كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، أما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان اذهب بهذا الآن معك.
وقد رواه البخاري أيضا في موضع آخر والترمذي من حديث أبي عوانه عن عثمان بن عبد الله بن موهب به.
وقال الاموي في مغازيه عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن جده سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المبقى دون الاعوص، وفر عثمان بن عفان وسعد بن عثمان رجل من الانصار حتى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة مما يلي الاعوص فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم.
لقد ذهبتم فيها عريضة.
والمقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها حصول النعاس حال التحام الحرب وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده وتمام توكلها على خلقها
وبارئها.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) الآية وقال هاهنا (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) يعني المؤمنين الكمل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: النعاس في الحرب من الايمان والنعاس في الصلاة من النفاق.
ولهذا قال بعد هذا (طائفة قد أهمتهم أنفسهم) الآية.
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنصر يوم أحد كما استنصر يوم بدر بقوله: " إن تشأ لا تعبد في الارض " كما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: " اللهم إنك أن تشأ لا تعبد في الارض " ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر عن عبد الصمد عن حماد بن سلمة به، وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل ".
ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به، وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التي تقدمت في غزوة بدر رضي الله عنهما وأرضاهما.
فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله قال البخاري (1): ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد * حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله "
__________
(1) في كتاب المغازي 24 باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
ح 4073.
ومسلم في 32 كتاب الجهاد 38 باب ح 106.
ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق حدثنا مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الاموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: " اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله " صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: حدثنا عفان،
حدثنا حماد، أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت (1) الدم عن وجهه وهو يقول: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته، وهو يدعو إلى الله " فأنزل الله (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) [ آل عمران: 128 ]: ورواه مسلم عن القعنبي عن حماد بن سلمة به (2)، ورواه الامام أحمد: عن هشيم ويزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل الله تعالى (ليس لك من الامر شئ) وقال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله إني لاعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها [ حتى إذا صارت رمادا ] (3) ألصقتها فاستمسك الدم وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن المبارك عن إسحاق عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه وأراه قال حمية، قال فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفا، لا أخطفه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكما صاحبكما " يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله قال: وذهبت لانزع ذاك من وجهه، فقال: أقسم عليك بحقي لما تركتني، فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي
__________
(1) يسلت: يمسح.
(2) رواه مسلم في 32 كتاب الجهاد 37 باب غزوة أحد.
ح 104.
(3) زيادة من دلائل البيهقي.
وقال محققه في هامشه: لانها تعمل عمل المواد القابضة، فإنها عندما تستعمل على الجرح فإنها ترسب البروتين السطحي فيكون طبقة على التهتكات والجروح، فتحمي الجرح من المخترقات الجرثومية وغيرها.
وتوقف النزيف بترسيب العنصر البروتيني في الدم، ومن جهة أخرى فإن لها خاصية ترسيب بروتين البكتريا فتموت، فيكون فعلها في حماية الجرح والقضاء على أي جرثوم قريب منه.
(دلائل البيهقي ج 3 / 260) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه.
فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لاصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني.
قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الاولى فوقعت ثنيته الاخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتما (1).
فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة [ أو أقل أو أكثر ] (2) وإذا قد قطعت اصبعه فأصلحنا من شأنه (3).
وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروه عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع خرجنا أربعة (4) فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه (5).
قال الواقدي: ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وقد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا وان الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: [ والله ] ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص وان كان ما علمت لسئ الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على من دمى وجه
رسوله ".
وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عثمان الجزري، عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته، ودمى وجهه فقال " اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا " فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار (6).
وقال أبو سليمان الجوزجاني: حدثنا محمد بن الحسن، حدثني إبراهيم بن محمد، حدثني ابن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حرب عن ابيه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال.
هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب المغازي للاموي في وقعة أحد.
ولما نال
__________
(1) الهتم: كسر الثنايا من أصلها.
(2) من رواية البيهقي.
(3) الحديث في دلائل البيهقي 3 / 263 من طريق يونس بن حبيب، ورواه ابن حبان عن عائشة والصالحي في السيرة الشامية من ابن حبان والطيالسي 4 / 295.
(4) وهم: عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأبي بن خلف.
(5) الخبر في الواقدي ج 1 / 237.
(6) الخبر في تفسير عبد الرزاق عن مقسم، ورواه أبو نعيم من وجه آخر عن ابن عباس، ونقله عنهما الصالحي في السيرة الشامية 4 / 294 ونقله البيهقي عنه في الدلائل 3 / 265.
عبد الله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نال رجع وهو يقول: قتلت محمدا.
وصرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قتل ! فحصل بهتة عظيمة في المسلمين واعتقد كثير من الناس ذلك وصمموا على القتال عن حوزة الاسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أنس بن النضر وغيره ممن سيأتي ذكره، وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسنجزي (وسيجزي) الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب
الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين * وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين * يا أيها الذين آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين * سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) [ آل عمران: 144 - 151 ].
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في كتابنا التفسير ولله الحمد.
وقد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ثم تلا هذه الآية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) الآية.
قال: فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها.
وروى البيهقي في دلائل النبوة: من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه.
فقال له: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل.
فقال الانصاري: إن كان محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم، فنزل (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) الآية.
ولعل هذا الانصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه وهو عم أنس بن مالك.
قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر، فقال غبت عن أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، لئن الله اشهدني قتالا للمشركين ليرين ما أصنع.
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك عما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد: أنا معك ؟ قال سعد: فلم أستطع أصنع ما صنع، فوجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم (2)، قال: فكنا نقول: فيه وفي أصحابه نزلت (فمنهم من قضى نحبه
__________
(1) الخبر في دلائل النبوة ج 3 / 248.
(2) زاد البيهقي في روايته: وقد مثلوا به، قال: فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه.
ومنهم من ينتظر).
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد والنسائي عن إسحاق بن راهويه كلاهما عن يزيد بن هارون به وقال الترمذي: حسن، قلت: بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه (1).
وقال أحمد: حدثنا بهز وحدثنا هاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس.
عمي (قال هاشم: أنس بن النضر) سميت به ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
قال فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، ولئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع.
قال فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين ؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد.
قال فقاتلهم حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية.
قال فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه.
ونزلت هذه الآية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا) [ الاحزاب: 23 ] قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.
ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن المبارك وزاد النسائي وأبو داود وحماد بن سلمة أربعتهم عن سليمان بن المغيرة به.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال أبو الاسود عن عروة بن الزبير قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد.
فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوه أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بالحربة فوقع إلى الارض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك ؟ إنما هو خدش.
فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبيا، ثم قال: والذي نفسي
بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون فمات إلى النار فسحقا لاصحاب السعير (1).
وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن إسحاق: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: [ أي محمد ] (3) لانجوت ان نجوت.
فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه ! فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم - كما ذكر لي - فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا
__________
(1) رواه البخاري في 56 كتاب الجهاد 12 باب ح 2805.
وأخرجه مسلم عن أنس في 33 كتاب الامارة 41 باب ح 148.
(2) تقدم الحديث عن موسى بن عقبة في سياق كيف كانت الوقعة، والخبر رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 258.
(3) من ابن هشام.
ج 3 / 89.
انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
ذكر الواقدي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك.
قال الواقدي وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لاسير ببطن رابغ بعد هوي (1) من الليل إذا أنا بنار تأججت فهبتها وإذا برجل يخرج منها بسلسلة بجذبها يهيجه العطش فإذا رجل يقول: لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف.
وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله " ورواه البخاري من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس " اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله " وقال البخاري: وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت جابرا قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تبكه أو ما تبكيه مازالت الملائكة تظله
بأجنحتها حتى رفع.
هكذا ذكر هذا الحديث ههنا معلقا وقد أسنده في الجنائز عن بندار عن غندر عن شعبة.
ورواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به وقال البخاري: حدثنا عبد ان أخبرنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه ابراهيم أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال وقتل حمزة هو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط (أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا) وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
ثم جعل يبكي حتى برد الطعام (2).
انفرد به البخاري.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الاعمش عن شقيق عن خباب بن الارت قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الاذخر.
ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها (3).
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الاعمش به.
وقال البخاري: حدثنا عبيدالله بن سعيد حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ
__________
(1) في ابن هشام: الشعراء، وقال: الشعراء ذباب له لدغ.
(2) أي بعد ساعة، وهم في طريقهم إلى مكة.
والخبر في مغازي الواقدي 1 / 252 ودلائل البيهقي 3 / 259.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ح 1274 فتح الباري 3 / 140 - 141 - 142.
(4) يهديها: أي يجتنيها، وهذا استعارة لما فتح الله عليهم من الدنيا.
والخبر أخرجه البخاري في 81 كتاب الرقائق 7 باب وفي 23 كتاب الجنائز 27 باب ح 1276 وأخرجه مسلم في 11 كتاب الجنائز 13 باب ح 44.
إبليس لعنة الله عليه: أي عباد الله أخراكم.
فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي.
قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى
قتلوه.
فقال حذيفة يغفر الله لكم.
قال عروة: فوالله ما زال في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل.
قلت: كان سبب ذلك أن اليمان وثابت بن وقش كانا في الآطام مع النساء لكبرهما وضعفهما فقالا: انه لم يبق من آجالنا إلا ظم ء حمار فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين فأما ثابت فقتله المشركون وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ.
وتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين ولم يعاتب أحدا منهم لظهور العذر في ذلك.
فصل قال ابن إسحاق: وأصيب يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى سقطت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فكانت أحسن عينيه وأحدهما وكانت لا ترمد إذا رمدت الاخرى.
وروى الدارقطني بإسناد غريب عن مالك، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم أحد فسقطتا على وجنتي فأتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان.
والمشهور الاول أنه أصيبت عينه الواحدة.
ولهذا لما وفد ولده على عمر بن عبد العزيز قال له: من أنت ؟ فقال له مرتجلا: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لاول أمرها * فيا حسنها عينا ويا حسن ما خد فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك: تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبو الا ثم وصله فأحسن جائزته رضي الله عنه.
فصل قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، فذكر سعيد بن أبي زيد الانصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا
خالة أخبريني خبرك فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا ؟ قالت ابن قمئة، أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول دلوني على محمد لا نجوت إن نجا فاعترضت
له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة.
ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
قال ابن إسحاق: وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يقبع (يقع) النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده.
قال ابن إسحاق: وحدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله في رجال من المهاجرين والانصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك.
فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن عبد الرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج.
فصل قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ذكر لي الزهري - كعب بن مالك قال: رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر،
فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إلي ] (1) أن انصت.
قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين.
فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف (فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم).
قال ابن إسحاق: وكان أبي بن خلف، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العود - فرسا - أعلفه كل يوم فرقا (2) من ذرة، أقتلك عليه.
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله.
فلما رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم فقال: قتلني والله محمد.
فقالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك بأس قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك.
فوالله لو بصق علي لقتلني.
فمات عدو الله بسرف (3) وهم قافلون به
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الفرق: بفتح الراء واسكانها: مكيال يسع ستة عشر منا، وقيل اثني عشر رطلا.
(3) سرف: موضع على ستة أميال من مكة وقيل سبعة وتسعة واثني عشر، بها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت =
إلى مكة.
قال ابن إسحاق فقال حسان بن ثابت في ذلك: لقد ورث الضلالة عن أبيه * أبي يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم * وتوعده وأنت به جهول وقد قتلت بنو النجار منكم * أمية إذ يغوث: يا عقيل وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا * أبا جهل لامهما الهبول (1) وأفلت حارث لما شغلنا * بأسر القوم، أسرته قليل وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا من مبلغ عني أبيا * فقد ألقيت في سحق السعير (2)
تمني بالضلالة من بعيد * وتقسم إن قدرت مع النذور تمنيك الاماني من بعيد * وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ * كريم البيت ليس بذي فجور له فضل على الاحياء طرا * إذا تابت ملمات الامور قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملا درقته ماء من المهراس (3) فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: " اشتد غضب الله على من دمى نبيه " وقد تقدم شواهد ذلك من الاحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية.
قال ابن إسحاق، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب معه أولئك النفر من أصحاب إذ علت عالية من قريش الجبل.
قال ابن هشام: فيهم خالد بن الوليد.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا.
فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى اهبطوهم من الجبل، ونهض النبي صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيدالله، فنهض به حتى استوى عليها، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ " أوجب (4) طلحة " حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ما صنع.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال:
__________
= الحارث وبنى بها فيها وبها توفيت (معجم البلدان).
(1) الهبول: الفقد، هبلته أمه: أي فقدته.
(2) في ابن هشام: لقد.
(3) المهراس: ماء بأحد، وقيل حجر ينقر ويجعل إلى جانب البئر، ويصب فيه الماء لينتفع به الناس.
(4) أوجب: أي وجبت له الجنة.
كان فينا رجل أتي (1) لا يدرى من هو يقال له: قزمان فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر " إنه لمن أهل النار " قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا، فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر.
قال بماذا أبشر فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت.
قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل له نفسه.
وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر كما سيأتي إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الاسلام " هذا من أهل النار " فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه من أهل النار قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إلى النار " فكاد بعض القوم يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله " ثم أمر بلالا فنادى في الناس " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق وكان أحد بني ثعلبة بن الغيطون فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت لكم.
فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء.
ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " مخيريق خير يهود " قال السهيلي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق - وكانت سبع حوائط - أوقافا بالمدينة لله قال محمد بن كعب القرظي وكانت أول وقف بالمدينة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط فإذا لم يعرفه الناس سألوه: من
هو ؟ فيقول أصيرم بني عبد الاشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد: كيف كان شأن الاصيرم ؟ قال: كان يأبى الاسلام على قومه.
فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم ثم أخد سيفه، فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة قال: فبينما رجال من بني عبد الاشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للاصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه فقالوا [ ما جاء بك يا عمرو ] (2) أحدب على
__________
(1) أتي: غريب.
قال الواقدي: كان: قزمان عديدا في بني ظفر، وكان لهم حائطا محبا، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم وكان يكنى بأبي الغيداق.
(2) من ابن هشام ج 3 / 95.
قومك أم رغبة في الاسلام ؟ فقال: بل رغبة في الاسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي، وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني.
فلم يلبث أن مات في أيديهم.
فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إنه من أهل الجنة ".
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي، عن أشياخ من بني سلمة قالوا: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الاسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لارجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك " وقال لبنيه " ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة " فخرج معه فقتل يوم أحد رضي الله عنه (1).
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة - كما حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللائي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد عن الآذان والانوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما (2) وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا.
وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
وذكر موسى بن عقبة: أن الذي بقر عن كبد حمزة وحشي فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن
تسيغها فالله أعلم.
قال ابن إسحاق ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت: نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي عن عتبة من صبر * ولا أخي وعمه وبكر شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري فشكر وحشي علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري قال فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت: خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر (3) بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثي وعلي صقري
__________
(1) قال الواقدي: " قال أبو طلحة: نظرت إلى عمرو حين انكشف المسلمون، وهو في الرعيل الاول...وابنه يعدو في اثره حتى قتلا جميعا، ودفن هو وعبد الله بن عمرو في قبر واحد.
وقال السهيلي: انه لما خرج - عمرو - قال: اللهم لا تردني، فاستشهد، فجعله بنوه على بعير ليحملوه إلى المدينة، فاستصعب عليهم البعير...فلما لم يقدروا عليه، دفنوه في مصرعه.
(2) الخدم: جمع خدمة، وهي الخلخال.
(3) م الهاشميين: أراد من الهاشميين.
فحذف النون من (من) لالتقاء الساكنين.
إذ رام شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر ونذرك السوء فشر نذر قال ابن إسحاق: وكان الحليس بن زيان أخو بني الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الاحابيش - مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول: ذق عقق.
فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما (1).
فقال:
ويحك أكتمها عني فإنها كانت زلة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان، حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت [ فعال ] (2)، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل (أي ظهر دينك).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر " قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء (3)، " قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " فقال له أبو سفيان: هلم إلي يا عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ائته فانظر ما شأنه.
فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر: اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن.
قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.
قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان: إنه كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت ولا أمرت.
قال: ولما أنصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: أخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وان ركبوا الخيل وساقوا الابل فهم يريدون المدينة.
والذي نفسي بيده إن أرادوها لاسيرن إليهم فيها ثم لاناجزنهم.
قال علي: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الابل ووجهوا إلى مكة.
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال الامام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استووا حتى أثني على ربي عزوجل " فصاروا خلفه صفوفا فقال " اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا ومبعد لما قربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
__________
(1) لحما: أي ميتا لا يستطيع الانتصار لنفسه.
(2) من ابن هشام.
(3) لا سواء: أي لا نحن سواء، وقد جاز دخول لا في هذا الموضع، لان القصد فيه نفي الفعل: أي لا نستوي.
اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والامن يوم الخوف.
اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.
اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق " (1) ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به.
فصل قال ابن إسحاق وفرغ الناس لقتلاهم، فحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، أخو بني النجار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الاحياء هو أم في الاموات ؟ فقال رجل من الانصار (2): أنا.
فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، قال: فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الاحياء أنت أم في الاموات فقال: أنا في الاموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.
وأبلغ قومك [ الانصار ] (3) عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.
قال ثم لم أبرح حتى مات وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.
قلت: كان الرجل الذي التمس سعدا في القتلى محمد بن سلمة فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي وذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه فلما قال: إن رسول الله أمرني أن أنظر خبرك أجابه بصوت ضعيف وذكره (4).
وقال الشيخ أبو عمر في الاستيعاب كان الرجل الذي التمس سعدا أبي [ بن ] كعب فالله أعلم.
وكان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضي الله عنه وهو الذي آخى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني، يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى ما رأى: " لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع، وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لامثلن بثلاثين رجلا منهم " فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من
__________
(1) الدعاء في مسند أحمد ج 3 / ص 424.
(2) في الواقدي: محمد بن مسلمة، وسيأتي اسمه بعد قليل.
(3) من الواقدي.
(4) الخبر في الواقدي باختلاف 1 / 292 - 293.
الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب (1).
قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الاسلمي عن محمد بن كعب، وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس: أن الله أنزل في ذلك (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) الآية [ النحل: 126 ].
قال: فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
قلت: هذه الآية مكية (2) وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين فكيف يلتئم هذا.
فالله أعلم.
قال: وحدثني حميد الطويل عن الحسن عن سمرة [ بن جندب ] قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه، حتى يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة.
وقال ابن هشام: ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة قال " لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا " ثم قال " جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في [ أهل ] السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله " قال ابن هشام: وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الاسد أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهم ثلاثتهم ثويبة مولاة أبي لهب.
الصلاة على حمزة وقتلى أحد وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجي ببردة ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة " وهذا غريب وسنده ضعيف.
قال السهيلي: ولم يقل به أحد من علماء الامصار (3).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبي، عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام 3 / 101 (2) قال الرازي في التفسير الكبير: سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في آخرها.
وحكى الاصم عن بعضهم: أنها كلها مدنية.
وقال قتادة: من قوله " كن فيكون " إلى آخرها مدني.
وقال الرازي: قال الواحدي: ما عليه العامة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال: لامثلن بسبعين منهم مكانك.
فنزل جبريل بخواتيم سورة النحل فكف النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد.
وقال القرطبي في تفسيره: 10 / 201: أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد.
(3) قال السهيلي لم يؤخذ به لوجهين: أحدهما: ضعف إسناده، قال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، يعني الحسن بن عمارة فيما ذكروا، ولا خلاف في ضعفه عند أهل الحديث.
وإن كان غيره فهو مجهول والجهل يوبقه والوجه الثاني: انه حديث لم يصحبه العمل، ولا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه صلى على شهيد في شئ من مغازيه إلا هذه الرواية .
ليبتليكم) فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة (1) سبعة من الانصار واثنين من قريش وهو عاشرهم - فلما رهقوه قال: رحم الله رجلا ردهم
عنا..فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا، فجاء أبو سفيان فقال: أعل هبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا الله أعلى وأجل، فقالوا الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة (2)، وفلان بفلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون.
قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة وإن كانت لعن غير ملا منا، ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبد فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأكلت شيئا ؟ قالوا: لا، قال ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار، قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه وجئ برجل من الانصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الانصاري وترك حمزة وجئ بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة " تفرد به أحمد وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب.
فالله أعلم.
والذي رواه البخاري أثبت حيث قال: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة.
وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا (3).
