كأن منطقه خرزات نظم ينحدرون، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب.
ربعة لا تنساه (6) عين من طول، ولا تقتحمه (7) عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنصر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا (8) له رفقاء يجفون به إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لامره.
محفود (9) محشود، لا عابس ولا معتد (10) فقال يعني بعلها: هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولا جهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، قال وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والارض يسمعونه ولا يرون من يقول وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد (11) هما نزلا بالبر وارتحلا به (12) * فأفلح من أمسى رفيق محمد
__________
(1) في ابن سعد: متبلج الوجه، وفي البيهقي: أبلج الوجه.
(2) وفي البيهقي: نحلة.
والثجلة: أي ضخم البطن.
والنحلة والنجلة: بمعنى: الدقة والضمر والنحول.
وصعلة: صغر الرأس.
(3) في البيهقي عطف، قال القتيبي: سألت عنه الرياشي فقال: لا أعرف العطف.
وأحسبه قال غطف: وهو أن تطول الاشغار ثم تنعطف، وقال: وتروى وطف: وهو الطول.
(4) صهل، كما في ابن سعد وفي البيهقي صهل.
هما واحد: أي كالبحة وهو أن لا يكون حادا.
(5) فصل لانزر ولا هذر: أي وسط ليس بقليل ولا كثير.
(6) في ابن سعد: ربعة لا تنشؤه من طول.
وفي البيهقي: ربعة لا بأس من طول: يحتمل أن يكون معناه: إنه
ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عند مطاولته، ويحتمل أن يكون تصحيفا، قال البيهقي: وأحسبه: لا بائن من طول.
(7) لا تقتحمه عين من قصر: لا تحتقره ولا تزدريه.
(8) في ابن سعد والبيهقي: قدرا.
(9) محفود: مخدوم، محشود: من حشد: أي إذا أردت أنك أعددت له وجمعت.
وقيل: حشده أصحابه: أطافوا به.
(10) في ابن سعد: لا عابث ولا مفند، وفي البيهقي: لا عابس ولا مفند.
(11) في البيهقي: قالا مكان حلا: من القيلولة.
(12) في البيهقي: هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز.
فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجارى وسؤدد (1) سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مربد فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد (2) قال وأصبح الناس - يعني بمكة - وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأجابه حسان بن ثابت: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم (3) * وقد سر (4) من يسري إليهم ويغتدي ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد [ هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد ] (5) وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمى وهداة يهتدون بمهتد ؟ نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد (6) وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد (7)
ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته، من يسعد الله يسعد ويهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد (8) قال - يعني عبد الملك بن وهب - فبلغني أن أبا (9) معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رواه أبو نعيم (10) من
__________
= وفي ابن هشام: هما نزلا بالبر ثم تروحا..(13) في ابن سعد: لا يجازى بدلا من لا تجارى.
(1) في البيهقي: فغادرها بدلا من فغادره.
ويرددها بدلا من يدر لها وفي ابن سعد: تدر بها.
(2) في ابن سعد والسهيلي: غاب بدل زال.
(3) في ابن سعد والبيهقي وأبي ذر: وقدس: بمعنى طهر.
(4) سقط من الاصل واستدرك من البيهقي.
(5) في البيهقي: مسجد بدل مشهد.
وقبله: وقد نزلت منه على أهل يثرب * ركاب هدى حلت عليهم بأسعد (6) عجزه في ابن سعد: فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد.
(7) في البيهقي: مقام بدل مكان.
وللمؤمنين بدل للمسلمين.
(8) في ابن سعد: قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت.
(9) ورواه البيهقي من نفس طرق أبي نعيم: وأسانيده: مكرم بن محرز وليس بكر بن محرز.
وحزام بن هشام بدلا من حرام.
طرق عن بكر بن محرز الكلبي الخزاعي عن أبيه محرز بن مهدي عن حرام بن هشام عن (2) حبيش بن خالد عن أبيه عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أخرج من مكة خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة (2) أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة، وذكر مثل ما تقدم سواء.
قال وحدثناه - فيما أظن - محمد بن أحمد بن علي بن مخلد ثنا محمد بن يونس بن موسى - يعني الكديمي - ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب ثنا محمد بن سليمان بن سليط الانصاري: حدثني أبي عن أبيه سليط البدري.
قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفه فقال لها: " يا أم معبد هل عندك من لبن ؟ " قالت: لا والله إن الغنم لعازبة قال فما هذه الشاة ؟ قالت خلفها الجهد عن الغنم ؟ ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم.
ثم قال البيهقي: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة، ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال حدثنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، ثنا أبو الوليد، ثنا عبد الله (3) بن إياد بن لقيط، ثنا إياد بن لقيط عن قيس بن النعمان.
قال لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت (4) وما بقي لها من لبن، فقال ادع بها، فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم جلس فشرب.
فقال الراعي: بالله من أنت ؟ فوالله ما أريت مثلك قط.
قال: أو تراك تكتم علي حتى أخبرك ؟ قال: نعم ! قال فإني محمد رسول الله.
فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك.
قال: فإني أشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك.
قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا.
ورواه أبو يعلى الموصلي عن جعفر بن حميد الكوفي عن عبد الله بن إياد بن لقيط به.
وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود.
قال: كنت غلاما يافعا أرعى
غنما لعقبة (5) بن أبي معيط بمكة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - وقد فرا من المشركين - فقال: " يا
__________
(1) من البيهقي: وفي الاصل بن وهو تحريف.
(2) في البيهقي: على خيمتي أم معبد.
(3) في دلائل البيهقي ج 2 / 497: عبيدالله بن إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان.
(4) في البيهقي أخرجت.
وخدجت: ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجت: ولدته ناقص الخلق وإن كان لتمام الحمل.
(5) من البيهقي وابن سعد.
وفي الاصل عتبة وهو تحريف.
غلام عندك لبن تسقينا ؟ " فقلت إني مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت نعم ! فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا فحفل الضرع، وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها.
ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع: أقلص أقلص.
فلما كان بعد، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني القرآن - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك غلام معلم " فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد (1).
فقوله في هذا السياق وقد فرا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الاحوال قبل الهجرة.
فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم.
[ وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بمن مصعب بن عبد الله - هو الزبيري - حدثني أبي عن فائد مولى عبادل قال خرجت مع [ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل ] ابراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد - وسعد هو الذي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق ركوبه (2) - فقال إبراهيم ] أخبرني ] ما حدثك أبوك ؟ قال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم ومعه أبو بكر - وكانت لابي بكر عندنا بنت مسترضعة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال لها سعد: هذا الغائر (3) من ركوبه وبه
لصان من أسلم يقال لهما المهانان.
فإن شئت أخذنا عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذ بنا عليهما " قال سعد فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني.
فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الاسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.
فقال: " بل أنتما المكرمان " وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرج [ نا ] حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين أبو أمامة أسعد بن زرارة ؟ " فقال سعد بن خيثمة.
إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك ؟ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفت رسول الله إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر هذا المنزل.
رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بنى مدلج " انفرد به أحمد (4)
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 171، والامام أحمد في مسنده 1 / 379 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2 / 537.
(2) من مسند أحمد ج 4 / 74 وفي الاصل ركونة، وركوبة: ثنية بنى مكة والمدينة عند العرج قرب جبل ورقان.
(3) من مسند أحمد، وفي الاصل: الغامر.
(4) أخرجه أحمد في مسند ج 4 / 74.
وما بين معكوفين في الخبر زيادة من المسند
فصل في دخوله عليه السلام المدينة واين استقر منزله [ بها ] (1) قد تقدم فيما رواه البخاري عن الزهري عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة عند الظهيرة.
قلت: ولعل ذلك كان بعد الزوال لما ثبت في الصحيحين من حديث اسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب عن أبي بكر في حديث الهجرة قال فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك " وهذا والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة ثم سار بالمسلمين فنزل قباء وذلك ليلا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا، فإن
العشى من الزوال، وإما أن يكون المراد بذلك لما رحل من قباء كما سيأتي فسار فما انتهى إلى بني النجار إلا عشاء كما سيأتي بيانه والله أعلم.
وذكر البخاري عن الزهري عن عروة أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء وأقام فيهم بضع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء في تلك الايام، ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده، وكان مربدا لغلامين يتيمين وهما سهل وسهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدا.
