كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

" ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي على ومثلها " ثم قال: " يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه " ؟ وثبت في صحيح البخاري عن أنس أن عمر خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قال فيسقون (1)، ويقال إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجلا إكراما له.
قال الواقدي وغير واحد: توفي العباس في يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه
عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع وقيل توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن سمح (2) بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم ابن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة، أسلم قديما قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وهو يرعى غنما فسألاه لبنا فقال: إني مؤتمن، قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقا لم ينز عليها الفحل فاعتقلها ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع " أقلص " فقلص، فقلت علمني من هذا الدعاء فقال: " إنك غلام معلم " (3)، الحديث.
وروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه: أن ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، وقريش في أنديتها قرأ سورة الرحمن علم القرآن، فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له إذنك على أن تسمع سوادي (4) ولهذا كان يقال له صاحب السواك والوساد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته إبنا عفراء، وشهد بقية المشاهد، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما " اقرأ علي " فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " حسبك " وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء (باب: 3) ح (1010) فتح الباري 2 / 492.
(2) في ابن سعد شمخ.
وفي الاصابة: شخص بن قار.
وفي الاستيعاب: شمخ بن فان.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 379 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2 / 537.
(4) العبارة في الاستيعاب: إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك (انظر الاصابة 2 / 369 وهامشها 2 / 318 وابن سعد 3 / 154).

بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة دخولهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال حذيفة ما رأيت أحدا أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى، وفي الحديث " وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد: عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم حرسي عن علي أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكبات فجعل الناس يعجبون من قدة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس - فجعل يتبعه بصره ثم قال هو كنيف ملئ علما.
وقد شهد ابن مسعود بعد النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة، منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجا فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها فجاءه عثمان بن عفان عائدا، فيروى أنه قال له: ما تشتكي ؟ قال ذنوبي، قال فما تشتهي ؟ رحمة ربي، قال ألا آمر لك بطبيب ؟ فقال: الطبيب أمرضني، قال ألا آمر لك بعطائك ؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي فيه.
فقال: يكون لبناتك من بعدك، فقال أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام، فيقال إنه هو الذي صلى عليه ليلا، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل بل صلى عليه عثمان، وقيل عمار، فالله أعلم.
ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة.
عبد الرحمن بن عوف ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري، أسلم قديما على يدي أبي بكر، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا وما بعدها، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة بين كتفيه، لتكون أمارة عليه للامارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية
السابقين إلى الاسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا.
ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد ابن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه (1) " وهو في الصحيح.
وقال معمر عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ماله
__________
(1) وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ح (161) 1 / 57.
وفي زوائده: اسناده صحيح والمد: مكيال معروف ومعلوم، وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز.

اربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، فأما الحديث الذي قال عبد بن حميد في مسنده: ثنا يحيى بن إسحق، ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن عفان (1) فقال له إن لي حائطين فاختر أيهما شئت، فقال: بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق، قال فدله فكان يشتري السمنة والاقيطة والاهاب، فجمع فتزوج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " بارك الله لك أولم ولو بشاة " قال فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحلة تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام، قال: فلما دخلت المدينة سمع لاهل المدينة رجة، فقالت عائشة: ما هذه الرجة ؟ فقيل لها عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة تحمل البر والدقيق والطعام.
فقال عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا " فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال: أشهدك يا أمه أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
وقال الامام أحمد: ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت عن أنس قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة قالت: ما هذا ؟ قالوا عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شئ - قال وكانت سبعمائة بعير - قال فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا " (2) فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال: لئن استطعت لادخلها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
فقد تفرد به عمارة بن زاذان الصيدلاني وهو ضعيف.
وأما قوله في سياق عبد بن حميد: إنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان، فغلط محض مخالف لما في صحيح البخاري من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الانصاري رضي الله عنهما، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الاسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى.
ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة - فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول سقاه الله من السلسبيل.
وأعتق خلقا من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالا جزيلا، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع، وكان نساءه أربعا فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفا، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة.
وكان أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، دقيق
__________
(1) روى الحديث ابن سعد عن أنس وفيه: ان سعد بن الربيع قال ذلك لعبد الرحمن بن عوف (الطبقات 3 / 125).
(2) أخرجه أحمد في المسند ج 6 / 115.

البشرة، أعين أهدب الاشفار، أقنى، له جمة، ضخم الكفين، غليظ الاصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه.
أبو ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة على المشهور، أسلم قديما بمكة فكان رابع أربعة أو خامس خمسة.
وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الاسلام، ثم رجع إلى
بلاده وقومه، فكان هناك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فهاجر بعد الخندق ثم لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا، وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة، من أشهرها ما رواه الاعمش، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أبي حرب بن أبي الاسود، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر " وفيه ضعف.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه، فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين فيها كان فتح قبرص (1) في قول أبي معشر، وخالفه الجمهور فذكروها قبل ذلك كما تقدم، وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانية، حين نقض أهلها العهد.
وفيها سير أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة إلى الشام، وكان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر، فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام أنه قد أخرج إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم.
فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد، فأجاب متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم - وأخذ في المدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، والصلاة والتسليم.
وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال: وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازما، فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت، قد
__________
(1) في معظم المراجع العربية والاسلامية وردت قبرس فيها بالسين لا بالصاد.

ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والاحمق والكيس.
ثم بذل لهم النصح مرة أخرى فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام، لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه، من نصرة الدين وقمع المفسدين.
وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب، وكانوا يشتمون عثمان وسعيد بن العاص، وكانوا عشرة، وقيل تسعة وهو الاشبه، منهم كميل بن زياد، والاشتر النخعي - واسمه مالك بن يزيد - وعلقمة بن قيس النخعيان، وثابت بن قيس النخعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الازدي، وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي (1).
فلما خرجوا من دمشق أووا إلى الجزيرة فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان نائبا على الجزيرة.
ثم ولى حمص بعد ذلك - فهددهم وتوعدهم، فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الاقلاع عما كانوا عليه، فدعا لهم وسير مالكا الاشتر النخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه، فقيل ذلك منهم وكف عنهم وخيرهم أن يقيموا حيث أحبوا، فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقدموا عليه حمص، فأمرهم بالمقام بالساحل، وأجرى عليهم الرزق.
ويقال بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم إلى عثمان فجاءه كتاب عثمان أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه، فلما رجعوا كانوا أزلق ألسنة، وأكثر شرا، فضج منهم سعيد بن العاص إلى عثمان، فأمره أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص، وأن يلزموا الدروب.
وفي هذه السنة سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام، وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه، فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الاعداء في الحط والكلام فيه، وهم الظالمون في ذلك، وهو البار الراشد رضي الله عنه.
وفي هذه السنة حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتقبل الله منه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين قال أبو معشر: فيها كانت وقعة الصواري، والصحيح في قول غيره أنها كانت قبل ذلك كما تقدم.
وفي هذه السنة تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة - وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص
__________
(1) في رواية الطبري 5 / 90: مالك بن الحارث الاشتر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي، وزيد بن صوحان العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الازدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي.

أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره (1) فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول، وطلبوا منه أن يعزل عماله ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جدا، وبعث إلى أمراء الاجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد ابن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الامر وافتراق الكلمة، فأشار عبد الله بن عامر أن يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر، فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا اشتغلوا بمالا يغني وتكلموا بما لا يرضي وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم، وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم، وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم وأن لا يلتفت إلى هؤلاء وما تألبوا عليه من الشر، فإنهم أقل وأضعف جندا.
وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم، ويأمن غائلتهم، ويعطف به قلوبهم إليه.
وأما عمرو بن العاص فقام فقال: أما بعد يا عثمان فإنك قد ركبت الناس ما يكرهون فأما أن تعزل عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلاما فيه
غلظة، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضرا من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الاشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة (2) - وقد قال يومئذ الاشتر النخعي: والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا، وتواقف الناس بالجرعة.
وأحجم سعيد عن قتالهم وصمموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول: والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء.
فجعل حذيفة يقول: والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئا إلا وقد علمته ومحمد صلى الله عليه وسلم حي.
والمقصود أن سعيد بن العاص كر راجعا إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الاشعري بذلك
__________
(1) بعثوا إلى عثمان عامر بن عبد الله التميمي وهو الذي يدعى عامر بن عبد القيس (الطبري 5 / 94) وهو تابعي يعد من الزهاد اليمانية قيل أدرك الجاهلية وكان أعبد أهل زمانه وأشدهم اجتهادا.
ولما نزل به الموت بكى وقال: " بمثل هذا المصرع فليعمل العاملون اللهم إني استغفرك من تقصيري وتفريطي أتوب إليك من جميع ذنوبي لا إله إلا أنت.
" وما زال يرددها حتى مات: وقيل قبره بالبيت المقدس.
(2) الجرعة: مكان قريب من القادسية.

فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعا لعللهم.
وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الاحزاب على عثمان أن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأظهر الاسلام وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، مضمونه أنه يقول للرجل: أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا ؟ فيقول الرجل: نعم ! فيقول له فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو
أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام ؟ ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الانبياء، وعلي خاتم الاوصياء، ثم يقول: فهو أحق بالامرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له.
فأنكروا عليه وأظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة، فتمالاوا على ذلك، وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الانكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة.
فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوابه من الامصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم ذكرنا له فالله أعلم.
وقال الواقدي فيما رواه عن عبد الله بن محمد عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، فكلم الناس علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان، فدخل عليه فقال له: إن الناس ورائي وقد كلموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ فنبلغكه، وما خصصنا بأمور خفي عنك إدراكها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشئ من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شئ، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل.
وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة معلومة (1)، فوالله إن كلا لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة، وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحا ثم يرتطم في غمرة جهنم، وإني أحذرك الله
وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الامة المقتول، فإنه
__________
(1) في الكامل 3 / 152 والطبري 5 / 99: متروكة.

كان يقال قتل في هذه الامة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعا لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا.
فقال عثمان: قد والله علمت لتقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، إني وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي، أنشدك الله يا علي هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟ قال: نعم ! قال: فتعلم أن عمر ولاه ؟ قال: نعم ! قال: فلم تلوموني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ؟ قال علي: سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميرا فإنما يطأ على صماخيه، وأنه إن بلغه حرف جاء به، ثم بلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك.
فقال عثمان: هم أقرباؤك أيضا، فقال علي لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها، فقد وليته، فقال علي: أنشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه ؟ قال: نعم ! قال علي: فإن معاوية يقطع الامور دونك وأنت تعلمها ويقول للناس: هذا أمر عثمان، فليبلغك فلا تنكر ولا تغير على معاوية ثم خرج علي من عنده وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر فوعظ وحذر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، فكان فيما قال: ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم به لابن الخطاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي، أما والله لانا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا وأقمن، إن قلت: هلم إلي إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم من لو كان
هو الذي يليكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم ؟ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي.
ثم اعتذر عما كان يعطي أقرباه بأنه من فضل ماله.
فقام مروان ابن الحكم فقال: إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دمن الثرى فقال عثمان: اسكت لاسكت، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا، ألم أتقدم إليك أن لا تنطق.
فسكت مروان ونزل عثمان رضي الله عنه (1).
وذكر سيف بن عمر وغيره أن معاوية لما ودعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للامراء.
فقال: لا أختار بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر الطبري ج 5 / 100 والكامل لابن الاثير 3 / 153.

سواه.
فقال: أجهز لك جيشا من الشام يكونون عندك ينصرونك ؟ فقال: إني أخشى أن أضيق بهم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه من المهاجرين والانصار.
قال معاوية: فوالله يا أمير المؤمنين لتغتالن - أو قال: لتغزين - فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم خرج معاوية من عنده وهو متقلد السيف وقوسه في يده، فمر على ملا من المهاجرين والانصار، فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه وتكلم بكلام بليغ يشتمل على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثم انصرف ذاهبا.
فقال الزبير: ما رأيته أهيب في عيني من يومه هذا.
وذكر ابن جرير أن معاوية استشعر الامر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حاديا يرتجز في أيام الموسم في هذا العام وهو يقول: قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي أن الامير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي وطلحة الحامي لها ولي فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله
وبه الثقة.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبير (1) بالمدينة وهو بدري.
ومات أيضا مسطح بن أثاثة.
وغافل بن البكير.
وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان وكان السبب في ذلك أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر ولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان سبب ذلك أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص، مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم ويولي عليهم من هو ألين منه.
فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمرا عن الحرب وتركه على الصلاة، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما، حتى كان بينهما كلام قبيح.
فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها وحربها وصلاتها، وبعث إلى عمرو يقول له: لا خير لك في المقام عند من يكرهك، فأقدم إلي، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمر عظيم وشر كبير فكلمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على عثمان، وأنه كان أعز منه.
فقال له عثمان: دع هذا فإنه من أمر الجاهلية.
وجعل عمرو بن العاص يؤلب
__________
(1) في الطبري والكامل: جبر.

الناس على عثمان.
وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح على ما قدمنا، وينقمون عليه في عزله جماعة من علية الصحابة وتوليته من دونهم، أو من لا يصلح عندهم للولاية.
وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والاندلس وإفريقية.
ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه والانكار عليه، وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، حتى استنفرا نحوا من ستمائة (1) راكب يذهبون إلى المدينة في صفة
معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان فساروا إليها تحت أربع رفاق، وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران السكوني.
وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء.
وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة معتمرين.
فلما اقتربوا من المدينة (2) أمر عثمان علي ابن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة.
ويقال: بل ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الاشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر.
فقال علي لعمار، فأبى عمار أن يخرج معه.
فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرضه على الخروج مع علي إليهم، فأبى عمار كل الاباء، وامتنع أشد الامتناع، وكان متعصبا على عثمان بسبب تأديبه له فيما تقدم على أمر وضربه إياه في ذلك، وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب، فأدبهما عثمان، فتآمر عمار عليه لذلك، وجعل يحرض الناس عليه، فنهاه سعد ابن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه، فلم يقع عنه ولم يرجع ولم ينزع، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم وهم بالجحفة (3)، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا: هذا الذي تحاربون الامير بسببه، وتحتجون عليه به.
ويقال إنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمى الحمى، وأنه خرق المصاحف، وأنه أتم الصلاة وأنه ولى الاحداث الولايات وترك الصحابة الاكابر وأعطى بني أمية أكثر من الناس فأجاب علي عن ذلك: أما الحمى فإنما حماه لابل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لابله ولا لغنمه وقد حماه عمر من قبله.
وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف، وأبقى لهم المتفق
__________
(1) في الطبري: خمسمائة، وفي الطبري والكامل: كان عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي.
(2) وصلوا إلى ذي خشب، وكان رسول عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد وصل إلى عثمان وأخبره بقدومهم عليه يريدونه ويظهرون انهم قوم معتمرون.
(3) في الكامل 3 / 162 والطبري 5 / 110 انطلق علي رضي الله عنه في ركب من المهاجرين والانصار ثلاثون رجلا
فيهم سعد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وأبو أسيد الساعدي وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك ونيار بن مكرز وغيرهم.

عليه، كما ثبت في العرضة الاخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة، فإنه كان قد تأهل بها ونوى الاقامة فأتمها، وأما توليته الاحداث فلم يول إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة، وولى أسامة بن زيد بن حارثة.
وطعن الناس في إمارته فقال إنه لخليق بالامارة وأما إيثاره قومه بني أمية.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر قريشا على الناس، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لادخلت بني أمية إليها.
ويقال إنهم عتبوا عليه في عمار ومحمد بن أبي بكر، فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما.
وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص، وقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نفاه إلى الطائف ثم رده، ثم نفاه إليها، قال فقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رده، وروى أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له.
ويروي أنهم بعثوا طائفة من فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت الاعذار وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم فصفح عنهم، رضي الله عنه.
وردهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئا مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان، فأخبره برجوعهم عنه، وسماعهم منه، وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما كان وقع من الاثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه قد تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله، وأنه لا يحيد عنها، كما كان الامر أولا في مدة ست سنين الاول، فاستمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس، رفع يديه في أثناء الخطبة، وقال اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينيه بالبكاء فبكى المسلمون أجمعون، وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان، أبو بكر
وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه، لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلى بالناس ثم دخل منزله وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال، لا يمنع أحد من ذلك مدة.
قال الواقدي: فحدثني علي بن عمر عن أبيه قال: ثم إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاما تسمعه الناس منك ويشهدون عليك، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن ركبا آخرين يقدمون من قبل الكوفة، فتقول يا علي اركب إليهم، ويقدم آخرون من البصرة فتقول يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل قطعت رحمك واستخففت بحقك.
قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعلم الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب شيئا أجهله، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه، ولك ضل رشدي (1) ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من زل فليتب، ومن أخطأ فليتب،
__________
(1) العبارة في الطبري والكامل: ولكني منتني نفسي وكذبتني وضل عني رشدي.

ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق " فأنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم (1)، فوالله لاكونن كالمرقوق إن ملك صبر، وإن عتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه.
قال: فرق الناس له وبكى من بكى، وقام إليه سعيد بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين ! ألله الله في نفسك ! فأتمم على ما قلت.
فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس، وجاءه مروان بن الحكم فقال: أتكلم يا أمير المؤمنين أم أصمت ؟ فقالت امرأة عثمان - نائلة بنت الفرافصة الكلبية - من وراء الحجاب: بل اصمت، فوالله إنهم لقاتلوه، ولقد قال مقالة لا ينبغي النزوع عنها.
فقال لها: وما أنت وذاك ! فوالله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ.
فقالت له: دع ذكر الاباء، ونالت من أبيه الحكم، فأعرض عنها مروان.
وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ فقال له عثمان: بل تكلم، فقال مروان: بأبي أنت وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممنع
منيع، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت حين جاوز الحزام الطبيين، وبلغ السيل الزبا، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل، والله لاقامة على خطيئة يستغفر منها، خير من توبة خوف عليها، وإنك لو شئت لعزمت التوبة ولم تقرر لنا بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس.
فقال عثمان: قم فاخرج إليهم فكلمهم، فإني أستحي أن أكلمهم، قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال: ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه كل إنسان آخذ بإذن صاحبه ألا من أريد (2) جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، أخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسؤكم ولا تحمدوا غبه، ارجعوا إلى منازلكم، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدنا، قال فرجع الناس، وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر، فجاء علي مغضبا حتى دخل على عثمان.
فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك ؟ ! وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم الله إني لاراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت سوقك (3)، وغلبت على أمرك.
فلما خرج علي دخلت نائلة على عثمان فقالت: أتكلم أو أسكت ؟ فقال: تكلمي، فقالت: سمعت قول علي أنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان حيث شاء، قال: فما أصنع ؟ قالت: تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان
__________
(1) في الكامل: اشرافكم فليروا في رأيهم.
وفي الطبري، فليأتني اشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبدا لاستنن بسنة العبد ولاذلن ذل العبد...5 / 111 والكامل 3 / 164.
(2) في الطبري كالاصل، وفي ابن الاثير: شاهت الوجوه ألا من أريد ؟ (3) في الطبري: شرفك وفي الكامل: أذهبت شرفك وغلبت على رأيك.

ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة (1)، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى.
قال فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال: لقد أعلمته أني لست بعائد.
قال:
وبلغ مروان قول نائلة فيه فجاء إلى عثمان فقال: أتكلم أو أسكت ؟ فقال: تكلم، فقال: إن نائلة بنت الفرافصة، فقال عثمان لا تذكرها بحرف فأسوء إلى وجهك، فهي والله أنصح لي منك.
قال: فكف مروان.
ذكر مجئ الاحزاب إلى عثمان للمرة الثانية من مصر وذلك أن أهل الامصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الامر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه، تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وتراسلوا، وزورت (2) كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم.
وذكر سيف بن عمر التميمي عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضا، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، خرج أهل مصر في أربع رقاق على أربعة أمراء، المقلل لهم يقول ستمائة، والمكثر يقول: ألف.
على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني وعلى القوم جميعا الغافقي بن حرب العكي، وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجا، ومعهم ابن السوداء - وكان أصله ذميا فأظهر الاسلام وأحدث بدعا قولية وفعلية، قبحه الله - وخرج أهل الكوفة في عدتهم في أربع رفاق أيضا، وأمراؤهم: زيد بن صوحان، والاشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الاصم، وعلى الجميع عمرو بن الاصم (3).
وخرج أهل البصرة في عدتهم أيضا في أربع رايات مع حكيم بن جبلة العبدي، وبشر بن شريح بن ضبيعة القيسي، وذريح بن عباد العبدي (4)، وعليهم كلهم حرقوص بن زهير السعدي، وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة.
لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، في شهر شوال فنزل طائفة منهم بذي خشب، وطائفة بالاعوص، والجمهور بذي المروة، وهم
__________
(1) زاد الطبري وابن الاثير: وانما تركك الناس لمكانه.
(2) في رواية الطبري والكامل: كتب من بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، إنما لم يذكر أي من أسماء هؤلاء الصحابة.
(3) في الطبري والكامل: وهم في عداد أهل مصر، وفي مروج الذهب: في مائتي رجل.
(4) زاد ابن الاثير في الكامل: وابن المحترش، وفي الطبري: ابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي.
وقال الطبري وابن الاثير وهم في عداد أهل مصر، أما المسعودي فقال كانوا في مئة رجل.

على وجل من أهل المدينة، فبعثوا قصادا وعيونا بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤوا للحج لا لغيره، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول، فكل الناس أبى دخولهم ونهى عنه، فتجاسروا واقتربوا من المدينة، وجاءت طائفة من المصريين إلى علي وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أفواف، معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلدا السيف وليس عليه قميص وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلم عليه المصريون فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا لا صبحكم الله، قالوا: نعم ! وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي - وقد أرسل ابنهى إلى عثمان - فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لهم كما قال علي لاهل مصر، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة.
فرجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياما راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة، فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان، وقالوا للناس: من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياما.
هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلي بالناس، فيصلي وراءه أهل المدينة وأولئك الآخرون.
وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم، حتى قال علي لاهل مصر: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم
عن رأيكم ؟ فقالوا: وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا.
وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير.
وقال أهل كل مصر: إنما جئنا لننصر أصحابنا.
فقال لهم الصحابة: كيف علمتم بذلك من أصحابكم، وقد افترقتم وصار بينكم مراحل ؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه، فقالوا: ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون أنه إن نزل عن الخلافة تركوه آمنا - وكان المصريون فيما ذكر، لما رجعوا إلى بلادهم وجدوا في الطريق بريدا يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إداوة كتابا على لسان عثمان فيه الامر بقتل طائفة منهم (1)، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان (2) وعلى جمله، فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلم الناس
__________
(1) نص الكتاب في الطبري وفيه أمر عبد الله بن سعد بحبس وجلد ابن عديس البلوي وعمرو بن الحمق وسودان بن حمران وعروة بن النباع الليثي وحلق رؤوسهم ولحاهم.
زاد ابن الاثير: وصلب بعضهم.
(الطبري 5 / 119 الكامل 3 / 168).
وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 211: اضرب عنق عمرو بن يزيد بن ورقاء صبرا.
وعلقمة بن عديس البلوي وكنانة بن بشر وعروة بن سهم الليثي فاقطع ايديهم وأرجلهم وإذا ماتوا فاصلبهم وأما محمد بن أبي بكر فاحتل في قتله.
(2) في الطبري ذكره: أبو الاعور السلمي.
وفي فتوح ابن الاعثم: غلام أسود، لم يسمه.

