كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
شعبان منها قدم أسعد المهيتي مدرسا بالنظامية ببغداد، وناظرا عليها، وصرف الباقرجي عنها، ووقع بينه وبين الفقهاء فتنة بسبب أنه قطع منهم جماعة، واكتفى بمائتي طالب منهم، فلم يهن ذلك على كثير منهم.
وفيها سار السلطان محمود إلى بلاد الكرج وقد وقع بينهم وبين القفجاق خلف فقاتلهم فهزمهم، ثم عاد إلى همدان.
وفيها ملك طغتكين صاحب دمشق مدينة حماه بعد وفاة صاحبها قراجا (1)، وقد كان ظالما غاشما.
وفيها عزل نقيب العلويين وهدمت داره وهو علي بن أفلح، لانه كان عينا لدبيس، وأضيف إلى علي بن طراد نقابة العلويين مع نقابة العباسيين.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد ابن علي (2) بن صدقة، التغلبي، المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي، الكاتب، له ديوان شعر مشهور.
قال ابن عساكر ختم به شعر الشعراء بدمشق، شعره جيد حسن، وكان مكثرا لحفظ الاشعار المتقدمة وأخبارهم، وأورد له ابن خلكان قطعة جيدة من شعره من قصيدته التي لو لم يكن له سواها لكفته وهي التي يقول فيها (3): خذا من صبا نجد أمانا لقلبه (4) * فقد كاد رياها يطير بلبه وإياكما ذاك النسيم فإنه * متى هب كان الوجد أيسر خطبه خليلي، لو أحببتما لعلمتما * محل الهوى من مغرم القلب صبه أتذكر والذكرى تشوق وذو الهوى * يتوق ومن يعلق به الحب يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه * وشوق على بعد المزار وقربه وفي الركب مطوي الضلوع على جوى * متى يدعه داعي الغرام يلبه إذا خطرت من جانب الرمل نفحة * تضمن منها داؤه دون صحبه ومحتجب بين الاسنة معرض * وفي القلب من أعراضه مثل حجبه أغار إذا آنست في الحي أنة * حذارا وخوفا (5) أن تكون لحبه توفي في رمضان منها عن سبع وتسعين (6) سنة بدمشق.
__________
(1) وهو محمود بن قراجة.
(2) زيد في الوافي 3 / 67 ووفيات الاعيان 1 / 145:..علي بن يحيى بن صدقة...(3) الابيات في ديوانه، ص 170 ; قالها في مدح مجد الدين أبق بن عبد الرزاق.
(4) كذا بالاصل والوفيات، وفي الوافي: لصبه.
(5) كذا بالاصل والديوان ووفيات الاعيان، وفي الوافي: حذارا عليه.
(6) في الوافي والوفيات: كانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة، فيكون له عند وفاته سبع وستون سنة.
ثم دخلت سنة ثمان عشر وخمسمائة فيها ظهرت الباطنية بآمد فقاتلهم أهلها فقتلوا منهم سبعمائة.
وفيها ردت شحنكية بغداد إلى سعد الدولة يرنقش الزكوي وسلم إليه منصور بن صدقة أخو دبيس ليسلمه إلى دار الخلافة، وورد الخبر بأن دبيسا قد التجأ إلى طغرلبك وقد اتفقا على أخذ بغداد، فأخذ الناس بالتأهب إلى قتالهما، وأمر آقسنقر بالعود إلى الموصل، فاستناب على البصرة عماد الدين زنكي بن آقسنقر.
وفي ربيع الاول دخل الملك حسام تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب حلب، وقد ملكها بعد ملكها بلك بن بهرام، وكان قد حاصر قلعة منبج فجاءه سهم في حلقه فمات، فاستناب تمرتاش بحلب، ثم عاد إلى ماردين فأخذت منه بعد ذلك، أخذها آقسنقر مضافة إلى الموصل، وفيها أرسل الخليفة القاضي أبا سعد الهروي ليخطب له ابنة السلطان سنجر، وشرع الخليفة في بناء دار على حافة دجلة لاجل العروس.
وحج بالناس جمال الدولة إقبال المسترشدي.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح، ويعرف بابن الحمامي، تفقه على أبي الوفاء بن عقيل، وبرع في مذهب الامام أحمد، ثم نقم عليه أصحابه أشياء، فحمله ذلك على الانتقال إلى مذهب الشافعي، فاشتغل على الغزالي والشاشي، وبرع وساد وشهد عند الزينبي فقبله، ودرس في النظامية شهرا.
توفي في جمادى ودفن بباب إبرز.
عبد الله بن محمد بن جعفر أبو علي الدامغاني، سمع الحديث وشهد عند أبيه وناب في الكرخ عن أخيه، ثم ترك ذلك كله، وولي حجابة باب النوبى، ثم عزل ثم أعيد.
توفي في جمادى.
أحمد بن محمد ابن إبراهيم أبو الفضل الميداني (1)، صاحب كتاب الامثال، ليس له مثله في بابه، له شعر جيد، توفي يوم الاربعاء الخامس والعشرين من رمضان والله سبحانه أعلم.
__________
(1) الميداني نسبة إلى ميدان زياد، وهي محلة في نيسابور.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة فيها قصد دبيس والسلطان طغرل بغداد ليأخذاها من يد الخليفة، فلما اقتربا منها برز إليهما الخليفة في جحفل عظيم، والناس مشاة بين يديه إلى أول منزلة، ثم ركب الناس بعد ذلك، فلما أمست الليلة التي يقتتلون في صبيحتها، ومن عزمهم أن ينهبوا بغداد، أرسل الله مطرا عظيما، ومرض السلطان طغرل في تلك الليلة، فتفرقت تلك الجموع ورجعوا على أعقابهم خائبين خائفين، والتجأ دبيس وطغرل إلى الملك سنجر وسألاه الامان من الخليفة، والسلطان محمود، فحبس دبيسا في قلعة ووشى واش أن الخليفة يريد أن يستأثر بالملك، وقد خرج من بغداد إلى اللان لمحاربة الاعداء، فوقع في نفس سنجر من ذلك وأضمر سوء، مع أنه قد زوج ابنته من الخليفة.
وفيها قتل القاضي أبو سعد بن نصر بن منصور الهروي بهمدان، قتلته الباطنية، وهو الذي أرسله الخليفة إلى سنجر ليخطب ابنته.
وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفي فيها من الاعيان..آقسنقر البرشقي (1) صاحب حلب، قتلته الباطنية - وهم الفداوية - في مقصورة جامعها يوم الجمعة، وقد كان تركيا جيد السيرة، محافظا على الصلوات في أوقاتها، كثير البر والصدقات إلى الفقراء، كثير الاحسان إلى الرعايا، وقام في الملك بعده ولده السلطان عز الدين مسعود، وأقره السلطان محمود على عمله.
بلال (2) بن عبد الرحمن ابن شريح بن عمر بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سليمان بن بلال بن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رحل وجال في البلاد، وكان شيخا جهوري الصوت، حسن القراءة، طيب النغمة توفي في هذه السنة بسمرقند رحمه الله.
القاضي أبو سعد الهروي أحمد (3) بن نصر، أحد مشاهير الفقهاء، وسادة الكبراء، قتلته الباطنية بهمذان فيها.
__________
(1) في الكامل 10 / 633: البرسقي وذكر أنه قتل سنة 520 ه.
(2) في الكامل: هلال.
(3) في الكامل 10 / 630 والوافي 5 / 11 ومرآة الزمان ص 115 والنجوم الزاهرة 5 / 228: محمد.
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة فيها تراسل السلطان محمود والخليفة على السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميله إليه، ويحذره من الخليفة، وأنه لا تؤمن غائلته، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخذك، فأصغى إلى قول عمه ورجع عن عزمه، وأقبل ليدخل بغداد عامه ذلك، فكتب إليه الخليفة ينهاه عن ذلك لقلة الاقوات بها، فليم يقبل منه، وأقبل إليه، فلما أزف قدومه خرج الخليفة من داره وتجهز إلى الجانب الغربي فشق عليه ذلك وعلى الناس، ودخل عيد الاضحى فخطب الخليفة الناس بنفسه خطبة عظيمة بليغة فصيحة جدا، وكبر وراءه خطباء الجوامع، وكان يوما مشهودا.
وقد سردها ابن الجوزي بطولها ورواها عن من حضرها، مع قاضي القضاة الزينبي، وجماعة من العدول، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادق وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيق والنصر، ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر (1) من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذى كثير في حريمهم، ثم إن السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الاتراك ومعه شرذمة قليلة من المقاتلة، ولكن العامة كلهم معه، وقتل من الاتراك خلقا، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيش كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدة، فلما استشعر الخليفة ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلح بين السلطان والخليفة، وأخذ الملك يستبشر بذلك جدا، ويعتذر إلى الخليفة مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرض حصل له.
وفيها كان أول مجلس تكلم فيه ابن الجوزي
على المنبر يعظ الناس، وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وحضره الشيخ أبو القاسم علي بن يعلى العلوي البلخي، وكان نسيبا، علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها، وكان يوما مشهودا.
قال ابن الجوزي: وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفا، والله أعلم.
وفيها اقتتل طغتكين صاحب دمشق وأعداؤه من الفرنج فقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم منهم أموالا جزيلة ولله الحمد والمنة.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد بن محمد أبو الفتح الطوسي الغزالي، أخو أبي حامد الغزالي، كان واعظا مفوها، ذا حظ من الكلام والزهد وحسن التأني، وله نكت جيدة، ووعظ مرة في دار الملك محمود فأطلق له ألف دينار، وخرج فإذا على الباب فرس الوزير بسرجها الذهب، وسلاحها وما عليها من الحلى، فركبها، فبلغ ذلك
__________
(1) في الكامل: في العشرين من ذي الحجة، وفي العبر 3 / 504: في عشر ذي الحجة.
الوزير فقال: دعوه ولا يرد علي الفرس، فأخذها الغزالي، وسمع مرة ناعورة تئن فألقى عليها رداءه فتمزق قطعا قطعا.
قال ابن الجوزي: وقد كانت له نكت إلا أن الغالب على كلامه التخليط والاحاديث الموضوعة المصنوعة، والحكايات الفارغة، والمعاني الفاسدة، ثم أورد ابن الجوزي أشياء منكرة من كلامه فالله أعلم، من ذلك أنه كان كلما أشكل عليه شئ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب، وكان يتعصب إلى بليس ويعتذر له، وتكلم فيه ابن الجوزي بكلام طويل كثير.
قال ونسب إلى محبة المردان والقول بالمشاهدة فالله أعلم بصحة ذلك.
قال ابن خلكان: كان واعظا مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه ودرس بالنظامية نيابة عن أخيه لما تزهد، واختصر إحياء علوم الدين في مجلد سماه " لباب الاحيا " وله: " الذخيرة في علم البصيرة "، وطاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه، وكان مائلا إلى الانقطاع والعزلة والله أعلم بحاله.
أحمد بن علي (1)
ابن محمد الوكيل، المعروف بابن برهان، أبو الفتح الفقيه الشافعي، تفقه على الغزالي وعلى الكيا الهراسي، وعلى الشاشي، وكان بارعا في الاصول، وله كتاب الذخيرة في أصول الفقه، وكان يعرف فنونا جيدة، بعينها.
وولي تدريس النظامية ببغداد دون شهر.
بهرام بن بهرام أبو شجاع البيع، سمع الحديث وبنى مدرسة لاصحاب أحمد بكلواذي، ووقف قطعة من أملاكه على الفقهاء بها.
صاعد بن سيار ابن محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو الاعلا إلاسحاقي الهروي الحافظ، أحد المتقنين، سمع الحديث وتوفي بعتورج قرية على بابه هراة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة استهلت هذه السنة والخليفة والسلطان محمود متحاربان والخليفة في السرادق في الجانب
__________
(1) ذكره في وفيات سنة 518 ه.
وذكره وفاته هذه السنة ابن خلكان.
الغربي، فلما كان يوم الاربعاء رابع المحرم توصل جماعة من جند السلطان إلى دار الخلافة فحصل فيها ألف مقاتل عليهم السلاح، فنهبوا الاموال، وخرج الجواري وهن حاسرات يستغثن حتى دخلن دار الخاتون.
قال ابن الجوزي: وأنا رأيتهن كذلك، فلما وقع ذلك ركب الخليفة في جيشه وجئ بالسفن وانقلبت بغداد بالصراخ حتى كأن الدنيا قد زلزلت، وثارت العامة مع جيش الخليفة فكسروا جيش السلطان وقتلوا خلقا من الامراء، وأسروا آخرين ونهبوا دار السلطان ودار وزيره ودار طبيبه أبي البركات، وأخذوا ما كان في داره من الودائع، ومرت خبطة عظيمة جدا، حتى أنهم نهبوا الصوفية، برباط نهر جور، وجرت أمور طويلة، ونالت العامة من السلطان، وجعلوا يقولون له: يا باطني تترك الفرنج والروم وتقاتل الخليفة، ثم إن الخليفة انتقل إلى داره في سابع المحرم، فلما كان في يوم عاشوراء تماثل الحال وطلب السلطان من الخليفة الامان والصلح، فلان الخليفة إلى ذلك،
وتباشر الناس بالصلح، فأرسل إليه الخليفة نقيب النقباء وقاضي القضاة، وشيخ الشيوخ وبضعا وثلاثين شاهدا، فاحتبسهم السلطان عنده ستة أيام فساء ذلك الناس، وخافوا من فتنة أخرى أشد من الاولى، وكان برنقش الزكوي شحنة بغداد يغري السلطان بأهل بغداد لينهب أموالهم، فلم يقبل منه، تم أدخل لاولئك الجماعة فأدخلوا عليه وقت المغرب فصلى بهم القاضي وقرأوا عليه كتاب الخليفة، فقام قائما، وأجاب الخليفة إلى جميع ما اقترح عليه، ووقع الصلح والتحليف، ودخل جيش السطان وهم في غاية الجهد من قلة الطعام عندهم في العسكر، وقالوا: لو لم يصلح لمتنا جوعا، وظهر من السلطان حلم كثير عن العوام، وأمر الخليفة برد ما نهب من دور الجند، وأن من كتم شيئا أبيح دمه.
