كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

عبد الله بن بسر بحمص سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين، وهو آخر من بقي من الصحابة بالشام.
الاخبار عن الوليد بما فيه له من الوعيد الشديد وإن صح فهو الوليد بن يزيد لا الوليد بن عبد الملك قال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس السكسكي، حدثني الوليد بن
مسلم، حدثني أبو عمرو الاوزاعي عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: ولد لاخي أم سلمة غلام فسموه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جعلتم تسمون بأسماء فراعنتكم، إنه سيكون في هذه الامة رجل يقال له الوليد، هو أضر على أمتي من فرعون على قومه * قال أبو عمرو الاوزاعي: فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد، لفتنة الناس به، حتى خرجوا عليه فقتلوه، وانفتحت على الامة الفتنة والهرج (1) * وقد رواه البيهقي عن الحاكم، وغيره عن الاصم عن سعيد بن عثمان التنوخي عن بشر بن بكر عن الاوزاعي عن الزهري عن سعيد، فذكره ولم يذكر قول الاوزاعي، ثم قال: وهذا مرسل حسن * وقد رواه نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم به، وعنده قال الزهري: إن استخلف الوليد بن يزيد، فهو هو، وإلا فهو الوليد بن عبد الملك * وقال نعيم بن حماد: ثنا هشيم عن أبي حمزة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيكون رجل اسمه الوليد، يسد به ركن من أركان جهنم وزاوية من زواياها * وهذا مرسل أيضا.
حديث آخر قال سليمان بن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا، اتخذوا دين الله دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا (2) * رواه البيهقي من حديثه، وقال نعيم بن حماد: ثنا بقية بن الوليد وعبد القدوس عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا بلغت بنو أمية أربعين، اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله نحلا، وكتاب الله دغلا * وهذا منقطع بين راشد بن سعد وبين أبي ذر * وقال إسحاق بن راهويه: أنا جرير عن الاعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دغلا، ومال الله دولا، وعباد الله خولا (3) * ورواه أحمد عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير به * وقال البيهقي:
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل عن يعقوب 6 / 505.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 507.
(3) أخرجه الامام في مسنده ج: 3 / 80، لم يذكر فيه بني أبي العاص، قال: بنو أبي فلان.

أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا بسام (1) - وهو محمد بن غالب -، ثنا كامل بن طلحة، ثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل أن ابن وهب (2) أخبره أنه كان عند معاوية بن أبي سفيان فدخل عليه مروان فكلمه في حاجته فقال: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فو الله إن مؤنتي لعظيمة، وإني لابو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، فلما أدبر مروان - وابن عباس جالس مع معاوية على السرير - قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس، أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا ؟ فإذا بلغوا سبعة (3) وتسعين وأربعمائة، كان هلاكهم أسرع من لوك ثمرة ؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم: قال: وذكر مروان حاجة له فرد مروان عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس، أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: أبو الجبابرة الاربعة ؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم، وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة شديدة، وابن لهيعة ضعيف * وقد قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا سعد بن زيد، أخو حماد بن زيد، عن علي بن الحكم البناني عن أبي الحسن عن عمرو بن مرة، وكانت له صحبة، قال: جاء الحكم بن أبي العاص يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف كلامه فقال: ائذنوا له، حية، أو ولد حية، عليه لعنة الله، وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين، وقليل ما هم، ليترفون في الدنيا ويوضعون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يعطون في الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق * قال الدارمي أبو الحسن هذا حمصي (4)، وقال نعيم بن حماد في الفتن والملاحم: ثنا عبد الله بن مروان المرواني، عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد أن مروان بن الحكم لما ولد دفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، فأبى أن يفعل ثم قال: ابن الزرقاء، هلاك أمتي على يديه ويدي ذريته * وهذا حديث مرسل.
ذكر الاخبار عن خلفاء بني أمية جملة من جملة
قال يعقوب بن سفيان: ثنا أحمد بن محمد أبو محمد الزرقي، ثنا الزنجي - يعني مسلم بن خالد - عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت في المنام بني الحكم - أو بني أبي العاص - ينزون على منبري كما تنزو القردة، قال: فما رآني رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى توفي (5) * وقال الثوري: عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب
__________
(1) في البيهقي: تمتام.
(2) في البيهقي: موهب.
(3) في الدلائل ج 6 / 508: تسعة وتسعين.
(4) رواه البيهقي في الدلائل ج 6 / 512.
(5) في رواية البيهقي عن يعقوب 6 / 511: قال أبو هريرة: فما رؤي النبي صلى الله عليه وآله مستجمعا ضاحكا حتى توفي.

قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية على منابرهم فساءه ذلك، فأوحي إليه: إنما هي دنيا أعطوها، فقرت به عينه وهي قوله: * (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس) * [ الاسراء: 60 ] يعني بلاء للناس.
علي بن زيد بن جدعان ضعيف، والحديث مرسل أيضا * وقال أبو داود الطيالسي: ثنا القاسم بن الفضل - هو الحدائي - ثنا يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية، فقال يا مسود وجوه المؤمنين، فقال الحسن: لا تؤنبني رحمك الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك فنزلت * (إنا أعطيناك الكوثر) * - يعني نهرا في الجنة - ونزلت: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر) * يملكه بنو أمية * قال القاسم: فحسبنا ذلك فإذا هو ألف شهر لا يزيد يوما ولا ينقص يوما (1) * وقد رواه الترمذي وابن جرير الطبري، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في دلائل النبوة، كلهم من حديث القاسم بن الفضل الحذاء، وقد وثقه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، عن يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن مازن الراسبي، وفي رواية ابن جرير عيسى بن مازن، قال الترمذي: وهو رجل مجهول، وهذا الحديث
لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فقوله: إن يوسف هذا مجهول، مشكل، والظاهر أنه أراد أنه مجهول الحال، فأنه قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد، وقال يحيى بن معين: هو مشهور، وفي رواية عنه قال: هو ثقة، فارتفعت الجهالة عنه مطلقا، قلت: ولكن في شهوده قصة الحسن ومعاوية نظر، وقد يكون أرسلها عمن لا يعتمد عليه، والله أعلم، وقد سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله عن هذا الحديث فقال: هو حديث منكر وأما قول القاسم بن الفضل رحمه الله: إنه حسب دولة بني أمية فوجدها ألف شهر، لا تزيد يوما ولا تنقصه، فهو غريب جدا، وفيه نظر، وذلك لانه لا يمكن إدخال دولة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت ثنتا عشرة سنة، في هذه المدة، لا من حيث الصورة ولا من حيث المعنى، وذلك أنها ممدوحة لانه أحد الخلفاء الراشدين والائمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون * وهذا الحديث إنما سيق لذم دولتهم، وفي دلالة الحديث على الذم نظر، وذلك أنه دل على أن ليلة القدر خير من ألف شهر التي هي دولتهم، وليلة القدر ليلة خيرة، عظيمة المقدار والبركة، كما وصفها الله تعالى به، فما يلزم من تفضيلها على دولتهم ذم دولتهم، فليتأمل هذا فإنه دقيق يدل على أن الحديث في صحته نظر، لانه إنما سيق لذم أيامهم والله تعالى أعلم * وأما إذا أراد أن ابتداء دولتهم منذ ولي معاوية حين تسلمها من الحسن بن علي، فقد كان ذلك سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، وكان يقال له عام الجماعة، لان الناس كلهم اجتمعوا على إمام واحد * وقد تقدم الحديث في صحيح البخاري عن أبي بكرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن بن علي: إن ابني
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 509 - 510.
والترمذي في التفسير - تفسير سورة القدر.
الحديث (3350) ص (5 / 444).

هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين * فكان هذا في هذا العام، ولله الحمد والمنة.
واستمر الامر في أيدي بني أمية من هذه السنة إلى سنة ثنتين وثلاثين ومائة، حتى انتقل إلى بني العباس كما سنذكره، ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة، وهذا لا يطابق ألف شهر،
لان معدل ألف شهر ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فإن قال: أنا أخرج منها ولاية ابن الزبير وكانت تسع سنين، فحينئذ يبقى ثلاث وثمانون سنة، فالجواب أنه وإن خرجت ولاية ابن الزبير، فإنه لا يكون ما بقي مطابقا لالف شهر تحديدا، بحيث لا ينقص يوما ولا يزيده، كما قاله، بل يكون ذلك تقريبا، هذا وجه، الثاني أن ولاية ابن الزبير كانت بالحجاز والاهواز والعراق في بعض أيامه، وفي مصر في قول، ولم تنسلب يد بني أمية من الشام أصلا، ولا زالت دولتهم بالكلية في ذلك الحين، الثالث أن هذا يقتضي دخول دولة عمر بن عبد العزيز في حساب بني أمية، ومقتضى ما ذكره أن تكون دولته مذمومة، وهذا لا يقوله أحد من أئمة الاسلام، وإنهم مصرحون بأنه أحد الخلفاء الراشدين، حتى قرنوا أيامه تابعة لايام الاربعة، وحتى اختلفوا في أيهما أفضل ؟ هو أو معاوية بن أبي سفيان أحد الصحابة، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أرى قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز، فإذا علم هذا، فإن أخرج أيامه من حسابه إنحرم حسابه، وإن أدخلها فيه مذمومة، خالف الائمة، وهذا مالا محيد عنه * وكل هذا مما يدل على نكارة هذا الحديث والله أعلم * وقال نعيم بن حماد: حدثنا سفيان عن العلاء بن أبي العباس، سمع أبا الطفيل، سمع عليا يقول: لا يزال هذا الامر في بني أمية ما لم يختلفوا بينهم * حدثنا ابن وهب عن حرملة بن عمران عن سعد بن سالم عن أبي سالم الجيشاني سمع عليا يقول: الامر لهم حتى يقتلوا قتيلهم، ويتنافسوا بينهم، فإذا كان ذلك بعث الله عليهم أقواما من المشرق يقتلوهم بددا ويحصروهم عددا، والله لا يملكون سنة إلا ملكنا سنتين، ولا يملكون سنتين إلا ملكنا أربعا * وقال نعيم بن حماد: حدثنا الوليد بن مسلم عن حصين بن الوليد عن الزهري بن الوليد سمعت أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما، ما لم تزل طاعة يستخف بها، ودوم مسفوك بغير حق - يعني الوليد بن يزيد - ومثل هذه الاشياء إنما تقال عن توقيف.
الاخبار عن دولة بني العباس وكان ظهورهم من خراسان في سنة ثنتين وثلاثين ومائة
قال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني أبو عبد الله عن الوليد بن هشام المعيطي عن أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال، قدم عبد الله بن عباس على معاوية وأنا حاضر، فأجازه فأحسن جائزته.
ثم قال: يا أبا العباس هل [ تكون ] لكم دولة ؟ فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال: لتخبرني، قال: نعم، فاخبره،

قال: فمن أنصاركم ؟ قال: أهل خراسان، ولبني أمية من بني هاشم بطحات (1) * رواه البيهقي، وقال ابن عدي: سمعت ابن حماد، أنا محمد بن عبده بن حرب، ثنا سويد بن سعيد، أنا حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا معه جبريل، وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه لوسخ الثياب وسيلبس ولده من بعده السواد، وذكر تمام الحديث في ذهاب بصره، ثم عوده إليه قبل موته (2) * قال البيهقي: تفرد به حجاج بن تميم وليس بالقوي * وقال البيهقي: أنا الحاكم، ثنا أبو بكر بن إسحاق وأبو بكر بن بالويه (3) في آخرين قالوا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا يحيى بن معين، ثنا عبيد الله بن أبي قرة، ثنا الليث بن سعيد عن أبي قبيل (4) عن أبي ميسرة مولى العباس قال: سمعت العباس قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: انظر هل ترى في السماء من شئ ؟ قلت: نعم، قال: ما ترى ؟ قلت: الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه الامة بعددها من صلبك * قال البخاري: عبيد بن أبي قرة بغدادي سمع الليث، لا يتابع على حديثه في قصة العباس * وروى البيهقي من حديث محمد بن عبد الرحمن العامري - وهو ضعيف - عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: فيكم النبوة وفيكم الملك (5) * وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار عن أبي معبد قال: قال ابن عباس: كما فتح الله بأولنا فأرجو أن يختمه بنا * هذا إسناد جيد، وهو موقوف على ابن عباس من كلامه * وقال يعقوب بن سفيان: حدثني إبراهيم بن أيوب، ثنا الوليد، ثنا عبد الملك بن حميد [ بن أبي غنية ] (6) عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس ونحن نقول: إثنا عشر
أميرا وإثنا عشر، ثم هي الساعة، فقال ابن عباس: ما أحمقكم ؟ ! إن منا أهل البيت بعد ذلك، المنصور، والسفاح، والمهدي، يرفعها إلى عيسى بن مريم (7) * وهذا أيضا موقوف، وقد رواه البيهقي من طريق الاعمش عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: منا السفاح، والمنصور، والمهدي.
وهذا إسناد ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس شيئا على الصحيح، فهو منقطع والله أعلم * وقد قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتتل عند كنزكم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفة، لا يصير
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 6 / 513.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 518.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: بالونة تحريف.
(4) من الدلائل 6 / 518 وفي الاصل: فضيل.
(5) رواه البيهقي في الدلائل ج 6 / 518.
(6) في نسخ البداية المطبوعة: عن أبي عتبة.
تحريف (7) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 514.

إلى واحد منهم، ثم تقبل الرايات السود من خراسان فيقتلونهم مقتلة لم يروا مثلها، ثم يجئ خليفة الله المهدي، فإذا سمعتم فأتوه فبايعوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي (1) * أخرجه ابن ماجه عن أحمد بن يوسف السلمي، ومحمد بن يحيى الذهلي، كلاهما عن عبد الرزاق به، ورواه البيهقي من طرق عن عبد الرزاق، ثم قال: تفرد به عبد الرزاق، قال البيهقي: ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء موقوفا * ثم قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن غالب، ثنا كثير بن يحيى، ثنا شريك، عن علي بن زيد، عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبلت الرايات السود من عقب خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج، فإن فيها خليفة
الله المهدي (2) * وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، ثنا عبد الله بن داهر الرازي، ثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتية من بني هاشم، فأغرورقت عيناه، وذكر الرايات، قال: فمن أدركها فليأتها ولو حبوا على الثلج * ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الحكم إلا ابن أبي ليلى، ولا نعلم يروى إلا من حديث داهر بن يحيى، وهو من أهل الرأي صالح الحديث، وإنما يعرف من حديث يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم * وقال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو هشام بن يزيد بن رفاعة، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجئ رايات سود من قبل المشرق، تخوض الخيل الدم إلى أن يظهروا العدل ويطلبون العدل فلا يعطونه، فيظهرون فيطلب منهم العدل فلا يعطونه * وهذا إسناد حسن * وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا رشدين بن سعد، قال يحيى بن غيلان في حديثه قال: حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن قبيصة - هو ابن ذؤيب الخزاعي - عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يخرج من خراسان رايات سود لا يردها شئ حتى تنصب بأيليا (3) * وقد رواه الترمذي عن قتيبة به وقال: غريب، ورواه
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في الفتن ح 4084 ص 2 / 1367 وفي زوائده: هذا اسناد صحيح.
رجاله ثقات.
ورواه الحاكم في المستدرك وقال: " صحيح على شرط الشيخين " ورواه البيهقي في الدلائل 6 / 515.
(2) دلائل النبوة 6 / 516.
وأبو قلابة اسمه: عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي الضرير.
قال الدار قطني: " صدوق كثير الخطأ ".
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 365 ورواه الترمذي في الفتن 4 / 531، والبيهقي في الدلائل 6 / 516.
وفيه رشدين بن سعد المصري المهري، وقالوا فيه.
قال ابن معين: ليس بشئ، وقال أبو زرعة: " ضعيف ".
وقال النسائي: " متروك " وقال ابن حبان: " يقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه " وقال أحمد: " لا يبالي عمن روى ".
الضعفاء الكبير للعقيلي (2 / 66) المجروحين لابن حبان (1 / 303) الميزان للذهبي (2 / 49).

البيهقي والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود عن رشدين بن سعد، وقال البيهقي: تفرد به رشدين بن سعد، وقد روي قريب من هذا عن كعب الاحبار ولعله أشبه والله أعلم * ثم روى من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد (1) عن أبي المغيرة عبد القدوس عن إسماعيل بن عياش عمن حدثه عن كعب الاحبار قال: تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا بالشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وكل عدو لهم * وقال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير عن الاعمش عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج عند إنقطاع من الزمان، وظهور من الفتن، رجل يقال له السفاح، فيكون إعطاؤه المال حثوا (2) * ورواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم، عن أحمد بن عبد الصمد عن أبي عوانة (3) عن الاعمش به، وقال فيه يخرج رجل من أهل بيتي يقال له السفاح، فذكره، وهذا الاسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه * فهذه الاخبار في خروج الرايات السود من خراسان وفي ولاية السفاح وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وقد وقعت ولايته في حدود سنة ثلاثين ومائة، ثم ظهر بأعوانه ومعهم الرايات السود، وشعارهم السواد، كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المغفر وفوقه عمامة سوداء، ثم بعث عمه عبد الله لقتال بني أمية، فكسرهم في سنة إثنتين وثلاثين ومائة، وهرب من المعركة آخر خلفائهم، وهو مروان بن محمد بن مروان ويلقب بمروان الحمار، ويقال له مروان الجعدي، لاشتغاله على الجعد بن درهم فيما قيل، ودخل عمه دمشق واستحوذ على ما كان لبني أمية من الملك والاملاك والاموال، وجرت خطوب كثيرة سنوردها مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى * وقد ورد عن جماعة من السلف في ذكر الرايات السود التي تخرج من خراسان بما يطول ذكره، وقد استقصى ذلك نعيم بن حماد في كتابه، وفي بعض الروايات ما يدل على أنه لم يقع أمرها بعد، وأن ذلك يكون في آخر الزمان، كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان * وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تكون الدنيا للكع بن لكع، قال أبو
معمر: هو أبو مسلم الخراساني - يعني الذي أقام دولة بني العباس - والمقصود أنه تحولت الدولة من بني أمية إلى بني العباس في هذه السنة، وكان أول قائم منهم أبو العباس السفاح، ثم أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور باني مدينة السلام، ثم من بعده ابنه المهدي محمد بن عبد الله، ثم من بعده ابنه الهادي، ثم ابنه الآخر هارون الرشيد، ثم انتشرت الخلافة في ذريته على ما سنفصله إذا وصلنا إلى تلك الايام * وقد نطقت هذه الاحاديث التي أوردناها آنفا بالسفاح والمنصور والمهدي، ولا شك أن المهدي الذي هو ابن المنصور ثالث خلفاء بني العباس، ليس هو المهدي الذي وردت
__________
(1) في البيهقي 6 / 517: حدثنا محدث.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 3 / 80 والبيهقي في الدلائل 6 / 514.
(3) في الدلائل: عن أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية عن الاعمش.

الاحاديث المستفيضة بذكره، وأنه يكون في آخر الزمان، يملا الارض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، وقد أفردنا للاحاديث الواردة فيه جزءا على حدة، كما أفرده له أبو داود كتابا في سننه، وقد تقدم في بعض هذه الاحاديث آنفا أنه يسلم الخلافة إلى عيسى بن مريم إذا نزل إلى الارض، والله أعلم * وأما السفاح فقد تقدم أنه يكون في آخر الزمان، فيبعد أن يكون هو الذي بويع أول خلفاء بني العباس فقد يكون خليفة آخر، وهذا هو الظاهر، فإنه قد روى نعيم بن حماد عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن عمرو المعافري من قدوم الحميري سمع نفيع بن عامر يقول: يعيش السفاح أربعين سنة اسمه في التوراة طائر السماء قلت: وقد تكون صفة للمهدي الذي يظهر في آخر الزمان لكثرة ما يسفح أي يريق من الدماء لاقامة العدل، ونشر القسط، وتكون الرايات السود المذكورة في هذه الاحاديث إن صحت هي التي تكون مع المهدي، ويكون أول ظهور بيعته بمكة، ثم تكون أنصاره من خراسان، كما وقع قديما للسفاح، والله تعالى أعلم * هذا كله تفريع على صحة هذه الاحاديث، وإلا فلا يخلو سند منها عن كلام، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
الاخبار عن الائمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرا وليس له وجود، ولا عين، ولا أثر، بل هؤلاء من الائمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الائمة الاربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الائمة على كلا القولين لاهل السنة في تفسير الاثني عشر كما سنذكره بعد إيراد الحديث.
ثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة، كلاهما عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون إثنا عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أسمعها، فقلت لابي: ما قال ؟ قال: قال كلهم من قريش (1) * وقال أبو نعيم بن حماد في كتاب الفتن والملاحم: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي من الخلفاء عدة أصحاب موسى * وقد روي مثل هذا عن عبد الله بن عمر وحذيفة وابن عباس وكعب الاحبار من قولهم، وقال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول لا يزال هذا الامر قائما
__________
(1) أخرجه البخاري في الاحكام باب (51).
ومسلم في الامارة، باب (1) ص (1452).

حتى يكون عليهم إثنا عشر خليفة أو أميرا كلهم يجتمع عليهم الامة، وسمعت كلاما من النبي صلى الله عليه وسلم لم أفهمه، فقلت لابي: ما يقول ؟ قال: يقول: كلهم من قريش (1) * وقال أبو داود أيضا: حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا زياد بن خيثمة، حدثنا الاسود بن سعيد الهمداني عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال هذه الامة مستقيما أمرها، ظاهرة على عدوها، حتى يمضي إثنا عشرة خليفة كلهم من قريش، قال: فلما رجع إلى منزله أتته قريش
فقالوا: ثم يكون ماذا ؟ قال: ثم يكون الهرج (2) * قال البيهقي: ففي الرواية الاولى بيان العدد، وفي الثانية بيان المراد بالعدد، وفي الثالثة بيان وقوع الهرج وهو القتل بعدهم، وقد وجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقع الهرج والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهر ملك العباسية، كما أشار إليه في الباب قبله، وإنما يزيدون على العدد المذكور في الخبر، إذا تركت الصفة المذكورة فيه أو عد منهم من كان بعد الهرج المذكور فيه * وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من الناس إثنان.
ثم ساقه من حديث عاصم بن محمد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره * وفي صحيح البخاري (3): من طريق الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الامر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين * قال البيهقي: أي أقاموا معالمه وإن قصروا هم في أعمال أنفسهم، ثم ساق أحاديث بقية ما ذكره في هذا والله أعلم * فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة، من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر المذكورين في هذا الحديث هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد فإنه مسلك فيه نظر، وبيان ذلك أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن اليزيد هذا أكثر من إثني عشر على كل تقدير، وبرهانه أن الخلفاء الاربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، خلافتهم محققة بنص حديث سفينة: الخلافة بعدي ثلاثون سنة * ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع، لان علينا أوصى إليه، وبايعه أهل العراق، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام حتى اصطلح هو ومعاوية، كما دل عليه حديث أبي بكرة في صحيح البخاري، ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فإن اعتبرنا ولاية
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن - كتاب المهدي - ح 4279 ص (4 / 106) نقله عنه البيهقي في الدلائل 6 / 519 - 520.
(2) سنن أبي داود - كتاب المهدي - ح 4280 - 4281 وأخرجه الامام أحمد في مسنده 5 / 92 والبيهقي في الدلائل 6 / 520.
(3) في كتاب الاحكام - ح (7139) فتح الباري 13 / 113.

الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، وعلى كل تقدير فهم إثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز، الذي أطبق الائمة على شكره وعلى مدحه، وعدوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبة على عدله، وأن أيامه كانت من أعدل الايام حتى الرافضة يعترفون بذلك، فإن قال: أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الامة عليه، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالب ولا ابنه، لان الناس لم يجتمعوا عليهما وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما، وعد حبيب معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير، كأن الامة لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عادا للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام فهؤلاء عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك، لانه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة بل والشيعة، ثم هو خلاف ما دل عليه نصا حديث سفينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا * وقد ذكر سفينة تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الاربعة، وقد بينا دخول خلافة الحسن وكانت نحوا من ستة أشهر فيها أيضا، ثم صار الملك إلى معاوية لما سلم الامر إليه الحسن بن علي، وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أن الخلافة قد انقطعت بعد الثلاثين سنة لا مطلقا، بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك، كما دل عليه حديث جابر بن سمرة * وقال نعيم بن حماد: حدثنا راشد بن سعد عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حذيفة بن اليمان قال: يكون بعد عثمان
إثنا عشر ملكا من بني أمية، قيل له: خلفاء ؟ قال: لا بل ملوك.
وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن [ ابن أبي صغيرة ] (1) عن أبي بحر قال: كان أبو الجلد جارا لي، فسمعته يقول - يحلف عليه - إن هذه الامة لن تهلك حتى يكون فيها إثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلا من أهل البيت، أحدهما يعيش أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة * ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الرد، وهذا عجيب منه، وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا وقد كان ينظر في شئ من الكتب المتقدمة، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: إن الله تعالى بشر إبراهيم بإسماعيل، وإنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيما * قال شيخنا العلامة أبو العباس بن تيمية: وهؤلاء المبشر بهم في حديث جابر بن سمرة، وقرر أنهم يكونون مفرقين في الامة، ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا، وغلط كثير ممن تشرف بالاسلام من اليهود فظنوا أنهم الذين تدعو إليهم فرقة الرافضة فاتبعوهم * وقد قال
__________
(1) في الاصل حاتم بن صفرة، وما أثبتناه من الدلائل 6 / 523 وهو أبو يونس البصري، وأبو صغيرة اسمه مسلم، وهو جده لامه وقيل زوج أمه، ثقة، من السادسة (تقريب التهذيب 1 / 137).

نعيم بن حماد: حدثنا ضمرة عن ابن شوذب عن أبي المنهال * عن أبي زياد عن كعب قال: إن الله وهب لاسماعيل من صلبه إثني عشر قيما، أفضلهم أبو بكر وعمر وعثمان * وقال نعيم: حدثنا ضمرة عن ابن شوذب عن يحيى بن عمرو الشيباني قال: ليس من الخلفاء من لم يملك المسجدين المسجد الحرام والمسجد الاقصى.
الاخبار عن أمور وقعت في دولة بني العباس فمن ذلك: حدثنا أبو جعفر عبد الله ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس الخليفة بعد أخيه الخليفة السفاح وهو المنصور الباني لمدينة بغداد، في سنة خمس وأربعين ومائة * قال نعيم بن حماد في كتابه: عن أبي المغيرة، عن أرطأة بن المنذر عمن حدثه عن ابن عباس أنه أتاه رجل وعنده حذيفة فقال: يا ابن عباس قوله حمعسق.
فأطرق ساعة وأعرض عنه، ثم كررها فلم يجبه
بشئ، فقال له حذيفة: أن أنبئك، وقد عرفت لم كررها، إنما نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الاله، أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا، يجتمع فيهما كل جبار عنيد * وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجد الحوطي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عبد الله بن السمط، حدثنا صالح بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لان يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب، خير من أن يربي ولدا لصلبه * قال شيخنا الذهبي: هذا الحديث موضوع، واتهم به عبد الله بن السمط هذا * وقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، في كتابه الفتن والملاحم: حدثنا أبو عمرو البصري عن أبي بيان المعافري عن بديع عن كعب قال: إذا كانت سنة ستين ومائة انتقص فيها حلم ذوي الاحلام، ورأي ذوي الرأي.
حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الامام روى الترمذي من حديث ابن عيينة، عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن أبي صالح عن أبي هريرة رواية: يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة * ثم قال: هذا حديث حسن وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عنه أنه قال: هو مالك بن أنس، وكذا قال عبد الرزاق، قلت: وقد توفي مالك رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائة.

حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشافعي قال أبو داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن سليمان، عن النضر بن معبد الكندي أو العبدلي عن الجارود، عن أبي الاحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملا الارض علما، اللهم إنك أذقت أولها وبالا، فأذق آخرها نوالا * وقد رواه الحاكم من طريق
أبي هريرة، قال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: وهو الشافعي، قلت، وقد توفي الشافعي رحمه الله في سنة أربع ومائتين وقد أفردنا ترجمته في مجلد وذكرناه معه تراجم أصحابه من بعده.
حديث آخر روى رواد بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي عن حذيفة مرفوعا: خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ، قالوا: وما خفيف الحاذ يا رسول الله ؟ قال: من لا أهل له ولا مال ولا ولد.
حديث آخر قال ابن ماجه: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا عون بن عمارة، حدثني عبد الله بن المثنى، ثنا ثمامة (1) بن عبد الله بن أنس بن مالك عن أبيه عن جده أنس بن مالك عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآيات بعد المائتين (2) * وحدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا نوح بن قيس، حدثنا عبد الله بن مغفل، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمتي على خمس طبقات، فأربعون ستة أهل بر وتقوى، ثم الذين يلونهم إلى عشرين ومائة سنة أهل تراحم وتواصل، ثم الذين يلونهم إلى ستين ومائة، أهل تدابر وتقاطع.
ثم الهرج الهرج النجاء النجاء (3) * وحدثنا نصر بن علي، حدثنا حازم أبو محمد العنزي، حدثنا
__________
(1) في ابن ماجة عبد الله بن المثنى بن ثمامة بن عبد الله بن أنس.
وفي التقريب عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الانصاري أبو المثنى البصري صدوق كثير الخطأ من السادسة.
ولم أجد فيه عبد الله بن المثنى ابن ثمامة.
(2) أخرجه ابن ماجة في الفتن ح (4057) ص (2 / 1348).
وقال في زوائده: في اسناده عون بن عمارة العبدي وهو ضعيف.
وقال السيوطي: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات.
وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح.
وتعقبه الذهبي في تلخيصه فقال: عون ضعفوه.
(3) المصدر السابق: ح 4058.
وفي زوائده: في اسناده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف.