أمير المؤمنين في ذلك، فقال: بينة علي بذلك وإلا فوالله لا كتبت ولا أمليت، ولا دريت بشئ من ذلك، والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون في ذلك، وكذبه الكاذبون.
ويقال: إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنه ابن أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر، فأجابهم إلى ذلك، فلما وجدوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر، فأجابهم إلى ذلك، فلما رجعوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر وآخرين معه، فرجعوا، وقد حنقوا عليه حنقا شديدا، وطافوا بالكتاب على الناس، فدخل ذلك في أذهان كثير من الناس (1).
وروى ابن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار، أن الذي كان معه
هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الاعور السلمي، على جمل لعثمان، وذكر ابن جرير من هذه الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتبا مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضا.
واستمر عثمان يصلي بالناس في تلك الايام كلها، وهم أحقر في عينه من التراب، فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر، وفي يده العصا التي كان يعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ، كما قال الواقدي: حدثني أسامة ابن زيد عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فقال له جهجاه: قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها فبقي الجرح حتى أصابته الاكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين، حتى حصر فقتل.
قال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن الجهجاه الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة.
وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن ابن أبي (2) حبيبة قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين: إنك ركبت بهاتير (3) وركبناها معك، فتب نتب معك.
فاستقبل عثمان القبلة وشمر (4) يديه، قال ابن أبي حبيبة:
__________
(1) انظر الخبر في فتوح ابن الاعثم 3 / 210 وفيه كتاب عثمان بتولية محمد بن أبي بكر وعزل عبد الله بن سعد، والكتاب المنسوب إلى عثمان إلى واليه بمصر مع غلامه الذين أمسك به المصريون وهم عائدون من المدينة.
(2) في الطبري: أبي حبيبة.
(3) في الطبري وابن سعد: نهابير.
والنهابير: المهالك (القاموس).
(4) في الطبري: شهر يديه، وفي ابن سعد: رفع يديه فقال: اللهم إني استغفرك واتوب إليك.

فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.
ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح إليه: يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة، فأنزل فلندرجك في العباة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان.
فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم نزل عثمان.
قال ابن أبي حبيبة: وكان آخر يوم رأيته فيه.
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد.
قال: كنا أول من اجترأ على عثمان بالنطق السئ جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو في نادي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مر عثمان سلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون عليه ؟ رجل قال (1) كذا وكذا، ثم أقبل على عثمان فقال: والله لاطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه، فقال عثمان: أي بطانة ؟ فوالله لاتخير (2) الناس، فقال مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح تخيرته، منهم من نزل القرآن بذمه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، قال: فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح عن عبيد الله بن رافع بن نقاخة عن عثمان بن الشريد.
قال: مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره، ومعه جامعة، فقال: يا نعثل ! والله لاقتلنك ولاحملنك على قلوص جرباء، ولاخرجنك إلى حرة النار.
ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.
وذكر سيف بن عمر أن عثمان بعد أن صلى بالناس يوم الجمعة صعد المنبر فخطبهم أيضا فقال في خطبته: يا هؤلاء الغرباء (3) ! الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السئ إلا بالحسن، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: إنه في الكتاب.
فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي مريرة فأقعده وقال يا نطع (4)، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى
صرع من المنبر مغشيا عليه، فاحتمل وأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من الناس أن يساعدهم إلا محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر (5)، وعمار بن ياسر.
وأقبل علي وطلحة والزبير إلى عثمان في أناس يعودونه ويشكون إليه بثهم وما حل بالناس، ثم رجعوا إلى منازلهم، واستقبل جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وابن عمر، وزيد بن ثابت في المحاربة عن عثمان، فبعث إليهم يقسم عليهم لما كفوا أيديهم وسكنوا حتى يقضي الله ما يشاء.
__________
(1) في رواية الطبري عن الواقدي: فعل.
(2) في الطبري: إني لا أمخير.
(3) في الطبري: العدى.
(4) العبارة في الطبري: محمد بن أبي قتيرة فأقعده وقال فأفظع.
(5) في الطبري: محمد بن أبي حذيفة.

ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشيا عليه، واحتمل إلى داره وتفاقم الامر، وطمع فيه أولئك الاجلاف الاخلاط من الناس، وألجأوه إلى داره وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم، وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة، عن أمر آبائهم، منهم الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمرو، وصاروا، يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين.
وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلا في أوائل الامر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي بالناس في هذه الايام الغافقي بن حرب.
وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل أربعين يوما، حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيدا رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله
تعالى.
والذي ذكره ابن جرير أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله.
وفي صحيح البخاري عن (1).
وروى الواقدي أن عليا صلى أيضا، وصلى أبو أيوب، وصل بهم سهل بن حنيف، وكان يجمع بهم علي، وهو الذي صلى بهم بعد، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر وبالله المستعان.
قال الامام أحمد: حدثنا بهز ثنا أبو عوانة ثنا حصين عن عمرو بن جاوان قال: قال الاحنف انطلقنا حجاجا فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال: الناس في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال: فتخللتهم حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، قال: فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي، فقال: ههنا علي ؟ قالوا: نعم ! قال: ههنا الزبير ؟ قالوا: نعم ! قال: ههنا طلحة ؟ قالوا: نعم ! قال: ههنا سعد بن أبي وقاص ؟ قالوا: نعم ! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له فابتعته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني قد ابتعته، فقال: " اجعله في مسجدنا وأجره لك " قالوا: نعم ! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يبتاع بئر رومة " فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إني قد ابتعتها - يعني بئر رومة - قال: " اجعلها سقاية للمسلمين ولك أجرها " قالوا: نعم ! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة فقال: " من يجهز هؤلاء غفر الله
__________
(1) بياض بالاصل: وفي هامش النسخة المطبوعة قال: بياض بأصل المصرية وفي الرياض النضرة وتاريخ الخميس.
وروى عن عبد الله بن سلام انه قال: لما حصر عثمان ولى أبا هريرة على الصلاة.

له " فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا ؟ قالوا: اللهم نعم ! فقال: اللهم أشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف (1).
ورواه النسائي من حديث حصين وعنده إذ جاء رجل وعليه ملاءة صفراء.
طريق أخرى قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله (2) بن عمر القواريري، حدثني القاسم بن الحكم ابن أوس الانصاري حدثني أبو عبادة الدرقي الانصاري، من أهل الحديبية (3)، عن زيد بن أسلم عن أبيه.
قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال: أيها الناس ! أفيكم طلحة ؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس: أفيكم طلحة ؟ فسكتوا، ثم قال أيها الناس ! أفيكم طلحة ؟ فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان: ألا أراك ههنا ؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني ؟ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك ؟ فقال: نعم ! قال: فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني - رفيقي في الجنة (4) " فقال طلحة: اللهم نعم ! ثم انصرف، لم يخرجوه.
طريق أخرى قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي ثنا محمد بن عبد الله الانصاري، ثنا هلال بن إسحاق، عن الجريري، عن ثمامة بن جزء القشيري.
قال: شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعة، فقال ادعو لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة " ؟ فاشتريتها من خالص مالي
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 70.
(2) في مسند أحمد: عبيد الله.
(3) في مسند أحمد: 1 / 74: حدثني أبو عبادة الزرقي الانصاري، من أهل المدينة.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 74 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 91 وقال: روي النسائي بعضه
باسناد منقطع، ورواه عبد الله وأبو يعلى في الكبير والبزار في اسناد عبد الله والبزار أبو عبادة الزرقي وهو متروك واسقطه أبو يعلى من السند.

فجعلتها بين المسلمين وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.
ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، وله خير منها في الجنة " ؟ فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة ؟ قالوا: اللهم نعم ! وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعباس الدوري وغير واحد، أخرجه النسائي عن زياد بن أيوب كلهم عن سعيد بن عامر عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري عن أبي مسعود الجريري به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد ثنا القاسم - يعني ابن المفضل - ثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد.
قال: دعا عثمان رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم عمار بن ياسر، إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر قريشا على الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم.
فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لاعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم.
فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه - يعني عمارا - أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخذ بيدي يمشي في البطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون " فقال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اصبر، ثم قال: اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت " (1) تفرد به أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان سمعت معاوية (2) بن سلم أن سلمة يذكر عن مطرف عن نافع عن ابن عمر أن عثمان أشرف على أصحابه وهو محصور، فقال: على م
تقتلونني ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدا فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل "، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
ورواه النسائي عن أحمد بن الازهر عن إسحاق بن سليمان به.
__________
(1) أخرج الحديث الامام أحمد في مسنده 1 / 62.
(2) في مسند أحمد، مغيرة.
انظر الحديث فيه ج 1 / 63.

طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنت مع عثمان في الدار وهو محصور، قال: وكنا ندخل مدخلا إذا دخلناه سمعنا كلام من على البلاط، قال: فدخل عثمان يوما لحاجته فخرج إلينا منتقعا لونه، فقال: إنهم ليتوا عدوني بالقتل آنفا.
قال: قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: ولم يقتلونني ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس " فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلا بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفسا، فبم يقتلونني (1) ؟.
وقد رواه أهل السنن الاربعة من حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد حدثني أبو أسامة.
زاد النسائي وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنا مع عثمان، فذكره.
وقال الترمذي: حسن.
وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا قطن ثنا يونس - يعني ابن أبي إسحاق - عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: " اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " وأنا معه، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال: " هذه يدي وهذه يد عثمان ".
ووضع يديه إحداهما على الاخرى فبايع لي فانتشد له رجال.
ثم قال: قال: أنشد بالله من شهد رسول الله قال: " من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد بنيت له بيتا في الجنة " فابتعته من مالي فوسعت به المسجد.
فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال: " من ينفق اليوم نفقة متقبلة " ؟ فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي فأبحتها ابن السبيل قال: فانتشد له رجال (2).
ورواه النسائي عن عمران بن بكار عن حطاب بن عثمان بن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن جده أبي إسحاق السبيعي به.
__________
(1) الحديث أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 61، 63، 70، 382، 444، 465، 6 / 58، 214 وابن سعد في الطبقات 3 / 67.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 59.

وقد ذكر ابن جرير أن عثمان رضي الله عنه لما رأي ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الامصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام، وإلى ابن عامر بالبصرة وإلى أهل الكوفة، يستنجدهم في بعض جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاوية مسلمة بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشا، وأهل البصرة جيشا، فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان رضي الله عنه كما سنذكره.
وذكر ابن جرير أن عثمان استدعى الاشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره.
فأشرف على الناس، فقال له عثمان: يا أشتر ماذا يريدون ؟ فقال: إنهم يريدون منك إما أن تعزل نفسك عن الامرة، وإما أن
تفتدي من نفسك من قد ضربته، أو جلدته، أو حبسته، وإما أن يقتلوك.
وفي رواية أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الامصار ويولي عليها من يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سببا في قتل امرئ مسلم وما فعل من الامر ما يستحق بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن.
وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصا قمصه الله إياه، ويترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الامر بسبب ذلك الامر كما ظنه فسدت الامة ووقع الهرج، وقال لهم فيما قال، وأي شئ إلي من الامر إن كنت كلما كرهتم أميرا عزلته، وكلما رضيتم عنه وليته ؟ وقال لهم فيما قال: والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعا أبدا، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدثني النعمان بن بشير قال: كتب معي عثمان إلى عائشة كتابا فدفعت إليها كتابه فحدثني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: " إن الله لعله يقمصك قميصا.
فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات " قال النعمان: فقلت يا أم المؤمنين ! فأين كنت عن هذا الحديث ؟ فقالت: يا بني والله أنسيته (1).
وقد رواه الترمذي من حديث الليث عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر عن النعمان عن عائشة به.
ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
ورواه ابن ماجه من حديث الفرج بن فضالة عن ربيعة بن يزيد عن النعمان، فأسقط عبد الله بن عامر.
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعو لي بعض أصحابي، قلت أبو بكر ؟ قال: لا، قلت عمر ؟
__________
(1) الحديث في مسند أحمد ج 6 / 75.

قال: لا ؟ قلت ابن عمك علي ؟ قال: لا ! قالت قلت عثمان ؟ قال: نعم ! فلما جاء قال: تنحى فجعل يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل ؟ قال: لا ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي عليه (1) " تفرد به أحمد.
وقال محمد بن عائد الدمشقي: حدثنا الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفقيمي يقول: قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم ؟ فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الاسلام، ولقد أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم توفيت فأنكحني ابنته الاخرى، ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية.
ورواه يعقوب بن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن لهيعة، قال: لقد اختبأت عند ربي عشرا، فذكرهن.
فصل كان الحصار مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة، فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والانصار - وكانوا قريبا من سبعمائة، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير، وقال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر.
فبرد القتال من داخل، وحمي من خارج، واشتد الامر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لامر الله رجاء موعوده، وشقا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وليكون خيرا بني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين) * [ المائدة: 29 ] وروى أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج، الحسن بن علي وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.
وروى موسى بن عقبة عن سالم أو نافع أن ابن
__________
(1) الحديث في مسند أحمد ج 6 / 52 وأخرجه ابن سعد عن أبي سهلة مولى عثمان من طريق حماد بن اسامة 3 / 66.
وفيه قال أبو سهلة: وانهم يرون انه ذلك اليوم، يوم حصاره في الدار.

ولم يلبس سلاحه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم الدار ويوم نجرة الحروري.
قال أبو جعفر الداري أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر: أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا عثمان افطر عندنا " فأصبح صائما وقتل من يومه، وقال ؟ ؟ بن عمر عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن رجل قال دخل عليه كثير بن الصلت فقال: يا أمير المؤمنين اخرج فاجلس بالفناء فيرى الناس وجهك فإنك إن فعلت ارتدعوا.
فضحك وقال: ؟ ير رأيت البارحة وكأني دخلت على نبي الله وعنده أبو بكر وعمر، فقال: " ارجع فإنك مفطر عندي غدا " ثم قال عثمان: ولن تغيب الشمس والله غدا أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة، قال: فوضع سعد وأبو هريرة السلاح وأقبلا حتى دخلا على عثمان.
وقال موسى بن عقبة: ؟ ني أبو علقمة - مولى لعبد الرحمن بن عوف - حدثني ابن الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان ؟ ؟ يوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم.
قال: قلنا ؟ حك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي، " فقال: إنك شاهد معنا الجمعة ".
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، ؟ لف بن تميم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، ثنا عبد الله بن عمير حدثني كثير الصلت قال: دخلت على عثمان وهو محصور، فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولا يومي ؟ ؟.
قال: قلت ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين، قال: ثم أعاد علي فقلت وقت لك في
؟ ؟ اليوم شئ أو قيل لك شئ ؟ قال: لا ! ولكني سهرت في ليلتي هذه الماضية، فلما كانت وقت ؟ حر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: يا عثمان الحقنا لا تحبسنا، فإنا ننتظرك " قال: فقتل من يومه ذلك.
وقال ابن أبي الدنيا ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فضالة، عن مروان بن أبي أمية عن عبد الله بن سلام.
قال: أتيت عثمان لاسلم عليه وهو محصور، فدخلت عليه فقال: مرحبا ؟ ؟، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في هذه الخوخة - قال: وخوخة في البيت - فقال: " يا عثمان ؟ ؟ وك قلت: نعم ! قال: عطشوك ؟ قلت: نعم ! فأدلى دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت ؟ ؟ ؟ إني لاجد برده بين ثديي وبين كتفي، وقال لي: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت ؟ ؟ ؟، فاخترت أن أفطر عنده " فقتل ذلك اليوم.
وقال محمد بن سعد: أنا عفان بن مسلم، ثنا وهيب، ثنا داود، عن زياد بن عبد الله، ؟ م هلال بنت وكيع عن امرأة عثمان - قال: وأحسبها بنت الفرافصة - قالت: أعفى عثمان مستيقظ قال: إن القوم يقتلوني، قلت: كلا يا أمير المؤمنين.
قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فقالوا: أفطر عندنا الليلة، أو إنك مفطر عندنا الليلة (1).
وقال الهيثم بن
__________
(1) ؟ ؟ بقات ابن سعد ج 3 / 75.

كليب: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني ثنا شبابة ثنا يحيى بن أبي راشد مولى عمر بن حريث عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي.
وعقبة بن أسد عن النعمان بن بشير عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية - امرأة عثمان - قالت: لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان فيه قتله صائما، فلما كان إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه، وقالوا: دونك ذلك الركي (1).
وركي في الدار الذي ؟ فيه النتن - قالت: فلم يفطر فرأيت جارا على أحاجير متواصلة - وذلك في السحر - فسألتهم العذب، فأعطوني كوزا من ماء، فأتيته فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت: فنظر في الفجر قد طلع فقال: إني أصبحت صائما، قالت: فقلت ومن أين أكلت ؟ ولم أر أحدا ؟ ؟
بطعام ولا شراب ؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ؟ ؟ فقال: اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد فشربت حتى نهلت، ثم قال: إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا، قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
وقال أبو يعلي الموصلي وعبد الله بن الامام أحمد: حدثني عثمان بن أبي شيبة ثنا يونس بن يعفور العبدي عن أبيه عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان أعتق عشرين مملوكا ودعا بسراويل فشدها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر، وأنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين ؟ ؟ فقتل وهو بين يديه.
قلت: إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا ؟ ؟ فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحي منه ملائكة السماء، كما نطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع ؟ ؟ يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكف يده عن القتال، وأمر الناس و ؟ ؟ عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه، ولكن كان أمر الله قدرا ؟ ؟ مقدورا.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير.
وقال ؟ ؟ الاصمعي عن العلاء بن الفضل عن أبيه.
قال: لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صند ؟ ؟ مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: " هذه وصية عثمان.
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى ".
وروى ابن عساكر أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه: أرى الموت لا يبقى عزيزا ولم يدع * لعاذ ملاذا في البلاد ومرتعا
__________
(1) الركي: بئر الماء.

وقال أيضا: يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال الموت في شماريخها العلا صفة قتله رضي الله عنه وقال خليفة بن خياط: حدثنا ابن علية ثنا ابن عون (1) عن الحسن قال أنبأني رباب.
قال: بعثني عثمان فدعوت له الاشتر فقال: ما يريد الناس ؟ قال: ثلاث ليس من إحداهن بد، قال: ما هن ؟ قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقتص من نفسك، فإن أبيت فإن القوم قاتلوك.
فقال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لاخلع سربالا سربلنيه الله، وأما أن أقتص لهم من نفسي، فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعا، ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا.
قال: وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، فأخذ بلحيته فعال بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك، قال: أرسل لحيتي يا بن أخي، قال: فأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه - يعني أشار إليه - فقام إليه بمشقص فوجى به رأسه.
قلت: ثم مه ؟ قال: ثم تعاوروا (2) عليه حتى قتلوه.
قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله عن العيص بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد - وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان - أنها كانت في الدار ودخل محمد ابن أبي بكر يأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه، فقال مهلا يا بن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحييا نادما، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلا حتى غلبوه، فدخلوا وخرج محمد راجعا.
فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف، ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه، وقالت: يا بنت شيبة أيقتل أمير المؤمنين ؟ وأخذت السيف، فقطع الرجل يدها (3)، وانتهبوا متاع الدار ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله
ونحاه عن المصحف وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن ولا مضجع كافر أكرم.
قال: والله ما تركوا في داره شيئا حتى الاقداح إلا ذهبوا به.
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: عوف تحريف.
(2) في الطبري وابن سعد 3 / 73: تغاووا عليه.
(3) في رواية الطبري والكامل: أصابع يدها.

وروى الحافظ ابن عساكر أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله تسوروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم، فضربوه حتى غشي عليه وصاح النسوة فانزعروا وخرجوا ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال: على أي دين أنت يا نعثل ؟ قال: على دين الاسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين، فقال: غيرت كتاب الله، فقال: كتاب الله بيني وبينكم، فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: * (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) * وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: يا بن أخي ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.
وجاء رجل من كندة من أهل مصر، يلقب حمارا، ويكنى بأبي رومان.
وقال قتادة: اسمه رومان، وقال غيره: كان أزرق أشقر، وقيل كان اسمه سودان بن رومان المرادي.
وعن ابن عمر قال: كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا قال ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها، ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه.
والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها.
فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
وروى ابن عساكر عن ابن عون أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبيه (1)، وضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التستري قالا: ثنا محمد بن خالد بن خداش، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا مبارك عن الحسن.
قال: " حدثني سياف عثمان أن رجلا من الانصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا بن أخي فلست بقاتلي، قال: وكيف علمت ذلك ؟ قال: لانه أتى بك النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة.
ثم دخل عليه رجل آخر من الانصار فقال له مثل ذلك سواء.
ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي.
قال: وما يدريك يا نعثل ؟ قال: لانه أتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة، فخريت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده ".
هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة.
وثبت من غير وجه
__________
(1) في رواية عبد الرحمن بن الحارث عن ابن عون: خر لجبينه.
وفي فتوح ابن الاعثم: سقط على قفاه.

أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى * (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * [ البقرة: 137 ] ويروى أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضا حين دخلوا عليه، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن.
وروى ابن عساكر أنه لما طعن قال: بسم الله توكلت على الله، فلما قطر الدم قال: سبحان الله العظيم.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه بأسانيده أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر، فيه الامر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان، متأولا قوله تعالى * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو
ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم) * [ المائدة: 33 ] وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المفسدين في الارض، ولا شك أنهم كذلك، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزور على خطه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعيره، بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين (1)، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله، ولهذا لما وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنوا أنه من عثمان، أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤوس الصحابة، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، حتى ظن بعض الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه، فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلف بالله العظيم، وهو الصادق البار الراشد، أنه لم يكتب هذا الكتاب ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به، فقالوا له: فإن عليه خاتمك.
فقال: إن الرجل قد يزور على خطه وخاتمه قالوا: فإنه مع غلامك وعلى جملك.
فقال: والله لم أشعر بشئ من ذلك.
فقالوا له - بعد كل مقالة - إن كنت قد كتبته فقد خنت، وإن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك، وإما لعجزك، وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الامر، لا يضره ذلك لانه قد يكون رأى ذلك مصلحة للامة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الامام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد اطلع عليه وزور على لسانه ؟ وليس هو بمعصوم بل الخطأ والغفلة جائزان عليه رضي الله عنه، وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة، ظلمة مفترون، ولهذا صمموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل، ولهذا خاطبهم بما
__________
(1) وكان المصريون قد انصرفوا ومعهم محمد بن أبي بكر أميرا عليهم ومعه كتاب بذلك من عثمان.
(انظر نصه في فتوح ابن الاعثم 2 / 210 ونص كتاب عثمان إلى ابن أبي سرح عامله على مصر في هذا الموضوع).

خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة " وذكر أنه لم يقتل نفسا، ولا ارتد بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مس فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية بعد أن كتب بها المفصل.
ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولاولي الامر منهم، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتد عليه الحال، وضاق المجال، ونفذ ما عنده من الماء، فاستغاث بالمسلمين في ذلك فركب علي بنفسه وحمل معه قربا من الماء فبالجهد حتى أوصلها إليه (1) بعد ما ناله من جهلة أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ، وكان قد زجرهم أتم الزجر، حتى قال لهم فيما قال: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار.
وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا ما جاء بك ؟ فقالت: إن عنده وصايا بني أمية، لايتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندت بها، وكادت أو سقطت عنها، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جدا، ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما وقع هذا أعظمه الناس جدا، ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك، فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الاذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج.
واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على الحج عبد الله بن عباس، فقال له عبد الله بن عباس: إن مقامي على بابك أحاجف عنك أفضل من الحج.
فعزم
عليه، فخرج بالناس إلى الحج واستمر الحصار بالدار حتى مضت أيام التشريق ورجع اليسير من الحج، فأخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين.
وبلغتهم أيضا أن معاوية قد بعث جيشا مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا
__________
(1) في مروج الذهب: فبلغ عليا طلبه للماء فبعث إليه بثلاث قرب ماء فما وصل إليه ذلك.
وقال ابن الاعثم في الفتوح: 2 / 219 فأرسل علي ثلاث قرب من الماء مع نفر من بني هاشم فلم يتعرض لهم أحد حتى دخلوا على عثمان وأوصلوا إليه الماء، فشرب وشرب من كان معه في الدار.