وبعث الخليفة علي بن طراد الزينبي النقيب إلى السلطان سنجر ليبعد عن بابه دبيسا، وأرسل معه الخلع والاكرام، فأكرم سنجر رسول الخليفة، وأمر بضرب الطبول على بابه في ثلاثة أوقات، وظهر منه طاعة كثيرة، ثم مرض السلطان محمود ببغداد فأمره الطبيب بالانتقال عنها إلى همذان، فسار في ربيع الآخر فوضع شحنكية بغداد إلى عماد الدين زنكي، فلما وصل السلطان إلى همذان بعث على شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز، وجعل إليه الحلة وبعث عماد الدين زنكي إلى الموصل وأعمالها.
وفيها درس الحسن بن سليمان بالنظامية ببغداد.
وفيها ورد أبو الفتوح الاسفراييني فوعظ ببغداد، فأورد أحاديث كثيرة منكرة جدا، فاستتيب منها وأمر بالانتقال منها إلى غيرها فشد معه جماعة من الاكابر وردوه إلى ما كان عليه، فوقع بسببه فتن كثيرة بين الناس، حتى رجمه بعض العامة بالاسواق، وذلك لانه كان يطلق عبارات لا يحتاج إلى إيرادها، فنفرت منه قلوب العامة وأبغضوه، وجلس الشيخ عبد القادر الجيلي فتكلم على الناس فأعجبهم، وأحبوه وتركوا ذاك.
وفيها قتل السلطان سنجر من الباطنية اثنا عشر ألفا (1).
وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفي فيها من الاعيان..
__________
(1) في الكامل 10 / 647: كانوا يزيدون على عشرة آلاف نفس.
محمد بن عبد الملك
ابن إبراهيم بن أحمد، أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي، صاحب التاريخ من بيت الحديث.
وذكر ابن الجوزي عن شيخه عبد الوهاب أنه طعن فيه.
توفي فجأة في شوال، ودفن إلى جانب ابن شريح.
فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلويه سمعت الخطيب وابن المسلمة وغيرها، وكانت واعظة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، وقد سمع عليها ابن الجوزي مسند الشافعي وغيره.
أبو محمد عبد الله بن محمد ابن السيد البطليوسي (1)، ثم التنيسي صاحب المصنفات في اللغة وغيرها، جمع المثلث في مجلدين، وزاد فيه على قطرب شيئا كثيرا جدا، وله شرح سقط الزند لابي العلاء، أحسن من شرح المصنف وله شرح أدب الكاتب لابن قتيبة، ومن شعره الذي أورده له ابن خلكان: أخو العلم حي خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى * يظن من الاحياء وهو عديم ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة في أولها قدم رسول سنجر إلى الخليفة يسأل منه أن يخطب له على منابر بغداد، وكان يخطب له في كل جمعة بجامع المنصور.
وفيها مات ابن صدقة وزير الخليفة، وجعل مكانه نقيب النقباء.
وفيها اجتمع السلطان محمود بعمه سنجر واصطلحا بعد خشونة، وسلم سنجر دبيسا إلى السلطان محمود على أن يسترضي عنه الخليفة ويعزل زنكي عن الموصل، ويسلم ذلك إلى دبيس، واشتهر في ربيع الاول ببغداد أن دبيسا أقبل إلى بغداد في جيش كثيف، فكتب الخليفة إلى السلطان محمود: لئن لم تكف دبيسا عن القدوم إلى بغداد وإلا خرجنا إليه ونقضنا ما بيننا وبينك من العهود والصلح.
وفيها
__________
(1) البطليوسي: نسبة إلى بطليوس مدينة بالاندلس من أعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة قال ياقوت: ينسب إليها خلق كثير، منهم: أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي النحوي اللغوي صاحب التصانيف والشعر (معجم البلدان).
ملك الاتابك زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وما حولها من البلاد.
وفيها ملك تاج الملوك بوري بن طغتكين مدينة دمشق بعد وفاة أبيه، وقد كان أبوه من مماليك ألب أرسلان، وكان عاقلا حازما عادلا خيرا، كثير الجهاد في الفرنج رحمه الله.
وفيها عمل ببغداد مصلى للعيد ظاهر باب الحلية، وحوط عليه، وجعل فيه قبلة.
وحج بالناس قطز الخادم المتقدم ذكره وممن توفي فيها من الاعيان..الحسن بن علي بن صدقة أبو علي وزير الخليفة المسترشد (1)، توفي في رجب منها.
ومن شعره الذي أورد له ابن الجوزي وقد بالغ في مدح الخليفة فيه وأخطأ: وجدت الورى كالماء طعما ورقة * وأن أمير المؤمنين زلاله وصورت معنى العقل شخصا مصورا * وأن أمير المؤمنين مثاله فلولا مكان الشرع والدين والتقى * لقلت من الاعظام جل جلاله الحسين بن علي ابن أبي القاسم اللامتني (2)، من أهل سمرقند، روى الحديث وتفقه، وكان يضرب به المثل في المناظرة، وكان خيرا دينا على طريقة السلف، مطرحا للتكلف أمارا بالمعروف.
قدم من عند الخاقان ملك ما وراء النهر في رسالة إلى دار الخلافة، فقيل له ألا تحج عامك هذا ؟ فقال: لا أجعل الحج تبعا لرسالتهم، فعاد إلى بلده فمات في رمضان من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة رحمه الله.
طغتكين الاتابك صاحب دمشق التركي، أحد غلمان تتش، كان من خيار الملوك وأعدلهم وأكثرهم جهادا للفرنج، وقام من بعده ولده تاج الملوك بوري.
__________
(1) قال الفخري ص 304: استوزره المسترشد سنة 513 ه ولقبه بجلال الدين سيد الوزراء صدر الشرق والغرب
ظهير أمير المؤمنين، كان من أفاضل وزرائه، عالما بقوانين الرياسة خيرا.
ثم إن المسترشد قبض عليه وعزله عن الوزارة، وليم يكن ذلك عن إرادة من المسترشد، وإنما دعته الضرورة لان وزير السلطان كان يتعصب عليه، ثم وقع الرضى عليه وأعيد إلى الوزارة وكان يوما مشهودا..ولم يزل في علو قدر إلى أن توفي.
(2) في تذكرة الحفاظ 4 / 1272: اللامشي ; السمرقندي الحنفي، عالم ما وراء النهر.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة في المحرم منها دخل السلطان محمود إلى بغداد، واجتهد في إرضاء الخليفة عن دبيس، وأن يسلم إليه بلاد الموصل، فامتنع الخليفة من ذلك وأبى أشد الاباء، هذا وقد تأخر دبيس عن الدخول إلى بغداد، ثم دخلها وركب بين الناس فلعنوه وشتموه في وجهه، وقدم عماد الدين زنكي فبذل للسلطان في كل سنة مائة ألف دينار، وهدايا وتحفا، والتزم للخليفة بمثلها على أن لا يولي دبيسا شيئا وعلى أن يستمر زنكي على عمله بالموصل، فأقره على ذلك وخلع عليه، ورجع إلى عمله فملك حلب وحماه، وأسر صاحبها سونج بن تاج الملوك، فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار.
وفي يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر خلع السلطان على نقيب النقباء استقلالا، ولا يعرف أحد من العباسيين باشر الوزارة غيره.
وفي رمضان منها جاء دبيس في جيش إلى الحلة فملكها ودخلها في أصحابه، وكانوا ثلاثمائة فارس، ثم إنه شرع في جمع الاموال وأخذ الغلات من القرى حتى حصل نحوا من خمسمائة ألف دينار، واستخدم قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وتفاقم الحال بأمره، وبعث إلى الخليفة يسترضيه فلم يرض عليه، وعرض عليه أموالا فلم يقبلها، وبعث إليه السلطان جيشا فانهزم إلى البرية ثم أغار على البصرة فأخذ منها حواصل السلطان والخليفة، ثم دخل البرية فانقطع خبره.
وفي هذه السنة قتل صاحب دمشق من الباطنية ستة آلاف، وعلق رؤوس كبارهم على باب القلعة، وأراح الله الشام منهم.
وفيها حاصرت الفرنج مدينة دمشق فخرج إليهم أهلها، فقاتلوهم قتالا شديدا، وبعث أهل دمشق عبد الله الواعظ ومعه جماعة من التجار يستغيثون بالخليفة، وهموا بكسر منبر الجامع، حتى وعدهم بأنه سيكتب إلى السلطان ليبعث لهم جيشا يقاتلون الفرنج، فسكنت الامور،
فلم يبعث لهم جيشا حتى نصرهم الله من عنده، فإن المسلمين هزموهم وقتلوا منهم عشر آلاف، ولم يفلت منهم سوى (1) أربعين نفسا ولله الحمد والمنة.
وقتل بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية (2).
وفيها تخبط الناس في الحج حتى ضاق الوقت بسبب فتنة دبيس، حتى حج بهم برنقش الزكوي، وكان اسمه بغاجق.
وممن توفي فيها من الاعيان..أسعد بن أبي نصر الميهني أبو الفتح، أحد أئمة الشافعية في زمانه، تفقه على أبي المظفر السمعاني، وساد أهل
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه: لم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلا.
(2) ذكر ابن الاثير وفاته سنة 524 ه، بعد أن استولى سنة 523 على حصن القدموس من المسلمين.
زمانه وبرع وتفرد من بين أقرانه، وولي تدريس النظامية ببغداد، وحصل له وجاهة عند الخاص والعام وعلق عنه تعليقة في الخلاف.
ثم عزل عن النظامية فسار إلى همذان فمات بها في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة فيها كانت زلزلة عظيمة بالعراق تهدم بسببها دور كثيرة ببغداد.
ووقع بأرض الموصل مطر عظيم فسقط بعضه نارا تأجج فأحرقت دورا كثيرة، وخلقا من ذلك المطر وتهارب الناس.
وفيها وجد ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان، فخاف الناس منها خوفا شديدا.
وفيها ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند وكان بها محمد بن خاقان.
وفيها ملك عماد الدين زنكي بلادا كثيرة من الجزيرة وهما مع الفرنج، وجرت معهم حروب طويلة، نصر عليهم في تلك المواقف كلها ولله الحمد.
وقتل خلقا من جيش الروم حين قدموا الشام، ومدحه الشعراء على ذلك.
قتل خليفة مصر وفي ثاني ذي القعدة قتل الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بن المستعلي صاحب مصر، قتله
الباطنية وله من العمر أربع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا (1)، وكان هو العاشر من ولد عبيد الله المهدي ; ولما قتل تغلب على الديار المصرية غلام من غلمانه أرمني فاستحوذ على الامور ثلاثة أيام حتى حضر أبو علي أحمد بن الافضل بن بدر الجمالي فأقام الخليفة الحافظ أبا الميمون عبد المجيد بن الامير أبي القاسم بن المستنصر (2) ; وله من العمر ثمان وخمسون سنة، ولما أقامه استحوذ على الامور دونه وحصره في مجلسه، لا يدع أحدا يدخل إليه إلا من يريد هو، ونقل الاموال من القصر إلى داره، ولم يبق للحافظ سوى الاسم فقط.
وممن توفي فيها من الاعيان...إبراهيم بن يحيى (3) بن عثمان بن محمد أبو إسحاق الكلبي من أهل غزة، جاوز الثمانين، وله شعر جيد في الاتراك.
فمنه:
__________
(1) كذا بالاصل وابن خلدون، وفي ابن الاثير: تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر.
(2) في ابن خلدون 4 / 71: عبد الحميد بن أبي القاسم بن المستضئ.
ولم يبايع بالخلافة وإنما بويع له لينظر في الامر نيابة (كافلا) ولقبوه بالحافظ لدين الله حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه، ويكون هو نائبا عنه.
(الكامل 10 / 665 تاريخ أبي الفداء 3 / 4).
(3) سقطت من عامود نسبه في المراجع..انظر الكامل 10 / 666 الوافي 6 / 51 تهذيب تاريخ ابن عساكر 2 / 229 المنتظم 10 / 15 النجوم الزاهرة 5 / 236 وأثبته في الوفيات 1 / 57.
في فتية من جيوش الترك ما تركت * للرعد كراتهم صوتا ولا صيتا قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة * حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا وله: ليت الذي بالعشق دونك خصني * يا ظالمي قسم المحبة بيننا ألقى الهزبر فلا أخاف وثوبه * ويروعني نظر الغزال إذا دنا وله:
إنما هذه الحياة متاع * والسفيه الغوي من يصطفيها ما مضى فات والمؤمل غيب * ولك الساعة التي أنت فيها وله أيضا: قالوا: هجرت الشعر قلت: ضرورة * باب الدواعي والبواعث مغلق خلت الديار فلا كريم يرتجى * منه النوال ولا مليح يعشق ومن العجائب (1) أنه لا يشترى * ويخان فيه مع الكساد ويسرق كانت وفاته في هذه السنة ببلاد بلخ ودفن بها.
ومما أنشده ابن خلكان له: إشارة منك تكفينا وأحسن ما * رد السلام غداة البين بالعنم حتى إذا طاح عنها المرط من دهش * وانحل بالضم سلك (2) العقد في الظلم تبسمت فأضاء الليل (3) فالتقطت * حبات منتثر في ضوء منتظم الحسين بن محمد ابن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبد الله بن سليمان ابن وهب الدباس أبو عبد الله الشاعر المعروف البارع، قرأ القراءات وسمع الحديث، وكان عارفا بالنحو واللغة والادب، وله شعر حسن، توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.
محمد بن سعدون بن مرجا أبو عامر العبدري القرشي الحافظ، أصله من بيروقة (4) من بلاد المغرب وبغداد، وسمع بها
__________
(1) في الوافي: ومن الرزية.
(2) في الوافي: عقد السلك.
(3) في الوافي: الجو.
(4) في الوافي 3 / 93: ميورقة.
تقدم شرحها.
على طراد الزينبي والحميدي وغير واحد، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، وكان يذهب في الفروع
مذهب الظاهرية.