المسور بن الحسن عن أبي معن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمتي على خمس طبقات: كل طبقة أربعون عاما، فأما طبقتي وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان، وأما الطبقة الثانية، ما بين الاربعين إلى الثمانين، فأهل بر وتقوى، ثم ذكره نحوه (1).
هذا لفظه وهو حديث غريب من هذين الوجهين، ولا يخلو عن نكارة والله أعلم * وقد قال الامام أحمد: ثنا وكيع عن الاعمش، حدثنا هلال بن بيان، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم يتسمنون يحبون السمن يعطون الشهادة قبل أن يسألوها (2) * ورواه الترمذي من طريق الاعمش، وقد رواه البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي جمرة عن زهدم بن مضرب سمعت عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن (3)، لفظ البخاري وقال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم يسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار (4) * وقد رواه بقية الجماعة إلا أبا دواد من طرق متعددة عن منصور به.
حديث آخر قال نعيم بن حماد: حدثنا أبو عمرو البصري، عن ابن لهيعة، عن عبد الوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت البناني، عن أبيه عن الحرث الهمداني، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السابع من ولد العباس يدعو الناس إلى الكفر فلا يجيبونه، فيقول له أهل بيته: تريد أن تخرجنا من معايشنا ؟ فيقول: إني أسير فيكم بسيرة أبي بكر وعمر، فيأبون عليه فيقتله عدو له من أهل بيته من بني هاشم، فإذا وثب عليه أختلفوا فيما بينهم فذكر إختلافا طويلا إلى خروج السفياني * وهذا الحديث ينطبق على عبد الله المأمون الذي دعا الناس إلى القول بخلق القرآن،
ووقى الله شرها، كما سنورد ذلك في موضعه، والسفياني رجل يكون آخر الزمان منسوب إلى أبي سفيان يكون من سلالته، وسيأتي في آخر كتاب الملاحم.
__________
(1) المصدر السابق: ح (4059).
في اسناده ضعف، أبو معن والمسور بن الحسن وخازم مجهولون.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 378، 426، 434، 442 - 4 / 277.
(3) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ح (3650) فتح الباري 7 / 3 ومسلم في فضائل الصحابة باب (52) ح (214) ص (4 / 1964).
(4) المصدر السابق فتح الباري 7 / 3 ح 3651.

حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا ليث عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه سمعت أبا ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول وهو بالفسطاط في خلافة معاوية وكان معاوية اغزى الناس القسطنطينية فقال: والله لا تعجز هذه الامة من نصف يوم إذا رأيت الشام مائدة رجل واحد وأهل بيته فعند ذلك فتح القسطنطينية (1) * هكذا رواه أحمد موقوفا على أبي ثعلبة، وقد أخرجه أبي داود في سننه من حديث ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يعجز الله هذه الامة من نصف يوم (2) * تفرد به أبو داود ثم قال أبو داود: ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبو المغيرة حدثني صفوان، عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني لارجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: وكم نصف يوم ؟ قال: خمسمائة سنة (3) * تفرد به أبو داود وإسناده جيد، وهذا من دلائل النبوة، فإن هذا يقتضي وقوع تأخير الامة نصف يوم وهو خمسمائة سنة كما فسره الصحابي، وهو مأخوذ من قوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * ثم هذا الاخبار بوقوع هذه المدة لا ينفي وقوع ما زاده عليها، فأما ما يذكره كثير من الناس من أنه عليه السلام لا يؤلف في قبره، بمعنى لا يمضي عليه ألف سنة من
يوم مات إلى حين تقام الساعة، فإنه حديث لا أصل له في شئ من كتب الاسلام والله اعلم * حديث آخر فيه الاخبار عن ظهور النار التي كانت بأرض الحجاز حتى أضاءت لها أعناق الابل ببصرى، وقد وقع هذا في سنة أربع وخمسين وستمائة.
قال البخاري في صحيحه: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن الزهري قال: قال سعيد بن المسيب: أخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ لها أعناق الابل ببصرى " (4) تفرد به البخاري، وقد ذكر أهل التاريخ وغيرهم من الناس، وتواتر وقوع هذا في سنة أربع وخمسين وستمائة، قال الشيخ الامام الحافظ شيخ الحديث وإمام المؤرخين في زمانه، شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الملقب بأبي شامة في تاريخه: إنها ظهرت يوم الجمعة في خامس جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وأنها استمرت شهرا
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 193.
(2) أخرجه أبو داود في الملاحم - ح 4339 ج 4 / 125.
(3) المصدر السابق ح: (4350).
(4) أخرجه البخاري في الفتن - (24) باب.
ح (7118) فتح الباري 13 / 78.

وأزيد منه، وذكر كتبا متواترة عن أهل المدينة، في كيفية ظهورها شرق المدينة من ناحية وادي شظا، تلقاء أحد، وأنها ملات تلك الاودية، وأنه يخرج منها شرر يأكل الحجاز، وذكر أن المدينة زلزلت بسببها، وأنهم سمعوا أصوات مزعجة قبل ظهورها بخمسة أيام، أول ذلك مستهل الشهر يوم الاثنين (1)، فلم تزل ليلا ونهارا حتى ظهرت يوم الجمعة فانبجست تلك الارض عند وادي شظا عن نار عظيمة جدا صارت مثل طوله أربعة فراسخ في عرض أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، يسيل الصخر حتى يبقى مثل الآنك، ثم يصير كالفحم الاسود، وذكر أن ضوءها يمتد إلى تيماء بحيث كتب الناس على ضوئها في الليل، وكأن في بيت كل منهم مصباحا، ورأى الناس
سناها من مكة شرفها الله، قلت: وأما بصرى فأخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي قاسم التيمي الحنفي قال: أخبرني والدي، وهو الشيخ صفي الدين أحمد مدرسي بصرى، أنه أخبره غير واحد من الاعراب صبيحة تلك الليلة من كان بحاضرة بلد بصرى، أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز، وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أن أهل المدينة لجأوا في هذه الايام إلى المسجد النبوي، وتابوا إلى الله من ذنوب كانوا عليها، واستغفروا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مما سلف منهم وأعتقوا الغلمان، وتصدقوا على فقرائهم ومجاريحهم وقد قال قائلهم في ذلك: يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا * فقد أحاطت بنا يا رب بأساء نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها * حملا ونحن بها حقا أحقاء زلازل تخشع الصم الصلاد لها * وكيف تقوى على الزلزال صماء أقام سبعا يرج الارض فانصدعت * عن منظر منه عين الشمس عشواء بحر من النار تجري فوقه سفن * من الهضاب لها في الارض إرساء يرى لها شرر كالقصر طائشة * كأنها ديمة تنصب هطلاء تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت * رعبا وترعد مثل الشهب أضواء منها تكاثف في الجو الدخان إلى * أن عادت الشمس منها وهي دهماء قد أثرت سعفة في البدر لفحتها * فليلة التم بعد النور ليلاء فيالها آية من معجزات رسو * ل الله يعقلها القوم الالباء ومما قيل من هذه النار مع غرق بغداد في هذه السنة: سبحان من أصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقدار
__________
(1) ذكر القرطبي في التذكرة: قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الاربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة.

أغرق بغداد بالمياه كما * أحرق أرض الحجاز بالنار حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أبو عامر، ثنا أفلح بن سعيد الانصاري، شيخ من أهل قبا من الانصار، حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طالت بكم مدة أوشك أن تروا قوما يغدون في سخط الله ويروحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر (1)، ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن زيد بن الخباب، عن أفلح بن سعيد به، وروى مسلم أيضا عن زهير بن حرب، عن جرير، عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات.
رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا (2)، وهذان الصنفان وهما الجلادون الذين يسمون بالرجالة، والجاندارية، كثيرون في زماننا هذا ومن قبله وقبل قبله بدهر، والنساء الكاسيات العاريات أي عليهن لبس لا يواري سوأتهن، بل هو زيادة في العورة، وأبداء للزينة، مائلات في مشيهن مميلات غيرهن إليهن، وقد عم البلاء بهن في زماننا هذا، ومن قبله أيضا، وهذ من أكبر دلالات النبوة إذ وقع الامر في الخارج طبق ما أخبر به عليه السلام، وقد تقدم حديث جابر: أما إنها ستكون لكم أنماط، وذكر تمام الحديث في وقوع ذلك وإحتجاج امرأته عليه بهذا.
حديث آخر روى الامام أحمد: عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن داود بن أبي هند، وأخرجه البيهقي من حديثه عن أبي حرب بن أبي الاسود الدؤلي عن طلحة بن عمرو البصري: أنه قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يصلي إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر وتحرقت عنا الخنف (3)، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد رأيتني وصاحبي وما لنا طعام
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2 / 323 وأخرجه مسلم في الفتن، (13) باب.
ح 53 ص 4 / 2193.
(2) أخرجه مسلم في الفتن، (13) باب.
ح (52) ص 4 / 2192.
- البخت: في اللسان دخيل في العربية أعجمي معرب، وهي الابل الخراسانية.
والمراد بالتشبيه رؤوسهن كأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن وجمع عقائصها هناك وتكثرها حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس كما يميل السنام.
(3) من المسند ودلائل البيهقي، وفي الاصل الحيف تحريف.

غير البرير (1) حتى أتينا إخواننا من الانصار فآسونا من طعامهم وكان طعامهم التمر، والذي لا إله إلا هو لو قدرت لكم على الخبر والتمر لاطعمتكموه، وسيأتي عليكم زمان أو من أدركه منكم يلبسون مثل أستار الكعبة، ويغدي ويراح عليكم بالجفان، قالوا: يا رسول الله أنحن يومئذ خير أم اليوم ؟ قال: بل أنتم اليوم خير، أنتم اليوم إخوان، وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض (2)، وقد روى سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن أبي موسى يحنس (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مشت أمتي المطيطا (4) وخدمتهم فارس والروم، سلط الله بعضهم على بعض (5) * وقد أسنده البيهقي من طريق موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث آخر قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، ثنا ابن وهب، ثنا سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها * قال أبو داود: عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني لم يحدثه شراحيل (6) * تفرد به أبو داود، وقد ذكر كل طائفة من العلماء في رأس كل مائة سنة عالما من علمائهم ينزلون هذا الحديث عليه، وقال طائفة من العلماء هل الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد فرد من آحاد العلماء من هذه الاعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف كما جاء في الحديث من طرق مرسلة
وغير مرسلة: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وإنتحال المبطلين * وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا هذا، ونحن في القرن الثامن، والله المسئول أن يختم لنا بخير وأن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن ورثة جنة النعيم آمين آمين يا رب العالمين * وسيأتي الحديث المخرج من الصحيح: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك * وفي صحيح البخاري وهم بالشام وقد قال كثير من علماء السلف: أنهم أهل الحديث وهذا أيضا من دلائل النبوة فإن أهل الحديث بالشام
__________
(1) البرير: تمر الاراك.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 487 والبيهقي في الدلائل 6 / 524.
ونقله ابن حجر في الاصابة 2 / 231 عن الطبراني وابن حبان والحاكم.
(3) من الدلائل، وفي الاصل بحلس تحريف.
وهو يحنس بن عبد الله أبو موسى مولى آل الزبير مقرئ ثقة من الثالثة (تقريب التهذيب 2 / 241).
(4) المطيطاء: مشية التبختر والخيلاء والعجب.
(5) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 525، وأخرجه الترمذي في الفتن 4 / 526.
(6) أخرجه أبو داود في الملاحم، ح (4291) ص 4 / 109.

أكثر من سائر أقاليم الاسلام، ولله الحمد، ولا سيما بمدينة دمشق حماها الله وصانها، كما ورد في الحديث الذي سنذكره أنها تكون معقل المسلمين عند وقوع الفتن، وفي صحيح مسلم: عن النواس بن سمعان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن عيسى بن مريم أنه ينزل من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق ولعل أصل لفظ الحديث على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق وقد بلغني أنه كذلك في بعض الاجزاء ولم أقف عليه إلى الآن والله الميسر، وقد جددت هذه المنارة البيضاء الشرقية بجامع دمشق بعد ما أحرقها النصارى من أيامنا هذه بعد سنة أربعين وسبعمائة فأقاموها من أموال النصارى مقاصة على ما فعلوا من العدوان وفي هذا حكمة عظيمة وهو أن ينزل على هذه
المبنية من أموالهم عيسى بن مريم نبي الله فيكذبهم فيما افتروه عليه من الكذب عليه وعلى الله ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية أي يتركها ولا يقبل من أحد منهم ولا من غيرهم إلا الاسلام، يعني أو يقتله وقد أخبر بهذا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرره عليه وسوغه له صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان.
باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الانبياء قبله، وأعلى منها، خارجة عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لاحد قبله منهم عليهم السلام.
فمن ذلك القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فإنه معجزة مستمرة على الآباد، ولا يخفى برهانها، ولا يتفحص مثلها، وقد تحدى به الثقلين من الجن والانس على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك كما تقدم تقرير ذلك في أول كتاب المعجزات، وقد سبق الحديث المتفق على إخراجه في الصحيحين من حديث الليث بن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة * والمعنى أن كل نبي أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولى البصائر والنهى، لا من أهل العناد والشقاء، وإنما كان الذي أوتيته، أي جله وأعظمه وأبهره، القرآن الذي أوحاه الله إلي، فإنه لا يبيد ولا يذهب كما ذهبت معجزات الانبياء وانقضت بإنقضاء أيامهم، فلا تشاهد، بل يخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنه معجزة متواترة عنه، مستمرة دائمة البقاء بعده، مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد * وقد تقدم في الخصائص ذكر ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بقية إخوانه من الانبياء عليهم السلام، كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، فأينما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت
لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس

عامة * وقد تكلمنا على ذلك وما شاكله فيما سلف بما أغنى عن إعادته ولله الحمد.
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن كل معجزة [ لنبي ] من الانبياء فهي معجزة لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن كلا منهم بشر بمبعثه، وأمر بمتابعته، كما قال تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) * [ آل عمران: 81 ] وقد ذكر البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما بعث الله نبي من الانبياء إلا أخذ عليه العهد والميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وليتبعنه ولينصرنه * وذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الاولياء معجزات للانبياء، لان الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه، وثواب إيمانه * والمقصود أنه كان الباعث لي على عقد هذا الباب أني وقفت على مولد اختصره من سيرة الامام محمد بن إسحاق بن يسار وغيرهما شيخنا الامام العلامة شيخ الاسلام كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي الانصاري السماكي، نسبه إلى أبي دجانة الانصاري سماك بن حرب بن حرشة الاوسي، رضي الله عنه، شيخ الشافعية في زمانه بلا مدافعة، المعروف بابن الزملكاني عليه رحمة الله، وقد ذكر في أواخره شيئا من فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقد فصلا في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة، ونبه على فوائد جمة، وفوائد مهمة، وترك أشياء أخرى حسنة، ذكرها غيره من الائمة المتقدمين، ولم أره استوعب الكلام إلى آخره، فأما أنه قد سقط من خطه، أو أنه لم يكمل تصنيفه، فسألني بعض أهله من أصحابنا ممن تتأكد أجابته، وتكرر ذلك منه، في تكميله وتبويبه وترتيبه، وتهذيبه، والزيادة عليه والاضافة إليه، فاستخرت الله حينا من الدهر، ثم نشطت لذلك ابتغاء الثواب والاجر، وقد كنت سمعت من شيخنا الامام العلامة الحافظ، أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته، أن أول من تكلم في هذا المقام الامام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وقد روى الحافظ أبو بكر
البيهقي رحمه الله في كتابه دلائل النبوة، عن شيخه الحاكم أبي عبد الله، أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي عن أبيه، قال عمرو بن سواد (1): قال الشافعي: مثل ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين بني له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك (2)، هذا لفظه رضي الله عنه * والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب، البينة على ما أعطى الله أنبياءه عليهم السلام من الآيات البينات، والخوارق القاطعات، والحجج الواضحات، وأن الله جمع لعبده ورسوله سيد الانبياء وخاتمهم من جميع أنواع المحاسن والآيات،
__________
(1) من دلائل البيهقي، وفي الاصل عمر بن سوار تحريف.
وهو ابن الاسود بن عمرو العامري، أبو محمد البصري، ثقة من الحادية عشرة مات سنة خمس وأربعين (تقريب 2 / 72).
(2) دلائل البيهقي 6 / 68.

مع ما اختصه الله به مما لم يؤت أحدا قبله، كما ذكرنا في خصائصه وشمائله صلى الله عليه وسلم، ووقفت على فصل مليح في هذا المعنى، في كتاب دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم، أحمد بن عبد الله الاصبهاني، وهو كتاب حافل في ثلاث مجلدات، عقد فيه فصلا في هذا المعنى، وكذا ذكر ذلك الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد، في كتابه دلائل النبوة، وهو كتاب كبير جليل حافل، مشتمل على فرائد نفيسة * وكذا الصرصري الشاعر يورد في بعض قصائده أشياء من ذلك كما سيأتي * وها أنا أذكر بعون الله مجامع ما ذكرنا من هذه الاماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصر إشارة، وبالله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
القول فيما أوتي نوح عليه السلام قال الله تعالى: * (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر) * [ القمر: 10 - 17 ]، وقد ذكرت القصة مبسوطة
في أول هذا الكتاب وكيف دعا على قومه فنجاه الله ومن اتبعه من المؤمنين فلم يهلك منهم أحد، وأغرق من خالفه من الكافرين فلم يسلم منهم أحد حتى ولا ولده * قال شيخنا العلامة أبو المعالي محمد بن علي الانصاري الزملكاني، ومن خطه نقلت: وبيان أن كل معجزة لنبي فلنبينا أمثالها، إذا تم يستدعي كلاما طويلا، وتفصيلا لا يسعه مجلدات عديدة، ولكن ننبه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائل معجزات الانبياء عليهم السلام، فمنها نجاة نوح في السفينة بالمؤمنين، ولا شك أن حمل الماء للناس من غير سفينة أعظم من السلوك عليه في السفينة، وقد مشى كثير من الاولياء على متن الماء، وفي قصة العلاء بن زياد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، روى منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين (1)، فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له، فنزلنا منزلا فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلى ركعتين وقال، اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللهم اسقنا غيثا نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لاحد فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلا فإذا نحن بماء حين أقلعت السماء عنه، فتوضأنا منه وتزودنا، وملات إداوتي وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلا ثم قلت لاصاحبي: نسيت إداوتي، فرجعت إلى ذلك المكان فكأنه لم يصبه ماء قط، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم، فقال، يا علي يا حكيم، إنا عبيدك وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا، ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شئ، وذكر بقية القصة، فهذا أبلغ من ركوب السفينة، فإن حمل الماء للسفينة معتاد، وأبلغ من فلق البحر لموسى، فإن هناك انحسر الماء حتى مشوا على
__________
(1) دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند، والنسبة إليها داري.

الارض، فالمعجز إنحسار الماء، وها هنا صار الماء جسدا يمشون عليه كالارض، وإنما هذا منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبركته * انتهى ما ذكره بحروفه فيما يتعلق بنوح عليه السلام، وهذه القصة التي ساقها شيخنا ذكرها الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الدلائل من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا عن أبي كريب عن محمد بن فضيل عن الصلت بن مطر العجلي عن عبد الملك ابن أخت (1) سهم عن
سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره * وقد ذكرها البخاري في التاريخ الكبير من وجه آخر، ورواها البيهقي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان مع العلاء وشاهد ذلك (2)، وساقها البيهقي من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس بن مالك قال: أدركت في هذه الامة ثلاثا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الامم، قلنا: ما هن يا أبا حمزة ؟ قال: كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياما ثم قبض، فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله قال: يا أنس ائت أمه، فأعلمها: فأعلمتها، قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا، وخلعت الاوثان (3)، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله، قال: فو الله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى هلكت أمه، قال أنس: ثم جهز عمر بن الخطاب جيشا واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي، قال أنس: وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا (4) بنا فعفوا آثار الماء، والحر شديد، فجهدنا العطش ودوابنا، وذلك يوم الجمعة، فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مد يده إلى السماء وما نرى في السماء شيئا، قال: فو الله ما حط يده حتى بعث الله ريحا وأنشأ سحابا وأفرغت حتى ملات الغدر والشعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، قال: ثم أتينا عدونا وقد جاوز خليجا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم، يا حليم يا كريم، ثم قال: أجيزوا بسم الله، قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيرا فأصبنا العدو غيلة (5)، فقتلنا وأسرنا وسبينا، ثم أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، ثم ذكر موت العلاء ودفنهم إياه في أرض لا تقبل الموتى، ثم إنهم حفروا عليه لينقلوه منها إلى غيرها فلم يجدوه ثم، وإذا اللحد يتلالا نورا،
__________
(1) في دلائل البيهقي: عبد الملك بن سهم.
(2) الخبر في دلائل النبوة ج 6 / 53.
(3) بعدها في الدلائل: وخلعت الاوثان زهدا، وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الاوثان...(4) في الدلائل: قد نذروا: أي حذروا من قدومنا.
(5) من الدلائل، وفي الاصل: عليه، وهو تحريف.

فأعادوا التراب عليه ثم ارتحلوا (1) * فهذا السياق أتم، وفيه قصة المرأة التي أحيى الله لها ولدها بدعائها، وسننبه على ذلك فيما يتعلق بمعجزات المسيح عيسى بن مريم، مع ما يشابهها إن شاء الله تعالى، كما سنشير إلى قصة العلاء هذه مع ما سنورده معها ههنا، فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام، في قصة فلق البحر لبني إسرائيل، وقد أرشد إلى ذلك شيخنا في عيون كلامه * قصة اخرى تشبه قصة العلاء بن الحضرمي روى البيهقي في الدلائل - وقد تقدم ذلك أيضا - من طريق سليمان بن مروان الاعمش عن بعض أصحابه، قال: انتهينا إلى دجلة وهي مادة، والاعاجم خلفها، فقال رجل من المسلمين: بسم الله، ثم اقتحم بفرسه فارتفع على الماء، فقال الناس: بسم الله، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم الاعاجم وقالوا: ديوان، ديوان - أي مجانين - ثم ذهبوا على وجوههم، قال فما فقد الناس إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم واقتسموا، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء ببيضاء (2) ؟ وقد ذكرنا في السيرة العمرية وأيامها، وفي التفسير أيضا: أن أول من اقتحم دجلة يومئذ أبو عبيدة النفيعي (3) أمير الجيوش في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه ينظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) * [ آل عمران: 145 ] ثم سمى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء واقتحم الجيش وراءه، ولما نظر إليهم الاعاجم يفعلون ذلك جعلوا يقولون: ديوان ديوان: أي مجانين مجانين، ثم ولوا مدبرين فقتلهم المسلمون وغنموا منهم مغانم كثيرة.
قصة أخرى شبيهة بذلك وروى البيهقي من طريق أبي النضر، عن سليمان بن المغيرة: أن أبا مسلم الخولاني جاء
إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه، وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله تعالى ؟ ثم قال: هذا إسناد صحيح (4) * قلت: وقد ذكر الحافظ الكبير، أبو القاسم بن عساكر، في ترجمة أبي عبد الله بن أيوب الخولاني هذه القصة بأبسط من هذه من طريق بقية بن الوليد: حدثني محمد بن زياد، عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا بسم الله، قال ويمر بين أيديهم فيمرون على الماء فما يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، أو في بعض ذلك، أو قريبا من ذلك، قال: وإذا جازوا قال للناس:
__________
(1) روى الخبر البيهقي في الدلائل 6 / 51 - 53.
(2) الخبر في دلائل النبوة ج 6 / 54.
(3) في الطبري: الثقفي وسيرد صحيحا في الصفحة التالية.
(5) أخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 54.

هل ذهب لكم شئ ؟ من ذهب له شئ فأنا ضامن، قال: فألقى مخلاة عمدا، فلما جاوزوا قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر، قال له: اتبعني، فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النهر، فقال: خذها * وقد رواه أبو داود من طريق الاعرابي عنه عن عمرو بن عثمان عن بقية به * ثم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد أن أبا مسلم الخولاني أتى على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فوقف عليها ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثم لهز دابته فخاضت الماء وتبعه الناس حتى قطعوا، ثم قال: هل فقدتم شيئا من متاعكم فأدعو الله أن يرده علي ؟ * وقد رواه ابن عساكر من طريق أخرى عن عبد الكريم بن رشيد عن حميد بن هلال العدوي: حدثني ابن عمي أخي أبي قال: خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لاهل القرية: أين المخاضة ؟ فقالوا: ما كانت ههنا مخاضة ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبيدك وفي سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم، ثم قال: اعبروا بسم الله، قال ابن
عمي: وأنا على فرس فقلت: لادفعنه أول الناس خلف فرسه، قال: فو الله ما بلغ الماء بطون الخيل حتى عبر الناس كلهم، ثم وقف وقال: يا معشر المسلمين، هل ذهب لاحد منكم شئ فأدعو الله تعالى يرده ؟ * فهذه الكرامات لهؤلاء الاولياء، هي معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره، لانهم إنما نالوها ببركة متابعته، ويمن سفارته، إذ فيها حجة في الدين، أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح عليه السلام في مسيره فوق الماء بالسفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى عليه السلام في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك، من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنه ماء جار والسير عليه أعجب من السير على الماء القار الذي يجاز، وإن كان ماء الطوفان أطم وأعظم، فهذه خارق، والخارق لا فرق بين قليله وكثيره، فإن من سلك على وجه الماء الخضم الجاري العجاج فلم يبتل منه نعال خيولهم، أو لم يصل إلى بطونها، فلا فرق في الخارق بين أن يكون قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهرا أو بحرا، بل كونه نهرا عجاجا كالبرق الخاطف والسيل الجاري، أعظم وأغرب، وكذلك بالنسبة إلى فلق البحر، وهو جانب بحر القلزم، حتى صار كل فرق كالطود العظيم، أي الجبل الكبير، فانحاز الماء يمينا وشمالا حتى بدت أرض البحر، وأرسل الله عليها الريح حتى أيبسها، ومشت الخيول عليها بلا إنزعاج، حتى جاوزوا عن آخرهم، وأقبل فرعون بجنوده * (فغشيهم من أليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) * [ طه: 78 ] وذلك أنهم لما توسطوه وهموا بالخروج منه، أمر الله البحر فارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد، كما لم يفقد من بني إسرائيل واحد، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات، كما بسطنا ذلك في التفسير ولله الحمد المنة * والمقصود أن ما ذكرناه من قصة العلاء بن الحضرمي، وأبي عبد الله الثقفي، وأبي مسلم الخولاني، من مسيرهم على تيار الماء الجاري، فلم يفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئا من أمتعتهم، هذا وهم

أولياء، منهم صحابي وتابعيان فما الظن لو [ كان ] الاحتياج إلى ذلك بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الانبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الاسراء، وإمامهم ليلتئذ ببيت المقدس الذي هو محل
ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأول شافع في الحشر، وفي الخروج من النار، وفي دخول الجنة، وفي رفع الدرجات بها، كما بسطنا أقسام الشفاعة وأنواعها، في آخر الكتاب في أهوال يوم القيامة، وبالله المستعان.
وسنذكر في المعجزات الموسوية ما ورد من المعجزات المحمدية، مما هو أظهر وأبهر منها، ونحن الآن فيما يتعلق بمعجزات نوح عليه السلام، ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدم، وأما الحافظ إبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصبهاني، فإنه قال في آخر كتابه في دلائل النبوة، وهو في مجلدات ثلاث: الفصل الثالث والثلاثون في ذكر موازنة الانبياء في فضائلهم، بفضائل نبينا، ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي، إذ أوتي ما أوتوا وشبهه ونظيره، فكان أول الرسل نوح عليه السلام، وآيته التي أوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته، في تعجيل نقمة الله لمكذبيه، حتى هلك من على بسيط الارض من صامت وناطق، إلا من آمن به ودخل معه في سفينته، ولعمري إنها آية جليلة، وافقت سابق قدر الله وما قد علمه في هلاكهم، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه وبالغوا في أذيته، والاستهانة بمنزلته من الله عز وجل، حتى ألقى السفيه عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد، فقال: اللهم عليك بالملا من قريش (1)، ثم ساق الحديث عن ابن مسعود كما تقدم، كما ذكرنا له في صحيح البخاري وغيره في وضع الملا من قريش على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة سلا تلك الجزور، واستضحاكهم من ذلك، حتى أن بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، ولم يزل على ظهره حتى جاءت ابنته فاطمة عليها السلام فطرحته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه فقال: اللهم عليك بالملا من قريش، ثم سمى فقال: اللهم عليك بأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد، قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، وكذلك لما أقبلت قريش يوم بدر في عددها وعديدها، فحين عاينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رافعا يديه: اللهم هذه قريش جاءتك بفخرها وخيلائها، تجادل وتكذب رسولك، اللهم أصبهم الغداة (2)، فقتل من سراتهم سبعون وأسر من أشرافهم
سبعون، ولو شاء الله لاستأصلهم عن آخرهم، ولكن من حلم وشرف نبيه أبقى منهم من سبق في قدره أن سيؤمن به وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دعا على عتبة بن أبي لهب أن يسلط عليه كلبه بالشام،
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في الجزية ح (3185) فتح الباري 6 / 282 وأخرجه في الوضوء ح (240) فتح الباري 1 / 349.
وأخرجه مسلم في الجهاد ح (108) ص (3 / 1419).
(2) وفي السيرة: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فأحنهم الغداة.
(انظر الدرر في اختصار المغازي والسيرة ص 104.
وسيرة ابن هشام ج 2).