القعقاع بن عمرو في جيش، وأن أهل البصرة بعثوا مجاشعا في جيش، فعند ذلك صمموا على أمرهم وبالغوا فيه، وانتهزوا الفرصة بقلة الناس وغيبتهم في الحج، وأحاطوا بالدار، وجدوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار، كدار عمرو بن حزم وغيرها، وحاجف الناس عن عثمان أشد المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالا شديدا، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم، وجعل أبو هريرة يقول: هذ يوم طاب في الضراب فيه.
وقتل طائفة من أهل الدار وآخرون من أولئك الفجار، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي ومروان بن الحكم فقطع إحدى علباويه فعاش أوقص حتى مات.
ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان، زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الاخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الاسلمي، في أناس وقت المعركة، ويقال إنه انهزم أصحاب عثمان ثم رجعوا.
ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران وفزع عثمان إلى الصلاة وافتتح سورة طه، وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده، وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته وجلس وبين يديه المصحف، وجعل يتلو هذه الآية * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل) * [ ال عمران: 173 ] فكان أول من دخل عليه رجل يقال له الموت الاسود فخنقه خنقا شديدا حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه، فتركه وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ند وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها: وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية * (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * [ البقرة: 137 ] ثم جاء آخر شاهرا سيفه فاستقبلته نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها.
ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان وفي رواية أن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله فاستدار المصحف ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه.
وسالت عليه الدماء، ثم تقدم سودان بن حمران بالسيف فمانعته نائلة فقطع أصابعها فولت فضرب عجيزتها بيده وقال: إنها لكبيرة العجيزة.
وضرب عثمان فقتله، فجاء غلام عثمان فضرب سودان فقتله، فضرب الغلام رجل يقال له قترة (1) فقتله.
وذكر ابن جرير أنهم أرادوا حز رأسه بعد قتله، فصاح النساء وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه نائلة وأم البنين، وبناته، فقال ابن عديس: اتركوه، فتركوه.
ثم مال هؤلاء الفجرة على
__________
(1) في الطبري والكامل والمسعودي: قتيرة.

ما في البيت فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم: أيحل لنادمه ولا يحل لنا ماله، فانتهبوه ثم خرجوا فأغلقوا الباب على عثمان وقتيلين معه، فلما خرجوا إلى صحن الدار وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرون على شئ إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له كلثوم التجيبي، ملاءة نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقتل الغلام أيضا، ثم تنادى القوم: أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظة بيت المال فقالوا: يا قوم النجا النجا، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما
قاموا لاجله وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شئ كثير جدا.
فصل ولما وقع هذا الامر العظيم، الفظيع الشنيع، أسقط في أيدي الناس، فأعظموه جدا، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا، وأشبهوا من تقدمهم ممن قص الله علينا خبرهم في كتابه العزيز، من الذين عبدوا العجل.
في قوله تعالى * (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) * [ الاعراف: 149 ].
ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ترحم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال: تبا لهم، ثم تلا قوله تعالى * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون.
فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) * [ يس: 49 ] وبلغ عليا قتله فترحم عليه.
وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى * (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) * [ الحشر: 16 ] ولما بلغ سعد ابن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه * (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * [ الكهف: 103 ] ثم قال سعد: اللهم اندمهم ثم خذهم.
وقد أقسم بعض السلف بالله إنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا.
رواه ابن جرير.
وهكذا ينبغي أن يكون لوجوه (منها) دعوة سعد المستجابة كما ثبت في الحديث الصحيح وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث قال: الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي.
وكانت امرأة منظور ابن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالمرج (1) سمعنا رجلا يغني تحت الليل:
__________
(1) في الطبري: العرج.
والعرج عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج (معجم البلدان).

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر ولما رجع الحج وجدوا عثمان رضي الله عنه قد قتل، وبايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل، رجعن إلى مكة فأقمن بها نحوا من أربعة أشهر كما سيأتي.
فصل كانت مدة حصار عثمان رضي الله عنه في داره أربعين يوما على المشهور، وقيل كانت بضعا وأربعين يوما.
وقال الشعبي: كانت ثنتين وعشرين ليلة.
ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف.
قال سيف بن عمر عن مشايخه: في آخر ساعة منها، ونص عليه مصعب بن الزبير وآخرون.
وقال آخرون ضحوة نهارها، وهذا أشبه، وكان ذلك لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة على المشهور، وقيل في أيام التشريق، رواه ابن جرير: حدثني أحمد بن زهير ثنا أبو خيثمة ثنا وهب بن جرير (1) سمعت يونس عن يزيد عن الزهري.
قال: قتل عثمان فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق، وقال بعضهم قتل يوم الجمعة لثلاث (2) خلت من ذي الحجة.
وقيل قتل يوم النحر، حكاه ابن عساكر ويستشهد له بقول الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا قال: والاول هو الاشهر، وقيل إنه قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور، وقيل سنة ست وثلاثين، قال مصعب بن الزبير وطائفة: وهو غريب.
فكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما (3)، لانه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين.
فأما عمره رضي الله عنه فإنه جاوز ثنتين وثمانين سنة، وقال صالح بن كيسان: توفي عن ثنتين وثمانين سنة وأشهر، وقيل: أربع وثمانون سنة، وقال قتادة: توفي عن ثمان وثمانين أو تسعين سنة.
وفي رواية عنه توفي عن ست وثمانين سنة.
وعن هشام بن الكلبي: توفي عن خمس وسبعين سنة، وهذا غريب جدا، وأغرب منه ما رواه سيف بن عمر عن مشايخه، وهم محمد
وطلحة وأبو عثمان وأبو حارثة أنهم قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة.
__________
(1) زاد الطبري في روايته: قال سمعت أبي قال: (2) في الطبري: لثماني عشرة ليلة، وقال ابن الاعثم: قتل يوم الخميس لثماني عشرة خلت من ذي الحجة 2 / 241 وفي مروج الذهب ليلة الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة 2 / 382.
(3) في مروج الذهب: 2 / 366: إلا ثمانية أيام.
وقال ابن الاعثم: كان مقتله على رأس احدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما وذكر ابن عبد البر عن الواقدي يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس وثلاثين، وعن الواقدي أيضا قال: لليلتين بقيتا من ذي الحجة (هامش الاصابة 3 / 76 - 77).

وأما موضع قبره فلا خلاف أنه دفن بحش كوكب - شرقي البقيع - وقد بني عليه زمان بني أمية قبة عظيمة وهي باقية إلى اليوم.
قال الامام مالك رضي الله عنه: بلغني أن عثمان رضي الله عنه كان يمر بمكان قبره من حش كوكب فيقول: إنه سيدفن ههنا رجل صالح.
وقد ذكر ابن جرير أن عثمان رضي الله عنه بقي بعد أن قتل ثلاثة أيام لا يدفن.
قلت: وكأنه اشتغل الناس عنه بمبايعة علي رضي الله عنه حتى تمت، وقيل إنه مكث ليلتين، وقيل بل دفن من ليلته، ثم كان دفنه ما بين المغرب والعشاء خيفة من الخوارج، وقيل بل استؤذن في ذلك بعض رؤسائهم.
فخرجوا به في نفر (1) قليل من الصحابة، فيهم حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الاسلمي، وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وطلحة والزبير، وعلي بن أبي طالب وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان.
وهذا مجموع من كلام الواقدي وسيف بن عمر التميمي - وجماعة من خدمه حملوه على باب بعد ما غسلوه وكفنوه.
وزعم بعضهم أنه لم يغسل ولم يكفن، والصحيح الاول.
وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل الزبير بن العوام، وقيل حكيم بن حزام، وقيل مروان بن الحكم، وقيل المسور بن مخرمة وقد عارضه بعض الخوارج وأرادوا رجمه،
وإلقاءه عن سريره، وعزموا على أن يدفن بمقبرة اليهود بدير سلع، حتى بعث علي رضي الله عنه إليهم من نهاهم عن ذلك وحمل جنازته حكيم بن حزام، وقيل مروان بن الحكم، وقيل المسور بن مخرمة، وأبو جهم بن حذيفة ونيار بن مكرم، وجبير بن مطعم، وذكر الواقدي أنه لما وضع ليصلى عليه - عند مصلى الجنائز - أراد بعض الانصار أن يمنعهم من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته ثم قالوا: لا يدفن في البقيع ولكن ادفنوه وراء الحائط، فدفنوه شرقي البقيع تحت نخلات هناك.
وذكر الواقدي أن عمير بن ضابي نزا على سريره وهو موضوع للصلاة عليه فكسر ضلعا من أضلاعه وقال: أحبست ضابيا حتى مات في السجن.
وقد قتل الحجاج فيما بعد عمير بن ضابي هذا وقال البخاري في التاريخ: حدثنا موسى بن إسماعيل عن عيسى بن منهال ثنا غالب عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي، فقلت: يا عبد الله ما سمعت أحدا يقول ما تقول، قال: كنت أعطيت لله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته وقد يبست يميني.
قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.
ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار، وهما صبيح
__________
(1) في طبقات ابن سعد 3 / 79: في ستة عشر رجلا.
وقال الواقدي: حمله أربعة رجال: جبير بن مطعم وحكيم بن حزام وأبو حذيفة بن حذيفة ونيار بن مكرم وصلى عليه جبيرا، قال ابن سعد وهذا أثبت.

ونجيح، رضي الله عنهما، فدفنا إلى جانبه بحش كوكب، وقيل إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط فأكلتهما الكلاب، وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله حتى اتصلت بمقابر المسلمين.
ذكر صفته رضي الله عنه
كان رضي الله عنه حسن الوجه دقيق (1) البشرة، كبير اللحية، معتدل القامة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل كان في وجهه شئ من آثار الجدري، رضي الله عنه.
وعن الزهري: كان حسن الوجه والثغر، مربوعا، أصلع، أروح الرجلين.
يخضب بالصفرة وكان قد شد أسنانه بالذهب وقد كسى ذراعيه الشعر.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عتبة.
قال: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل، ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ومائة ألف دينار (2)، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها، بئر أريس، وخيبر، ووادي القرى، فيه مائتا ألف دينار.
[ وبئر رومة كان اشتراها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسبلها ] (3).
فصل قال الاعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق شبابة عن حفص بن مورق الباهلي، عن حجاج بن أبي عمار الصواف عن زيد بن وهب عن حذيفة.
قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه، آن به في قبره.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره: أنا محمد ابن سعد أنا عمرو بن عاصم الكلابي ثنا أبو الاشهب حدثني عوف عن محمد بن سيرين أن حذيفة
__________
(1) في رواية الواقدي: رقيق البشرة.
(2) في رواية ابن سعد عن الواقدي: خمسون ومائة ألف دينار 3 / 76 وقال في مروج الذهب: كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف خيلا كثيرا وإبلا.
2 / 367.
(3) سقطت من رواية الواقدي، وزادها في عقد الجمان ونسبها لابن كثير.

ابن اليمان قال: اللهم إن كان قتل عثمان بن عفان خيرا.
فليس لي فيه نصيب، وإن كان قتله شرا فأنا منه برئ، والله لئن كان قتله خيرا ليحلبنه لبنا، وإن كان قتله شرا ليمتص به دما (1).
وقد ذكره البخاري في صحيحه.
طريق أخرى عنه قال محمد بن عائذ: ذكر محمد بن حمزة حدثني أبو عبد الله الحراني أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ففتح عينيه فسألهما فقالا خيرا، فقال: شيئا تسرانه دوني ما هو بخير، قال: قتل الرجل - يعني عثمان - قال: فاسترجع ثم قال: اللهم إني كنت من هذا الامر بمعزل، فإن كان خيرا فهو لمن حضره وأنا منه برئ، وإن كان شرا فهو لمن حضره وأنا منه برئ، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد لله الذي سبق بي الفتن، قادتها وعلوجها الخطى، من تردى بغيره فشبع شحما وقبل عمله.
وقال الحسن بن عرفة: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي موسى الاشعري: قال لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الامة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الامة دما، وهذا منقطع.
وقال محمد بن سعد: أنا عارم (2) بن الفضل أنا الصعق بن حزن ثنا قتادة عن زهدم الجرمي.
قال: خطب ابن عباس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.
وقد روي من غير هذا الوجه عنه.
وقال الاعمش وغيره عن ثابت بن عبيد عن أبي جعفر الانصاري.
قال: لما قتل عثمان جئت عليا وهو جالس في المسجد وعليه عمامة سوداء فقلت له: قتل عثمان، فقال: تبا لهم آخر الدهر.
وفي رواية: خيبة لهم.
وقال أبو القاسم البغوي: أنبأنا علي بن الجعد أنا شريك عن عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلى.
قال: سمعت عليا وهو بباب المسجد أو عند أحجار الزيت (3) رافعا صوته يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
وقال أبو هلال عن قتادة عن الحسن.
قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له (4)، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ.
وروى الربيع بن بدر عن سيار بن سلامة عن أبي العالية: أن عليا دخل
على عثمان فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به.
وقال الثوري وغيره عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل عثمان: والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت.
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد 3 / 82.
(2) من ابن سعد 3 / 80 وفي الاصل حازم تحريف (3) أحجار الزيت: موضع بالمدينة كان فيه أحجار علا عليها الطريق فاندفنت.
(4) في فتوح ابن الاعثم: عرف الضبع، سمي بالضبع لما عليه من الحجارة التي كانت منضدة تشبيها لها بالضبع وعرفها لان للضبع عرفا من رأسها إلى ذنبها.
(معجم البلدان) وقيل موضع قبل حرة بني سليم.

ورواه غير ليث عن طاوس عن ابن عباس عن علي نحوه.
وقال حبيب بن أبي العالية عن مجاهد عن ابن عباس.
قال: قال علي إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني، وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه (1).
وقال محمد ابن يونس الكديمي: ثنا هارون بن إسماعيل ثنا قرة بن خالد عن الحسن عن قيس بن عباد.
قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لاستحيي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لاستحيي ممن تستحي منه الملائكة " (2) وإني لاستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الارض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة فقلت: اللهم إني أشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت.
فلما قالوا: أمير المؤمنين كان صدع قلبي وأسكت نفرة من ذلك وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر يجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالا ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه.
ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ولله الحمد والمنة.
وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: إني لارجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر
متقابلين) * [ الحجر: 47 ] وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: * (كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) * [ المائدة: 93 ] وفي رواية أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهورا، وأتقانا للرب عز وجل.
وروى يعقوب بن سفيان عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مجالد عن عمير بن رودى (كذا) أبي كثير.
قال: خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته فنزل فقال: إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة، أحمر وأبيض وأسود، ومعهم في أجمة أسد، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران، فقال للاسود والاحمر: إن هذا الابيض قد فضحنا في هذه الاجمة فخليا عنه حتى آكله، فخليا عنه فأكله، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر فقال للاحمر: إن هذا الاسود قد فضحنا في هذه الاجمة، وإن لوني على لونك فلو خليت عنه أكلته فخلى عنه الاحمر فأكله، ثم قال للاحمر: إني آكلك، فقال: دعني حتى أصيح ثلاث صيحات، فقال دونك، فقال: ألا إني إنما أكلت يوم أكل البيض ثلاثا فلو أني نصرته لما أكلت ثم قال علي: وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان، ولو أني نصرته لما وهنت قالها ثلاثا.
وروى ابن عساكر من طريق محمد بن هارون الحضرمي عن سويد بن عبد الله القشيري القاضي عن ابن مهدي عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب.
قال: كانت المرأة تجئ في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل وقرها وتقول: اللهم
__________
(1) الخبر في طبقات ابن سعد 3 / 82.
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة ح (26) والامام أحمد في المسند 1 / 71، 6 / 63، 155، 288.

بدل، اللهم غير.
فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان رضي الله عنه: قلتم بدل فقد بدلكم * سنة حرى وحربا كاللهب ما نقمتم من ثياب خلفة * وعبيد وإماء وذهب قال: وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدرا، وكان ممن جانب عثمان - فلما قال: والله ما أردنا قتله، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا
أضحك حتى ألقاك (1)، وقال محمد بن سعد أنا عبد الله بن إدريس أنا إسماعيل بن أبي خالد أنا قيس بن أبي حازم عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
قال: لقد رأيتني وأن عمر موثقي وأخته الاسلام، ولو أرفض أحد فيما صنعتم بإبن عفان لكان حقيقا.
وهكذا رواه البخاري في صحيحه وروى محمد بن عائذ عن إسماعيل بن عباس عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير.
قال سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر: قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيه عنزان.
فقال: سلام أجل ! إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن ينتطح فيه الرجال بالسلاح، و لنقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد.
وقال ليث عن طاوس.
قال: قال سلام: يحكم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل.
وقال أبو عبد الله المحاملي: ثنا أبو الاشعث حزم بن أبي حزم سمعت أبا الاسود يقول سمعت أبا بكرة يقول: لان أخر من السماء إلى الارض أحب إلي من أن أشرك في قتل عثمان.
وقال أبو يعلى: ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ثنا محمد بن عباد الهباني ثنا البراء بن أبي فضال ثنا الحضرمي عن أبي مريم رضيع الجارود.
قال: كنت بالمدينة فقام الحسن بن علي خطيبا فقال: أيها الناس ! رأيت البارحة في منامي عجبا، رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام عند قائمة من قوائم العرش، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر، ثم جاء عثمان فكان بيده - دم رأسه - فقال: رب سل عبادك فيم قتلوني ؟ فانبعث من السماء ميزابان من دم في الارض، قال لعلي ألا ترى ما يحدث به الحسن ؟ ! فقال: حدث بما رأى.
ورواه أبو يعلى أيضا عن سفيان بن عن جميع بن عمير عن عبد الرحمن بن مجالد عن حرب العجلي: سمعت الحسن بن علي يقول كنت لاقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت العرش ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بالعرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله، وكان عمر واضعا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر، ورأيت دما دونهم، فقلت: ما هذا ؟ فقيل: دم عثمان يطلب الله به.
ثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا سلام بن مسكين عن وهب بن شبيب عن زيد بن صوحان أنه قال: يوم قتل عثمان نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة، وقال محمد بن سيرين
قالت عائشة: مصصتموه مص الاناء ثم قتلتموه ؟ وقال خليفة بن خياط: ثنا أبو قتيبة ثنا يونس
__________
(1) الخبر رواه ابن سعد من طريق سليمان بن حرب 3 / 81.

أبي إسحاق، عن عون بن عبد الله بن عتبة.
قال: قالت عائشة: غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالعقب المصفى قتلتموه.
وقال أبو معاوية عن الاعمش، عن خيثمة عن مسروق.
قال: قالت عائشة حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه.
وفي رواية: ثم قربتموه ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش ؟ فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الاعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.
وهذا إسناد صحيح إليها.
وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حزم القطعي، ثنا أبو الاسود بن سوادة أخبرني طلق بن حسان قال: قال قتل عثمان فتفرقنا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نسألهم عن قتله فسمعت عائشة تقول: قتل مظلوما لعن الله قتلته.
وروى محمد بن عبد الله الانصاري عن أبيه عن ثمامة عن أنس.
قال: قالت أم سليم لما سمعت بقتل عثمان: رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دما.
وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله أنكم مثلهم أو أعظم جرما أما مررتم ببلاد ثمود ؟ قالوا: نعم ! قال: فأشهد أنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته.
وقال ابن علية عن يونس ابن عبيد عن الحسن.
قال: لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الامة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الامة دما.
وقال أبو جعفر الباقر: كان قتل عثمان على غير وجه الحق (1).
وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه
قال مجالد عن الشعبي: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك: فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لاهل الدار لا تقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله صب عليهم * العداوة والبغضاء بعد التواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده * عن الناس إدبار النعام الجوافل (2)
__________
(1) ذكر ابن سعد في طبقاته ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في قتله بأسانيد وطرق كثيرة ج 3 / 80 وما بعدها (2) في الاستيعاب: السحاب الحوافل

وقد نسب هذه الابيات سيف بن عمر إلى أبي المغيرة الاخنس بن شريق (1).
وقال سيف بن عمر: وقال حسان بن ثابت: ماذا أردتم من أخي الدين باركت * يد الله في ذاك الاديم المقدد قتلتم ولي الله في جوف داره * وجئتم بأمر جائر غير مهتد فهلا رعيتم ذمة الله بينكم * وأوفيتم بالعهد عهد محمد ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق * وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا (2) * على قتل عثمان الرشيد المسدد وقال ابن جرير: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا مستحقبي حلق الماذي قد سفعت (3) * فوق المخاطم بيض زان أبدانا ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا (4) صبرا فدى لكم أمي وما ولدت * وقد ينفع الصبر في المكروه أحيانا فقد رضينا (5) بأرض الشام نافرة * وبالامير وبالاخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حيا وما سميت حسانا
لتسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا (6) يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفانا [ وهو القائل أيضا: إن تمس دار ابن أروى منه خاوية * باب صريع وباب محرق خرب فقد يصادف باغي العرف حاجته * فيها ويأوي إليها المجد والحسب (7)
__________
(1) وقال مصعب هي لحسان وقال عمر بن شبة هي للوليد بن عقبة بن أبي معيط (الاستيعاب).
(2) في الاستيعاب: تعاونوا.
(3) في الطبري والكامل وابن الاعثم: مستشعري حلق الماذي قد شفعت.
(4) سقط من الطبري وأثبته في الاستيعاب وقال: هذا البيت يختلف فيه ينسب إلى غيره وقال بعضهم هو لعمران بن حطان.
وهو في الكامل.
(5) في ابن الاعثم: رضيت حقا.
(6) البيت في فتوح ابن الاعثم: لتسمعن وشيكا في دياركم * خيلا تكدس تحت النخع فرسانا (7) البيت في الطبري والكامل: فقد يصادف باغي الخير حاجته * فيها ويهوي إليها الذكر والحسب =

يا معشر الناس ابدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب وقال الفرزدق: إن الخلافة لما أظعنت ظعنت * عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا صارت إلى أهلها منهم ووارثها * لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا السافكي دمه ظلما ومعصية * أي دم لا هدوا من غيتهم سفكوا ] (1) وقال راعي الابل النميري في ذلك:
عشية يدخلون بغير إذن * على متوكل أوفى وطابا خليل محمد ووزير صدق * ورابع خير من وطئ الترابا فصل إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم ؟ فجوابه من وجوه (أحدها) أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الامر إلى قتله، فإن أولئك الاحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة، إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة.
وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع والله أعلم.
- الثاني - أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد، عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية - الثالث - أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الامر العظيم - الرابع - أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الابطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لان الناس كانوا في الثغور وفي الاقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجئ إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار
__________
= وفي الاستيعاب: فيها ويأوي إليها الجود والحسب.
(1) في هامش النسخة المطبوعة قال: زيادة من تاريخ البدر العيني نقلها في سياق عبارة ابن كثير.
وأورد ابن عبد البر في الاستيعاب البيتان الاول والثاني ونسبهما إلى حميد بن ثور الهلالي.

الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الامصار لنصرته، فما فجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الامر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سهم بن خنش أو خنيش أو خنش الازدي - وكان قد شهد الدار - ورواه محمد بن عائذ عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن يزيد الرجي عنه وكان قد استعاده عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان فذكر ما ملخصه: أن وفد السبائية وفد مصر كانوا قد قدموا على عثمان فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين ثم كروا إلى المدينة فوافقوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصا والنعال والخفاف فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الاخنس في ناس، وأطاف وفد مصر بداره، فاستشار الناس فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين إني أشير بإحدى ثلاث خصال إما أن تحرم بعمرة فيحرم عليهم دماؤنا وإما أن نركب معك إلى معاوية بالشام، وإما أن نخرج فنضرب بالسيف إلى أن يحكم الله بيننا وبينهم فأنا على الحق وهم على الباطل.
فقال عثمان: أما ما ذكرت من الاحياء بعمرة فتحرم دماؤنا فإنهم يرونا ضلالا الآن وحال الاحرام وبعد الاحرام، وأما الذهاب إلى الشام فإني أستحيي أن أخرج من بينهم خائفا فيراني أهل الشام وتسمع الاعداء من الكفار ذلك، وأما القتال فإني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة دم.
قال: ثم صلينا معه صلاة الصبح ذات يوم فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم يا عثمان فإنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم أني قد أصبحت صائما وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالما مسلوما منه.
فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمن منهم علينا فأذن لنا أن نكون معه في بيت من الدار تكون لنا فيه
جماعة ومنعة، ثم أمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكب عليه وعنده امرأتاه بنت الفرافصة وابنة شيبة فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال: دعها يا بن أخي فوالله لقد كان أبوك يتلهف لها بأدنى من هذا، فاستحيى فخرج فقال للقوم: قد أشعرته لكم وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير محدد عداده من مراد معه حرف من حديد فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل ؟ فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين فقال: كذبت، وضربه بالحرف على صدغه الايسر فقتله فخر فأدخلته نائلة بينها وبين ثيابها - وكانت جسيمة ضليعة - فألقت نفسها عليه وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقى من جسده ودخل رجل من

أهل مصر بالسيف مصلتا فقال: والله لاقطعن أنفه فعالج المرأة عنه فغلبته فكشف عنها درعها من خلفها حتى نظر إلى متنها فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، لغلام عثمان أسود يا غلام ادفع عني هذا الرجل، فمشى إليه الغلام فضربه فقتله وخرج أهل البيت يقاتلون عن أنفسهم فقتل المغيرة بن الاخنس وجرح مروان ؟ ال: فلما أمسينا قلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به فاحتملناه إلى بقيع الغرقد في جوف الليل وغشينا سواد من خلفنا فهبناهم وكدنا أن نتفرق عنه فنادى مناديهم: أن لا روع عليكم البثوا إنما جئنا لنشهده معكم - وكان أبو حبيش يقول: هم ملائكة الله - فدفناه ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا فلقينا الجيش بوادي القرى عليه حبيب بن مسلمة قد أتوا في نصرة عثمان فأخبرناهم بقتله ودفنه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب (1) - وكان قد اشتراه ؟ زاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله - بعد حكايته هذا الكلام:
للذين قتلوه أو ألبوا عليه قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم، وكان ؟ ؟ للك بعده في نائبه معاوية وبنيه، ثم في وزيره مروان وثمانية من ذريته، استطالوا حياته وملوه مع ؟ ضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعا وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير.
هذا لفظه بحروفه.
بعض الاحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن ؟ ياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أبو عمرو وأبو عبد الله، القرشي، الاموي، أمير المؤمنين، ذو النورين، وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين.
وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس.
وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والانصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والائمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم.
أسلم عثمان رضي الله عنه قديما على يدي أبي بكر الصديق، وكان سبب إسلامه عجيبا فيما
__________
(1) حش كوكب: الحش البستان، وكوكب: رجل من الانصار.