توفي في ربيع الآخر في بغداد.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة فيها ضل دبيس عن الطريق في البرية فأسره بعض أمراء الاعراب بأرض الشام، وحمله إلى ملك دمشق بوري بن طغتكين، فباعه من زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل بخمسين ألف دينار فلما حصل في يده لم يشك أنه سيهلكه، لما بينهما من العداوة، فأكرمه زنكي وأعطاه أموالا جزيلة وقدمه واحترمه، ثم جاءت رسل الخليفة في طلبه فبعثه معهم، فلما وصل إلى الموصل حبس في قلعتها وفيها وقع بين الاخوين محمود ومسعود، فتواجها للقتال ثم اصطلحا.
وفيها كانت وفاة الملك محمود بن ملكشاه فأقيم في الملك مكانه ابنه داود، وجعل له إتابك وزير أبيه وخطب له بأكثر البلاد وممن توفي فيها من الاعيان.
أحمد بن محمد بن عبد القاهر الصوفي (1) سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان شيخا لطيفا، عليه نور العبادة والتعلم قال ابن الجوزي أنشدني: على كل حال فاجعل الحزم عدة * تقدمها بين النوائب والدهر فإن نلت خيرا نلته بعزيمة * وإن قصرت عنك الامور فعن عذر قال وأنشدني أيضا: لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا * وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد وقلت يا عدتي في كل نائبة * ومن عليه لكشف الضر أعتمد وقد مددت يدي والضر مشتمل * إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة * فبحر جودك يروي كل من يرد الحسن بن سليمان ابن عبد الله بن عبد الغني أبو علي الفقيه مدرس النظامية، وقد وعظ بجامع القصر، وكان
__________
(1) أبو نصر الطوسي، أصله من طوس ونزل الموصل وكان خطيبها.
قدم بغداد ولازم أبا إسحاق الشيرازي إلى حين
وفاته في ربيع الاول سنة 525 ه.
يقول ما في الفقه منتهى، ولا في الوعظ مبتدى.
توفي فيها وغسله القاضي أبو العباس بن الرطبي، ودفن عند أبي إسحاق.
حماد بن مسلم الرحبي الدباس، كان يذكر له أحوال ومكاشفات واطلاع على مغيبات، وغير ذلك من المقامات، ورأيت ابن الجوزي يتكلم فيه ويقول: كان عريا من العلوم الشرعية، وإنما كان ينفق على الجهال وذكر عن ابن عقيل أنه كان ينفر منه، وكان حماد الدباس يقول: ابن عقيل عدوي، قال ابن الجوزي: وكان الناس ينذرون له فيقبل ذلك، ثم ترك ذلك وصار يأخذ من المنامات وينفق على أصحابه.
توفي في رمضان ودفن بالشونيزية.
علي بن المستظهر بالله أخو الخليفة المسترشد، توفي في رجب منها وله من العمر إحدى وعشرون سنة، فترك ضرب الطبول وجلس الناس للعزاء أياما.
محمد بن أحمد أبن أبي الفضل الماهاني، أحد أئمة الشافعية، تفقه بإمام الحرمين وغيره، ورحل في طلب الحديث، ودرس وأفتى وناظر.
توفي فيها وقد جاوز التسعين، ودفن بقرية ماهان من بلاد مرو.
محمود السلطان بن السلطان ملكشاه كان من خيار الملوك، فيه حلم وأناة وصلابة، وجلسوا للعزاء به ثلاثة أيام سامحه الله.
هبة الله بن محمد ابن عبد الواحد بن العباس بن الحصين، أبو القاسم الشيباني، راوي المسند عن علي بن المهذب، عن أبي بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، وقد سمع قديما لانه ولد سنة ثنتين وثلاثين وأربعمائة، وباكر به أبوه فأسمعه، ومعه أخوه عبد الواحد، على جماعة من علية المشايخ،
وقد روى عنه ابن الجوزي وغير واحد، وكان ثقة ثبتا صحيح السماع، توفي بين الظهر والعصر يوم الاربعاء (1) منها وله ثلاث وتسعون سنة، رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) زيد في شذرات الذهب 4 / 77: في رابع عشر شوال.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة فيها قدم مسعود بن محمد بن ملكشاه بغداد وقدمها قراجا الساقي، وسلجوق شاه بن محمد، وكل منهما يطلب الملك لنفسه، وقدم عماد الدين زنكي لينضم إليهما فتلقاه الساقي فهزمه فهرب منه إلى تكريت، فخدمه نائب قلعتها نجم الدين أيوب والد الملك صلاح الدين يوسف، فاتح بيت المقدس كما سيأتي إن شاء الله، حتى عاد إلى بلاده، وكان هذا هو السبب في مصير نجم الدين أيوب إليه، وهو بحلب، فخدم عنده ثم كان من الامور ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم إن الملكين مسعود وسلجوق شاه اجتمعا فاصطلحا (1) وركبا إلى الملك سنجر فاقتتلا معه، وكان جيشه مائة وستين ألفا وكان جيشهما قريبا من ثلاثين ألفا، وكان جملة من قتل بينهما أربعين ألفا، وأسر جيش سنجر قراجا الساقي فقتله صبرا بين يديه، ثم أجلس طغرل بن محمد على سرير الملك، وخطب له على المنابر، ورجع سنجر إلى بلاده، وكتب طغرل إلى دبيس وزنكي ليذهبا إلى بغداد ليأخذاها، فأقبلا في جيش كثيف فبرز إليهما الخليفة فهزمهما، وقتل خلقا من أصحابهما، وأزاح الله شرهما عنه ولله الحمد.
وفيها قتل أبو علي بن الافضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ الفاطمي، فنقل الحافظ الاموال التي كان أخذها إلى داره واستوزر بعده أبا الفتح، يانس الحافظي، ولقبه أمير الجيوش، ثم احتال فقتله واستوزر ولده حسنا وخطب له بولاية العهد.
وفيها عزل المسترشد وزيره علي بن طراد الزينبي واستوزر أنوشروان بن خالد بعد تمنع.
وفيها ملك دمشق شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين بعد وفاة أبيه، واستوزر يوسف بن فيروز، وكان خيرا، ملك بلادا كثيرة، وأطاعه إخوته.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن عبيد الله ابن محمد بن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن حمدان بن عمر بن عيسى بن إبراهيم بن غثنة بن يزيد السلمي، ويعرف بابن كادش العكبري، أبو العز البغدادي، سمع الحديث الكثير، وكان يفهمه ويرويه وهو آخر من روى عن الماوردي، وقد أثنى عليه غير واحد، منهم أبو محمد بن الخشاب، وكان محمد بن ناصر يتهمه ويرميه بأنه اعترف بوضع حديث فالله أعلم.
وقال عبد الوهاب الانماطي كان مخلطا، توفي في جمادى الاولى منها.
__________
(1) تم الصلح بينهما على أن يكون العراق لوكيل الخليفة، وتكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوقشاه ولي عهده.
وتحالفوا على ذلك.
محمد بن محمد بن الحسين ابن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، سمع أباه وغيره، وتفقه وناظر وأفتى ودرس، وكان له بيت فيه مال فعدي عليه من الليل فقتل وأخذ ماله، ثم أظهر الله عزوجل على قاتله فقتلوه.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة في صفر منها دخل السلطان مسعود إلى بغداد فخطب له بها وخلع عليه الخليفة وولاه السلطنة ونثر الدنانير والدراهم على الناس، وخلع على السلطان داود بن محمود.
وفيها جمع دبيس جمعا كثيرا بواسط، فأرسل إليه السلطان جيشا فكسروه وفرقوا شمله، ثم إن الخليفة عزم على الخروج إلى الموصل ليأخذها من زنكي، فعرض عليه زنكي من الاموال والتحف شيئا كثيرا ليرجع عنه فلم يقبل، ثم بلغه أن السلطان مسعود قد اصطلح مع دبيس وخلع عليه، فكر راجعا سريعا إلى بغداد سالما معظما.
وفيها مات ابن الزاغوني أحد أئمة الحنابلة، فطلب حلقته ابن الجوزي، وكان شابا، فحصلت لغيره، ولكن أذن له الوزير أنوشروان في الوعظ، فتكلم في هذه السنة على الناس في أماكن متعددة من بغداد، وكثرت مجالسه وازدحم عليه الناس.
وفيها ملك شمس الملوك إسماعيل صاحب
دمشق مدينة حماه، وكانت بيد زنكي.
وفي ذي الحجة نهب التركمان مدينة طرابلس وخرج إليهم القومص لعنه الله الفرنجي فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه، وحاصروه فيها مدة طويلة، حتى طال الحصار، فانصرفوا.
وفيها تولى قاسم بن أبي فليتة مكة بعد أبيه.
وفيها قتل شمس الملوك أخاه سونج، وفيها اشترى الباطنية قلعة حصن القدموس بالشام فسكنوها وحاربوا من جاورهم من المسلمين والفرنج.
وفيها اقتتلت الفرنج فيما بينهم قتالا شديدا فمحق الله بسبب ذلك خلقا كثيرا، وغزاهم فيها عماد الدين زنكي فقتل منهم ألف قتيل، وغنم أموالا جزيلة، ويقال لها غزوة أسوار.
وحج بالناس فيها قطز الخادم وكذا في التي بعدها وقبلها.
وتوفي فيها من الاعيان..أحمد بن سلامة ابن عبد الله بن مخلد بن إبراهيم، أبو العباس بن الرطبي، تفقه على أبي إسحاق وابن الصباغ ببغداد، وبأصبهان على محمد بن ثابت الخجندي، ثم تولى الحكم ببغداد بالحريم والحسبة ببغداد، وكان يؤدب أولاد الخليفة، توفي في رجب منها ودفن عند أبي إسحاق.
أسعد بن أبي نصر بن أبي الفضل أبو الفضل الميهني مجد الدين أحد أئمة الشافعية، وصاحب الخلاف والمطروقة، وقد درس بالنظامية في سنة سبع عشرة وخمسمائة إلى سنة ثلاث وعشرين فعزل عنها، واستمر أصحابه هنالك وقد تقدم في سنة سبع عشرة أنه وليها، وأنه توفي في سنة ثلاث وعشرين.
وقال ابن خلكان: توفي سنة سبع وعشرين.
ابن الزاغوني الحنبلي علي بن عبد الله (1) بن نصر بن السري الزاغوني، الامام المشهور، قرأ القراءات وسمع الحديث واشتغل بالفقه والنحو واللغة، وله المصنفات الكثيرة في الاصول والفروع، وله يد في الوعظ، واجتمع الناس في جنازته، وكانت حافلة جدا.
الحسن بن محمد ابن إبراهيم البورباري (2)، من قراء أصبهان، سمع الحديث ورحل وخرج، وله تاريخ، وكان يكتب حسنا ويقرأ فصيحا، توفي بأصبهان في هذه السنة (3).
علي بن يعلى ابن عوض، أبو القاسم العلوي الهروي، سمع مسند أحمد من أبي الحصين، والترمذي من أبي عامر الازدي، وكان يعظ الناس بنيسابور، ثم قدم بغداد فوعظ بها، فحصل له القبول التام، وجمع أموالا وكتبا.
قال ابن الجوزي: وهو أول من سلكني في الوعظ، وتكلمت بين يديه وأنا صغير، وتكلمت عند انصرافه.
محمد بن أحمد (4) ابن يحيى أبو عبد الله العثماني الديباجي، وكان ببغداد يعرف بالمقدسي، كان أشعري
__________
(1) في تذكرة الحفاظ ص 1288 وشذرات الذهب 4 / 80: عبيد الله.
(2) كذا بالاصل، وفي المنتظم " التورتاني " وكلاهما تحريف والصواب اليونارتي كما في الوافي والعبر وتذكرة الحفاظ.
واليونارتي نسبة إلى يونارت: قرية على باب إصفهان.
(3) توفي في شوال وقد جاوز الستين، كما في الشذرات والعبر، وفي اللباب أنه توفي بأصبهان في حدود سنة 530 ه.
(4) في الوافي ذكرت وفاته في صفر سنة ست وعشرين ببغداد.
قال وهو من أهل نابلس وأصله من مكة ولد سنة 442 ببيروت (2 / 109).
الاعتقاد ووعظ الناس ببغداد، قال ابن الجوزي: سمعته ينشد في مجلسه قوله: دع دموعي يحق لي أن أنوحا * لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا أخلقت مهجتي أكف المعاصي * ونعاني المشيب نعيا فصيحا كلما قلت قد برا جرح قلبي * عاد قلبي من الذنوب جريحا إنما الفوز والنعيم لعبد * جاء في الحشر آمنا مستريحا
محمد بن محمد ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن خلف بن حازم بن أبي يعلى بن الفراء، الفقيه ابن الفقيه، ولد سنة سبع وخمسين وأربعمائة، سمع الحديث وكان من الفقهاء الزاهدين الاخيار، توفي في صفر منها.
أبو محمد عبد الجبار ابن أبي بكر محمد بن حمديس الازدي الصقلي الشاعر المشهور، أنشد له ابن خلكان أشعارا رائقة فمنها قوله (1): قم هاتها من كف ذات الوشاح * فقد نعى الليل بشير الصباح باكر إلى اللذات واركب لها * سوابق اللهو ذوات المراح من قبل أن نرشف شمس الضحا * ريق الغوادي من ثغور الاقاح ومن جملة معانيه النادرة: زادت على كحل الجفون تكحلا * وتسم (2) نصل السهم وهو قتول ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة فيها اصطلح الخليفة وزنكي.
وفيها فتح زنكي قلاعا كثيرة (3)، وقتل خلقا من الفرنج.
__________
(1) الابيات في ديوانه ص 89.
(2) في ديوانه ص 558 ووفيات الاعيان 3 / 214: ويسم.
(3) استولى على جميع قلاع الاكراد الحميدية منها قلعة العقر وقلعة شوش وغيرهما وقلاع الهكارية وكواشى.
(الكامل: 11 / 14 تاريخ أبي الفداء 3 / 8).
وفيها فتح شمس الملوك الشقيف تيروت (1)، ونهب بلاد الفرنج.
وفيها قدم سلجوق شاه بغداد فنزل بدار المملكة وأكرمه الخليفة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار، ثم قدم السلطان مسعود وأكثر أصحابه ركاب على الجمال لقلة الخيل.