تفرد به البخاري دون مسلم.
ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به.
وقال أحمد حدثنا محمد يعني ابن جعفر حدثنا شعبة سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري عن ابن جابر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة ولم يصل عليهم وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا [ ابن ] (4) المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر
__________
(1) في الواقدي: في أربعة عشر: سبعة من المهاجرين وسبعة من الانصار.
(2) يعني: حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن أبي سفيان.
(3) أخرجه البخاري في الصحيح عن قتيبة في 64 كتاب المغازي 26 باب فتح الباري 7 / 374.
وفي 23 كتاب الجنائز 72 باب فتح الباري 3 / 309.
ورواه أبو داود في الجنائز باب في الشهيد هل يغسل.
ورواه الترمذي في الجنائز باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد.
ورواه النسائي في الجنائز باب ترك الصلاة عليهم.
وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على الشهداء.
(4) من صحيح البخاري.
قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للاحياء والاموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض واني لانظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها.
قال: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري في مواضع أخر ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث يزيد بن أبي حبيب به نحوه.
وقال الاموي حدثني أبي، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت قال: قالت عائشة: خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد نستطلع الخبر حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا حمل (1) قال: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل، عليه امرأة بين وسقين قالت فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح.
فقلنا لها ما الخبر قالت: دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ من المؤمنين شهداء ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.
ثم قالت لبعيرها: حل.
ثم نزلت، فقلنا لها: ما هذا ؟ قالت: أخي وزوجي.
وقال ابن إسحاق: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه (2) وكان أخاها لابيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.
قالت ولم ؟ وقد بلغني أنه مثل
بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك لاحتسبن ولاصبرن إن شاء الله.
فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت.
قال ابن إسحاق: ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش وأمه أميمة بنت عبد المطلب وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده رضي الله عنهما.
قال السهيلي: وكان يقال له المجدع في الله قال وذكر سعد أنه هو وعبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه فكان ذلك ودعا عبد الله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله فكان ذلك وذكر الزبير بن بكار: أن سيفه يومئذ انقطع فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فصار في يد عبد الله بن جحش سيفا يقاتل به ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر.
وقد تقدم في صحيح البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد في الكفن الواحد
__________
(1) البيت في تاج العروس ونسبه: لحمل بن سعدانة وعجزه: ما أحسن الموت إذا حان الاجل.
وقال في اللسان: يعني به حمل بن بدر.
(2) أي إلى حمزة بن عبد المطلب.
وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد كما جمع بين عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر وبين عمرو بن الجموح لانهما كانا متصاحبين ولم يغسلوا بل تركهم بجراحهم ودمائهم.
كما روى ابن إسحاق: عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال: أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك.
قال: وحدثني عمي موسى بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ما من جريح يجرح في الله
إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال ادفنوهم بدمائهم وثيابهم.
رواه أبو داود وابن ماجه من حديث علي بن عاصم به.
وقال الامام أبو داود في سننه: حدثنا القعنبي، أن سليمان بن المغيرة حدثهم عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر أنه قال: جاءت الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر ؟ فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد.
قيل: يا رسول الله فأيهم يقدم ؟ قال: أكثرهم قرآنا.
ثم رواه من حديث الثوري عن أيوب عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر فذكره: وزاد واعمقوا (1).
قال ابن إسحاق: وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: ادفنوهم حيث صرعوا (2).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبي يزيد المديني، حدثني أبي سمعت جابر بن عبد الله يقول: استشهد أبي بأحد فأرسلني اخواني إليه بناضح لهن فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بني سلمة.
فقال فجئته وأعوان لي فبلغ ذلك نبي الله وهو جالس بأحد فدعاني فقال: والذي نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته فدفن مع أصحابه بأحد.
تفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الاسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبد الله: أن قتلى أحد حملوا من مكانهم فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم (3).
وقد رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري والترمذي من حديث شعبة
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب في تعميق الحفر ح 3215 وح 3216 و 3217 وأخرجه الترمذي ح 1713 وقال حسن صحيح.
(2) الخبر في سيرة ابن هشام 3 / 103.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 3 / 297 وأبو داود في الجنائز باب في الميت يحمل من أرض إلى أرض، والترمذي في كتاب
الجهاد، باب ما جاء في دفن القتيل في مقتله 4 / 215.
وأخرجه النسائي في الجنائز، باب أين يدفن الشهيد =
والنسائي أيضا وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة كلهم عن الاسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله: يا جابر لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما مصير أمرنا فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لاحببت أن تقتل بين يدي.
قال: فبينا أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي: ألا أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال يا جابر بن عبد الله والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدأ فخرج طائفة منه.
فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل (1)، ثم ساق الامام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين.
وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخناهم إليهم فأتيناهم فأخرجناهم فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث (2) دما.
وفي رواية ابن إسحاق عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالامس.
وذكر الواقدي: أن معاوية لما أراد أن يجري العين (3) نادى مناديه: من كان له قتيل بأحد فليشهد، قال جابر: فحفرنا عنهم فوجدت أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته [ وما تغير من حاله قليل ولا كثير ] (4) ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح (5) ويده على جرحه فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما، ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضي الله عنهم أجمعين وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا.
وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال لي ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن علي دينا فاقض واستوص بإخواتك خيرا، فاصبحنا وكان أول قتيل،
فدفنت معه آخر في قبره ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو
__________
= 4 / 79.
وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.
(1) انظر الحاشية السابقة.
(2) في دلائل البيهقي 3 / 291: فانثعب.
(3) في مغازي الواقدي 1 / 267: الكظامة، والكظامة: قناة وهي آبار تحفر في الارض متناسقة ويخرق بعضها إلى بعض تحت الارض فتجمع مياهها جارية، ثم تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الارض.
(النهاية ج 4 / 22).
(4) من الواقدي.
(5) في الواقدي والبيهقي: عبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على وجهه فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم (جرى) فردت إلى مكانها فسكن الدم.
كيوم وضعته هيئة (1) غير أذنه.
وثبت في الصحيحين: من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عن الثوب ويبكي فنهاه الناس فقال رسول الله تبكيه أو لا تبكيه، لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه.
وفي رواية أن عمته هي الباكية (2).
وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري حدثنا أبو عبادة الانصاري، عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر " يا جابر ألا أبشرك ؟ قال بلى بشرك الله بالخير، فقال: أشعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطكه.
قال: يا رب عبد تك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع " (3).
وقال البيهقي: حدثنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الاسفرايني، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا علي بن المديني، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير (4) بن بشير بن الفاكه الانصاري قال: سمعت
طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الانصاري ثم السلمي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مالي أراك مهتما ؟ قال: قلت يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا، فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا وقال له: يا عبدي سلني أعطك.
فقال: أسألك أن تردني إلى الدينا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني القول: انهم إليها لا يرجعون.
قال يا رب: فأبلغ من ورائي.
فأنزل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) الآية [ آل عمران: 169 ].
وقال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن محمد بن عقيل، سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أبشرك يا جابر ؟ قلت بلى، قال: إن أباك حيث أصيب بأحد، أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبد الله ما تحب أن أفعل بك ؟ قال: أي رب أحب أن تردني إلى الدينا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى " (5) وقد رواه أحمد عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن ابن عقيل عن جابر، وزاد: فقال الله إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون.
وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن
__________
(1) في البيهقي: هنية.
أخرجه البخاري في 23 كتاب الجنائز 77 باب ح 1351 فتح الباري 3 / 214.
وأخرجه البيهقي في الدلائل 3 / 294 وفي السنن الكبرى 4 / 57.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي 26 باب ح 4080 ومسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة 26 باب ح 130.
(3) دلائل النبوة ج 3 / 298.
(4) سقطت من الدلائل.
(5) سيرة ابن هشام ج 3 / 127.
إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر عن عبد الله عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد " أما والله لوددت أني غودرت مع
أصحابه بحضن الجبل " يعني سفح الجبل، تفرد به أحمد.
وقد روى البيهقي من حديث عبد الاعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له ثم قرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية [ الاحزاب: 23 ] قال " أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه " (1) وهذا حديث غريب، وروى عن عبيد بن عمير مرسلا.
وروى البيهقي من حديث موسى بن يعقوب عن عباد بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء فإذا أتى فرضة الشعب قال " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله (2).
قال الواقدي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم كل حول فإذا بلغ نقرة الشعب (3) يقول " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول ثم عمر ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم فتبكي عندهم وتدعو لهم، وكان سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم.
ثم حكى زيارتهم عن أبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وأم سلمة رضي الله عنهم (4).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم (5)، حدثني الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت: ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلي وما في الوادي داع ولا مجيب إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدي " السلام عليكم " قالت: فسمعت رد السلام علي يخرج من تحت الارض أعرفه كما أعرف أن الله عزوجل خلقني وكما أعرف الليل والنهار فاقشعرت كل شعرة مني (6).
وقال محمد بن إسحاق: عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال
__________
(1) دلائل البيهقي 3 / 284 وقال في آخره: كذا وجدته في كتابي عن أبي هريرة.
ورواه الحاكم في المستدرك 3 / 200 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي: والحديث عند الحاكم عن أبي ذر، ورواه ابن
مردويه عن خباب بن الارت.
(2) دلائل البيهقي: 3 / 306.
(3) في رواية البيهقي عن الواقدي: تفوه الشعب رفع صوته: أي دخل في أوله.
(4) الخبر في مغازي الواقدي ج 1 / 313 - 314.
(5) وهو إبراهيم بن سعيد.
(6) الخبر في دلائل البيهقي من طريق الحسين بن صفوان البردعي 3 / 308.
.
النبي صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخوانا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد.
فقال الله عزوجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (1).
وروى مسلم والبيهقي: من حديث أبي معاوية، عن الاعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أرواحهم في جوف طير خضر (2) تسرح في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة، فقال: اسألوني ما شئتم.
فقالوا يا ربنا ما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى.
قال: فلما رأى (3) أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا (4).
فصل في عدد الشهداء
قال موسى بن عقبة جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والانصار تسعة وأربعون رجلا وقد ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلا فالله أعلم.
وقال قتادة عن أنس قتل من الانصار يوم أحد سبعون ويوم بئر معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنه كان يقول قارب السبعين يوم أحد ويوم بئر معونة ويوم مؤتة ويوم اليمامة.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد الانصاري عن سعيد بن المسيب قتل من الانصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون ويوم جسر أبي عبيد سبعون وهكذا قال عكرمة وعروة
__________
(1) الخبر في دلائل البيهقي 3 / 304 وفي سنن أبي داود في الجهاد باب في فضل الشهادة ح 2520.
وسيرة ابن هشام ج 3 / 126.
(2) في البيهقي: أرواحهم كطير خضير.
(3) في صحيح مسلم: فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
(4) الحديث موقوف.
أخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة 33 باب ح 121.
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 3 / 303، والترمذي في تفسير سورة آل عمران: وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن ماجه في الجهاد.
والزهري ومحمد بن إسحاق في قتلى أحد ويشهد له قوله تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) يعني أنهم قتلوا يوم سبعين وأسروا سبعين وعن ابن إسحاق قتل من الانصار - لعله من المسلمين - يوم أحد خمسة وستون أربعة من المهاجرين حمزة وعبد الله بن جحش ومصعب بن عمير وشماس بن عثمان والباقون من الانصار، وسرد أسماءهم على قبائلهم وقد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين فصاروا سبعين على قول ابن هشام وسرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين وهم اثنان وعشرون رجلا.
وعن عروة كان الشهداء يوم أحد أربعة أو قال سبعة وأربعين وقال موسى بن عقبة تسعة وأربعون وقتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلا (1) وقال عروة تسعة عشر وقال ابن إسحاق اثنان وعشرون (2).
وقال الربيع عن
الشافعي ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي وقد كان من الاسارى يوم بدر فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فدية واشترط عليه ألا يقاتله فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد امنن علي لبناتي وأعاهد أن لا أقاتلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين ثم أمر به فضربت عنقه.
وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " (3).
فصل قال ابن إسحاق ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لي فلما لقيت الناس نعى إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن زوج المرأة منها لبمكان " لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها (4).
وقد قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، حدثنا عبد الله بن عمر، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جحش، عن أبيه عن حمنة بنت جحش: أنه قيل لها: قتل أخوك.
فقالت: رحمه الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالوا: قتل زوجك قالت: واحزناه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشئ " قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن (5) محمد بن سعد بن أبي
__________
(1) في الدرر في المغازي لابن عبد البر: جميعهم سبعون رجلا (ص 156).
وقد ذكر ابن سيد الناس في عيون الاثر ما يزيد على المائة نقلا عن كتب السير والطبقات وعقب على ذلك بأنه ذكر أن قتلى أحد سبعون، وإنما نشأت هذه الزيادة من الخلاف في الرواية والاسماء.
(2) أسماء القتلى من المسلمين والمشركين.
(3) الخبر رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 280.
(4) سيرة ابن هشام ج 3 / 104.
(5) من ابن هشام وفي الاصل " عن " تحريف.
وقاص قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبو ها (1) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير وهو ههنا القليل.
قال امرؤ القيس: لقتل بني أسد ربهم * ألا كل شئ خلاه جلل (2) أي صغير وقليل.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: " اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم " وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلي عنه دمه فوالله لقد صدقني اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت صدقت القتال لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة ".
وقال موسى بن عقبة في موضع آخر: ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي مخضبا بالدماء قال: " لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف " وروى البيهقي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء علي بن أبي طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فانها قد شفتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاده سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة " (3) قال ابن هشام: وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو ذو الفقار (4)، قال: وحدثني بعض أهل العلم عن ابن أبي نجيح قال: نادى مناد يوم أحد لا سيف إلا ذو الفقار (5)، قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا " قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار بني عبد الاشهل فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " لكن
__________
(1) في مغازي الواقدي السميراء بنت قيس إحدى نساء بني دينار وقد نعي لها ابناها: النعمان بن عبد عمرو،
وسليم بن الحارث - ولم يذكر ابن اسحاق غيرهما فيمن استشهد من بني دينار - وسماه ابن سعد: سلم.
ولم أجد في الاسماء التي ذكرت فيمن استشهد يوم أحد اسم زوجها وكانت تحت الحارث بن ثعلبة بن كعب بن عبد الاشهل بن حارثة بن دينار بن النجار (وسليم ابنه) (مغازي الواقدي 1 / 292 - سيرة ابن هشام 3 / 131 طبقات ابن سعد ج 3 - ج 8).
(2) في نسخة لابن هشام: سواه بدل خلاه.
وربهم: يعني ملك بني أسد " حجر ".
(3) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 283 والحاكم في المستدرك 3 / 24 وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.
(4) كان ذو الفقار سيفا للعاصي بن منبه، فلما قتل كافرا يوم بدر صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى علي بن أبي طالب.
(5) في ابن هشام: لا سيف إلا ذو الفقار لا فتى إلا علي.
حمزة لا بواكي له " فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير إلى دار بني عبد الاشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بني عبد الاشهل قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال: " ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن " (1) قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن النوح فيما قال ابن هشام، وهذا الذي ذكره منقطع ومنه مرسل وقد أسنده الامام أحمد فقال: حدثنا زيد بن الحباب حدثني أسامة بن زيد، حدثني نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من أحد فجعل نساء الانصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولكن حمزة لا بواكي له " قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين قال: " فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة " وهذا على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه: عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع عن ابن عمر: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء بني عبد الاشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكن حمزة لا بواكي له " فجاء نساء الانصار يبكين حمزة فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم " وقال موسى بن عقبة: ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزقة
المدينة إذا النوح والبكاء في الدور قال: " ما هذا " قالوا: هذه نساء الانصار يبكين قتلاهم فقال: " لكن حمزة لا بواكي له " واستغفر له فسمع ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا: والله لا تبكين قتلى الانصار حتى تبكين عم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة وزعموا أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما هذا " فأخبر بما فعلت الانصار بنسائهم فاستغفر لهم وقال لهم خيرا وقال: " ما هذا أردت، وما أحب البكاء " ونهى عنه (2).
وهكذا ذكر ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير سواء.
قال موسى بن عقبة: وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المسلمين وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه، وقال المنافقون مثل قولهم وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع ونفاق من نافق وتعزية المسلمين يعني فيمن قتل منهم فقال: " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم " الآيات كلها كما تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
__________
(1) نقله البيهقي في الدلائل ج 3 / 301.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 300 عن عروة بن الزبير.
خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح في أثر أبي سفيان قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أحد، وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة: وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم (1)، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبهم أشد القرح - بطلب
العدو ليسمعوا بذلك وقال: لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال.
فقال عبد الله بن أبي: أنا راكب معك.
فقال لا، فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا.
فقال الله في كتابه: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) [ آل عمران: 172 ] قال وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته (2)، قال وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الاسد (3).
وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير سواء.
وقال محمد بن إسحاق في مغازيه: وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الاحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه ألا يخرجن أحد من حضر يومنا بالامس.
فكلمه جابر بن عبد الله فأذن له.
قال ابن إسحاق: وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من بني عبد الاشهل قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لاخي وقال لي: اتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة (4) ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الاسد وهي من المدينة على ثمانية (5) أميال فأقام بها الاثنين والثلاثاء والاربعاء ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن هشام: وقد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، [ أن ]
__________
(1) في رواية البيهقي: تبيدوهم.
(2) في قتال أحد، وقد ناشدني ألا أترك نساءنا جميعا وإنما أوصاني بالرجوع للذي أصابه من القتل فاستشهده الله عز وجل - زيادة في رواية البيهقي.
قال الواقدي: قال جابر: فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالامس غيري.
(3) نقل الخبر البيهقي في الدلائل ج 3 / 313 عن عروة بن الزبير.
(4) عقبة: من الاعتقاب في الركوب، نوبة.
(5) في ابن سعد: على عشرة أميال طريق العقيق متياسرة عن ذي الحليفة إذا أخذتها في الوادي.
معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم (1) معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بحمراء الاسد فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الاسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: اصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم.
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط.
قال ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل.
قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم، قال فإني أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.
قال وما قلت ؟ قال قلت: كادت تهد من الاصوات راحلتي * إذ سالت الارض بالجرد الابابيل (2) تردى بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الارض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل (3) إني نذير لاهل البسل ضاحية * لكل ذي أربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا المدينة، قال: ولم ؟ قالوا نريد الميرة ؟ قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها
إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا: نعم.
قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الاسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكذا قال الحسن البصري.
وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال، حدثنا أبو بكر (4)، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا
__________
(1) صفقتهم معه: أي اتفاقهم معه.
يقال: أصفقت مع فلان على الامر: إذا اجتمعت معه عليه.
(2) الجرد: الخيل العتاق.
(3) وفي رواية: إذا تعظمت البطحاء بالخيل.
(4) أحمد بن عبد الله بن يونس.
وأبو بكر هو ابن عياش.
وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل (1).
تفرد بروايته البخاري وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبو اك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في إثرهم فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير (2).
هكذا رواه البخاري وقد رواه مسلم مختصرا من وجه عن هشام وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة.
وأخرجه ابن ماجه من طريقه عن هشام بن عروة به.
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي سعيد عن هشام بن عروة به ورواه من حديث السدي عن عروة وقال في كل منهما صحيح ولم يخرجاه.
كذا قال.
وهذا السياق غريب جدا فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الاسد كل من شهد أحدا وكانوا سبعمائة كما تقدم قتل منهم سبعون وبقي الباقون.
وقد روى
ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه فرجع إلى مكة وكانت وقعة أحد في شوال وكانا التجار يقدمون في ذي القعدة المدينة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة وانهم قدموا بعد وقعة أحد وكان أصاب المسلمين القرح واشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا بهم، ويتبعوا ما كانوا متعبين، وقال لنا ترتحلون الآن فتأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل.
فجاء الشيطان يخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه فقال إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد فانتدب معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وابن مسعود وحذيفة في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) وهذا غريب أيضا.
وقال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة: أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا (3) وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا فرجعوا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الاسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة " والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب " قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك، قبل رجوعه المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، جد عبد الملك بن مروان
__________
(1) أخرجه البخاري في 65 كتاب التفسير - تفسير سورة آل عمران 13 باب ح 4563.
(2) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 25 باب ح 4077 ومسلم في كتاب فضائل الصحابة 6 باب ح 51 وح 52 عن أبي كريب.
(3) حربوا: غضبوا
لامه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسره ببدر ثم من عليه فقال: يا رسول الله أقلني، فقال: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة [ بعدها و ] تقول خدعت
محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير، فضرب عنقه.