فقتله الاسد عند وادي الزرقاء قبل مدينة بصرى * وكم له من مثلها ونظيرها (1)، كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا العكبر، وهو الدم بالوتر، وأكلوا العظام وكل شئ، ثم توصلوا إلى تراحمه وشفقته ورأفته، فدعا لهم، ففرج الله عنهم وسقوا الغيث ببركة دعائه.
* وقال الامام الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتاب دلائل النبوة - وهو كتاب حافل -: ذكر ما أوتي نوح عليه السلام من الفضائل: وبيان ما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم مما يضاهي فضائله ويزيد عليها، إن قوم نوح لما بلغوا من أذيته والاستخفاف به، وترك الايمان بما جاءهم به من عند الله، دعا عليهم فقال: * (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) * [ نوح: 26 ] فاستجاب الله دعوته، وغرق قومه، حتى لم يسلم شئ من الحيوانات والدواب إلا من ركب السفينة، وكان ذلك فضيلة أوتيها، إذ أجيبت دعوته، وشفى صدره بأهلاك قومه * قلنا: وقد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثله حين ناله من قريش ما ناله من التكذيب والاستخفاف، فأنزل الله إليه ملك الجبال وأمره بطاعته فيما يأمره به من إهلاك قومه، فأختار الصبر على أذيتهم، والابتهال في الدعاء لهم بالهداية * قلت: وهذا أحسن، وقد تقدم الحديث بذلك عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قصة ذهابه إلى الطائف، فدعاهم فآذوه فرجع وهو مهموم، فلما كان عند قرن الثعالب ناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد أرسلني إليك لافعل ما تأمرني به، فإن شئت أطبقت عليهم الاخشبين - يعني جبلي مكة اللذين يكتنفانها جنوبا وشمالا، أبو قبيس وزر (2)، فقال: بل استأني
بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئا * وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في مقابلة قوله تعالى: * (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) * [ القمر: 10 - 11 ] أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدم ذكرنا لذلك في دلائل النبوة قريبا أنه صلى الله عليه وسلم سأله ذلك الاعرابي أن يدعو الله لهم، لما بهم من الجدب والجوع، فرفع يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، فما نزل عن المنبر حتى رؤي المطر يتحادر على لحيته الكريمة، صلى الله عليه وسلم، فاستحضر من استحضر من الصحابة رضي الله عنهم قول عمه أبي طالب فيه: - وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للارامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيجاب كما يريد على قدر الحاجة المائية، ولا أزيد ولا أنقص، وهكذا وقع أبلغ في المعجزة، وأيضا فإن هذا ماء رحمة ونعمة، وماء
__________
(1) كذا بالاصل، والظاهر أن فيه سقطا، والسياق يقتضي قوله صلى الله عليه وآله لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبع كسبع يوسف.
(2) الاخشبان: أبو قبيس وقعيقعان.

الطوفان ماء غضب ونقمة، وأيضا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيسقون، وكذلك ما زال المسلمون في غالب الازمان والبلدان، يستسقون فيجابون فيسقون، و [ غيرهم ] لا يجابون غالبا ولا يسقون ولله الحمد * قال أبو نعيم: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، فبلغ جميع من آمن رجالا ونساء، الذين ركبوا معه سفينته، دون مائة نفس، وآمن بنبينا - في مدة عشرين سنة، - الناس شرقا وغربا، ودانت له جبابرة الارض وملوكها، وخافت زوال ملكهم، ككسرى وقيصر، وأسلم النجاشي والاقيال رغبة في دين الله، والتزم من لم يؤمن به من عظماء الارض الجزية، والايادة عن صغار، أهل نجران، وهجر،
وأيلة، وأنذر دومة، فذلوا له منقادين، لما أيده الله به من الرعب الذي يسير بين يديه شهرا، وفتح الفتوح، ودخل الناس في دين الله أفواجا كما قال الله تعالى: * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * [ النصر: 1 - 3 ] قلت، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتح الله له المدينة وخيبر ومكة وأكثر اليمن وحضرموت، وتوفى عن مائة ألف صحابي أو يزيدون * وقد كتب في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الارض يدعوهم إلى الله تعالى، فمنهم من أجاب ومنهم من صانع ودارى عن نفسه، ومنهم من تكبر فخاب وخسر، كما فعل كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبر، فمزق ملكه، وتفرق جنده شذر مذر، ثم فتح خلفاؤه من بعده، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على التالي على الاثر مشارق الارض ومغاربها، من البحر الغربي إلى البحر الشرقي، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زويت لي الاوض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها (1) * وقال صلى الله عليه وسلم: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله (2) * وكذا وقع سواء بسواء، فقد استولت الممالك الاسلامية على ملك قيصر وحواصله، إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين * فكما عمت جميع أهل الارض النقمة بدعوة نوح عليه السلام، لما رآهم عليه من التمادي في الضلال والكفر والفجور، فدعا عليهم غضبا لله ولدينه ورسالته، فاستجاب الله له، وغضب لغضبه، وانتقم منهم بسببه، كذلك عمت جميع أهل الارض ببركة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، فآمن من آمن من الناس، وقامت الحجة على من كفر منهم، كما قال تعالى: * (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين) * [ الانبياء: 107 ] وكما قال صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة * وقال هشام بن عمار في كتاب البعث: حدثني عيسى بن عبد الله النعماني، حدثنا المسعودي عن سعيد بن أبي سعيد عن سعيد بن جبير
__________
(1) أخرجه مسلم في الفتن باب (5) ح (20) ص (2216) عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله.
وأحمد في مسنده ج 4 / 123 و 5 / 278، 284 والبخاري في علامات النبوة في الاسلام.
(2) أخرجه مسلم في الفتن ص (4 / 2227) وأخرجه البخاري في علامات النبوة في الاسلام، والامام أحمد في
المسند: 2 / 233، 240، 501 - 5 / 92، 99.

عن ابن عباس في قوله: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * قال: من آمن بالله ورسله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسله عد فيمن يستحق تعجيل ما كان يصيب الامم قبل ذلك من العذاب والفتن والقذف والخسف * وقال تعالى: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) * [ إبراهيم: 28 ] قال ابن عباس: النعمة محمد، والذين بدلوا نعمة الله كفرا كفار قريش - يعني وكذلك كل من كذب به من سائر الناس - كما قال: * (ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده) * [ هود: 17 ] قال أبو نعيم: فإن قيل: فقد سمى الله نوحا عليه السلام بإسم من أسمائه الحسنى، فقال: * (إنه كان عبدا شكورا) * [ الاسراء: 3 ] قلنا: وقد سمى الله محمدا صلى الله عليه وسلم بإسمين من أسمائه فقال: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * قال: وقد خاطب الله الانبياء بأسمائهم: يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى يا داود، يا يحيى، يا عيسى، يا مريم، وقال مخاطبا لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، وذلك قائم مقام الكنية بصفة الشرف * ولما نسب المشركون أنبياءهم إلى السفه والجنون، كل أجاب عن نفسه، قال نوح: * (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) * [ الاعراف: 67 ] وكذا قال هود عليه السلام، ولما قال فرعون: * (وإني لاظنك يا موسى مسحورا) * [ الاسراء: 101 ]، قال [ موسى ] * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لاظنك يا فرعون مثبورا) * [ الاسراء: 102 ] وأما محمد صلى الله عليه وسلم: فإن الله تعالى هو الذي يتولى جوابهم عنه بنفسه الكريمة، كما قال: * (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) * [ الحجر: 6 - 7 ] قال الله تعالى: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) * [ الحجر: 8 ] وقال تعالى: * (أساطير الاولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والارض إنه كان غفورا رحيما) * [ الفرقان: 5 ] * * (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فأني معكم
من المتربصين) * [ الطور: 30 - 31 ] وقال تعالى: * (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين) * [ الحاقة: 41 - 43 ] * * (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) * [ القلم: 51 ] قال الله تعالى: * (وما هو إلا ذكر للعالمين) * [ القلم: 52 ] وقال تعالى * (وإن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم) * [ القلم: 1 - 4 ] وقال تعالى: * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * [ النحل: 103 ].
القول فيما أوتي هود عليه السلام قال أبو نعيم ما معناه: إن الله تعالى أهلك قومه بالريح العقيم، وقد كانت ريح غضب، ونصر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بالصبا يوم الاحزاب، كما قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا

نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) * [ الاحزاب: 9 ] ثم قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ح وحدثنا عثمان بن محمد العثماني، أنا زكريا بن يحيى الساجي، قالا: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا حفص بن عتاب عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان يوم الاحزاب انطلقت الجنوب إلى الشمال فقالت: انطلقي بنا ننصر محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الشمال للجنوب: إن الحرة لا ترى بالليل، فأرسل الله عليهم الصبا، فذلك قوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * [ الاحزاب: 9 ] ويشهد له الحديث المتقدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
القول فيما أوتي صالح عليه السلام قال أبو نعيم: فإن قيل: فقد أخرج الله لصالح ناقة من الصخرة جعلها الله له آية وحجة على قومه وجعل لها شرب يوم، ولهم شرب يوم معلوم.
قلنا: وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مثل
ذلك، بل أبلغ لان ناقة صالح لم تكلمه ولم تشهد له بالنبوة والرسالة، ومحمد صلى الله عليه وسلم شهد له البعير بالرسالة، وشكى إليه ما يلقى من أهله، من أنهم يجيعونه ويريدون ذبحه، ثم ساق الحديث بذلك كما قدمنا في دلائل النبوة بطرقه وألفاظه وغرره بما أغنى عن إعادته ههنا، وهو في الصحاح والحسان والمسانيد، وقد ذكرنا مع ذلك حديث الغزالة، وحديث الضب وشهادتهما له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، كما تقدم التنبيه على ذلك والكلام فيه، وثبت الحديث في الصحيح بتسليم الحجر عليه قبل أن يبعث، وكذلك سلام الاشجار والاحجار والمدر عليه قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم.
القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام قال شيخنا العلامة أبو المعالي بن الزملكاني رحمه الله: وأما خمود النار لابراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد خمدت لنبينا صلى الله عليه وسلم نار فارس لمولده صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين بعثته أربعون سنة، وخمدت نار إبراهيم لمباشرته لها، وخمدت نار فارس لنبينا صلى الله عليه وسلم وبينه وبينها مسافة أشهر كذا، وهذا الذي أشار إليه من خمود نار فارس ليلة مولده الكريم، قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أول السيرة، عند ذكر المولد المطهر الكريم، بما فيه كفاية ومقنع، ثم قال شيخنا: مع أنه قد ألقى بعض هذه الامة في النار فلم تؤثر فيه ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم، منهم أبو مسلم الخولاني، قال: بينما الاسود بن قيس العنسي باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله ؟ قال: ما أسمع، فأعاد إليه، قال، ما أسمع، فأمر بنار عظيمة فأججت فطرح فيها أبو مسلم فلم تضره، فقيل له: لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك، فأمره بالرحيل، فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فقام إلى سارية من سواري

المسجد يصلي، فبصر به عمر فقال من أين الرجل ؟ قال: من اليمن، قال: ما فعل الله بصاحبنا الذي حرق بالنار فلم تضره ؟ قال: ذاك عبد الله بن أيوب، قال: نشدتك بالله أنت هو ؟ قال: اللهم نعم، قال: فقيل ما بين عينيه ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه
السلام * وهذا السياق الذي أورده شيخنا بهذه الصفة، وقد رواه الحافظ الكبير، أبو القاسم بن عساكر رحمه الله في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن أيوب في تاريخه من غير وجه، عن عبد الوهاب بن محمد عن إسماعيل بن عياش الحطيمي: حدثني شراحيل بن مسلم الخولاني أن الاسود بن قيس بن ذي الحمار العنسي تنبأ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني فأتي به، فلما جاء به قال أتشهد أني رسول الله ؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله ؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال: نعم، قال: فردد عليه ذلك مرارا ثم أمر بنار عظيمة فأججت فألقي فيها فلم تضره، فقيل للاسود: انفه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك، فأمره فأرتحل، فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ثم دخل المسجد وقام يصلي إلى سارية، فبصر به عمر بن الخطاب فأتاه فقال: ممن الرجل ؟ فقال: من أهل اليمن، قال: ما فعل الرجل الذي حرقه الكذاب بالنار ؟ قال: ذاك عبد الله بن أيوب، قال: فأنشدك بالله أنت هو ؟ قال: اللهم نعم، قال: فاعتنقه ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق، فقال: الحمد الله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن * قال إسماعيل بن عياش: فأنا أدركت رجالا من الامداد الذين يمدون إلينا من اليمن من خولان، ربما تمازحوا فيقول الخولانيون للعنسيين: صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار ولم تضره * وروى الحافظ ابن عساكر أيضا من غير وجه عن إبراهيم بن دحيم: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشير عن أبي بشر - جعفر بن أبي وحشية - أن رجلا أسلم فأراده قومه على الكفر فألقوه في نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء، فقدم على أبي بكر فقال: استغفر لي، قال: أنت أحق قال أبو بكر: أنت ألقيت في النار فلم تحترق، فاستغفر له ثم خرج إلى الشام، وكانوا يسمونه بإبراهيم عليه السلام، وهذا الرجل هو أبو مسلم الخولاني، وهذه الرواية بهذه الزيادة تحقق أنه إنما نال ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمدية المطهرة المقدسة، كما جاء في حديث الشفاعة: وحرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود * وقد نزل أبو مسلم بداريا من
غربي دمشق وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع بدمشق وقت الصبح، وكان يغازي ببلاد الروم، وله أحوال وكرامات كثيرة جدا، وقبره مشهور بداريا، والظاهر أنه مقامه الذي كان يكون فيه، فإن الحافظ ابن عساكر رجح أنه مات ببلاد الروم، في خلافة معاوية، وقيل: في أيام ابنه يزيد، بعد الستين والله أعلم * وقد وقع لاحمد بن أبي الحواري من غير وجه أنه جاء إلى أستاذه

أبي سليمان يعلمه بأن التنور قد سجروه وأهله ينتظرون ما يأمرهم به، فوجده يكلم الناس وهم حوله فأخبره بذلك فاشتغل عنه بالناس، ثم أعلمه فلم يلتفت إليه، ثم أعلمه مع أولئك الذين حوله، فقال: اذهب فاجلس فيه، فذهب أحمد بن أبي الحواري إلى التنور فجلس فيه وهو يتضرم نارا فكان عليه بردا وسلاما، وما زال فيه حتى استيقظ أبو سليمان من كلامه فقال لمن حوله: قوموا بنا إلى أحمد بن أبي الحواري، فإني أظنه قد ذهب إلى التنور فجلس فيه إمتثالا لما أمرته، فذهبوا فوجدوه جالسا فيه، فأخذ بيده الشيخ أبو سليمان وأخرجه منه، رحمة الله عليهما ورضي الله عنهما * وقال شيخنا أبو المعالي: وأما إلقاؤه - يعني إبراهيم عليه السلام - من المنجنيق، فقد وقع في حديث البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذاب، وأن أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا الباب، فقال البراء بن مالك: ضعوني على برش وأحملوني على رؤوس الرماح ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب، ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين، وقتل مسيلمة * قلت: وقد ذكر ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب [ من ] مائة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفا، فلما التقوا جعل كثير من الاعراب يفرون، فقال المهاجرون والانصار: خلصنا يا خالد، فميزهم عنهم، وكان المهاجرون والانصار قريبا من ألفين وخمسمائة، فصمموا الحملة يتدابرون ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم، فهزموهم بأذن الله ولجأوهم إلى حديقة هناك، وتسمى حديقة الموت، فتحصنوا بها، فحصروهم فيها، ففعل البراء بن مالك، أخو أنس بن مالك - وكان الاكبر - ما ذكر من رفعه على الاسنة فوق الرماح حتى تمكن من أعلى
سورها، ثم ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند جدار كأنه جمل أزرق - أي من سمرته - فابتدره وحشي بن حرب الاسود، قاتل حمزة، بحربته، وأبو دجانة سماك بن حرشة الانصاري - وهو الذي ينسب إليه شيخنا هذا أبو المعالي بن الزملكاني - فسبقه وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه، وجاء إليه أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله، لكن صرخت جارية من فوق القصر: واأميراه، قتله العبد الاسود، ويقال: إن عمر مسيلمة يوم قتل مائة وأربعين سنة، لعنه الله، فمن طال عمره وساء عمله قبحه الله * وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق بإبراهيم الخليل عليه السلام.
وأما الحافظ أبو نعيم فإنه قال: فإن قيل: فإن إبراهيم اختص بالخلة مع النبوة، قيل: فقد اتخذ الله محمدا خليلا وحبيبا، والحبيب ألطف من الخليل.
ثم ساق من حديث شعبة عن أبي إسحاق بن أبي الاحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله * وقد رواه مسلم من طريق شعبة والثوري عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الله بن مرة، وعبد الله بن أبي الهديل، كلهم عن أبي الاحوص، عوف بن مالك الجشيمي، قال: سمعت

عبد الله بن مسعود يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا * هذا لفظ مسلم، ورواه أيضا منفردا به عن جندب بن عبد الله البجلي كما سأذكره، وأصل الحديث في الصحيحين عن أبي سعيد، وفي إفراد البخاري عن ابن عباس وابن الزبير كما سقت ذلك في فضائل الصديق رضي الله عنه، وقد أوردناه هنالك من رواية أنس والبراء وجابر وكعب بن مالك وأبي الحسين بن العلى وأبي هريرة وأبي واقد الليثي وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين * ثم إنما رواه أبو نعيم من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة عن كعب بن مالك أنه قال: عهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: لم يكن نبي إلا له خليل من أمته، وأن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ
صاحبكم خليلا * وهذا الاسناد ضعيف، ومن حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي خليل: وخليلي أبو بكر بن أبي قحافة، وخليل صاحبكم الرحمن * وهو غريب من هذا الوجه، ومن حديث عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين والعباس بيننا مؤمن بين خليلين * غريب وفي إسناده نظر، انتهى ما أورده أبو نعيم رحمه الله * وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، قالا: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، حدثنا زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، حدثني جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إني أبرأ إلى الله عز وجل أن يكون لي بينكم خليلا فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ الله إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك * وأما إتخاذه حسينا خليلا، فلم يتعرض لاسناده أبو نعيم، وقد قال هشام بن عمار في كتابه المبعث: حدثنا يحيى بن حمزة الحضرمي وعثمان بن علان القرشي، قالا: حدثنا عروة بن رويم اللخمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أدرك بي الاجل المرقوم وأخذني لقربه، وأحتضرني إحتضارا، فنحن الآخرون، ونحن السابقون يوم القيامة، وأنا قائل قولا غير فخر: إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأن بيدي لواء الحمد، وأجارني الله عليكم من ثلاث أن لا يهلككم بسنة، وأن يستبيحكم عدوكم، وأن لا تجمعوا على ضلالة * وأما الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد فتكلم على مقام الخلة بكلام طويل إلى أن قال: ويقال: الخليل الذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة، من قوله: * (إن إبراهيم لاواه حليم) * [ التوبة: 114 ] من كثرة ما يقول: أواه، والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة، ويقال: الخليل الذي يكون معه إنتظار العطاء، والحبيب الذي يكون معه إنتظار

اللقاء، ويقال: الخليل الذي يصل بالواسطة من قوله: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين) * [ الانعام: 75 ] والحبيب الذي يصل إليه من غير واسطة، من قوله: * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * [ النجم: 9 ] وقال الخليل: * (الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * [ الشعراء: 82 ] وقال الله للحبيب محمد: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [ الفتح: 2 ] وقال الخليل: * (ولا تخزني يوم يبعثون) * [ الشعراء: 87 ] وقال الله للنبي: * (يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه) * [ التحريم: 8 ] وقال الخليل حين ألقي في النار: * (حسبي الله ونعم الوكيل) * [ آل عمران: 173 ] وقال الله لمحمد: * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * [ الانفال: 64 ] وقال الخليل: * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * [ الصافات: 99 ] وقال الله لمحمد: * (ووجدك ضالا فهدى) * [ الضحى: 7 ] وقال الخليل: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * [ الشعراء: 84 ] وقال لمحمد: * (رفعنا لك ذكرك) * [ الشرح: 4 ] وقال الخليل: * (واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام) * [ إبراهيم: 35 ] وقال الله للحبيب: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * [ الاحزاب: 33 ] وقال الخليل: * (واجعلني من ورثة جنة النعيم) * [ الشعراء: 85 ] وقال الله لمحمد: * (إنا أعطيناك الكوثر) * [ الكوثر: 1 ] * وذكر أشياء أخر، وسيأتي الحديث في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلهم حتى أبو هم إبراهيم الخليل * فدل على أنه أفضل إذ هو يحتاج إليه في ذلك المقام، ودل على أن إبراهيم أفضل الخلق بعده، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره * ثم قال أبو نعيم: فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام حجب عن نمروذ بحجب ثلاثة، قيل: فقد كان كذلك وحجب محمد صلى الله عليه وسلم عمن أرادوه بخمسة حجب، قال الله تعالى في أمره: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * [ يس: 9 ] فهذه ثلاث، ثم قال: * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) *
[ الاسراء: 45 ] ثم قال: * (فهي إلى الاذقان فهم مقمحون) * [ يس: 8 ] فهذه خمس حجب * وقد ذكر مثله سواء الفقيه أبو محمد بن حامد، وما أدري أيهما أخذ من الآخر والله أعلم * وهذا الذي قاله غريب، والحجب التي ذكرها لابراهيم عليه السلام لا أدري ما هي، كيف وقد ألقاه في النار التي نجاه الله منها، وأما ما ذكره من الحجب التي استدل عليها بهذه الآيات، فقد قيل: إنها جميعها معنوية لا حسية، بمعنى أنهم مصرفون عن الحق، لا يصل إليهم، ولا يخلص إلى قلوبهم، كما قال تعالى: * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرو من بيننا وبينك حجاب) * [ فصلت: 5 ] وقد حررنا ذلك في التفسير، وقد ذكرنا في السيرة وفي التفسير أن أم جميل امرأة أبي لهب، لما نزلت السورة في ذمها وذم زوجها، ودخولهما النار، وخسارهما، جاءت بفهر - وهو الحجر الكبير - لترجم النبي صلى الله عليه وسلم، فانتهت إلى أبي بكر وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم

فلم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت لابي بكر: أين صاحبك ؟ فقال: وماله ؟ فقالت: إنه هجاني، فقال: ما هجاك، فقالت: والله لئن رأيته لاضربنه بهذا الفهر، ثم رجعت وهي تقول: مذمما أتينا * ودينه قلينا * وكذلك حجب ومنع أبا جهل حين هم أن يطأ برجله رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرأى جدثا من نار وهولا عظيما وأجنحة الملائكة دونه، فرجع القهقري وهو يتقي بيديه، فقالت له قريش: مالك، ويحك ؟ فاخبرهم بما رأى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لو أقدم لاختطفته الملائكة عضوا عضوا * وكذلك لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه، وأرسلوا إلى بيته رجلا يحرسونه لئلا يخرج، ومتى عاينوه قتلوه، فأمر عليا فنام على فراشه، ثم خرج عليهم وهم جلوس، فجعل يذر على رأس كل إنسان منهم ترابا ويقول: شاهت الوجوه، فلم يروه حتى صار هو وأبو بكر الصديق إلى غار ثور، كما بسطنا ذلك في السيرة، وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سد على باب الغار ليعمي الله عليهم مكانه، وفي الصحيح أن أبا بكر قال: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لابصرنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك بإثنين الله ثالثهما (1) ؟ وقد قال بعض الشعراء في ذلك:
نسج داود ما حمى صاحب الغا * روكان الفخار للعنكبوت وكذلك حجب ومنع من سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعهم، بسقوط قوائم فرسه في الارض حتى أخذ منه أمانا كما تقدم بسطه في الهجرة * وذكر ابن حامد في كتابه في مقابلة إضجاع إبراهيم عليه السلام ولده للذبح مستسلما لامر الله تعالى، ببذل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا، من هشم رأسه، وكسر ثنيته اليمنى السفلى، كما تقدم بسط ذلك في السيرة * ثم قال: قالوا: كان إبراهيم عليه السلام ألقاه قومه في النار فجعلها الله بردا وسلاما، قلنا: وقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، وذلك أنه لما نزل بخيبر سمته الخيبرية، فصير ذلك السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله، والسم عرق إذ لا يستقر في الجوف كما تحرق النار * قلت: وقد تقدم الحديث بذلك في فتح خيبر، ويؤيد ما قاله أن بشر بن البراء بن معرور مات سريعا من تلك الشاة المسمومة، وأخبر ذراعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أودع فيه من السم، وكان قد نهش منه نهشة، وكان السم فيه أكثر، لانهم كانوا يفهمون أنه صلى الله عليه وسلم يحب الذراع، فلم يضره السم الذي حصل في باطنه بإذن الله عز وجل، حتى انقضى أجله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه وجد حينئذ من ألم ذلك السم الذي كان في تلك الاكلة، صلى الله عليه وسلم * وقد ذكرنا في ترجمة خالد بن الوليد المخزومي، فاتح بلاد الشام، أنه أتي بسم فحثاه بحضرة الاعداء ليرهبهم بذلك، فلم ير بأسا، رضي الله عنه * ثم قال أبو نعيم: فإن قيل: فإن إبراهيم خصم نمروذ ببرهان نبوته فبهته، قال الله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة.
الحديث (3653) فتح الباري (7 / 8) وفي مناقب الانصار باب (45) وأخرجه الترمذي في التفسير حديث (3096) ص (5 / 278) والامام أحمد في المسند (1 / 4).