وفيها تولى إمرة بني عقيل أولاد سليمان بن مهارش العقيلي، إكراما
لجدهم.
وفيها أعيد ابن طراد إلى الوزارة، وفيها خلع على إقبال المسترشدي خلع الملوك، ولقب ملك العرب سيف الدولة، ثم ركب في الخلع وحضر الديوان.
وفيها قوي أمر الملك طغرل وضعف أمر الملك مسعود.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن علي بن إبراهيم أبو الوفا الفيروز ابادي، أحد مشايخ الصوفية، يسكن رباط الزوزني، وكان كلامه يستحلى، وكان يحفظ من أخبار الصوفية وسيرهم وأشعارهم شيئا كثيرا.
أبو علي الفارقي الحسن بن إبراهيم بن مرهون أبو علي الفارقي، ولد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني صاحب المحاملي، ثم على الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ، وسمع الحديث وكان يكرر على المهذب والشامل، ثم ولي القضاء بواسط، وكان حسن السيرة جيد السريرة، ممتعا بعقله وحواسه، إلى أن توفي في محرم هذه السنة عن ست وسبعين (2) سنة.
عبد الله بن محمد ابن أحمد بن الحسن، أبو محمد بن أبي بكر الشاشي، سمع الحديث وتفقه على أبيه، وناظر وأفتى وكان فاضلا واعظا فصيحا مفوها، شكره ابن الجوزي في وعظه وحسن نظمه ونثره، ولفظه، توفي في المحرم وقد قارب الخمسين، ودفن عند أبيه.
__________
(1) كذا بالاصل وابن خلدون 5 / 201 وزاد: وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم.
وفي الكامل 10 / 11: تيرون.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 8: حصن الشقيف.
(2) كذا بالاصل والصواب: تسعين.
محمد بن أحمد
ابن علي بن أبي بكر العطان، ويعرف بابن الحلاج البغدادي، سمع الحديث وقرأ القراءات، وكان خيرا زاهدا عابدا، يتبرك بدعائه ويزار.
محمد بن عبد الواحد (1) الشافعي أبو رشيد، من أهل آمل طبرستان، ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وحج وأقام بمكة، وسمع من الحديث شيئا يسيرا، وكان زاهدا منقطعا عن الناس مشتغلا بنفسه، ركب مرة مع تجار في البحر فأوفوا على جزيرة.
فقال: دعوني في هذه أعبد الله تعالى، فمانعوه فأبى إلا المقام بها.
فتركوه وساروا فردتهم الريح إليه فقالوا: إنه لا يمكن المسير إلا بك، وإذا أردت المقام بها فارجع إليها، فسار معهم ثم رجع إليها فأقام بها مدة ثم ترحل عنها ثم رجع إلى بلده آمل فمات بها رحمه الله، ويقال إنه كان يقتات في تلك الجزيرة بأشياء موجودة فيها، وكان بها ثعبان يبتلع الانسان، وبها عين ماء يشرب منها ويتوضأ منها، وقبره مشهور بآمل يزار.
أم خليفة المسترشد توفيت ليلة الاثنين بعد العتمة تاسع عشر شوال منها والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة فيها كانت وفاة المسترشد وولاية الراشد، وكان سبب ذلك أنه كان بين السلطان مسعود وبين الخليفة واقع كبير، اقتضى الحال أن الخليفة أراد قطع الخطبة له من بغداد فاتفق موت أخيه طغرل بن محمد بن ملكشاه، فسار إلى البلاد فملكها، وقوي جأشه، ثم شرع يجمع العساكر ليأخذ بغداد من الخليفة، فلما علم الخليفة بذلك انزعج واستعد لذلك، وقفز جماعة من رؤس الامراء إلى الخليفة خوفا على أنفسهم من سطوة الملك محمود، وركب الخليفة من بغداد في جحافل كثيرة، فيهم القضاة ورؤس الدولة من جميع الاصناف، فمشوا بين يديه أول منزلة حتى وصل إلى السرادق، وبعث بين يديه مقدمة وأرسل الملك مسعود مقدمة عليهم دبيس بن صدقة بن منصور، فجرت خطوب كثيرة، وحاصل الامر أن الجيشين التقيا في عاشر رمضان يوم الاثنين فاقتتلوا قتالا شديدا، ولم يقتل من
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه باسم: محمد بن علي بن عبد الوهاب من اهل طبرستان.
الصفين سوى خمسة أنفس، ثم حمل الخليفة على جيش مسعود فهزمهم، ثم تراجعوا فحملوا على جيش الخليفة فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا الخليفة، ثم نهبت أموالهم وحواصلهم، من جملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار، وغير ذلك من الاثاث والخلع والآنية والقماش، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وطار الخبر في الاقاليم بذلك، وحين بلغ الخبر إلى بغداد انزعج الناس لذلك، وزلزلوا زلزالا شديدا، صورة ومعنى، وجاءت العامة إلى المنابر فكسروها وامتنعوا من حضور الجماعات، وخرج النساء في البلد حاسرات ينحن على الخليفة، وما جرى عليه من الاسر، وتأسى بأهل بغداد في ذلك خلق كثير من أهل البلاد، وتمت فتنة كبيرة وانتشرت في الاقاليم، واستمر الحال على ذلك شهر ذي القعدة والشناعة في الاقاليم منتشرة، فكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يحذره غب ذلك عاقبة ما وقع فيه من الامر العظيم، ويأمره أن يعيد الخليفة إلى مكانه ودار خلافته، فامتثل الملك مسعود ذلك وضرب للخليفة سرادق عظيم، ونصب له فيه قبة عظيمة وتحتها سرير هائل، وألبس السواد على عادته وأركبه بعض ما كان يركبه من مراكبه، وأمسك لجام الفرس ومشى في خدمته، والجيش كلهم مشاة حتى أجلس الخليفة على سريره، ووقف الملك مسعود فقبل الارض بين يديه وخلع الخليفة عليه، وجئ بدبيس مكتوفا وعن يمينه أميران، وعن يساره أميران، وسيف مسلول ونسعة بيضاء، فطرح بين يدي الخليفة ماذا يرسم تطبيبا لقلبه، فأقبل السلطان فشفع في دبيس وهو ملقى يقول العفو يا أمير المؤمنين، أنا أخطأت والعفو عند المقدرة.
فأمر الخليفة بإطلاقه وهو يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم.
فنهض قائما والتمس أن يقبل يد الخليفة فأذن له فقبلها، وأمرها على وجهه وصدره.
وسأل العفو عنه وعما كان منه، واستقر الامر على ذلك، وطار هذا الخبر في الآفاق وفرح الناس بذلك، فلما كان مستهل ذي الحجة جاءت الرسل من جهة الملك سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الاحسان إلى الخليفة، وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه، وأرسل مع الرسل جيشا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد، فصحب الجيش عشرة (1) من الباطنية، فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعا، ولم يلحق الناس منه إلا الرسوم، وقتلوا معه أصحابه منهم عبيد
الله بن سكينة، ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله، وقيل إنهم كانوا مجهزين لقتله فالله أعلم.
وطار هذا الخبر في الآفاق فاشتد حزن الناس على الخليفة المسترشد، وخرجت النساء في بغداد حاسرات عن وجوههن ينحن في الطرقات، قتل على باب مراغة في يوم الخميس (2) سابع عشر ذي الحجة (3) وحملت أعضاؤه إلى بغداد، وعمل عزاؤه ثلاثة أيام بعد ما بويع لولده الراشد، وقد
__________
(1) في الكامل 11 / 27: أربعة وعشرون رجلا.
وفي ابن خلدون 3 / 510: عشرون رجلا أو يريدون.
وفي الفخري ص 303: جماعة من الباطنية.
(2) في تاريخ أبي الفداء 3 / 10: يوم الاحد.
وفي الجوهر الثمين 1 / 202: يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة.
(3) في الكامل وتاريخ أبي الفداء وابن خلدون: ذي القعدة.
كان المسترشد، شجاعا مقداما بعيد الهمة فصيحا بليغا، عذب الكلام حسن الايراد، مليح الخط، كثير العبادة محببا إلى العامة والخاصة، وهو آخر خليفة رئي خطيبا، قتل وعمره خمس (1) وأربعون سنة، وثلاثة أشهر، وكانت مدة خلافته (2) سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين ويوما، وكانت أمه أم ولد من الاتراك، رحمه الله.
خلافة الراشد بالله أبي جعفر منصور بن المسترشد، كان أبوه قد أخذ له العهد ثم أراد أن يخلعه فلم يقدر على ذلك لانه لم يغدر.
فلما قتل أبوه بباب مراغة في يوم الخميس السابع عشر من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة، بايعه الناس والاعيان، وخطب له على المنابر ببغداد، وكان إذ ذاك كبيرا له أولاد، وكان أبيض جسيما حسن اللون، فلما كان يوم عرفة من هذه السنة جئ بالمسترشد وصلى عليه ببيت التوبة، وكثر الزحام، وخرج الناس لصلاة العيد من الغد وهم في حزن شديد على المسترشد، وقد ظهر الرفض قليلا في أول أيام الراشد.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد بن الحسين
ابن عمرو، أبو المظفر بن أبي بكر الشاشي، تفقه بأبيه واخترمته المنية بعد أخيه ولم يبلغ سن الرواية.
إسماعيل بن عبد الله ابن علي أبو القاسم الحاكم، تفقه بإمام الحرمين، وكان رفيق الغزالي يحترمه ويكرمه، وكان فقيها بارعا، وعابدا ورعا، توفي بطوس ودفن إلى جانب الغزالي.
__________
(1) في الكامل 11 / 28: ثلاث.
وفي دول الاسلام 2 / 50 عاش أربعا وأربعين سنة.
وفي فوات الوفيات 2 / 248 والعبر 4 / 77: وله خمس وأربعون سنة.
(2) في ابن خلدون 3 / 510: سبع عشرة سنة ونصف.
وفي فوات الوفيات 2 / 248: سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما.
وفي نهاية الارب 23 / 277: سبع عشرة سنة وسبعة أشهر ويوم واحد.
وفي دول الاسلام 2 / 50: سبع عشرة سنة وسبعة أشهر.
دبيس بن صدقة ابن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد، أبو الاعز الاسدي الامير من بيت الامرة وسادة الاعراب، كان شجاعا بطلا، فعل الافاعيل وتمرق في البلاد من خوفه من الخليفة، فلما قتل الخليفة عاش بعده أربعة وثلاثين يوما، ثم اتهم عند السلطان بأنه قد كاتب زنكي ينهاه عن القدوم إلى السلطان، ويحذره منه، ويأمره أن ينجو بنفسه، فبعث إليه السلطان غلاما أرمنيا فوجده منكسا رأسه يفكر في خيمته، فما كلمه حتى شهر سيفه فضربه به فأبان رأسه عن جثته، ويقال بل استدعاه السلطان فقتله صبرا بين يديه فالله أعلم.
طغرل السلطان بن السلطان محمد بن ملكشاه توفي بهمذان يوم الاربعاء ثالث المحرم منها (1).
علي بن محمد النروجاني كان عابدا زاهدا، حكى ابن الجوزي عنه أنه كان يقول بأن القدرة تتعلق بالمستحيلات، ثم
أنكر ذلك وعذره لعدم تعقله لما يقول، ولجهله.
الفضل أبو منصور أمير المؤمنين المسترشد، تقدم شئ من ترجمته والله أعلم (2).
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة فيها وقع بين الخليفة الراشد وبين السلطان مسعود بسبب أنه أرسل إلى الخليفة يطلب منه ما كان كتبه له والده المسترشد حين أسره (3)، التزم له بأربعمائة ألف دينار، فامتنع من ذلك وقال:
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه 3 / 8 قال: والاصح في ظني أن وفاته كانت في أول سنة ثمان وعشرين..(2) قال الفخري ص 303: واختلف الناس عند قتل المسترشد في سبب قتله ; فقال قوم: إن مسعودا لم يعلم بذلك ولا رضي به.
وقال قوم: بل مسعود هو الذي واطأ الباطنية على قتله وأمرهم بذلك، لانه خافه حيث قويت نفسه على جمع الجموع وجر الجيوش، ولم يمكنه قتله ظاهرا ثم قتله باطنا (انظر الجوهر الثمين 1 / 202).
(3) قال ابن خلدون في العبر 3 / 510: تقرر الصلح بينهما على أن يحمل مالا للسلطان ولا يجمع العساكر للحرب ولا فتنة ولا يخرج من داره.
ليس بيننا وبينكم إلا السيف، فوقع بينهما الخلف، فاستجاش السلطان بالعساكر، واستنهض الخليفة الامراء، وأرسل إلى عماد الدين زنكي فجاء والتف على الخليفة خلائق، وجاء في غضون ذلك السلطان داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فخطب له الخليفة ببغداد، وخلع عليه وبايعه على الملك، فتأكدت الوحشة بين السلطان والخليفة جدا، وبرز الخليفة إلى ظاهر بغداد ومشى الجيش بين يديه، كما كانوا يعاملون أباه، وذلك يوم الاربعاء سلخ شعبان، وخرج السلطان داود من جانب آخر، فلما بلغهم كثرة جيوش السلطان محمود حسن عماد الدين زنكي للخليفة أن يذهب معه إلى الموصل، واتفق دخول مسعود إلى بغداد، في غيبتهم يوم الاثنين رابع شوال، فاستحوذ على دار الخلافة بما فيها جميعه، ثم استخلص من نساء الخليفة وحظاياه الحلى والمصاغ والثياب التي للزينة، وغير ذلك، وجمع القضاة والفقهاء، وأبرز لهم خط الراشد أنه متى خرج من بغداد لقتال
السلطان فقد خلع نفسه من الخلافة، فأفتى من أفتى من الفقهاء بخلعه، فخلع في يوم الاثنين سادس عشر شهر ذي القعدة بحكم الحاكم وفتيا الفقهاء، وكانت خلافته إحدى عشر شهرا وإحدى عشر يوما، واستدعى السلطان بعمه المقتفي بن المستظهر فبويع بالخلافة عوضا عن ابن أخيه الراشد بالله.