وذلك في دار بني النجار رضي الله عنهم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير [ عن عروة بن الزبير ] (2) عن عبد الرحمن بن عويم (3) بن ساعدة قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح، إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فوالله، ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا - وذلك في أيام حارة - حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذ لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه من رجل من اليهود [ وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ] (4) فصرخ بأعلا صوته: يا بني قيلة ! هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك: وركبه (5) الناس وما يعرفونه من أبي بكر،
__________
(1) زيادة من السيرة النبوية لابن كثير.
(2) من ابن هشام.
(3) في ابن هشام: عويمر.
(4) من ابن هشام.
(5) أي ازدحموا عليه.
حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.
وقد تقدم مثل
ذلك في سياق البخاري وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم ثنا سليمان [ بن المغيرة ]، عن ثابت عن أنس بن مالك.
قال: إني لا سعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر.
فكمنا في بعض خراب (1) المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الانصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الانصار حتى انتهوا إليهما فقالت الانصار: انطلقا آمنين مطاعين.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق (2) لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو ؟ أيهم هو ؟ فما رأينا منظرا شبيها به.
قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض.
فلم أر يومين شبيها بهما ورواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بنحوه - أو مثله (3) - وفي الصحيحين من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء عن أبي بكر في حديث الهجرة.
قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله.
فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر (4).
وقال البيهقي أخبرنا أبو عمرو الاديب أخبرنا أبو بكر الاسماعيلي: سمعت أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع (5) قال محمد بن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون يعني حين نزل - بقباء على كلثوم (6) بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بني عبيد، ويقال بل نزل على سعد بن
__________
(1) في رواية البيهقي: حدار.
(2) العواتق: جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك، وقيل هي التي لم تبن من والدتها، ولم تزوج بعد وقد أدركت وشبت.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 507.
(4) فتح الباري 7 / 8 ومسلم في 53 كتاب الزهد 19 باب في حديث الهجرة ح 75 ص 4 / 2310.
(5) دلائل النبوة ج 2 / 506 وزاد رزين قال: أيها المبعوث فينا * جئت بالامر المطاع (6) كلثوم بن الهدم بن أمرئ القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، مات بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسر، وكان مسنا، وهو أول من مات من الانصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلثوم يكنى أبا قيس (الروض - الاستيعاب).
خيثمة، ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته بيت الاعزاب (1) والله أعلم.
ونزل أبو بكر رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح وقيل على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج.
قال ابن إسحاق: وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم.
فكان علي بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.
يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاستربت بشأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو ؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك ؟ قالت: هذا سهل بن حنيف.
وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء
ويوم الاربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك.
وقال عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه عليه السلام أقام فيهم ثماني عشر ليلة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة أنه عليه السلام وأقام فيهم بضع عشرة ليلة، وحكى موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد بن حارثة أنه.
قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا - يعني في بني عمرو بن عوف بقباء - اثنتين وعشرين ليلة.
وقال الواقدي: ويقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي - وادي رانوناء (2) - فكان أول جمعة صلاها بالمدينة (3).
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " لناقته فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت (4) دار بني
__________
(1) من ابن هشام، وفي الاصل العزاب وهو تحريف.
(2) في رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: ببطن مهزور (دلائل البيهقي 2 / 504).
(3) قال ابن سعد: فلما أتى مسجد بني سالم جمع بمن كان معه من المسلمين وهم مائة.
(4) في ابن هشام: وازنت.
بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة ؟ قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا في العدد والمنعة.
قال " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا رسول هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار - وهم أخواله - دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن خارجة (1) في رجال من بني عدي بن النجار فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة ؟ قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده عليه السلام اليوم، وكل يومئذ مربدا لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.
قلت: وقد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري عن عروة أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة والله أعلم.
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في طريقه بعبد الله بن أبي بن سلول وهو في بيت.
فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل - وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم - فقال عبد الله: أنظر الذين دعوك فأنزل عليهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الانصار.
فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد من الله علينا بك يا رسول الله وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا (2).