قال ابن هشام: وبلغني عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت (1)، فضرب عنقه " وذكر ابن هشام أن معاوية بن المغيرة بن أبي العاص استأمن له عثمان على أن لا يقيم بعد ثلاث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال: ستجدانه في مكان (2) كذا وكذا فاقتلاه ففعلا رضي الله عنهما.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبد الله بن أبي كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر، له شرفا في نفسه وفي قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس، قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوه.
ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع.
ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخد المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا اجلس أي عدو الله والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا (3) أن قمت أشدد أمره.
فلقيه رجال من الانصار (4) بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك ؟ قال: قمت أشدد أمره، فوثب إلي رجال من أصحابه (5) يجبذونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي.
ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) قال إلى تمام ستين آية.
وتكلم عليها، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية.
ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم على قبائلهم كما جرت عادته فذكر من المهاجرين أربعة حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان رضي الله عنهم ومن الانصار إلى تمام خمسة وستين رجلا واستدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام ثم سمى ابن إسحاق من قتل من المشركين وهم اثنان وعشرون رجلا على قبائلهم أيضا.
__________
(1) قال الواقدي: لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أسيرا غير أبي عزة، وقد أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه.
أما
المغيرة فلم يأخذ رسول الله، فقد انهزم يومئذ فمضى على وجهه قريبا من المدينة، فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان فضرب بابه فأدخله عثمان ناحية البيت.
فأجله ثلاثا ثم ارتحل.
المغازي ج 1 / 332.
(2) في الواقدي: بالجماء.
(3) أي أمرا عظيما.
(4) في الواقدي: لقيه معوذ بن عفراء.
(5) منهم: أبو أيوب الانصاري وعبادة بن الصامت.
قلت: ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي كما ذكره الشافعي وغيره وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بين يديه أمر الزبير - ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الافلح - فضرب عنقه.
فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الاشعار وإنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الاسلام ليكون أبلغ في وقعها من الاسماع والافهام وأقطع لشبهة الكفرة الطغام.
قال الامام محمد بن إسحاق رحمه الله وكان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة بن أبي وهب المخزومي وهو على دين قومه من قريش فقال: ما بال هم عميد بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها (1) باتت تعاتبني هند وتعذلني * والحرب قد شغلت عني مواليها مهلا فلا تعذليني إن من خلقي * ما قد علمت وما إن لست أخفيها مساعف لبني كعب بما كلفوا * حمال عب ء وأثقال أعانيها (2) وقد حملت سلاحي فوق مشترف * ساط سبوح إذا يجري يباريها (3) كأنه إذ جرى عير بفدفدة * مكدم لا حق بالعون يحميها من آل أعوج يرتاح الندي له * كجذع شعراء مستعل مراقيها (4) أعددته ورقاق الحد منتخلا * ومارنا لخطوب قد ألاقيها (5)
هذا وبيضاء مثل النهي محكمة * لظت علي فما تبدو مساويها (6) سقناكنانة من أطراف ذي يمن * عرض البلاد على ما كان يزجيها قالت كنانة أنى تذهبون بنا * قلنا: النخيل فأموها ومن فيها (7) نحن الفوارس يوم الجر من أحد * هابت معد فقلنا نحن نأتيها هابوا ضرابا وطعنا صادقا خذما * مما يرون وقد ضمت قواصيها ثمت رحنا كأنا عارض برد * وقام هام بني النجار يبكيها
__________
(1) العميد: المؤلم الموجع.
والعوادي: الشواغل.
(2) المساعف: المطيع عب ء: هنا الامور الشاقة العظام.
(3) مشترف: مشرف.
الساطي: الفرس البعيد الخطو.
(4) أعوج: اسم فرس مشهور في العرب.
(5) المارن: الرمح اللين.
(6) لظت: أي ألصقت، ورواية أبي ذر: نيطت: علفت.
(7) النخيل: عين قرب مكة.
كأن هامهم عند الوغى فلق * من قيض ربد نفته عن أداحيها (1) أو حنظل ذعذعته الريح في غصن * بال تعاوره منها سوافيها قد نبذل المال سحا لا حساب له * ونطعن الخيل شزرا في مآقيها وليلة يصطلي بالفرث جازرها * يختص بالنقرى المثرين داعيها (2) وليلة من جمادى ذات أندية * جربا جمادية قد بت أسريها لا ينبح الكلب فيها غير واحدة * من القريس ولا تسري أفاعيها أوقدت فيها لذي الضراء جاحمة * كالبرق ذاكية الار كان أحميها أورثني ذلكم عمرو ووالده * من قبله كان بالمشتى يغاليها (3)
كانوا يبارون أنواء النجوم فما * دنت عن السورة العليا مساعيها (4) قال ابن إسحاق فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال (قال ابن هشام: وتروى لكعب بن مالك وغيره.
قلت: وقول ابن إسحاق أشهر وأكثر والله أعلم): سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم * إلى الرسول فجند الله مخزيها أوردتموها حياض الموت ضاحية * فالنار موعدها والقتل لاقيها جمعتموهم أحابيشا بلا حسب * ائمة الكفر غرتكم طواغيها ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقيته فيها (5) كم من أسير فككناه بلا ثمن * وجز ناصية كنا مواليها قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبي وهب المخزومي أيضا: ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الارض خرق سيره متنعنع (6) صحارى وأعلام كأن قتامها * من البعد نقع هامد متقطع تظل به البزل العراميس رزحا * ويحلو به غيث السنين فيمرع به جيف الحسرى يلوح صليها * كما لاح كتان التجار الموضع به العين والآرام يمشين خلفة * وبيض نعام قيضه يتقلع (7)
__________
(1) القيض: قشر البيض الا على.
والاداحي: جمع أدحى.
وهو الموضع الذي تبيض فيه النعام.
(2) النقرى: أن تخص قوما بالدعوة دون قوم.
(3) في ابن هشام: بالمثنى بدل بالمشتى.
(4) السورة: الرفعة والمنزلة.
(5) أهل القليب: يعني قتلى بدر من المشركين (6) متنعنع: مضطرب.
(7) العين: بقر الوحش.
مجالدنا عن ديننا كل فخمة * مذربة فيها القوانس تلمع (1) وكل صموت في الصوان كأنها * إذا لبست نهي من الماء مترع ولكن ببدر سائلوا من لقيتم * من الناس والانباء بالغيب تنفع وانا بأرض الخوف لو كان أهلها * سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا إذا جاء منا راكب كان قوله * أعدوا لما يزجي ابن حرب ويجمع فمهما يهم الناس مما يكيدنا * فنحن له من سائر الناس أوسع فلو غيرنا كانت جميعا تكيده * البرية قد أعطوا يدا وتوزعوا نجالد لا تبقى علينا قبيلة * من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا ولما ابتنوا بالعرض قالت سراتنا * علام إذا لم نمنع العرض نزرع (2) وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتظلع (3) تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزل من جو السماء ويرفع نشاوره فيما نريد وقصرنا * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا وكونوا كمن يشري الحياة تقربا * إلى ملك يحيا لديه ويرجع ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الامر لله أجمع فسرنا إليهم جهرة في رحالهم * ضحيا علينا البيض لا نتخشع بملمومه فيها السنور والقنا * إذا ضربوا أقدامها لا تورع (4) فجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع (5) نغاورهم تجري المنية بيننا * نشارعهم حوض المنايا ونشرع تهادى قسي النبع فينا وفيهم * وما هو إلا اليثربي المقطع ومنجوفة حرمية ضاعدية * يذر عليها السم ساعة تصنع (6)
تصوب بأبدان الرجال وتارة * تمر بأعراض البصار تقعقع وخيل تراها بالفضاء كأنها * جراد صبا في قرة يتريع
__________
(1) الفحمة: الكتيبة العظيمة.
والقوانس: رؤوس بيض السلاح.
(2) العرض: موضع خارج المدينة.
(3) لا نتظلع: أي لا نميل عنه.
وتروى: لا نتطلع.
(4) الملمومة: الكتيبة المجتمعة.
(5) نصية: خيار القوم.
(6) المنجوفة: السهام.
الحرمية: نسبة إلى أهل الحرم.
الصاعدية: نسبة إلى صاعد أحد الصناع.
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحا * وليس لامر حمه الله مدفع ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع لدن غدوة حتى استفقنا عشية * كأن ذكانا حر نار تلفع وراحوا سراعا موجعين كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع (1) ورحنا وأخرانا بطاء كأننا * أسود على لحم ببشة ضلع (2) فنلنا ونال القوم منا وربما * فعلنا، ولكن ما لدى الله أوسع ودارت رحانا واستدارت رحاهم * وقد جعلوا، كل من الشر يشبع ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمي الذمار ويمنع جلاد على ريب الحوادث لا نرى * على هالك عينا لنا الدهر تدمع (3) بنو الحرب لا نعيا بشئ نقوله * ولا نحن مما جرت الحرب نجزع بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من أظفارنا نتوجع (4) وكنا شهابا يتقي الناس حرة * ويفرج عنه من يليه ويسفع فخرت علي ابن الزبعري وقد سرى * لكم طلب من آخر الليل متبع
فسل عنك في عليا معد وغيرها * من الناس من أخزى مقاما وأشنع ومن هو لم يترك له الحرب مفخرا * ومن خده يوم الكريهة أضرع شددنا بحول الله والنصر شدة * عليكم وأطراف الاسنة شرع تكر القنا فيكم كأن فروعها * عزالى مزاد ماؤها يتهزع (5) عمدنا إلى أهل اللواء ومن يطر * بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع فحانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا * أبى الله إلا أمره وهو أصنع قال ابن إسحاق:: وقال عبد الله بن الزبعرى في يوم أحد وهو يومئذ مشرك بعد: يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل والعطيات خساس بينهم * وسواء قبر مثر ومقل
__________
(1) الجهام: السحاب الرقيق الذي ليس فيه ماء.
(2) في ابن هشام: ظلع بدل ضلع، وبيشة: موضع كثير الاسود.
(3) جلاد: جمع جليد، وهو الصبور.
(4) في ابن هشام: أظفارها.
(5) فروعها في الاصل وهو تحريف والصواب في ابن هشام: فروغها بالغين وهي الطعنات المتسعة.
عزالى: جمع عزلاء وهي فم المزادة.
كل عيش ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل (1) أبلغا حسان عني آية * فقريض الشعر يشفي ذا الغلل كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل (2) كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
صادق النجدة قرم بارع * غير ملتاث لدى وقع الاسل فسل المهراس ما ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل حين حكت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الاشل (3) ثم خفوا عند ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل (4) فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل بسيوف الهند تعلو هامهم * عللا تعلوهم بعد نهل قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه: ذهبت بابن الزبعري وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحيانا دول نضع الاسياف في أكتافكم * حيث نهوى عللا بعد نهل نخرج الاصبح من أستاهكم * كسلاح النيب يأكلن العصل (5) إذ تولون على أعقابكم * هربا في الشعب أشباه الرسل إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل بخناطيل كأشداق الملا * من يلاقوه من الناس يهل (6) ضاق عنا الشعب إذ نجزعه * وملانا الفرط منه والرجل
__________
(1) بنات الدهر: حوادثه.
(2) سرابيل: الدروع.
(3) بركها: صدرها.
عبد الاشل: هم بنو عبد الاشهل.
(4) الحفان: فراخ النعام.
(5) الاصبح: قال السهيلي: وصف اللبن الممذوق المخرج من بطونهم، وفي ابن هشام الاضياح: اللبن الممزوج
بالماء.
العصل: نبات يصلح الابل إذا أكلته.
(6) أشداق: تحريف، وفي ابن هشام أشداف ويراد بها جمع شدف، وكتب اللغة جمعت شدف على شدوف.
وروى أبو ذر: أمذاق أي: أخلاط الناس
برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل (1) وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاح رفل (2) وتركتا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل ورسول الله حقا شاهدا * يوم بدر والتنابيل الهبل في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل (3) نحن لا أمثالكم ولد آستها * نحضر البأس إذا البأس نزل قال ابن إسحق: وقال كعب يبكي حمزة ومن قتل من المسلمين يوم أحد رضي الله عنهم نشجت وهل لك من منشج * وكنت متى تدكر تلجج تذكر قوم أتاني لهم * أحاديث في الزمن الاعوج فقلبك من ذكرهم خافق * من الشوق والحزن المنضج وقتلاهم في جنان النعيم * كرام المداخل والمخرج بما صبروا تحت ظل اللواء * لواء الرسول بذي الاضوج (4) غداة أجابت بأسيافها * جميعا بنو الاوس والخزرج وأشياع أحمد إذ شايعوا * على الحق ذي النور والمنهج فما برحوا يضربون الكماة * ويمضون في القسطل المرهج كذلك حتى دعاهم مليك * إلى جنة دوحة المولج وكلهم مات حر البلاء * على ملة الله لم يحرج كحمزة لما وفى صادقا * بذي هبة صارم سلجج (5)
فلاقاه عبد (6) بني نوفل * يبربر كالجمل الادعج فأوجره حربة كالشهاب * تلهب في اللهب الموهج ونعمان أوفى بميثاقه * وحنظلة الخير لم يحنج (7) عن الحق حتى غدت روحه * إلى منزل فاخر الزبرج
__________
(1) أيدوا جبريل: قال أبو ذر: أي أيدوا بجبريل.
(2) الجحجاح: السيد، رفل: الذي يجر ثوبه خيلاء.
(3) الهمل: الابل المهملة التي تترك في المرعى دون راع.
(4) الاضوج جمع ضوج: جانب الوادي.
(5) السلجج: المرهق.
(6) يريد به وحشي قاتل حمزة.
(7) لم يحنج: لم يحد عن وجه الحق ولم يمل عما أراده.
أولئك لا من ثوى منكم * من النار في الدرك المرتج قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة ومن أصيب من المسلمين يوم أحد وهي على روي قصيدة أمية بن أبي الصلت في قتلى المشركين يوم بدر.
قال ابن هشام: ومن أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان والله أعلم: يامي قومي فاندبي بسحيرة شجو النوائح * كالحاملات الوقر بالثقل الملحات الدوالح المعولات الخامشات وجوه حرات صحائح * وكأن سيل دموعها الانصاب تخضب بالذبائح ينقضن أشعارا لهن هناك بادية المسائح * وكأنها أذناب خيل بالضحى شمس روامح من بين مشرور ومجزور يذعذع بالبوارح * يبكين شجو مسلبات كدحتهن الكوادح (1) ولقد أصاب قلوبها مجل له جلب قوارح * إذ أقصد الحدثان من كنا نرجي إذ نشايح (2) أصحاب أحد غالهم دهر ألم له جوارح * من كان فارسنا وحامينا إذا بعث المسالح
ياحمز لا والله لا أنساك ما صر اللقائح * لمناخ أيتام وأضياف وأرملة تلامح (3) ولما ينوب الدهر في حرب لحرب وهي لافح * يا فارسا يا مدرها ياحمز قد كنت المصامح (4) عنا شديدات الخطوب إذا ينوب لهن فادح * ذكرتني أسد الرسول وذاك مدرهنا المنافح عنا وكان يعد إذ عد الشريفون الجحاجح * يعلو القماقم جهرة سبط اليدين أغر واضح لا طائش رعش ولا ذو علة بالحمل آنح * بحر فليس يغب جارا منه سيب أو منادح (5) أودى شباب إلى الحفائظ والثقليون المراجح * المطعمون إذا المشاتي ما يصفقهن ناضح لحم الجلاد وفوقه من شحمه شطب شرائح * ليدافعوا عن جارهم ما رام ذوالضغن المكاشح لهفي لشبان رزئناهم كأنهم المصابح * شم بطارقة غطارفة خضارمة مسامح (6) المشترون الحمد بالاموال أن الحمد رابح * والجامزون بلجمهم يوما إذا ما صاح صائح (7) من كان يرمى بالنواقر من زمان غير صالح * ما أن تزال ركابه يرسمن في غبرصحاصح (8) راحت تبارى وهو في ركب صدورهم رواشح * حتى تؤوب له المعالي ليس من فوز السفائح (9)
__________
(1) مشرور: الذي وضع لحمه على خصفة ليجف.
يذعذع: يغرق.
البوارح: الرياح الشديدة.
(2) مجل: أي جرح ندي.
جلب: جمع جلبة وهي قشرة الجرح التي تكون عند البرء.
(3) اللقائح: جمع لقحة، وهي الناقة التي لها لبن.
تلامح: أي تنظر بعينها نظرا سريعا ثم تغضها.
(4) المدره: المدافع عن القوم بلسانه ويده.
والمصامح: الشديد الدفاع.
(5) الآنح: البعير الذي إذا حمل الثقل أخرج من صدره صوت المعتصر.
(6) الغطارفة: السادة، الخضارفة: المكثرون من العطاء.
(7) الجامزون: الواثبون.
(8) النواقر: الدواهي والمصائب، والصحاصح: جمع صحصح: الارض المستوية الملساء.
(9) السفائح: جمع سفيح وهو من قداح الميسر.
ياحمز قد أوحدتني كالعود شذبه الكوافح * أشكو إليك وفوقك الترب المكور والصفائح (1)
من جندل يلقيه فوقك إذ أجاد الضرح ضارح * في واسع يحشونه بالتراب سوته المماسح فعزاؤنا أنا نقول وقولنا برح بوارح * من كان أمسى وهو عما أوقع الحدثان جانح فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح * القائلين الفاعلين ذوي السماحة والممادح من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مائح (2) قال ابن هشام وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
قال ابن إسحاق وقال كعب بن مالك يبكي حمزة وأصحابه: طرقت همومك فالرقاد مسهد * وجزعت أن سلخ الشباب الاغيد ودعت فؤادك للهوى ضمرية * فهواك غوري وصحوك منجد فدع التمادي في الغواية سادرا * قد كنت في طلب الغواية تفند ولقد أتى لك أن تناهى طائعا * أو تستفيق إذا نهاك المرشد ولقد هددت لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد ولو آنه فجعت حراء بمثله * لرأيت رأسي صخرها يتبدد قرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسؤدد والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد والتارك القرن الكمي مجدلا * يوم الكريهة والقنا يتقصد وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذولبدة شثن البراثن أربد (3) عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد وأتى المنية معلما في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد ولقد إخال بذاك هندا بشرت * لتميت داخل غصة لا تبرد مما صبحنا بالعقنقل قومها * يوما تغيب فيه عنها الاسعد (4) وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد حتى رأيت لدى النبي سراتهم * قسمين: نقتل من نشاء ونطرد
فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والاسود وابن المغيرة قد ضربنا ضربة * فوق الوريد لها رشاش مزبد وأمية الجمحي قوم ميله * عضب بأيدي المؤمنين مهند
__________
(1) الكوافح: الذين يتناولون بالقطع.
(2) المائح الذي ينزل في البئر فيملا الدلو إذا كان ماؤها قليلا.
(3) الششن: الغليظ.
(4) العقنقل: الكثيب من الرمل.
فأتاك فل المشركين كأنهم * والخيل تثفنهم نعام شرد (1) شتان من هو في جهنم ثاويا * أبدا ومن هو في الجنان مخلد وقال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة وأصحابه يوم أحد.
قال ابن هشام: وأنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك فالله أعلم: بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل على أسد الاله غداة قالوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا * هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الاركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول (2) عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول الا يا هاشم الاخيار صبرا * فكل فعالكم حسن جميل رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول ألا من مبلغ عني لؤيا * فبعد اليوم دائلة تدول وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا * عليه الطير حائمة تجول وعتبة وابنه خرا جميعا * وشيبة عضه السيف الصقيل ومتركنا أمية مجلعبا * وفي حيزومه لدن نبيل (3) وهام بني ربيعة سائلوها * ففي أسيافنا منها فلول ألا يا هند فابكي لا تملي * فأنت الواله العبرى الهبول ألا يا هند لا تبدي شماتا * بحمزة إن عزكم ذليل قال ابن إسحاق: وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب وهي أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين: أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبي من أعجم وخبير فقال الخبير إن حمزة قد ثوى * وزير رسول الله خير وزير دعاه إله الحق ذوالعرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور فذلك ما كنا نرجي ونرتجي * لحمزة يوم الحشر خير مصير
__________
(1) تثفنهمم: تطردهم.
(2) أبو يعلى: كنية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
(3) مجلعب: الممتد مع الارض.
الحيزوم: أسفل الصدر.
اللدن: الرمح اللين.