خلافة المقتفي لامر الله أبي عبد الله بن المستظهر، وأمه صفراء تسمى نسيما، ويقال لها ست السادة، وله من العمر يومئذ أربعون سنة، بويع بالخلافة بعد خلع الراشد بيومين، وخطب له على المنابر يوم الجمعة لعشرين من ذي القعدة، ولقب بالمقتفي لانه يقال إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المنام وهو يقول له سيصل هذا الامر إليك فاقتف بي، فصار إليه بعد ستة أيام فلقب بذلك.
فائدة حسنة ينبغي التنبه لها ولي المقتفي والمسترشد الخلافة وكانا أخوين، وكذلك السفاح والمنصور، وكذلك الهادي والرشيد، ابنا المهدي، وكذلك الواثق والمتوكل ابنا المعتصم أخوان، وأما ثلاثة إخوة فالامين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد، والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد، والراضي والمقتفي والمطيع بنو المقتدر، وأما أربعة إخوة فلم يكن إلا في بني أمية وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان، ولما استقر المقتفي بالخلافة استمر الراشد ذاهبا إلى الموصل صحبة صاحبها عماد الدين زنكي، فدخلها في ذي الحجة من هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان..
محمد بن حمويه ابن محمد بن حمويه أبو عبد الله الجويني، روى الحديث وكان صدوقا مشهورا بالعلم والزهد، وله كرامات، دخل إلى بغداد فلما ودعهم بالخروج منها أنشدهم: لئن كان لي من بعد عود إليكم * نصيب لبانات الفؤاد إليكم
وإن تكن الاخرى وفي الغيب غيره * قضاه وإلا فالسلام عليكم محمد بن عبد الله ابن أحمد بن حبيب، أبو بكر العامري، المعروف بابن الخباز (1)، سمع الحديث وكان يعظ الناس على طريق التصوف، وكان ابن الجوزي فيمن تأدب به، وقد أثنى عليه وأنشد عنه من شعره: كيف احتيالي وهذا في الهوى حالي * والشوق أملك لي من عذل عذالي وكيف أشكو (2) وفي حبي له شغل * يحول بين مهماتي وأشغالي وكانت له معرفة بالفقه والحديث، وقد شرح كتاب الشهاب، وقد ابتنى رباطا، وكان عنده فيه جماعة من المتعبدين والزهاد، ولما احتضر أوصاهم بتقوى الله عزوجل والاخلاص لله والدين، فلما فرغ شرع في النزع وعرق جبينه فمد يده وقال بيتا لغيره: ها قد بسطت (3) يدي إليك فردها * بالفضل لا بشماتة الاعداء ثم قال: أرى المشايخ بين أيديهم الاطباق وهم ينتظرونني، ثم مات، وذلك ليلة الاربعاء نصف رمضان ودفن برباطه، ثم غرق رباطه وقبره في سنة أربعين وخمسمائة.
محمد بن الفضل ابن أحمد بن محمد بن أبي العباس أبو عبد الله الصاعدي الفراوي، كان أبوه من ثغر فراوة (4)، وسكن نيسابور، فولد له بها محمد هذا، وقد سمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ بالآفاق.
__________
(1) في الوافي 3 / 349: ابن الخبازة.
(2) في الوافي: أسلو.
(3) في الوافي والكامل 11 / 46: مددت.
(4) فراوة: بلد قرب خوارزم.
وتفقه وأفتى وناظر ووعظ، وكان ظريفا حسن الوجه جميل المعاشرة كثير التبسم، وأملى أكثر من ألف
مجلس، ورحل إليه الطلبة من الآفاق حتى يقال للفراوي ألف راوي، وقيل إن ذلك كان مكتوبا في خاتمه، وقد أسمع صحيح مسلم قريبا من عشرين مرة، توفي في شوال منها عن تسعين سنة.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فيها كثر موت الفجأة بأصبهان فمات ألوف من الناس، وأغلقت دور كثيرة.
وفيها تزوج الخليفة بالخاتون فاطمة بنت محمد بن ملكشاه على صداق مائة ألف دينار، فحضر أخوها السلطان مسعود العقد وجماعة من أعيان الدولة والوزراء والامراء، ونثر على الناس أنواع النثار.
وفيها صام أهل بغداد رمضان ثلاثين يوما ولم يروا الهلال ليلة إحدى وثلاثين، مع كون السماء كان مصحية.
قال ابن الجوزي: وهذا شئ لم يقع مثله.
وفيها هرب وزير صاحب مصر وهو تاج الدولة بهرام النصراني، وقد كان تمكن في البلاد وأساء السيرة، فتطلبه الخليفة الحافظ حتى أخذه فسجنه ثم أطلقه فترهب وترك العمل، فاستوزر بعده رضوان بن الريحيني ولقبه الملك الافضل، ولم يلقب وزير قبله بهذا، ثم وقع بينه وبين الخليفة الحافظ، فلم يزل به الخليفة حتى قتله واستقل بتدبير أموره وحده.
وفيها ملك عماد الدين زنكي عدة بلدان (1).
وفيها طلع بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا، ثم ظهر بعده سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، ثم جاءت ريح عاصف ألقت أشجارا كثيرة، ثم وقع مطر شديد، وسقط برد كبار.
وفيها قصد ملك الروم بلاد الشام فأخذ بلادا كثيرة من أيدي الفرنج، وأطاعه ابن ال ؟ ون ملك الارمن.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد بن محمد بن ثابت ابن الحسن أبو سعد (2) الخجندي، تفقه على والده الامام أبي بكر الخجندي الاصبهاني، وولي تدريس النظامية ببغداد مرارا، ويعزل عنها، وقد سمع الحديث ووعظ، وتوفي في شعبان منها، وقد قار ؟ التسعين.
هبة الله بن أحمد ابن عمر الحريري، يعرف بابن الطير، سمع الكثير وهو آخر من روى عن أبي الحسن ابن
__________
(1) منها: حمص، وقلعة بعرين وهي تقارب حماة، وبقاع بعلبك (حصن المجدل) وبانياس وسليمة (الكامل 11 / 51 - 52 تاريخ أبي الفداء 3 / 12).
(2) في الكامل 11 / 54: أبو سعيد.
زوج الحرة، وقد حدث عنه الخطيب، وكان ثبتا كثير السماع، كثير الذكر والتلاوة، ممتعا بحواسه وقواه، إلى أن توفي في جمادى الاولى عن ست وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة فيها قتل الخليفة الراشد المخلوع، وذلك أنه اجتمع معه الملك داود وجماعة من كبار الامراء، فقصدوا قتال مسعود بأرض مراغة فهزمهم وبدد شملهم، وقتل منهم خلقا صبرا، منهم صدقة بن دبيس، وولى أخاه محمدا مكانه على الحلة، وهرب الخليفة الراشد المخلوع، فدخل أصبهان فقتله رجل ممن كان يخدمه من الخراسانية، وكان قد برأ من وجع أصابه، فقتلوه في الخامس والعشرين من رمضان، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان.
وقد كان حسن اللون مليح الوجه شديد القوة مهيبا، أمه أم ولد.
وفيها كسى الكعبة رجل من التجار يقال له راست (1) الفارسي، بثمانية عشر ألف دينار، وذلك لانه لم تأتها كسوة في هذا العام لاجل اختلاف الملوك.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببلاد الشام والجزيرة والعراق، فانهدم شئ كثير من البيوت، وماتت تحت الهدم خلق كثير.
وفيها أخذ الملك عماد الدين زنكي مدينة حمص في المحرم، وتزوج في رمضان بالست زمرد خاتون، أم صاحب دمشق، وهي التي تنسب إليها الخاتونية البرانية.
وفيها ملك صاحب الروم مدينة بزاعة، وهي على ستة فراسخ من حلب، فجاء أهلها الذين نجوا من القتل والسبي يستغيثون بالمسلمين ببغداد، فمنعت الخطبة ببغداد، وجرت فتن طويلة.
وفيها تزوج السلطان مسعود بسفري بنت دبيس بن صدقة وزينت بغداد لذلك سبعة أيام.
قال ابن الجوزي: فحصل بسبب ذلك فساد عريض طويل منتشر، ثم تزوج ابنة عمه فزينت بغداد ثلاثة أيام أيضا.
وفيها ولد للسلطان الناصر صلاح يوسف بن أيوب بن شاري بقلعة تكريت.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد أبو بكر بن أبي الفتح الدينوري الحنبلي، سمع الحديث وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وأفتى ودرس وناظر، كان أسعد الميهني يقول عنه: ما اعترض أبو بكر الدينوري على دليل أحد إلا ثلمه، وقد تخرج به ابن الجوزي، وأنشد: تمنيت أن يمسي فقيها مناظرا * بغير عياء والجنون فنون وليس اكتساب المال دون مشقة * تلقيتها، فالعلم كيف يكون ؟
__________
(1) في الكامل 11 / 65: رامشت.
عبد المنعم بن عبد الكريم ابن هوازن، أبو المظفر القشيري، آخر من بقي منهم، سمع أباه وأبا بكر البيهقي وغيرهما، وسمع منه عبد الوهاب الانماطي، وأجاز ابن الجوزي، وقارب التسعين.
محمد بن عبد الملك ابن محمد بن عمر، أبو الحسن الكرخي (1)، سمع الكثير في بلاد شتى، وكان فقيها مفتيا، تفقه بأبي إسحاق وغيره من الشافعية، وكان شاعرا فصيحا، وله مصنفات كثيرة منها الفصول في أعتقاد الائمة الفحول، يذكر فيه مذاهب السلف في باب الاعتقاد، ويحكي فيه أشياء غريبة حسنة، وله تفسير وكتاب في الفقه، وكان لا يقنت في الفجر، ويقول: لم يصح ذلك في حديث، وقد كان إمامنا الشافعي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط.
وقد كان حسن الصورة جميل المعاشرة، ومن شعره قوله: تناءت داره عني ولكن * خيال جماله في القلب ساكن إذا امتلا الفؤاد به فماذا * يضر إذا خلت منه الاماكن توفي وقد قارب التسعين (2).
الخليفة الراشد منصور بن المسترشد، قتل بأصبهان بعد مرض أصابه، فقيل إنه سم، وقيل قتلته الباطنية، وقيل قتله الفراشون الذين كانوا يلون أمره فالله أعلم.
وقد حكى ابن الجوزي عن أبي بكر الصولي أنه قال: الناس يقولون كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الاسلام لا بد أن يخلع (3).
قال ابن الجوزي: فتأملت ذلك فرأيته عجبا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن فخلعه معاوية ثم يزيد ومعاوية بن يزيد ومروان وعبد الملك، ثم عبد الله بن الزبير فخلع وقتل (4)، ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ثم الوليد بن يزيد فخلع
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 4 / 1277 الكرجي وضبطها في شذارت الذهب 4 / 100 الكرجي بكاف وراء مفتوحتين وبالجيم.
(2) في الكامل 11 / 66: مولده سنة 458 ه فيكون عمره عند وفاته 74 سنة (انظر شذرات الذهب).
(3) زيد في رواية ابن الاثير عن الصولي: وربما قتل.
(4) قال ابن الاثير: وفي هذا - أي في قول الصولي - نظر لان البيعة لابن الزبير كانت قبل البيعة لعبد الملك وكونه جعله بعده لا وجه له.
والصولي إنما ذكر إلى أيام المقتدر بالله ومن بعده ذكره غيره.
(11 / 63).
وقتل، ولم ينتظم لبني أمية بعده أمر حتى قام السفاح العباسي ثم أخوه المنصور ثم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم الامين فخلع وقتل، ثم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر ثم المستعين فخلع ثم قتل، ثم المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ثم المقتدر فخلع ثم أعيد فقتل، ثم القاهر والراضي والمتقي والمكتفي والمطيع ثم الطائع فخلع، ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد ثم الراشد فخلع وقتل.
أنو شروان بن خالد (1) ابن محمد القاشاني القيني، من قرية قين من قاشان، الوزير أبو نصر، وزر للسلطان محمود وللخليفة المسترشد، وكان عاقلا مهيبا عظيم الخلقة، وهو الذي ألزم أبا محمد الحريري بتكميل
المقامات، وكان سبب ذلك أن أبا محمد كان جالسا في مسجد بني حرام في محلة من محال البصرة، فدخل عليه شيخ ذو طمرين فقالوا: من أنت ؟ قال أنا رجل من سروج، يقال لي: أبو زيد.
فعمل الحريري المقامة الحرامية واشتهرت في الناس، فلما طالعها الوزير أنوشروان أعجب بها وكلف أبا محمد الحريري أن يزيد عليها غيرها فزاد عليها غيرها إلى تمام خمسين مقامة، فهي هذه المشهورة المتداولة بين الناس، وقد كان الوزير أنوشروان كريما، وقد مدحه الحريري صاحب المقامات: ألا ليت شعري والتمني لعله * وإن كان فيه راحة لاخي الكرب أتدرون أني مذ تناءت دياركم * وشط اقترابي من جنابكم الرحب أكابد شوقا ما أزال أداره * يقلبني في الليل جنبا على جنب وأذكر أيام التلاقي فأنثني * لتذكارها بادي الاسى طائر اللب ولي حنة في كل وقت إليكم * ولا حنة الصادي إلى البارد العذب فو الله لو أني كتمت هواكم * لما كان مكتوما بشرق ولا غرب ومما شجا قلبي المعنى وشفه * رضاكم بإهمال الاجابة عن كتبي وقد كنت لا أخشى مع الذنب جفوة * فقد صرت أخشاها وما لي من ذنب ولما سرى الوفد العراقي نحوكم * وأعوزني المسرى إليكم مع الركب جعلت كتابي نائبا عن ضرورتي * ومن لم يجد ماء تيمم بالترب ويعضد أيضا بضعة من جوارحي * تنبيكم عن سر حالي وتستنبي ولست أرى أذكاركم بعد خيركم * بمكرمة، حسبي اعتذاركم حسبي
__________
(1) ذكرت وفاته سنة 533 ه (انظر الكامل 11 / 70 الوافي ترجمة 4363).
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة فيها كانت زلزلة عظيمة بمدينة جبرت فمات بسببها مائتا ألف وثلاثون ألفا، وصار مكانها ماء أسود عشرة فراسخ في مثلها، وزلزل أهل حلب في ليلة واحدة ثمانين مرة.