ذكره الحافظ ابن عساكر، وملخص ذلك أنه لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته رقية - وكانت ذات جمال - من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز - وكانت كاهنة - فقالت له: أبشر وحييت ثلاثا تترا، ثم ثلاثا وثلاثا أخرى، ثم بأخرى كي تتم عشرا، أتاك خير ووقيت شرا، أنكحت والله حصانا زهرا، وأنت بكر ولقيت بكرا، وافيتها بنت عظيم قدرا، بنيت أمرا قد أشاد ذكرا * قال عثمان: فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة قد تزوجت بغيري: فقلت: يا خالة ! ما
تقولين ؟ فقالت: عثمان لك الجمال، ولك اللسان، هذا النبي معه البرهان.
أرسله بحقه الديان.
وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تغتالك الاوثان.
قال: فقلت إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.
فقالت: محمد بن عبد الله، رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو به إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح ومدت الرماح.
قال عثمان: فانطلقت مفكرا فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال: ويحك يا عثمان إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الاصنام التي يعبدها قومنا ؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ؟ قال قلت بلى ! والله إنها لكذلك، فقال: والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه ؟ فاجتمعنا برسول الله فقال: يا عثمان أجب الله إلى حقه، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقال: أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمان فقالت في ذلك سعدى بنت كريز: هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى * وأرشده والله يهدي إلى الحق فتابع بالرأي السديد محمدا * وكان برأي لا يصد عن الصدق وأنكحه المبعوث بالحق بنته * فكانا كبدر مازج الشمس في الافق فداؤك يا بن الهاشميين مهجتي * وأنت أمين الله أرسلت للخلق قال: ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مظعون، وبأبي عبيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الاسد، والارقم بن أبي الارقم، فأسلموا وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلا.
وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام
بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه منها وأجره فيها، فهو معدود فيمن شهدها.

؟ ؟ وفيت زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضا في صحبته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ؟ ؟ ؟ ؟ كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان " وشهد أحدا وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو ؟ ؟ ؟ ؟ ؟، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بإحدى يديه، وشهد خيبر ؟ ؟ ؟ القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة.
وتقدم عن ؟ ؟ ؟ الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذ بثلاثمائة بعير بأقتاببها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن ؟ ؟ ؟ ؟ أنه جاء يومئذ بألف دينار فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: ما ضر عثمان ما فعل ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ هذا اليوم مرتين.
وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راض، وصحب أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راض، وصحب عمر أحسن صحبته وتوفي وهو عنه ؟ ؟ ؟ ؟ ؟.
ونص عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرهم كما سيأتي.
فولي الخلافة بعده ففتح الله على يديه كثيرا من الاقاليم والامصار، وتوسعت المملكة الاسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الارض ومغاربها، ؟ ؟ ؟ للناس مصداق قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * [ النور: 55 ] وقوله تعالى: * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ كله ولو كره المشركون) * [ التوبة: 33 ] وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " وهذا كله تحقق ؟ ؟ ؟ ؟ وتأكد وتوطد في زمان عثمان رضي الله عنه.
وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه، كريم الاخلاق، ذا حياء كثير، ؟ ؟ ؟ ؟ غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفا لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم ؟ ؟ ر ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواما ويدع آخرين، يعطي أقواما خشية
؟ بهم الله على وجوههم في النار، ويكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والايمان، ؟ - $ عنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في.
وقد قدمنا ذلك في غزوة حنين حيث قسم غنائمها * وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل ؟ ؟ ؟ ؟ رضي الله عنه نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة، وهي قسمان - الاول - فيما ورد في ؟ ؟ ؟ ؟ مع غيره.
فمن ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد عن قتادة أن أنسا حدثهم قال: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف اسكن أحد - أظنه ضربه برجله - فليس عليك ألا نبي وصديق وشهيدان (1) " تفرد به دون
__________
؟ ؟ ؟ جه البخاري في فضائل الصحابة ح 3699 فتح الباري 7 / 53.
وأخرجه الترمذي في المناقب ح 3697 =

مسلم.
وقال الترمذي: ثنا قتيبة ثنا عبد العزيز بن محمد بن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله " كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اهدئي فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد (1) ".
ثم قال في الباب: عن عثمان (2) وسعيد بن زيد وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة الاسلمي، وهذا حديث صحيح.
قلت: ورواه أبو الدرداء، ورواه الترمذي عن عثمان في خطبته يوم الدار، وقال: على ثبير.
حديث آخر وهو عن أبي النهدي عن أبي موسى الاشعري قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط، فأمرني بحفظ الباب، فجاء رجل يستأذن فقلت: من هذا ؟ قال: أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر فقال ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فدخل وهو يقول: اللهم صبرا وفي رواية - الله المستعان (3) " رواه عنه قتادة وأيوب السختياني.
وقال البخاري: وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم
الاحول وعلي بن الحكم سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى الاشعري بنحوه، وزاد عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في مكان قد انكشف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها.
وهو في الصحيحين أيضا من حديث سعيد بن المسيب عن أبي موسى، وفيه " أن أبا بكر وعمر دليا أرجلهما مع رسول الله في باب القف وهو في البئر، وجاء عثمان فلم يجد له موضعا " قال سعيد: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن مروان، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة.
قال: قال نافع بن الحارث: " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائطا فقال: امسك علي الباب، فجاء حتى جلس على القف ودلى رجليه، فضرب الباب فقلت: من هذا ؟ فقال: أبو بكر، فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على
__________
= من طريق محمد بن بشار وفيه: اثبت أحد.
ج 5 / 624.
(1) أخرجه في المناقب ح 3696 ج 5 / 624.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: عثمان بن سعيد وهو تحريف وعثمان هو عثمان بن موهب نسبة إلى جده وهو عثمان بن عبد الله بن موهب مولى بني تميم بصري تابعي وسط وهو ثقة باتفاقهم.
(3) رواه الترمذي في المناقب ح 3710 وقال هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي عثمان النهدي ج 5 / 631 والبخاري في فضائل الصحابة ح 3695 فتح الباري 7 / 53 وح 3674 عن سعيد بن المسيب.
ورواه الامام أحمد في مسنده، في الحديث التالي عن نافع بن الحارث ج 3 / 408 و 2 / 165.

القف ودلى رجليه في البئر، ثم ضرب الباب: فقلت: من هذا ؟ قال.
عمر، قلت: يا رسول الله هذا عمر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، ففعلت، فجاء فجلس مع رسول الله على القف ودلى رجليه في البئر، ثم ضرب الباب فقلت: من هذا ؟ قال: عثمان، قلت: يا رسول الله هذا عثمان، قال: ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء، فأذنت له وبشرته بالجنة، فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على القف ودلى رجليه في البئر " هكذا وقع في هذه الرواية، وقد أخرجه أبو داود والنسائي
من حديث أبي سلمة، فيحتمل أن أبا موسى ونافع بن عبد الحارث كانا موكلين بالباب، أو أنها قصة أخرى.
وقد رواه الامام أحمد عن عفان عن وهيب عن موسى بن عقبة سمعت أبا سلمة ولا أعلمه إلا عن نافع بن عبد الحارث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا فجلس على قف البئر، فجاء أبو بكر فاستأذن فقال لابي موسى: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة وسيلقى بلاء (1) " وهذا السياق أشبه من الاول، على أنه قد رواه النسائي من حديث صالح بن كيسان عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع ابن عبد الحارث عن أبي موسى الاشعري.
فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد أنا همام عن قتادة، عن ابن سيرين، ومحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمرو قال: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فاستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فاستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
قال: قلت فأين أنا ؟ قال: أنت مع أبيك (2) " تفرد به أحمد.
وقد رواه البزاز وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك بنحو ما تقدم.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث حدثني عقيل، عن ابن شهاب عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لابي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال: اجمعي عليك ثيابك فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله ! ما لي لا أراك فزعت لابي بكر وعمر كما فزعت
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 393 و 408.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 2 / 165 و 3 / 408

لعثمان ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي، وأني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلى حاجته " قال الليث: وقال جماعة الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ " (1) ورواه مسلم من حديث محمد بن أبي حرملة عن عطاء وسليمان بن يسار عن أبي سلمة عن عائشة.
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث سهيل عن أبيه عن عائشة.
ورواه جبير بن نفير وعائشة بنت طلحة عنها.
وقال الامام أحمد: حدثنا مروان، ثنا عبد الله بن يسار، سمعت عائشة بنت طلحة تذكر عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان جالسا كاشفا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك: فقال: يا عائشة ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه ؟ (2) ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
طريق أخرى عن حفصة رواه الحسن بن عرفة وأحمد بن حنبل عن روح بن عبادة عن ابن جريج، أخبرني أبو خالد عثمان بن خالد عن عبد الله بن أبي سعيد المدني حدثتني حفصة، فذكر مثل حديث عائشة، وفيه: فقال " ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ (3) ".
طريق أخرى عن ابن عباس قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو كريب، ثنا يونس بن بكير ثنا النضر - هو ابن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز الكوفي - عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة عثمان بن عفان ؟ " (1) ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الاسناد قلت هو على شرط الترمذي ولم يخرجوه.
طريق أخرى عن ابن عمر
قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنل ؟ ا، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا أبو
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 71، 6 / 155 و 167 ومسلم في فضائل الصحابة (3) باب ح (28) ص 4 / 1867.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 62.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 155 و 288.

معشر حدثني إبراهيم بن عمر بن أبان، حدثني أبي عمر بن أبان عن أبيه.
قال سمعت عبد الله ابن عمر يقول: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعائشة وراءه إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن عمر فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث كاشفا عن ركبته، فرد ثوبه على ركبته حين استأذن عثمان، وقال لامرأته: استأخري، فتحدثوا ساعة ثم خرجوا، فقالت عائشة: يا نبي الله ! دخل أبي وأصحابه فلم تصلح ثوبك على ركبتك ولم تؤخرني عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريب مني لم يتحدث ولم يرفع رأسه حتى يخرج (1) " هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه زيادة على ما قبله، وفي سنده ضعف.
قلت: وفي الباب عن علي وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد ابن ثابت: وروى أبو مروان القرشي عن أبيه عن مالك، عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عثمان حيي تستحي منه الملائكة ".
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأشدها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله أبي.
وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح (2) " وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه
من حديث خالد الحذاء، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري ومسلم آخره " ولكل أمة أمين وأمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح " وقد روى هشيم عن كريز بن حكيم عن نافع عن ابن عمر مثل حديث أبي قلابة عن أنس أو نحوه.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، حدثني الزبيدي، عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبد الله.
أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر، فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما ذكره
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 82 وقال: رواه أبو يعلى والطبراني وفيه ابراهيم بن عمر بن أبان وهو ضعيف.
(2) الحديث في مسند أحمد ج 3 / 184 وارجع إلى هامش (3) من صفحة 151 من هذا الجزء.

رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوط بعضهم ببعض، فهؤلاء ولاة هذا الامر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم (1) " ورواه أبو داود عن عمرو بن عثمان عن محمد بن حرب، ثم قال: ورواه يونس وشعيب عن الزهري فلم يذكرا عمرا.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أبو داود - عمر بن سعد - ثنا بدر بن عثمان عن عبيد الله بن مروان عن أبي عائشة عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: " رأيت قبل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي يوزن بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فوزنت بهم فرجحت، ثم جئ بأبي بكر فوزن فوزن بهم، ثم جئ بعمر فوزن فوزن بهم، ثم جئ بعثمان فوزن فوزن بهم، ثم رفعت (2) " تفرد به أحمد * وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا هشام بن عمار ثنا عمرو بن واقد ثنا يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني رأيت أني
وضعت في كفة وأمتي في كفة فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عمر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عثمان في كفة وأمتي في كفة فعدلها ".
حديث آخر قال أبو يعلى: حدثنا عبد الله بن مطيع ثنا هشيم عن العوام، عمن حدثه عن عائشة.
قالت: لما أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه، قالت: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " هم أمراء الخلافة من بعدي ".
وقد تقدم هذا الحديث في بناء مسجده أول مقدمه المدينة عليه الصلاة والسلام، وكذلك تقدم في دلائل النبوة من حديث الزهري عن رجل عن أبي ذر في تسبيح الحصا في يده عليه السلام ثم في كف أبي بكر، ثم في كف عمر، ثم في كف عثمان، رضي الله عنهم، وفي بعض الروايات: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذه خلافة النبوة " وسيأتي حديث سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا " فكانت ولاية عثمان ومدتها ثنتي عشرة سنة، من جملة هذه الثلاثين بلا خلاف بين العلماء العاملين، كما أخبر به سيد المرسلين صلى الله عليه آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الحديث في مسند أحمد 3 / 355.
(2) مسند أحمد 3 / 355.

حديث آخر وهو ما روي من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شهد للعشرة بالجنة، وهو أحدهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا محمد بن حاتم (1) بن بزيغ، ثنا شاذان ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر قال: " كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر
أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نذر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم " تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز، تفرد به البخاري، ورواه إسماعيل بن عياش، والفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن نافع عن ابن عمر.
ورواه أبو يعلى عن أبي معشر عن يزيد بن هارون عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عمر به.
طريق أخرى عن ابن عمر قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر.
قال: " كنا نعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت ".
طريق أخرى عن ابن عمر بلفظ آخر قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، وعقبة بن مكرم قالا: ثنا أبو عاصم عن عمر بن محمد عن سالم عن أبيه.
قال: كنا نقول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان - يعني في الخلافة - وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجوه، لكن قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه " كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان، ثم لا نفاضل بعد " وعمر بن محمد لم يكن بالحافظ، وذلك: يتبين في حديثه إذا روي عن غير سالم فلم يقل شيئا وقد رواه غير واحد من الضعفاء عن الزهري عن سالم عن أبيه به.
وقد اعتنى الحافظ ابن عساكر بجمع طرقه عن ابن عمر فأفاد وأجاد.
فأما الحديث الذي قال الطبراني: حدثنا سعيد بن عبد ربه الصفار البغدادي حدثنا علي بن جميل الرقي أنا جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في الجنة شجرة - أو ما في الجنة شجرة - شك علي بن حنبل، ما عليها ورقة إلا مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة " (حازم) - فتح الباري - كتاب المناقب ح 3697 ص 7 / 53

النورين " فإنه حديث ضعيف في إسناده من تكلم فيه ولا يخلو من نكارة، والله أعلم.
القسم الثاني فيما ورد من فضائله وحده
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو عوانة ثنا عثمان بن موهب.
قال: " جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القوم ؟ قالوا: قريش، قال: فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا: عبد الله بن عمر.
قال: يا بن عمر ! إني سائلك عن شئ فحدثني [ عنه ]، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد ؟ قال: نعم ! قال: تعلم أنه تغيب يوم بدر ولم يشهدها ؟ قال: نعم ! قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان ولم يشهدها ؟ قال: نعم ! قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله وكانت مريضة، فقال له رسول الله: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك (1) " تفرد به دون مسلم.
طريق أخرى وقال الامام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن عاصم، عن سفيان.
قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة، فقال له الوليد: ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان ؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين، قال عاصم: يقول يوم أحد - ولم أتخلف عن يوم بدر، ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فخبر بذلك عثمان فقال: أما قوله: إني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عني فقال: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) * [ آل عمران: 155 ] وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد، وأما قوله: ولم أترك سنة عمر، فإني لا أطيقها ولا هو، فإنه يحدثه بذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة - ح 3698 فتح الباري 7 / 54.
ورواه الترمذي في المناقب ح 3706
ص 5 / 629 قوله: اذهب بها الآن معك: يظهر من سياق الاسئلة ان السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد أن يقرر معتقده فيه، وكأن ابن عمر فهم منه مراده، فقول ابن عمر له يعني أن أقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده في عثمان (قاله ابن حجر).

حديث آخر قال البخاري: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد (1)، ثنا أبي عن يونس، قال ابن شهاب: أخبرني عروة أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لاخيه (3) الوليد فقد أكثر الناس فيه ؟ فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة.
فقلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك، فقال: يا أيها المرء منك قال أبو عبد الله قال معمر: أعوذ بالله منك - فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان فأتيته فقال ما نصيحتك ؟ فقلت: إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد.
فقال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: لا ! ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: أما بعد ! فإن الله بعث محمدا بالحق وكنت ممن استجاب لله ولرسوله فآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم ؟ قلت: بلى ! قال: فما هذه الاحاديث التي تبلغني عنكم ؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسأخذ فيه بالحق إن شاء الله.
ثم دعا عليا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين (3).
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
عثمان بن عفان فجاء فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الاخرى فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه وقال: يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثا.
فقلت لها يا أم المؤمنين ؟ فأين كان هذا عنك ؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين: أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابا (4) " وقد رواه أبو
__________
(1) من البخاري، وفي الاصل سعد تحريف.
(2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان أخا عثمان لامه وكان قد ولاه الكوفة بعد عزله سعدا بن أبي وقاص.
(3) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ح 3696 فتح الباري 7 / 53 وروى الجزء الاخير منه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 88 وقال: رجاله رجال الصحيح.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده 6 / 117.

عبد الله الجيري عن عائشة وحفصة بنحو ما تقدم.
ورواه قيس بن أبي حازم وأبو سلمة عنها.
ورواه أبو سهلة عن عثمان: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا فأنا صابر نفسي عليه " ورواه فرج ابن فضالة عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره، قال الدارقطني: تفرد به الفرج بن فضالة ورواه أبو مروان محمد عن عثمان بن خالد العماني، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه [ عن هشام بن عروة عن أبيه ] عن عائشة.
ورواه ابن عساكر من طريق المنهال بن عمر عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها.
ورواه ابن أسامة عن الجريري: حدثني أبو بكر العدوي.
قال: سألت عائشة، وذكر عنها نحو ما تقدم [ تفرد به الفرج بن فضالة ] (1) ورواه حصين عن مجاهد عن عائشة بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن كنانة الاسدي، أبو يحيى، ثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه.
قال: بلغني أن عائشة قالت: " ما استمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، فإن عثمان جاءه في
حر الظهيرة فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول: إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه.
فلما رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلا خلعه علمت أنه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عهد إليه (2).
طريق أخرى قال الطبراني: حدثنا مطلب بن سعيد الازدي، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، قال: كنا عند شفى الاصبحي فقال: حدثنا عبد الله بن عمر قال: " التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان إن الله كساك قميصا فأرادك الناس على خلعه قلا تخلعه، فوالله لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " وقد رواه أبو يعلى من طريق عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أم المؤمنين.
وفي سياق متنه غرابة والله أعلم.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثتني فاطمة بنت عبد الرحمن قالت: حدثتني أمي أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: قولي إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن
__________
(1) ما بين معكوفتين سقط من الاصل، واستدرك من المخطوطة الحلبية.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 114.
ورواه الترمذي في المناقب عن النعمان بن بشير عن عائشة ح (3705) ص 5 / 628.

عفان فإن الناس قد شتموه، فقالت: " لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله لمسند ظهره إلي، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: اكتب يا عثيم، قالت عائشة: فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما على الله ورسوله (1) " ثم رواه الامام أحمد عن يونس عن عمر بن إبراهيم اليشكري عن أمه عن أمها أنها سألت عائشة عند الكعبة عن عثمان فذكرت مثله.
حديث آخر قال البزار: حدثنا عمر بن الخطاب قال: ذكر أبو المغيرة عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فقال أبو بكر: أنا أدركها ؟ فقال: لا ! فقال عمر: أنا يا رسول الله أدركها ؟ قال: لا ! فقال عثمان: يا رسول الله فأنا أدركها ؟ قال: بك يبتلون " قال البزار: وهذا لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عمر، ثنا سنان بن هارون، ثنا كليب بن واصل (2)، عن ابن عمر.
قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان ".
ورواه الترمذي عن إبراهيم بن سعيد عن شاذان به وقال: حسن غريب.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة حدثني أبو أمي أبو حنيفة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا - أو قال: اختلافا وفتنة - فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله ؟ قال: عليكم
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 250 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 86 وقال: رواه أحمد والطبراني في الاوسط إلا أنه قال: " عن أم كلثوم بنت ثمامة الحنطي أن أخاها المخارق بن ثمامة الحنطي ".
قال: وأم كلثوم لم أعرفها وبقية رجال الطبراني ثقات.
(2) رواه الترمذي في المناقب ح 3708 ص 5 / 630.
وفيه حدثنا شاذان الاسود بن عامر عن سنان بن هرون البرجمي عن كليب بن وائل.

بالامين وأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك (1) " تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن ولم يخرجوه من
هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أسامة ثنا حماد بن أسامة ثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله ابن شقيق، حدثني هرم بن الحارث وأسامة بن خزيم - وكانا يغازيان - فحدثاني حديثا ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدثنيه عن مرة البهزي قال: " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الارض كأنها صياصي بقر ؟ نصنع ماذا يا رسول الله ؟ قال: عليكم هذا وأصحابه - أو اتبعوا هذا وأصحابه - قال: فأسرعت حتى عييت فأدركت الرجل فقلت: هذا يا رسول الله ؟ قال: هذا، فإذا هو عثمان بن عفان (2) " فقال: هذا وأصحابه فذكره.
طريق أخرى وقال الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن بشار، ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أبي الاشعث الصنعاني أن خطباء قامت بالشام وفيهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له مرة بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت، وذكر الفتن فقر بها فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه.
فإذا هو عثمان ابن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا ؟ قال نعم ! (3) " ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وعبد الله بن حوالة وكعب بن عجرة.
قلت: وقد رواه أسد بن موسى عن معاوية بن صالح حدثني سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن مرة بن كعب البهزي فذكر نحوه، وقد رواه الامام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية، عن صالح، عن سليم بن عامر، عن جبير بن نفير عن كعب بن مرة البهزي.
الصحيح مرة بن كعب كما تقدم، وأما حديث ابن حواله، فقال حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن عبد الله بن سفيان (4) عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف وأنت وفتنة تكون في أقطار الارض ؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال اتبع هذا الرجل، فإنه يومئذ ومن اتبعه على الحق قال: فاتبعته فأخذت بمنكبه فقتلته فقلت: هذا يا رسول الله ؟ فقال: نعم ! فإذا هو
عثمان بن عفان " وقال حرملة عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن ابن حوالة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من نجا منهن فقد نجا، موتي،
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 2 / 345.
(2) أخرجه الامام أحمد ج 5 / 35.
(3) أخرجه الترمذي في المناقب ح 3704 ص (5 / 628).
(4) في هامش النسخة المطبوعة: كذا بالمصرية بزيادة عبد الله بن سفيان.