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزنا محضري ومسيري على أسد الله الذي كان مدرها * يذود عن الاسلام كل كفور فياليت شلوي عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادني ونسور أقول وقد أعلى النعي عشيرتي * جزى الله خيرا من أخ ونصير قال ابن إسحاق: وقالت نعم، امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها والله أعلم، ولله الحمد والمنة:
يا عين جودي بفيض غير إبساس * على كريم من الفتيان لباس (1) صعب البديهة ميمون نقيبته * حمال ألوية ركاب أفراس أقول لما أتى الناعي له جزعا * أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي وقلت لما خلت منه مجالسه * لا يبعد الله منا قرب شماس قال فأجابها أخوها [ أبو ] (2) الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال: اقنى حياءك في ستر وفي كرم * فإنما كان شماس من الناس لا تقتلي النفس إذ حانت منيته * في طاعة الله يوم الروع والباس قد كان حمزة ليث الله فاصطبري * فذاق يومئذ من كأس شماس وقالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين رجعوا من أحد: رجعت وفي نفسي بلابل جمة * وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي من أصحاب بدر من قريش وغيرهم * بني هاشم منهم ومن أهل يثرب ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن * كما كنت أرجو في مسيري ومركبي وقد أورد ابن إسحاق في هذا أشعارا كثيرة تركنا كثيرا منها خشية الاطالة وخوف الملالة وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد.
وقد أورد الاموي في مغازيه من الاشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته ولا سيما ههنا فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت: أنه قال في غزوة أحد فالله أعلم: طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم * فاستبان الخزي فيهم والفشل حين صاحوا صيحة واحدة * مع أبي سفيان قالوا اعل هبل فأجبناهم جميعا كلنا * ربنا الرحمن أعلى وأجل أثبتوا تستعملوها مرة * من حياض الموت والموت نهل واعلموا أنا إذا ما نضحت * عن خيال الموت قدر تشتعل وكأن هذه الابيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعرى والله أعلم.
__________
(1) إبساس ؟: أن تستدر لبن الناقة بأن تمسح ضرعها وتقول لها: بس بس.
وهنا: استعارة للدمع الفائض.
(2) من ابن هشام
آخر الكلام على وقعة أحد فصل قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث والغزوات والسرايا، ومن أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها، وقد تقدم بسطها ولله الحمد.
وفيها في أحد توفي شهيدا أبو يعلى ويقال أبو عمارة أيضا حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الملقب بأسد الله وأسد رسوله وكان رضيع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو سلمة بن عبد الاسد أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه، فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضي الله عنهم فإنه كان من الشجعان الابطال ومن الصديقين الكبار وقتل معه يومئذ تمام السبعين رضي الله عنهم أجمعين.
وفيها عقد عثمان بن عفان على أم كثلوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أختها رقية وكان عقده عليها في ربيع الاول منها وبنى بها في جمادى الآخرة منها كما تقدم فيها ذكره الواقدي.
وفيها قال ابن جرير: ولد لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب (1) قال: وفيها علقت بالحسن رضي الله عنهم.
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر سنة أربع من الهجرة النبوية في المحرم منها: كانت سرية أبي سلمة بن عبد الاسد أبي طليحة الاسدي فانتهى إلى ما يقال له قطن (2).
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة وغيره قالوا: شهد أبو سلمة أحدا، فجرح جرحا على عضده [ فرجع إلى منزله ] (3) فأقام شهرا يداوى، فلما كان المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا
من الهجرة دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها وعقد له لواء وقال: سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، وخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة فانتهى إلى أدنى قطن وهو ماء لبني أسد وكان هناك
__________
(1) في تاريخ الطبري: في النصف من شهر رمضان.
(2) قطن: جبل بناحية فيد، به ماء لبني أسد بن خزيمة (ابن سعد 2 / 50).
(3) من الواقدي.
طليحة الاسدي وأخوه سلمة ابنا خويلد وقد جمعا حلفاء من بني أسد ليقصدوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل منهم (1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تمالاوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه.
فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعما كثيرا لهم من الابل والغنم فأخذ ذلك كله أبو سلمة وأسر منهم معه ثلاثة مماليك وأقبل راجعا إلى المدينة فأعطى ذلك الرجل الاسدي الذي دلهم نصيبا وافرا من المغنم، وأخرج صفي النبي صلى الله عليه وسلم عبدا وخمس الغنيمة وقسمها بين أصحابه ثم قدم المدينة.
قال عمر بن عثمان فحدثني عبد الملك بن عبيد (2) عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة قال: كان الذي جرح أبي أبو أسامة الجشمي فمكث شهرا يداويه فبرأ فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم يعني من سنة أربع إلى قطن فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى (3).
قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في ليال بقين من شوال فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى فيه.
قال: وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين.
رواه البيهقي (4).
قلت سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة وما يتعلق بذلك من ولاية الابن أمه في النكاح ومذاهب العلماء في ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
غزوة الرجيع
قال الواقدي: وكانت في صفر يعني سنة أربع بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ليجيزوه قال والرجيع (5) على ثمانية أميال من عسفان.
قال البخاري: حدثني إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد (6) عاصم بن عمر بن الخطاب،
__________
(1) هو الوليد بن زهير بن طريف عم زينب الطائية وكانت تحت طليب بن عمير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الواقدي.
(2) في الواقدي: ابن عمير.
(3) في الواقدي: الآخرة.
(4) رواه البيهقي عن الواقدي مطولا في الدلائل ج 3 / 319 - 322 وقال في نهايته: ماتت أم سلمة بعد ذلك سنة إحدى وستين والله أعلم (5) الرجيع: ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدة والهدة على سبعة أميال من عسفان (الطبري - ابن سعد - الواقدي).
(6) قال الحافظ عبد العظيم: غلط عبد الرزاق وابن عبد البر، فقالا هذا في عاصم: هو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، وذلك وهم، وإنما هو خال عاصم، لان أم عاصم بن عمر جميلة بنت ثابت، وعاصم هو أخو جميلة.
ذكر ذلك الزبير القاضي وعمه مصعب.
إرشاد الساري 6 / 312.
فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا
إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أو نار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما هذا أو الغدر فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة [ بعد بدر ] (1) فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات (2) الحارث يستحد بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لافعل ذلك إن شاء الله.
وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمرة، وانه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقا رزقه الله.
فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت.
فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو.
ثم قال: اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا.
ثم قال: ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلوممزع قال: ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشئ من جسده يعرفونه وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شئ (3).
وقال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابر بن عبد الله يقول: الذي قتل خبيبا هو أبو سروعة قلت واسمه عقبة بن الحارث وقد أسلم بعد ذلك وله حديث في الرضاع وقد قيل: إن أبا سروعة وعقبة إخوان.
فالله أعلم.
هكذا ساق البخاري في كتاب المغازي من صحيحه قصة الرجيع ورواه أيضا في التوحيد وفي
__________
(1) من دلائل البيهقي والواقدي، وفي الطبري يوم أحد.
(2) ذكرها الواقدي: ماوية مولاة لبني عبد مناف، قال: وقد أسلمت بعد وحسن اسلامها.
(3) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 10 باب ح 3989.
وأخرجه في كتاب الجهاد باب هل يستأسر الرجل ؟
وأعاده في المغازي.
وأخرجه أبو داود في الجهاد باب: في الرجل يستأسر.
الجهاد من طرق: عن الزهري عن عمرو بن أبي سفيان وأسد بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة ومنهم من يقول عمر بن أبي سفيان والمشهور عمرو.
وفي لفظ للبخاري بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح وساق بنحوه.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة بن الزبير في بعض ذلك ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف على أن ابن إسحاق إمام في هذا الشأن، غير مدافع كما قال الشافعي رحمه الله من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق.
قال محمد بن إسحاق حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الاسلام.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفرا ستة من أصحابه وهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب.
قال ابن إسحاق وهو أمير القوم (1)، وخالد بن البكير الليثي حليف بني عدي وعاصم بن ثابت بن أبي الاقلح، أخو بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخو بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخو بني بياضة بن عامر (2) وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر رضي الله عنهم هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة (3) وكذا ذكر موسى بن عقبة وسماهم كما قال ابن إسحاق، وعند البخاري أنهم كانوا عشرة وعنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح فالله أعلم.
قال ابن إسحاق فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة (4) غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم، وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت (5) فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وقال عاصم بن ثابت والله أعلم ولله الحمد والمنة:
ما علتي وأنا جلد نابل * والقوس فيها وتر عنابل (6) تزل عن صفحتها المعابل * والموت حق والحياة باطل (7)
__________
(1) في ابن سعد والسهيلي: أمر عليهم عاصم بن ثابت.
(2) في ابن هشام: عمرو.
(3) قال الواقدي: سبعة نفر، وزاد معتب بن عبيد أخا عبد الله بن طارق لامه.
وذكر ابن سعد أنهم كانوا عشرة، عليهم عاصم، ولم يذكر سوى سبعة زاد على ابن اسحاق معتب بن عبيد.
(4) الهدأة: قال ياقوت: الهدأة: وهو موضع بين عسفان ومكة، وكذا ضبطه أبو عبيد البكري الاندلسي، وقال أبو حاتم: يقال لموضع بين مكة والطائف الهدة بغير ألف، وهو غير الاول.
(5) زاد الواقدي وابن سعد: ومعتب بن عبيد.
(6) عجزه في الواقدي: النبل والقوس لها بلابل.
(بلابل جمع بلبل: أي شدة الهم).
(7) المعابل: جمع معبلة، وهو نصل عريض طويل.
وكل ما حم الاله نازل * بالمرء والمرء إليه آيل إن لم إقاتلكم فأمي هابل وقال عاصم أيضا: أبو سليمان وريش المقعد * وضالة مثل الجحيم الموقد إذا النواجي افترشت لم أرعد * ومجنأ من جلد ثور أجرد ومؤمن بما على محمد وقال أيضا: أبو سليمان ومثلي راما * وكان قومي معشرا كراما (1) قال: ثم قاتل حتى قتل وقتل صاحباه.
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها (2) يوم أحد لئن قدرت على رأس
عاصم لتشربن في قحفه الخمر فمنعته الدبر فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فيذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا تنجسا.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.
قال ابن إسحاق: وأما خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة، ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران (3) انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة.
فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
قال ابن إسحاق: فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي (4) حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لامه ليقتله بأبيه.
قال: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم (5) وأخرجه من
__________
(1) في الواقدي: أن أبو سليمان ومثلي رامى * ورثت مجدا معشرا كراما أصبت مرثدا وخالدا قياما (2) الحارث ومسافع: وفي ابن سعد: مسافع وجلاس.
(3) الظهران: واد قرب مكة.
(4) قال الواقدي وابن سعد: ابتاعه حجير بثمانين مثقال ذهب، ويقال اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائة من الابل.
والاول أصح.
(5) التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة (معجم البلدان).
الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش فيهم: أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم
ليقتل: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك ؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، واني جالس في أهلى.
قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا قال: ثم قتله نسطاس.
قال: وأما خبيب بن عدي: فحدثني عبد الله ابن أبي نجيح، أنه حدث عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان عندي خبيب حبس في بيتي فلقد اطلعت عليه يوما وأن في يده لقطفا من عنب، مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي نجيح أنهما قالا: قالت: قال لي حين حضره القتل: ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل.
قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: أدخل بها على هذا الرجل البيت، فقالت فوالله ان هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت ! أصاب والله الرجل وثأره يقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي.
ثم خلى سبيله.
قال ابن هشام: ويقال إن الغلام ابنها (1).
قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب حتى جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه، وقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة.
قال: فكان خبيب أو (أول) من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين (2)
__________
(1) قيل هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف (شرح المواهب اللدنية) وفي الواقدي: أبي حسين ابن ماوية.
(مغازي 1 / 358).
(2) يوجد على الهامش في هذا المكان ما نصه: " حاشية بخط المصنف، قال السهيلي: وإنما صارت سنة لانها فعلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واستحسنت من صنيعه، قال وقد صلاها زيد بن حارثة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم ساق بإسناده من طريق أبي بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين عن يحيى بن عبد الله بن بكير عن الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة استأجر من رجل بغلا من الطائف واشترط عليه الكرى أن ينزله حيث شاء، فمال به إلى خربة فإذا
بها قتلى كثيرة، فلما هم بقتله قال له زيد: دعني حتى أصلي ركعتين.
فقال: صل ركعتين فطالما صلى هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، قال: فصليت ثم جاء ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، فإذا صارخ يقول لا تقتله، فهاب وذهب ينظر فلم ير شيئا، ثم جاء ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، فسمع أيضا الصوت يقول: لا تقتله، فذهب لينظر ثم جاء، فقلت: يا أرحم الراحمين، فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة في رأسها شعلة من نار فطعنه بها حتى أنفذه فوقع ميتا، ثم قال: لما دعوت الله في المرة الاولى كنت في السماء السابعة ولما دعوته في المرة الثانية كنت في السماء الدنيا ولما دعوته في الثالثة أتيتك.
قال السهيلي: وقد صلاها حجر بن عدي ابن الادبر حين حمل إلى معاوية من العراق ومعه كتاب زياد ابن أبيه وفيه انه خرج عليه وأراد خلعه، وفي الكتاب شهادة جماعة من التابعين منهم الحسن وابن سيرين، فلما دخل على معاوية قال، السلام عليك يا أمير المؤمنين.
قال =
قال: ثم رفعوه على خشبة فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا (1) ولا تغادر منهم أحدا، ثم قتلوه.
وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان فلقد رأيته يلقيني إلى الارض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه، فاضطجع لجنبه زلت عنه.
وفي مغازي موسى بن عقبة: أن خبيبا وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول وعليكما أو عليك السلام خبيب قتلته قريش.
وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه فما زاده إلا إيمانا وتسليما.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه أتحب أن محمدا مكانك ؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه فضحكوا منه.
وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبا (2).
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث قال سمعته يقول: والله ما أنا قتلت خبيبا لانا كنت أصغر من ذلك ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض
أصحابنا قال: كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام (3) فكانت تصيبه غشية، وهو بين ظهري القوم، فذكر ذلك لعمر، وقيل إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد ما هذا الذي يصيبك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي.
فزادته عند عمر خيرا.
وقد قال الاموي: حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق وبلغنا أن عمر قال: من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر.
قال ابن هشام: أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الاشهر الحرم ثم قتلوه.
وقد روى البيهقي من طريق إبراهيم بن إسماعيل حدثني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه عينا وحده قال جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته، فوقع إلى الارض ثم اقتحمت فانتبذت
__________
= أو أنا أمير المؤمنين ؟ وأمر بقتله فصلى ركعتين قبل قتله ثم قتله رحمه الله.
قال: وقد عاتبت عائشة معاوية في قتله فقال إنما قتله من شهد عليه، ثم قال: دعيني وحجرا فإني سألقاه على الجادة يوم القيامة، قالت: فأين ذهب عنك حلم أبي سفيان ؟ قال: حين غاب مثلك من قومي.
اه.
من الهامش.
(1) قال ابن الاثير في النهاية: يروى بكسر الباء: جمع بدة وهي الحصة والنصيب.
أي اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحدة حصته ونصيبه.
ويروى بالفتح: أي متفرقين في القتل واحدا بعد واحد، من التبديد (ج 1 / 65).
(2) الخبر نقله البيهقي عن موسى بن عقبة وعروة في الدلائل ج 3 / 326 واختصر ابن عبد البر في الدرر 159 - 161.
(3) في الواقدي: على حمص.
قليلا، ثم التفت فلم أر شيئا فكأنما بلعته الارض فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة (1).
ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا لا هم أقاموا في أهلهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله فيهم (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا
ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) [ البقرة: 204 ] وما بعدها.
وأنزل الله في أصحاب السرية (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) [ البقرة: 207 ].
قال ابن إسحاق وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة خبيب حين اجمعوا على قتله (قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها له): لقد جمع الاحزاب حولي وألبوا * قبائلهم واستجمعوا كل مجمع (2) وكلهم مبدي العداوة جاهد * علي لاني في وثاق بمضبع (3) وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم * وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي * وما أرصد الاعداء لي عند مصرعي (4) فذا العرش صبرني على ما يراد بي * فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيروني الكفر والموت دونه * وقد هملت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت * ولكن حذاري جحم نار ملفع (5) فوالله ما أرجو إذا مت مسلما * على أي جنب كان في الله مضجعي (6) فلست بمبد للعدو تخشعا * ولا جزعا أني إلى الله مرجعي وقد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله: فلست أبالي حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع وقال حسان بن ثابت يرثي خبيبا فيما ذكره ابن إسحاق:
__________
(1) دلائل النبوة 3 / 331 - 332.
(2) ألبوا: جمعوا.
تقول ألبت القوم على فلان إذا جمعتهم عليه وحضضتهم وحرشتهم به، فتألبوا، أي اجتمعوا.
مجمع: مكان الاجتماع.
(3) في ابن هشام: بمصيع.
(4) في ابن هشام: الاحزاب بدل الاعداء.
(5) الجحم: الملتهب المتقد، ومنه سميت النار الجحيم.
ملفع: مشتمل.
تلفع بالثوب: إذا اشتمل به.
(6) في ابن هشام: مصرعي بدل مضجعي.
أرجو: أي أخاف وهي لغة وقد حمل بعض المفسرين في قوله تعالى (ما لكم لا ترجون لله وقارا) أي لا تخافون.
ما بال عينك لا ترقا مدامعها * سحا على الصدر مثل اللؤلؤ الفلق (1) على خبيب فتى الفتيان قد علموا * لا فشل حين تلقاه ولا نزق (2) فاذهب خبيب جزاك الله طيبة * وجنة الخلد عند الحور في الرفق ماذا تقولون إن قال النبي لكم * حين الملائكة الابرار في الافق فيم قتلتم شهيد الله في رجل * طاغ قد أوعث في البلدان والرفق وقال ابن هشام: تركنا بعضها لانه أقذع فيها، وقال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بني لحيان فيما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم ولله الحمد والمنة والتوفيق والعصمة.
ان سرك الغدر صرفا لا مزاج له * فأت الرجيع فسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم * فالكلب والقرد والانسان مثلان لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم * وكان ذا شرف فيهم وذا شأن وقال حسان بن ثابت أيضا يهجو هذيلا وبني لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضي الله تعالى عنهم أجمعين: لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك * أحاديث كانت في خبيب وعاصم أحاديث لحيان صلوا بقبيحها * ولحيان جرامون شر الجرائم (3) أناس هم من قومهم في صميمهم * بمنزلة الزمعان دبر القوادم (4) هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفة ومكارم رسول رسول الله غدرا ولم تكن * هذيل توقى منكرات المحارم
فسوف يرون النصر يوما عليهم * بقتل الذي تحميه دون الحرائم (5) أبابيل دبر شمس دون لحمه * حمت لحم شهاد عظيم الملاحم لعل هذيلا أن يروا بمصابه * مصارع قتلى أو مقاما لماتم ونوقع فيها وقعة ذات صولة * بوافي بها الركبان أهل المواسم بأمر رسول الله إن رسوله * رأى رأي ذي حزم بلحيان عالم قبيلة ليس الوفاء يهمهم * وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم * بمجرى مسيل الماء بين المخارم محلهم دار البوار ورأيهم * إذا نابهم أمر كرأي البهائم
__________
(1) في الديوان وابن هشام: القلق أي المتحرك الساقط.
(2) الفشل: الجبان الضعيف.
ورواية الصدر في الديوان: على خبيب وفي الرحمن مصرعه.
(3) جرامون: كاسبون.
(4) الزمعان: جمع زمع، وهو الشعر الذي يكون فوق الرسغ من الدابة وغيرها.
(5) تحميه: يعنى عاصم وقد حمته الدبر.
وقال حسان رضي الله عنه أيضا يمدح أصحاب الرجيع ويسميهم بشعره كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى: صلى الاله على الذين تتابعوا * يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا رأس السرية مرثد وأميرهم * وابن البكير إمامهم وخبيب وابن لطارق وابن ذثنة منهم * وافاه ثم حمامه المكتوب (1) والعاصم المقتول عند رجيعهم * كسب المعالي إنه لكسوب منع المقادة أن ينالوا ظهره * حتى يجالد إنه لنجيب قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
سرية عمرو بن أمية الضمري قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة عن جعفر بن [ الفضل بن الحسن بن ] (2) عمرو بن أمية الضمري وعبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن أبي عوف (3) (وزاد بعضهم على بعض) قالوا: كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: اما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الاسواق فندرك ثأرنا ؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له: إن أنت وفيتني (4) خرجت إليه حتى أغتاله، فإني هاد بالطريق خريت، معي خنجر مثل خافية النسر.
قال: أنت صاحبنا.
وأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.
قال قال العربي: لا يعلمه أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحي (5) يوم سادسه، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الاشهل، فخرج الاعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الاشهل، فعقل راحلته، ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده.
فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده.
فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يساره، فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخل ازاره فإذا الخنجر فقال: يا رسول الله: هذا غادر.
فأسقط في يد الاعرابي وقال: دمي دمي يا محمد.
وأخذه أسيد بن حضير يلببه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أصدقني ما
__________
(1) لم ينون طارق لضرورة الشعر، على مذهب الكوفيين، والبصريون لا يرونه ضروريا.
(2) سقطت من الاصل واستدركت من الطبري: 3 / 32.
(3) في رواية البيهقي: عون.
(4) في رواية البيهقي: قويتني.
(5) في البيهقي: الحرة.
صبح سادسه
أنت وما أقدمك ؟ فان صدقتني نفعك الصدق وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به.
قال العربي فأنا آمن ؟ قال وأنت آمن.
فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك قال وما هو فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي.
وضعفت (1) ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أمية الضمري ولسلمة بن أسلم بن حريس (2) أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه.
قال عمرو فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا، وقال لي صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت سبعا، ونصلي ركعتين فقلت [ أنا أعلم باهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم ثم جلسوا بها و ] (3) اني أعرف بمكة من الفرس الابلق.
فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة فطفنا أسبوعا (4) وصلينا ركعتين فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني وقال: عمرو بن أمية واحزناه.
فنذر (5) بنا أهل مكة فقالوا ما جاء عمرو في خير.
وكان عمرو فاتكا في الجاهلية.
فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل.
قال عمرو: فدخلت في غار، فتغيبت عنهم حتى أصبحت وباتوا يطلبوننا في الجبل، وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيد الله التميمي يختلي لفرسه حشيشا فقلت لسلمة بن أسلم: إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد انفضوا عنا فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا، قال فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري فسقط وصاح، فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم [ ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه ] (6) وقلت لصاحبي لا تتحرك، فأقبلوا حتى أتوه وقالوا من قتلك ؟ قال: عمرو بن أمية الضمري.
فقال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير.
ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا فإنه
كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى [ سكن
__________
(1) في البيهقي: وضعفت نفسي.
(2) في الاصل حريش، وهو تحريف، وما أثبتناه من شرح المواهب 2 / 178.
(3) سقط من الاصل واستدركت من تاريخ الطبري 3 / 32 وفي البيهقي: وأنا أعرف أهل مكة إنهم أمسوا انفجعوا بأفنيتهم.
(4) كذا في الاصول والطبري، وفي البيهقي: سبعا وهو مناسب أكثر.
(5) في الطبري: فتبادرنا، وفي البيهقي: فنيد بنا.
(6) من الطبري، وفي البيهقى: ودخلت الغار.
عنا الطلب ثم ] خرجنا [ إلى التنعيم ] (1) فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي ننزله ؟ فقلت له: أين هو ؟ قال هو ذاك مصلوب حوله الحرس.
فقلت: أمهلني وتنح عني فإن خشيت شيئا فانج إلى بعيرك فاقعد عليه، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، ودعني فإني عالم بالمدينة.
ثم استدرت (2) عليه حتى وجدته فحملته على ظهري فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا فخرجوا في أثري، فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها - يعني صوتها ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا وكنت لا أدري مع بقاء نفسي فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وأقبلت حتى أشرفت على الغليل: غليل ضجنان (3) فدخلت في غار معي قوسي وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني الدبل بن بكر أعور طويل يسوق غنما ومعزى، فدخل الغار وقال: من الرجل ؟ فقلت رجل من بني بكر فقال: وأنا من بني بكر ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول: فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا فقلت في نفسي: والله أني لارجو أن أقتلك.
فلما نام قمت إليه فقتله شر قتلة قتلها أحد قط، ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان
الاخبار، فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فلما رأى ذلك الآخر استأسر فشددته وثاقا ثم أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدمت المدينة أتى صبيان الانصار وهم يلعبون وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو، فاشتد الصبيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسي فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ثم دعا لي بخير.
وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام.
رواه البيهقي (4).
وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا فلعله دفن مكان سقوطه.
والله أعلم.
وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق وساقها بنحو من سياق الواقدي لها لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر.
فالله أعلم ولله الحمد.
سرية بئر معونة (5) وقد كانت في صفر منها وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال: بعث رسول
__________
(1) ما بين معكوفين من الطبري.
(2) في الطبري والبيهقي: اشتددت.
(3) الغليل: منابت الطلح، وضجنان: موضع بعينه.
(4) رواه الطبري في تاريخه ج 3 / 31 - 32.
والبيهقي عنه في دلائله ج 3 / 333 - 337.
(5) انظر في غزوة بئر معونة: طبقات ابن سعد 2 / 51 سيرة ابن هشام 3 / 193 مغازي الواقدي 1 / 337 تاريخ الطبري 3 / 33 ابن حزم ص 178، عيون الاثر 2 / 61، النويري 17 / 130 دلائل النبوة للبيهقي 3 / 338.
الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة فقال القوم: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بنحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الا علي بن حماد، حدثنا يزيد بن
زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الانصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان.
قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك رفع " بلغوا عنا قومنا إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " (1) ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث حراما (أخا لام سليم) (2) في سبعين راكبا وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر (3) أو أكون خليفتك أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف (4) فطعن (5) عامر في بيت أم فلان فقال: غدة كغدة البكر (6) في بيت امرأة من آل فلان (7)، ائتوني بفرسي فمات على ظهر فرسه فانطلق حرام أخو أم سليم وهو (8) رجل أعرج ورجل من بني فلان فقال: كونا قريبا حتى آتيهم فإن آمنوني كنتم قريبا وإن قتلوني أتيتم أصحابكم فقال: أتؤمنوني حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يحدثهم وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه قال همام *
__________
) (1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 28 باب غزوة الرجيع ح 4090 فتح الباري 7 / 385.
(2) حرام خال أنس بن مالك، وأم سليم قيل اسمها سهلة وقيل رملة وقيل مليكة (قاله ابن عبد البر) بنت ملحان كانت تحت مالك بن النضر أبو أنس بن مالك في الجاهلية فولدت له أنسا أسلمت مع قومها وعرضت الاسلام على زوجها فغضب ورفض وخرج إلى الشام وهناك هلك، فخلف عليها أبو طلحة الانصاري.
(3) السهل: البوادي، وأهل المدر: أي أهل البلاد.
(4) في البيهقي: بألف أشقر وألف شقراء.
(5) طعن: أصابه الطاعون.
(6) البكر: بفتح الباء الموحدة، وسكون الكاف: الفتى من الابل بمنزلة الغلام من الناس، ولانثى: بكرة وقيل في الطاعون أنواع: الطاعون من حيث اللغة: نوع من الوباء قاله في الصحاح.
وعند أهل الطب: ورم ردئ
قتال.
يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا.
(7) قيل من آل سلول، وقيل هي سلول بنت شيبان امرأة أخيه.
والرجل الذي من بني فلان: المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح الخزرجي.
(8) في الاصل: وهو رجل أعرج، ورواية البيهقي: ورجلان معه: رجل أعرج، هذا الرجل هو كعب بن زيد من بني دينار بن النجار، قال الذهبي: شهد بدرا وقل مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
أحسبه حتى أنفذه بالرمح فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الاعرج وكان في رأس جبل، فأنزل الله علينا.
ثم كان من المنسوخ " انا لقد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله (1).
وقال البخاري: حدثنا حبان، حدثنا عبد الله، أخبرني معمر حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس بن مالك يقول لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه وقال فزت ورب الكعبة.
وروى البخاري عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل: من هذا وأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة قال لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى أني لانظر إلى السماء بينه وبين الارض ثم وضع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا.
، فأخبرهم عنهم وأصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمى عروة به، ومنذر بن عمرو وسمى به منذر.
هكذا وقع في رواية البخاري مرسلا عن عروة وقد رواه البيهقي من حديث يحيى بن سعيد عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة فساق من حديث الهجرة وأدرج في آخره ما ذكره البخاري ههنا فالله أعلم (2).
وروى الواقدي: عن مصعب بن ثابت، عن أبي الاسود وعن عروة: فذكر القصة وشأن عامر بن فهيرة وأخبار عامر بن الطفيل انه رفع إلى السماء وذكر أن الذي قتله جبار بن
سلمى الكلابي قال: ولما طعنه بالرمح قال فزت ورب الكعبة ثم سأل جبار بعد ذلك: ما معنى قوله فزت قالوا: يعني بالجنة، فقال: صدق والله ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك (3).
وفي مغازي موسى بن عقبة عن عروة أنه قال: لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يرون أن الملائكة وارته.
وقال يونس عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بعد أحد بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد فحدثني أبي إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الاسنة (4) على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فعرض عليه الاسلام، ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد لو
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 28 باب غزوة الرجيع ح 4091.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 352 وقال رواه البخاري في الصحيح كما تقدم.
في الحاشية السابقة.
(3) مغازي الواقدي 1 / 349.
(4) سمي عامر بملاعب الاسنة في يوم سوبان، يوم حرب كانت بين قيس وتميم، وذلك أن كان يخاطب أخاه طفيل فارس قرزل الذي كان قد أسلمه في هذا اليوم وفر.
فقال: فررت وأسلمت ابن أمك عامرا * يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال صلى الله عليه وسلم إني أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء أنا لهم جار.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمر وأخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين فيهم: الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر في رجال من خيار المسلمين: فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم.
فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على
الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم وقالوا: لن نحفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلا وذكوان والقارة - فأجابوا إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه به رمق فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الانصار، من بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب القوم، إلا الطير تحوم حول العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة.
فقال الانصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى ؟ فقال أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر فقال الانصاري لكني لم أكن لارغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لاخبر عنه الرجال.
فقاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم.
قال وخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر، حتى نزلا في ظل هو فيه وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما قالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى إذا ناما عدا عليهما وقتلهما وهو يرى أن قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بالخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قتلت قتيلين لادينهما " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا " = فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره، فقال حسان بن ثابت في إخفاء عامر أبا براء ويحرض بني أبي براء على عامر: بني أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد (1)
__________
(1) قال أبو ذر: يريد قول لبيد: نحن بني أم البنين الاربعة * المطعمون الجفنة المدعدعة
قال السهيلي: وإنما قال الاربعة وهم خمسة: طفيل وعامر وربيعة وعبيدة الوضاح ومعاوية معوذ الحكماء.
لانه أباه =
تهكم عامر بأبي براء * ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي * فما أحدثت في الحدثان بعدي أبو ك أبو الحروب أبو براء * وخالك ماجد حكم بن سعد قال ابن هشام: أم البنين أم أبي براء (1) وهي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قال فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه (2) ووقع عن فرسه وقال: هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي (3).
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق: قال موسى وكان أمير القوم المنذر بن عمرو وقيل مرثد بن أبي مرثد.
وقام ؟ حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة - فيما ذكره ابن إسحاق رحمه الله والله أعلم: على قتلي معونة فاستهلي * بدمع العين سحا غير نزر على خيل الرسول غداة لاقوا * ولاقتهم مناياهم بقدر (4) أصابهم الفناء بعقد قوم * تخون عقد حبلهم بغدر فيا لهفي لمنذر إذ تولى * وأعنق في منيته بصبر وكائن قد أصيب غداة ذاكم * من أبيض ماجد من سر عمرو غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر في صحيح البخاري عن ابن عباس: أنه كان يسميها سورة بني النضير.
وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد.
وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره: عن أبيه، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري
به، وهكذا روى حنبل بن إسحاق عن هلال بن العلاء عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة
__________
= ربيعة قد كان مات قبل ذلك لا كما قال بعضهم من أجل القافية.
(1) قال السهيلي: واسمها ليلى بنت عامر.
(2) أشواه: أخطأ مقتله.
وقيل انه بعدما وقع وثب قوم عامر عليه فأخذوه وقالوا لعامر: اقتص فأخرجه من الحي، ثم حفر بئرا وقال: اشهدوا اني قد جعلت ديته في هذه البئر ثم رد فيها ترابها، قال الزرقاني: وعامر بن الطفيل ابن أخي أبي براء ملاعب الاسنة.
(3) الخبر في ابن هشام ج 3 / 195 ونقله صاحب الدرر ص 162.
وقال: سياق ابن اسحاق أحسن وأبين.
(4) عجزه في الديوان: مناياهم ولاقتهم بقدر.
ثنتين، قال ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع.
وقال البيهقي: وقد كان الزهري يقول هي قبل أحد، قال وذهب آخرون إلى أنها بعدها وبعد بئر معونة أيضا (5).
قلت: هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم فإنه بعد ذكره بئر معونة ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد قتلت رجلين لادينهما ".
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك عى ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي.
فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام
وخرج راجعا إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه فقال رأيته داخلا المدينة.
فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر، بما كانت يهود أرادت من الغدر به (2)، قال الواقدي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم وحمى حيي بن أحطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يخرجون ونابذوه بنقض العهود فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم، قال الواقدي: فحاصروهم خمس عشرة ليلة (3).
وقال ابن إسحاق: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيوء لحربهم والمسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الاول.
قال ابن إسحاق فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر حينئذ، وتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها، قال وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ووديعة ومالك [ بن أبي قوقل ] وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وان أخرجتم خرجنا معكم.
فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا
__________
(1) دلائل النبوة ج 3 / 354.
(2) سيرة ابن هشام ج 3 / 201.
(3) في الواقدي 1 / 374: يوما.
رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا الحلقة (1).
وقال العوفي عن ابن عباس أعطى كل ثلاثة بعيرا يعتقبونه وسقا (2) رواه البيهقي وروى: من طريق يعقوب بن محمد عن الزهري (3) عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليه بني النضير، وأمره أن
يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال.
وروى البيهقي وغيره أنه كانت لهم ديون مؤجلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعوا وتعجلوا.
وفي صحته نظر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الابل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (4) بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها.
فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: انهم استقبلوا بالنساء والابناء والاموال، معهم الدفوف والمزامير، والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ما رؤي مثله لحي من الناس في زمانهم.
قال: وخلوا الاموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني النخيل والمزارع - فكانت له خاصة، يضعها حيث شاء فقسمها على المهاجرين الاولين دون الانصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما (5) (وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة حكاه السهيلي).
قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: وهما يامين بن عمير، أبو (6) كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب فأحرزا أمو الهما.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني ؟ فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله لعنه الله.
قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته، وما سلط عليهم به رسوله، وما عمل به فيهم.
ثم شرع ابن إسحاق يفسرها وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير ولله الحمد قال الله تعالى: (سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر (8) ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا انهم مانعتهم
__________
(1) الحلقة: السلاح كله، أو خاص بالدروع.
(2) في البيهقي: وسقاء قال والجلاء: إخراجهم من أراضيهم إلى أرض أخرى.
(3) في رواية البيهقي ج 3 / 360: يعقوب بن محمد الزهري.
(4) النجاف: العتبة التي بأعلى الباب.
والاسكفة: العتبة التي بأسفله.
(5) زاد الواقدي: انه أعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق.
(6) في الاصول بن وهو تحريف، والتصويب عن شرح السيرة لابي ذر الخشني.
(7) كانت أخت يامين: الرواع بنت عمير تحت عمرو بن جحاش ابن عم يامين الذي جعل لرجل من قيس عشرة دنانير على أن يقتل عمرو فاغتاله فقتله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك (الواقدي 1 / 374).
(8) قوله أول الحشر: عن عروة عن عائشة: كان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
حصونهم من الله فأتاهم من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار ولولا أن كتب عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار وذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فان الله شديد العقاب.
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ولنجزى الفاسقين).
سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة وأخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية والسفلية وأنه العزيز وهو منيع الجناب فلا ترام عظمته وكبرياؤه وانه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله وجانبوا رسوله وشرعه وما كان من السبب المفضي لقتالهم كما تقدم حتى حاصرهم المؤيد بالمرعب والرهب مسيرة شهر ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال فذهب بهم الرعب كل مذهب حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار.
ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لاصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الاليم المقدر لهم.
ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم وترك ما بقي لهم وأن ذلك كله سائغ فقال ما قطعتم من لينة - وهو جيد الثمر - أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله.
إن الجميع قد أذن فيه شرعا وقدرا فلا حرج عليكم فيه ولنعم ما رأيتم من ذلك
وليس هو بفساد كما قاله شرار العباد إنما هو إظهار للقوة واخزاء للكفرة الفجرة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا عن قتيبة عن الليث عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين) (1).
وعند البخاري: من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير [ وقطع وهي البويرة ] (2) ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير (3)
__________
(1) سورة الحشر آية 5.
والحديث رواه البخاري في تفسير سورة الحشر، ومسلم في 32 كتاب الجهاد والسير 10 باب ح 29.
(2) ما بين معكوفين سقطت من الصحيح، واثبتت في رواية الليث.
والحديث أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 14 باب حديث بني النضير، فتح الباري (7 / 329).
(3) سراة القوم: سادتهم.
بني لؤي: يريد بهم شجعان قريش.
قال الكرماني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاربه، وذلك لان قريشا هم الذين حملوا كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة على نقض العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج معهم إلى الخندق.
فأجابه أبو سفيان بن الحارث (1) أنه يقول: أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير ستعلم أينا منها بستر * وتعلم أي.
أرضينا نضير قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر اجلاء بني النضير وقتل كعب بن الاشرف فالله أعلم.
لقد خزيت بغدرتها الحبور * كذاك الدهر ذو صرف يدور (2) وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير
وقد أتوا معا فهما وعلما * وجاءهم من الله النذير نذير صادق أدى كتابا * وآيات مبينة تنير فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير فقال: بلى لقد أديت حقا * يصدقني به الفهم الخبير فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يخز الكفور فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجد بهم عن الحق النفور (3) أرى الله النبي برأي صدق * وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فما كره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور فتلك بنو النضير بدار سوء * أبارهم بما اجترموا المبير (4) غداة أتاهم في الزحف رهوا * رسول الله وهو بهم بصير وغسان الحماة مؤازروه * على الاعداء وهم لهم وزير فقال السلم ويحكم فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور (5) فذاقوا غب أمرهم وبالا * لكل ثلاثة منهم بعير
__________
(1) أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان على كفره وقد أسلم بعد في الفتح وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) الحبور: جمع حبروهم علماء اليهود.
(3) في شرح السيرة لابي در: وحاد بهم بدل وجد بهم: أي مال بهم.
(4) أبارهم: أهلكهم.
(5) في رواية أبي ذر: وحالف: أي صاحب.
وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهم نخل ودور وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال (1) اليهودي، فتركناها قصدا.
قال ابن إسحاق: وكان مما قيل في بني النضير قول ابن لقيم العبسي، ويقال قالها قيس بن بحرين طريف الاشجعي: أهلي فداء لامرئ غير هالك * أحل اليهود بالحسي المزنم (2) يقيلون في خمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بالودي المكمم (3) فإن يك ظني صادقا بمحمد * تروا خيلة بين الضلا ويرمرم (4) يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حي صديق كمجرم عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم وكل رقيق الشفرتين مهند * توورثن من أزمان عاد وجرهم فمن مبلغ عني قريشا رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم بأن أخاهم فاعلمن محمدا * تليد الندى بين الحجون وزمزم فدينوا له بالحق تجسم أموركم * وتسمو من الدنيا إلى كل معظم نبي تلافته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم غداة أتى في الخزرجية عامدا * إليكم مطيعا للعظيم المكرم معانا بروح القدس ينكى عدوه * رسولا من الرحمن حقا بمعلم (5) رسولا من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم أرى أمره يزداد في كل موطن * علوا لامر حبه الله محكم قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب، وقال ابن هشام قالها رجل من المسلمين ولم أر أحدا يعرفها لعلي:
عرفت ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقا ولم أصدف عن الكلم المحكم.
اللاء من * لدى الله ذي الرأفة الاراف
__________
(1) في ابن هشام: سماك اليهودي.
(2) الحسى والحساء: مياه تغور في الرمل وتمسكها صلابة الارض قاله أبو ذر.
وقال السهيلي: ما يحس من الطعام والمزنم: المقلل اليسير قال السهيلي: يريد أحلهم دار غربة في غير عشائرهم.
والمزنم هنا: الرجل يكون في القوم وليس منهم، أي المبعد الطريد.
(الروض الانف 2 / 177).
(3) في ابن هشام: جمر بدل خمر.
والودي: صغار النخل.
(4) الصلا ويرمرم: موضعان.
(5) معلم: الموضع المرتفع المشرف.