وفيها وضع السلطان
محمود مكوسا كثيرة عن الناس، وكثرت الادعية له.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فهزمه سنجر وقتل ولده في المعركة، فحزن عليه والده حزنا شديدا.
وفيها قتل صاحب دمشق شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغتكين، قتله ثلاثة من خواصه ليلا وهربوا من القلعة، فأدرك اثنان فصلبا وأفلت واحد.
وفيها عزل اليهود والنصارى عن المباشرات ثم أعيدوا قبل شهر وحج بالناس فيها قطز الخادم.
وفيها توفي من الاعيان..زاهر بن طاهر ابن محمد، أبو القاسم بن أبي عبد الرحمن بن أبي بكر السحامي (1) المحدث المكثر، الرحال الجوال، سمع الكثير وأملى بجامع نيسابور ألف مجلس، وتكلم فيه أبو سعد السمعاني، وقال: إنه كان يخل بالصلوات.
وقد رد ابن الجوزي على السمعاني بعذر المرض ويقال: إنه كان به مرض يكثر بسببه جمع الصلوات فالله أعلم، بلغ خمسا وثمانين سنة توفي بنيسابور في ربيع الآخر، ودفن بمقبرته.
يحيى بن يحيى بن علي ابن أفلح، أبو القاسم الكاتب، وقد خلع عليه المسترشد ولقبه جمال الملك، وأعطاه أربعة دور، وكانت له دار إلى جانبهن فهدمهن كلهن واتخذ مكانهن دارا هائلة، طولها ستون ذراعا في عرض أربعين ذراعا، وأطلق له الخليفة أخشابها وآجرها وطرازاتها، وكتب عليها أشعارا حسنة من نظمه ونظم غيره، فمن ذلك ما هو على باب دارها: إن أعجب الراؤن من ظاهري * فباطني لو علموا أعجب شد باني من كفه مزنة * يخجل منها العارض الصيب ورنحت روضة أخلاقه * في ديار نورها مذهب صدر كسي صدري من نوره * شمسا على الايام لا تغرب
__________
(1) في الكامل وشذرات الذهب: الشحامي.
قال ابن الاثير في تاريخه: وكان مولده سنة 446 ه فيكون له عند
وفاته 87 سنة.
وعلى الطرز مكتوب: ومن المروءة للفتى * ما عاش دار فاخره فاقنع من الدنيا بها * واعمل لدار الآخرة هاتيك وافيت بما * وعدت وهاتي باتره وفي موضع آخر مكتوب: وناد كأن الجنان الخ * لد أعارته من حسنها رونقا وأعطته من حادثات الزما * ن أن لا يلم به موبقا فأضحى ينبئه على كل ما * بنى مغربا كان أو مشرقا ؟ ؟ ظل الوفود به عكفا * ويمسي الضيوف به طرقا بقيت له يا جمال الملو * ك وذا الفضل مهما أردت البقا وسالمه فيك ريب الزما * ن ووقيت فيه الذي يتقى فما والله صدقت هذه الاماني، بل عما قريب اتهمه الخليفة بأنه يكاتب دبيسا فأمر بخراب داره تلك فلم يبق فيها جدار، بل صارت خربة بعد ما كانت قرة العيون من أحسن المقام والقرار، وهذه حكمة الله من تقلب الليل والنهار، وما تجري بمشيئة الاقدار، وهي حكمته في كل دار بنيت بالاشر والبطر، وفي كل لباس لبس على التيه والكبر والاشر.
وقد أورد له ابن الجوزي أشعارا حسنة من نظمه، وكلمات من نثره فمن ذلك قوله: دع الهوى لا ناس يعرفون به * قد مارسوا الحب حتى أصعبه أدخلت نفسك فيما لست تجربه * والشئ صعب على من لا يجربه أمن اصطبار وإن لم تستطع خلدا * فرب مدرك أمر عز مطلبه أحن الضلوع على قلب يخيرني * في كل يوم يعييني تقلبه
تأرج الريح من نجد يهيجه * ولامع البرق من نغمات يطربه وقوله: هذه الخيف وهاتيك مني * فترفق أيها الحادي بنا واحبس الركب علينا ساعة * نندب الدار ونبكي الدنا فلذا الموقف أعددت البكا * ولذا اليوم الدموع تقتني زماننا كان وكنا جيرة * فأعاد الله ذاك الزمنا بيننا يوم ائتلاف نلتقي * كان من غير تراض بيننا
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة فها حاصر زنكي دمشق فحصنها الاتابك معين الدين بن مملوك طغتكين، فاتفق موت ملكها جمال الدين محمود بن بوري بن طغتكين، فأرسل معين الدين إلى أخيه مجير الدين أتق، وهو ببعلبك فملكه دمشق، فذهب زنكي إلى بعلبك فأخذها واستناب عليها نجم الدين أيوب صلاح الدين.
وفيها دخل الخليفة على الخاتون فاطمة بنت السلطان مسعود، وأغلقت بغداد أياما.
وفيها نودي للصلاة على رجل صالح فاجتمع الناس بمدرسة الشيخ عبد القادر فاتفق أن الرجل عطس فأفاق، وحضرت جنازة رجل آخر غيره فصلى عليه ذلك الجمع الكثير.
وفيها نقصت المياه من سائر الدينا وفيها ولد صاحب حماه تقي الدين عمر شاهنشاه بن أيوب بن شاري.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن جعفر ابن الفرج أبو العباس الحربي، أحد العباد الزهاد، سمع الحديث وكانت له أحوال صالحة، حتى كان يقال: إنه كان يرى في بعض السنين بعرفات، ولم يحج في تلك السنة.
عبد السلام بن الفضل أبو القاسم الجيلي، سمع الحديث وتفقه على الكيا الهراسي، وبرع في الاصول والفروع،
وغير ذلك، وولي قضاء البصرة وكان من خيار القضاة.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة فيها وصلت البردة والقضيب إلى بغداد، وكانا مع المسترشد حين هرب سنة تسع وعشرين، وخمسمائة فحفظهما السلطان سنجر عنده حتى ردهما في هذه السنة.
وفيها كملت المدرسة الكمالية المنسوبة إلى كمال الدين، أبي الفتوح حمزة بن طلحة، صاحب المخزن، ودرس فيها الشيخ أبو الحسن الحلي (1)، وحضر عنده الاعيان.
وممن توفي فيها من الاعيان.
__________
(1) في الكامل 11 / 80: الخل.
إسماعيل بن محمد ابن علي، أبو القاسم الطلحي الاصبهاني، سمع الكثير، ورحل وكتب وأملى بأصبهان، قريبا من ثلاثة آلاف مجلس، وكان إماما في الحديث والفقه والتفسير واللغة، حافظا متقنا، توفي ليلة عيد الاضحى وقد قارب الثمانين، ولما أراد الغاسل تنحية الخرقة عن فرجه ردها بيده، وقيل: إنه وضع يده على فرجه.
محمد بن عبد الباقي ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت بن وهب بن مسجعة بن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك الانصاري، سمع الحديث وتفرد عن جماعة من المشايخ، وأملى الحديث في جامع القصر، وكان مشاركا في علوم كثيرة، وقد أسر في صغره في أيدي الروم فأرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلم منهم خط الروم، وكان يقول من خدم المحابر خدمته المنابر، ومن شعره الذي أورده له ابن الجوزي عنه وسمعه منه قوله: احفظ لسانك لا تبح بثلاثة * سن ومال، إن سئلت، ومذهب فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة * بمكفر وبحاسد ومكذب
وقوله: لي مدة لا بد أبلغها * فإذا انقضت في وقتها مت لو عاندتني الاسد ضارية * ما ضرني ما لم يجي الوقت قال ابن الجوزي: بلغ من العمر ثلاثا وتسعين سنة، لم تتغير حواسه ولا عقله، توفي ثاني رجب منها.
وحضر جنازته الاعيان وغيرهم، ودفن قريبا من قبر بشر.
يوسف بن أيوب ابن الحسن بن زهرة، أبو يعقوب الهمذاني، تفقه بالشيخ أبي إسحاق، وبرع في الفقه والمناظرة ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة، وضحب الصالحين، وأقام بالجبال (1)، ثم عاد إلى بغداد فوعظ بها، وحصل له قبول.
توفي في ربيع الاول ببعض قرى هراة.
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه: وهو من أهل بروجرد، وسكن مرو، ووعظ ببغداد (11 / 80) قال في العبر: توفي في ربيع الاول عن أربع وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة فيها كانت حروب كثيرة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فاستحوذ خوارزم على مرو بعد هزيمة سنجر ففتك بها، وأساء التدبير بالنسبة إلى الفقهاء الحنفية الذين بها، وكان جيش خوارزم ثلاثمائة ألف مقاتل.
وفيها تحمل عمل دمشق النهروز، وخلع نهروز شحنة بغداد على حباب صباغ الحرير الرومي، وركب هو والسلطان مسعود في سفينة في ذلك النهر، وفرح السلطان بذلك، وكان قد صرف السلطان على ذلك النهر سبعين ألف دينار.
وفيها حج كمال الدين طلحة صاحب المخزن، وعاد فتزهد وترك العمل ولزم داره.
وفيها عقدت الجمعة بمسجد العباسيين بإذن الخليفة.
وحج بالناس قطز.
وممن توفي فيها من الاعيان..إسماعيل بن أحمد بن عمر
ابن [ أبي ] (1) الاشعث، أبو القاسم بن أبي بكر السمرقندي الدمشقي ثم البغدادي، سمع الكثير وتفرد بمشايخ، وكان سماعه صحيحا، وأملى بجامع المنصور كثيرة نحو ثلاثمائة مجلس، توفي وقد جاوز الثمانين.
يحيى بن علي ابن محمد بن علي، أبو محمد بن الطراح المدبر، ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان شيخا حسنا مهيبا كثير العبادة، توفي في رمضان منها.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فيها ملك عماد الدين زنكي الحديثة، ونقل آل مهارش منها إلى الموصل، ورتب فيها نوابا من جهته.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيها تجهز السلطان مسعود ليأخذ الموصل والشام من زنكي، فصالحه على مائة ألف دينار،
__________
(1) من الكامل 11 / 90 والوافي 9 / 88.
فدفع إليه منها عشرين ألف دينار، وأطلق له الباقي، وسبب ذلك أن ابنه سيف الدين غازي كان لا يزال في خدمة السلطان مسعود.
وفيها ملك زنكي بعض بلاد بكر.
وفيها حصر الملك سنجر خوارزم شاه، ثم أخذ منه مالا وأطلقه.
وفيها وجد رجل يفسق بصبي فألقي من رأس منارة، وفي ليلة الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي القعدة زلزلت الارض.
وحج بالناس قطز.
وممن توفي فيها من الاعيان..عبد الوهاب بن المبارك ابن أحمد، أبو البركات الانماطي، الحافظ الكبير، كان ثقة دينا ورعا، طليق الوجه، سهل الاخلاق، توفي في المحرم عن ست وتسعين (1) سنة.
علي بن طراد
ابن محمد الزينبي، الوزير العباسي، أبو القاسم نقيب النقباء على الطائفتين، في أيام المستظهر، ووزر للمسترشد، وتوفي في رمضان عن ست وسبعين سنة.
الزمخشري محمود ابن عمر بن محمد بن عمر، أبو القاسم الزمخشري، صاحب الكشاف في التفسير، والمفصل في النحو وغير ذلك من المصنفات المفيدة، وقد سمع الحديث وطاف البلاد، وجاور بمكة مدة، وكان يظهر مذهب الاعتزال ويصرح بذلك في تفسيره، ويناظر عليه، وكانت وفاته بخوارزم ليلة عرفة منها، عن ست (2) وسبعين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فيها أخذ العماد زنكي الرها وغيرها من حصون الجزيرة من أيدي الفرنج، وقتل منهم خلقا كثيرا وسبى نساء كثيرة، وغنم أموالا جزيلة، وأزال عن المسلمين كربا شديدا.
وحج بالناس قطز الخادم وتنافس هو وأمير مكة فنهب الحجيج وهم يطوفون.
__________
(1) كذا بالاصول، وفي الكامل 11 / 96 وتذكرة الحافظ ص 1282: كان مولده سنة 462 ه.
فعلى هذا يكون عمره عند وفاته 76 سنة.
(2) قال أبو الفداء في تاريخه: ولد في رجب سنة 467 ; فيكون عمره 71 سنة وقاله في شذرات الذهب 4 / 118.
وفيها توفي من الاعيان..إبراهيم بن محمد بن منصور ابن عمر أبو الوليد الكرخي، تفقه بأبي إسحاق وأبي سعد المتولي، حتى صار أوحد زمانه فقها ؟ ؟ حا، مات في هذه السنة.
سعد (1) بن محمد ابن عمر أبو منصور البزار (2)، سمع الحديث وتفقه بالغزالي والشاشي (3) والمتولي والكيا، وولي تدريس النظامية، وكان له سمت حسن، ووقار وسكون، وكان يوم جنازته مشهودا، ودفن
عند أبي إسحاق.
عمر بن إبراهيم ابن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي العلوي، أبو البركات الكوفي، ثم البغدادي، سمع الكثير وكتب كثيرا، وأقام بدمشق مدة، وكان له معرفة جيدة بالفقه والحديث والتفسير واللغة والادب، وله تصانيف في النحو، وكان خشن العيش، صابرا محتسبا، توفي في شعبان من هذه السنة عن سبع وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة فيها حصر علي بن دبيس أخاه محمدا ولم يزل يحاصره حتى اقتلع من يده الحلة وملكها، وفي رجب منها دخل السلطان مسعود بغداد خوفا من اجتماع عباس صاحب الري، ومحمد شاه بن محمود، ثم خرج منها في رمضان، وحج بالناس أرجوان (4) مملوك أمير الجيوش بسبب ماكان وقع بين قطز وأمير مكة في السنة الماضية.
__________
(1) في الكامل 11 / 103 والمنتظم 10 / 113 والعبر 4 / 107: سعيد.
(2) في المراجع السابقة: الرزاز.
(3) في الكامل: الشامي.