قال موسى بن عقبة: وكانت الانصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له، وكلما مر بدار من دور الانصار دعوه إلى المنزل فيقول صلى الله عليه وسلم: " دعوها فإنها مأمورة فإنما أنزل حيث أنزلني الله " فلما انتهت [ الناقة ] إلى دار أبي أيوب بركت به على الباب فنزل فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه.
__________
(1) في الاصابة: أسير بن عمرو بن قيس أبو سليط البدري، وفي ابن هشام: بن أبي خارجة.
(2) نقل الخبر وفاء الوفا 1 / 184 ونقله البيهقي في الدلائل 2 / 500 وفيه: فقال له سعد بن عبادة: إنا والله يا رسول الله لقد كنا قبل الذي خصنا الله به منك، ومن علينا بقدومك، أردنا أن نعقد على رأس عبد الله بن أبي
التاج ونملكه علينا.
قال ابن إسحاق: لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عنها حتى وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت [ إلى ] خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه، ثم تحلحلت (1) ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل عن المربد لمن هو ؟ فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب حتى بني مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المهاجرين والانصار.
وستأتي قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله.
وقال البيهقي في الدلائل: وقال أبو عبد الله أخبرنا أبو الحسن علي بن عمرو الحافظ ثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري ثنا محمد بن سليمان بن اسماعيل بن أبي الورد ثنا إبراهيم بن صرمة ثنا يحيى بن سعيد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.
قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما دخلنا جاء الانصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول الله.
فقال: " دعوا الناقة فإنها مأمورة " فبركت على باب أبي أيوب، فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن: نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أتحبونني ؟ " فقالوا: أي والله يا رسول الله.
فقال: " وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم " هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروى (2).
ثم قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد، ثنا عمر بن الحسن الحلبي، حدثنا أبو خيثمة المصيصي، ثنا عيسى بن يونس، عن عوف الاعرابي، عن ثمامة عن أنس.
قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحي من بني النجار، وإذا جوار يضربن
بالدفوف يقلن: نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يعلم الله أن قلبي يحبكم " (3) ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس به.
وفي صحيح البخاري عن معمر، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز،
__________
(1) قال السهيلي: " وفسره ابن قتيبة على تلحلح: أي لزم مكانه ولم يبرح.
قال: وتحلحل، معناه زال عن موضعه.
وقال أبو ذر: تحلحلت معناه: تحركت وانزجرت.
(2) نقله السيوطي عن البيهقي في الخصائص 1 / 190 ورواه البيهقي في الدلائل 2 / 508.
(3) في البيهقي 2 / 508: يحبكن.
عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين - حسبت أنه قال من عرس - فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا فقال: " اللهم أنتم من أحب الناس إلي " قالها ثلاث مرات.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني عبد العزيز بن صهيب ثنا أنس بن مالك.
قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف (1)، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنما يهديه الطريق، وإنما يعني سبيل الخير.
فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اصرعه " فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرني يا نبي الله بما شئت.
فقال: " قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا ".
قال فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له.
قال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة ثم بعث إلى الانصار فجاؤوا فسلموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطاعين.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح، وقيل في المدينة: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستشرفوا نبي الله ينظرون إليه ويقولون: جاء نبي الله.
قال فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب، قال فإنه ليحدث
أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لاهله يحترف (2) لهم، فعجل أن يضع الذي يحترف فيها فجاء وهي معه، وسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله، وقال نبي الله: أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بأبي قال فانطلق فهيئ لنا مقيلا، فذهب فهيأ [ لهما مقيلا ] (3) ثم جاء فقال يا رسول الله قد هيأت مقيلا قوما على بركة الله فقيلا، فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك نبي الله حقا، وأنك جئت بحق ولقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم (4)، فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئت بحق أسلموا ".
فقالوا: ما نعلمه، ثلاثا.
وكذا رواه البخاري منفردا به عن محمد (5) غير منسوب عن عبد الصمد به.
__________
(1) يريد هنا: دخول الشيب في لحيته دونه لا السن.
(2) في دلائل البيهقي: يخترف، في الموضعين.
اخترف: جنى من الثمار.
(3) زيادة من البيهقي.
(4) زاد البيهقي في روايته للخبر: فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا اني قد أسلمت قالوا في ما ليس في، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
الخ دلائل ج 2 / 527.