* (فبهت الذي كفر) * [ البقرة: 258 ] قيل: محمد صلى الله عليه وسلم أتاه الكذاب بالبعث، أبي بن خلف، بعظم بال ففركه وقال: * (من يحيى العظام وهي رميم) * [ يس: 78 ] فأنزل الله تعالى البرهان الساطع * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) * [ يس: 79 ] فانصرف مبهوتا ببرهان نبوته * قلت: وهذا أقطع للحجة، وهو إستدلاله للمعاد بالبداءة، فالذي خلق الخلق
بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، قادر على إعادتهم كما قال: * (أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * [ يس: 81 ] أي يعيدهم كما بدأهم كما قال في الآية الاخرى: * (بقادر على أن يحيى الموتى) * [ الاحقاف: 33 ] وقال: * (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) * [ الروم: 27 ] هذا وأمر المعاد نظري لا فطري ضروري في قول الاكثرين، فأما الذي حاج إبراهيم في ربه فإنه معاند مكابر، فإن وجود الصانع مذكور في الفطر، وكل واحد مفطور على ذلك، إلا من تغيرت فطرته، فيصير نظريا عنده، وبعض المتكلمين يجعل وجود الصانع من باب النظر لا الضروريات، وعلى كل تقدير فدعواه أنه هو الذي يحيى الموتى، لا يقبله عقل ولا سمع، وكل واحد يكذبه بعقله في ذلك، ولهذا ألزمه إبراهيم بالاتيان بالشمس من المغرب إن كان كما أدعى * (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) * [ البقرة: 258 ] وكان ينبغي أن يذكر مع هذا أن الله تعالى سلط محمدا على هذا المعاند لما بارز النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقتله بيده الكريمة، طعنه بحربة فأصاب ترقوته فتردى عن فرسه مرارا، فقالوا له: ويحك مالك ؟ فقال: والله أن بي لما لو كان بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين: ألم يقل: بل أنا أقتله ؟ والله لو بصق علي لقتلني - وكان هذا لعنه الله أعد فرسا وحربة ليقتل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله - فكان كذلك يوم أحد، * ثم قال أبو نعيم: فإن قيل: فإن إبراهيم عليه السلام كسر أصنام قومه غضبا لله، قيل: فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كسر ثلثمائة وستين صنما، قد ألزمها الشيطان بالرصاص والنحاس، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسها، ويقول: * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * [ الاسراء: 81 ] فتساقط لوجوهها، ثم أمر بهن فأخرجن إلى الميل، وهذا أظهر وأجلى من الذي قبله، وقد ذكرنا هذا في أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصحاح وغيرها، بما فيه كفاية * وقد ذكر غير واحد من علماء السير أن الاصنام تساقطت أيضا لمولده الكريم، وهذا أبلغ وأقوى في المعجز من مباشرة كسرها، وقد تقدم أن نار فارس التي كانوا يعبدونها خمدت أيضا ليلتئذ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وأنه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشر شرفة، مؤذنة بزوال
دولتهم بعد هلاك أربعة عشر من ملوكهم في أقصر مدة، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة، وأما إحياء الطيور الاربعة لابراهيم عليه السلام، فلم يذكره أبو نعيم ولا أبن حامد، وسيأتي في إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام ما وقع من المعجزات المحمدية من هذا النمط ما هو مثل ذلك كما سيأتي التنبه عليه إذا انتهينا إليه، من إحياء أموات بدعوات أمته، وحنين

الجذع، وتسليم الحجر والشجر والمدر عليه، وتكليم الذراع له وغير ذلك * وأما قوله تعالى: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين) * [ الانعام: 75 ] والآيات بعدها، فقد قال الله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) * [ الاسراء: 1 ] وقد ذكر ذلك ابن حامد فيما وقفت عليه بعد، وقد ذكرنا في أحاديث الاسراء من كتابنا هذا، ومن التفسير ما شاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس، وفيما بين ذلك إلى سماء الدنيا، ثم عاين من الآيات في السموات السبع وما فوق ذلك، وسدرة المنتهى، وجنة المأوى، والنار التي هي بئس المصير والمثوى، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام في حديث المنام - وقد رواه أحمد والترمذي وصححه، وغيرهما - فتجلى لي كل شئ لي وعرفت * وذكر ابن حامد في مقابلة أبتلاء الله يعقوب عليه السلام بفقده ولده يوسف عليه السلام وصبره واستعانته ربه عز وجل، موت إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصبره عليه، وقوله: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون * قلت: وقد مات بناته الثلاثة: رقية، وأم كلثوم، وزينب، وقتل عمه الحمزة، أسد الله وأسد رسوله يوم أحد، فصبر واحتسب * وذكر في مقابلة حسن يوسف عليه السلام ما ذكر من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهابته وحلاوته شكلا ونفعا وهديا، ودلا، ويمنا، كما تقدم في شمائله من الاحاديث الدالة على ذلك، كما قالت الربيع بنت مسعود: لو رأيته لرأيت الشمس طالعة * وذكر في مقابلة ما ابتلى به يوسف عليه السلام من الفرقة والغربة، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ومفارقته وطنه وأهله
وأصحابه الذين كانوا بها * القول فيما أوتي موسى عليه السلام من الآيات وأعظمهن تسع آيات كما قال تعالى: * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) * [ الاسراء: 101 ] وقد شرحناها في التفسير، وحكينا قول السلف فيها، وإختلافهم فيها، وأن الجمهور على أنها هي العصا في إنقلابها حية تسعى، واليد، إذا أدخل يده في جيب درعه أخرجها تضئ كقطعة قمر يتلالا إضاءة، ودعاؤه على قوم فرعون حين كذبوه فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات، كما بسطنا ذلك في التفسير، وكذلك أخذهم الله بالسنين، وهي نقص الحبوب: وبالجدب وهو نقص الثمار، وبالموت الذريع وهو نقص الانفس، وهو الطوفان في قول، ومنها فلق البحر لانجاء بني إسرائيل وإغراق آل فرعون، ومنها تضليل بني إسرائيل في التيه، وإنزال المن والسلوى عليهم واستسقاؤه لهم، فجعل الله ماءهم يخرج من حجر يحمل معهم على دابة، له أربعة وجوه، إذا ضربه موسى بعصاه يخرج من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين، ثم يضربه فينقلع، إلى غير ذلك من الآيات الباهرات، كما بسطنا ذلك في التفسير، وفي قصة موسى عليه السلام من كتابنا هذا في قصص الانبياء منه، ولله الحمد

والمنة، وقيل: كل من عبد العجل أماتهم ثم أحياهم الله تعالى، وقصة البقرة * أما العصا فقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني: وأما حياة عصا موسى، فقد سبح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جماد، والحديث في ذلك صحيح، وهذا الحديث مشهور عن الزهري عن رجل عن أبي ذر، وقد قدمنا ذلك مبسوطا في دلائل النبوة بما أغنى عن إعادته، وقيل: إنهن سبحن في كف أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، كما سبحن في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هذه خلافة النبوة * وقد روى الحافظ بسنده إلى بكر بن حبيش عن رجل سماه قال: كان بيد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها، قال: فنام والسبحة في يده، قال: فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات، فقال: هلم يا أم مسلم وانظري إلى أعجب
الاعاجيب، قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت * وأصح من هذا كله وأصرح حديث البخاري عن ابن مسعود قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (1) * قال شيخنا: وكذلك قد سلمت عليه الاحجار، قلت: وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لاعرف حجرا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث، إني لاعرفه الآن (2) * قال بعضهم: هو الحجر الاسود، وقال الترمذي: حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، حدثنا الوليد بن أبي ثور عن السدي عن عباد بن يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله (3)، ثم قال: غريب.
ورواه أبو نعيم في الدلائل من حديث السدي عن أبي عمارة الحيواني عن علي قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل لا يمر بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شئ إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، قال: وأقبلت الشجرة عليه بدعائه، وذكر إجتماع تينك الشجرتين لقضاء حاجته من ورائهما ثم رجوعهما إلى منابتهما * وكلا الحديثين في الصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك حلول حياة فيهما، إذ يكونان ساقهما سائق، ولكن في قوله: إنقادا علي بإذن الله، ما يدل على حصول شعور منهما لمخاطبته، ولا سيما مع إمتثالهما ما أمرهما به، قال: وأمر عذقا من نخلة أن ينزل فنزل يبقر في الارض حتى وقف بين يديه فقال: أتشهد أني رسول الله ؟ فشهد بذلك ثلاثا ثم عاد إلى مكانه، وهذا أليق وأظهر في المطابقة من الذي قبله، ولكن هذا السياق فيه غرابة، والذي رواه الامام أحمد وصححه الترمذي، ورواه البيهقي والبخاري في التاريخ من رواية أبي
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب - علامات النبوة في الاسلام فتح الباري (6 / 587).
وأخرجه الترمذي في المناقب ح (3633) ص (5 / 597).
وقال: حسن صحيح.
(2) أخرجه مسلم في الفضائل ح (2) ص (1782) وأخرجه الترمذي في المناقب (5 / 593) والدارمي في المقدمة، والامام أحمد في مسنده (5 / 89).
(3) أخرجه الترمذي في المناقب ح (3226) ص (5 / 593) ورواه البيهقي في الدلائل 2 / 153 وفيه عباد بن عبد الله عن علي...

ظبيان حصين بن المنذر عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، بم أعرف أنك رسول الله ؟ قال: أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله ؟ قال: نعم، قال: فدعا العذق فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الارض فجعل ينقز حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: ارجع، فرجع إلى مكانه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وآمن به (1) * هذا لفظ البيهقي، وهو ظاهر في أن الذي شهد بالرسالة هو الاعرابي، وكان رجلا من بني عامر، ولكن في رواية البيهقي من طريق الاعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا الذي يقول أصحابك ؟ قال وحول رسول الله صلى الله عليه وسلم أعذاق وشجر، فقال: هل أن أريك آية ؟ قال: نعم، فدعا غصنا منها فأقبل يخد الارض حتى وقف بين يديه وجعل يسجد ويرفع رأسه، ثم أمره فرجع، قال: فرجع العامري وهو يقول، يا آل عامر بن صعصعة: والله لا أكذبه بشئ يقوله أبدا (2) * وتقدم فيما رواه الحاكم في مستدركه متفردا به عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا إلى الاسلام فقال: هل من شاهد على ما تقول ؟ قال: هذه الشجرة، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على شاطئ الوادي فأقبلت تخد الارض خدا فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها ورجع الاعرابي إلى قومه وقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك (3) * قال: وأما حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فعمل له المنبر، فلما رقي عليه وخطب حن الجذع إليه حنين العشار والناس يسمعون بمشهد الخلق يوم الجمعة، ولم يزل يئن ويحن حتى نزل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعتنقه وسكنه وخيره بين أن يرجع غصنا طريا أو يغرس في الجنة يأكل منه أولياء الله، فأختار الغرس في الجنة وسكن عند ذلك * فهو حديث مشهور معروف، قد رواه من الصحابة عدد كثير متواتر، وكان بحضور الخلائق، وهذا الذي ذكره من تواتر حنين الجذع كما قال، فإنه قد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، وعنهم أعداد من التابعين، ثم من بعدهم آخرون عنهم لا يمكن تواطؤهم على الكذب فهو مقطوع به في الجملة، وأما تخيير الجذع كما ذكره
شيخنا فليس بمتواتر، بل ولا يصح إسناده، وقد أوردته في الدلائل عن أبي بن كعب، وذكر في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، وعن أنس من خمس طرق إليه، صحح الترمذي إحداها، وروى ابن ماجه أخرى، وأحمد ثالثة، والبزار رابعة، وأبو نعيم خامسة.
وعن جابر بن عبد الله في صحيح البخاري.
من طريقين عنه، والبزار من ثالثة ورابعة، وأحمد من خامسة وسادسة، وهذه
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 15 والبخاري في التاريخ عن محمد بن سعيد، والترمذي في المناقب ح (3628) ص 5 / 594 وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب صحيح.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 / 620 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2) دلائل البيهقي 6 / 17.
(3) رواه الحاكم في المستدرك من طريق أبي حيان عن عطاء عن ابن عمر (2 / 620).

على شرط مسلم، وعن سهل بن سعد في مصنف ابن أبي شيبة على شرط الصحيحين، وعن ابن عباس في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بأسناد على شرط مسلم، وعن ابن عمر في صحيح البخاري، ورواه أحمد من وجه آخر عن ابن عمر، وعن أبي سعيد في مسند عبد بن حميد بأسناد على شرط مسلم، وقد رواه أبو يعلى الموصلي من وجه آخر عنه، وعن عائشة رواه الحافظ أبو نعيم من طريق علي بن أحمد الخوارزمي، عن قبيصة بن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله بن بريدة عن عائشة، فذكر الحديث بطوله، وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة وغار حتى ذهب فلم يعرف، وهذا غريب إسنادا ومتنا، وعن أم سلمة رواه أبو نعيم بأسناد جيد، وقدمت الاحاديث ببسط أسانيدها وتحرير ألفاظها وغررها بما فيه كفاية عن إعادته ههنا، ومن تدبرها حصل له القطع بذلك ولله الحمد والمنة * قال القاضي عياض بن موسى السبتي المالكي في كتابه الشفا: وهو حديث مشهور متواتر خرجه أهل الصحيح.
ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم أبي وأنس وبريدة وسهل بن سعد، وابن عباس، وابن عمر والمطلب بن أبي وداعة وأبو سعيد وأم سلمة رضي الله عنهم أجمعين، قال شيخنا: فهذه جمادات
ونباتات وقد حنت وتكلمت، وفي ذلك ما يقابل إنقلاب العصا حية * قلت: وسنشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه السلام في إحيائه الموتى بأذن الله تعالى في ذلك كما رواه البيهقي عن الحاكم عن أبي أحمد بن أبي الحسن عن عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن سوار قال: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمد الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هئ له المنبر، فلما هئ له حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك * وهذا إسناد صحيح إلى الشافعي رحمه الله، وهو مما كنت أسمع شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله يذكره عن الشافعي رحمه الله وأكرم مثواه، وإنما قال: فهذا أكبر من ذلك لان الجذع ليس محلا للحياة ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحول عنه إلى المنبر فأن وحن حنين العشار حتى نزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنه وسكنه حتى سكن، قال الحسن البصري: فهذا الجذع حن إليه، فأنهم أحق أن يحنوا إليه، وأما عود الحياة إلى جسد كانت فيه بأذن الله فعظيم، وهذا أعجب وأعظم من إيجاد حياة وشعور في محل ليس مألوفا لذلك لم تكن فيه قبل بالكلية فسبحان الله رب العالمين (تنبيه) وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لواء يحمل معه في الحرب يخفق في قلوب أعدائه مسيرة شهر بين يديه، وكانت له عنزة تحمل بين يديه فإذا أراد الصلاة إلى غير جدار ولا حائل ركزت بين يديه، وكان له قضيب يتوكأ عليه إذا مشى، وهو الذي عبر عنه سطيح في قوله لابن أخيه عبد المسيح بن نفيلة: يا عبد المسيح، إذا أكثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة وغاضت بحيرة ساوه، فليست الشام لسطيح شاما، ولهذا كان ذكر هذه الاشياء عند إحياء عصا موسى وجعلها حية أليق، إذ هي مساوية لذلك، وهذه متعددة في محال متفرقة بخلاف عصا موسى فإنها وإن

تعدد جعلها حية، فهي ذات واحدة والله أعلم * ثم ننبه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لان هذه أعجب وأكبر وأظهر وأعلم، قال شيخنا: وأما أن الله كلم موسى تكليما، فقد تقدم حصول الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء مع الرؤية وهو أبلغ * هذا أورده فيما يتعلق بمعجزات
موسى عليه السلام ليلة الاسراء فيشهد له: فنوديت يا محمد قد كلفت فريضتين وخففت عن عبادي، وسياق بقية القصة يرشد إلى ذلك، وقد حكى بعض العلماء الاجماع على ذلك، لكن رأيت في كلام القاضي عياض نقل خلاف فيه والله أعلم * وأما الرؤية ففيها خلاف مشهور بين الخلف والسلف، ونصرها من الائمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المشهور بأمام الائمة، واختار ذلك القاضي عياض والشيخ محي الدين النووي، وجاء عن ابن عباس تصديق الرؤية، وجاء عنه تفنيدها، وكلاهما في صحيح مسلم، وفي الصحيحين عن عائشة إنكار ذلك، وقد ذكرنا في الاسراء عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي ذر وعائشة رضي الله عنهم أن المرئي في المرتين المذكورتين في أول سورة النجم، إنما هو جبريل عليه السلام، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: نورا لي أراه، وفي رواية: رأيت نورا * وقد تقدم بسط ذلك في الاسراء في السيرة وفي التفسير في أول سورة بني إسرائيل، وهذا الذي ذكره شيخنا فيما يتعلق بالمعجزات الموسوية عليه أفضل الصلاة والسلام * وأيضا فإن الله تعالى كلم موسى وهو بطور سينا، وسأل الرؤية فمنعها، وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء وهو بالملا الاعلى حين رفع لمستوى سمع فيه صريف الاقلام، وحصلت له الرؤية في قول طائفة كبيرة من علماء السلف والخلف والله أعلم * ثم رأيت ابن حامد قد طرق هذا في كتابه وأجاد وأفاد وقال ابن حامد: قال الله تعالى لموسى: * (وألقيت عليك محبة منى) * [ طه: 39 ] وقال لمحمد * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) * [ آل عمران: 31 ] * وأما اليد التي جعلها الله برهانا وحجة لموسى على فرعون وقومه كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العصا حية: * (أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه) * [ القصص: 32 ] وقال في سورة طه: * (آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى) * [ طه: 23 ] فقد أعطى الله محمدا انشقاق القمر بإشارته إليه فرقتين، فرقة من وراء جبل حراء، وأخرى أمامه، كما تقدم بيان ذلك بالاحاديث المتواترة مع قوله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) * [ القمر: 1 - 2 ] ولا شك أن هذا أجل وأعظم
وأبهر في المعجزات وأعم وأظهر وأبلغ من ذلك * وقد قال كعب بن مالك في حديثه الطويل في قصة توبته: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وذلك في صحيح البخاري * وقال ابن حامد: قالوا: فإن موسى أعطي اليد البيضاء، قلنا لهم: فقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل من ذلك نورا كان يضئ عن يمينه حيث ما جلس، وعن يساره حيث ما جلس وقام، يراه الناس كلهم، وقد بقي ذلك النور إلى قيام الساعة، ألا ترى أنه يرى النور الساطع من قبره صلى الله عليه وسلم

من مسيرة يوم وليلة ؟ هذا لفظه، وهذا الذي ذكره من هذا النور غريب جدا، وقد ذكرنا في السيرة عند إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم آية تكون له عونا على إسلام قومه من بيته هناك، فسطع نور بين عينيه كالمصباح، فقال: اللهم في غير هذا الموضع فإنهم يظنونه مثله، فتحول النور إلى طرف سوطه فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدعائه لهم في قوله: اللهم اهد دوسا، وآت بهم، وكان يقال للطفيل: ذو النور لذلك * وذكر أيضا حديث أسيد بن حضير وعباد بن بشر في خروجهما من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف عصا أحدهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف عصاه، وذلك في صحيح البخاري وغيره * وقال أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت بن أنس بن مالك أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس فأضاءت عصا أحدهما مثل السراج وجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا وعصا ذا * ثم روى عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام، وعن يعقوب بن حميد المدني، كلاهما عن سفيان بن حمزة بن يزيد الاسلمي، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الاسلمي عن أبيه قال: سرنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتستنير * وروى هشام بن عمار في البعث: حدثنا عبد الاعلى بن محمد البكري، حدثنا جعفر بن سليمان البصري، حدثنا أبو التياح الضبعي قال:
كان مطرف بن عبد الله يبدر فيدخل كل جمعة فربما نور له في سوطه، فأدلج ذات ليلة وهو على فرسه حتى إذا كان عند المقابر هدم به، قال: فرأيت صاحب كل قبر جالسا على قبره، فقال: هذا مطرف يأتي الجمعة، فقلت لهم: وتعلمون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما يقول فيه الطير ؟ قالوا: يقول: رب سلم سلم قوم صالح * وأما دعاؤه عليه السلام بالطرفان، وهو الموت الذريع في قول، وما بعده من الآيات والقحط والجدب، فإنما كان ذلك لعلهم يرجعون إلى متابعته ويقلعون عن مخالفته، فما زادهم إلا طغيانا كبيرا، قال الله تعالى: * (وما نرينهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) * [ الزخرف: 48 - 49 ] * * (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عنك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم في أليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) * [ الاعراف: 132 - 136 ] وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش حين تمادوا على مخالفته بسبع كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا كل

شئ، وكان أحدهم يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع.
وقد فسر ابن مسعود قوله تعالى: * (فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين) * [ الدخان: 10 ] بذلك كما رواه البخاري عنه في غير ما موضع من صحيحه، ثم توسلوا إليه، صلوات الله وسلامه عليه، بقرابتهم منه مع أنه بعث بالرحمة والرأفة، فدعا لهم فأقلع عنهم ورفع عنهم العذاب، وأحيوا بعد ما كانوا أشرفوا على الهلكة * وأما فلق البحر لموسى عليه السلام حين أمره الله تعالى - حيث تراءى الجمعان - أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، فإنه معجزة عظيمة باهرة، وحجة قاطعة قاهرة، وقد بسطنا ذلك في التفسير وفي قصص الانبياء من كتابنا هذا، وفي إشارته صلى الله عليه وسلم بيده
الكريمة إلى قمر السماء فانشق القمر فلقتين وفق ما سأله قريش، وهم معه جلوس في ليلة البدر، أعظم آية، وأيمن دلالة وأوضح حجة وأبهر برهان على نبوته وجاهه عند الله تعالى، ولم ينقل معجزة عن نبي من الانبياء من الآيات الحسيات أعظم من هذا، كما قررنا ذلك بأدلته من الكتاب والسنة، في التفسير في أول البعثة، وهذا أعظم من حبس الشمس قليلا ليوشع بن نون حتى تمكن من الفتح ليلة السبت، كما سيأتي في تقرير ذلك مع ما يناسب ذكره عنده، وقد تقدم من سيرة العلاء بن الحضرمي، وأبي عبيد الثقفي وأبي مسلم الخولاني، وسير الجيوش التي كانت معهم على تيار الماء ومنها دجلة وهي جارية عجاجة تقذف الخشب من شدة جريها، وتقدم تقرير أن هذا أعجب من فلق البحر لموسى من عدة وجوه والله أعلم * وقال ابن حامد: فإن قالوا: فإن موسى عليه السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان ذلك آية لموسى عليه السلام، قلنا: فقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها، قال علي رضي الله عنه: لما خرجنا إلى خيبر فإذا نحن بواد سحت وقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة، فقالوا: يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي من أمامنا، كما قال أصحاب موسى: إنا لمدركون.
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبرت الخيل لا تبدي حوافرها والابل لا تبدي أخفافها، فكان ذلك فتحا، وهذا الذي ذكره بلا إسناد ولا أعرفه في شئ من الكتب المعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن بل ضعيف فالله أعلم * وإما تظليله بالغمام في التيه، فقد تقدم ذكر حديث الغمامة التي رآها بحيرا تظله من بين أصحابه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، صحبة عمه أبي طالب وهو قادم إلى الشام في تجارة، وهذا أبهر من جهة أنه كان وهو قبل أن يوحى إليه، وكانت الغمامة تظلله وحده من بين أصحابه، فهذا أشد في الاعتناء، وأظهر من غمام بني إسرائيل وغيرهم، وأيضا فإن المقصود من تظليل الغمام إنما كان لاحتياجهم إليه من شدة الحر، وقد ذكرنا في الدلائل حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ليسقوا لما هم عليه من الجوع والجهد والقحط، فرفع يديه وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، فأنشأت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال أنس: فلا والله ما رأينا الشمس سبتنا (1)، ولما
__________
(1) وفي رواية: ستا.

سألوه أن يستصحي لهم رفع يده وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما جعل يشير بيديه إلى ناحية إلا انحاز السحاب إليها حتى صارت المدينة مثل الاكليل يمطر ما حولها ولا تمطر * فهذا تظليل عام محتاج إليه، آكد من الحاجة إلى ذلك، وهو أنفع منه والتصرف فيه وهو يشير أبلغ في المعجز وأظهر في الاعتناء والله أعلم * وأما إنزال المن والسلوى عليهم فقد كثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام والشراب في غير ما موطن كما تقدم بيانه في دلائل النبوة من إطعام الجم الغفير من الشئ اليسير، كما أطعم يوم الخندق من شويهة جابر بن عبد الله وصاعه الشعير، أزيد من ألف نفس جائعة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين * وأطعم من حفنة قوما من الناس وكانت تمد من السماء، إلى غير ذلك من هذا القبيل مما يطول ذكره * وقد ذكر أبو نعيم وابن حامد أيضا ههنا أن المراد بالمن والسلوى إنما هو رزق رزقوه من غير كد منهم ولا تعب، ثم أورد في مقابلته حديث تحليل المغنم ولا يحل لاحد قبلنا، وحديث جابر في سيره إلى عبيدة وجوعهم حتى أكلوا الخبط فحسر البحر لهم عن دابة تسمى العنبر فأكلوا منها ثلاثين من يوم وليلة حتى سمنوا وتكسرت عكن بطونهم، والحديث في الصحيح كما تقدم، وسيأتي عند ذكر المائدة في معجزات المسيح بن مريم.
قصة أبي موسى الخولاني أنه خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الحج وأمرهم أن لا يحملوا زادا ولا مزادا فكانوا إذا نزلوا منزلا صلى ركعتين فيؤتون بطعام وشراب وعلف يكفيهم ويكفي دوابهم غداء وعشاء مدة ذهابهم وإيابهم، وأما قوله تعالى: * (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم) * [ البقرة: 60 ] الآية فقد ذكرنا بسط ذلك في قصة موسى عليه السلام وفي التفسير.
وقد ذكرنا الاحاديث الواردة في وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الاناء الصغير الذي لم يسع بسطها فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه أمثال العيون، وكذلك كثر الماء في غير ما موطن، كمزادتي تلك المرأة، ويوم الحديبية، وغير ذلك، وقد
استسقى الله لاصحابه في المدينة وغيرها فأجيب طبق السؤال وفق الحاجة لا أزيد ولا أنقص وهذا أبلغ في المعجز، ونبع الماء من بين أصابعه من نفس يده، على قول طائفة من العلماء، أعظم من نبع الماء من الحجر فإنه محل لذلك * قال أبو نعيم الحافظ: فإن قيل: إن موسى كان يضرب بعصاه الحجر فينفجر منه إثنتا عشرة عينا في التيه، قد علم كل أناس مشربهم.
قيل: كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مثله أو أعجب، فإن نبع الماء من الحجر مشهور في العلوم والمعارف، وأعجب من ذلك نبع الماء من بين اللحم والدم والعظم، فكان يفرج بين أصابعه في محصب فينبع من بين أصابعه الماء فيشربون ويسقون ماء جاريا عذبا، يروي العدد الكثير من الناس والخيل والابل * ثم روى من طريق المطلب بن عبد الله بن أبي حنطب: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الانصاري، حدثني أبي.
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، فبات الناس في مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه، ثم دعا بماء فصبه فيها، ثم مج فيها وتكلم ما شاء الله أن يتكلم، ثم أدخل إصبعه

فيها، فأقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفجر منها ينابيع الماء، ثم أمر الناس فسقوا وشربوا وملاوا قربهم وأداواتهم * وأما قصة إحياء الذين قتلوا بسبب عبادة العجل وقصة البقرة، فيسأتي ما يشابههما من إحياء حيوانات وأناس، عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى بن مريم والله أعلم * وقد ذكر أبو نعيم ههنا أشياء أخر تركناها إختصارا وإقتصادا * وقال هشام ابن عمارة في كتابه المبعث: باب ما أعطي رسول ا صلى الله عليه وآله وما أعطي الانبياء قبله حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا روح بن مدرك، أخبرني عمر بن حسان التميمي أن موسى عليه السلام أعطي آية من كنوز العرش، رب لا تولج الشيطان في قلبي وأعذني منه ومن كل سوء، فإن لك اليد والسلطان والملك والملكوت، دهر الداهرين وأبد الآبدين آمين آمين، قال: وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم آيتان من كنوز العرش، آخر سورة البقرة: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه إلى
آخرها.
قصة حبس الشمس على يوشع بن نون بن أفرائم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم السلام، وقد كان نبي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وهو الذي خرج ببني إسرائيل من التيه ودخل بهم بيت المقدس بعد حصار ومقاتلة، وكان الفتح قد ينجز بعد العصر يوم الجمعة وكادت الشمس تغرب ويدخل عليهم السبت فلا يتمكنون معه من القتال، فنظر إلى الشمس فقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، ثم قال: اللهم احبسها علي، فحبسها الله عليه حتى فتح البلد ثم غربت، وقد قدمنا في قصة من قصص الانبياء الحديث الوارد في صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر بن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غزا نبي من الانبياء فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم امسكها علي شيئا، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، الحديث بطوله، وهذا النبي هو يوشع بن نون، بدليل ما رواه الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن هشام، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالي سار إلى بيت المقدس (1) * تفرد به أحمد وإسناده على شرط البخاري * إذا علم هذا فانشقاق القمر
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2 / 325.