وخروج الدجال وقتل خليفة مصطبر قوام بالحق يعطيه.
وأما حديث كعب بن عجرة.
فقال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، أخبرني معاوية بن مسلم، عن مطر الوراق، عن ابن سيرين عن كعب بن عجرة قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها وعظمها قال: ثم مر رجل مقنع في ملحفة فقال: هذا يومئذ على الحق قال فانطلقت مسرعا أو محضرا وأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله ؟ قال: هذا فإذا هو عثمان بن عفان (1) " ثم رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن كعب بن عجرة فذكر مثله.
ورواه أبو يعلى عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة.
وكذا رواه أبو عون عن ابن سيرين عن كعب.
وقد تقدم حديث أبي ثور التميمي عنه في قوله في الخطبة التي خاطب بها الناس من داره: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يعتق كل يوم جمعة عتيقا فإن تعذر عليه أعتق في الجمعة الاخرى عتيقين.
وقال مولاه حمران: كان عثمان يغتسل كل يوم منذ أسلم.
رضي الله عنه.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا علي بن عياش، ثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الاوزاعي، عن محمد ابن عبد الملك بن مروان أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة: أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال:
" إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى وإني أعرض عليك خصالا ثلاثا اختر إحداهن، إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية.
فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ".
وقال الامام أحمد: ثنا أبو المغيرة ثنا أرطاة - يعني ابن المنذر - حدثني أبو عون الانصاري أن عثمان قال لابن مسعود: " هل أنت منته عما بلغني عنك ؟ فاعتذر بعض العذر، فقال عثمان: ويحك ! إني قد سمعت وحفظت - وليس كما سمعت -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيقتل أمير، ويتبرى متبرئ (3)، وإني أنا المقتول، وليس عمر، إنما قتل عمر واحد، وأنه
__________
(1) الحديث أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 242.
(2) مسند الامام أحمد ج 1 / 67.
(3) مسند الامام أحمد 1 / 66.
وفيه: وينتزي منتز بدل ويتبرى متبرئ.

يجتمع علي " وهذا الذي قاله لابن مسعود قبل مقتله بنحو من أربع سنين فإنه مات قبله بنحو ذلك.
حديث آخر [ قال عبد الله بن أحمد: ثنا عبيد الله بن عمر الفربري: ثنا القاسم بن الحكم بن أوس الانصاري، حدثني أبو عبادة الزرقي الانصاري - من أهل المدينة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: " شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي باب مقام جبريل، فقال: أيها الناس ! أفيكم طلحة ؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس ! أفيكم طلحة بن عبيد الله ؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس !
أفيكم طلحة ؟ فقام طلحة بن عبيد الله فقال له عثمان: ألا أراك ههنا ؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيئني ؟ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك ؟ فقال: نعم ! قال: فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ما من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني نفسه - رفيقي في الجنة ؟ فقال طلحة: اللهم نعم ! " تفرد به أحمد ] (1).
حديث آخر عن طلحة قال الترمذي: حدثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا يحيى بن اليمان، عن شريح بن زهرة (2)، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب (3)، عن طلحة بن عبيد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان " ثم قال: هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، وإسناده منقطع.
ورواه أبو عثمان محمد بن عثمان عن أبيه عن أبي الزناد عن أبيه عن الاعرج عن أبي هريرة، وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي وغير واحد قالوا: حدثنا عثمان ابن زفر، حدثنا محمد بن زياد، عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة رجل ليصلي عليه فلم يصل عليه، فقيل يا رسول الله ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا ؟ فقال: إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله عز وجل (4) " ثم قال الترمذي: هذا حديث
__________
(1) هذا الحديث تكرر في النسختين المصرية والحلبية.
انظر صفحة 198 - 199 من هذا الجزء والتعليق عليه هناك فليراجع.
(2) في الترمذي: شيخ من بني زهرة.
(3) من الترمذي ح 3698 ص 5 / 624 وفي الاصل وتاب.
(4) كتاب المناقب - ح 3709 ص 5 / 630.

غريب، ومحمد بن زياد هذا صاحب ميمون بن مهران ضعيف الحديث جدا، ومحمد بن زياد
صاحب أبي هريرة بصري ثقة، يكنى أبا الحارث، ومحمد بن زياد الالهاني صاحب أبي أمامة ثقة شامي يكنى أبا سفيان.
حديث آخر روى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي مروان العثماني، ثنا أبي عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه عن الاعرج عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: يا عثمان ! هذا جبريل يخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، على مثل مصاحبتها " وقد روى ابن عساكر أيضا من حديث ابن عباس وعائشة وعمارة بن روبية وعصمة بن مالك، الخطمي، وأنس بن مالك وابن عمر وغيرهم، وهو غريب ومنكر من جميع طرقه، وروي بإسناد ضعيف عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو كان لي أربعون ابنة لزوجتهن بعثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة " وقال محمد بن سعيد الاموي، عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن المهلب بن أبي صفرة قال: " سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم قلتم في عثمان: أعلانا فوقا ؟ قالوا: لانه لم يتزوج رجل من الاولين والآخرين ابنتي نبي غيره رواه ابن عساكر.
وقال إسماعيل بن عبد الملك عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه حتى يبدو ضبعيه إلا لعثمان بن عفان، إذا دعا له.
وقال مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: " اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه " وفي رواية يقول لعثمان: " غفر الله لك ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة " ورواه الحسن بن عرفة عن محمد بن القاسم الاسدي عن الاوزاعي عن حسان بن عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
وقال ابن عدي عن أبي يعلى عن عمار بن ياسر المستملي عن إسحاق بن إبراهيم المستملي، عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان يستعينه في غزاة غزاها، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فوضعها بين يديه، فجعل يقلبها بين يديه ويدعو له: " غفر
الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي عثمان ما فعل بعدها ".
حديث آخر وقال ليث بن أبي سليم: أول من خبص الخبيص عثمان خلط بين العسل والنقي ثم بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل أم سلمة، فلم يصادفه، فلما جاء وضعوه بين يديه، فقال: من

بعث هذا ؟ قالوا: عثمان: قالت: فرفع يديه إلى السماء فقال: " اللهم إن عثمان يترضاك فارض عنه ".
حديث آخر روى أبو يعلى عن سنان بن فروخ عن طلحة بن يزيد عن عبيدة بن حسان عن عطاء الكيخاراني عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنق عثمان وقال: " رأيت وليي في الدنيا ووليي في الآخرة ".
حديث آخر قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن حوالة.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تهجمون على رجل معتجر ببرده من أهل الجنة، يبايع الناس " قال فهجمنا على عثمان بن عفان فرأيناه معتجرا يبايع الناس.
ذكر شئ من سيرته وهي دالة على فضيلته قال ابن مسعود: لما توفي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل، وفي رواية بايعوا خيرهم ولم يألوا، وقال الاصمعي عن أبي الزناد عن أبيه عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم عثمان آمنت بالذي خلق فسوى.
وقال محمد بن المبارك بلغني أنه كان نقش خاتم عثمان آمن عثمان بالله العظيم.
وقال البخاري في التاريخ: ثنا موسى بن إسماعيل ثنا مبارك بن فضالة قال سمعت الحسن يقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون
فيه خيرا، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم اغدوا على السمن والعسل، الاعطيات جارية، والارزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنا، ومن لقبه فهو أخوه، قد كان من إلفته ونصيحته ومودته قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة، فإذا كانت فاصبروا " قال الحسن: فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا: لا والله ما نصابرها: فوالله ما وردوا وما سلموا، والاخرى كان السيف مغمدا عن أهل الاسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس، هذا وأيم الله إني لاراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة " وقال غير واحد عن الحسن البصري قال: سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب.
وروى سيف بن عمر أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ورمى بعضهم بالجلا هقات [ فوكل عثمان رجلا من بني ليث يتبع ذلك، فيقص

الحمام ويكسر الجلاهقات ] (1) - وهي قسي البندق - وقال محمد بن سعد: " أنبأنا القعنبي وخالد بن مخلد ثنا محمد بن هلال عن جدته - وكانت تدخل على عثمان وهو محصور - فولدت هلالا، ففقدها يوما فقيل له: إنها قد ولدت هذه الليلة غلاما، قالت: فأرسل إلي بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية، وقال: هذا عطاء ابنك وكسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة " وروى الزبير بن أبي بكر عن محمد بن سلام عن ابن بكار، قال: قال ابن سعيد بن يربوع بن عتكة المخزومي: انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد، والمسجد بيننا، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله، ففتح عينيه فقال: من أنت يا غلام ؟ فأخبرته، فإذا غلام نائم قريبا منه فدعاه فلم يجبه، فقال لي: ادعه ! فدعوته فأمره بشئ وقال لي: اقعد ! فذهب الغلام فجاء بحلة وجاء بألف درهم، ونزع ثوبي وألبسني الحلة ؟ وجعل الالف درهم فيها، فرجعت إلى أبي فأخبرته ؟ فقال: يا بني من فعل هذا بك ؟ فقلت: لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه، قال: ذاك أمير المؤمنين
عثمان بن عفان " وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني يزيد بن خصيفة عن أبي السائب بن يزيد " أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التميمي أهي صلاة طلحة بن عبيد الله عن صلاة عثمان قال: نعم ! قال: قلت لاغلبن الليلة النفر على الحجر - يعني المقام - فلما قمت فإذا رجل يرجمني مقنعا قال فالتفت فإذا بعثمان يرحمني فتأخرت عنه فصلى فإذا هو يسجد بسجود القرآن، حتى إذا قلت هذا هو أذان الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها ثم انطلق ".
وقد روى هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الاسود، أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه.
ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) * [ الزمر: 9 ] قال: هو عثمان بن عفان.
وقال ابن عباس في قوله تعالى * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) * [ النحل: 76 ] قال: هو عثمان.
وقال حسان (2): ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا وقال سفيان بن عيينة: ثنا إسرائيل بن موسى سمعت الحسن يقول قال عثمان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لاكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه.
وقال أنس ومحمد بن سيرين: قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة.
وقال غير واحد: إنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحدا من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظانا، وكان يصوم
__________
(1) الطبري 5 / 135 والكامل 3 / 181 وكان ذلك سنه ثمان من خلافته.
(2) انظر حاشية 4 صفحة 219 من هذا الجزء.

الدهر، وكان يعاتب فيقال: لو أيقظت بعض الخدم ؟ فيقول: لا ! الليل لهم يستريحون فيه.
وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيدا من شدة حيائه رضي الله عنه.
شئ من خطبه قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي عن أبيه أن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس أول كل مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله (1).
وقال الحسن: خطب عثمان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ! اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى، وقد كان بصيرا، وقد يلقى الحكيم جوامع الكلم، والاصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله له لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده ؟.
وقال مجاهد: خطب عثمان فقال: ابن آدم ! اعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك، وقصدك، فخذ حذرك، واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك، واعلم ابن آدم إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك، ولابد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك والسلام.
وقال سيف بن عمر عن بدر بن عثمان عن عمه.
قال: آخر خطبة خطبها عثمان في جماعة " إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله، اتقوا الله فإن تقواه جنة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) * إلى آخر الآيتين (2).
فصل قال الامام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا محمد بن قيس الاسدي، عن موسى بن طلحة.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 62.
العقد الفريد 2 / 133 وذكر الطبري في تاريخه خطبة أخرى لما بايعه أهل الشورى.
كانت مثالا في الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها (الطبري 5 / 43).
(2) سورة آل عمران الاية 103، والخطبة في تاريخ الطبري 5 / 149.

قال: سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخير الناس يسألهم عن أخبارهم، وأسفارهم.
وقال أحمد: حدثنا إسماعيل ثنا إبراهيم ثنا يونس - يعني ابن عبيد - حدثني عطاء بن فروخ مولى القرشيين أن عثمان اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه فلقيه فقال: ما منعك من قبض مالك ؟ قال: إنك غبنتني، فما ألقى من الناس أحدا إلا وهو يلومني، قال: أذلك يمنعك ؟ قال: نعم ! قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا (1) ".
وروى ابن جرير أن طلحة لقي عثمان وهو خارج إلى المسجد فقال له طلحة: إن الخمسين ألفا التي لك عندي قد حصلت فأرسل من يقبضها، فقال له عثمان: إنا قد وهبناكها لمروءتك (2).
وقال الاصمعي: استعمل ابن عامر (3) قطن بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيش من المسلمين - أربعة آلاف - وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشى قطن الفوت فقال: من جاز الوادي فله ألف درهم، فحملوا أنفسهم على العوم، فكان إذا جاز الرجل منهم قال قطن: اعطوه جائزته، حتى جاوزا جميعا وأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يحسبها له، فكتب لذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان: أن احسبها له، فإنه إنما أعان المسلمين في سبيل الله فمن ذلك اليوم سميت الجوائز لاجازة الوادي، فقال الكناني (4) في ذلك: فدى للاكرمين بني هلال * على علاتهم أهلي ومالي هموا سنوا الجوائز في معد * فعادت سنة أخرى الليالي (5) رماحهم تزيد على ثمان * وعشر قبل تركيب النصال (6) فصل ومن مناقبه الكبار وحسنأته العظيمة أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على
الفرضة الاخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته، وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام، ممن يقرأ على
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 58، وفي نسخ البدايه المطبوعة: اسماعيل بن ابراهيم ثنا يونس تحريف.
والصواب ما اثبتناه حسب سياق المسند.
(2) تاريخ الطبري 5 / 139.
(3) في فتوح البلدان 2 / 482: ولى الحجاج قطن بن قبيصة بن مخارق الهلالي على كرمان وفارس.
وكذره في الاصابة: قطن بن عبد عوف الهلالي له ادراك، استعمله عبد الله بن عامر على كرمان.
(4) ذكره في فتوح البلدان: الحجاف بن حكيم.
(5) في الاصابة: فكانت سنة إحدى الليالي.
وفي فتوح البلدان: فصارت سنة...(6) في فتوح البلدان: وعشر حين تختلف العوالي.

قراءة المقداد بن الاسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف، يفضل قراءته على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف، يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطأ الآخر أو كفره، فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم.
وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الاقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة، ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الانصاري أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن
العاص الاموي، بحضرة عبد الله بن الزبير الاسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شئ أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب لاهل الشام مصحفا، ولاهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفا وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفا وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفا.
ويقال لهذه المصاحف الائمة، وليست كلها بخط عثمان، بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبة إلى أمره وزمانه، وإمارته، كما يقال دينار هرقلي، أي ضرب في زمانه ودولته.
قال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
ورواه غيره من وجه آخر عن أبي هريرة قال: " لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أنشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق (1) " فقلت: أي ورق ؟ حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان وأمر لابي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا صلى الله عليه وسلم "، ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف، فقال أبو بكر بن أبي داود - في كتاب المصاحف - حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا: ثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن رجل عن سويد بن غفلة قال: قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته (2) " وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة مثله، وقد رواه البيهقي وغيره من حديث محمد بن أبان - زوج أخت حسين - عن
__________
(1) روى البيهقي في الدلائل 6 / 538 عن أبي صالح حديثا مرسلا بنحوه.
ورورى نحوه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروي موصولا عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس.
(2) كتاب المصاحف ص 19.

علقمة بن مرثد قال: سمعت العيزار بن جرول سمعت سويد بن غفلة قال: " قال علي: أيها الناس ! إياكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملا من أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل (1) " وقد روي عن ابن مسعود أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * [ آل عمران: 161 ] فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين الظهر ؟ قالوا: أربعا، فصلى ابن مسعود أربعا فقالوا: ألم تحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين ؟ فقال: نعم ! وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف.
وفي الصحيح أن ابن مسعود قال: ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.
وقال الاعمش: حدثني معاوية بن قرة - بواسط - عن أشياخه قالوا: صلى عثمان الظهر بمنى أربعا فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعا، فقيل له: عتبت على عثمان وصليت أربعا ؟ فقال: إني أكره الخلاف.
وفي رواية الخلاف شر فإذا كان هذا متباعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرع فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن ؟ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرأوا بها لا بغيرها ؟ وقد حكى الزهري وغيره أن عثمان إنما أتم خشية على الاعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل بل قد تأهل بمكة، فروى يعلى وغيره من حديث عكرمة بن إبراهيم حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب عن أبيه أن عثمان صلى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله " وإني أتممت لاني تزوجت بها منذ قدمتها.
وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتم الصلاة، وقد قيل إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتم الصلاة في الاسفار.
ومما كان
يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا: من كانت له عند أحد منهم مظلمة فليواف إلى الموسم فإني آخذ له حقه من عامله، وكان عثمان قد سمح لكثير من كبار الصحابة في المسير حيث شاؤوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك، حتى ولا في الغزو، ويقول: إني أخاف أن تروا الدنيا وأن يراكم أبناؤها، فلما خرجوا في زمان
__________
(1) رواه أبو بكر السجساتي في المصاحف مطولا 29 - 30.

عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الامارة العامة بعد عثمان، فاستعجلوا موته، واستطالوا حياته، حتى وقع ما وقع من بعض أهل الامصار، كما تقدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.
ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم تزوج برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولد له منها عبد الله (1)، وبه كان يكنى، بعد ما كان يكنى في الجاهلية بأبي عمرو، ثم لما توفيت تزوج بأختها أم كلثوم، ثم توفيت فتزوج بفاختة بنت غزوان ابن جابر، فولد له منها عبيد الله الاصغر، وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الازدية، فولدت له عمرا، وخالدا، وأبانا، وعمر ومريم، وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية، فولدت له الوليد وسعيدا.
وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال وعتبة، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي فولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو، بنات عثمان.
وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الاحوص بن عمرو بن ثعلبة (2) بن حصن بن ضمضم بن عدي بن حيان بن كليب، فولدت له مريم ويقال وعنبسة (3) وقتل رضي الله عنه وعنده أربع نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاختة.
ويقال إنه طلق أم البنين وهو محصور.
فصل
تقدم في دلائل النبوة الحديث الذي رواه الامام أحمد وأبو داود من حديث سفيان الثوري عن منصور عن ربعي عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رحا الاسلام ستدور لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن تهلك فسبيل ما هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما قال: فقال عمر يا رسول الله أبما مضى أم بما بقي ؟ قال: بل بما بقي " وفي لفظ له ولابي داود " تدور رحا الاسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين " الحديث.
وكأن هذا الشك من الراوي، والمحفوظ في نفس الامر خمس وثلاثين، فإن
__________
(1) بلغ عبد الله ست سنين فنقره ديك في عينه فمرض فمات في جمادى الاولى سنة أربع من الهجرة وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله.
(2) في الطبري وابن سعد: ابن ثعلبة بن الحارث بن حصن.
(3) قال الواقدي وكان له بنت تدعى أم البنين بنت عثمان بن نائلة وهي التي كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان.
وقال ابن سعد أم البنين وأمها أم ولد.
(الطبري 5 / 149 وطبقات ابن سعد 3 / 54).

فيها قتل أمير المؤمنين عثمان على الصحيح، وقيل ست وثلاثين، والصحيح الاول وكانت أمور شنيعة ولكن الله سلم ووقى بحوله وقوته فلم يكن بأسرع من أن بايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتظم الامر، واجتمع الشمل، ولكن جرت بعد ذلك أمور في يوم الجمل وأيام صفين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
في ذكر من توفي زمان عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الانصاري النجاري، ويقال له أنيس أيضا، شهد المشاهد كلها رضي الله عنه.
أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت الانصاريان، شهد بدرا، وأوس هو زوج المجادلة المذكورة في قوله تعالى * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) * [ المجادلة: 1 ] وامرأته خولة بنت ثعلبة.
أوس بن خولى الانصاري من بني الحبلى، شهد بدرا، وهو المنفرد من بين الانصار بحضور غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول مع أهله في قبره، عليه الصلاة والسلام.
الحر بن قيس، كان سيدا في الانصار، ولكن كان بخيلا ومتهما بالنفاق، يقال إنه شهد بيعة الرضوان فلم يبايع، واستتر ببعير له، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) * [ التوبة: 49 ].
وقد قيل إنه تاب وأقلع فالله أعلم.
الحطيئة الشاعر المشهور.
قيل اسمه جرول ويكنى بأبي مليكة، من بني عبس، أدرك أيام الجاهلية، وأدرك صدرا من الاسلام، وكان يطوف في الآفاق يمتدح الرؤساء من الناس، ويستجديهم ويقال كان بخيلا مع ذلك، سافر مرة فودع امرأته فقال لها: عدي السنين إذا خرجت لغيبة * ودعي الشهور فانهن قصار وكان مداحا هجاء، وله شعر جيد، ومن شعره ما قاله بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فاستجاد منه قوله: من يفعل الخير لم يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين الله والناس خبيب بن يساف بن عتبة الانصاري أحد من شهد بدرا * سلمان بن ربيعة الباهلي، يقال له صحبة، كان من الشجعان الابطال المذكورين، والفرسان المشهورين، ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي في زمن عثمان إمرة على قتال الترك، فقتل ببلنجر، فقيرة هناك في تابوت يستسقي به الترك إذا قحطوا * عبد الله بن حذافة بن قيس القرشي السهمي، هاجر هو وأخوه قيس إلى الحبشة،

وكان من سادات الصحابة، وهو القائل: يا رسول الله من أبي ؟ - وكان إذا لاحى الرجال دعي لغير أبيه - فقال: أبوك حذافة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى فدفع كتابه إلى عظيم بصرى فبعث معه من يوصله إلى هرقل كما تقدم، وقد أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في جملة ثمانين من المسلمين، فأرادوه على الكفر فأبى عليهم، فقال له الملك: قبل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه فأطلقهم، فلما قدم على عمر قال له:
حق على كل مسلم أن يقبل رأسك، ثم قام عمر فقبل رأسه قبل الناس رضي الله عنه * عبد الله بن سراقة بن المعتمر، العدوي صحابي أحدي، وزعم الزهري أنه شهد بدرا فالله أعلم * عبد الله بن قيس بن خالد الانصاري، شهد بدرا * عبد الرحمن بن سهل بن زيد الانصاري الحارثي، شهد أحدا وما بعدها، وقال ابن عبد البر شهد بدرا، استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان، وقد نهشته حية فرقاه عمارة بن حزم، وهو القائل لابي بكر - وقد جاءته جدتان فأعطى السدس أم الام وترك الاخرى وهي أم الاب - فقال له: أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، وتركت التي لو ماتت لورثها، فشرك بينهما * عمرو بن سراقة بن المعتمر العدوي أخو عبد الله بن سراقة، وهو بدري كبير، روى أنه جاع مرة فربط حجرا على بطنه من شدة الجوع، ومشى يومه ذلك إلى الليل، فأضافه قوم من العرب ومن معه، فلما شبع قال لاصحابه: كنت أحسب الرجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرجلين.
عمير بن سعد الانصاري الاوسي، صحابي جليل القدر، كبير المحل كان يقال له نسيج وحده، لكثرة زهادته وعبادته، شهد فتح الشام مع أبي عبيدة، وناب بحمص وبدمشق أيضا في زمان عمر، فلما كانت خلافة عثمان عزله وولى معاوية الشام بكماله، وله أخبار يطول ذكرها * عروة بن حزام أبو سعيد العدوي كان شاعر مغرما في ابنة عم له، وهي عفراء بنت مهاجر، يقول فيها الشعر واشتهر بحبها، فارتحل أهلها من الحجاز إلى الشام، فتبعهم عروة فخطبها إلى عمه فامتنع من تزويجه لفقره وزوجها بابن عمها الآخر، فهلك عروة هذا في محبتها، وهو مذكور في كتاب مصارع العشاق، ومن شعره فيها قوله: وما هي إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتأي * وأنسى الذي أعددت حين تغيب قطبة بن عامر أبو زيد الانصاري عقبي بدري * قيس بن مهدي بن قيس بن ثعلبة الانصاري النجاري، له حديث في الركعتين قبل الفجر، وزعم ابن ماكولا أنه شهد بدرا، قال مصعب الزبيري: هو جد يحيى بن سعيد الانصاري، وقال الاكثرون: بل هو جد أبي مريم
عبد الغفار بن القاسم الكوفي فالله أعلم * لبيد بن ربيعة أبو عقيل العامري الشاعر المشهور: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل " * وتمام البيت: وكل نعيم لا محالة زائل