رسائل تدرس في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى فأصبح أحمد فينا عزيزا * عزيز المقامة والموقف فيا أيها الموعدوه سفاها * ولم يأت جورا ولم يعنف ألستم تخافون أدنى العذاب * وما آمن الله كالاخوف وان تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبي الاشرف غداة رأى الله طغيانه * وأعرض كالجمل الاجنف فأنزل جبريل في قتله * بوحي إلى عبده ملطف فدس الرسول رسولا له * بأبيض ذي هبة مرهف فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف وقلن لاحمد ذرنا قليلا * فإنا من النوح لم نشتف فجلاهم ثم قال: اظعنوا * دحورا على رغم الآنف وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوي زخرف
إلى أذرعات ردافا وهم * على كل ذي دبر أعجف (1) وتركنا جوابها أيضا من سماك (2) اليهودي قصدا ثم ذكر تعالى حكم الفئ وأنه حكم بأموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملكها له فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله تعالى كما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فكان يعزل نفقه أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عزوجل (3).
ثم بين تعالى حكم الفئ وأنه للمهاجرين والانصار والتابعين لهم باحسان على منوالهم وطريقتهم ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
قال الامام أحمد: حدثنا عارم وعفان قالا: حدثنا معتمر، سمعت أبي يقول: حدثنا أنس بن
__________
(1) أدرعات: موضع بالشام.
أعجف: هزيل ضعيف.
(2) في الاصل سمال وهو تحريف.
(3) أخرجه البخاري في تفسير سورة الحشر 3 باب ح 4885 من طريق سفيان بن عيينة.
وأخرجه مسلم في 32 كتاب المغازي 15 باب ح 48.
والنسائي في عشرة النساء وأبو داود في الامارة والترمذي في الجهاد وقال: حسن صحيح.
والبيهقي في الدلائل ج 3 / 185.
الكراع: الدواب الصالحة للحرب عدة للحوادث.
- وفي رواية البيهقي: فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنة..
مالك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم: أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات أو كما شاء الله حتى فتحت عليه قريظة والنضير قال: فجعل يرد بعد ذلك.
قال: وإن أهلي أمروني أن آتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله.
قال: فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول: كلا والله الذي لا
إله إلا هو لا أعطيكهن وقد أعطانيهن أو كما قالت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك كذا وكذا وتقول كلا والله ويقول لك كذا وكذا وتقول كلا والله قال ويقول لك كذا وكذا حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريبا من عشرة أمثاله أو كما قال أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به.
ثم قال تعالى ذاما للمنافقين الذين مالوا إلى بني النضير في الباطن كما تقدم ووعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شئ بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم وغروهم من أنفسهم فقال (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وأن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد أنهم لكاذبون.
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون) [ الحشر: 11 - 12 ] ثم ذمهم تعالى على جبنهم وقلة علمهم وخفة عقلهم النافع ثم ضرب لهم مثلا قبيحا شنيعا بالشيطان حين قال للانسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين.
قصة عمرو بن سعدى القرظي حين مر على ديار بني النضير وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب وقد كانت بنو النضير أشرف من بني قريظة، حتى حداه ذلك على الاسلام وأظهر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة.
قال الواقدي حدثنا إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: لما خرجت بنو النضير من المدينة أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها وفكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل (1) وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية.
قال رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل، والعقل البارع قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل.
ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة وقد أوقع قبل ذلك بابن الاشرف ذي عزهم ثم بيته في بيته آمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم
رأسه حتى سباهم وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب.
يا قوم قد رأيتم ما رأيتم
__________
(1) في البيهقي: لم ترك.
فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا والله إنكم لتعلمون أنه نبي، قد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان أبو عمير، وابن حراش وهما أعلم يهود جاءانا يتوكفان قدومه وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا هذه، فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، ثم أعاد هذا الكلام ونحوه وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.
فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب باطا التوراة التي نزلت على موسى، ليس في المثاني الذي أحدثنا، قال فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه ؟ قال: أنت يا كعب.
قال كعب: فلم والتوراة ما حلت بينك وبينه قط، قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا.
فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك إلى أن قال عمرو ما عندي في أمره إلا ما قلت: ما تطيب نفسي أن أصير تابعا.
رواه البيهقي (1).
غزوة بني لحيان ذكرها البيهقي في الدلائل، وإنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام عن زياد عنه في جمادي الاولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد لخندق وبني قريظة وهو أشبه مما ذكره البيهقي والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار وغيره قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبا بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى (2) أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل بأرضهم [ من هذيل، ليصيب منهم غرة ] فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة " فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا، فذكر أبو عياش الزرقي: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف (3).
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عياش قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقالوا: قد كانوا على
__________
(1) رواه البيهقي عن الواقدي في الدلائل ج 3 / 361 - 363 وفي الواقدي منه وباختلاف كبير ونقله الصالحي في السيرة الشامية ج 4 / 463 - 465 وزاد في آخره، على المحاورة بين عمرو بن سعدي وكعب بن أسد.
(2) في الدلائل: وورا على الناس.
(3) قال بعض العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في عشرة مواضع، وقال أصحاب المغازي والسير، في أربعة مواضع: ذات الرقاع، وبطن نخل، وعسفان وذي قرد.
قال الواقدي: أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما أربع سنوات (قال الواقدي غزوة بني لحيان سنة ست) قال الواقدي: وهذا أثبت عندنا من غيره.
الحديث رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 365، وما بين معكوفين من الدلائل.
وانظر مغازي الواقدي ج 1 / 396.
حال لو أصبنا غرتهم (1).
ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
قال فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر [ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ] قال فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح فصففنا خلفه صفين ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء قال ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ثم انصرف.
قال فضلاها (فصلاها) رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بأرض عسفان ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه (2).
وقد رواه أبو داود: عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد والنسائي عن الفلاس عن عبد العزيز بن عبد الصمد عن محمد بن المثنى وبندار عن غندر عن شعبة ثلاثتهم عن
منصور به.
وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجه واحد منهما لكن روى مسلم (3) من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة فقاتلوا قتالا شديدا فلما أن صلى الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وقالوا إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الاولاد " فذكر الحديث كنحو ما تقدم وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل فهم به المشركون ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، قال: فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فصلى بأصحابه صلاة العصر فصفهم صفين: بين أيديهم رسول الله والعدو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وكبروا جميعا وركعوا جميعا ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء فكبروا جميعا وركعوا جميعا ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون (4)، وقد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه عن أبي الزبير عن جابر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي (5)، حدثنا عبد الله بن شقيق حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان فقال المشركون إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم
__________
(1) في سنن أبي داود: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة.
(2) أبو داود في كتاب الصلاة، صلاة الخوف ح 1236 ج 2 / 11.
(3) صحيح مسلم: 6 كتاب صلاة المسافرين 57 باب صلاة الخوف ح 307.
(4) أخرجه البخاري معلقا.
فتح الباري 7 / 436.
وأخرجه مسلم في 6 كتاب المساجد 57 باب صلاة الخوف ح 308 ص 1 / 575.
(5) الهنائي: نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، بطن من الازد.
اللباب 3 / 294.
وهي العصر، فاجتمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة.
وإن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن
يقيم أصحابه شطرين فيصلي ببعضهم ويقدم الطائفة الاخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم واسلحتهم ثم تأتي الاخرى فيصلون معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولرسول الله ركعتان.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الصمد به، وقال الترمذي حسن صحيح.
قلت إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر إلا فهو من مرسلات الصحابي ولا يضر ذلك عند الجمهور والله أعلم.
ولم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم ولا عند أبي داود الطيالسي أمر عسفان ولا خالد بن الوليد لكن الظاهر أنها واحدة.
بقي الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها، فإن من العلماء منهم الشافعي من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق فإنهم أخروا الصلاة يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال ولو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها ولم يؤخروها، ولهذا قال بعض أهل المغازي: إن غزوة بني لحيان التي صلى فيها صلاة الخوف بعسفان كانت بعد بني قريظة.
وقد ذكر الواقدي بأسناده عن خالد بن الوليد قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان فوقفت بأزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.
قلت: وعمرة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست بعد الخندق وبني قريظة كما سيأتي.
وفي سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها والله أعلم.
وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف واختلاف الروايات فيها في كتاب الاحكام الكبير إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
غزوة ذات الرقاع (1) قال ابن إسحاق:: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادي ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر (2).
قال ابن هشام: ويقال عثمان بن عفان، قال ابن إسحاق فسار حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع.
قال ابن هشام لانهم رقعوا فيها راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع، وقال
الواقدي بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض.
وفي حديث أبي موسى: إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر.
قال ابن إسحاق: فلقي بها جمعا [ عظيما ] من
__________
(1) انظر في غزوة ذات الرقاع: ابن سعد ج 2 / 61 سيرة ابن هشام 3 / 213 أنساب الاشراف: 1 / 163 مغازي الواقدي 1 / 395 صحيح مسلم شرح النووي 12 / 17 تاريخ الطبري 3 / 39 ابن حزم ص 182 عيون الاثر 2 / 72 النويري 17 / 158 دلائل البيهقي 3 / 369 السيرة الحلبية 2 / 353.
(2) قال ابن سعد: استعمل عثمان بن عفان، وقال الزرقاني: قاله ابن اسحاق وتعقبه ابن عبد البر بأنه خلاف ما عليه الاكثر، وبأن أبا ذر لما أسلم بمكة رجع إلى بلاده فلم يجئ إلا بعد الخندق.
غطفان فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، [ ثم انصرف الناس ] (1) وقد أسند ابن هشام حديث صلاة الخوف ههنا: عن عبد الوارث بن سعيد التنوري، عن يونس بن عبيد، عن الحسن عن جابر بن عبد الله وعن عبد الوارث عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر وعن عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر ولكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد ولا ذات الرقاع ولم يتعرض لزمان ولا ومكان وفي كون غزوة ذات الرقاع التي كانت بنجد لقتال بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر.
وقد ذهب البخاري إلى أن ذلك كان بعد خيبر واستدل على ذلك بأن أبا موسى الاشعري شهدها كما سيأتي وقدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر وأصحابه وكذلك أبو هريرة وقد قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف، ومما يدل على أنها بعد الخندق أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال أول ما أجازه يوم الخندق.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فذكر صلاة الخوف، وقول الواقدي: أنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة ويقال سبعمائة من أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس فيه نظر، ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق لان الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهود، وقيل في شوال سنة أربع، فتحصل على هذا القول مخلص من
حديث ابن عمر، فأما حديث أبي موسى وأبي هريرة فلا.
قصة غورث بن الحارث قال ابن إسحاق في هذه الغزوة: حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب، يقال له: غورث (2)، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا ؟ قالوا: بلى وكيف تقتله ؟ قال: أفتك به.
قال: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره.
فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا ؟ قال: نعم، فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله.
ثم قال: يا محمد، أما تخافني ؟ قال: لا، ما أخاف منك ؟ قال: أما تخافني وفي يدي السيف.
قال: لا، يمنعني الله منك.
ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فأنزل الله عزوجل (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [ المائدة 5: 11 ].
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان: أنهم إنما أنزلت في عمرو بن جحاش، أخي بني النضير وما هم به (3).
هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة
__________
(1) من ابن هشام، قال ابن سعد والواقدي:: وقد غاب خمس عشرة ليلة.
(2) قال الخطابي: غويرث، وحكى الخطيب فيه: كورث (شرح المواهب) (3) سيرة ابن هشام ج 3 / 216.
الضالة ؟ وهو وإن كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروي عنه لبدعته ودعائه إليها.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد.
فقد أورد الحافظ البيهقي (1) هاهنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن، وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن أبي سنان وأبي سلمة عن جابر: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في واد كثير العضاه (2) فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة (3) فعلق بها سيفه.
قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله.
فقال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله.
مشام (4) السيف وجلس، ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك، وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على الشجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف رسول الله فاخترطه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخافني ؟ قال: لا.
قال: فمن يمنعك مني ؟ قال: الله يمنعني منك، قال: فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه.
قال: ونودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان.
وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به.
قال البخاري وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: أن اسم الرجل غورث بن الحارث.
وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان (5) بنخل فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وقال: من يمنعك مني ؟ قال: الله، فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف.
وقال: من يمنعك مني ؟ فقال كن خير آخذ.
قال: تشهد أن لا إله إلا الله قال: لا.
ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون
__________
(1) تناول البيهقي قصة غورث في دلائل النبوة في باب عصمة الله عزوجل رسوله صلى الله عليه وسلم عما هم بن غورث بن الحارث من قتله وكيفية صلاته في الخوف ج 3 / 373.
(2) العضاه: شجر عظيم الشوك، شوكه كالطلح، والعوسج.
(3) في البيهقي: سمرة.
(4) شام: كلمة من الاضداد تعني إذا سل سيفه وإذا أغمده، والمراد هنا: أغمده.
والحديث أخرجه البخاري في كتاب المغازي 31 باب غزوة ذات الرقاع فتح الباري 7 / 426 ورواه مسلم في 43
كتاب الفضائل (4) باب ح 13 وح 14.
(5) في البيهقي: محارب خصفه بنخل.
مع قوم يقاتلونك، فخلي سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس.
ثم ذكر صلاة الخوف وأنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين (1).
وقد أورد البيهقي هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع عن صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي جثمة (حثمة)، وحديث الزهري عن سالم [ بن عبد الله ] عن أبيه [ عبد الله بن عمر ] في صلاة الخوف بنجد (2).
وموضع ذلك كتاب الاحكام.
والله أعلم.
قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك قال محمد بن إسحاق: حدثني عمي صدقة (3) بن يسار عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، أتى زوجها، وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دما فخرج يتبع إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال من رجل يكلؤنا ليلتنا [ هذه ] (4) فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل من الانصار.
فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب من الوادي، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر فلما خرجا إلى فم الشعب قال الانصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أم آخره ؟ قال: بل أكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الانصاري يصلي، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة (4) القوم فرمى بسهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائما قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائما قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أثبت قال: فوثب الرجل فلما رآها عرف أنه قد نذرا به، فهرب قال: ولما رأى المهاجري ما بالانصاري من الدماء قال سبحان الله: أفلا أهببتني أول ما رماك ؟ قال كنا في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى
أنفذها، فلما تابع علي الرمي ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
هكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي وقد رواه أبو داود عن أبي توبة عن عبد الله بن المبارك عن ابن إسحاق به.
وقد ذكر الواقدي عن عبد الله العمري عن أخيه عبيدالله عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه حديث صلاة الخوف
__________
(1) دلائل البيهقي ج 3 / 375.
(2) دلائل النبوة ج 3 / 379 وما بين معكوفين من الدلائل.
(3) صدقة بن يسار رجل خزري سكن مكة، وليس بعم لمحمد بن اسحاق.
وأخرج الحديث أبو داود في سننه عن ابن اسحاق ولم يذكر فيه " عمي " قاله أبو ذر، ورواه ابن جرير بإسناده دون ذكر عمي.
راجع الخبر في سيرة ابن هشام ج 3 / 218.
(4) الربيئة: الطليعة الذي يحرس القوم، يقال ربأ القوم إذا حرسهم (شرح أبي ذر ص 295) .
بطوله قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبي جارية وضيئة وكان زوجها يحبها فحلف ليطلبن محمدا ولا يرجع حتى يصيب دما أو يخلص صاحبته ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد بن إسحاق.
قال الواقدي وكان جابر بن عبد الله يقول بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فأقبل إليه أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه، فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه (1).
قصة جمل جابر قال محمد بن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر ؟ قلت: يا
رسول الله أبطأ بي جملي هذا.
قال: أنخه، قال فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، أو أقطع عصا من شجرة، ففعلت.
فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق (2) ناقته مواهقة.
قال: وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال: قلت بل أهبه لك قال: لا ولكن بعنيه، قال: قلت فسمنيه، قال: قد أخذته بدرهم، قال: قلت: لا إذا تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قال: قلت لا، قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الاوقية، قال فقلت: أفقد رضيت ؟ قال: نعم، قلت فهو لك، قال: قد أخذته ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد، قال قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيبا أم بكرا، قال: قلت بل ثيبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك، قال: قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا (3)، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.
قال: أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا (4) أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها، قال: فقلت والله يا رسول الله ما لنا نمارق، قال: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا، قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا.
قال: فحدثت المرأة الحديث، وما
__________
(1) مغازي الواقدي 1 / 397 ونقله عنه البيهقي في الدلائل 3 / 379.
(2) يواهق ناقته: أي يباريها في السير ويماشيها، ومواهقة الابل مد أعناقها في السير (النهاية 4 / 234).
(3) في الواقدي: تسعا.
(4) صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة (معجم البلدان).
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة، فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال: ما هذا، قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال:
فأين جابر ؟ فدعيت له، قال: فقال: يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك، قال: ودعا بلالا فقال: اذهب بجابر، فأعطه أوقية، قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا، قال: فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا.
يعني يوم الحرة (1).
وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمري عن وهب بن كيسان عن جابر ينحوه (2) قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله أن الله أحيا والده وكلمه فقال له تمن علي.
وذلك أنه شهيد وقد قال الله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) وزادهم على ذلك في قوله (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ثم جمع لهم بين العوض والمعوض فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم فقال (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون) والروح للانسان بمنزلة المطية كما قال عمر بن عبد العزيز.
قال: فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر جمله وهو مطيته، فأعطاه ثمنه ثم رده عليه وزاده مع ذلك.
قال ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه.
وهذا الذي سلكه السهيلي هاهنا إشارة غريبة وتخيل بديع والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) (3) على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال: باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وهذا الحديث له طرق عن جابر وألفاظ كثيرة وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل وكيفية ما اشترط في البيع.
وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الاحكام والله أعلم.
وقد جاء تقييده بهذه الغزوة وجاء تقييده بغيرها كما سيأتي ومستبعد تعداد ذلك والله أعلم.
غزوة بدر الآخرة وهي بدر الموعد التي تواعدوا إليها من أحد كما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادي الاولى وجمادي الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن
__________
(1) المراد وقعة الحرة التي كانت بالمدينة أيام يزيد بن معاوية على يد مسلم بن عقبة المري، وكان سببها حركة المدينة
ضد يزيد واخراجهم مروان بن الحكم وبنى أمية من المدينة.
ورد يزيد بإرساله قائده ابن عقبة حيث ابيحت المدينة ثلاثة أيام أمام جيشه بما فيها من مال أو رقة أو سلاح أو طعام (انظر الطبري ج 7 / 6 - 7).
(2) في 34 كتاب البيوع 34 باب شراء الدواب فتح الباري 4 / 320 (3) ج 3 / 381.
عبد الله بن أبي بن سلول.
قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأقام عليه ثمانيا ينتظر أبا سفيان.
وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، من ناحية الظهران.
وبعض الناس يقول قد بلغ عسفان، ثم بدا في الرجوع فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
قال: وأتى مخشي بن عمرو الضمري، وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بني ضمرة فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال: نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا.
قال ابن إسحاق وقد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك قال ابن هشام وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك: وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو لاقيتنا فلقيتنا * لابت ذميما وافتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا غصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السئ الذي كان غاويا فإني وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك: دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الاوارك (1) بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك (2) أقمنا على الرس النزوع ثمانيا * بأرعن جرار عريض المبارك (3) بكل كميت جوزه نصف خلقه * وقب طوال مشرفات الحوارك ترى العرفج العامي تذري أصوله * مناسم أخفاف المطي الرواتك فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك فأبلغ أبا سفيان عني رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك
__________
(1) فلجات: جمع فلج، وهو الماء الجاري: سمي فلجا لانه فدخ في الارض، وفرق بين جانبيه.
(2) عالج: مكان فيه رمل كثير.
(3) أرعن: الجيش الكثير الذي له اتباع وفضول.
قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد أسلم فيما بعد ذلك: أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدك نغتال الخروق كذلك (1) خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك إذا ما انبعثنا من مناخ حسبته * مد من أهل الموسم المتعارك (2) اقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك على الزرع تمشي خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك أقمنا ثلاثا بين سلع وفارع * بجرد الجياد والمطي الرواتك (3) حسبتم جلاد القوم عند فنائكم (4) * كمأخذكم بالعين أرطال آنك
فلا تبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك (5) قال ابن هشام: تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها، وقد ذكر موسى بن عقبة عن الزهري وابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبي سفيان وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وأخذوا معهم بضائع، وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه وفي مقاولة الضمري، وعرض النبي صلى الله عليه وسلم المنابذة فأبى ذلك (6).
قال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة.
وكان خروجه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان لكن قال في سنة ثلاث وهذا وهم فإن هذه تواعدوا إليها من أحد وكانت أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم والله أعلم.
قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين (7).
وقال غيره: فانقلبوا كما
__________
(1) الغفا: التمر، وقيل: هو غبرة تعلو التمر قبل أن يطيب.
نغتال: نقطع.
الخروق: القفار.
(2) المدمن: الموضع الذي ينزلون فيه فيتركون به الدمن، أي آثار الدواب والابل، وأرواثها وبعارها.
(3) سلع وقارع: جبلان.
(4) في ابن هشام: قبابهم، وفي طبقات الشعراء: حول بيوتكم.
(5) وتروى: ولا حرمات الدين أنت بناسك.
(6) نقل الخبر البيهقي في الدلائل 3 / 385 و 386.
والدرر في اختصار المغازي والسير (ص: 168).
(7) مغازي الواقدي: 1 / 384.
قال الله عزوجل: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله (ذو) فضل عظيم) [ آل عمران: 174 ].
فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة قال ابن جرير: وفي جمادى الاولى من هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت: وفيه توفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي وأمه برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب.
وكان إسلام أبي سلم وأبي عبيدة وعثمان بن عفان والارقم بن أبي الارقم قديما في يوم واحد، وقد هاجر هو وزوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة ثم عاد إلى مكة وقد ولد لهما بالحبشة أولاد، ثم هاجر من مكة إلى المدينة وتبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم، وشهد بدرا واحدا ومات من آثار جرح جرحه بأحد رضي الله عنه وأرضاه، له حديث واحد في الاسترجاع عند المصيبة سيأتي في سياق تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة قريبا.
قال ابن جرير: وفي ليال خلون من شعبان منها ولد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
قال وفي شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية.
وقد حكى أبو عمر بن عبد البر: عن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال: كانت أخت ميمونة بنت الحارث (1).
ثم استغربه وقال لم أره لغيره.
وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم وبرها لهم وإحسانها إليهم.
وأصدقها ثنتي عشرة أوقية ونشا (2) ودخل بها في رمضان وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
قال أبو عمر بن عبد البر عن علي بن عبد العزيز الجرجاني: ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
قال ابن الاثير في [ أسد ] الغابة: وقيل كانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد.
قال أبو عمر: ولا خلاف أنها
ماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة (3) حتى توفيت رضي الله
__________
(1) تقدم نسب زينب بنت خزيمة، أما ميمونة فهي بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة.
(2) النش: نصف أوقية، وهو عشرون درهما.
(3) في طبقات ابن سعد: مكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت في آخر ربيع الآخر، صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع.
عنها.
وقال الواقدي في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة (1) بنت أبي أمية.
قلت: وكانت قبله عند زوجها أبي أولادها أبي سلمة بن عبد الاسد وقد كان شهد أحدا كما تقدم، وجرح يوم أحد فداوى جرحه شهرا حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعما ومغنما جيدا، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوما ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين (2) من جمادي الاولى من هذه السنة، فلما حلت في شوال خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها بنفسه الكريمة وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مررا فتذكر أنها امرة غيري أي شديدة الغيرة وانها مصبية أي لها صبيان يشغلونها عنه ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم، فقال: أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله أي نفقتهم ليس إليك، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها، فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوج النبي صلى الله عليه وسلم تعني قد رضيت وأذنت.
فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة وقد كان إذ ذاك صغيرا لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه الصواب في ذلك ولله الحمد والمنة.
وان الذي ولى عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة وهو أكبر ولدها وساغ هذا لان أباه ابن عمها فللابن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالاجماع.
وكذا إذا كان معتقا أو حاكما، فأما محض البنوة فلا يلي بها عقد النكاح عند الشافعي وحده وخالفه الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله.
ولبسط هذا موضع آخر يذكر فيه وهو كتاب النكاح من الاحكام الكبير إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، يعني ابن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به، قال: " لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا فعل به ".
قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بي غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال.
فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي، فقالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت أم
__________
(1) واسمها: هند بنت أبي أمية (سهيل) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
(2) في ابن سعد: لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع.
سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عمر بن أبي سلمة عن أمه أم سلمة عن أبي سلمة به.
وقال الترمذي حسن غريب.
وفي رواية للنسائي عن ثابت عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه.
ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن عبد الملك بن قدامة الجمحي عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة به.
وقال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني من بدر الموعد - راجعا إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة وولى تلك الحجة المشركون وهي سنة أربع.
وقال الواقدي: وفي
هذه السنة يعني سنة أربع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
قلت: فثبت عنه في الصحيح أنه قال تعلمته في خمسة عشر يوما.
والله أعلم.
سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل في ربيع الاول منها قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل (1).
قال ابن هشام في ربيع الاول، - يعني من سنة خمس - واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا، فأقام بالمدينة بقية سنته.
هكذا قال ابن إسحاق (2).
وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه عن جماعة من السلف قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له أن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعا كبيرا وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم وهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة، يقال له: مذكور، هاد خريت.
فلما دنا من دومة الجندل، أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلا منهم فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال الواقدي: وكان خروجه عليه السلام إلى دومة
__________
(1) دومة الجندل: دومة بضم الدال وتفتح بالضم عند أهل اللغة، وبالفتح عند أصحاب الحديث قاله الجوهري.
من أعمال المدينة، تقع شمالي نجد وهي طرف من أفواه الشام بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة.
قال البكري: سميت بدومى بن اسماعيل وكان نزلها (الروض الانف وشرح المواهب 2 / 95).
(2) سيرة ابن هشام 3 / 224
الجندل في ربيع الآخر (1) سنة خمس.
قال: وفيه توفيت أم سعد بن عبادة وابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة.
وقد قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر وهذا مرسل جيدا، وهو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهرا فما فوقه على ما ذكره الواقدي رحمه الله.
غزوة الخندق أو الاحزاب وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الاحزاب فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فارسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون أن بيوتنا عورة وما هي بعورة أن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فاحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وان يأت الاحزاب يودوا لم أنهم بادون في الاعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم
إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال
__________
(1) في تاريخ ابن جرير عن الواقدي: في ربيع الاول، وكذلك في شرح المواهب: " وكان في شهر ربيع الاول على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة وكان رجوعه إلى المدينة في العشرين من ربيع الآخر.
" وفي المغازي للواقدي: في ربيع الاول على رأس تسعة وأربعين شهرا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ربيع الاول، وقدم لعشر بقين من ربيع الآخر.
1 / 402.
وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شئ قديرا) [ الاحزاب: 9 - 27 ] وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير ولله الحمد والمنة، ولنذكر هاهنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الاحزاب في شوال سنة أربع.
وكذلك قال الامام مالك بن أنس فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه.
قال البيهقي: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لان مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس (1)، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس والله أعلم.
وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين ولا خلاف أن أحدا في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الاول إلى آخرها كما حكاه
البيهقي.
وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي وقد صرح بأن بدرا في الاولى، وأحدا في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع (2).
وهذا مخالف لقول الجمهور فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الاول سنة الهجرة، فصارت الاقوال ثلاثة والله أعلم.
والصحيح قول الجمهور أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة والله أعلم، فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين (3) من طريق عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض
__________
(1) انظر الدلائل ج 3 / 395 وفيها فصل البيهقي أقوال غير واحد من العلماء وأصحاب السير في تاريخ وقعة الخندق في باب التاريخ لغزوة الخندق ص 392 وما بعدها.
(2) نقل الخبر البيهقي في الدلائل ج 3 / 397.
وقال ابن سعد في الطبقات 2 / 65: وكانت غزوة الاحزاب في ذي القعدة سنة خمس.
وذكر الواقدي: انها كانت يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة سنة خمس.
(ج 2 / 440).
(3) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 29 باب غزوة الخندق والترمذي في 13 كتاب الاحكام 24 باب ح 1361 وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح والعمل به عند أهل العلم..ويرون: أن الغلام إذا استكمل خمس عشرة سنة فحكمه حكم الرجال، وإن احتلم قبل خمس عشرة فحكمه حكم الرجال.
يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الاحزاب في أواخر الخامسة عشرة.
قلت: ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه في يوم الاحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها.
ولهذا لما بلغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير.
ثم كتب به إلى الآفاق (1) واعتمد على ذلك جمهور العلماء.
والله أعلم.
وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره (2).
قال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس.
فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، ومن لا أتهم عن عبيدالله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم من علمائنا وبعضهم يحدث مالا يحدث بعض.
قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضري (3) وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار (4) الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الاول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) الآيات [ النساء: 51 ].
فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان، من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان
__________
(1) انظر دلائل النبوة ج 3 / 395 وفي نهايته: وكتب (عمر بن عبد العزيز) إلى عماله أن افرضوا لابن خمس عشرة وما كان سوى ذلك، فالحقوه بالعيال وهو ما اعتمده سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد واسحاق.
(2) انظر في غزوة الخندق: ابن سعد 2 / 65 سيرة ابن هشام 3 / 224 أنساب الاشراف 1 / 165 صحيح البخاري 5 / 107 ابن حزم ص 184 السيرة الحلبية ؟ 2 / 401 عيون الاثر 2 / 76 السيرة الشامية 4 / 512 دلائل البيهقي 3 / 392 مغازي الواقدي 2 / 440 مسلم شرح النووي 12 / 145.
(3) النضري نسب إلى طائفة من بني نضير، والقياس نضيري إلا أن يكون من باب قولهم: ثقفي وقرشي وهو خارج
عن القياس.
(4) في الواقدي: أبو عامر الراهب
وقائدها عيينة (1) بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع (2).
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الامر، ضرب الخندق على المدينة.
قال ابن هشام: يقال: إن الذي أشار به سلمان.
قال الطبري والسهيلي: أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون وكان في زمن موسى عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الاجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام.
وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، ألا أن لله ما في السموات والارض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم) [ النور: 62 - 64 ].
قال ابن إسحاق: فعمل المسلمون فيه حتى احكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، فقالوا فيما يقولون: سماه من بعد جعيل عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا وكانوا إذا قالوا عمرا قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال لهم ظهرا (3).
وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن
حميد سمعت أنسا قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والانصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
__________
(1) عيينة بن حصن، اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتر كان بعينه، أسلم ثم ارتد أسر يوم تنبأ طليحة الاسدي وأتي به أبو بكر فمن عليه، ولم يزل مظهرا الاسلام حتى مات.
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: الاحمق المطاع فقد كان يتبعه عشرة آلاف قناة (انظر شرح المواهب والروض الانف).
(2) زاد عقبة في روايته: وأقبل أبو الا عور فيمن اتبعه من بني سليم مددا لقريش.
وقال عروة: كان الذين حزبوا الاحزاب نفرا من بني وائل ومن بني النضير، ومن بني وائل حي من الانصار من أوس الله وحوح بن عمرو..وقريش وغطفان.
(3) الظهر: القوة والمعونة، والضمير المستتر في " سماه " و " كان " راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم للبائس الفقير أكبر عون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول مع المسلمين آخره عندما كانوا يرتجزون الشعر كان يرد معهم أواخر الابيات.
وجعيل هذا: هو جعيل بن سراقة (شرح أبي ذر ص 300).
" اللهم أن العيش عيش الآخرة * فاغفر الانصار والمهاجرة " فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا (1) وفي الصحيحين من حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس نحوه.
وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بنحوه (2).
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال: جعل المهاجرون والانصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا * على الاسلام ما بقينا أبدا قال يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا لهم " اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الانصار والمهاجرة " قال يؤتون بمل ء كفي من الشعير فيصنع لهم باهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم
جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن (3).
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والانصار " (4).
ورواه مسلم عن القعنبي عن عبد العزيز به.
وقال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه يقول: والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا إن الالى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوته: أبينا، أبينا (5).
ورواه مسلم من حديث شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي عن أبي إسحاق عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الاحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 29 باب غزوة الخندق ح 4099.
(2) مسلم في 32 كتاب الجهاد 44 باب غزوة الاحزاب ح 130 ص 1432.
(3) فتح الباري الحديث 4100 ج 7 / 316.
- الاهالة: الزيت والشحم، والسنخة: المتغيرة الريح والطعم.
(4) فتح الباري ح 4098 ج 7 / 314 ومسلم في 32 كتاب الجهاد 44 باب ح 126،.
والاكتاد: جمع كتد وهو ما بين الكاهل إلى الظهر.
وتروى أكبادنا.
(5) فتح الباري ح 4104 كتاب المغازي باب غزوة الخندق.
ومسلم في 32 كتاب الجهاد 44 باب.
ح 125.
رواحة وهو ينقل من التراب يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا ان الالى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا ثم يمد صوته بآخرها.
وقال البيهقي في الدلائل: أخبرنا علي بن أحمد بن عبد ان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي (1) حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال: بسم الله وبه هدينا * ولو عبد نا غيره شقينا يا حبذا ربا وحب دينا (2) وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم يحفرون الخندق: " اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فأصلح الانصار والمهاجرة " وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر عن شعبة.
قال ابن إسحاق: وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.
فمن ذلك: أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية (3)، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا باناء من ماء، فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق [ نبيا ] (4) لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وقد قال البخاري، رحمه الله: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل.
ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم (5) فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي رأيت
__________
(1) في دلائل البيهقي: البلخي.
(2) كذا في الاصل والسيرة الشامية 4 / 517 وفي دلائل النبوة للبيهقي 3 / 414: فأحب ربا وأحب دينا (3) الكدية: القطعة الصلبة من الارض لا يعمل فيها المعول، وهي كالصخرة العظيمة.
(4) من ابن هشام.
(5) في البخاري: أهثم، وأهيل: رمل يسيل لا يتماسك.
فتح الباري ج 7 / 317 كتاب المغازي.
قال ابن حجر:
بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر ؟ فعندك شئ ؟ قالت عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة.
ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الاثافي قد كادت أن تنضج، فقلت طعيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
قال كم هو ؟ فذكرت له، فقال كثير طيب، قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال قوموا فقام المهاجرون والانصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم.
قالت هل سألك ؟ قلت: نعم، فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا.
وبقي بقية قال: كلي هذا وأهدى، فإن الناس أصابتهم مجاعة.
تفرد به البخاري.
وقد رواه الامام أحمد: عن وكيع عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية وربط الحجر على بطنه الكريم.
ورواه البيهقي في الدلائل: عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر بقصة الكدية والطعام وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه: لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الطعام قال للمسلمين جميعا قوموا إلى جابر فقاموا، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاءنا بخلق (1) على صاع من شعير وعناق.
ودخلت على امرأتي أقول: افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق (2) أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم
طعامك ؟ قلت: نعم.
فقالت الله ورسوله أعلم [ قد أخبرناه ما عندنا ] (3).
قال فكشفت عني غما شديدا، قال فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خدمي ودعيني من اللحم.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملا ما كانا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلي واهدي.
فلم تزل تأكل وتهدي يومها.
وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر به وأبسط أيضا، وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة أو قال ثلثمائة.
وقال يونس بن بكير عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن جابر.
فذكر القصة بطولها في الطعام فقط وقال وكانوا ثلثمائة (4).
ثم قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء سمعت جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصا فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شئ فاني رأيت
__________
= امرأة جابر اسمها: سهيلة بنت مسعود الانصارية.
وأخرجه أحمد في مسنده.
(1) في البيهقي: بالخلق.
(2) في البيهقي: بالجند.
(3) زيادة من الدلائل ج 3 / 415 - 417.
(4) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 424 والحاكم في المستدرك 3 / 31.
برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا.
فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك.
فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع سؤرا فحيهلا بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ.
فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي،
فقالت: بك وبك.
فقلت: قد فعلت الذي قلت.
فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك ثم قال: ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك ولا تنزلوها وهم ألف، فأقسم بالله لاكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان برمتنا لتغط كما هي، وان عجيننا كما هو.
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر عن أبي عاصم به نحوه (1).
وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال: حدثني سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وكانت عندي شويهة غير جد سمينة، قال: فقلت والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق قال: وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فانا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي قال وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
قال: فلما أن قلت ذلك قال: نعم ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله، قال: قلت إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال: فبرك وسمى الله تعالى ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها.
والعجب أن الامام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق عنه عن جابر مثله سواء.
قال محمد بن إسحاق وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد، أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.
قالت: فأخذتها، وانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 425، والبخاري في 56 كتاب الجهاد، وفي المغازي 29 باب غزوة الخندق، ومسلم في 26 كتاب الاشربة 20 باب ح 141.
والحاكم في المستدرك 3 / 31 وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
- الخمص: ضمور البطن من الجوع.
السؤر: يروى بالهمزة، وبتركها.
وهي لفظة فارسية.
وبالهمز: البقية.
وبدونه: الطعام الذي يدعى إليه.
ألتمس أبي وخالي، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك ؟ قالت: قلت يا رسول الله هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.
فقال: هاتيه قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملاتهما ثم أمر بثوب فبسط له ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لانسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء.
فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع، وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه ولم يزد (1).
قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى قال ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب ؟ قال: أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال: قلت: نعم.
قال: أما الاولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق.
قال البيهقي: وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في مغازيه (2)، وذكره أبو الاسود عن عروة ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي وفي حديثه نظر.
لكن رواه ابن جرير في تاريخه عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده فذكر حديثا فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا قال: واحتق المهاجرون والانصار في سلمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة من الانصار في أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى ظهرت لنا صخرة
بيضاء مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها فجاء فأخذ المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة حتى كأنها مصباح في جوف ليل (3) مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.
وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك النور، فقال: لقد أضاء لي من الاولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فابشروا،
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 3 / 228 والبيهقي في الدلائل 3 / 427.
(2) دلائل النبوة ج 3 / 418.
(3) في الطبري: بيت مظلم.
واستبشر المسلمون وقالوا الحمد الله موعود صادق.
قال: ولما طلعت الاحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزل فيهم (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) [ الاحزاب: 12 ] وهذا حديث غريب (1).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق فخندق على المدينة قالوا: يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة وكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: فتحت فارس، ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: فتح الروم، ثم ضرب أخرى فكبر،
فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: جاء الله بحمير أعوانا وأنصارا.
وهذا أيضا غريب من هذا الوجه.
وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي فيه ضعف فالله أعلم.
وقال الطبراني أيضا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة ؟ قال رجل: نعم.
قال: أما لا فتقدم فدلنا عليه.
فانطلوقا إلى [ بيت ] الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا فجاء الرجل يسعى وقال: بأبي وأمي وله معزة ومعها جديها فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم الجدي من ورائها فذبح الجدي وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه فيها وقال بسم الله اللهم بارك فيها اطعموا، فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم فذهبوا فجاء أولئك العشرة فأكلوا منها حتى شبعوا ثم قام ودعا لربة البيت وسمت عليها وعلى أهل بيتها، ثم مشوا إلى الخندق فقال: اذهبوا بنا إلى سلمان، وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوني فأكون أول من ضربها.
فقال: بسم الله.
فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة.
فقال عندها المنافقون:
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 598 وقال الذهبي سنده ضعيف.
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني قال فيه الدارقطني وغيره: متروك.
وقال ابن معين: ليس بشئ.
قال الشافعي وأبو داود: ركن من أر كان الكذب، وضرب أحمد على حديثه.
قال ابن حبان: له عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة.
نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم، ثم قال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن
أحمد بن عبد ان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد (1) بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون (2) بن استاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الانصاري قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها أخذ المعول وقال: بسم الله وضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لابصر قصورها الحمر إن شاء الله، ثم ضرب الثانية، فقطع ثلثا آخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لابصر قصر المدائن الابيض، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لابصر أبو اب صنعاء من مكاني الساعة (3).
وهذا حديث غريب أيضا تفرد به ميمون بن استاذ هذا وهو بصري روى عن البراء وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل والجريري وعوف الا عرابي قال أبو حاتم عن إسحاق بن منصور عن ابن معين كان ثقة وقال علي بن المديني كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه.
وقال النسائي حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ضمرة عن أبي زرعة السيباني عن أبي سكينة رجل من البحرين عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال: (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فنذر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة، ثم ضرب الثانية وقال: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكمات الله وهو السميع العليم، فنذر الثلث الآخر، وبرقت برقة فرآها سلمان ثم ضرب الثالثة وقال: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم فنذر الثلث الباقي وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس فقال سلمان يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب ضربة إلا كانت معها برقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان رأيت ذلك ؟ قال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله قال: فإني حين ضربت الضربة الاولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا
ويغنمنا ذراريهم ونخرب بأيدينا بلادهم فدعا بذلك قال: ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ونخرب بأيدينا بلادهم فدعا ثم قال: ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة
__________
(1) في البيهقي: أحمد.