(4) في الكامل: قايماز الارجواني.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد ابن الحسين بن علي بن أحمد بن سليمان، أبو سعد الاصبهاني، ثم البغدادي، سمع الحديث وكان على طريقة السلف، حلو الشمائل، مطرح الكلفة، ربما خرج إلى السوق بقميص وقلنسوة.
وحج أحد عشر حجة، وكان يملي الحديث ويكثر الصوم، توفي بنهاوند في ربيع الاول من هذه
السنة، وقد قارب الثمانين.
علي بن أحمد ابن الحسين بن أحمد، أبو الحسن اليزدي، تفقه بأبي بكر الشاشي، وسمع الحديث وأسمعه، وكان له ولاخيه قميص واحد، إذا خرج هذا لبسه وجلس الآخر في البيت عريانا، وكذا الآخر.
موهوب بن أحمد ابن محمد بن الخضر، أبو منصور الجواليقي، شيخ اللغة في زمانه، باشر مشيخة اللغة بالنظامية بعد شيخه أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالمقتفي، وربما قرأ الخليفة عليه شيئا من الكتب، وكان عاقلا متواضعا في ملبسه، طويل الصمت كثير الفكر، وكانت له حلقة بجامع القصر أيام الجمع، وكان فيه لكنة، وكان يجلس إلى جانبه المغربي معبر المنامات، وكان فاضلا لكنه كان كثير النعاس في مجلسه، فقال فيهما بعض الادباء: بغداد عندي ذنبها لن يغفرا * وعيوبها مكشوفة لن تسترا كون الجواليقي فيها ممليا * لغة وكون المغربي معبرا ما سور لكنته يقول فصاحة * وليوم يقظته يعبر في الكرا ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة في ليلة مستهل ربيع الاول منها احترق القصر الذي بناه المسترشد، وكان في غاية الحسن، وكان الخليفة المقتفي قد انتقل بجواريه وحظاياه إليه ليقيم فيه ثلاثة أيام، فما هو إلا أن ناموا احترق عليهم القصر بسبب أن جارية أخذت في يدها شمعة فعلق لهبها ببعض الاخشاب، فاحترق القصر
وسلم الله والخليفة وأهله، فأصبح فتصدق بأشياء كثيرة، وأطلق خلقا من المحبسين.
وفي رجب منها وقع بين الخليفة والسلطان مسعود واقع فبعث الخليفة إلى الجوامع والمساجد فأغلقت ثلاثة أيام، حتى اصطلحا.
وفي يوم الجمعة نصف ذي القعدة جلس ابن العبادي الواعظ فتكلم والسلطان مسعود
حاضر، وكان قد وضع على الناس في البيع مكسا فاحشا، فقال في جملة وعظه: يا سلطان العالم، أنت تطلق في بعض الاحيان للمغني إذا طربت قريبا مما وضعت على المسلمين من هذه المكس، فهبني مغنيا وقد طربت فهب لي هذا المكس شكرا لنعم الله عليك.
فأشار السلطان بيده أن قد فعلت، فضج الناس بالدعاء له، وكتب بذلك سجلات، ونودي في البلد بإسقاط ذلك المكس، ففرح الناس بذلك ولله الحمد والمنة.
وفيها قل المطر جدا، وقلت مياه الانهار، وانتشر جراد عظيم، وأصاب الناس داء في حلوقهم، فمات بذلك خلائق كثيرة فإنا الله وإنا إليه راجعون.
وفيها قتل الملك عماد الدين زنكي بن قيم الدولة التركي صاحب الموصل، وحلب وغيرها من البلاد الشامية والجزيرة، وكان محاصرا قلعة جعبر، وفيها شهاب الدين سالم بن ملك العقيلي، فبرطل بعض مماليك زنكي حتى قتلوه في الليلة الخامسة من ربيع الاول (1) من هذه السنة.
قال العماد الكاتب: كان سكرانا فالله أعلم.
وقد كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلا، وكان شجاعا مقداما حازما، خضعت له ملوك الاطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة، وقام بالامر من بعده بالموصل ولده سيف الدولة، وبحلب نور الدين محمود، فاستعاد نور الدين هذا مدينة الرها، وكان أبوه قد فتحها.
فلما مات عصوا فقهرهم نور الدين.
وفيها ملك عبد المؤمن صاحب المغرب وخادم ابن تومرت جزيرة الاندلس، بعد حروب طويلة.
وفيها ملكت الفرنج مدينة طرابلس الغرب، وفيها استعاد صاحب دمشق مدينة بعلبك.
وفيها جاء نجم الدين أيوب إلى صاحب دمشق فسلمه القلعة وأعطاه أمزبة عنده بدمشق.
وفيها قتل السلطان مسعود حاجبه عبد الرحمن بن طغرلبك (2) وقتل عباسا صاحب الري، وألقى رأسه إلى أصحابه فانزعج الناس ونهبوا خيام عباس هذا، وقد كان عباس من الشجعان المشهورين، قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر، فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مأذنة من رؤوسهم بمدينة الري.
وفيها مات نقيب النقباء ببغداد محمد بن طراد الزينبي، فتولى بعده علي بن طلحة الزينبي.
وفيها سقط جدار على ابنة الخليفة، وكانت قد بلغت مبالغ النساء، فماتت فحضر جنازتها الاعيان.
وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفي فيها من الاعيان..(1) في الكامل 11 / 110: ربيع الآخر.
(2) في الكامل 11 / 116: طغايرك ; وفي ابن خلدون: طغابرك.
زنكي بن آقسنقر تقدم ذكر شئ من ترجمته، وهو أبو نور الدين محمود الشهيد، وقد أطنب الشيخ أبو شامة في الروضتين في ترجمته، وما قيل فيه من نظم ونثر رحمه الله.
سعد الخير محمد بن سهل بن سعد، أبو الحسن المغربي الاندلسي الانصاري، رحل وحصل كتبا نفيسة، وروى عنه ابن الجوزي وغيره، وقد أوصى عند وفاته أن يصلي عليه الغزنوي، وأن يدفن عند قبر عبد الله بن الامام أحمد، وحضر جنازته خلائق من الناس.
شافع بن عبد الرشيد ابن القاسم، أبو عبد الله الجيلي الشافعي، تفقه على الكيا وعلى الغزالي، وكان يسكن الكرخ، وله حلقة بجامع المنصور في الرواق.
قال ابن الجوزي وكنت أحضر حلقته.
عبد الله بن علي ابن أحمد بن عبد الله، أبو محمد سبط أبي منصور الزاهد، قرأ القراءات وصنف فيها، وسمع الحديث الكثير، واقتنى الكتب الحسنة، وأم في مسجده نيفا وخمسين سنة، وعلم خلقا القرآن.
قال ابن الجوزي: ما سمعت أحد أحسن قراءة منه، وحضر جنازته خلق كثير.
عباس شحنة الري توصل إلى أن ملكها ثم قتله مسعود، وقد كان كثير الصدقات والاحسان إلى الرعية، وقتل من الباطنية خلقا حتى بنى من رؤوسهم منارة بالري، وتأسف الناس عليه.
محمد بن طراد
ابن محمد الزينبي، أبو الحسن نقيب النقباء، وهو أخو علي بن طراد الوزير، سمع الكثير من أبيه ومن عمه أبي نصر وغيرهما، وقارب السبعين.
وجيه بن طاهر ابن محمد بن محمد، أبو بكر الشحامي، أخو زاهر، وقد سمع الكثير من الحديث، وكانت له معرفة به، وكان شيخا حسن الوجه، سريع الدمعة، كثير الذكر، جمع السماع إلى العمل إلى صدق اللهجة توفي ببغداد في هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة فيها ملكت الفرنج عدة حصون من جزيرة الاندلس (1).
وفيها ملك نور الدين بن محمود زنكي عدة حصون من يد الفرنج بالسواحل (2).
وفيها خطب للمستنجد بالله بولاية العهد من بعد أبيه المقتفي.
وفيها تولى عون بن يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر صدرية المخزن المعمورة.
وفيها اشتد الغلاء بإفريقية وهلك بسببه أكثر الناس حتى خلت المنازل، وأقفلت المعاقل.
وفيها تزوج سيف الدين غازي بنت صاحب ماردين حسام الدين تمرتاش بن أرتق، بعد أن حاصره فصالحه على ذلك، فحملت إليه إلى الموصل بعد سنتين، وهو مريض قد أشرف على الموت، فلم يدخل بها حتى مات، فتولى بعده على الموصل أخوه قطب بن مودود فتزوجها.
قال ابن الجوزي: وفي صفر رأى رجل في المنام قائلا يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له.
قال فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره.
قال ابن الجوزي: وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس.
وممن توفي فيها من الاعيان..أسعد بن عبد الله ابن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو منصور، سمع الحديث الكثير، وكان خيرا صالحا ممتعا بحواسه وقواه، إلى حين الوفاة.
وقد جاوز المائة بنحو من سبع
سنين.
أبو محمد عبد الله بن محمد ابن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي الاندلسي، الرباطي الحافظ، مصنف كتاب اقتياس
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه ومنها: مدينة المرية، ومدينة بياسة، وولاية جيان.
(2) ومنها: مدينة أرتاح وحصن مابولة وبصرفون وكفرلاثا (الكامل 11 / 122).
الانوار والتماس الازهار، في أنساب الصحابة، ورواة الآثار، وهو من أحسن التصانيف الكبار، قتل شهيدا صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى بالبرية.
نصر الله بن محمد ابن عبد القوي، أبو الفتح اللاذقي المصيصي الشافعي، تفقه بالشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي، بصور، وسمع بها منه ومن أبي بكر الخطيب، وسمع ببغداد والانبار، وكان أحد مشايخ الشام، فقيها في الاصول والفروع، توفي فيها وقد جاوز التسعين بأربع سنين.
هبة الله بن علي ابن محمد بن حمزة أبو السعادات ابن الشجري النحوي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وسمع الحديث وانتهت إليه رياسة النحاة.
قال سمعت بيتا في الذم أبلغ من قول مكوبه: وما أنا إلا المسك قد ضاع عندكم * يضيع وعند الاكثرين يضوع ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فيها استغاث مجير الدين بن أتابك دمشق بالملك نور الدين صاحب حلب على الفرنج، فركب سريعا فالتقى معهم بأرض بصرى فهزمهم، ورجع فنزل على الكسوة، وخرج ملك دمشق مجير الدين أرتق فخدمه واحترمه وشاهد الدماشقة حرمة نور الدين حتى تمنوه.
وفيها ملكت الفرنج المهدية وهرب منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن بليكين بأهله وخاف على أمواله فتمزقت في البلاد، وتمزق هو أيضا في البلاد، وأكلتهم الاقطار، وكان آخر ملوك بني باديس، وكان ابتداء ملكهم في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فدخل
الفرنج إليها وخزائنها مشحونة بالحواصل والاموال والعدد وغير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها حاصرت الفرنج وهم في سبعين ألف مقاتل، ومعهم ملك الالمان في خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، دمشق وعليها مجير الدين أرتق وأتابكه معين الدين، وهو مدبر المملكة، وذلك يوم السبت سادس ربيع الاول، فخرج إليهم أهلها في مائة ألف وثلاثين ألفا، فاقتتلوا معهم قتالا شديدا، قتل من المسلمين في أول يوم نحو من مائتي رجل، ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون، واستمر الحرب مدة، وأخرج مصحف عثمان إلى وسط صحن الجامع، واجتمع الناس حوله يدعون الله عزوجل، والنساء والاطفال مكشفي الرؤوس يدعون ويتباكون، والرماد مفروش في البلد، فاستغاث أرتق بنور الدين محمود صاحب حلب وبأخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل، فقصداه سريعا في نحو من
سبعين ألفا بمن انضاف إليهم من الملوك وغيرهم، فلما سمعت الفرنج بقدوم الجيش تحولوا عن البلد، فلحقهم الجيش فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتلوا قسيسا معهم اسمه إلياس، وهو الذي أغراهم بدمشق، وذلك أنه افترى مناما عن المسيح أنه وعده فتح دمشق، فقتل لعنه الله، وقد كادوا يأخذون البلد، ولكن الله سلم، وحماها بحوله وقوته.
قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) [ الحج: 40 ] ومدينة دمشق لا سبيل للاعداء من الكفرة عليها، لانها المحلة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أنها معقل الاسلام عند الملاحم والفتن، وبها ينزل عيسى بن مريم وقد قتل الفرنج خلقا كثيرا من أهل دمشق، وممن قتلوا الفقيه الكبير الملقب حجة الدين شيخ المالكية بها، أبو الحجاج يوسف بن درناس (1) الفندلاوي، بأرض النيرب (2)، ودفن بمقابر باب الصغير، وكان مجير الدين قد صالح الفرنج عن دمشق ببانياس، فرحلوا عنها وتسلموا بانياس.
وفيها وقع بين السلطان مسعود وأمرائه ففارقوه، وقصدوا بغداد فاقتتلوا مع العامة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا من الصغار والكبار، ثم اجتمعوا قبال التاج وقبلوا الارض واعتذروا إلى الخليفة مما وقع، وساروا نحو النهروان فتفرقوا في البلاد، ونهبوا أهلها، فغلت الاسعار بالعراق بسبب ذلك.
وفيها ولي قضاء القضاة ببغداد أبو
الحسن علي بن أحمد بن علي بن الدامغاني، بعد وفاة الزينبي.
وفيها ملك سولي بن الحسين ملك الثغور (3) مدينة غزنة، فذهب صاحبها بهرام شاه بن مسعود من أولاد سبكتكين إلى فرغانة فاستغاث بملكها، فجاء بجيوش عظيمة فاقتلع غزنة من سولي، وأخذه أسيرا فصلبه، وقد كان كريما جوادا، كثير الصدقات.
وممن توفي فيها من الاعيان..إبراهيم بن محمد ابن نهار (4) بن محرز الغنوي الرقي، سمع الحديث وتفقه بالشاشي والغزالي، وكتب شيئا كثيرا من مصنفاته، وقرأها عليه، وصحبه كثيرا، وكان مهيبا كثير الصمت، توفي في ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين.
__________
(1) في الكامل: دي ناس، وفي تذكرة الحفاظ: دوناس.
(2) النيرب على نحو نصف فرسخ من دمشق.
(3) في الكامل ومعجم البلدان: الغور.