فقال عثمان بن مظعون: إلا نعيم الجنة، وقد قيل إنه توفي سنة إحدى وأربعين فالله أعلم * المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، شهد بيعة الرضوان وهو والد سعيد بن المسيب سيد التابعين * معاذ بن عمرو بن الجموح الانصاري شهد بدرا، وضرب يومئذ أبا جهل بسيفه فقطع رجله، وحمل عكرمة بن أبي جهل على معاذ هذا فضربه بالسيف فحل يده من كتفه، فقاتل بقية يومه وهي معلقة يسحبها خلفه، قال معاذ: فلما انتهيت وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها رضي الله عنه.
وعاش بعد ذلك إلى هذه السنة سنة خمس وثلاثين * محمد بن جعفر بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، ولد لابيه وهو بالحبشة، فلما هاجر إلى المدينة سنة خيبر، وتوفي يوم مؤتة شهيدا، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلهم فقال لامهم أسماء بنت عميس: " إيتيني ببني أخي، فجئ بهم كأنهم أفرخ فجعل يقبلهم ويشمهم ويبكي، فبكت أمهم فقال: أتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ؟ ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم " وقد مات محمد وهو شاب في أيام عثمان كما ذكرنا، وزعم ابن عبد البر أنه توفي في تستر فالله أعلم * معبد بن العباس بن عبد المطلب بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل شابا بأفريقية من بلاد المغرب * معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، صاحب خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، قيل توفي في أيام عثمان، وقيل قبل ذلك، وقيل سنة أربعين والله أعلم * منقذ بن عمرو الانصاري، أحد بني مازن بن النجار.
كان قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وضعف عقله، وكان يكثر من البيع والشراء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل ما تشتريه ثلاثة أيام " قال الشافعي: كان مخصصا بإثبات الخيار في كل بيع، سواء اشترط الخيار أم لا * نعيم بن مسعود، أبو سلمة الغطفاني وهو الذي خذل بين الاحزاب وبين بني قريظة كما قدمناه، فله بذلك
اليد البيضاء، والراية العليا أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، الشاعر، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم السقيفة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشعر هذيل، وهذيل أشعر العرب وهو القائل: وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع وتجلدي للشامتين أربهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع توفي غازيا بأفريقية في خلافة عثمان * أبو رهم سبرة بن عبد العزى القرشي الشاعر ذكره في هذا الفصل محمد بن سعد وحده * أبو زبيد الطائي، الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر كان نصرانيا (1) وكان يجالس الوليد بن عقبة فأدخله على عثمان فاستنشده شيئا من شعره فأنشده قصيدة
__________
(1) تذهب أغلب المصادر القديمة إلى أنه كان نصرانيا وأدرك الاسلام ولم يسلم وانه على دينه (النصرانية) مات.
(الشعر والشعراء، الاغاني، تاريخ ابن عساكر، الارشاد لياقوت) إلا أن هناك اشارة في الطبري اغفلها المؤرخون، وهي رغبته واستعداده للقتال، وقد تمثل ذلك في قتاله إلى جانب المسلمين يوم الجسر حمية =

له في الاسد بديعة (1)، فقال له عثمان: تفتأ تذكر الاسد ما حييت ؟ إني لاحسبك جبابا نصرانيا * أبو سبرة بن أبي رهم العامري، أخو أبي سلمة بن عبد الاسد، أمهما برة بنت عبد المطلب، هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا وما بعدها، قال الزبير: لا نعلم بدريا سكن مكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سواه، قال: وأهله ببدر في ذلك * أبو لبابة بن عبد المنذر أحد نقباء ليلة العقبة، وقيل إنه في خلافة علي والله أعلم * أبو هاشم بن عتبة تقدم وفاته في سنة إحدى وعشرين، وقيل في خلافة عثمان والله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن
نزار بن معد بن عدنان أبو الحسن والحسين، ويكنى بأبي تراب، وأبي القسم الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته فاطمة الزهراء.
وأمة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ويقال إنها أول هاشمية ولدت هاشميا.
وكان له من الاخوة طالب، وعقيل، وجعفر، وكانوا أكبر منه، بين كل واحد منهم وبين الآخر عشر سنين، وله أختان، أم هانئ وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وقد أسلمت وهاجرت * كان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة واحد الستة أصحاب الشورى، وكان ممن توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنهم وكان رابع الخلفاء
__________
= للمسلمين وقد استعمله بعدها عمر على صدقات قومه.
وصاحب الوليد بن عقبة، الذي لم يزل به حتى اسلم في آخر امارة الوليد وحسن اسلامه.
وأيد ابن الاثير هذه الرواية.
ولم يرد في شعره ما يؤيد نصرانيته كما هو الحال عند غيره من الشعراء.
في موته أقوال والثابت، وفي ديوانه اشارة إلى انه رثى عبيد الله بن عمر بن الخطاب والمعروف أن عبيد الله قتل في صفين.
وله قصيدة في رثاء الامام علي فهذا يعني صراحة إلى انه كان حيا سنة (40) ويذكر السيوطي في المزهر 1 / 125 - 129 عن ابن دريد في اماليه أن أبا زبيد الطائي وجميل بن معمر العذري والاخطل اجتمعوا عند يزيد يتناشدون وصف الاسد.
هذا يرجح انه مات بعد سنة 41، وهذا يضع علامة استفهام كبرى على صحة رواية بروكلمن الذي قال: مات نصرانيا في خلافة عثمان (تاريخ الادب العربي 1 / 173).
(1) ومنها: في الطرائف الادبية، وحماسة البحتري والمحكم وأمالي المرتضى وشرح سقط الزند: من مبلغ قومنا النائين إذا شحطوا * أن الفؤاد إليهم شيق ولع فالدار تنبيهم عني فإن لهم * ودي ونصري إذا اعداؤهم نصعوا إلى أن يقول: ضرغامة أهرت الشدقين ذي لبد * كأنه برنسا في الغاب ملتفع أفر عنه بني الخالات جرأته * لا الصيد يمنع منه وهو ممتنع

الراشدين وكان رجلا آدم شديد الادمة أشكل (1) العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى
القصر أقرب وكان عظيم اللحية، قد ملات صدره ومنكبيه، أبيضها، وكان كثير شعر الصدر والكتفين، حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الارض * أسلم علي قديما، وهو ابن سبع وقيل ابن ثمان، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل أحد عشر، وقيل اثني عشر، وقيل ثلاثة عشر، وقيل أربع عشرة، وقيل ابن خمس عشرة، أو ست عشرة سنة قاله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن، ويقال إنه أول من أسلم والصحيح أنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلمت من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الاحرار، وكان سبب اسلام علي صغيرا أنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه كان قد أصابتهم سنة مجاعة، فأخذه من أبيه، فكان عنده، فلما بعثه الله بالحق آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي، وكان الايمان النافع المتعدي نفعه إلى الناس إيمان الصديق رضي الله عنه.
وقد ورد عن علي أنه قال: أنا أول من أسلم ولا يصح إسناده إليه.
وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة لا يصح شئ منها والله أعلم.
وقد روى الامام أحمد: من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة سمعت أبا حمزة - رجلا من موالي الانصار - قال سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي * وفي رواية أول من صلى.
قال عمرو: فذكرت ذلك للنخعي فأنكره، وقال أبو بكر: أول من أسلم * وقال محمد بن كعب القرظي: أول من آمن من النساء خديجة وأول رجلين آمنا أبو بكر وعلي ولكن كان أبو بكر يظهر إيمانه وعلي يكتم إيمانه، قلت: يعني خوفا من أبيه، ثم أمره أبوه بمتابعة ابن عمه ونصرته، وهاجر علي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه، ثم يلحق به، فامتثل ما أمره به، ثم هاجر، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سهل بن حنيف، وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين نفسه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة لا يصح شئ منها لضعف أسانيدها، وركة بعض متونها، فإن في بعضها " أنت أخي ووارثي وخليفتي وخير من أمر بعدي " وهذا الحديث موضوع مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما والله أعلم * وقد شهد علي بدرا وكانت له اليد البيضاء فيها، بارز يومئذ
فغلب وظهر وفيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيدة بن الحارث وخصوصهم الثلاثة - عتبة وشيبة والوليد بن عتبة - نزل قوله تعالى * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * [ الحج: 19 ] الآية.
وقال الحكم وغيره عن مقسم عن ابن عباس قال: " دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم بدر إلى علي وهو ابن عشرين سنة " وقال الحسن بن عرفة: حدثني عمار بن محمد عن سعيد بن محمد الحنظلي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: نادى مناد في السماء يوم بدر يقال له رضوان لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
قال ابن عساكر وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم
__________
(1) في الطبري وابن سعد: ثقيل العينين، وعن أبي الحجاج: كان فيهما أثر الكحل.

وهبه من علي بعد ذلك وقال يونس بن بكير: عن مسعر، عن أبي عوف، عن أبي صالح، عن علي قال: قيل لي يوم بدر ولابي بكر قيل لاحدنا معك جبريل ومع الآخر ميكائيل قال وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل ويكون في الصف.
وشهد علي أحدا وكان على الميمنة ومعه الراية بعده مصعب بن عمير، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الانصاري، وحمزة بن عبد المطلب، على القلب وعلى الرجالة الزبير بن العوام، وقيل المقداد بن الاسود، وقد قاتل علي يوم أحد قتالا شديدا، وقتل خلقا كثيرا من المشركين، وغسل عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم الدم الذي كان أصابه من الجراح حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب، وأحد شجعانهم المشاهير، عمرو بن عبدود العامري، كما قدمنا ذلك في غزوة الخندق، وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وشهد خيبر وكانت له بها مواقف هائلة، ومشاهد طائلة، منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يذكرون أيهم يعطاها، فدعا عليا - وكان أرمد - فدعا له، وبصق في عينه فلم يرمد بعدها، فبرأ وأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحبا اليهودي.
وذكر محمد بن إسحاق عن عبد الله بن حسن عن بعض أهله عن أبي رافع أن يهوديا ضرب عليا فرطح ترسه، فتناول بابا عند الحصن فتترس به، فلم يزل في يده حتى فتح الله على يديه ثم
ألقاه من يده، قال أبو رافع: فلقد رأيتني أنا وسبعة معي نجتهد أن نقلب ذلك الباب على ظهره يوم خيبر فلم نستطع.
وقال ليث عن أبي جعفر عن جابر أن عليا حمل الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، فلم يحملوه إلا أربعون رجلا * ومنها أنه قتل مرحبا فارس يهود وشجعانهم * وشهد علي عمرة القضاء وفيها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت مني، وأنا منك " وما يذكره كثير من القصاص في مقاتلته الجن في بئر ذات العلم - وهو بئر قريب من الجحفة - فلا أصل له، وهو من وضع الجهلة من الاخباريين فلا يغتر به.
وشهد الفتح وحنينا والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالا كثيرا، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرا وحاكما على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، إلى مكة، وساق معه هديا، وأهل كأهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فأشركه في هديه، واستمر على إحرامه، ونحرا هديهما بعد فراغ نسكهما كما تقدم ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له العباس: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن الامر بعده ؟ فقال: والله لا أسأله فإنه إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا، والاحاديث الصحيحة الصريحة دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوح بذكر الصديق، وأشار إشارة مفهمة ظاهرة جدا إليه، كما قدمنا ذلك ولله الحمد.
وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الاغبياء، من أنه أوصى إلى علي بالخلافة،

فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم به خطأ كبير، من تخوين الصحابة وممالاتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره، لا لمعنى ولا لسبب، وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الاسلام هو الحق، يعلم بطلان هذا الافتراء، لان الصحابة كانوا خير الخلق بعد الانبياء، وهم خير قرون هذه الامة، التي هي أشرف الامم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف، في الدنيا والآخرة، ولله الحمد.
وما قد يقصه بعض القصاص من العوام
وغيرهم في الاسواق وغيرها من الوصية لعلي في الآداب والاخلاق في المأكل والمشرب والملبس، مثل ما يقولون: يا علي لا تعتم وأنت قاعد، يا علي لا تلبس سراويلك وأنت قائم، يا علي لا تمسك عضادتي الباب، ولا تجلس على أسكفة الباب، ولا تخيط ثوبك وهو عليك، ونحو ذلك، كل ذلك من الهذيانات فلا أصل لشئ منه، بل هو اختلاف بعض السفلة الجهلة، ولا يعول على ذلك ويغتر به إلا غبي عيي.
ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه كما تقدم ذلك مفصلا ولله الحمد والمنة.
وسيأتي في باب فضائله ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم له من فاطمة بعد وقعة بدر فولد منها حسن وحسين ومحسن كما قدمنا.
وقد وردت أحاديث في ذلك لا يصح شئ منها بل أكثرها من وضع الروافض والقصاص.
ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد كما قدمنا.
وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضا عليه، وأحب الاشياء إليه، ولما توفيت فاطمة بعد ستة أشهر - وكانت قد تغضبت بعض الشئ على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالانبياء وأنهم لا يورثون، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظرا على هذه الصدقة، فأبى ذلك عليها، فبقي في نفسها شئ كما قدمنا، واحتاج علي أن يداريها بعض المداراة - فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق رضي الله عنهما، فلما توفي أبو بكر وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر إليه بذلك، كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاوره في الامور، ويقال إنه استقضاه في أيام خلافته، وقدم معه من جملة سادات أمراء الصحابة إلى الشام، وشهد خطبته بالجابية، فلما طعن عمر وجعل الامر شورى في ستة أحدهم علي، ثم خلص منهم بعثمان وعلي كما قدمنا، فقدم عثمان على علي، فسمع وأطاع، فلما قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين على المشهور.
عدل الناس إلى علي فبايعوه، قبل أن يدفن عثمان، وقيل بعد دفنه كما تقدم (1)، وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الامارة حتى تكرر قولهم
__________
(1) في الطبري والكامل: بويع لخمس بقين من ذي الحجة بقيت المدينة خمسة أيام، بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب حتى غشى الناس عليا فبايعوه 3 / 193، وذكرها الطبري عن سيف عن أبي حارثة 5 / 156
وقال ابن الاعثم: ترك عثمان قتيلا إلى أن بويع علي وأتي به إلى حفرته 2 / 241 وفي مروج الذهب: بويع علي في اليوم الذي قتل فيه عثمان.

له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول (1)، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاؤوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الامر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب.
ذكر بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة يقال أن أول من بايعه طلحة بيده اليمنى وكانت شلاء من يوم أحد - لما وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال بعض القوم: والله إن هذا الامر لا يتم، وخرج علي إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وعمامة خز ونعلاه في يده، توكأ على قوسه، فبايعه عامة الناس، وذلك يوم السبت التاسع عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، ويقال إن طلحة والزبير إنما بايعاه بعد أن طلبهما وسألاه أن يؤمرهما على البصرة والكوفة، فقال لهما: بل تكونا عندي أستأنس بكما، ومن الناس من يزعم أنه لم يبايعه طائفة من الانصار، منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة (2) ذكره ابن جرير من طريق المدائني عن شيخ من بني هاشم عن عبد الله بن الحسن قال المدائني: حدثني من سمع الزهري يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم بايعوا عليا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة، قلت: وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام.
وقال الواقدي: بايع الناس عليها بالمدينة، وتربص سبعة نفر لم يبايعوا، منهم ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن أبي سلمة، وسلمة بن سلامة بن رقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلف أحد من الانصار إلا بايع فيما نعلم.
وذكر سيف بن عمر عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب، يلتمسون من يجييبهم إلى القيام
بالامر.
والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم لا نولي أحد من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم، ثم قالوا: ان نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الاشتر بيده فبايعه وبايعه الناس، وأهل الكوفة يقولون، أول من بايعه الاشتر النخعي وذلك يوم الخميس الرابع
__________
(1) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل كان في بيته، 3 / 191 وفي فتوح ابن الاعثم: كان يعرف الضبع 2 / 243.
(2) في فتوح ابن الاعثم 2 / 256: اسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك - لم يدخلوا في بيعة الناس من المهاجرين والانصار - ورفض علي استدعاءهم لسعته.

والعشرون من ذي الحجة، وذلك بعد مراجعة لهم في ذلك، وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد علي المنبر بايعه من لم يبايعه بالامس، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم الزبير، ثم قال الزبير: إنما بايعت عليا واللج على عنقي والسلام، ثم راح إلى مكة فأقام أربعة أشهر، وكانت هذه البيعة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، وكان أول خطبة خطبها أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، إن الله حرم حرما غير (1) مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل لمسلم أذى مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإنما خلفكم الساعة تحدو بكم فتخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بالناس أخراهم، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده، فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، ثم أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر
فدعوه * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض) * [ الانفال: 26 ] الآية، فلما فرغ من خطبته قال المصريون: خذها إليك واحذرن أبا الحسن * إنا نمر الامر إمرار الرسن صولة آساد كآساد السفن * بمشرفيات كغدران اللبن ونطعن الملك بلين كالشطن * حتى يمرن على غير عنن فقال علي مجيبا لهم ! ان عجزت عجزة لا أعتذر * سوف أكيس بعدها وأستمر أرفع من ذيلي ما كنت أجر * وأجمع الامر الشتيت المنتشر إن لم يشاغبني العجول المنتصر * أو يتركوني والسلاح يبتدر وكان على الكوفة أبو موسى الاشعري على الصلاة وعلى الحرب القعقاع بن عمرو وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، ونوابه على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الاردن أبو الاعور، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة (2)، وعلى أذربيجان الاشعث بن قيس، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى قيسارية مالك بن حبيب، وعلى همذان (3) حبيش.
هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذي توفي وهم نواب الامصار، وكان
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في الطبري والكامل: علقمة بن حكيم الكناني.
(3) في الطبري والكامل: وعلى همذان النسير، أما حبيش (وفي الكامل حنيس) فكان على ماسبذان.

على بيت المال عقبة بن عمرو (1)، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت، ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت
عنه بيدها، فقطعت مع بعض الكف فورد به على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الاصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الاخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه، فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، وحث بعضهم بعضا على الاخذ بثأره، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج: منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء (2)، وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين: شريك بن حباشة، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم، وغيرهم من التابعين.
ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤس الصحابة رضي الله عنهم، وطلبوا منه إقامة الحدود، والاخذ بدم عثمان.
فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة، ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج، وجهلة الاعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه فقال لهما: مهلا علي، حتى انظر في هذا الامر.
ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك فقال له.
إني أرى أن تقر عمالك على البلاد، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت، ثم جاءه من الغد فقال له: إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك، فعرض ذلك علي على ابن عباس قال: لقد نصحك بالامس وغشك اليوم، فبلغ ذلك المغيرة فقال: نعم نصحته فلما لم يقبل غششته ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم طلحة والزبير: وكانوا قد استأذنوا عليا في الاعتمار فأذن لهم، ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد، إلى أن يتمكن الامر، وأن يقر معاوية خصوصا على الشام وقال له: إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أن يتكلما عليك بسبب ذلك، فقال علي: إني لا أرى هذا ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس لعلي: إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده، فقال علي: والله إن هذا مالا يكون أبدا، فقال ابن
عباس: يا أمير المؤمنين الحرب خدعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لئن أطعتني لاوردنهم بعد صدرهم ونهى ابن عباس عليا فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون إليه الرحيل إلى
__________
(1) في الكامل: عامر.
(2) قال ابن الاثير: والصحيح أن أبا الدرداء توفي قبل أن قتل عثمان.
قال في الاصابة: والاصح عند أصحاب الحديث انه مات في خلافة عثمان فيما قال الواقدي: مات سنة ثنتين وثلاثين.

العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الامراء من أولئك الخوارج من أهل الامصار.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قصد قسطنطين بن هرقل بلاد المسلمين في ألف مركب، فأرسل الله عليه قاصفا من الريح فغرقه الله بحوله وقوته، ومن معه، ولم ينج منهم أحد إلا الملك في شرذمة قليلة من قومه، فلما دخل صقلية عملوا له حماما فقتلوه فيه، وقالوا: أنت قتلت رجالنا.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة استهلت هذه السنة وقد تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، وولى على الامصار نوابا، فولى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب (1) على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية (2) فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية، فقالوا: من أنت ؟ أمير، قالوا: على أي شئ ؟ قال: على الشام، فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحي هلابك، وإن كان غيره فارجع.
فقال: أو ما سمعتم الذي كان ؟ قالوا: بلى، فرجع إلى علي.
وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميرا على الكوفة فصده عنها طلحة بن خويلد غضبا لعثمان، فرجع إلى علي فأخبره، وانتشرت الفتنة وتفاقم الامر، واختلفت الكلمة، وكتب أبو
موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم، وبعث علي إلى معاوية كتبا كثيرة فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طومارا مع رجل (3) فدخل به على علي فقال: ما وراءك ؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور، تركت سبعين ألف (4) شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي علي فهم به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد.
وعزم علي رضي الله عنه على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى
__________
(1) في الطبري والكامل: عثمان بن حنيف.
(2) زاد ابن الاعثم في فتوحه 2 / 268: وولى جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي بلاد خراسان، وولى عبد الرحمن مولى بديل من ورقاء الخزاعي أميرا وعاملا على الماهين، والماهان: الدينور ونهاوند احداهما ماه الكوفة والاخرى ماه البصرة.
(3) ذكره الطبري: من بني عبس ثم من بني رواحة يدعى قبيصة.
(4) في الطبري والكامل: ستين ألف.

بالكوفة: وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك (1).
وعزم على التجهز.
وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي فقال: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمرو بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الاسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يبق شئ إلا أن يخرج من المدينة قاصدا إلى الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك وهو
ما سنورده.
ابتداء وقعة الجمل لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق، كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارا من الفتنة، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل، أقمن بمكة بعدما خرجوا منها، ورجعوا إليها وأقاموا بها وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتجسسون الاخبار فلما بويع لعلي وصار حظ الناس عنده بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك رؤس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان، مع أن عليا في نفس الامر يكرههم، ولكنه تربص بهم الدوائر، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم، ولكن لما وقع الامر هكذا واستحوذوا عليه، وحجبوا عنه علية الصحابة فر جماعة من بني أمية (2) وغيرهم إلى مكة، واستأذنه طلحة بن الزبير في الاعتمار، فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهم خلق كثير، وجم غفير، وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه، فطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرضه على الخروج معه، فقال: إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة، وقدم إلى مكة أيضا في هذا العام يعلى بن أمية (3) من اليمن، - وكان عاملا عليها لعثمان -، ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم (4)، وقدم لها عبد الله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة، وأمهات المؤمنين، فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام، ولم يراقبوا
__________
(1) انظر خطبته في أهل المدينة في الطبري 5 / 163 - 164 والكامل لابن الاثير 3 / 204.
(2) منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط - أخو عثمان - مروان بن الحكم - عبد الله بن عامر - ابن خال عثمان - وعبد الله بن عامر الحضرمي وسعيد بن العاص.
(3) الصواب يعلى بن منية.
(4) كذا في الاصل والطبري والكامل.
وفي فتوح ابن الاعثم: أربعمائة بعير.

جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء، وأخذوا الاموال.
فاستجاب الناس لها، وطاوعوها على ما تراه من الامر بالمصلحة، وقالوا لها: حيثما ما سرت سرنا معك، فقال قائل نذهب إلى الشام، فقال بعضهم: إن معاوية قد كفاكم أمرها، ولو قدموها لغلبوا، واجتمع الامر كله لهم، لان أكابر الصحابة معهم وقال آخرون: نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا، وقال آخرون: بل نذهب إلى البصرة فنتقوى من هنالك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان.
فاتفق الرأي على ذلك وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة، فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك وقلن: لا نسير إلى غير المدينة، وجهز الناس يعلى بن أمية فأنفق فيهم ستمائة بعير وستمائة ألف درهم (1) وجهزهم ابن عامر أيضا بمال كثير، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عاشئة على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس صحبة عاشئة في ألف فارس، وقيل تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين عاشئة تحمل في هودج على حمل اسمه عسكر، اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار، وقبل بثمانين دينارا، وقيل غير ذلك، وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع، وتباكى الناس، وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب، وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذي يصلي بالناس عن أمر عاشئة ابن أختها عبد الله ابن الزبير (2)، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات، وقد مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب، فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عاشئة قالت: ما اسم هذا المكان ؟ قالوا الحوأب، فضربت باحدى يديها على الاخرى وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أطنني إلا راجعة، قالوا: ولم ؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: " ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب "، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب، وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في دلائل النبوة كما سبق،
فأناخ الناس حولها يوما وليلة، وقل لها عبد الله بن الزبير: إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب (3)، ثم قال الناس: النجا النجا، هذا جيش علي بن أبي طالب قد أقبل، فارتحلوا نحو البصرة، فلما اقتربت من البصرة كتبت إلى الاحنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس، أنها قد قدمت، فبعث عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الاسود الدؤلي إليها ليعلما ما جاءت له، فلما قدما عليها سلما عليها واستعلما منها ما جاءت له، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم: ستين ألف دينار وفي رواية عوف أعان يعلى بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلا من قريش.
(2) في رواية في الطبري: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد.
(3) جاء ابن الزبير بخمسين رجلا شهدوا عند عائشة هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور شهد بها في الاسلام.