فلقتين حتى صارت فلقة من وراء الجبل - أعني حراء - وأخرى من دونه، أعظم في المعجزة من حبس الشمس قليلا.
وقد قدمنا في الدلائل حديث رد الشمس بعد غروبها، وذكرنا ما قيل فيه من المقالات فالله أعلم * قال شيخنا العلامة أبو المعالي بن الزملكاني: وأما حبس الشمس ليوشع في قتال الجبارين، فقد انشق القمر لنبينا صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر فلقتين أبلغ من حبس الشمس عن مسيرها، وصحت الاحاديث وتواترت بإنشقاق القمر، وأنه كان فرقة خلف الجبل وفرقة أمامه، وأن قريشا قالوا: هذا سحر أبصارنا، فوردت المسافرون وأخبروا أنهم رأوه مفترقا، قال الله
تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) * [ القمر: 1 ] قال: وقد حبست الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، إحداهما ما رواه الطحاوي وقال: رواته ثقات، وسماهم وعدهم واحدا واحدا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحي إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يرفع رأسه حتى غربت الشمس، ولم يكن علي صلى العصر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، فرد الله عليه الشمس حتى رؤيت، فقام علي فصلى العصر، ثم غربت * والثانية صبيحة الاسراء فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر قريشا عن مسراه من مكة إلى بيت المقدس، فسألوه عن أشياء من بيت المقدس فجلاه الله له حتى نظر إليه ووصفه لهم، وسألوه عن عير كانت لهم في الطريق فقال: إنها تصلى إليكم مع شروق الشمس، فتأخرت فحبس الله الشمس عن الطلوع حتى كانت العصر * روى ذلك ابن بكير في زياداته على السنن، أما حديث رد الشمس بسبب علي رضي الله عنه، فقد تقدم ذكرنا له من طريق أسماء بنت عميس، وهو أشهرها، وابن سعيد وأبي هريرة وعلي نفسه، وهو مستنكر من جميع الوجوه، وقد مال إلى تقويته أحمد بن صالح المصري الحافظ، وأبو حفص الطحاوي، والقاضي عياض، وكذا صححه جماعة من العلماء الرافضة كابن المطهر وذويه، ورده وحكم بضعفه آخرون من كبار حفاظ الحديث ونقادهم، كعلي بن المديني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وحكاه عن شيخه محمد ويعلى بن عبيد الطنافسيين، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه أحد الحفاظ، والحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وذكره الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات، وكذلك صرح بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران أبو الحجاج المزي، وأبو عبد الله الذهبي * وأما ما ذكره يونس بن بكير في زياداته على السيرة من تأخر طلوع الشمس عن إبان طلوعها، فلم ير لغيره من العلماء، على أن هذا ليس من الامور المشاهدة، وأكثر ما في الباب أن الراوي روى تأخير طلوعها ولم نشاهد حبسها عن وقته * وأغرب من هذا ما ذكره ابن المطهر في كتابه المنهاج، أنها ردت لعلي مرتين، فذكر الحديث المتقدم، كما ذكر، ثم قال: وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل، اشتغل كثير من
أصحابه بسبب دوابهم، وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفاتت كثير منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت * قال: وذكر أبو نعيم بعد موسى إدريس عليه السلام وهو

عند كثير من المفسرين من أنبياء بني إسرائيل، وعند محمد بن إسحاق بن يسار وآخرين من علماء النسب قبل نوح عليه السلام، في عمود نسبه إلى آدم عليه السلام، كما تقدم التنبيه على ذلك.
فقال: القول فيما أعطي إدريس عليه السلام من الرفعة التي نوه الله بذكرها فقال: * (ورفعناه مكانا عليا) * قال: والقول فيه أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أعطي أفضل وأكمل من ذلك، لان الله تعالى رفع ذكره في الدنيا والآخرة فقال: * (ورفعنا لك ذكرك) * [ الشرح: 4 ] فليس خطيب ولا شفيع ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقرن الله اسمه باسمه، في مشارق الارض ومغاربها، وذلك مفتاحا للصلاة المفروضة، ثم أورد حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهشيم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: * (ورفعنا لك ذكرك) * قال: قال جبريل: قال الله: إذا ذكرت ذكرت * ورواه ابن جرير وابن أبي عاصم من طريق دراج.
ثم قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا موسى بن سهل الجوني، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدثنا نصر بن حماد، عن عثمان بن عطاء، عن الزهري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما فرغت مما أمرني الله تعالى به من أمر السموات والارض قلت: يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد كرمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي ؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله، أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرؤن القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا إسناد فيه غرابة، ولكن أورد له شاهدا من طريق أبي القاسم ابن بنت منيع البغوي عن سليمان بن
داود المهراني، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا بنحوه * وقد رواه أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة بسياق آخر، وفيه انقطاع، فقال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زريق أنه سمع عطاء الخراساني يحدث عن أبي هريرة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ليلة أسرى به.
قال، لما أراني الله من آياته فوجدت ريحا طيبة فقلت: ما هذا يا جبريل ؟ قال، هذه الجنة، قلت: يا ربي ائتني بأهلي، قال الله تعالى: لك ما وعدتك، كل مؤمن ومؤمنة لم يتخذ من دوني أندادا، ومن أقرضني قربته، ومن توكل علي كفيته، ومن سألني أعطيته، ولا ينقص نفقته، ولا ينقص ما يتمنى، لك ما وعدتك، فنعم دار المتقين أنت، قلت: رضيت، فلما انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجدا فرفعت رأسي فقلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وآتيت داود زبورا، وآتيت سليمان ملكا عظيما، قال: فإني قد رفعت لك ذكرك، ولا تجوز لامتك خطبة حتى يشهدوا أنك رسولي، وجعلت قلوب أمتك أناجيل، وآتيتك خواتيم سورة

البقرة من تحت عرشي * ثم روي من طريق الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، حديث الاسراء بطوله، كما سقناه من طريق ابن جرير في التفسير، وقال أبو زرعة في سياقه: ثم لقي أرواح الانبياء عليهم السلام فأثنوا على ربهم عز وجل، فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا، وأعطاني ملكا عظيما، وجعلني أمة قانتا لله محياي ومماتي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردا وسلاما.
ثم إن موسى أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليما، واصطفاني برسالته وبكلامه، وقربني نجيا، وأنزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون على يدي.
ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني ملكا وأنزل علي الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن معه والطير، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والجن والانس، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وأسال لي عين القطر،
وأعطاني ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي.
ثم إن عيسى أثنى على الله عز وجل فقال: الحمد لله الذي علمني التوراة والانجيل، وجعلني أبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بأذن الله، وطهرني ورفعني من الذين كفروا، وأعاذني من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه، وأنا مثن على ربي، الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين.
وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شئ، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الاولون وهم الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا وخاتما.
فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم * ثم أورد إبراهيم الحديث المتقدم فيما رواه الحاكم والبيهقي من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب مرفوعا في قول آدم: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فقال الله: وما أدراك ولم أخلقه بعد ؟ فقال: لاني رأيت مكتوبا مع اسمك على ساق العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، ولو لا محمد ما خلقتك * وقال بعض الائمة: رفع الله ذكره، وقرنه باسمه في الاولين والآخرين، وكذلك يرفع قدره ويقيمه مقاما محمودا يوم القيامة، يغبطه به الاولون والآخرون، ويرغب إليه الخلق كلهم حتى إبراهيم الخليل، كما ورد في صحيح مسلم فيما سلف وسيأتي أيضا، فأما التنويه بذكره في الامم الخالية، والقرون السابقة، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: ما بعث لله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن بهه وليتبعنه ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه، وقد بشرت بوجوده الانبياء حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكذلك بشرت به الاحبار الرهبان والكهان، كما قدمنا ذلك مبسوطا، ولما كانت ليلة الاسراء رفع من سماء إلى سماء حتى سلم على إدريس عليه السلام، وهو في السماء

الرابعة، ثم جاوزه إلى الخامسة ثم إلى السادسة فسلم على موسى بها، ثم جاوزه إلى السابعة فسلم
على إبراهيم الخليل عند البيت المعمور، ثم جاوز ذلك المقام، فرفع لمستوى سمع فيه صريف الاقلام، وجاء سدرة المنتهى ورأى الجنة والنار وغير ذلك من الآيات الكبرى، وصلى بالانبياء، وشيعه من كل مقربوها، وسلم عليه رضوان خازن الجنان، وملك خازن النار، فهذا هو الشرف، وهذه هي الرفعة، وهذا هو التكريم والتنويه والاشهار والتقديم والعلو والعظمة.
صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، وأما رفع ذكره في الآخرين، فإن دينه باق ناسخ لكل دين، ولا ينسخ هو أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى يوم الدين، ولا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، والنداء في كل يوم خمس مرات على كل مكان مرتفع من الارض: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وهكذا كل خطيب يخطب لا بد أن يذكره في خطبته، وما أحسن قول حسان.
أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الاله اسم النبي إلى إسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من إسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد وقال الصرصري رحمه الله: ألم تر أنا لا يصح أذاننا * ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما القول فيما أوتي داود عليه السلام قال الله تعالى: * (واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق * والطير محشورة كل له أواب) * [ ص: 17 ] وقال تعالى: * (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد أن أعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) * [ سبأ: 10 ] وقد ذكرنا قصته عليه السلام في التفسير، وطيب صوته عليه السلام، وأن الله تعالى كان قد سخر له الطير تسبح معه، وكانت الجبال أيضا تجيبه وتسبح معه، وكان سريع القراءة، يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ الزبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثم يركب، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم حسن
الصوت طيبه بتلاوة القرآن، قال جبير بن مطعم: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب بالتين والزيتون، فما سمعت صوتا أطيب من صوته صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ ترتيلا كما أمره الله عز وجل بذلك * وأما تسبيح الطير مع داود، فتسبيح الجبال الصم أعجب من ذلك، وقد تقدم في الحديث أن الحصا سبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حامد: وهذا حديث معروف مشهور، وكانت الاحجار والاشجار والمدر تسلم عليه صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل - يعني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم - وكلمه ذراع الشاة المسمومة، وأعلمه بما فيه من السم،

وشهدت بنبوته الحيوانات الانسية والوحشية، والجمادات أيضا، كما تقدم بسط ذلك كله، ولا شك أن صدور التسبيح من الحصا الصغار الصم التي لا تجاويف فيها، أعجب من صدور ذلك من الجبال: لما فيها التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلها تردد صدى الاصوات العالية غالبا، كما قال عبد الله بن الزبير: كان إذا خطب - وهو أمير المدينة بالحرم الشريف - تجاوبه الجبال، أبو قبيس وزرود، ولكن من غير تسبيح، فإن ذلك من معجزات داود عليه السلام.
ومع هذا كان تسبيح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، أعجب * وأما أكل داود من كسب يده، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من كسبه أيضا، كما كان يرعى غنما لاهل مكة على قراريط.
وقال: وما من نبي إلا وقد رعى الغنم.
وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربة، وقال الله تعالى: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) * [ الفرقان: 7 ] إلى قوله: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق) * [ الفرقان: 20 ] أي للتكسب والتجارة طلبا للربح الحلال.
ثم لما شرع الله الجهاد بالمدينة، كان يأكل مما أباح له من المغانم التي لم تبح قبله، ومما أفاء الله عليه من أموال الكفار التي أبيحت له دون غيره، كما جاء في المسند والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى
يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم * وأما إلانة الحديد بغير نار كما يلين العجين في يده، فكان يصنع هذه الدروع الداوودية، وهي الزرديات السابغات، وأمره الله تعالى بنفسه بعملها، وقدر في السرد، أي ألا يدق المسمار فيعلق، ولا يعظله فيقصم، كما جاء في البخاري، وقال تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) * [ الانبياء: 80 ] وقد قال بعض الشعراء في معجزات النبوة: نسيج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدم في السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الاحزاب، في سنة أربع، وقيل: خمس، أنهم عرضت لهم كدية - وهي الصخرة في الارض - فلم يقدروا على كسرها ولا شئ منها، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع - فضربها ثلاث ضربات، لمعت الاولى حتى أضاءت له منها قصور الشام، وبالثانية قصور فارس، وثالثة، ثم انسالت الصخرة كأنها كثيب من الرمل، ولا شك أن انسيال الصخرة التي لا تنفعل ولا بالنار، أعجب من لين الحديد الذي إن أحمى لانه كما قال بعضهم: فلو أن ما عالجت لين فؤادها * بنفسي للان الجندل [ الصلد ] (1)
__________
(1) سقطت من الاصل.
والجندل: الصخر العظيم.

والجندل الصخر، فلو أن شيئا أشد قوة من الصخر لذكره هذا الشاعر المبالغ، قال الله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) * الآية [ البقرة: 74 ] وأما قوله تعالى: * (قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم) * الآية [ الاسراء: 50 ] فذلك لمعنى آخر في التفسير، وحاصله أن الحديد أشد امتناعا في الساعة الراهنة من الحجر ما لم يعالج، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم * وقال أبو نعيم: فإن قيل: فقد لين الله لداود عليه السلام الحديد حتى سرد منه الدروع السوابغ، قيل: لينت لمحمد صلى الله عليه وسلم الحجارة
وصم الصخور، فعادت له غارا استتر به من المشركين، يوم أحد، مال إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم فلين الجبل حتى أدخل رأسه فيه، وهذا أعجب لان الحديد تلينه النار، ولم نر الناس تلين الحجر، قال: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس.
قال: وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل في صلايه (1) إليه فلان الحجر حتى ادرأ فيه بذراعيه وساعديه، وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه.
وعادت الصخرة ليلة أسري به كهيئة العجين، فربط بها دابته - البراق - وموضعه يمسونه الناس إلى يومنا هذا.
وهذا الذي أشار إليه، من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جدا، ولعله قد أسنده هو فيما سلف، وليس ذلك بمعروف في السيرة المشهورة.
وأما ربط الدابة في الحجر فصحيح، والذي ربطها جبريل كما هو في صحيح مسلم رحمه الله * وأما قوله: وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم والشرعة التي شرعت له، أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الانبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فإن الله جمع له محاسن من كان قبله، وفضله، وأكمله [ وآتاه ] ما لم يؤت أحدا قبله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم، واختصرت لي الحكمة اختصارا * ولا شك أن العرب أفصح الامم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصحهم نطقا، وأجمع لكل خلق جميل مطلقا * القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام قال الله تعالى: * (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * [ ص: 36 - 40 ] وقال تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) * [ الانبياء: 81 ] وقال تعالى: * (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بأذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) * [ سبأ: 12 ] وقد بسطنا ذلك في
قصته، وفي التفسير أيضا، وفي الحديث الذي رواه الامام أحمد وصححه الترمذي وابن حبان

والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا، سأل الله حكما يوافق حكمه، وملكا لا ينبغي لاحد من بعده، وأنه لا يأتي هذا المسجد أحد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
أما تسخير الريح لسليمان فقد قال الله تعالى في شأن الاحزاب: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) * [ الاحزاب: 9 ] وقد تقدم في الحديث الذي رواه مسلم، من طريق شعبة، عن الحاكم، عن مجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور * ورواه مسلم من طريق الاعمش عن مسعود بن مالك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وثبت في الصحيحين: نصرت بالرعب مسيرة شهر.
ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قصد قتال قوم من الكفار ألقى الله الرعب في قلوبهم قبل وصوله إليهم بشهر، ولو كان مسيره شهرا، فهذا في مقابلة: غدوها شهر ورواحها شهر، بل هذا أبلغ في التمكن والنصر والتأييد والظفر، وسخرت الرياح تسوق السحاب لانزال المطر الذي امتن الله به حين استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن كما تقدم * وقال أبو نعيم: فإن قيل: فإن سليمان سخرت له الريح فسارت به في بلاد الله وكان غدوها شهرا ورواحها شهرا.
قيل: ما أعطي محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر، لانه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة، في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء، ورأى عجائبها، ووقف علي الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته، وصلى بالانبياء وبملائكة السموات، واخترق الحجب، وهذا كله في ليلة قائما، أكبر وأعجب.
وأما تسخير الشياطين بين يديه تعمل ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فقد أنزل الله الملائكة المقربين لنصرة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن، يوم أحد وبدر، ويوم الاحزاب ويوم حنين، كما تقدم ذكرناه ذلك مفصلا في مواضعه.
وذلك أعظم وأبهر، وأجل وأعلا تسخير الشياطين.
وقد ذكر ذلك ابن حامد في كتابه.
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة، أو كلمة نحوها، ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى يصبحوا وينظروا إليه، فذكرت دعوة أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي، قال روح فرده الله خاسئا (1).
لفظ البخاري * ولمسلم عن أبي الدرداء نحوه، قال: ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لاصبح يلعب به ولدان أهل المدينة.
وقد روى الامام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الانبياء، باب (40) ح (3423) فتح الباري 6 / 457.
ومسلم في المساجد، باب (8) ح (39) ص (384) وح (40) ص (385).

وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أختنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين، الابهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لاصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان أهل المدينة (1) * وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين، وفي رواية: مردة الجن * فهذا من بركة ما شرعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه، وسيأتي عند إبراء الاكمه والابرص من معجزات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير ما واحد ممن أسلم من الجن فشفي، وفارقهم خوفا منه ومهابة له، وامتثالا لامره.
صلوات الله وسلامه عليهم، وقد بعث الله نفرا من الجن يستمعون القرآن فآمنوا به وصدقوه ورجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وحذروهم مخالفته، لانه كان مبعوثا إلى الانس والجن، فآمنت طوائف من الجن كثيرة كما ذكرنا، ووفدت إليه منهم وفود كثيرة وقرأ عليهم سورة الرحمن، وخبرهم بما لمن آمن منهم من الجنان، وما لمن كفر من النيران، وشرع لهم ما يأكلون وما يطعمون دوابهم، فدل على أنه بين لهم
ما هو أهم من ذلك وأكبر * وقد ذكر أبو نعيم ها هنا حديث الغول التي كانت تسرق التمر من جماعة من أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويريدون إحضارها إليه فتمتنع كل الامتناع خوفا من المثول بين يديه، ثم افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسي التي لا يقرب قارئها الشيطان، وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عند تفسير آية الكرسي من كتابنا التفسير ولله الحمد * والغول هي الجن المتبدي بالليل في صورة مرعبة * وذكر أبو نعيم ها هنا حماية جبريل له عليه السلام غير ما مرة من أبي جهل كما ذكرنا في السيرة، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يوم أحد * وأما ما جمع الله تعالى لسليمان من النبوة والملك كما كان أبوه من قبله، فقد خير الله عبده محمدا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا رسولا، فاستشار جبريل في ذلك فأشار إليه وعليه أن يتواضع، فاختار أن يكون عبدا رسولا، وقد روى ذلك من حديث عائشة وابن عباس، ولا شك أن منصب الرسالة أعلى.
وقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم كنوز الارض فأباها، قال: ولو شئت لاجرى الله معي جبال الارض ذهبا، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما، وقد ذكرنا ذلك كله بأدلته وأسانيده في التفسير وفي السيرة أيضا ولله الحمد والمنة * وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا طرفا منها من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم جئ بمفاتيح خزائن الارض فجعلت في يدي * ومن حديث الحسين بن واقد عن الزبير عن جابر مرفوعا أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه قطيفة من سندس * ومن حديث القاسم عن أبي لبابة مرفوعا: عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك * قال أبو نعيم:
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 82 وأخرجه عن جابر بن سمرة، وعن عبد الله بن مسعود في المسند بنحوه 5 / 104 و 105.

فإن قيل: سليمان عليه السلام كان يفهم كلام الطير والنملة كما قال تعالى: * (وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير) * [ النمل: 16 ] الآية وقال: * (فلما أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها
النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها) * [ النمل: 18 ] الآية.
قيل: قد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وأكثر منه، فقد تقدم ذكرنا لكلام البهائم والسباع وحنين الجذع ورغاء البعير وكلام الشجر وتسبيح الحصا والحجر، ودعائه إياه واستجابته لامره، وإقرار الذئب بنبوته، وتسبيح الطير لطاعته، وكلام الظبية وشكواها إليه، وكلام الضب وإقراره بنبوته، وما في معناه، كل ذلك قد تقدم في الفصول بما يغني عن إعادته.
انتهى كلامه.
قلت: وكذلك أخبره ذراع الشاة بما فيه من السم وكان ذلك بأقرار من وضعه فيه من اليهود، وقال إن هذه السحابة لتبتهل بنصرك يا عمرو بن سالم - يعني الخزاعي - حين أنشده تلك القصيدة يستعديه فيها على بني بكر الذين نقضوا صلح الحديبية، وكان ذلك سبب فتح مكة كما تقدم وقال صلى الله عليه وسلم: إني لاعرف حجرا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث، إني لاعرفه الآن * فهذا إن كان كلاما مما يليق بحاله ففهم عنه الرسول ذلك، فهو من هذا القبيل وأبلغ، لانه جماد بالنسبة إلى الطير والنمل، لانهما من الحيوانات ذوات الارواح، وإن كان سلاما نطقيا وهو الاظهر، فهو أعجب من هذا الوجه أيضا، كما قال علي: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فما مر بحجر ولا شجر ولا مدر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فهذا النطق سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه * ثم قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن محمد بن الحارث العنبري، حدثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن سويد النخعي، حدثنا عبد الله بن أذينة الطائي، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معلاة بن جبل قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر - حمار أسود فوقف بين يديه فقال: من أنت ؟ فقال: أنا عمرو بن فهران، كنا سبعة إخوة ولكنا ركبنا الانبياء وأنا أصغرهم، وكنت لك فملكني رجل من اليهود، وكنت إذ اذكرك عثرت به فيوجعني ضربا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأنت يعفور * وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ولا يحتاج إلى ذكره مع ما تقدم من الاحاديث الصحيحة التي فيها غنية عنه.
وقد روي على غير هذه الصفة، وقد نص على نكارته ابن أبي حاتم عن أبيه، والله أعلم.
القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام
ويسمى المسيح، فقيل: لمسحه الارض، وقيل: لمسح قدمه، وقيل، لخروجه من بطن أمه ممسوحا بالدهان، وقيل: لمسح جبريل بالبركة، وقيل: لمسح الله الذنوب عنه، وقيل: لانه كان لا يمسح أحدا إلا برأ.
حكاها كلها الحافظ أبو نعيم رحمه الله.
ومن خصائصه أنه عليه السلام مخلوق بالكلمة من أنثى بلا ذكر، كما خلقت حواء من ذكر بلا أنثى، وكما خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وإنما خلقه الله تعالى من تراب ثم قال له: كن فيكون.
وكذلك يكون عيسى

بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق منها عيسى * ومن خصائصه وأمه أن إبليس لعنه الله حين ولد ذهب يطعن فطعن في الحجاب كما جاء في الصحيح، ومن خصائصه أنه حي لم يمت، وهو الآن بجسده في السماء الدنيا، وسينزل قبل يوم القيامة على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، فيملا الارض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، ويحكم بهذه الشريعة المحمدية ثم يموت ويدفن بالحجرة النبوية، كما رواه الترمذي وقد بسطنا ذلك في قصته * وقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني رحمه الله: وأما معجزات عيسى عليه السلام، فمنها إحياء الموتى، وللنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت، وقد كلم النبي صلى الله عليه وسلم الذراع المسمومة، وهذا الاحياء أبلغ من إحياء الانسان الميت من وجوه.
أحدها، أنه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته، وهذا معجز لو كان متصلا بالبدن، الثاني: أنه أحياه وحده منفصلا عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية، الثالث: أنه أعاد عليه الحياة مع الادراك والعقل، ولم يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الذي هو جزؤه مما يتكلم (1)، وفي هذا ما هو أبلغ من حياة الطيور التي أحياها الله لابراهيم عليه السلام * قلت: وفي حلول الحياة والادراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام عليه، كما روي في صحيح مسلم، من المعجز ما هو أبلغ من إحياء الحيوان في الجملة، لانه كان محلا للحياة في وقت: بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الاحجار والمدر عليه، وكذلك الاشجار والاغصان وشهادتها بالرسالة، وحنين الجذع * وقد جمع ابن أبي الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت، وذكر منها كثيرا، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: دخلنا على رجل
من الانصار وهو مريض يعقل فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه وسجيناه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله فقالت: وما ذاك ؟ أمات ابني ؟ قلنا: نعم، قالت: أحق ما تقولون ؟ قلنا: نعم، فمدت يدها إلى الله تعالى فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كل شدة ورخاء، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم.
قال: فكشف الرجل عن وجهه وقعد، وما برحنا حتى أكلنا معه * وهذه القصة قد تقدم التنبيه عليها في دلائل النبوة.
وقد ذكر معجز الطوفان مع قصة العلاء بن الحضرمي * وهذا السياق الذي أورده شيخنا ذكر بعضه بالمعنى، وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، والحافظ أبو بكر البيهقي من غير وجه عن صالح بن بشير المري - أحد زهاد البصرة وعبادها - وفي حديثه لين عن ثابت عن أنس فذكره.
وفي رواية البيهقي أن أمه كانت عجوزا عمياء ثم ساقه البيهقي من طريق عيسى بن يونس، عن عبد الله بن عون عن أنس كما تقدم (2)، وسياقه أتم، وفيه
__________
(1) كذا بالاصل، وفي هامش طبعة دار السعادة: لعل الصواب " ولم يكن هذا الحيوان الذي هو جزؤه يعقل في حياته ولا مما يتكلم.
".
(2) انظر الخبر في الدلائل ج 6 / 51 - 52.

أن ذلك كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بإسناد رجاله ثقات، ولكن فيه إنقطاع بين عبد الله بن عون وأنس والله أعلم.
قصة أخرى قال الحسن بن عوفة: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في بعض الطريق نفق حماره فقام وتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت من المدينة (1) مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لاحد علي اليوم منة، أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون
كرامة لصاحب الشريعة.
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي وكأنه عند إسماعيل من الوجهين (2).
والله أعلم * قلت: كذلك رواه ابن أبي الدنيا: من طريق إسماعيل عن الشعبي فذكره قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني بالكوفة - وقد أوردها ابن أبي الدنيا من وجه آخر، وأن ذلك كان في زمن عمر بن الخطاب، وقد قال بعض قومه في ذلك: ومنا الذي أحي الاله حماره * وقد مات منه كل عضو ومفصل وأما قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للني صلى الله عليه وسلم ولابي بكر وعمر وعثمان بالصدق فمشهورة مروية من وجوه كثيرة صحيحة.
قال البخاري في التاريخ الكبير: زيد بن خارجة الخزرجي الانصاري شهد بدرا وتوفي في زمن عثمان، وهو الذي تكلم بعد الموت * وروى الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائله وصححه كما تقدم من طريق العتبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الانصاري عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الانصاري ثم من الحارث بن الخزرج، توفي زمن عثمان بن عفان فسجي بثوبه، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد في الكتاب الاول صدق صدق، أبو بكر الضعيف في نفسه، القوي في أمر الله، وفي الكتاب الاول صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي في الكتاب الاول، صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان، أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خير * قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: ثم هلك رجل من بني حطمة فسجى بثوبه فسمع جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: إن أخا بني حارث بن الخزرج صدق صدق، ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي أيضا من وجهه آخر بأبسط من هذا وأطول، وصححه البيهقي.
قال: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعه
__________
(1) في رواية البيهقي: الدثنية، وفي رواية أخرى: الدفينة ذكرها ابن كثير في هذا الجزء ص 154.
(2) دلائل البيهقي 6 / 48.

بأسانيد صحيحة والله أعلم * قلت: قد ذكرت في قصة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الالف منها ومن قليل شعير ما تقدم.
وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر، في كتابه الغرائب والعجائب بسنده، كما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عظامها ثم دعا الله تعالى فعادت كما كانت فتركها في منزله والله أعلم * قال شيخنا: ومن معجزات عيسى الابراء من الجنون.
وقد أبرأ النبي صلى الله عليه وسلم - يعني من ذلك - هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه.
فأما إبراء عيسى من الجنون.
فما أعرف فيه نقلا خاصا، وإنما كان يبرئ الاكمه والابرص والظاهر ومن جميع العاهات والامراض المزمنة * وأما إبراء النبي صلى الله عليه وسلم من الجنون، فقد روى الامام أحمد والحافظ البيهقي من غير وجه عن يعلى بن مرة أن أمرأة أتت بابن لها صغير به لمم ما رأيت لمما أشد منه، فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى أصابه بلاء، وأصابنا منه بلاء، يوجد منه في اليوم ما يؤذي، ثم قالت: مرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناولينيه، فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغرفاه ونفث فيه ثلاثا وقال: بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله، ثم ناولها إياه فذكرت أنه برئ من ساعته وما رابهم شئ بعد ذلك * وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلامة، عن فرقد السبخي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أمرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن به لمما، وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا، قال فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له فسغ (1) سغة فخرج منه مثل الجور الاسود فشفي * غريب من هذا الوجه، وفرقد فيه كلام وإن كان من زهاد البصرة، لكن ما تقدم له شاهد وإن كانت القصة واحدة والله أعلم * وروى البزار من طريق فرقد أيضا عن سعد بن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فجاءته امرأة من الانصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني، فقال لها: تصبري على ما أنت عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب ؟ فقالت، والذي بعثك بالحق لا صبرن حتى ألقى الله، ثم قالت، إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، وكانت إذا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها وتقول له: أخسأ، فيذهب عنها * وهذا دليل على أن فرقد قد حفظ، فإن هذا له شاهد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟
قلت: بلى، قال، هذه السوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وأنكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: لا بل أصبر، فادع الله أن لا أنكشف، قال: فدعا لها فكانت لا تنكشف * ثم قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا مخلد عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر - امرأة طويلة سوداء - على ستر الكعبة (2) * وذكر الحافظ ابن الاثير في كتاب أسد الغابة في أسماء
__________
(1) في رواية البيهقي: فثع ثعة، والخبر في مسند أحمد 5 / 430.
(2) أخرجه البخاري في المرض، باب (6) فتح الباري 10 / 114، ومسلم في البر والصلة، باب (14) ح (54) ص (1994) والامام أحمد في مسنده 1 / 347 ورواه البيهقي في الدلائل 6 / 156.

الصحابة، أن أم زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد، وأنها عمرت حتى رآها عطاء بن أبي راح رحمهما الله تعالى * وأما إبراء عيسى الاكمه وهو الذي يولد أعمى، وقيل هو الذي لا يبصر في النهار ويبصر في الليل، وقيل: غير ذلك كما بسطنا ذلك في التفسير، والابرص الذي به بهق، فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد عين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد ما سالت على خده، فأخذها في كفه الكريم وأعادها إلى مقرها فاستمرت بحالها وبصرها، وكانت أحسن عينيه رضي الله عنه، كما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة وغيره، وكذلك بسطناه ثم ولله الحمد والمنة، وقد دخل بعض ولده وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأله عنه فأنشأ يقول: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لاول أمرها * فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد فقال عمر بن عبد العزيز: تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبو الا ثم أجازه فأحسن جائزته * وقد روى الدار قطني أن عينيه أصيبتا معا حتى سالتا على خديه، فردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانهما.
والمشهور الاول كما ذكر ابن إسحاق.
قصة الاعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول قال الامام أحمد: حدثنا روح وعثمان بن عمر قالا: حدثنا شعبة عن أبي جعفر المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضريرا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يعافيني، فقال: إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت: قال: بل ادع الله لي، قال: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني أتوجه به في حاجتي هذه فتقضي، وقال في رواية عثمان بن عمر: فشفعه في، قال: ففعل الرجل فبرأ * ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر الخطمي.
وقد رواه البيهقي عن الحاكم بسنده إلى أبي جعفر الخطمي، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف فذكر نحوه، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضر قط (1).
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 138 وأخرجه الترمذي في الدعوات، باب (119) الحديث (3578) ص (5 / 569) عن محمود بن غيلان.
وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أحمد بن منصور بن سيار وأخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 167.

قصة أخرى قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبد العزيز بن عمر، حدثني رجل من بني سلامان بن سعد عن أمه عن خاله، أو أن خاله أو خالها حبيب بن قريط (1) حدثها أن أباه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فقال له، ما أصابك ؟ قال: كنت (2) حملا لي فوقعت رجلي على بيض حية فأصيب بصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر، فرأيته وإنه ليدخل الخيط في الابرة، وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان، قال البيهقي: وغيره يقول حبيب بن مدرك * وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفث في عيني علي يوم خيبر
وهو أرمد فبرأ من ساعته، ثم لم يرمد بعدها أبدا، ومسح رجل جابر بن عتيك وقد انكسرت رجله ليلة قتل أبا رافع - تاجر أهل الحجاز الخيبري - فبرأ من ساعته أيضا * وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم مسح (3) يد محمد بن حاطب وكانت قد احترقت بالنار فبرأ من ساعته، ومسح رجل سلمة بن الاكوع وقد أصيبت يوم خيبر فبرأت من ساعتها، ودعا لسعد بن أبي وقاص أن يشفى من مرضه ذلك فشفى * وروى البيهقي أن عمه أبا طالب مرض فسأل منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ربه فدعا له فشفى من مرضه ذلك، وكم له من مثلها وعلى مسلكها، من إبراء آلام، وإزالة أسقام، مما يطول شرحه وبسطه * وقد وقع في كرامات الاولياء إبراء الاعمى بعد الدعاء عليه بالعمى أيضا، كما وراه الحافظ ابن عساكر من طريق أبي سعيد بن الاعرابي عن أبي داود: حدثنا عمر بن عثمان، حدثنا بقية، عن محمد بن زياد، عن أبي مسلم: أن امرأة خبثت عليه امرأته، فدعا عليها فذهب بصرها فأتته فقالت: يا أبا مسلم، إني كنت فعلت وفعلت، وإني لا أعود لمثلها، فقال: اللهم إن كانت صادقة فاردد عليها بصرها، فأبصرت * ورواه أيضا من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن واقد، حدثنا ضمرة حدثنا عاصم، حدثنا عثمان بن عطاء قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل منزله..فإذا بلغ وسط الدار كبر وكبرت امرأته فإذا دخل البيت كبر وكبرت امرأته فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام يأكل، فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه، ثم جاء إلى باب البيت فكبر وسلم فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود تنكت في الارض به، فقال لها: مالك ؟ فقالت الناس بخير، وأتت لو أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئا تعيش به، فقال: اللهم من أفسد علي أهلي فأعم بصره، قال: وكانت أتتها امرأة فقالت لامرأة أبي مسلم: لو كلمت زوجك ليكلم معاوية فيخدمكم ويعطيكم ؟ قال:
__________
(1) في رواية البيهقي: ابن فويك، وله ترجمة في الاستيعاب.
(2) بياض بالاصل، وفي رواية الاستيعاب للحديث: كنت أمرن جملا لي.
وفي رواية البيهقي: كنت امرئ جملي.
(3) في البيهقي: تفل على يده.