(2) هو ميمون مولى عبد الرحمن بن سمرة.
قال فيه ابن معين: لا شئ.
وضعفه العقيلي.
الميزان 4 / 235.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 3 / 421 والنسائي في السير في (السنن) عن محمد بن عبد الا على، عن معتمر، عن عوف عن ميمون عن البراء..تحفة الاشراف بمعرفة الاطراف (2 / 65).
وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم " هكذا رواه النسائي مطولا وإنما روى منه أبو داود: دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني (1) به.
ثم قال ابن إسحاق وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول: حين فتحت هذه الامصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده افتتحوا ما بدا لكم فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
وهذا من هذا الوجه منقطع أيضا وقد وصل من غير وجه ولله الحمد فقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الارض فوضعت في يدي.
وقد رواه البخاري منفردا به عن يحيى بن بكير وسعد بن عفير كلاهما عن الليث به وعنده قال أبو هريرة فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلو نها.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح
خزائن الارض فتلت في يدي ".
وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وفي الصحيحين: " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".
وفي الحديث الصحيح: " إن الله زوى لي الارض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ".
فصل قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الاسيال من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف (2) من أحابيشهم، ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمي، إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين.
فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا فوق الآطام.
قال ابن هشام واستعمل على المدينة [ عبد الله ] (3) بن أم مكتوم.
قلت وهذا معنى قوله تعالى (إذ
__________
(1) السيباني: نسبة إلى سيبان، بطن من حمير، توفي أبو زرعة سنة 148 ه.
وكان ثقة.
اللباب 1 / 585.
(2) في ابن سعد: في أربعة آلاف.
أما جميع القوم الذين وافوا الخندق ممن ذكر من القبائل عشرة آلاف.
(3) من ابن سعد.
جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وقد زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) [ الاحزاب: 10 ] قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد (1)، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة [ في قوله تعالى ]: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار) قالت ذلك يوم الخندق.
قال موسى بن عقبة: ولما نزل الاحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم (2).
قال ابن إسحاق: وخرج حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له فناداه: ويحك يا كعب افتح لي.
قال ويحك يا
حيي إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لي أكلمك.
قال: ما أنا بفاعل.
قال والله ان أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك (3) أن آكل معك منها.
فأحفظ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام، قال: وما ذاك ؟ قال: جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الاسيال من رومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام (4) قد هراق ماؤه، يرعد ويبرق وليس فيه شئ، ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا.
وقد تكلم عمرو بن سعد القرظي فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة: ذكرهم (5) ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال: إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه.
قال ابن إسحاق فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذورة والغارب حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محاربته مع الاحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موسى بن عقبة وأمر كعب بن أسد وبنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدا، قالوا: وتكون الرهائن تسعين (6) رجلا
__________
(1) في البخاري: عبدة.
أخرجه البخاري في المغازي 29 باب غزوة الخندق.
ومسلم في كتاب التفسير ح 12 (4 / 2316).
(2) أنظر الخبر بطوله في سياق قصة الخندق من مغازي موسى بن عقبة.
دلائل البيهقي 3 / 400.
(3) الجشيشة: طعام يصنع من الجشيش، وهو البر يطحن غليظا.
(4) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.
(5) قال عمرو بن سعد القرظي: يا معشر يهود، إنكم قد حالفتم محمدا على ما قد علمتم أن لا تخونوه ولا تنصروا عليه عدوا، وأن تنصروه على من دهم يثرب، فأوفوا على ما عاهدتموه عليه، فإن لم تفعلوا فخلوا بينه وبين عدوه
واعتزلوهم.
(الدرر في اختصار المغازي ص 169 - دلائل البيهقي 3 / 401).
(6) في رواية الدرر: سبعين.
من أشرافهم.
فنازلهم حيي على ذلك.
فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد وأسيد وثعلبة فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذ سيد الاوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير (1).
قال: انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه (2) ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.
قال: فخرجوا حتى أتوهم.
قال موسى بن عقبة: فدخلوا معهم حصنهم فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف فقالوا: الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم (يريدون بني النضير) ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ: إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة.
ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه.
فقالوا أكلت أير أبيك (3).
فقال: غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن (4).
وقال ابن إسحاق: نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد.
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدرهم بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين.
قال موسى بن عقبة: ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة فاضطجع ومكث طويلا فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير.
ثم انه رفع رأسه وقال ابشروا بفتح الله ونصره.
فلما أن أصبحوا دنا القوم بعضهم من بعض وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة.
قال
سعيد بن المسيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسالك عهدك ووعدك اللهم إن تشأ لا تعبد.
قال ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط (5) وحتى قال أوس بن قيظي: يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملا من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة.
قلت: هؤلاء وأمثالهم
__________
(1) قال الواقدي: الا ثبت عندنا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير 2 / 458 (2) اللحن: اللغز، وهو أنه يخالف ظاهر الكلام معناه.
(3) الدرر لابن عبد البر ص 170 دلائل البيهقي عن موسى 3 / 403.
(4) في الواقدي: العبارة قيلت لسعد بن عبادة والذي قالها: نباش بن قيس.
(5) زاد الواقدي: قال: وما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.
المرادون بقوله تعالى (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ان يريدون إلا فرارا) [ الاحزاب: 12 - 13 ].
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطا وأقام المشركون يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة، قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل، فلما اشتد على النابس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشار هما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم
شيئا تصنعه لنا ؟ فقال: بل شئ أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لاني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء.
على الشرك بالله وعبادة الاوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك.
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال ليجهدوا علينا.
قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن فهر - تلبسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز ؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال أجل.
قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الاسلام.
قال: لا حاجة لي بذلك.
قال: فإني أدعوك إلى النزال.
قال له: لم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.
قال له علي: لكني
والله أحب أن أقتلك.
فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم
أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
قال ابن إسحاق وقال علي بن أبي طالب في ذلك: نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب (1) فصدرت حين تركته متجدلا * كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزنى أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الاحزاب قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي.
قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو فقال في ذلك حسان بن ثابت: فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظليم * ما أن يحور عن المعدل (2) ولم تلو ظهرك مستأنسا * كأن قفاك قفا فرعل (3) قال ابن هشام: الفراعل صغار الضباع.
وذكر الحافظ البيهقي (4) في دلائل النبوة: عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال: خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد فنادى: من يبارز ؟ فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا لها يا نبي الله.
فقال إنه عمرو، اجلس.
ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز ؟ فجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إلي رجلا ؟ فقام علي فقال: أنا يا رسول الله ؟ فقال: اجلس.
ثم نادى الثالثة، فقال: ولقد بححت من النداء * لجمعهم هل من مبارز ووقفت إذ جبن المشجع * موقف القرن المناجز ولذاك إني لم أزل * متسرعا قبل الهزاهز إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز قال فقام علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا.
فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان
عمرا.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه، حتى أتى وهو يقول: لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز في نية وبصيرة * والصدق منجى كل فائز
__________
(1) الحجارة: يعني الانصاب التي كانوا يعبدونها ويذبحون لها.
(2) الظليم: ذكر النعام.
يحور وفي رواية تجور.
(3) ولم تلو: وتروى ولم تلق.
(4) دلائل النبوة ج 3 / 432 باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من محاصرة المشركين إياهم من البلاء.
إني لارجو أن أقيم * عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء * يبقى ذكرها عند الهزاهز فقال له عمرو: من أنت ؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال: يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك ؟ فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضبا واستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في درقته فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرفنا أن عليا قد قتله.
فثم يقول علي: أعلي تقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي إلى أن قال: عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبد ت رب محمد بصواب إلى آخرها.
قال ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها ؟ فقال: ضربته فاتقاني بسوءته،
فاستحييت ابن عمي أن أسلبه، قال وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.
وذكر ابن إسحاق فيما حكاه عنه (1) البيهقي أن عليا طعنه في ترقوته، حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال هو لكم لا نأكل ثمن الموتى (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية، فلم يقبل منهم شيئا.
وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة عن حجاج، وهو ابن ارطاة، عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: أن رجلا من المشركين قتل يوم الاحزاب فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا خير في جسده ولا في ثمنه " (3).
وقد رواه الترمذي: من حديث سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس وقال غريب.
وقد ذكر موسى بن عقبة: أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل وعرضوا عليه الدية فقال: " إنه خبيث خبيث الدية فلعنه الله
__________
(1) في الاصل عن وهو تحريف.
(2) روى البيهقي الخبر، في الدلائل 3 / 438 عن ابن اسحاق وفيه: أن عليا طعن نوفل بن عبد الله بن المغيرة في ترقونه.
(3) الحديث أخرجه الامام في مسنده ج 1 / 248 والبيهقي في الدلائل ج 3 / 440.
ولعن ديته.
فلا أرب لنا في ديته ولسنا نمنعكم أن تدفنوه " (1) وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام فضربه فشقه باثنتين حتى فل في سيفه فلا وانصرف وهو يقول: اني امرو أحمي وأحتمي * عن النبي المصطفى الامي (2) وقد ذكر ابن جرير (3): أن نوفلا لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة فجعل يقول:
قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب.
فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركون رمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئا ومكنهم من أخذه إليهم وهذا غريب من وجهين.
وقد روى البيهقي: من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الاطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي فأصعد على ظهره فأنظر [ إليهم كيف يقتتلون، وأطأطئ له، فيصعد فوق ظهري فينظر ] (4) قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة هاهنا ومرة هاهنا، فما يرتفع له شئ إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الاطم قلت يا أبة رأيتك اليوم، وما تصنع قال " ورأيتني يا بني ؟ قلت: نعم قال فدى لك أبي وأمي (5).
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الانصاري أخو بني حارثة: أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة.
قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن.
قالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب.
قالت فمر سعد وعليه درع مقلصة، قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربته يرفل بها ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا جمل * لا بأس بالموت إذا حان الاجل (2) فقالت له أمه: الحق بني فقد والله أخرت.
قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي.
قالت: وخفت عليه، حيث أصاب السهم منه، فرمى
__________
(1) نقله البيهقي عن موسى في الدلائل 3 / 404.
(2) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 437 وزاد في آخره.
أن عليا طعنه في ترقوته فمات.
انظر الحاشية رقم 2.
وهو الارجح لما تقدم من حديثي الامام أحمد وابن عقبة.
ولعل إقحام رواية ابن اسحاق للخبر في مقتل عمرو سهو من الناسخ.
(3) تاريخ الطبري 3 / 49.
(4) من دلائل البيهقي.
(5) رواه البيهقي في الدلائل ج 3 / 440.
(6) جمل: قال أبو ذر: جمل اسم رجل وهذا الرجز تمثل به سعد.
وقال السهيلي: حمل: بالحاء المهملة هو بيت تمثل به، يعني به حمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل بن كعب بن عليم بن جناب الكلبي.
(الروض الانف ج 2 / 192)
سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الاكحل.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال رماه حيان (1) بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقي لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذو رسولك وكذبوه وأخرجوه.
اللهم وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك: أنه كان يقول ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، وقد قال أبو أسامة في ذلك شعرا قاله لعكرمة بن أبي جهل: أعكرم هلا لمتني إذ تقول لي * فداك بآطام المدينة خالد ألست الذي ألزمت سعدا مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند (2) قضى نحبه منها سعيد فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعا منهم إذ يكابد على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوب عن القصد قاصد قال ابن إسحاق والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن هشام ويقال: إن الذي رمى سعدا خفاجة بن عاصم بن حبان.
قلت: وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه.
فحكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: كانت
صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينهما وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت.
فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأنزل إليه فاقتله.
قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا، احتجزت ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته.
فلما فرغت منه، رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه فانه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.
قال: مالي بسلبه
__________
(1) قال السهيلي: حبان: هو ابن عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي.
وقال الواقدي في رواية ويقال رماه: أبو أسامة الجشمي.
(2) مريشة وتروى: مرشة: يعني رمية أصابته فأطارت رشاش الدم منه، والعاند: العرق الذي لا ينقطع منه الدم.
حاجة يا ابنة عبد المطلب (1).
قال موسى بن عقبة وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدري (2) أتم أم لا قال: ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فقاتلوهم يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شغلونا عن صلاة العصر ملا الله بطونهم وقلوبهم وفي رواية وقبورهم نارا.
فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول " والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة وإني لارجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله " (3).
وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق " ملا الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " (4) وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي به.
ورواه مسلم والترمذي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حسان الاعرج عن عبيدة عن علي به: وقال الترمذي حسن صحيح.
ثم قال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها.
فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب (5).
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم والترمذي والنسائي من
__________
(1) الخبر في سيرة ابن هشام ج 3 / 239 ونقله عنه البيهقي في الدلائل ج 3 / 442.
وقد علق أبو ذر والسهيلي عليه، واستبعدا أن يكون حسان بن ثابت من الجبن بهذه المنزلة.
قال السهيلي: " وقد رفع هذا الحديث بعض العلماء وأنكره، وذلك انه منقطع الاسناد.
وقال: لو صح هذا لهجي به حسان، فإنه كان يهاجي الشعراء كضرار وابن الزبعرى وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن.
فدل هذا على ضعف حديث ابن اسحاق.
وإن صح فلعل حسان أن يكون معتلا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال.
وهذا أولى ما تأول عليه.
وممن أنكر أن يكون هذا صحيحا ابن عبد البر في الدرر.
وقال ابن السراج: سكوت الشعراء عن تعبيره بذلك من أعلام النبوة، لانه كان شاعره صلى الله عليه وسلم.
(2) في رواية البيهقي: حتى مما يدري الرجل أتم صلاته أم لا.
(3) رواه ابن عبد البر في الدرر ص 169 - 177 والبيهقي عنه في الدلائل ج 3 / 402.
(4) رواه البخاري في 56 كتاب الجهاد 98 باب ح 2931 وأعاده في 64 كتاب المغازي 19 باب ح 4111 ومسلم في 5 كتاب المساجد 35 باب ح 202 وح 206 وح 204 وأحمد في مسنده 1 / 79، 81.
(5) رواه البخاري في 9 كتاب مواقيت الصلاة 36 باب.
ومسلم في 5 كتاب المساجد 36 باب ح 209.
طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال " اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملا بيوتهم نارا واملا قبورهم نارا " ونحو ذلك تفرد به أحمد وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي وهو ثقة يصحح له الترمذي وغيره.
وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الاحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر كما هو منصوص عليه في هذه الاحاديث وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث وقد حررنا ذلك نقلا واستدلالا عند قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) [ البقرة: 238 ].
وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول والاوزاعي وقد بوب البخاري ذلك واستدل بهذا الحديث وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم بالذهاب إلى بني قريظة - كما سيأتي - " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " وكان من الناس من صلى العصر في الطريق ومنهم من لم يصل إلا في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف واحدا من الفريقين واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في حصار تستر سنة عشرين في زمن عمر حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال واقتراب فتح الحصن.
وقال آخرون من العلماء، وهم الجمهور، منهم الشافعي: هذا الصنيع يوم الخندق منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك فإنها لم تكن مشروعة إذ ذاك فلهذا أخروها يومئذ وهو مشكل قال ابن إسحاق وجماعة ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان وقد ذكرها ابن إسحاق وهو إمام في المغازي قبل الخندق وكذلك ذات الرقاع ذكرها قبل الخندق فالله أعلم.
وأما الذين قالوا: إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسيانا كما حكاه شراح مسلم عن بعض الناس فهو مشكل إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير مع شدة حرصهم على محافظة الصلاة، كيف وقد روى أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء من رواية أبي هريرة وأبي سعيد.
قال الامام [ أحمد ]: حدثنا يزيد وحجاج قالا: حدثنا ابن أبي ذئب، عن
المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا وذلك قوله (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) [ الاحزاب: 25 ] قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك وذلك قبل أن ينزل.
قال حجاج في صلاة الخوف (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) [ البقرة: 239 ] وقد رواه النسائي عن الفلاس عن يحيى القطان عن ابن أبي ذئب به.
قال: شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة
__________
= قوله هشام هو ابن أبي عبد الله.
ويحيى بن أبي كثير.
وأبي سلمة بن عبد الرحمن.
- بطحان: واد بالمدينة.
الظهر حتى غربت الشمس فذكره (1).
وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله.
قال: فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل، يعني ابن إسماعيل، حدثنا حماد، يعني ابن سلمة، عن عبد الكريم يعني ابن أبي المخارق عن مجاهد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى الظهر ثم أمره، فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن، وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام، فصلى العشاء ثم قال " ما على وجه الارض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم " تفرد به البزار وقال لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد رواه بعضهم عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي عبيدة عن عبد الله.
فصل في دعائه عليه السلام على الاحزاب قال الامام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا الزبير - يعني ابن عبد الله - حدثنا ربيح بن أبي سعيد
الخدري عن أبيه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شئ نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر، قال " نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " قال فضرب الله وجوه أعدائه بالريح (2).
وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن أبي عامر - وهو العقدي (3) - عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد فذكره وهذا هو الصواب.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسين، عن ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الاحزاب فوضع رداءه وقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم ولم يصل قال ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاحزاب فقال " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب اهزم الاحزاب.
اللهم اهزمهم وزلزلهم (4).
وفي رواية اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم.
وروى البخاري عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 3 / 445 والنسائي في كتاب الصلاة، باب الاذان للغائب من الصلاة 2 / 17.
(2) مسند الامام أحمد ج 3 / 3.
(3) هو أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي القيسي، يروي عن شعبة اللباب 2 / 144 والكاشف للذهبي ج 3 / 311.
(4) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 29 باب فتح الباري 7 / 406 ومسلم في 32 كتاب الجهاد والسير (7) باب ح 21
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الاحزاب وحده فلا شئ بعده " (1) وقال ابن إسحاق وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوه بن أشجع بن ريث بن غطفان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا باسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل
عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة " (2) فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودى إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم.
قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم.
فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديهم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لابي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني.
قالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم ؟ فأرسل إليهم: أن نعم.
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم،
__________
(1) أخرجه البخاري في 64 كتاب المغازي 29 باب غزوة الاحزاب.
ح: 4114.
(2) هي من جوامع كلمه، وهي أقوال صائبة بعيدة عن التكلف، نابعة من سلامة الطبع وصفاء الذهن.
وهي موجزة تؤدى بألفاظ قليلة دالة على معان وفيرة جليلة.
وقد أخذت بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم صفات الحكمة من حيث طابعها وسمتها.
قال الجاحظ: " إنه كلام لم يسبقه إليه عربي، ولم يشاركه فيه عجمي ولم يدع لاحد ولا ادعاه أحد مما صار مستعملا ومثلا سائرا.
" وقد حدد الجاحظ أسلوب الحكمة عند النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: " الكلام الذي قل حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف " ومن الامثال لكلامه صلى الله عليه وسلم:
يا خيل الله اركبي - مات حتف انفه - الان حمي الوطيس - لا يلسع المؤمن من جحر مرتين - الخيل معقود بنواصيها الخيل - رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس - إنما الاعمال بالنيات
قال: فاكتموا عني قالوا: نفعل.
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر (1) فاعدوا (2) للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة: قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق.
فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة (3) شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم (4).
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة.
وقد أورده عنه البيهقي في الدلائل فانه ذكر ما حاصله: أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عشاء، فأشار إليه أن تعال، فجاء فقال: ما وراءك ؟ فقال (5): إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم
فيناجزوك، فقالت قريظة نعم فأرسلوا إلينا بالرهن.
وقد ذكر فيما تقدم: أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة، قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسر إليك شيئا فلا تذكره، قال: إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم، فخرج نعيم بن مسعود عامدا إلى غطفان.
وقال
__________
(1) الخف: يريد الابل.
والحافر: يعني الخيل.
(2) في ابن هشام: فاغدوا.
(3) في ابن هشام: ليال.
(4) في ابن هشام: أبنيتهم.
والخبر في السيرة ج 3 / 241 - 244.
(5) العبارة في الدلائل: فقال: إنه والله مالك طاقة بالقوم وقد تحزبوا عليك، وهم معاجلوك، وقد بعثوا إلى بني قريظة انه قد طال ثواؤنا وأجدب ما حولنا، وقد أجبنا ان نعاجل محمدا وأصحابه فنستريح منهم.
فأرسلت إليهم بنو قريظة: ان نعم ما رأيتم فإذا شئتم فابعثوا بالرهن ثم لا يحبسكم إلا أنفسكم..(الدلائل ج 3 / 404) .