بطلب دم عثمان، لانه قتل مظلوما في شهر حرام وبلد حرام.
وتلت قوله تعالى * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك بتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * [ النساء: 114 ] فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة فقالا له: ما أقدمك ؟ فقال: الطلب بدم عثمان، فقالا: ما بايعت عليا ؟ قال: بلى والسيف على عنقي، ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان.
فذهبا إلى الزبير فقال مثل ذلك، قال: فرجع عمران وأبو الاسود إلى عثمان بن حنيف، فقال أبو الاسود: يا بن الاحنف (1) قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر * واخرج لهم مستلثما وشمر * فقال عثمان بن حنيف: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحا الاسلام ورب الكعبة، فانظروا بأي زيفان نزيف، فقال عمران إي والله لتعركنكم عركا طويلا، يشير عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعا " تدور رحا الاسلام لخمس وثلاثين " الحديث كما تقدم، ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين: أشر علي، فقال اعتزل فإني قاعد في منزلي، أو قال قاعد
على بعيري، فذهب فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين، فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح والاجتماع في المسجد، فاجتمعوا فأمرهم بالتجهز، فقام رجل وعثمان على المنبر فقال: أيها الناس إن كان هؤلاء القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته، فاطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا، فقام الاسود بن سريع السعدي فقال: إنما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان ومنا ومن غيرنا، فحصبه الناس، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصارا، فكره ذلك، وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس، فنزلوا المربد من أعلاه قريبا من البصرة، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد، فتكلم طلحة - وكان على الميمنة - فندب إلى الاخذ بثأر عثمان، والطلب بدمه، وتابعه الزبير فتكلم بمثل مقالته فرد عليهما ناس من جيش عثمان بن حنيف، وتكلمت أم المؤمنين فحرضت وحثت على القتال، فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة، ثم تحاجز الناس ورجع كل فريق إلى حوزته، وقد صارت طائفة من جيش عثمان بن حنيف إلى جيش عائشة، فكثروا، وجاء حارثة (2) بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين ! والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة السلاح، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مكرهة فاستعيني بالناس في الرجوع وأقبل حكيم بن جبلة - وكان على خيل عثمان بن
__________
(1) في الطبري والكامل: يا بن حنيف.
(2) في الطبري والكامل: جارية.

حنيف - فأنشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وجعل حكيم يقتحم عليهم فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، وحجز الليل بينهم، فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال، فاقتتلوا قتالا شديدا، إلى أن زال النهار، وقتل خلق كثير من أصحاب ابن حنيف، وكثرت الجراح في الفريقين، فلما
عضتهم الحرب تداعوا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتابا ويبعثوا رسولا إلى أهل المدينة يسأل أهلها، إن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة، خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها، وإن لم يكونا أكرها على البيعة خرج طلحة الزبير عنها وأخلوها لهم، وبعثوا بذلك كعب بن سور القاضي، فقدم المدينة يوم الجمعة، فقام في الناس، فسألهم: هل بايع طلحة والزبير طائعين أو مكرهين ؟ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد، فقال: بل كانا مكرهين، فثار إليه بعض الناس فأرادوا ضربه، فحاجف دونه صهيب، وأبو أيوب، وجماعة حتى خلصوه، وقالوا له: ما وسعك ما وسعنا من السكوت ؟ فقال: لا والله ما كنت أرى أن الامر ينتهي إلى هذا، وكتب علي إلى عثمان بن حنيف يقول له: إنهما لم يكرها على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرا ونظرنا، وقدم كعب بن سور على عثمان بكتاب علي، فقال عثمان: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه، وبعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى، فجمعا الرجال في ليلة مظلمة وشهدا بهم صلاة العشاء في المسجد الجامع، ولم يخرج عثمان بن حنيف تلك الليلة، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب، فقتل منهم نحوا أربعين رجلا، ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها، فاستعظما ذلك وبعثا إلى عائشة فأعلماها الخبر، فأمرت أن تخلي سبيله، فأطلقوا وولوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم طلحة والزبير أموال بيت المال في الناس وفضلوا أهل الطاعة، وأكب عليهم الناس يأخذون أرزاقهم، وأخذوا الحرس، واستبدوا في الامر بالبصرة، فحمى لذلك جماعة من قوم قتلة عثمان وأنصارهم، فركبوا في جيش قريب من ثلثمائة، ومقدمهم حكيم بن جبلة، هو أحد من باشر قتل عثمان، فبارزوا وقاتلوا، فضرب رجل رجل حكيم بن جبلة فقطعها، فزحف حتى أخذها وضرب بها ضاربه فقتله ثم اتكأ عليه وجعل يقول: يا ساق لن تراعي * * إن لك ذراعي
أحمي بها كراعي وقال أيضا: ليس على أن أموت عار * * والعار في الناس هو الفرار والمجد لا يفضحه الدمار فمر عليه رجل وهو متكئ برأسه على ذلك الرجل، فقال له: من قتلك ؟ فقال له

وسادتي.
ثم مات حكيم قتيلا هو ونحو من سبعين من قتلة عثمان وأنصارهم أهل المدينة، فضعف جأش من خالف طلحة والزبير من أهل البصرة، ويقال: إن أهل البصرة بايعوا طلحة والزبير، وندب الزبير ألف فارس يأخذها معه ويلتقي بها عليا قبل أن يجئ فلم يجبه أحد، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشرونهم بذلك، وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها فإن لم يجئ فليكف يده وليلزم منزله، أي لا يكون عليها ولا لها، فقال: أنا في نصرتك ما دمت في منزلك، وأبى أن يطيعها في ذلك، وقال: رحم الله أم المؤمنين أمرها الله أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا، وكتبت عائشة إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك (1).
مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلا من الشام بعد أن كان قد تجهز قاصدا الشام كما ذكرنا، فلما بلغه قصد طلحة والزبير البصرة، خطب الناس وحثهم على المسير إلى البصرة ليمنع أولئك من دخولها، إن امكن، أو يطردهم عنها إن كانوا قد دخلوها، فتثاقل عنه أكثر أهل المدينة، واستجاب له بعضهم، قال الشعبي: ما نهض معه في هذا الامر غير ستة نفر من البدريين، ليس لهم سابع.
وقال غيره أربعة.
وذكر ابن جرير وغيره قال كان ممن استجاب له من كبار الصحابة أبو الهيثم بن التيهان، وأبو قتاده الانصاري، وزياد بن حنظلة، وخزيمة بن ثابت.
قالوا: وليس بذي الشهادتين، ذاك مات في زمن عثمان
رضي الله عنه.
وسار علي من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدم ذكرها، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس وعلى مكة قثم بن عباس وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وخرج علي من المدينة في نحو من تسعمائة مقاتل (2)، وقد لقي عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليا وهو بالربذة، فأخذ بعنان فرسه وقال: يا أمير المؤمنين ! لا تخرج منها، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس، فقال علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق فقال: لقد نهيتك فعصيتني تقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك.
فقال له علي: إنك لا تزال تحن علي حنين الجارية، وما الذي نهيتني عنه فعصيتك ؟ فقال: ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل أو يتحدث متحدث ؟ ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم ؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فعصيتني في ذلك كله ؟ فقال له علي: أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان فلقد أحيط بنا كما أحيط
__________
(1) انظر كتاب عائشة إلى أهل الكوفة في الطبري 5 / 181 - 182.
(2) في الطبري سبعمائة رجل.

به، وأما مبايعتي قبل مجئ بيعة الامصار فكرهت أن يضيع هذا الامر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه.
فتريد مني أن يكون كالضبع التي يحاط بها، ويقال ليست ها هنا، حتى يشق عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنضر فيما يلزمني في هذا الامر ويعنيني، فمن ينظر فيه ؟ فكف عني يا بني، ولما انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة من الامر الذي قدمنا كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، إني قد اخترتكم على أهل الامصار، فرغبت إليكم وفزعت لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، [ وأيدونا ] وانهضوا إلينا فالاصلاح نريد لتعود هذه الامة إخوانا (1)، فمضيا، وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب، وقام في الناس خطيبا فقال: إن الله أعزنا بالاسلام ورفعنا به، وجعلنا به إخوانا، بعد ذلة وقلة وتباغض
وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الاسلام دينهم، والحق قائم بينهم، والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الامة، ألا وإن هذه الامة لابد مفترقة كما افترقت الامم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن.
ثم عاد ثانية فقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تحبني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم، واهتدوا بهديي فإنه هدى نبيكم، واتبعوا سنته، وأعرضوا عما أشكل عليكم، حتى تعرضوه على الكتاب، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن حكما وإماما.
قال فلما عزم على المسير من البربذة قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين أي شئ تريد ؟ وأين تذهب بنا ؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالاصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه ؟ قال: ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا ؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا ؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذا.
فقام إليه الحجاج بن غزية الانصاري فقال: لارضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرني الله كما سمانا أنصارا.
قال: وأتت جماعة من طئ وعلي بالبربذة، فقيل له: هؤلاء جماعة جاؤوا من طئ منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد السلام عليك، فقال: جزى الله كلا خيرا * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * [ النساء: 95 ] قالوا: فسار علي من الربذة على تعبئته وهو راكب ناقة حمراء يقود فرسا كميتا فلما كان بفيد (2) جاءه جماعة من أسد وطئ، فعرضوا أنفسهم عليه فقال: فيمن معي كفاية، وجاء رجل من أهل الكوفة يقال له عامر بن مطر الشيباني، فقال له علي: ما وراءك ؟ فأخبره الخبر، فسأله عن أبي موسى فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه، فقال علي: والله ما أريد إلا الصلح ممن تمرد علينا.
وسار، فلما اقترب من الكوفة وجاءه الخبر بما وقع من الامر على جليته،
__________
(1) زاد الطبري في كتابه: ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق وآثره ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحق وغمصه.
(2) فيد: بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة عامرة إلى الآن (معجم البلدان).

من قتل ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة، وأخذهم أموال بيت المال، جعل يقول: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير، فلما انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف مهشما، وليس في وجهه شعرة فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني إلى البصرة وأنا ذو لحية، وقد جئتك أمردا، فقال: أصبت خيرا وأجرا.
وقال عن طلحة والزبير: اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا - يعني في هذا الامر - وأقام علي بذي قار ينتظر جواب ما كتب به مع محمد بن أبي بكر وصاحبه محمد بن جعفر - وكانا قد قدما بكتابه على أبي موسى وقاما في الناس بأمره - فلم يجابا في شئ، فلما أمسوا دخل أناس من دوي الحجبى على أبي موسى يعوضون عليه الطاعة لعلي، فقال: كان هذا بالامس فغضب محمد ومحمد فقالا له قولا غليظا: فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحدا حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا، فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر، وهو بذي قار، فقال للاشتر: أنت صاحب أبي موسى والمعرض في كل شئ فاذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت، فخرجا فقدما الكوفة وكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من الكوفة فقام في الناس فقال: أيها الناس، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقا وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على أمره، وهذه فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي فاغمدوا السيوف وانصلوا الاسنة، واقطعوا الاوتار، وأووا المضطهد والمظلوم حتى يلتئم هذا الامر، وتتجلي هذه الفتنة، فرجع ابن عباس والاشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل الحسن وعمار بن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت، فانطلقا حتى دخلا المسجد فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الاجدع، فقال لعمار: علام قتلتم عثمان ؟ فقال: علي شتم أعراضنا وضرب أبشارنا، فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولو صبرتم لكان خيرا للصابرين.
قال: وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن
علي فضمه إليه، وقال لعمار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته ؟ فقال: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك، فقطع عليهما الحسن بن علي فقال لابي موسى: لم تثبط الناس عنا ؟ فوالله ما أردنا إلا الاصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شئ، فقال: صدقت بأبي وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب " (1) وقد جعلنا الله إخوانا وحرم علينا دماءنا وأموالنا، فغضب عمار وسبه، وقال: يا أيها الناس، إنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدة أنت فيها قاعدا خير منك قائما، فغضب رجل من بني تميم لابي موسى ونال من عمار، وثار آخرون، وجعل
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في الفتن.
(3) باب نزول الفتن ح (13) ص (2212) ورواه البيهقي في الدلائل ج 6 / 408 عن أبي بكرة.

أبو موسى يكفكف الناس، وكثر اللغط، وارتفعت الاصوات، وقال أبو موسى أيها الناس، أطيعوني وكونوا خير قوم من خير أمم العرب، يأوي إليهم المظلوم، ويأمن فيهم الخائف، وإن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت تبينت ثم أمر الناس بكف أيديهم ولزوم بيوتهم، فقام زيد بن صوحان فقال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين سيروا إليه.
أجمعون، فقام القعقاع بن عمرو فقال: إن الحق ما قاله الامير، ولكن لابد للناس من أمير يردع الظالم ويعدي المظلوم، وينتظم به شمل الناس، وأمير المؤمنين علي ولي بما ولي، وقد أنصف بالدعاء، وإنما يريد الاصلاح، فانفروا إليه، وقام عبد خير فقال: الناس أربع فرق، علي بمن معه في ظاهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا تقاتل ولا عناء بها، فقال أبو موسى: أولئك خير الفرق، وهذه فتنة.
ثم تراسل الناس في الكلام ثم قام عمار والحسن بن علي في الناس على المنبر يدعوان الناس إلى النفير إلى أمير المؤمنين، فإنه إنما يريد الاصلاح بين الناس، وسمع عمار رجلا يسب عائشة فقال: اسكت مقبوحا منبوحا، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها، رواه
البخاري وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين، * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وانفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) * [ التوبة: 41 ] وجعل الناس كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر، وعمار والحسن معه على المنبر حتى قال له الحسن بن علي: ويحك ! اعتزلنا لا أم لك، ودع منبرنا، ويقال إن عليا بعث الاشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة وأخرجه من قصر الامارة من تلك الليلة، واستجاب الناس للنفير فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البر وفي دجلة (1)، ويقال سار معه اثني عشر ألف رجل ورجل واحد، وقدموا على أمير المؤمنين فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة، منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة ! أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى.
فاجتمعوا عنده بذي قار، وكان من المشهورين من رؤساء من الفاف إلى علي، القعقاع بن عمرو، وسعد بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والاشتر، وعدي بن حاتم، والمسيب بن نجبة، ويزيد بن قيس، وحجر بن عدي وأمثالهم، وكانت عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوف، فبعث علي القعقاع رسولا إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الالفة والجماعة، ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف، فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين.
فقال: أي أماه ! ما أقدمك
__________
(1) في الكامل 3 / 231 ستة آلاف ومائتان في البر، وفي الماء ألفان وأربعمائة (انظر الطبري 5 / 191 وفتوح ابن الاعثم 2 / 292).

هذا البلد ؟ فقالت: أي بني ! الاصلاح بين الناس، فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها، فحضرا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها ؟ فقالت إنما جئت للاصلاح بين الناس، فقالا: ونحن كذلك قال: فأخبراني ما وجه هذا الاصلاح ؟ وعلى أي شئ يكون ؟
فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن، قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم وفرقتم من هذا الامر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه - يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها - وكما أنكم عجزتم عن الاخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الامصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقا من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الامر الذي وقع.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت ؟ قال: أقول إن هذا الامر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الامر وائتنافه كانت علامة شر وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولا، ولا تعرضونا للبلاء فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لاقول قولي هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الامة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الامر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الامر، قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشر القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبا فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الاسلام وسعادة أهله بالالفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الامة أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي من الله بها، وأرادوا رد
الاسلام والاشياء على أدبارها، والله بالغ أمره.
ثم قال: ألا إني مرتحل غدا فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد اعان على قتل عثمان بشئ من أمور الناس.
فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالاشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف

بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب (1) بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد، فقالوا: ما هذا، الرأي وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم ؟ فقال الاشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الامر هكذا ألحقنا عليا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت، فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم، فقال غلاب (1) بن الهيثم دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها، فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذا والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء قبحه الله: يا قوم إن عيركم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون فمن أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه، وأصبح علي مرتحلا ومر بعبد القيس فسار، ومن معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كل في ناحية، وقد سبق على جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان، فقالا: إن عليا أشار بتسكين هذا الامر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك، وقام علي في الناس خطيبا، فقام إليه الاعور بن نيار (2) المنقري، فسأله عن
إقدامه على أهل البصرة، فقال: الاصلاح وإطفاء الثائرة (3) ليجتمع الناس على الخير، ويلتئم شمل هذه الامة، قال: فإن لم يجيبونا ؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال فإن لم يتركونا ؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال فهل لهم في هذا الامر مثل الذي لنا، قال: نعم ! وقام إليه أبو سلام (4) الدالاني فقال هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك ؟ قال: نعم ! قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك ؟ قال: نعم ! قال فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا ؟ قال: إني لارجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة، وقال في خطبته: أيها الناس أمسكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإياكم أن يسبقونا غدا، فان المخصوم غدا مخصوم اليوم وجاء في غبون ذلك الاحنف بن قيس في جماعة فانضاف إلي علي - وكان
__________
(1) في الطبري والكامل: علباء.
(2) في الطبري والكامل: بنان.
(3) في الطبري والكامل: النائرة، وهي العداوة والشحناء.
(4) في الطبري والكامل: أبو سلامة.

قد منع حرقوص بن زهير من طلحة والزبير وكان قد بايع عليا بالمدينة وذلك أنه قدم المدينة وعثمان محصور فسأل عائشة وطلحة والزبير: إن قتل عثمان من أبايع ؟ فقالوا بايع عليا فلما قتل عثمان بايع عليا قال: ثم رجعت إلى قومي فجاءني بعد ذلك ما هو أفظع، حتى قال الناس هذه عائشة جاءت لتأخذ بدم عثمان، فحرت في أمري لمن أتبع، فمنعني الله بحديث سمعته من أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغه أن الفرس قد ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال: " لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة " (1) وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري، والمقصود أن الاحنف لما انحاز إلى علي ومعه ستة آلاف قوس، فقال لعلي: إن شئت قاتلت معك، وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف (2)، فقال: اكفف عنا عشرة آلاف سيف، ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الامر، فأرسلا إليه في جواب
رسالته: إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجاد وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس من منامهم إلى السلاح، فقالوا طرقتنا أهل الكوفة ليلا، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملا من أصحاب علي فبلغ الامر عليا فقال: ما للناس ؟ فقالوا، بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللامة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الامر عليه في نفس الامر، وكان أمر الله قدرا مقدورا وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان، فنشبت الحرب، وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا، والتف على عائشة ومن معها نحوا من ثلاثين ألفا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والسابئة أصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي علي ينادي: ألا كفوا ألا كفوا، فلا يسمع أحد، وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة فقال: يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس، فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس عند حركاتهم، فتصاولوا وتجاولوا، وكان في جملة من تبارز الزبير وعمار، فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه، ويقول له، أتقتلني يا أبا اليقظان ؟ فيقول: لا يا أبا عبد الله، وإنما تركه الزبير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقتلك الفئة الباغية " (3) وإلا فالزبير أقدر
__________
(1) أخرجه البيهقي في دلائله 4 / 390.
(2) في فتوح ابن الاعثم 2 / 297: أكون معك مع مائتي رجل من قومي وأما أن أرد معك أربعة آلاف سيف.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد عن ابراهيم بن موسى ومسلم في الفتن 4 / 2335 والترمذي في مناقب عمار 5 / 669 ومسند الامام أحمد 2 / 161 و 3 / 5 و 6 / 289 و 4 / 319 و 199 والحاكم في المستدرك 3 / 389 وقال صحيح =

عليه منه عليه، فلهذا كف عنه، وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح، ولا يتبع مدبر، وقد قتل مع هذا خلق كثير جدا، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاما فقال له: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا.
قال سعيد بن أبي عجرة عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة قال: قال علي يوم الجمل: يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بني إني لم أر أن الامر يبلغ هذا.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن بن أبي بكرة: لما اشتد القتال يوم الجمل، ورأى علي الرؤوس تندر أخذ علي ابنه الحسن فضمه إلى صدره ثم قال: إنا لله يا حسن ! أي خير يرجى بعد هذا ؟ فلما ركب الجيشان وترآى الجمعان وطلب علي طلحة والزبير ليكلمهما، فاجتمعوا حتى التفت أعناق خيولهم، فيقال إنه قال لهما: إني أراكما قد جمعتما خيلا ورجالا وعددا، فهل أعددتما عذرا يوم القيامة ؟ فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا، ألم أكن حاكما في دمكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حديث أحل لكما دمي ؟ فقال طلحة: ألبت على عثمان.
فقال علي * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * [ النور: 25 ]، ثم قال: لعن الله قتلة عثمان، ثم قال: يا طلحة ! أجئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت ؟ أما بايعتني ؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي.
وقال للزبير: ما أخرجك ؟ قال: أنت، ولا أراك بهذا الامر أولى به مني.
فقال له علي: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس بمتمرد لتقاتلنه وأنت ظالم له " ؟ فقال الزبير: اللهم نعم ! ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك.
وفي هذا السياق كله نظر، والمحفوظ منه الحديث، فقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي فقال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الدوري، حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي، عن جده عبد الملك عن أبي جرو (1) المازني.
قال: شهدت عليا والزبير حين تواقفا، فقال له علي: يا زبير ! أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنك تقاتلني وأنت ظالم " ؟ قال: نعم ! لم أذكره إلا في موقفي هذا، ثم
انصرف.
وقد رواه البيهقي عن الحاكم عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان عن قطن بن بشير، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي (2) عن جده عن أبي جرو (1) المازني عن علي والزبير به * وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن قتادة قال: لما ولى الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولي، وذلك أن رسول الله
__________
= على شرطهما ولم يخرجاه.
والهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 242 و 9 / 297.
(1) في الاصل: أبي حزم تحريف والصواب ما اثبتناه من تقريب التهذيب وهو من الثالثة مقبول.
(2) عبد الملك بن مسلم الرقاشي قال البخاري بعد أن سرد هذا الخبر، لم يصح حديثه الميزان (2 / 664).

صلى الله عليه وسلم لقيهما في سقيفة بني ساعدة فقال: " أتحبه يا زبير ؟ فقال: وما يمنعني ؟ قال: فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له ؟ " قال: فيرون أنه إنما ولي لذلك.
قال البيهقي: وهذا مرسل وقد روي موصولا من وجه آخر.
أخبرنا أبو بكر محمد (1) بن الحسن القاضي أنا أبو عامر (2) بن مطر أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي، أنا منجاب بن الحارث ثنا عبد الله بن الاجلح، ثنا أبي عن مرثد الفقيه عن أبيه.
قال: وسمعت فضل بن فضالة يحدث عن حرب بن أبي الاسود الدؤلي - دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه - قال: لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج علي وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى: ادعوا لي الزبير بن العوام فإني علي، فدعي له الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا زبير ! نشدتك الله، أتذكر يوم مر بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مكان كذا وكذا، فقال: " يا زبير ألا تحب عليا ؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني ؟ فقال: يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له ؟ " فقال الزبير: بلى ! والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك.
فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله بن الزبير، فقال: مالك ؟ فقال: ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: " لتقاتلنه وأنت ظالم له " فقال: أو للقتال جئت ؟ إنما جئت لتصلح بين الناس ويصلح
الله بك هذا الامر، قال: قد حلفت أن لا أقاتله، قال: اعتق غلامك سرجس وقف حتى تصلح بين الناس.
فأعتق غلامه ووقف، فلما اختلف أمر الناس ذهب على فرسه، قالوا: فرجع الزبير إلى عائشة فذكر أنه قد آلى أن لا يقاتل عليا، فقال له ابنه عبد الله: إنك جمعت الناس، فلما ترآى بعضهم لبعض خرجت من بينهم، كفر عن يمينك واحضر.
فأعتق غلاما، وقيل غلامه سرجس.
وقد قيل إنه إنما رجع عن القتال لما رأى عمارا مع علي وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " فخشي أن يقتل عمار في هذا اليوم.
وعندي أن الحديث الذي أوردناه إن كان صحيحا عنه فما رجعه سواه، ويبعد أن يكفر عن يمينه ثم يحضر بعد ذلك لقتال علي والله أعلم.
والمقصود أن الزبير لما رجع يوم الجمل سار (3) فنزل واديا يقال له وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز، فجاءه وهو نائم فقتله غيلة كما سنذكر تفضيله.
وأما طلحة فجاءه في
__________
(1) في دلائل البيهقي: أحمد 6 / 414.
(2) في دلائل البيهقي: أبو عمرو 6 / 414.
(3) ترك الزبير معسكره تائبا وهو يقول أبياتا مطلعها: ترك الامور التي تخشى عواقبها * لله أجمل في الدنيا وفي الدين انظر الابيات في فتوح ابن الاعثم 2 / 312 وتهذيب ابن عساكر 5 / 365 وحلية الاولياء لابي نعيم 1 / 91 وفي مروج الذهب 2 / 401 ثلاثة أبيات.