فبينما هذه المرأة في منزلها والسراج مزهر، إذ أنكرت بصرها، فقالت: سراجكم طفئ ؟ قالوا: لا، قالت: إن الله أذهب بصري، فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده وتتلطف إليه، فدعا الله فرد بصرها، ورجعت امرأته على حالها التي كانت عليها * وأما قصة المائدة التي قال الله تعالى: * (إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فأني معذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * [ المائدة: 112 ] وقد ذكرنا في التفسير بسط ذلك واختلاف المفسرين فيها هل نزلت أم لا على قولين، والمشهور عن الجمهور أنها نزلت، واختلفوا فيما كان عليها من الطعام على أقوال، وذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير، الذي فتح البلاد المغربية أيام بني أمية وجد المائدة، ولكن قيل: إنها مائدة سليمان بن داود مرصعة بالجواهر وهي من ذهب فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك فكانت عنده حتى مات، فتسلمها أخوه سليمان، وقيل: إنها مائدة عيسى * لكن يبعد هذا أن النصارى لا يعرفون المائدة كما قاله غير واحد من العلماء والله أعلم * والمقصود أن المائدة سواء كانت قد نزلت أم لم تنزل (1) وقد كانت موائد رسول الله صلى الله عليه وسلم تمد من السماء وكانوا يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يديه، وكم قد أشبع من طعام يسير ألوفا ومئات وعشرات صلى الله عليه وسلم ما تعاقبت الاوقات، وما دامت الارض والسموات * وهذا أبو مسلم الخولاني، وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخه أمرا عجيبا وشأنا غريبا، حيث روى من طريق إسحاق بن يحيى الملطي عن الاوزاعي قال: أتى أبا مسلم الخولاني نفر من قومه فقالوا: يا أبا مسلم أما تشتاق إلى الحج ؟ قال: بلى لو أصبت لي أصحابا، فقالوا: نحن أصحابك، قال: لستم لي بأصحاب إنما أصحابي قوم لا يريدون الزاد ولا المزاد، فقالوا: سبحان الله، وكيف يسافر أقوام بلا زاد ولا مزاد ؟ قال لهم: إلا ترون إلى
الطير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد والله يرزقها ؟ وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها ؟ قال: فقالوا: فإنا نسافر معك، قال: فهبوا على بركة الله تعالى، قال: فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاد ولا مزاد، فلما انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم طعام لنا وعلف لدوابنا، قال: فقال لهم: نعم، فسجا غير بعيد فيمم مسجد أحجار فصلى فيه ركعتين، ثم جثى على ركبتيه فقال: إلهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي، وإنما خرجت آمرا لك، وقد رأيت البخيل من ولد آدم تنزل به العصابة من الناس فيوسعهم قرى، وإنا أضيافك وزوارك، فأطعمنا، واسقنا، واعلف دوابنا، قال: فأتي بسفرة مدت بين أيديهم، وجئ بجفنة من ثريد، وجئ بقلتين من ماء، وجئ بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل تلك حالهم منذ
__________
(1) كذا بالاصل، والظاهر أن فيه سقطا.

خرجوا من عند أهاليهم حتى رجعوا، لا يتكلفون زادا ولا مزادا * فهذه حال ولي من هذه الامة نزل عليه وعلى أصحابه مائدة كل يوم مرتين مع ما يضاف إليها من الماء والعلوفة لدواب أصحابه.
وهذا اعتناء عظيم، وإنما نال ذلك ببركة متابعته لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم * وأما قوله في عيسى بن مريم عليه السلام: إنه قال لبني إسرائيل * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * الآية، [ آل عمران: 49 ] فهذا شئ يسير على الانبياء، بل وعلى كثير من الاولياء، وقد قال يوسف الصديق لذينك الفتيين المحبوسين معه: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) * الآية.
[ يوسف: 37 ] وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاخبار الماضية طبق ما وقع وعن الاخبار الحاضرة سواء بسواء كما أخبر عن أكل الارضة لتلك الصحيفة الظالمة التي كانت بطون قريش قديما كتبتها على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، فأرسل الله الارضة فأكلتها إلا مواضع اسم الله تعالى، وفي رواية: فأكلت اسم الله منها تنزيها لها أن تكون مع الذي فيها من الظلم والعدوان، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب وهم بالشعب، فخرج
إليهم أبو طالب وقال لهم عما أخبرهم به، فقالوا: إن كان كما قال وإلا فسلموه إلينا، فقالوا: نعم، فأنزلوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، فأقلعت بطون قريش عما كانوا عليه لبني هاشم وبني المطلب، وهدى الله بذلك خلقا كثيرا، وكم له مثلها كما تقدم بسطه وبيانه في مواضع من السيرة وغيرها ولله الحمد والمنة * وفي يوم بدر لما طلب من العباس عمه فداء ادعى أنه لا مال له، فقال له: فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل تحت أسكفة الباب، وقلت لها: إن قتلت فهو للصبية ؟ فقال: والله يا رسول الله إن هذا شئ لم يطلع عليه غيري وغير أم الفضل إلا الله عز وجل * وأخبر بموت النجاشي يوم مات وهو بالحبشة، وصلى عليه، وأخبر عن قتل الامراء يوم مؤتة واحدا بعد واحد وهو على المنبر وعيناه تذرفان، وأخبر عن الكتاب الذي أرسل به حاطب بن بلتعة مع شاكر مولى بني عبد المطلب، وأرسل في طلبها عليا والزبير والمقداد، فوجدوها قد جعلته في عقاصها، وفي رواية في حجزتها، وقد تقدم ذلك في غزوة الفتح، وقال لاميري كسرى اللذين بعث بهما نائب اليمن لكسرى ليستعلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد قتل الليلة ربكما، فأرخا تلك الليلة، فإذا كسرى قد سلط الله عليه ولده فقتله، فأسلما وأسلم نائب اليمن، وكان سبب ملك اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم * وأما إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلة فكثيرة جدا كما تقدم بسط ذلك، وسيأتي في أنباء التواريخ ليقع ذلك طبق ما كان سواء * وذكر ابن حامد في مقابلة جهاد عيسى عليه الصلاة والسلام جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقابلة زهد عيسى عليه الصلاة والسلام، زهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كنوز الارض حين عرضت عليه فأباها، وقال، أجوع يوما وأشبع يوما وأنه كان له ثلاث عشرة زوجة يمضي عليهن الشهر والشهران لا توقد عندهن نار ولا مصباح إنما هو الاسودان التمر والماء، وربما ربط على بطنه الحجر الجوع، وما شبعوا من خبز

بر ثلاث ليال تباعا، وكان فراشه من أدم وحشوه ليف، وربما اعتقل الشاة فيحلبها، ورقع ثوبه، وخصف نعله بيده الكريمة، صلوات الله وسلامه عليه، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لاهله، هذا وكم آثر بآلاف مؤلفة والابل والشاء والغنائم والهدايا، على نفسه
وأهله للفقراء والمحاويج والارامل والايتام والاسرى والمساكين * وذكر أبو نعيم في مقابلة تبشير الملائكة لمريم الصديقة بوضع عيسى ما بشرت به آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حملت به في منامها، وما قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الامة فسميه محمدا، وقد بسطنا ذلك في المولد كما تقدم * وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا حديثا غريبا مطولا بالمولد أحببنا أن نسوقه ليكون الختام نظير الافتتاح، وبالله المستعان، وعليه التكلان ولله الحمد * فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حفص بن عمرو بن الصباح، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، أنا أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عمر الانصاري عن أبيه.
قال: قال ابن عباس: فكان من دلالات حمل محمد صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة: قد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، والملك مخرسا لا ينطق يومه لذلك، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشر بعضهم بعضا، وفي كل شهر من شهوره نداء في الارض ونداء في السموات: أبشروا فقد آن لابي القاسم أن يخرج إلى الارض ميمونا مباركا قال: وبقي في بطن أمه تسعة أشهر، وهلك أبوه عبد الله وهو في بطن أمه، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا، بقي نبيك هذا يتيما، فقال الله تعالى للملائكة: أنا له ولي وحافظ ونصير، فتبركوا بمولده ميمونا مباركا.
وفتح الله لمولده أبواب السماء وجناته، وكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتى لي آت حين مر لي من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين طرا، فإذا ولدتيه فسميه محمدا أو النبي، شأنك.
قال: وكانت تحدث عن نفسها وتقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم، ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافة، قالت: فسمعت وجبة شديدة، وأمرا عظيما، فهالني ذلك، وذلك يوم الاثنين، ورأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب كل رعب وكل فزع ووجل كنت أجد، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا، وكنت عطشانة، فتناولتها فشربتها فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل الطوال،
كأنهن من بنات عبد المطلب يحدقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول: واغوثاه، من أين علمن بي ؟ واشتد بي الامر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، وإذا أنا بديباج أبيض قد مد بين الارض، وإذا قائل يقول: خذوه عن أعين الناس، قالت: رأيت رجالا وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة وأنا يرشح مني عرق كالجمان، أطيب ريحا من المسك الاذفر، وأنا أقول: يا ليت عبد المطلب قد دخل علي، قالت: ورأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من اليواقيت، فكشف الله لي عن بصيرتي، فأبصرت

من ساعتي مشارق الارض ومغاربها، ورأيت ثلاث علامات مضروبات، علم بالمشرق، وعلم بالمغرب، وعلم على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض واشتد بي الطلق جدا، فكنت كأني مسندة إلى أركان النساء، وكثرن علي حتى كأني مع البيت وأنا لا أرى شيئا، فولدت محمدا، فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه فإذا هو ساجد وقد رفع أصبعيه كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء تنزل حتى غشيته، فغيب عن عيني، فسمعت مناديا ينادي يقول: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شرق الارض وغربها، وأدخلوه البحار كلها، ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلموا أنه سمي الماحي، لا يبقى شئ من الشرك إلا محي به، قالت، ثم تخلوا عنه في أسرع وقت فإذا أنابه مدرج في ثوب صوف أبيض، أشد بياضا من اللبن، وتحته حريرة خضراء، وقد قبض محمد ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الابيض، وإذا قائل يقول، قبض محمد مفاتيح النصر، ومفاتيح الريح، ومفاتيح النبوة * هكذا أورده وسكت عليه، وهو غريب جدا * وقال الشيخ جمال الدين أبو زكريا، يحيى بن يوسف بن منصور بن عمر الانصاري الصرصري (1)، الماهر الحافظ للاحاديث واللغة، ذو المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك يشبه في عصره بحسان بن ثابت رضي الله عنه، وفي ديوانه المكتوب عنه في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان ضرير البصر، بصير البصيرة، وكانت وفاته ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة، قتله التتار في كل بنة (2) بغداد كما سيأتي ذلك في موضعه، في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة، وعليه التكلان، قال في
قصيدته من حرف الحاء المهملة من ديوانه: محمد المبعوث للناس رحمة * يشيد ما أوهى الضلال ويصلح لئن سبحت صم الجبال مجيبة * لداود أو لان الحديد المصفح فإن الصخور الصم لانت بكفه * وإن الحصا في كفه ليسبح وإن كان موسى أنبع الماء من العصا * فمن كفه قد أصبح الماء يطفح وإن كانت الريح الرخاء مطيعة * سليمان لا تألو تروح وتسرح فإن الصبا كانت لنصر نبينا * برعب على شهر به الخصم يكلح وإن أوتي الملك العظيم وسخرت * له الجن تشفي مارضيه وتلدح (3) فإن مفاتيح الكنوز بأسرها * أتته فرد الزاهد المترجح وإن كان إبراهيم اعطي خلة * وموسى بتكليم على الطور يمنح فهذا حبيب بل خليل مكلم * وخصص بالرؤيا وبالحق أشرح
__________
(1) الصرصري نسبة إلى صرصر وهي قرية قريبة من بغداد، اشتهر بمدائحه للرسول صلى الله عليه وآله وشعره طبقه عالية، كان فصيحا بليغا، كان ضريرا وقد قتله التتار فيما قاله الذهبي.
(2) كذا بالاصل.
(3) تلدح: من اللدح وهو الضرب باليد.

وخصص بالحوض العظيم وباللوا * ويشفع للعاصين والنار تلفح وبالمقعد الاعلى المقرب عنده * عطاء ببشراه أقر وأفرح وبالرتبة العليا الاسيلة دونها (1) * مراتب أرباب المواهب تلمح وفي جنة الفردوس أو داخل * له سائر الابواب بالخار تفتح (2) وهذا آخر ما يسر الله جمعه من الاخبار بالمغيبات التي وقعت إلى زماننا مما يدخل في دلائل النبوة والله الهادي، وإذا فرغنا إن شاء الله من إيراد الحادثات من بعد موته عليه السلام إلى
زماننا، نتبع ذلك بذكر الفتن والملاحم الواقعة في آخر الزمان ثم نسوق بعد ذلك أشراط الساعة ثم نذكر البعث والنشور، ثم ما يقع يوم القيامة من الاهوال وما فيه من العظمة ونذكر الحوض والميزان والصراط ثم نذكر صفة النار ثم صفة الجنة.
كتاب تاريخ الاسلام الاول من الحوادث الواقعة في الزمان، ووفيات المشاهير والاعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة تقدم ما كان في ربيع الاول منها من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين وذلك لثاني عشر منه على المشهور وقد بسطنا الكلام في ذلك بما فيه كفاية وبالله التوفيق.
خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث قد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين وذلك ضحى فاشتغل الناس ببيعة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة ثم في المسجد البيعة العامة في بقية يوم الاثنين وصبيحة الثلاثاء كما تقدم ذلك بطوله ثم أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفينه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تسليما بقية يوم الثلاثاء ودفنوه ليلة الاربعاء كما تقدم ذلك مبرهنا في موضعه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني الزهري حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه لما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني قد قلت لكم بالامس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة
__________
(1) الاسيلة: الناعمة الرقيقة.
(2) الخار: الغلبة الخيرة.

السقيفة، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم عندي حتى أرجع (1) عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف [ عندي ] (2) حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله * وهذا إسناد صحيح وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق في ذلك الوقت، حتى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الاسفراييني، ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب قالا: ثنا بندار بن يسار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نصرة عن أبي سعيد الخدري قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الانصار فقال: أتعلمون أنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره، قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم ولو قلتم غير هذا لم نبايعكم فأخد بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والانصار، وقال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير، قال: فدعا الزبير فجاء قال: قلت: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فدعا بعلي بن أبي طالب قال: قلت: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعه، هذا أو معناه قال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت ابن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه، فقال: هذا حديث يساوي بدنة، فقلت: يسوي بدنة، بل هذا يسوي بدرة * وقد رواه الامام أحمد عن الثقة عن وهيب مختصرا، وأخرجه الحاكم في مستدركه من
طريق عفان بن مسلم عن وهيب مطولا كنحو ما تقدم * وروينا من طريق المحاملي عن القاسم بن سعيد بن المسيب، عن علي بن عاصم، عن الحريري عن أبي نصرة، عن أبي سعيد فذكره مثله في مبايعة علي والزبير رضي الله عنهما يومئذ * وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: والله ما كنت حريصا على الامارة يوما ولا ليلة، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير ما تأخرنا إلا
__________
(1) في ابن هشام: حتى أريح.
(2) من سيرة ابن هشام.

لاننا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها.
إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي، وهذا اللائق بعلي رضي الله عنه والذي يدل عليه الآثار من شهوده معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القصة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سنورده، وبذله له النصيحة والمشورة، بين يديه، وأما ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه السلام بستة أشهر، فذلك محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: لا نورث ما تركنا فهو صدقة، كما تقدم إيراد أسانيده وألفاظه ولله الحمد * وقد كتبنا هذه الطرق مستقصاة في الكتاب الذي أفردناه في سيرة الصديق رضي الله عنه وما أسنده من الاحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما روى عنه من الاحكام مبوبة على أبواب العلم ولله الحمد والمنة، وقال سيف بن عمر التميمي عن أبي ضمرة عن أبيه عن عاصم بن عدي، قال نادى منادي أبي بكر من الغد من متوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم بعث أسامة: ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جيش أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف، وقام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس إنما أنا مثلكم وإني لعلكم تكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق، إن الله اصطفى محمدا
على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فبايعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الامة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، وإن لي شيطانا يعتريني فإذا أتاني فاجتذوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، وإن استطعتم أن لا يمضي إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الاعمال، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم بعدهم، فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد، النجاة النجاة، الوحا الوحا فإن وراءكم طالبا حثيثا، وأجلا أمره سريع، احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والابناء والاخوان، ولا تطيعوا الاحياء إلا بما تطيعوا به الاموات، قال: وقام أيضا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله لا يقبل من الاعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميما، قد تولت عليهم العالات، الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الارض وعمروها ؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم، وصاروا كلا شئ، إلا أن الله عز وجل قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والاعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم ؟ صاروا ترابا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الاعاجيب ؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور،

هل [ تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ] ؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم، قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة أو السعادة بعد الموت، إلا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا، ولا يصرف به عنه سوءا، إلا
بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته أما آن لاحدكم أن تحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة ؟.
فصل في تنفيذ جيش اسامة بن زيد الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام، حيث قتل زيد بن حارثة، وجعفر وابن رواحة: فيغتزوا على تلك الاراضي، فخرجوا إلى الجرف فخيموا به، وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك، فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق كما في صحيح البخاري عن ابن عباس كما سيأتي، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الاسلام، لم يفروا ولا ارتدوا، والمقصود أنه لما وقعت هذه الامور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم، لان ما جهز بسببه في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الاباء، إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لاجهزن جيش أسامة وآمر الحرس يكونون حول المدينة فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا إرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة، فقاموا أربعين يوما ويقال سبعين يوما، ثم أتوا سالمين غانمين، ثم رجعوا فجهزهم حينئذ مع الاحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة، وما نعي الزكاة على ما سيأتي تفصيله، قال سيف بن عمر: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما بويع أبو بكر وجمع الانصار في الامر الذي افترقوا فيه، قال، ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة، في كل
قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم، فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لانفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في

القرى غيري لانفذته، وقد روي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث القاسم وعمرة عن عائشة قالت، لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة (1) وأشرأبت النفاق، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه سلم كأنهم معزى مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة، فو الله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها، ثم ذكرت عمر فقالت: من رأى عمر علم أنه خلق غنى للاسلام، كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للامور أقرانها * وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن علي الميموني، ثنا الفريابي، ثنا عباد بن كثير عن أبي الاعرج عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟ فقال: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله.
فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لو لا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، فثبتوا على الاسلام - عباد بن كثير هذا أظنه البرمكي - لرواية الفريابي عنه، وهو متقارب الحديث، فأما البصري الثقفي فمتروك الحديث والله أعلم * وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة
وأبي عمرو وغيرهما عن الحسن البصري: أن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة قال بعض الانصار لعمر: قل له فليؤمر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، فيقال: إنه أخذ بلحيته وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير، وسار معهم ماشيا، وأسامة راكبا، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لست بنازل ولست براكب، ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب - وكان مكتتبا في جيشه - فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الامير.
__________
(1) قاطبة: هنا للمبالغة في أعداد القبائل والناس الذين ارتدوا عن الاسلام وأعلنوا نفاقهم، وليس المقصود بها الكل، لان العرب لم ترتد قاطبة إلا إذا كان المقصود الاعراب والبدو.
قال في مآثر الاناقة: وكانت قبائل العرب خلا قريش وثقيف قد ارتدت عن الاسلام...وفي أيام أبي بكر تبع مسيلمة الكذاب خلق كثير، (1 / 84).
وفي مروج الذهب: ارتدت العرب إلا أهل المسجدين، ومن بينهما وأناسا من العرب.

مقتل الاسود العنسي، المتنبي الكذاب قال أبو جعفر بن جرير: حدثني عمرو بن شبة (1) النميري، ثنا علي بن محمد - يعني المدائني - عن أبي معشر ويزيد بن عياض عن جعد به، وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء عن مشيختهم قالوا: أمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الاول، وأتى مقتل الاسود في آخر ربيع الاول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أول فتح فتح أبو بكر وهو بالمدينة.
صفة خروجه وتمليكه ومقتله قد أسلفنا فيما تقدم أن اليمن كانت لحمير، وكانت ملوكهم يسمون التبابعة، وتكلمنا في أيام الجاهلية على طرف صالح من هذا، ثم إن ملك الحبشة بعث أميرين من قواده، وهما أبرهة
الاشرم، وأرياط، فتملكا له اليمن من حمير، وصار ملكها للحبشة، ثم اختلف هذان الاميران، فقتل أرياط واستقل أبرهة بالنيابة، وبني كنيسة سماها العانس (2)، لارتفاعها، وأورد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة، فجاء بعض قريش فأحدث في هذه الكنيسة، فلما بلغه ذلك حلف ليخربن بيت مكة، فسار إليه ومعه الجنود والفيل محمود، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه * وقد تقدم بسط ذلك في موضعه، فرجع أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال وشر خيبة، وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة، فلما وصل إلى صنعاء انصدع صدره فمات، فقام بالملك بعده ولده بلسيوم (3) بن أبرهة ثم أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال: إنه استمر ملك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنة، (4) ثم ثار سيف بن ذي يزن الحميري، فذهب إلى قيصر ملك الروم يستنصره عليهم، فأبى ذلك عليه - لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النصرانية - فسار إلى كسرى ملك الفرس فاستغاث به، وله معه مواقف ومقامات في الكلام تقدم بسط بعضها، ثم اتفق الحال على أن بعث معه ممن بالسجون طائفة تقدمهم رجل منهم يقال له: وهرز، فاستنقذ ملك اليمن من الحبشة، وكسر مسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاء وقرروا سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنئه من كل جانب، غير أن لكسرى نوابا عن البلاد، فاستمر الحال في ذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام: ثم هاجر إلى المدينة فلما كتب كتبه إلى الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكتب من جملة ذلك إلى كسرى ملك الفرس:
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل شيبة.
(2) في ابن هشام القليس بضم القاف وتشديد اللام المفتوحة، ومنها القلانس لانها في أعلى الرؤوس.
(3) في الطبري وابن هشام: يكسوم.
(4) في ابن هشام والمسعودي: اثنين وسبعين سنة.

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع
الهدى، أما بعد فأسلم تسلم، إلى آخره، فلما جاءه الكتاب قال: ما هذا ؟ قالوا: هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنه نبي، فلما فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى، غضب كسرى غضبا شديدا، وأخذ الكتاب فمزقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن - وكان اسمه باذام (1) - أما بعد فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميرين إلى هذا الرجل الذي بجزيرة العرب، الذي يزعم أنه نبي، فابعثه إلي في جامعة، فلما جاء الكتاب إلى باذام، بعث من عنده أميرين عاقلين، وقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فانضرا ما هو، فإن كان كاذبا فخذاه في جامعة حتى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إلي فأخبراني ما هو، حتى أنظر في أمره، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فوجداه على أسد الاحوال وأرشدها، ورأيا منه أمورا عجيبة، يطول ذكرها، ومكثا عنده شهرا حتى بلغا ما جاءا له، ثم تقاضاه الجواب بعد ذلك، فقال لهما: ارجعا إلى صاحبكما فأخبراه أن ربي قد قتل الليلة ربه، فأرخا ذلك عندهما ثم رجعا سريعا إلى اليمن فأخبرا باذام بما قال لهما فقال: احصوا تلك الليلة، فإن ظهر الامر كما قال فهو نبي، فجاءت الكتب من عند ملكهم أنه قد قتل كسرى في ليلة كذا وكذا، لتلك الليلة، وكان قد قتله بنوه ولهذا قال بعض الشعراء: وكسرى إذ تقاسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيوم * أنى ولكل حاملة تمام وقام بالملك بعده ولده يزدجرد وكتب إلى باذام أن خذ لي البيعة من قبلك، واعمد إلى ذلك الرجل فلا تهنه واكرمه، فدخل الاسلام قلب باذام وذريته من أبناء فارس ممن باليمن، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسلامه، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات، فلما مات استناب ابنه شهر بن باذام على صنعاء وبعض مخاليف، وبعث طائفة من أصحابه نوابا على مخاليف أخر فبعث أولا في سنة عشر، عليا وخالدا، ثم أرسل معاذا وأبا موسى الاشعري وفرق عمالة اليمن بين جماعة من الصحابة، فمنهم شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمداني، على همدان، وأبو موسى على مارب، وخالد بن سعيد بن العاص على عامر نجران
ورفع وزبيد، ويعلى بن أمية على الجند، والطاهر بن أبي هالة على عك والاشعريين، وعمرو بن حرام (2) على نجران، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد، وعلى السكاسك عكاشة بن مور (3) بن أخضر، وعلى السكون معاوية بن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلما لاهل البلدين - اليمن
__________
(1) في ابن هشام وكامل ابن الاثير: باذان، وفي الطبري فكالاصل.
(2) في الطبري والكامل لابن الاثير: عمرو بن حزم.
(3) في الطبري: عكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي.

وحضرموت - يتنقل من بلد إلى بلد، ذكره سيف بن عمر، وذلك كله في سنة عشر، آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم على ذلك إذ نجم هذا العين الاسود العنسي.
خروج الاسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب بن غوث (1) - من بلد يقال لها: كهف حنان - في سبعمائة مقاتل، وكتب إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المتمردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثم ركب فتوجه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه ثم قصد إلى صنعاء، فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا، فغلبه الاسود وقتله، وكسر جيشه من الابناء واحتل بلدة صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففر معاذ بن جبل من هنالك واجتاز بأبي موسى الاشعري، فذهبا إلى حضرموت وانحاز عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكمالها للاسود العنسي، وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة، وكان جيشه يوم لقي شهرا سبعمائة فارس، وأمراؤه قيس بن عبد يغوث ومعاوية بن قيس ويزيد بن محرم بن (2) حصن الحارثي، ويزيد بن الافكل الازدي، واشتد ملكه، واستغلظ أمره، وارتد خلق من أهل اليمن وعامله المسلمون الذين هناك بالتقية، وكان خليفته على مذحج عمرو بن معدي كرب واسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الابناء إلى فيروز الديلمي وداذويه وتزوج بامرأة شهر بن باذام
وهي ابنة عم فيروز الديلمي، واسمها زاذ (3)، وكانت امرأة حسناء جميلة، وهي مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الصالحات، قال سيف بن عمر التميمي: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه، حين بلغه الاسود العنسي مع رجل يقال له: وبر بن يحنس الديلمي: يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الاسود العنسي ومصاولته، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتم القيام، وكان قد تزوج امرأة من السكون يقال لها: رملة، فحزبت عليه السكون لصبره فيهم، وقاموا معه في ذلك، وبلغوا هذا الكتاب إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قدروا عليه من الناس، واتفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجند - وكان قد غضب على الاسود، واستخف به، وهم بقتله - وكذلك كان أمر فيروز الديلمي، قد ضعف عنده أيضا، وكذا داذويه، فلما أعلم وبر بن يحنس قيس بن عبد يغوث، وهو قيس بن مكشوح، كان كأنما نزلوا عليه من السماء، ووافقهم على الفتك بالاسود وتوافق المسلمون على ذلك، وتعاقدوا عليه، فلما أيقن ذلك في الباطن اطلع شيطان الاسود للاسود على شئ من ذلك، فدعا قيس بن مكشوح، فقال له: يا قيس ما يقول
__________
(1) في الكامل لابن الاثير: عيهلة بن كعب بن عوف العنسي.
(2) في الطبري: ويزيد بن حصين الحارثي.
(3) في الطبري: آزاد.