(5) أخرجه البخاري في 63 كتاب الانصار 45 باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ح 3911 فتح الباري ج 7 / 199.
قال ابن حجر في الفتح: محمد: هو ابن سلام، وقال أبو نعيم في المستخرج: أظنه أنه محمد بن المثنى أبو موسى.
ورواه البيهقي من طريق أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج عن عبد الوارث.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم السماعي حدثني أبو أيوب.
قال: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون
تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: " يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن.
فلقد انكسر حب (1) لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ فيؤذيه، قال وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا - أو ثوما - فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر ليده فيه أثرا، قال فجئته فزعا فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك ؟ فقال: " إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه " قال فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد (2).
وكذلك رواه البيهقي من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الحسن - أو أبي الخير - مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم عن أبي أيوب فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو الحيري، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو النعمان، ثنا ثابت بن يزيد (3) ثنا عاصم الاحول عن عبد الله بن الحارث عن أفلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فنزل في السفل، وأبو أيوب في العلو فانتبه أبو أيوب فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم - يعني في ذلك - فقال [ النبي صلى الله عليه وسلم ]: " السفل أرفق بنا " فقال لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في العلو، وأبو أيوب في السفل فكان يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فإذا جئ به سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنع له طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له لم يأكل ففزع وصعد إليه فقال أحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولكني أكرهه " قال فإني أكره ما تكره - أو ما كرهت - قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الملك (4).
رواه
__________
(1) حب: الجرة الضخمة.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 / 144.
والبيهقي في الدلائل ج 2 / 510 وقال: رواه ابن إسحاق..غير أنه قال عن
أبي أمامة الباهلي عن أبي أيوب.
(3) في البيهقي: بن زيد.
(4) رواه البيهقي في الدلائل ج 2 / 509، ومسلم في 36 كتاب الاشربة 31 باب إباحة أكل الثوم ح 171.
وأخرجه الترمذي في كتاب الاطعمة 13 باب ح 1807.
عن محمود بن غيلان وقال: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد في مسنده 4 / 249، 5 / 94، 96، 100 و 106.
مسلم عن أحمد بن سعيد به، وثبت في الصحيحين عن انس بن مالك قال: جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر (1) وفي رواية بقدر فيه خضروات من بقول، قال فسأل فأخبر بما فيها فلما رآها كره أكلها، قال: " كل فإني أناجي من لا تناجي " وقد روى الواقدي أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: أول هدية أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل دار أبي أيوب أنا جئت بها، قصعة فيها خبز مثرود بلبن وسمن، فقلت أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: " بارك الله فيك " ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم، وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاث والاربعة يحملون الطعام يتناوبون، وكان مقامه في دار أبي أيوب سبعة أشهر قال وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو نازل في دار أبي أيوب - مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع ومعهما بعيران وخمسمائة درهم ليجئا بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان، وزينب عند زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع، وجاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن حارثة وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر وفيهم عائشة أم المؤمنين ولم يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا خلف بن عمرو العكبري، ثنا سعيد بن منصور، ثنا عطاف بن خالد، ثنا صديق بن موسى، عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن
محمد بن علي وبين دار الحسن بن ريد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله المنزل.
فانبعثت به راحلته فقال: " دعوها فإنها مأمورة " ثم خرجت به حتى جاءت موضع المنبر فاستناخت ثم تحللت، وثم عريش كانوا يعرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فيه فآوى إلى الظل فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل إليك فأنقل رحلك إلي ؟ قال: نعم ! فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل فقال يا رسول الله أين تحل ؟ قال: " ان الرجل مع رحله حيث كان " وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد، وهذه منقبة عظيمة لابي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، حيث نزل في داره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روينا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه لما قدم أبو أيوب البصرة - وكان ابن عباس نائبا عليها من جهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه - فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وملكه كل ما أغلق عليها بابها.
ولما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا، وأربعين عبدا.
وقد صارت دار أبي بعده إلى مولاه أفلح.
فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار وصلح ما وهي من بنيانها ووهبها لاهل بيت فقراء من أهل المدينة.
وكذلك نزوله
__________
(1) في النهاية لابن الاثير: بدر: طبق مستدير، شبهه بالبدر لاستدارته.