المعركة سهم غرب يقال رماه به مروان بن الحكم فالله أعلم، فانتظم رجله مع فرسه فجمعت به الفرس فجعل يقول: إلي عباد الله، إلي عباد الله، فاتبعه ولي له فأمسكها، فقال له: ويحك ! اعدل بي إلى البيوت ؟ وامتلا خفه دما فقال لغلامه: اردفني، وذلك أنه نزفه الدم وضعف، فركب وراءه وجاء به إلى بيت في البصرة فمات فيه، رضي الله عنه.
وتقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها، وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفا
وقالت: دعهم إليه - وذلك أنه حين اشتد الحرب وحمي القتال، ورجع الزبير، وقتل طلحة رضي الله عنهما - فلما تقدم كعب بن سوار بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين، وكان عبد الله له بن سبأ - وهو ابن السوداء - وأتباعه بين يدي الجيش، يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة، لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سوار رافعا المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجال واحد فقتلوه (1)، ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجعلت تنادي: الله الله ! يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا ؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم.
فقال: اللهم العن قتلة عثمان، وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم، فحملت معه الحفيظة فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الذي فيه علي بن أبي طالب، فقال لابنه محمد بن الحنفية: ويحك ! تقدم بالراية، فلم يستطع، فأخذها علي من يده فتقدم بها، وجعلت الحرب تأخذ وتعطي، فتارة لاهل البصرة، وتارة لاهل الكوفة، وقتل خلق كثير، وجم غفير، ولم تر وقعة أكثر من قطع الايدي والارجل فيها من هذه الوقعة، وجعلت عائشة تحرض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان، ونظرت عن يمينها فقالت: من هؤلاء القوم ؟ فقالوا: نحن بكر بن وائل، فقالت: لكم يقول القائل: وجاؤوا إلينا بالحديد كأنهم * من الغرة (2) القعساء بكر بن وائل ثم لجأ إليها بنو ناجية ثم بنو ضبة فقتل عنده منهم خلق كثير، ويقال إنه قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل فلما اثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالا شديدا، ورفعوا رأس الجمل، وجعل أولئك يقصدون الجمل وقالوا: لا يزال الحرب قائما مادام هذا الجمل واقفا، ورأس الجمل في يد عمرة بن يثربي، وقيل أخوه عمرو بن يثربي ثم صمد عليه علباء بن الهيثم وكان من الشجعان المذكورين، فتقدم إليه عمرو الجملي فقتله ابن يثربي وقتل زيد بن صوحان، وأرتث صعصعة بن صوحان فدعاه عمار إلى البراز فبرز له، فتجاولا بين
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم: قتله الاشتر.
(2) في الطبري والكامل: العزة.

الصفين وعمار ابن تسعين سنة عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف - فقال الناس: إنا لله وإنا إليه راجعون الآن يلحق عمارا بأصحابه، فضربه ابن يثربي بالسيف فاتقاه عمار بدرقته فغص فيها السيف ونشب، وضربه عمار فقطع رجليه وأخذ أسيرا إلى بين يدي علي فقال: استبقني يا أمير المؤمنين.
فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم (1) ؟ ثم أمر به فقتل واستمر زمام الجمل بعده بيد رجل كان قد استنابه فيه من بني عدي فبرز إليه ربيعة العقيلي فتجاولا حتى قتل كل واحد صاحبه وأخذ الزمام الحارث الضبي فما رأى أشد منه وجعل يقول: نحن بنو ضبة أصحاب الجمل * نبارز القرن إذا القرن نزل ننعي ابن عفان بأطراف الاسل * الموت أحلى عندنا من العسل * ردوا علينا شيخنا ثم بجسل * (2) وقيل إن هذه الابيات لوسيم بن عمرو الضبي.
فكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل يقوم غيره حتى قتل منهم أربعون رجلا قالت عائشة: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة ثم أخذ الخطام سبعون رجلا من قريش وكل واحد يقتل بعد صاحبه، فكان منهم محمد بن طلحة المعروف بالسجاد فقال لعائشة مريني بأمرك يا أمه.
فقالت: آمرك أن تكون كخير ابني آدم فامتنع أن ينصرف وثبت في مكانه وجعل يقول حم لا ينصرون، فتقدم إليه نفر فحملوا عليه فقتلوه وصار لكل واحد منهم بعد ذلك يدعي قتله وقد طعنه بعضهم بحربة فأنفذه وقال: وأشعث قوام (3) بآيات ربه * قليل الاذى فيما ترى العين مسلم هتكت له (4) بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم يناشدني (5) حم والرمح شاجر * فهلا تلا حم قبل التقدم على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يندم
وأخذ الخطام عمرو بن الاشرف فجعل لا يدنو منه أحد إلا حطه بالسيف فأقبل إليه الحارث بن زهير الازدي وهو يقول: يا أمنا يا خير أم نعلم * * أما ترين كم شجاع يكلم وتجتلي (6) هامته والمعصم
__________
(1) قتل عمرو بن يثربي ثلاثة من أصحاب علي رضي الله عنه: علباء بن الهيثم وهند بن عمرو الجملي وزيد بن صوحان الطبري 5 / 210.
(2) انظر الطبري 5 / 209، 210، 217 وفتوح ابن الاعثم 2 / 319 - 320 والكامل لابن الاثير 3 / 249 مروج الذهب 2 / 405.
(3) كذا بالاصل والطبري: وفي مروج الذهب: سجاد.
(4) في مروج الذهب: شككت له.
(5) في الطبري ومروج الذهب يذكرني، وفي مروج الذهب: والرمح شارع.
(6) في الطبري والكامل: وتختلى.

واختلفا ضربتين فقتل كل واحد صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الراية ولا بخطام الجمل إلا شجاع معروف، فيقتل من قصده ثم يقتل بعد ذلك، وقد فقأ بعضهم عين عدي بن حاتم ذلك اليوم، ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وهو لا يتكلم فقيل لعائشة إنه ابنك ابن أختك فقالت: واثكل أسماء ! وجاء مالك بن الحارث الاشتر النخعي فاقتتلا فضربه الاشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا وضربه عبد الله ضربة خفيفة ثم اعتنقا وسقطا إلى الارض يعتركان فجعل عبد الله بن الزبير يقول: اقتلوني ومالكا * واقتلوا مالكا معي فجعل الناس لا يعرفون مالكا من هو وإنما هو معروف بالاشتر فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما وقد جرح عبد الله بن الزبير يوم الجمل بهذه الجراحة سبعا وثلاثين جراحة، وجرح
مروان بن الحكم أيضا، ثم جاء رجل (1) فضرب الجمل على قوائمه فعقره وسقط إلى الارض، فسمع له عجيج ما سمع أشد ولا أنفذ منه، وآخر من كان الزمام بيده زفر بن الحارث فعقر الجمل وهو في يده، ويقال إنه اتفق هو وبجير بن دلجة على عقره، ويقال إن الذي أشار بعقر الجمل علي، وقيل القعقاع بن عمرو لئلا تصاب أم المؤمنين، فإنها بقيت غرضا للرماة، ومن يمسك بالزمام برجاسا للرماح، ولينفصل هذا الموقف الذي قد تفانى فيه الناس ولما سقط البعير إلى الارض انهزم من حوله من الناس، وحمل هودج عائشة وانه لكالقنفذ من السهام، ونادى منادي علي في الناس: إنه لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح، ولا يدخلوا الدور، وأمر علي نفرا أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر وعمارا أن يضربا عليها قبة، وجاء إليها أخوها محمد فسألها هل وصل إليك شئ من الجراح ؟ فقالت: لا ! وما أنت ذاك يا بن الخثعمية.
وسلم عليها عمار فقال: كيف أنت يا أم ؟ فقالت: لست لك بأم.
قال: بلى ! وإن كرهت وجاء إليها علي بن أبي طالب أمير المؤمنين مسلما فقال: كيف أنت يا أمه ؟ قالت: بخير فقال: يغفر الله لك.
وجاء وجوه الناس من الامراء والاعيان يسلمون على أم المؤمنين رضي الله عنها، ويقال إن أعين بن ضبيعة المجاشعي اطلع في الهودج فقالت: إليك لعنك الله، فقال:
__________
(1) في الطبري 5 / 218 عقر الجمل رجل من بني ضبة يقال له ابن دلجة عمرو أو بجير وقال في ذلك الحارث بن قيس وكان من أصحاب عائشة نحن ضربنا ساقه فانجدلا * من ضربة بالنفر كانت فيصلا لو لم نكون للرسول ثقلا * وحرمة لاقتسمونا عجلا وقد نحل ذلك المثنى بن مخرمة من أصحاب علي.
وفي الاخبار الطوال ص 151: كشف عرقوبه بالسيف رجل من مراد الكوفة يقال له أعين بن ضبيعة.
وفي فتوح ابن الاعثم 2 / 333 عبد الرحمن بن صرد التنوخي عرقبه من رجليه جميعا فوقع الجمل لجنبه وضرب بجرانه الارض.

والله ما أرى إلا حميراء، فقالت: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك.
فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عريانا في خربة من خرابات الازد.
فلما كان الليل دخلت أم المؤمنين البصرة - ومعها أخوها محمد بن أبي بكر - فنزلت في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار بالبصرة - على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وهي أم طلحة الطلحات عبد الله بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة، وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه ويقول: يعز علي أن أرى قريشا صرعى.
وقد مر على ما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول فقال: لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون والله لقد كنت كما قال الشاعر: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وأام علي بظاهر البصرة ثلاثا ثم صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريش بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لاصحاب عائشة في المعسكر وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئا هو لاهلهم فليأخذه، إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان.
وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف (1)، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم.
وقد سأل بعض أصحاب علي عليا أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليهم فطعن فيه السبائية وقالوا: كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ؟ فبلغ ذلك عليا فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه ؟ فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فض في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبائية أيضا ونالوا منه من وراء وراء.
فصل ولما فرغ علي من أمر الجمل أتاه وجوه الناس يسلمون عليه، فكان ممن جاءه الاحنف بن قيس في بني سعد - وكانوا قد اعتزلوا القتال - فقال له علي: تربعت - يعني بنا - فقال: ما كنت أراني إلا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت
بعيد، وأنت إلي غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستبق موتي لغد، ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحا.
قالوا: ثم دخل علي البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم، حتى الجرحى والمستأمنة.
وجاءه عبد الرحمن ن بن أبي بكرة الثقفي فبايعه فقال له علي: أين المريض ؟ - يعني أباه - فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص.
فقال: امش
__________
(1) في مروج الذهب 2 / 387 و 410 ثلاثة عشر ألفا، من أصحاب علي قتل خمسة الآف.
وفي فتوح ابن الاعثم 2 / 342: قتل من أصحابه (علي) ألف رجل وسبعون رجلا (ومن أصحاب عائشة) فقتل من الازد أربعة الآلف رجل، ومن بني ضبة ألف رجل ومن بني ناجية أربعمائة رجل، ومن بني عدي ومواليهم تسعون رجلا، ومن بني بكر بن وائل ثمانمائة رجل ومن بني حنظلة سبعمائة رجل ومن سائر أخلاط الناس تسعة الآف رجل.

أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد وكان زياد معتزلا - ثم جاء علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة، فاستأذن ودخل فسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على من قتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها علي شيئا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع ؟ فقال: ويحك ! إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات ؟ فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة وأن يخرجهما من ثيابهما (1)، وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين ومن قتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودعت له، ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد
ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الاخيار.
فقال علي: صدقت والله كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
وسار علي معها مودعا ومشيعا أميالا، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم - وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين - وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها.
وأما مروان بن الحكم فانه لما فر استجار بمالك بن مسمع فأجاره ووفى له، ولهذا كان بنو مروان يكرمون مالكا ويشرفونه، ويقال إنه نزل دار بني خلف فلما خرجت عائشة خرج معها، فلما سارت هي إلى مكة سار إلى المدينة قالوا: وقد علم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة يوم الوقعة، وذلك مما كانت النسور تخطفه من الايدي والاقدام فيسقط منها هنالك، حتى أن أهل المدينة علموا بذلك يوم الجمل قبل أن تغرب الشمس، وذلك أن نسرا مر بهم ومعه شئ فسقط فإذا هو مكف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب.
__________
(1) في الطبري 5 / 223 وهما من أزد الكوفة يقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله.

هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الاهواء من الشيعة وغيرهم من الاحاديث المختلفة على الصحابة والاخبار الموضوعة التي ينقولنها بما فيها، وإذا دعوا إلى الحق الواضح أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
فصل
في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة وغيرهم من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقد قدمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يحصون كثرة فممن قتل يوم الجمعة في المعركة.
طلحة بن عبيد الله ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو محمد القرشي التيمي، ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض لكرمه ولكثرة جوده أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق، فكان نوفل بن خويلد بن العدوية يشدهما في حبل واحد، ولا تستطيع بنو تميم أن تمنعهما منه، فلذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر القرينان، وقد هاجر وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي أيوب الانصاري (1)، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرا - فإنه كان بالشام لتجارة - وقيل في رسالة، ولهذا ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره من بدر، وكانت له يوم أحد اليد البيضاء وشلت يده يوم أحد، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت كذلك إلى أن مات، وكان الصديق إذا حدث عن يده أحد يقول: ذاك يوم كان كله لطلحة، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: " أوجب طلحة " وذلك أنه كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم درعان فأراد أن ينهض وهما عليه ليصعد صخرة هنالك فما استطاع، فطأطأ له طلحة فصعد على ظهره حتى استوى عليها، وقال: " أوجب طلحة " (2) وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته حتى توفي وهو عنه راض، وكذلك أبو بكر وعمر، فلما كان قضية عثمان اعتزل عنه فنسبه بعض الناس إلى تحامل فيه، فلهذا لما حضر يوم الجمل واجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته وقيل في رقبته، والاول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كاد يلقيه، وجعل يقول: إلي عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله
__________
(1) في الاستيعاب: كعب بن مالك وفي ابن سعد: آخى بينه وبين أبي بن كعب.
وفي رواية عنده: سعيد بن زيد وفي الاصابة: آخى بينه وبين الزبير قبل الهجرة وفي المدينة آخى بينه وبين أبي أيوب.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب عن الزبير.
ح 3738 ص 5 / 644 وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب وانظر ابن سعد 3 / 218.

البصرة فمات بدار فيها، ويقال إنه مات بالمعركة، وإن عليا لما دار بين القتلى رآه فجعل يمسح عن وجهه التراب وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولا تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ويقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقال لابان بن عثمان: قد كفيتك رجالا من قتلة عثمان، وقد قيل إن الذي رماه غيره، وهذا عندي أقرب، وإن كان الاول مشهورا الله أعلم.
وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلا وكان عمره ستين سنة، وقيل بضعا وستين سنة، وكان آدم، وقيل أبيض، حسن الوجه كثير الشعر إلى القصر أقرب وكانت غلته في كل يوم ألف درهم.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه أن رجلا رأى طلحة في منامه وهو يقول: حولوني عن قبري فقد أذاني الماء، ثلاث ليال، فأتى ابن عباس فأخبره - وكان نائبا على البصرة - فأشتروا له دارا بالبصرة بعشرة آلاف درهم فحولوه من قبره إليها، فإذا قد أخضر من جسده ما يلي الماء، وإذا هو كهيئة يوم أصيب، وقد وردت له فضائل كثيرة.
فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا الحسن بن علي بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلحة الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض.
ويوم حنين طلحة الجود، وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو كريب، ثنا يونس عن ابن بكر عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لاعرابي جاء يسأل عمن قضى نحبه فقالوا: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله في المسجد فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم اطلعت من باب المسجد وعلي
ثياب خضر فقال رسول الله: " أين السائل " ؟ قال ها أنا ذا فقال: " هذا ممن قضى نحبه " وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن رشيد ثنا مكي ثنا علي بن ابراهيم ثنا الصلت بن دينار عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله " (1) وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الاشج ثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي - اسمه النضر - ثنا عقبة بن علقمة اليشكري سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلحة والزبير جاراي في الجنة " (2) وقد روي من غير وجه
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب ح 3739 ص 5 / 644 وقال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه ألا من حديث الصلت وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وفي صالح بن موسى الصلحي (من ولد طلحة) من قبل حفظهما.
وانظر ابن سعد 3 / 218 - 219.
(2) الترمذي في المناقب ح 3741 ص 5 / 644 - 645.

عن علي أنه قال: إني لارجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) * [ الحجر: 47 ] وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن رجلا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني فأبى فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة.
فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله.
قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك.
والزبير بن العوام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبد الله القرشي الاسدي، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قديما وعمره خمس عشرة سنة، وقيل أقل وقيل أكثر، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة
فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش، وقد شهد المشاهد كلها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب " من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال: أنا، ثم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " (1) ثبت ذلك من رواية زر عن علي، وثبت عن الزبير أنه قال: " جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم بني قريظة " وروي أنه أول من سل سيفا في سبيل الله، وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أن رسول الله قد قتل فجاء شاهرا سيفه حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام سيفه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وصحب الصديق فأحسن صحبته، وكان ختنه على ابنته أسماء بنت الصديق، وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة، وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين من أولهم إلى آخرهم، وكان من جملة من دافع عن عثمان وحاجف عنه، فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعا إلى المدينة، فمر بقوم الاحنف بن قيس - وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين - فقال قائل يقال له الاحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى بيته ؟ من رجل يكشف لنا خبره ؟ فاتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم فيقال إنهم لما ادركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه ويقال بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة فقال: ادن ! فقال مولى الزبير، واسمه عطية - إن معه سلاحا فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة فقال له الزبير: الصلاة فقال: الصلاة فتقدم الزبير ليصلي بهما فطعنه
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 105 وسيرة ابن هشام 3 / 3 - 10 وانظر الاصابة 2 / 545 وهامشها 2 / 580.

عمرو بن جرموز فقتله ويقال بل أدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله وهذا القول هو الاشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت آخر من تزوجها وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها وكانت قبله تحت عبد الله بن
أبي بكر الصديق فقتل عنها فلما قتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت: غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غر معرد يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمك أن ظفرت بمثله * ممن بقي ممن يروح ويغتدي (1) كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طرادك يا بن فقع العردد (2) والله ربي إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد ولما قتله عمرو بن جرموز فاجتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، وفي رواية أن عليا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه، وقيل بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير، على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا مختف، فهل لك فيه ؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لاقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير، وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتا ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الاربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف (3) درهم، فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف والدين المخرج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف وإنما نبهنا على هذا لانه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن ينبه له.
والله أعلم.
وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والماثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد ومن
خمس الخمس ما يخص أمه منه، ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة، وقد قيل إنه كان له
__________
(1) في ابن سعد: ثكلتك أمك هل ظفرت بمثله * فيمن مضى فيما تروح وتغتدي (2) في ابن سعد القردد، والقردد: ما ارتفع من الارض.
(3) في طبقات ابن سعد: ومائة ألف.

ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق في بعض الايام بخراجهم كلهم رضي الله عنه وأرضاه، وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقد نيف على الستين بست أو سبع وكان أسمر ربعة من الرجال معتدل اللحم خفيف اللحية رضي الله عنه.
وفي هذه السنة اعني سنة ست وثلاثين ولى علي بن أبي طالب نيابة الديار المصرية لقيس بن سعد بن عبادة، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح فلما توجه أولئك الاحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان وكان الذي جهزهم إليه مع عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء محمد بن أبي حذيفة بن عتبة، وكان لما قتل أبوه باليمامة أوصى به إلى عثمان، فكفله ورباه في حجره ومنزله وأحسن إليه إحسانا كثيرا ونشأ في عبادة وزهادة، وسأل من عثمان أن يوليه عملا فقال له: متى ما صرت أهلا لذلك وليتك، فتعتب في نفسه على عثمان فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له، فقصد الديار المصرية وحضر مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوة الصواري كما قدمنا، وجعل ينتقص عثمان رضي الله عنه وساعده على ذلك محمد بن أبي بكر، فكتب بذلك ابن أبي سرح إلى عثمان يشكوهما إليه فلم يعبأ بهما عثمان ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفر أولئك إلى عثمان فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان تغلب على الديار المصرية وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وصلى بالناس فيها، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل أمير المؤمنين عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وبلغه أن عليا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن
عبادة، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة، إذ لم يمتع بملك الديار المصرية سنة، وسار عبد الله بن سعد إلى الشام إلى معاوية فأخبره مما كان من أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص ليخرجاه منها لانه من أكبر الاعوان على قتل عثمان، مع أنه كان قد رباه وكفله وأحسن إليه، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها، وجاء عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا، ذكره محمد بن جرير.
ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله كثيرا الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الاسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده وخص به من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله به هذه الامة، وخصهم به من الفضيلة أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما يتفرقوا، وزكاهم لكي يتطهروا، ووفقهم لكيلا يجوروا.
فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه،

صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين، عمالا بالكتاب [ والسنة ]، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفاهما الله فرحمهما الله، ثم ولى بعدهما وال أحدث أحداثا، فوجدت الامة عليه مقالا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيروا، ثم جاؤوني فبايعوني فأستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، والقيام عليكم بحقه والنصح لكم بالغيب والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة [ أميرا ] (1) فوازروه وكاتفوه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالاحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه
وأرجو صلاحه ونصيحته أسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين قال: ثم قال قيس بن سعد فخطب الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي، فقام الناس فبايعوه، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها خربتا (2)، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان - وكانوا سادة الناس ووجوههم وكانوا في نحو من عشرة آلاف وعليهم رجل يقال له يزيد بن الحارث المدلجي - وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم، وكذلك مسلمة بن مدلج الانصاري تأخر عن البيعة فتركه قيس بن سعد ووادعه، ثم كتب معاوية بن أبي سفيان - وقد استوثق له أمر الشام بحذافيره - إلى أقصى بلاد الروم والسواحل وجزيرة قبرص أيضا تحت حكمه وبعض بلاد الجزيرة كالرها وحران وقرقيسيا وغيرها، وقد ضوى إليها الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية، وقد أراد الاشتر انتزاع هذه البلاد من يد نواب معاوية، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الاشتر، واستقر أمر معاوية على تلك البلاد فكتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان وأن يكون مؤازرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الامر مادام سلطانا فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه بل بعث يلاطف معه الامر وذلك لبعده عن علي وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه ولم يواقعه على ما دعاه إليه ولا وافقه عليه: فكتب إليه معاوية: إنه لا يسعك معي تسويقك بي وخديعتك لي ولابد أن أعلم أنك سلم أو عدو - وكان معاوية حازما أيضا - فكتب إليه بما صمم عليه: إني مع علي إذ هو أحق بالامر منك فلما بلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان يئس منه (3) ورجع ثم أشاع بعض أهل الشام أن
__________
(1) نص الكتاب في الطبري 5 / 227 وما بين معكوفين من الطبري.
(2) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل 3 / 269 خرنبا.
قال ياقوت: خرنبا خطأ وخربتا كور من كور مصر وهو حوالي الاسكندرية وهو الآن خراب لا يعرف (معجم البلدان).
(3) انظر الطبري 5 / 228 - 229 والكامل 3 / 269 - 270 نصوص الكتب المتبادلة بين قيس بن سعد ومعاوية بن
أبي سفيان.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55