هذا ؟ قال: وما يقول ؟ قال يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنه يقول يا أسود يا أسود يا سواه يا سواه، فطف به وخذ من قيس أعلاه وإلا سلبك وقطف قبتك (1).
فقال له قيس وحلف له فكذب: وذي الخمار (2) لانت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي، فقال له الاسود: ما إخالك تكذب الملك فقد صدق الملك وعرف الآن أنك تائب عما أطلع عليك منك، ثم خرج قيس من بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداذويه، وأخبرهم بما قال له ورد عليه، فقالوا: إنا كلنا على حذر، فما الرأي، فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسوله فأحضرهم
بين يديه، فقال: ألم أشرفكم على قومكم ؟ قالوا: بلى، قال: فماذا يبلغني عنكم، فقالوا: أقلنا مرتنا هذه، فقال: لا يبلغني عنكم فأقيلكم، قال: فخرجنا من عنده ولم نكد، وهو في ارتياب من أمرنا، ونحن على خطر، فبينما نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر، أمير همدان، وذي ظليم، وذي كلاع، وغيرهم من أمراء اليمن، يبذلون لنا الطاعة والنصر، على مخالفة الاسود، وذلك حين جاءهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم على مصاولة الاسود العنسي، فكتبنا إليهم أن لا يحدثوا شيئا حتى نبرم الامر، قال قيس: فدخلت على امرأته ازاذ، فقلت: يا ابنة عمي قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك: قتل زوجك، وطأطأ في قومك القتل، وفضح النساء، فهل عندك ممالاة عليه ؟ قالت: على أي أمر، قلت إخراجه، قالت: أو قتله، قلت: أو قتله، قالت: نعم، والله ما خلق الله شخصا هو أبغض إلي منه، فما يقوم لله على حق ولا ينتهي له عن حرمة، فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الامر، قال فأخرج فإذا فيروز وداذويه، ينتظراني يريدون أن يناهضوه، فما استقر اجتماعه بهما حتى بعث إليه الاسود فدخل في عشرة من قومه، فقال: ألم أخبرك بالحق وتخبرني بالكذابة ؟ إنه يقول: يا سوأة يا سوأة، إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا، حتى ظن قيس أنه قاتله، فقال: إنه ليس من الحق، أن أهلك وأنت رسول الله، فقتلي أحب إلي من موتات أموتها كل يوم، فرق له وأمره بالانصراف، فخرج إلى أصحابه فقال: أعملوا عملكم، فبينما هم وقوف بالباب يشتورون، إذ خرج الاسود عليهم وقد جمع له مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخط خطا وأقيمت من ورائه، وقام دونها، فنحرها، غير محبسة ولا معقلة، ما يقتحم الخط منها شئ، فجالت إلى أن زهقت أرواحها، قال قيس: فما رأيت أمرا كان أفظع منه، ولا يوما أوحش منه، ثم قال الاسود: أحق ما بلغني عنك يا فيروز ؟ لقد هممت أن أنحرك فألحقك بهذه البهيمة، وأبدى له الحربة، فقال له فيروز: اخترتنا لصهرك، وفضلتنا على الابناء، فلو لم تكن نبيا ما بعنا نصيبنا منك بشئ، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدنيا ؟ فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك، فأنا بحيث تحب، فرضي عنه وأمره
__________
(1) في الطبري: قنتك وفي الكامل لابن الاثير: رقبتك.
(2) ذو الخمار: الاسود العنسي لقب به لانه كان معتما متخمرا أبدا.

بقسم لحوم تلك الانعام ففرقها فيروز في أهل صنعاء، ثم أسرع اللحاق به، فإذا رجل يحرضه على فيروز ويسعى إليه فيه، واستمع له فيروز، فإذا الاسود يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علي به، ثم التفت فإذا فيروز، فقال: مه، فأخبره فيروز بما صنع من قسم ذلك اللحم، فدخل الاسود داره، ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمع وبما قال وقيل له، فاجتمع رأيهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخل أحدهم - وهو فيروز - إليها فقالت: إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به، غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شئ، وإني سأضع في البيت سراجا وسلاحا، فلما خرج من عندها تلقاه الاسود فقال له: ما أدخلك على أهلي ؟ ووجأ رأسه، وكان الاسود شديدا، فصاحت المرأة فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت: ابن عمي جاءني زائرا، فقال: اسكتي لا أبا لك، قد وهبته لك، فخرج على أصحابه فقال: النجاء النجاء، وأخبرهم الخبر، فحاروا ماذا يصنعون ؟ فبعثت المرأة إليهم تقول لهم: لا تنثنوا عما كنتم عازمين عليه، فدخل عليها فيروز الديلمي فاستثبت منها الخبر، ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا من داخله بطائن ليهون عليهم النقب من خارج، ثم جلس عندها جهرة كالزائر، فدخل الاسود فقال: وما هذا ؟ فقالت: إنه أخي من الرضاعة، وهو ابن عمي، فنهره وأخرجه، فرجع إلى أصحابه، فلما كان الليل نقبوا ذلك البيت فدخلوا فوجدوا فيه سراجا تحت جفنة فتقدم إليه فيروز الديلمي والاسود نائم على فراش من حرير، قد غرق رأسه في جسده، وهو سكران يغط، والمرأة جالسة عنده، فلما قام فيروز على الباب أجلسه شيطانه وتكلم على لسانه - وهو مع ذلك يغط - فقال: مالي ومالك يا فيروز ؟ فخشي إن رجع يهلك وتهلك المرأة، فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ رأسه فدق عنقه ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله، ثم قام ليخرج إلى أصحابه ليخبرهم، فأخذت المرأة بذيله وقالت: أين تذهب عن حرمتك.
فظنت أنها لم تقتله، فقال: أخرج لاعلمهم بقتله،
فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه، فحركه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأة بشعره، وجعل يبربر بلسانه فاحتز الآخر رقبته، فخار كأشد خوار ثور سمع قط، فابتدر الحرس إلى المقصورة، فقالوا: ما هذا ما هذا ؟ فقالت المرأة: النبي يوحى إليه، فرجعوا، وجلس قيس وداذويه وفيروز يأتمرون كيف يعلمون أشياعهم، فاتفقوا على أنه إذا كان الصباح ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلما كان الصباح قام أحدهم، وهو قيس على سور الحصن فنادى بشعارهم، فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيس ويقال: وبر بن يحنش، الاذان: أشهد أن محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذاب، وألقى إليهم رأسه فانهزم أصحابه وتبعهم الناس يأخذونهم ويرصدونهم في كل طريق يأسرونهم، وظهر الاسلام وأهله، وتراجع نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنارع أولئك الثلاثة في الامارة، ثم اتفقوا على معاذ بن جبل يصلي بالناس، وكتبوا بالخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أطلعه الله على الخبر من

ليلته، كما قال سيف بن عمر التميمي عن أبي القاسم الشنوي عن العلاء بن زيد (1) عن ابن عمر: أتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا، فقال: قتل العنسي البارحة قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل: ومن ؟ قال: فيروز فيرروز، وقد قيل: إن مدة ملكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال: أربعة أشهر، فالله أعلم * وقال سيف بن عمر عن المستنير عن عروة عن الضحاك عن فيروز: قال: قتلنا الاسود، وعاد أمرنا في صنعاء كما كان إلا أنا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضينا عليه، فكان يصلي بنا في صنعاء، فوالله ما صلى بنا إلا ثلاثة أيام حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتقضت الامور، وأنكرنا كثيرا مما كنا نعرف، واضطربت الارض، وقد قدمنا أن خبر العنسي جاء إلى الصديق في أواخر ربيع الاول بعدما جهز جيش أسامة، وقيل: بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والاول أشهر والله أعلم * والمقصود أنه لم يجئهم فيما يتعلق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم والتمسك بدين الاسلام إلا الصديق رضي الله عنه، وسيأتي إرساله إليهم من يمهد الامور التي اضطربت في
بلادهم ويقوي أيدي المسلمين، ويثبت أركان دعائم الاسلام فيهم، رضي الله عنهم * فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة قد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت احياء كثيرة من الاعراب، ونجم النفاق بالمدينة وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الاسدي بنو أسد وطئ، وبشر كثير أيضا، وادعى النبوة أيضا كما أدعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة، فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الاعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وجعلت وفود العرب تقدم المدينة.
يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * [ التوبة: 103 ] قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم: أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * فواعجبا ما بال ملك أبي بكر وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى
__________
(1) في الطبري: زياد.

يتمكن الايمان في قلوبهم: ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق من ذلك وأباه * وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجة عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لابي بكر: علام تقاتل الناس ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ؟ فقال أبو بكر: والله لو منعوني
عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (1) * قلت: وقد قال الله تعالى * (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) * [ التوبة: 5 ] وثبت في الصحيحين: بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان * وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة بن سوار: ثنا عيسى بن يزيد المديني، حدثني صالح بن كيسان، قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله، والعلم شريد والاسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرا لشر عندهم، قد غيروا كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشا، وأضلهم دنيا، في ظلف من الارض مع ما فيه من السحاب فختمهم الله بمحمد، وجعلهم الامة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ويسجزى الله الشاكرين) * [ آل عمران: 144 ] إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم - وإن رجعوا إليه - أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما قد تقدم من بركة نبيكم صلى الله عليه وآله، وقد وكلكم إلى المولى الكافي، الذي وجده ضالا فهداه، وعائلا فأغناه * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * الآية [ آل عمران: 103 ]، والله لا أدع أن أقاتل على امر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدا من أهل الجنة، وبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له
* (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض) * الاية (النور: 55 ]، ثم نزل * وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 11، 19، 35 - 2 / 377 - 4 / 8 ومسلم في الايمان ح (82 و 83) ص (1 / 52) والبخاري ح (1561) قال في الكنز: أخرجه الاربعة إلا ابن ماجة وابن حبان والبيهقي.

فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * الآية، قالوا: المراد بذلك أبو بكر وأصحابه، في قتالهم المرتدين، وما نعي الزكاة * وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
ما خلا أهل المسجدين، مكة، والمدينة، وارتدت أسد وغطفان وعليهم طليحة بن خويلد الاسدي الكاهن، وارتدت كندة ومن يليها، وعليهم الاشعث بن قيس الكندي، وارتدت مذحج ومن يليها، وعليهم الاسود بن كعب العنسي الكاهن، وارتدت ربيعة مع المعرور بن النعمان بن المنذر، وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذاب * وارتدت سليم مع الفجأة، واسمه أنس بن عبد يا ليل، وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة * وقال القاسم بن محمد: اجتمعت أسد وغطفان وطئ على طليحة الاسدي، وبعثوا وفودا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا بهم إلى أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لابي بكر على الحق وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم (1)، فردهم فرجعوا إلى عشائرهم، فأخبروهم بقلة أهل المدينة، وطمعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد وقال: إن الارض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون ليلا يأتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم وقد أبينا عليهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة، وخلفوا نصفهم بذي حسى (2) ليكونوا ردءا لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم: أن ألزموا مكانكم.
وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدو واتبعهم المسلمون على إبلهم، حتى بلغوا ذا حسى فخرج عليهم الردء فالتقوا مع
الجمع فكان الفتح وقد قال: أطعنا رسول الله ما كان وسطنا (3) * فيالعباد الله ما لابي بكر أيورثنا بكرا إذا مات بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر فهلا رددتم وفدنا بزمانه ؟ * وهلا خشيتم حس راعية البكر ؟ وإن التي سألوكمو فمنعتمو * لكالتمر أو أحلى إلي من التمر وفي جمادى الآخرة ركب الصديق في أهل المدينة وأمراء الانقاب، إلى من حول المدينة من الاعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرة، وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدهم طليحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها ثم أرسلوها من رؤوس الجبال، فلما رأتها إبل أصحاب
__________
(1) زاد الطبري: عليه وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة.
(2) ذو حسى: واد بأرض الشربة من ديار عبس وغطفان (معجم البلدان).
(3) في الطبري: ما كان بيننا.

الصديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئا إلى الليل، وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخطيل بن أوس: فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي * عشية يحدى بالرماح أبو بكر ولكن يدهدى بالرجال فهبنه * إلى قدر ما أن تقيم ولا تسرى ولله أجناد تذاق مذاقه * لتحسب فيما عد من عجب الدهر أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيالعباد الله ما لابي بكر فلما وقع ما وقع ظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أخر، فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائما ليله يعبئ الناس، ثم خرج على تعبئة من آخر الليل، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة أخوهما
سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا، حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الادبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، وذل بها المشركون، وعز بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي: غداة سعى أبو بكر إليهم * كما يسعى لموتته حلال أراح على نواهقها عليا * ومج لهن مهجته حبال وقال أيضا: أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا * ككبكبة الغزي أناخوا على الوفر فما صبروا للحرب عند قيامها * صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر طرقنا بني عبس بأدنى نباجها * وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الاسلام وأهله، وذلك أنه عز المسلمون في كل قبيلة، وذل الكفار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة، مؤيدا منصورا، سالما غانما، وطرقت المدينة في الليل صدقات عدي بن حاتم (1)، وصفوان والزبرقان، إحداها في أول الليل، والثانية في أوسطه والثالثة في آخره، وقدم بكل واحدة منهن بشير من أمراء الانقاب، فكان الذي بشر بصفوان سعد بن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي بشر بعدي بن حاتم عبد الله بن مسعود، ويقال: أبو قتادة الانصاري رضي الله عنه * وذلك على رأس
__________
(1) في ذلك قال الحارث بن مالك الطائي: وفينا وفاء لم ير الناس مثله * وسربلنا مجدا عدي بن حاتم

ستين ليلة من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم * ثم قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليال، فاستخلفه أبو بكر
على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثم ركب أبو بكر في الذين كانوا معه، في الوقعة المتقدمة، إلى ذي القصة، فقال له المسلمون: لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلا، فقال: والله لا أفعل، ولاواسينكم بنفسي، فخرج في تعبئته، إلى ذي حسى وذي القصة، والنعمان وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالابرق (1) وهناك جماعه من بني عبس وذبيان، وطائفة من بني كنانة، فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفا وأخذ الحطيئة أسيرا فطارت بنو عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الابرق أياما وقد غلب بني ذبيان على البلاد، وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد، إذ غنمناها الله وحمى الابرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة.
ولما فرت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة (2)، وقد قال في يوم الابرق زياد بن حنظلة: ويوم بالابارق قد شهدنا * على ذبيان يلتهب التهابا أتيناهم بداهية نسوف * مع الصديق إذ ترك العتابا خروجه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الامراء الاحد عشر وذلك بعد ما جم جيش أسامة واستراحوا، ركب الصديق أيضا في الجيوش الاسلامية شاهرا سيفه مسلولا، من المدينة إلى ذي القصة، وهي من المدينة على مرحلة، وعلي بن أبي طالب يقود براحلة الصديق رضي الله عنهما، كما سيأتي، فسأله الصحابة، منهم علي وغيره، وألحوا عليه أن يرجع إلى المدينة، وأن يبعث لقتال الاعراب غيره ممن يؤمره من الشجعان الابطال، فأجابهم إلى ذلك، وعقد لهم الالوية لاحد عشر أميرا، على ما سنفصله قريبا إن شاء الله * وقد روى الدار قطني من حديث عبد الوهاب بن موسى الزهري عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر إلى القصة واستوى على راحلته، أخذ علي بن أبي طالب بزمامها وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله ؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للاسلام نظام أبدا، فرجع * هذا حديث غريب من طريق مالك، وقد رواه زكريا الساجي من حديث عبد الوهاب عن
موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف [ و ] الزهري أيضا عن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: خرج أبي شاهرا سيفه راكبا على راحلته إلى وادي
__________
(1) الابرق: منزل من منازل بني عمرو بن ربيعة.
(2) بزاخة: ماء لبني أسد كانت به وقعة عظيمة في أيام أبي بكر الصديق مع طليحة بن خويلد الاسدي (معجم البلدان).

القصة، فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله ؟ أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للاسلام بعدك نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش * وقال سيف بن عمر عن سهل بن يوسف عن القاسم بن محمد: لما استراح أسامة وجنده، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث، وعقد الالوية: فعقد أحد عشر لواء، عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد، فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له.
ولعكرمة بن أبي جهل، وأمره بمسيلمة.
وبعث شرحبيل بن حسنة في أثرة إلى مسيلمة الكذاب، ثم إلى بني قضاعة.
وللمهاجر بن أبي أمية، وأمره بجنود العنسي ومعونة الابناء على قيس بن مكشوح (1) * قلت: وذلك لانه كان قد نزع يده من الطاعة، على ما سيأتي.
قال: ولخالد بن سعيد بن العاص (2) إلى مشارف الشام.
ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث.
ولحذيفة بن محصن الغطفاني وأمره بأهل دبا وبعرفجة وهرثمة (3) وغير ذلك.
لطرفة بن حاجب (4) وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن.
ولسويد بن مقرن، وأمره بتهامة اليمن.
وللعلاء بن الحضرمي، وأمره بالبحرين رضي الله عنهم * وقد كتب لكل أمير كتاب عهده على حدته، ففصل كل أمير بجنده من ذي القصة، ورجع الصديق إلى المدينة، وقد كتب معهم الصديق كتابا إلى الربذة (5) وهذه نسخته.
" بسم الله الرحمن الرحيم.
من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا، من
عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من أتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والهوى (6)، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبى ذلك ونجاهده.
أما بعد فإن الله أرسل [ محمدا ] بالحق من عنده، إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بإذنه ] من أدبر عنه، حتى صار إلى الاسلام طوعا أو كرها، ثم توفى الله رسوله، وقد نفذ لامر الله، ونصح لامته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك، ولاهل الاسلام
__________
(1) زاد في الطبري والكامل لابن الاثير: ثم يمضي إلى كندة بحضرموت.
(2) في الطبري: إلى الحمقتين من مشارف الشام.
(3) في الطبري والكامل لابن الاثير: ولعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة.
(4) في الطبري: لطرفة بن حاجز، وفي الكامل لابن الاثير: لمعن بن حاجز.
(5) في الطبري: وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدة كتابا واحدا.
وفي الكامل: وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة.
(6) في الطبري: والعمى.

في الكتاب الذي أنزل فقال * (إنك ميت وإنهم ميتون) * [ الزمر: 30 ] وقال: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأن مت فهم الخالدون) * [ الانبياء: 34 ] وقال للمؤمنين * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) * [ آل عمران: 144 ] فمن كان إنما يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله [ وحده ] فإن الله حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لامره، منتقم من عدوه.
وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعنه الله
مخذول، ومن هداه غير الله كان ضالا (1)، قال الله تعالى * (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) * [ الكهف: 17 ] ولن يقبل له في الدنيا عمل حتى يقربه، ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالاسلام، وعمل به، اغترارا بالله وجهلا بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) * [ الكهف: 50 ] قال: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوه حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) * [ فاطر: 6 ] وإني بعثت إليكم في جيش من المهاجرين والانصار، والتابعين بأحسان، وأمرته أن لا يقبل من أحد إلا الايمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز وجل، فإن أجاب وأقر وعمل صالحا قبل منه، وأعانه عليه وإن أبى حاربه عليه حتى يفئ إلى أمر الله، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد غير الاسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابه في كل مجمع لكم، والداعية الاذان فإذا أذن المسلمون فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا حمل منهم على ما ينبغي لهم (2) * رواه سيف بن عمر عن عبد الله بن سعيد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.
فصل في مسيرة الامراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه وكان سيد الامراء ورأس الشجعان الصناديد أبو سليمان خالد بن الوليد * روى الامام أحمد من طريق وحشي بن حرب، أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد عل قتال أهل الردة،
__________
(1) العبارة في الطبري: فمن هداه الله كان مهتديا ومن أضله كان ضالا.
(2) نص الكتاب في الطبري 3 / 226 وفي آخره زاد ابن الاعثم في الفتوح 1 / 6: وقد أعذر من أنذر، السلام على عباد الله المؤمنين، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبد الله وأخو العشيرة، خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين، ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه الصديق، واعده أنه سليقاه من ناحية خيبر بمن معه من الامراء - وأظهروا ذلك ليرعبوا الاعراب - وأمره أن يذهب أولا إلى طليحة الاسدي، ثم يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد، وفي غطفان، وانضم إليهم بنو عبس وذبيان، وبعث إلى بني جديلة والغوث وطئ يستدعيهم إليه، فبعثوا أقواما منهم بين أيديهم، ليلحقوهم على أثرهم سريعا، وكان الصديق قد بعث عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم، فذهب عدي إلى قومه بني طئ فأمرهم أن يبايعوا الصديق، وأن يراجعوا أمر الله، فقالوا: لا نبايع أبا الفضل أبدا - يعنون أبا بكر رضي الله عنه - فقال: والله ليأتينكم جيش فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الاكبر، ولم يزل عدي يفتل لهم في الذروة والغارب حتى لانوا، وجاء خالد في الجنود وعلى مقدمة الانصار الذين معه ثابت بن قيس بن شماس، وبعث بين يديه ثابت بن أقرم (1)، وعكاشة بن محصن طليعة، فتلقاهما طليحة وأخوه سلمة فيمن معهما، فلما وجدا ثابتا وعكاشة تبارزوا فقتل عكاشة جبال بن طليحة، وقيل: بل كان قتل جبالا قبل ذلك وأخذ ما معه، وحمل عليه طليحة فقتله وقتل هو وأخوه سلمة، ثابت بن أقوم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين، فشق ذلك على المسلمين وقد قال طليحة في ذلك: عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة العمي تحت مجال أقمت له صدر الحمالة إنها * معودة قبل الكماة نزال فيوم تراها في الجلال مصونة * ويوم تراها في ظلال عوالي وإن يك أولاد أصبن ونسوة * فلم يذهبوا فرغا بقتل حبال ومال خالد إلى بني طئ، فخرج إليه عدي بن حاتم فقال: أنظرني ثلاثة أيام، فأنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى من تعجل منهم إلى طليحة حتى يرجعوا إليهم، فإنهم يخشون إن تابعوك
أن يقتل طليحة من سار إليه منهم، وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى النار، فلما كان بعد ثلاث جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع الحق، فانضافوا إلى جيش خالد وقصد خالد بني جديلة فقال له: يا خالد، أجلني أياما حتى آتيهم فلعل الله أن ينقذهم كما أنقذ طيئا، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه، فجاء خالدا باسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة على قومه، رضي الله عنهم، قالوا: ثم سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى (2)، وعبى جيشه (3) هنالك والتقى مع طليحة الاسدي بمكان يقال له: بزاخة،
__________
(1) في الفتوح: أرقم وزاد عليهما: سعيد بن عمرو المخزومي.
ولم يذكره الطبري.
(2) قال ابن الاعثم: وجعل خالد بن الوليد يتأتى بطليحة ويرسل إليه الرسل ويحذره سفك دماء أصحابه، وطليحة =

ووقفت أحياء كثيرة من الاعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه، بني فزارة، واصطف الناس، وجلس طليحة ملتفا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل ما يقاتل، حتى إذا ضجر من القتال يجئ إلى طليحة وهو ملتف في كسائه فيقول: أجاءك جبريل ؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل ؟ قال نعم، قال: فما قال لك ؟ قال: قال لي إن لك رحاء كرحاه، وحديثا لا تنساه، قال يقول عيينة، أظن أن قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، وانهزم وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدها له، وأركب امرأته النوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه، فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، قالت بنو عامر وسليم وهوازن: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا * قلت: وقد كان طليحة الاسدي ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمؤازرته عيينة بن حصن من بدر، وارتد عن الاسلام، وقال لقومه: والله لنبي من
بني أسد أحب إلي من نبي من بني هاشم، وقد مات محمد وهذا طليحة فاتبعوه، فوافق قومه بنو فزارة على ذلك، فلما كسرهما خالد هرب طليحة بامرأته إلى الشام، فنزل على بني كلب (1)، وأسر خالد عيينة بن حصن، وبعث به إلى المدينة مجموعة يداه إلى عنقه، فدخل المدينة وهو كذلك فجعل الولدان والغلمان يطعنونه بأيديهم، ويقولون: أي عدو الله، ارتددت عن الاسلام ؟ فيقول: والله ما كنت آمنت قط، فلما وقف بين يدي الصديق استتابه وحقن دمه، ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وكذلك من على قرة بن هبيرة، وكان أحد الامراء مع طليحة، فأسره مع عيينة، وأما طليحة فإنه راجع الاسلام بعد ذلك أيضا، وذهب إلى مكة معتمرا أيام الصديق، واستحيى أن يواجهه مدة حياته، وقد رجع فشهد القتال مع خالد، وكتب الصديق إلى خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره - يعني معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن - وهذا من فقه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال خالد بن الوليد لبعض أصحاب طليحة ممن أسلم وحسن إسلامه: أخبرنا عما كان يقول لكم طليحة من الوحي، فقال: إنه كان يقول: الحمام واليمام والصرد والصوام، قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام، إلى غير
__________
= يأبى ذلك ولج في طغيانه، قال: فعندها عزم خالد على حرب القوم.
(3) في الفتوح: وكان على ميمنته عدي بن حاتم، وعلى ميسرته زيد الخيل، وعلى الجناح الزبرقان بن بدر التميمي.
(1) في الطبري: ومضى طليحة حتى نزل في كلب على النقع.
وفي الكامل: ثم نزل على كلب وفي فتوح ابن الاعثم: حتى صار إلى بني جفنة.
وفي تاريخ اليعقوبي: وجاور في بني حنيفة.

ذلك من الخرافات والهذيانات السمجة * وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره فكتب إليه: لنردك ما أنعم الله به خيرا واتق الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمرك ولا تلن ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكلت به، ومن أخذت ممن حاد الله أو ضاده ممن بري أن في ذلك
صلاحا فاقتله * فأقام خالد ببزاخة شهرا، يصعد فيها ويصوب ويرجع إليها في طلب الذين وصاه بسلبهم الصديق، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرا يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرقه بالنار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب، رضي الله عنه * وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: لما قدم وفد بزاخة - أسد وغطفان - على أبي بكر يسألونه الصلح، خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية حطة مخزية، فقالوا: يا خليفة رسول الله أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الحطة المخزية ؟ قال: تؤخذ منكم الحلقة والكراع وتتركون أقواما يتبعون أذناب الابل حتى يرى الله خليفة نبيه والمؤمنين أمرا يعذرونكم به، وتؤدون ما أصبتم منا، ولا نؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: أما قولك: تدون قتلانا، فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثاني: نعم ما رأيت * رواه البخاري من حيث الثوري بسنده مختصرا.
وقعة أخرى كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الفلال يوم بزاخة من أصحاب طليحة، من بني غطفان فاجتمعوا إلى امرأة يقال لها: أم زمل - سلمى بنت ملك بن (1) حذيفة - وكانت من سيدات العرب، كأمها أم قرفة، وكان يضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها وعزة قبيلتها وبيتها، فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إليهم آخرون من بني سليم وطئ وهوازن وأسد، فصاروا جيشا كثيفا وتفحل أمر هذه المرأة، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالا شديدا وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال له من يمس جملها فله مائة من الابل وذلك لعزها، فهزمهم خالد وعقر جملها وقتلها وبعث بالفتح إلى الصديق رضي الله عنه.
قصة الفجاءة
واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف من بني سليم، قاله ابن إسحاق،
__________
(1) في الطبري والكامل: مالك.

وقد كان الصديق حرق الفجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم، وسأل منه أن يجهز معه جيشا يقاتل به أهل الردة، فجهز معه جيشا، فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله، فلما سمع الصديق بعث وراءه جيشا فرده، فلما أمكنه بعث به إلى البقيع، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه وهو مقموط.
قصة سجاح وبني تميم كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة، فمنهم من ارتد ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة، وهي من نصارى العرب، وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصديق، فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها، فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، وتخلف آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حرب بينهم، إلا أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عودها، وحرضها على بني يربوع، ثم اتفق الجميع على قتال الناس، وقالوا: بمن نبدأ ؟ فقالت لهم فيما تسجعه: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب، ثم إنهم تعاهدوا على نصرها، فقال قائل منهم (1): أتتنا أخت تغلب في رجال (2) * جلائب من سراة بني أبينا وأرست دعوة فينا سفاها * وكانت من عمائر آخرينا فما كنا لنرزيهم زبالا * وما كانت لتسلم إذ أتينا ألا سفهت حلومكم وضلت * عشية تحشدون لها ثبينا
وقال عطارد بن حاجب في ذلك: أمست نبيتنا أنثى نطيف بها * وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا ثم إن سجاح قصدت بجنودها اليمامة، لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب، فهابه قومها، وقالوا: إنه قد استفحل أمره وعظم، فقالت لهم فيما تقوله: عليكم باليمامة * دفوا دفيف الحمامة * فأنها غزوة صرامة * لا تلحقكم بعدها ملامة * قال: فعمدوا لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة بن أبي جهل بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد كما سيأتي، فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الارض الذي كان لقريش لو عدلت، فقد رده
__________
(1) هو الاصم التميمي كما في الطبري.
(2) في الطبري: أتتنا أخت تغلب فاستهدت.

الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه، فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمة، فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الارض، وقبلت ذلك، قال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع، رأكم ربكم فحياكم، ومن وحشته أخلاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار لربكم الكبار، رب الغيوم والامطار * وقال أيضا: لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون (1)، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولاكثر الناس فيها الثبور * وقد كان مسيلمة لعنه الله شرع لمن اتبعه أن الاعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء حينئذ، إلا أن يموت ذلك الولد الذكر، فتحل له النساء حتى يولد له ذكر، هذا مما أقترحه لعنه الله، من تلقاء نفسه * ويقال: إنه لما خلا
بسجاح سألها ماذا يوحي إليها ؟ فقالت: وهل يكون النساء يبتدئن ؟ بل أنت ماذا أوحى إليك ؟ فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ؟ أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا.
قالت: وماذا ؟ فقال: إن الله خلق للنساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا.
فقالت: أشهد أنك نبي، فقال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت: نعم، فقال: ألا قومي إلى النيك * فقد هيئ لك المضجع * فإن شئت ففي البيت * وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناك * وإن شئت على أربع * وإن شئت بثلثيه * وإن شئت به أجمع فقالت: بل به أجمع، فقال: بذلك أوحي إلي، وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى قومها فقالوا: ما أصدقك ؟ فقالت: لم يصدقني شيئا، فقالوا: إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير صداق فبعثت إليه تسأله صداقا، فقال: ارسلي إلى مؤذنك، فبعثته إليه - وهو شبت بن ربعي - فقال: ناد في قومك: إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد - يعني صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة - فكان هذا صداقها عليه لعنهما الله * ثم انثنت سجاح راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة فكرت راجعة إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه.
فأقامت في قومها بني تغلب، إلى زمان معاوية فأجلاهم منها عام الجماعة كما سيأتي بيانه في موضعه.
__________
(1) في الطبري: تصومون يوما وتكلفون يوما.

فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي كان قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة، فلما اتصلت بمسيلمة لعنهما الله، ثم ترحلت إلى بلادها - فلما كان ذلك - ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوم في شأنه، وهو نازل بمكان يقال له: البطاح، فقصدها خالد بجنوده وتأخرت عنه الانصار، وقالوا: إنا قد
قضينا ما أمرنا به الصديق، فقال لهم خالد: إن هذا أمر لا بد من فعله، وفرصة لا بد من انتهازها، وإنه لم يأتني فيها كتاب، وأنا الامير وإلي ترد الاخبار، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح.
فسار يومين ثم لحقه رسول الانصار يطلبون منه الانتظار، فلحقوا به، فلما وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان مالك بن نويرة فأنه متحير في أمره، متنح عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية فيهم، فشهد أبو قتادة - الحرث بن ربعي الانصاري - أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا، فيقال إن الاسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم (1)، فظن القوم أنه أراد القتل، فقتلوهم، وقتل ضرار بن الازور (2) مالك بن نويرة، فلما سمع الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه * واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة، وهي أم تميم ابنة المنهال، وكانت جميلة، فلما حلت بني بها، ويقال: بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة ؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك ؟ يا ضرار اضرب عنقه، فضربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا، فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الاعراب، من المرتدة وغيرهم، ويقال: إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر ولم تفرغ الشعر لكثرته، وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق، وتكلم عمر مع أبي قتادة في خالد: وقال للصديق: اعزله فإن في سيفه رهقا، فقال أبو بكر لا أشيم سيفا سله الله على الكفار، وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى الصديق خالدا، وعمر يساعده وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصديق من عنده، ومن قول متمم في ذلك: وكنا كندمانى جذيمة برهة (3) * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
__________
(1) ادفئوا اسراكم: في لغة كنانة تعني القتل.
(2) في الطبري: عبد بن الازور الاسدي، وعند الكلبي وابن الاثير فكالاصل.
(3) في الكامل لابن الاثير: حقبة.

فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وقال أيضا: لقد لامني عند العبور على البكى * رفيقي لتذراف الدموع السوافك وقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك فقلت له إن الاسى يبعث الاسى * فدعني فهذا كله قبر مالك والمقصود أنه لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرض الصديق ويذمره على عزل خالد عن الامرة ويقول: إن في سيفه لرهقا، حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة، وقد لبس درعه التي من حديد، وقد صدئ من كثرة الدماء، وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء، فلما دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الاسهم من عمامة خالد فحطمها، وقال: أرياء قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لارجمنك بالجنادل (1).
وخالد لا يكلمه، ولا يظن إلا أن رأى الصديق فيه كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد، فقال خالد: هلم إلي يا ابن أم شملة (2)، فلم يرد عليه وعرف أن الصديق قد رضي عنه، واستمر أبو بكر بخالد على الامرة، وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى أبي جذيمة فقتل أولئك الاسارى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم مليغة الكلب، ورفع يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ومع هذا لم يعزل خالد على الامرة.
مقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله
لما رضي الصديق عن خالد بن الوليد وعذره بما اعتذر به، بعثه (3) إلى قتال بني حنيفة باليمامة: وأوعب معه المسلمون، وعلى الانصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكل بهم، وقد اجتاز بخيول لاصحاب سجاح فشردهم وأمر باخراجهم من جزيرة العرب، وأردف الصديق خالدا بسرية لتكن ردءا له من ورائه وقد كان بعث قبله إلى مسيلمة عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، فلم يقاوما بني حنيفة، لانهم في نحو أربعين ألفا من المقاتلة، فجعل عكرمة قبل مجئ صاحبه شرحبيل، فناجزهم فنكب، فانتظر خالدا، فلما سمع
__________
(1) في الطبري والكامل: بأحجارك.
(2) في الكامل لابن الاثير: سلمة.
(3) قال ابن الاعثم في الفتوح 1 / 23 أن خالدا أقام بالبطاح من أرض بني تميم بعد قتله مالك بن نويرة ينتظر أمر أبي بكر - ومعه امرأته أم تميم - وثم كتب أبو بكر إلى خالد.
انظر نصه في كتاب الفتوح 1 / 26.

مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: عقربا في طرف اليمامة والريف وراء ظهورهم، وندب الناس وحثهم، فحشد له أهل اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشه المحكم بن الطفيل، والرجال بن عنفوه بن نهشل، وكان الرجال هذا صديقه الذي شهد له أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه قد أشرك معه مسيلمة بن حبيب في الامر، وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة، حتى أتبعوا مسيلمة، لعنهما الله، وقد كان الرجال هذا قد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ البقرة، وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الاسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة * قال سيف بن عمر عن طلحة عن عكرمة عن أبي هريرة: كنت يوما عند النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجال بن عنفوة، فقال: إن فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من واحد، فهلك القوم وبقيت أنا والرجال وكنت متخوفا لها، حتى خرج الرجال مع مسيلمة وشهد له بالنبوة، فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة * رواه ابن إسحاق عن شيخ عن أبي هريرة * وقرب خالد وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيدا وأبا
حذيفة، وقد مرت المقدمة في الليل بنحو من أربعين، وقيل ستين فارسا (1)، عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لاخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم فلما جئ بهم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه فلم يصدقهم، وأمر بضرب أعناقهم كلهم، سوى مجاعة فإنه استبقاه مقيدا عنده - لعلمه بالحرب والمكيدة - وكان سيدا في بني حنيفة، شريفا مطاعا، ويقال: إن خالدا لما عرضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة ؟ قالوا: نقول منا نبي ومنكم نبي، فقتلهم إلا واحدا اسمه سارية، فقال له: أيها الرجل إن كنت تريد عدا بعدول هذا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل - يعني مجاعة بن مرارة - فاستبقاه خالد مقيدا، وجعله في الخيمة مع امرأته، وقال: استوصى به خيرا، فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حظيات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الانصار مع ثابت بن قيس ين شماس، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الاعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال: نعمت الحرة هذه، وقد قتل الرجال بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة، قتله زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عودتم أقرانكم، ونادوا من كل جانب: اخلصنا يا خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والانصار وحمى البراء بن معرور - وكان إذا رأى الحرب أخذته العرواء فيجلس على ظهر الرجال حتى يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الاسد، وقاتلت بنو حنيفة قتالا لم يعهد مثله،
__________
(1) في ابن الاعثم: ثلاثة وعشرون رجلا.

وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الارض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الانصار بعدما تحنط وتكفن،
فلم يزل ثابتا حتى قتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك ؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا، وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدما، وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدا رضي الله عنه * وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب رضي الله عنه، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين - وكان شعارهم يومئذ يا محمداه - وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شئ إلا أكله، ودارت رحى المسلمين ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق، فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقه، لا يقبل منه شيئا، وكلما أراد مسيلمة يقارب من الامر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميز خالد المهاجرين من الانصار من الاعراب، وكل بني أب على رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبرا لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفار الادبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل لعنه الله - بدخولها، فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله (1)، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم، وأحاط بهم الصحابة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند، لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن
مطعم - قاتل حمزة - فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فضربه بالسيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: وا أمير الوضاءة، قتله العبد الاسود، فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفا (2)، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة (3)، فالله أعلم، وفيهم من
__________
(1) في الفتوح: قتله ثابت بن قيس الانصاري.
(2) في الطبري والكامل: وقتل من بني حنيفة في الفضاء سبعة الآف وفي حديقة الموت سبعة الآف.
وفي الطلب =

سادات الصحابة، وأعيان الناس من يذكر بعد، وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة، فلما مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد: أهذا هو ؟ قال: لا، والله هذا خير منه، هذا الرجال بن عنفوة، قال سيف بن عمر: ثم مروا برجل أصفر أخنس (1)، فقال.
هذا صاحبكم، فقال خالد: قبحكم الله على اتباعكم هذا، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، ثم عزم على غزو الحصون ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار، فجدعه مجاعة فقال: إنها ملاى رجالا ومقاتلة فهلم فصالحني عنها، فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كلوا من كثرة الحروب والقتال، فقال: دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصلح، فقال: اذهب، فسار إليهم مجاعة فأمر النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعة فانتظر الصلح، ودعاهم خالد إلى الاسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلى الحق ورد عليهم خالد بعض ما كان أخذ من السبي (2)، وساق الباقين إلى الصديق، وقد تسرى علي بن أبي طالب بجارية منهم، وهي أم ابنه محمد الذي يقال له: محمد بن الحنفية رضي الله عنه، وقد قال ضرار بن الازور في غزوة اليمامة هذه: فلو سئلت عنا جنوب لاخبرت * عشية سالت عقرباء وملهم وسال بفرع الواد حتى ترقرقت * حجارته فيه من القوم بالدم
عشية لا تغني الرماح مكانها * ولا النبل إلا المشرفي المصمم
__________
= نحو منها.
(3) في الفتوح 1 / 40: ألف ومائتي رجل، [ ومنهم ] سبعمائة رجل كانوا حفاظ القرآن.
(1) في الطبري: رويجل أصيفر أخينس.
(2) أورد الطبري نص كتاب الصلح بين خالد بن الوليد ومجاعة بن مرارة وفيه: هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ومزرعة على أن يسلموا ثم أنتم آمنون بأمان الله ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وذمم المسلمين على الوفاء.
(3 / 253).
وفي فتوح ابن الاعثم: " على ثلث الكراع وربع السبي " وقد أرسل خالد كتابا إلى أبي بكر بشأن الصلح وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
لعبد الله بن عثمان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله من خالد بن الوليد، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى لم يرد بأهل اليمامة إلا ما صاروا إليه، وقد صالحت القوم على شئ من الصفراء والبيضاء وعلى ثلث الكراع وربع السبي ولعل الله تبارك وتعالى أن يجعل عاقبة صلحهم خيرا والسلام.
ورد أبو بكر جواب الكتاب: أما بعد فقد قرأت كتابك، وأما ما ذكرت فيه من صلح القوم.
فأتمم للقوم ما صالحتهم عليه ولا تغدر بهم واجمع الغنائم والسبي وما أفاء الله به عليك من مال بني حنيفة فأخرج من ذلك الخمس ووجه به إلينا ليقسم فيمن حضرنا من المسلمين وأدفع إلى كل ذي حق حقه والسلام (الفتوح 1 / 41).

فأن تبتغي الكفار غير مسليمة * جنوب فأني تابع الدين مسلم أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة * ولله بالمرء المجاهد أعلم وقد قال خليفة بن خياط، ومحمد بن جرير، وخلق من السلف: كانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشرة، وقال ابن قانع: في آخرها، وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة ثنتي عشرة، والجمع بينها أن أبتداءها في سنة إحدى عشرة، والفراغ منها في سنة ثنتي عشرة والله
أعلم * ولما قدمت وفود بني حنيفة على الصديق قال لهم: أسمعونا من قرآن مسيلمة، فقالوا: أو تعفينا يا خليفة رسول الله ؟ فقال: لا بد من ذلك، فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت الضفدعين نقي لكم نقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين (1)، وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه (2)، وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون، فيقال: إن الصديق قال لهم: ويحكم، أين كان يذهب بقولكم ؟ إن هذا الكلام لم يخرج من أل، وكان يقول: والفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، وكان يقول: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس، وتقدم قوله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي، وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك البارد السميج * وقد أورد أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله في كتابه إعجاز القرآن أشياء من كلام هؤلاء الجهلة المتنبئين كمسيلمة وطليحة والاسود وسجاح وغيرهم، مما يدل على ضعف عقولهم وعقول من اتبعهم على ضلالهم ومحالهم * وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد إلى مسيلمة في أيام جاهليته، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين ؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي ؟ قال: أنزل عليه * (والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * قال: ففكر مسيلمة ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هي ؟ فقال مسيلمة: يا وبر يا وبر، إنما أنت ايراد وصدر، وسائرك حفر نقر.
ثم قال: كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب * وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلية: وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا، وتوضأ وسقى بوضوئه نخلا فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرك عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع
رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمى * وقال
__________
(1) في الطبري: أعلاك في الماء وأسفلك في الطين.
(2) في الطبري: والباغي فناوئوه.

سيف بن عمر عن خليد بن زفر النمري، عن عمير بن طلحة عن أبيه أنه جاء إلى اليمامة فقال: أين مسيلمة ؟ فقال: مه رسول الله، فقال: لا حتى أراه، فلما جاء قال: أنت مسيلمة ؟ فقال: نعم.
قال: من يأتيك ؟ قال: رجس (1)، قال: أفي نور أم في ظلمة ؟ فقال: في ظلمة، فقال أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر (2)، واتبعه هذا الاعرابي الجلف لعنه الله حتى قتل معه يوم عقربا، لا رحمه الله.
ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الاسلام كان من خبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث العلاء بن الحضرمي إلى ملكها، المنذر بن ساوي العبدي، وأسلم على يديه وأقام فيهم الاسلام والعدل، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي المنذر بعده بقليل، وكان قد حضر عنده في مرضه عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للمريض شيئا من ماله ؟ قال: نعم، الثلث، قال: ماذا أصنع به ؟ قال: إن شئت تصدقت به على أقربائك، وإن شئت على المحاويج، وإن شئت جعلته صدقة من بعدك حبسا محرما، فقال: إني أكره أن أجعله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولكني أتصدق به، ففعل، ومات فكان عمرو بن العاص يتعجب منه، فلما مات المنذر ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم الغرور، وهو المنذر بن النعمان بن المنذر.
وقال قائلهم: لو كان محمد نبيا ما مات، ولم يبق بها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها جواثا، كانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس، وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم، حتى منعوا من الاقوات وجاعوا جوعا شديدا حتى فرج الله، وقد قال رجل منهم يقال له عبد الله بن حذف، أحد بني بكر بن كلاب، وقد اشتد عليه الجوع: -
ألا أبلغ أبا بكر رسولا * وفتيان المدينة أجمعينا فهل لكم إلى قوم كرام * قعود في جواثا محصرينا كأن دماءهم في كل فج * شعاع الشمس يغشى الناظرينا توكلنا على الرحمن إنا * قد وجدنا الصبر للمتوكلينا (3) وقد قام فيهم رجل من أشرافهم، وهو الجارود بن المعلى - وكان ممن هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - خطيبا وقد جمعهم فقال: يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتوه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد ؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أم ترونه ؟ قالوا: نعلمه، قال: فما فعلوا ؟ قالوا: ماتوا، قال:
__________
(1) في الطبري: " رحمن ".
(2) في رواية الكلبي: ولكن كذاب ربيعة أحب إلي من كذاب مضر.
(3) في الكامل لابن الاثير: " النصر " بدل " الصبر ".

فإن محمدا صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا: ونحن أيضا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه، وبعث الصديق رضي الله عنه كما قدمنا إليهم العلاء بن الحضرمي، فلما دنا من البحرين جاء إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير، وجاء كل أمراء تلك النواحي فانضافوا إلى جيش العلاء بن الحضرمي، فأكرمهم العلاء وترحب بهم وأحسن إليهم، وقد كان العلاء من سادات الصحابة العلماء العباد مجابي الدعوة، اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزلا فلم يستقر الناس على الارض حتى نفرت الابل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الارض ليس معهم شئ سوى ثيابهم - وذلك ليلا - ولم يقدروا منها على بعير واحد، فركب الناس من الهم والغم مالا يحد ولا يوصف، وجعل بعضهم يوصي إلى بعض، فنادى منادي العلاء فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس ألستم المسلمين ؟ ألستم في سبيل الله ؟
ألستم أنصار الله ؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم، ونودي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بالناس، فلما قضى الصلاة جثا على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد أخرى وهو يجتهد في الدعاء فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم غديرا عظيما من الماء القراح، فمشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الابل من كل فج بما عليها، لم يفقد الناس من أمتعتهم سلكا، فسقوا الابل عللا بعد نهل.
فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية، ثم لما اقترب من جيوش المرتدة - وقد حشدوا وجمعوا خلقا عظيما - نزل ونزلوا، وباتوا متجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتا عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء ؟ فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سكارى لا يعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فوره والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلا عظيما، وقل من هرب منهم، واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة جسيمة، وكان الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة من سادات القوم نائما، فقام دهشا حين اقتحم المسلمون عليهم فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول: من يصلح لي ركابي ؟ فجاء رجل (1) من المسلمين في الليل فقال: أن أصلحها لك، ارفع رجلك، فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه، فقال له: أجهز علي، فقال: لا أفعل، فوقع صريعا كلما مر به أحد يسأله أن يقتله فيأبى، حتى مر به قيس بن عاصم فقال له: أنا الحطم فاقتلني فقتله، فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله وقال: واسوأتاه، لو أعلم ما به لم أحركه، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين، يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فر منهم أو أكثرهم في البحر إلى دارين ركبوا إليها السفن، ثم شرع العلاء بن
__________
(1) كما في الطبري.
واسمه عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم.

الحضرمي في قسم الغنيمة ونقل الاثقال وفرغ من ذلك وقال للمسلمين: اذهبوا بنا إلى دارين
لنغزو من بها من الاعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعا، فاسر بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشقة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد يا صمد، يا حيي يا محي، يا قيوم يا ذا الجلال والاكرام لا إله إلا أنت يا ربنا.
وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة دمثة (1) فوقها ماء لا يغمر أخفاف الابل، ولا يصل إلى ركب الخيل، ومسيرته للسفن يوم وليلة، فقطعه إلى الساحل الآخر فقاتل عدوه وقهرهم واحتاز غنائمهم ثم رجع فقطعه إلى الجانب الآخر فعاد إلى موضعه الاول، وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبرا، واستاق الذراري والانعام والاموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئا سوى عليقة فرس لرجل من الملسمين ومع هذا رجع العلاء فجاءه بها، ثم قسم غنائم المسلمين فيهم، فأصاب الفارس ألفين والراجل ألفا (2)، مع كثرة الجيش، وكتب إلى الصديق فأعلمه بذلك، فبعث الصديق يشكره على ما صنع، وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر، وهو عفيف بن المنذر: ألم تر أن الله ذلل بحره * وأنزل بالكفار إحدى الجلائل دعونا إلى شق البحار فجاءنا * بأعجب من فلق البحار الاوائل وقد ذكر سيف بن عمر التميمي أنه كان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من أمر العلاء، وما أجرى الله على يديه من الكرامات، رجل من أهل هجر راهب فأسلم حينئذ، فقيل له: ما دعاك إلى الاسلام ؟ فقال: خشيت إن لم أفعل أن يمسخني الله (3)، لما شاهدت من الآيات، قال: وقد سمعت في الهواء وقت السحر دعاء، قالوا: وما هو ؟ قال: اللهم أنت الرحمن الرحيم، لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شئ، والدائم غير الغافل، والذي لا يموت (4)، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شئ علما، قال: فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، قال: فحسن إسلامه وكان الصحابة يسمعون منه.
__________
(1) في الطبري: ميثاء.
(2) في الطبري: للفارس ستة الآف والراجل الفين.
(3) في الطبري والكامل: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل: فيض في الرمال، وتمهيد أثباج البحر، ودعاء سمعته في عسكرهم...(4) في الطبري: والحي الذي لا يموت.

ذكر ردة أهل عمان ومهرة اليمن أما أهل عمان فنبغ فيهم رجل يقال له: ذو التاج، لقيط بن مالك الازدي، وكان يسمى في الجاهلية الجلندي، فادعى النبوة أيضا، وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلب عليها وقهر جيفرا وعبادا وألجأهما إلى أطرافها، من نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفر إلى الصديق فأخبره الخبر واستجاشه، فبعث إليه الصديق بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميري، وعرفجة البارقي من الازد، حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا ويبتدئا بعمان، وحذيفة هو الامير، فإذا ساروا إلى بلاد مهرة فعرفجة الامير * وقد قدمنا أن عكرمة بن أبي جهل لما بعثه الصديق إلى مسيلمة وأتبعه بشرحبيل بن حسنة، عجل عكرمة وناهض مسيلمة قبل مجئ شرحبيل ليفوز بالظفر وحده، فناله من مسيلمة قرح والذين معه، فتقهقر حتى جاء خالد بن الوليد، فقهر مسيلمة كما تقدم، وكتب إليه الصديق يلومه على تسرعه، قال: لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، وأمره أن يلحق بحذيفة وعرفجة إلى عمان، وكل منكم أمير على جيشه وحذيفة ما دمتم بعمان فهو أمير الناس، فإذا فرغتم فاذهبوا إلى مهرة، فإذا فرغتم منها فاذهب إلى اليمن وحضرموت فكن مع المهاجر بن أبي أمية، ومن لقيته من المرتدة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكل به، فسار عكرمة لما أمره به الصديق، فلحق حذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عمان، وقد كتب إليهما الصديق أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ من السير من عمان أو المقام بها، فساروا فلما اقتربوا من عمان راسلوا جيفرا، وبلغ لقيط بن مالك مجئ الجيش، فخرج في
جموعه فعسكر بمكان يقال له: دبا، وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، وجعل الذراري والاموال وراء ظهورهم، ليكون أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعباد بمكان ويقال له صحار، فعسكرا به وبعثا إلى أمراء الصديق فقدموا على المسلمين، فتقابل الجيشان هنالك، وتقاتلوا قتالا شديدا، وابتلى المسلمون وكادوا أن يولوا، فمن الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مددا، في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس، في جماعة من الامراء (1)، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر، فولى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل وسبوا الذراري وأخذوا الاموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى الصديق رضي الله عنه مع أحد الامراء، وهو عرفجة، ثم رجع إلى أصحابه.
وأما مهرة فإنهم لما فرغوا من عمان كما ذكرنا، سار عكرمة بالناس إلى بلاد مهرة، بمن معه من الجيوش ومن أضيف إليها، حتى اقتحم على مهرة بلادها، فوجدهم جندين على أحدهما - وهم الاكثر - أمير يقال له: المصبح، أحد بني محارب، وعلى الجند الآخر أمير يقال له: شخريت، وهما مختلفان، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين فراسل عكرمة شخريت فأجابه وانضاف إلى عكرمة فقوي بذلك المسلمون، وضعف
__________
(1) في الطبري والكامل: على بني ناجية الخريت بن راشد.
وعلى عبد القيس سيحان بن صوحان.

جأش المصبح، فبعث إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السمع والطاعة، فاغتر بكثرة من معه ومخالفة لشخريت، فتمادى على طغيانه فسار إليه عكرمة بمن معه من الجنود فاقتتلوا مع المصبح أشد من قتال دبا المتقدم، ثم فتح الله بالظفر والنصر، ففر المشركون وقتل المصبح، وقتل خلق كثير من قومه، وغنم المسلمون أموالهم، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة فخمس عكرمة ذلك كله وبعث بخمسة إلى الصديق مع شخريت، وأخبره بما فتح الله عليه، والبشارة مع رجل يقال له: السائب، من بني عابد من مخزوم، وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم [ المحاربي ]: جزي الله شخريتا وأفناء هاشما * وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب جزاء مسئ لم يراقب لذمة * ولم يرجها فيما يرجى الاقارب
أعكرم لولا جمع قومي وفعلهم * لضاقت عليكم بالفضاء المذاهب وكنا كمن اقتاد كفا بأختها * وحلت علينا في الدهور النوائب وأما أهل اليمن فقد قدمنا أن الاسود العنسي لعنه الله لما نبغ باليمن، أضل خلقا كثيرا من ضعفاء العقول والاديان حتى ارتد كثير منهم أو أكثرهم عن الاسلام، وأنه لما قتله الامراء الثلاثة قيس بن مكشوح وفيروز الديلمي، وداذويه، وكان ما قدمنا ذكره، ولما بلغهم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد بعض أهل اليمن فيما كانوا فيه من الحيرة والشك، أجارنا الله من ذلك، وطمع قيس بن مكشوح في الامرة باليمن، فعمل لذلك، وارتد عن الاسلام وتابعه عوام أهل اليمن، وكتب الصديق إلى الامراء والرؤساء (1)، من أهل اليمن أن يكونوا [ عونا إلى ] فيروز والابناء على قيس بن مكشوح حتى تأتيهم جنوده سريعا، وحرص قيس على قتل الاميرين الاخيرين، فلم يقدر إلا على داذويه، واحترز منه فيروز الديلمي، وذلك أنه عمل طعاما وأرسل إلى داذويه أولا، فلما جاءه عجل عليه فقتله، ثم أرسل إلى فيروز ليحضر عنده فلما كان ببعض الطريق سمع امرأة تقول لاخرى: وهذا أيضا والله مقتول كما قتل صاحبه، فرجع من الطريق وأخبر أصحابه بقتل داذويه، وخرج إلى أخواله خولان فتحصن عندهم وساعدته عقيل، وعك وخلق، وعمد قيس إلى ذراري فيروز وداذويه والابناء فأجلاهم عن اليمن، وأرسل طائفة في البر وطائفة في البحر فاحتد فيروز فخرج في خلق كثير، فتصادف هو وقيس فاقتتلوا قتالا شديدا فهزم قيسا وجنده من العوام، وبقية جند الاسود العنسى، فهزموا في كل وجه وأسر قيس وعمرو بن معدي كرب، وكان عمرو قد ارتد أيضا، وبايع الاسود العنسي، وبعث بهما المهاجر بن أبي أمية إلى أبي بكر أسيرين، فعنفهما وأنبهما، فاعتذرا إليه فقبل منهما علانيتهما، ووكل سرائرهما إلى الله عز وجل، وأطلق سراحهما وردهما إلى قومهما، ورجعت عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانوا باليمن إلى أماكنهم التي كانوا عليها في حياته عليه السلام بعد حروب طويلة، لو استقصينا إيرادها لطال ذكرها،
__________
(1) في الطبري والكامل: كتب أبو بكر: إلى عمر ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم وإلى شهر ذي يناف...

وملخصها أنه ما من ناحية من جزيرة العرب إلا وحصل في أهلها ردة لبعض الناس، فبعث الصديق إليهم جيوشا وأمراء يكونون عونا لمن في تلك الناحية من المؤمنين فلا يتواجه المشركون والمؤمنون في موطن من تلك المواطن إلا غلب جيش الصديق لمن هناك من المرتدين، ولله الحمد والمنة، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فيتقوون بذلك على من هنالك، ويبعثون بأخماس ما يغنمون إلى الصديق فينفقه في الناس فيحصل لهم قوة أيضا ويستعدون به على قتال من يريدون قتالهم من الاعاجم والروم، على ما سيأتي تفصيله * ولم يزل الامر كذلك حتى لم يبق بجزيرة العرب إلا أهل طاعة لله ولرسوله، وأهل ذمة من الصديق، كأهل نجران وما جرى مجراهم، ولله الحمد، وعامة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل سنة إثنتي عشرة * ولنذكر بعد إيراد هذه الحوادث من توفي في هذه السنة من الاعيان والمشاهير وبالله المستعان، وفيها رجع معاذ بن جبل من اليمن.
وفيها استبقى (1)، أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ذكر من توفي في هذه السنة أعني سنة إحدى عشرة من الاعيان والمشاهير وذكرنا معهم من قتل باليمامة لانها كانت في سنة إحدى عشرة على قول بعضهم، وإن كان المشهور أنها في ربيع سنة ثنتي عشرة * توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وذلك في ربيعها الاول يوم الاثنين ثاني عشره على المشهور، كما قدمنا بيانه، وبعده بستة أشهر على الاشهر، توفيت ابنته فاطمة رضي الله عنها، وتكنى بأم أبيها، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقا به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ؟ وكانت أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عظم أجرها لانها أصيبت به عليه السلام ويقال إنها كانت توأما لعبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له عليه السلام نسل إلا من جهتها، قال الزبير بن بكار: وقد روي أنه عليه السلام ليلة زفاف علي على فاطمة توضأ وصب عليه وعلى فاطمة
ودعا لهما أن يبارك في نسلهما، وقد تزوجها ابن عمها علي بن أبي طالب بعد الهجرة، وذلك بعد بدر وقيل بعد أحد، وقيل بعد تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد ذلك بسبعة أشهر ونصف، فأصدقها درعه الحطمية وقيمتها أربعمائة درهم، وكان عمرها إذ ذاك خمس عشرة (2) سنة وخمسة أشهر، وكان علي أسن منها بست سنين.
وقد وردت أحاديث موضوعة في تزويج علي بفاطمة لم نذكرها رغبة عنها * فولدت له حسنا وحسينا ومحسنا وأم كلثوم - التي تزوج بها عمر بن الخطاب بعد ذلك - وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، أنا عطاء بن السائب عن أبيه عن
__________
(1) في الطبري: استقضى، فكان عمر على القضاء أيام خلافته كلها.
(2) قال الواقدي: ثماني عشرة سنة (طبقات ابن سعد 8 / 22).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55