قال ياقوت: جبال وولاية بين هراة وغزنة وهي بلاد باردة واسعة موحشة وهي مع ذلك لا تنطوي على مدينة مشهورة.
(4) في الكامل 11 / 137: نبهان انظر المنتظم 10 / 134 وطبقات السبكي 4 / 300 شذرات الذهب 4 / 135.
شاهان شاه بن أيوب ابن شادي، استشهد مع نور الدين، وهو والد الست عذار، واقفة العذارية، وتقي الدين عمر واقف التقوية.
علي بن الحسين ابن محمد بن علي الزينبي، أبو القاسم الاكمل بن أبي طالب نور الهدى بن أبي الحسن نظام الحضرتين ابن نقيب النقباء أبي القاسم بن القاضي أبي تمام العباسي، قاضي القضاة ببغداد وغيرها، سمع الحديث، وكان فقيها رئيسا، وقورا حسن الهيئة والسمت، قليل الكلام، سافر مع الخليفة
الراشد إلى الموصل، وجرت له فصول ثم عاد إلى بغداد فمات بها في هذه السنة، وقد جاوز الستين، وكانت جنازته حافلة.
أبو الحجاج يوسف بن درباس (1) الفندلاوي، شيخ المالكية بدمشق، قتل يوم السبت سادس ربيع الاول قريبا من الربوة في أرض النيرب، هو والشيخ عبد الرحمن الجلجولي، أحد الزهاد رحمهما الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة فيها كانت وفاة القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، قاضيها أحد مشايخ العلماء المالكية، وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة، منها الشفا، وشرح مسلم، ومشارق الانوار، وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان إماما في علوم كثيرة، كالفقه واللغة والحديث والادب، وأيام الناس، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، ومات يوم الجمعة في جمادى الآخرة، وقيل في رمضان من هذه السنة، بمدينة سبتة.
وفيها غزا الملك نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، فقتل منهم خلقا، وكان فيمن قتل البرنس صاحب إنطاكية، وفتح شيئا كثيرا من قلاعهم ولله الحمد.
وكان قد استنجد بمعين الدين بن أتابك دمشق، فأرسل إليه بفريق من جيشه صحبة الامير مجاهد الدين بن مروان بن مس، نائب صرخد فأبلوا بلاء حسنا، وقد قال الشعراء في هذه الغزوة أشعارا كثيرة، منهم ابن
__________
(1) انظر حاشية (1) ص 279.
القيسراني وغيره، وقد سردها أبو شامة في الروضتين.
وفي يوم الاربعاء ثالث (1) ربيع الآخر استوزر للخلافة أبو المظفر يحيى بن هبيرة، ولقب عون الدين، وخلع عليه.
وفي رجب قصد الملك شاه بن محمود بغداد ومعه خلق من الامراء، ومعه علي بن دبيس وجماعة من التركمان وغيرهم، وطلبوا من الخليفة أن يخطب له فامتنع من ذلك، وتكررت المكاتبات، وأرسل الخليفة إلى السلطان مسعود
يستحثه في القدوم، فتمادى عليه وضاق النطاق، واتسع الخرق على الراقع، وكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يتوعده إن لم يسرع إلى الخليفة، فما جاء إلا في أواخر السنة، فانقشعت تلك الشرور كلها، وتبدلت سرورا أجمعها.
وفي هذه السنة زلزلت الارض زلزالا شديدا، وتموجت الارض عشر مرات، وتقطع جبل بحلوان، وانهدم الرباط النهر جوري، وهلك خلق كثير بالبرسام، لا يتكلم المرضى به حتى يموتوا.
وفيها مات سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل، وملك بعده أخوه قطب الدين مودود بن زنكي، وتزوج بامرأة أخيه التي لم يدخل بها، الخاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، فولدت له أولادا كلهم ملكوا الموصل، وكانت هذه المرأة تضع خمارها بين خمسة عشر ملكا.
وفيها سار نور الدين إلى سنجار ففتحها، فجهز إليه أخوه قطب الدين مودود جيشا ليرده عنها، ثم اصطلحا فعوضه منها الرحبة وحمص، واستمرت سنجار لقطب الدين، وعاد نور الدين إلى بلده.
ثم غزا فيها الفرنج فقتل منهم خلقا وأسر البرنس صاحب إنطاكية، فمدحه الشعراء منهم الفتح القيسراني بقصيدة يقول فيها أولها: هذي العزائم لا ما تنعق (2) القضب * وذي المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللاتي متى خطبت * تعثرت خلفها الاشعار والخطب صافحت يا بن عماد الدين ذروتها * براحة للمساعي دونها تعب ما زال جدك يبني كل شاهقة * حتى بنى قبة أوتادها الشهب وفيها فتح نور الدين حصن فاميا وهو قريب من حماه.
وفيها مات صاحب مصر الحافظ لدين الله عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر، فقام بالامر من بعده ولده الظافر إسماعيل، وقد كان أحمد بن الافضل بن أمير الجيوش قد استحوذ على الحافظ وخطب له بمصر ثلاثا، ثم آخر الامر أذن بحي على خير العمل، والحافظ هذا هو الذي وضع طبل القولنج الذي إذا ضربه من به القولنج يخرج منه القولنج والريح الذي به، وخرج بالحجاج الامير قطز الخادم فمرض بالكوفة فرجع واستخلف على الحجاج مولاه قيماز، وحين وصوله إلى بغداد توفي بعد أيام (3)، فطمعت العرب في الحجاج فوقفوا لهم في الطريق وهم راجعون، فضعف قيماز عن مقاومتهم فأخذ لنفسه أمانا وهرب وأسلم
__________
(1) في الكامل: رابع (2) في الكامل 11 / 145: تدعي.
(3) مات في ذي القعدة (انظر ابن الاثير).
إليهم الحجيج، فقتلوا أكثرهم وأخذوا أموال الناس، وقل من سلم فيمن نجا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها مات معين الدين بن أتابك العساكر بدمشق، وكان أحد مماليك طغتكين، وهو والد الست خاتون زوجة نور الدين، وهو واقف المدرسة المعينية، داخل باب الفرج، وقبره في قبة قتلى الشامية البرانية، بمحلة العونية، عند دار البطيخ.
ولما مات معين الدين قويت شوكة الوزير الرئيس مؤيد الدولة على ابن الصوفي وأخيه زين الدولة حيدرة، ووقعت بينهما وبين الملك مجير الدين أرتق وحشة، اقتضت أنهما جندا من العامة والغوغاء ما يقاومه فاقتتلوا فقتل خلق من الفريقين.
ثم وقع الصلح بعد ذلك.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن نظام الملك أبو الحسن علي بن نصر الوزير للمسترشد، والسلطان محمود، وقد سمع الحديث، وكان من خيار الوزراء (1).
أحمد بن محمد ابن الحسين الارجاني (2)، قاضي تستر، روى الحديث وكان له شعر رائق يتضمن معاني حسنة فمن ذلك قوله: ولما بلوت الناس أطلب عندهم * أخا ثقة عند اعتراض الشدائد تطعمت في حالي رخاء وشدة * وناديت في الاحياء: هل من مساعد ؟ فلم أر فيما ساءني غير شامت * ولم أر فيما سرني غير حاسد فطلقت ود العاملين جميعهم * ورحت فلا ألوي على غير واحد
تمتعتما يا ناظري بنظرة * وأوردتما قلبي أمر الموارد أعيني كفا عن فؤادي فإنه * من البغي سعي اثنين في قتل واحد والقاضي عياض بن موسى السبتي صاحب التصانيف المفيدة ومن شعره قوله: الله يعلم أني منذ لم أركم * كطائر خانه ريش الجناحين
__________
(1) قال الفخري ص 306 فيه: كان كريما جميل الصورة، شكرت سيرته، ولما عزم المسترشد على عمارة سور بغداد قسط على الناس 15 ألف دينار فقام الوزير أبو نصر وأداها عن الناس من ماله.
(2) الارجاني: نسبة إلى أرجان، وأرجان بلد من أعمال تستر.
ولو قدرت ركبت الريح نحوكم * فإن بعدكم عني جنى حيني وقد ترجمه ابن خلكان ترجمة حسنة.
عيسى بن هبة الله ابن عيسى، أبو عبد الله النقاش، سمع الحديث، مولده سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
قال ابن الجوزي: وكان ظريفا خفيف الروح، له نوادر حسنة رأى الناس، وعاشر الاكياس، وكان يحضر مجلسي وكياتبني وأكاتبه، كتبت إليه مرة فعظمته في الكتاب فكتب إلي: قد زدتني في الخطاب حتى * خشيت نقصا من الزيادة (1) وله: إذا وجد الشيخ في نفسه * نشاطا فذلك موت خفي ألست ترى أن ضوء السرا * ج له لهب قبل أن ينطفي غازي بن اقسنقر الملك سيف الدين صاحب الموصل، وهو أخو نور الدين محمود، صاحب حلب ثم دمشق فيما بعد، وقد كان سيف الدين هذا من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، وأجودهم سريرة، وأصبحهم صورة، شجاعا كريما، يذبح كل يوم لجيشه مائة من الغنم، ولمماليكه ثلاثين رأسا، وفي يوم العيد ألف رأس سوى البقر والدجاج، وهو أول من حمل على رأسه سنجق من ملوك الاطراف، وأمر الجند
أن لا يركبوا إلى بسيف ودبوس، وبنى مدرسة بالموصل ورباطا للصوفية وامتدحه الحيص بيص (2) فأعطاه ألف دينار عينا، وخلعة.
ولما توفي بالحمى في جمادى الآخرة دفن في مدرسته المذكورة، وله من العمر أربعون سنة (3)، وكانت مدة ملكه بعد أبيه ثلاث سنين وخمسين يوما، رحمه الله.
قطز الخادم أمير الحاج مدة عشرين سنة وأكثر، سمع الحديث وقرأ على ابن الزاغوني، وكان يحب العلم
__________
(1) وبعده في الكامل 11 / 147: فاجعل خطابي خطاب مثلي * ولا تغير علي عاده (2) قال فيه قصيدته التي أولها: إلام يراك المجد في زي شاعر * وقد نحلت شوقا فروع المنابر (3) قال ابن الاثير في تاريخه: وكانت ولادته سنة خمسمائة (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 21).
والصدقة، وكان الحاج معه في غاية الدعة والراحة والامن، وذلك لشجاعته ووجاهته عند الخلفاء والملوك، توفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من ذي القعدة ودفن بالرصافة.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة فيها فتح نور الدين محمود حصن فامية، وهو من أحصن القلاع، وقيل فتحه في التي قبلها.
وفيها قصد دمشق ليأخذها فلم يتفق له ذلك، فخلع على ملكها مجير الدين أرتق، وعلى وزيره ابن الصوفي، وتقررت الخطبة له بها بعد الخليفة والسلطان، وكذلك السكة.
وفيها فتح نور الدين حصن إعزاز وأسر ابن ملكها ابن جوسلين، ففرح المسلمون بذلك، ثم أسر بعده والده جوسلين الفرنجي، فتزايدت الفرحة بذلك، وفتح بلادا كثيرة من بلاده.
وفي المحرم منها حضر يوسف الدمشقي تدريس النظامية، وخلع عليه، ولما لم يكن ذلك بإذن الخليفة بل بمرسوم السلطان وابن النظام، منع من ذلك فلزم بيته ولم يعد إلى المدرسة بالكلية، وتولاها الشيخ أبو النجيب بإذن الخليفة ومرسوم السلطان.
قال ابن الجوزي: في هذه السنة وقع مطر باليمن كله دم، حتى صبغ ثياب
الناس.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن ذي النون ابن أبي القاسم، بن أبي الحسن، أبو المفاخر (1) النيسابوري، قدم بغداد فوعظ بها، وجعل ينال من الاشاعرة فأحبته النحابلة، ثم اختبروه فإذا هو معتزلي ففتر سوقه، وجرت بسببه فتنة ببغداد، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئا من شعره، من ذلك: مات الكرام ومروا (2) وانقضوا ومضوا * ومات من بعدهم تلك الكرامات وخلفوني في قوم ذوي سفه * لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا عبد الملك بن عبد الوهاب الحنب ؟ لى القاضي بهاء الدين، كان يعرف مذهب أبي حنيفة وأحمد، ويناظر عنهما، ودفن مع أبيه وجده ؟ ق ؟ ور الشهداء.
__________
(1) في الوافي بالوفيات 12 / 8: أبو المكارم.
(2) في الكامل 11 / 153: وولوا.
عبد الملك بن أبي نصر بن عمر أبو المعالي الجيلي، كان فقيها صالحا.
متعبدا فقيرا، ليس له بيت يسكنه، وإنما يبيت في المساجد المهجورة، وقد خرج مع الحجيج فأقام بمكة يعبد ربه ويفيد العلم، فكان أهلها يثنون عليه خيرا.
الفقيه أبو بكر بن العربي (1) المالكي، شارح الترمذي، كان فقيها عالما، وزاهدا عابدا، وسمع الحديث بعد اشتغاله في الفقه، وصحب الغزالي وأخذ عنه، وكان يتهمه برأي الفلاسفة، ويقول دخل في أجوافهم فلم يخرج منها والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة فيها أغار جيش السلطان على بلاد الاسماعيلية، فقتلوا خلقا ورجعوا سالمين.
وفيها حاصر نور الدين دمشق شهورا ثم ترحل عنها إلى حلب، وكان الصلح على يدي البرهان البلخي.
وفيها اقتتل الفرنج وجيش نور الدين فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق (2)، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما وقع هذا الامر شق ذلك على نور الدين وترك الترفه وهجر اللذة حتى يأخذ بالثأر، ثم إن أمراء التركمان ومعهم جماعة من أعوانهم ترصدوا الملك جوسليق الافرنجي، فلم يزالوا به حتى أسروه في بعض متصيداته فأرسل نور الدين فكبس التركمان وأخذ منهم جوسليق أسيرا، وكان من أعيان الكفرة، وأعظم الفجرة، فأوقفه بين يديه في أذل حال، ثم سجنه.
ثم سار نور الدين إلى بلاده فأخذها كلها بما فيها (3).
وفي ذي الحجة جلس ابن العبادي في جامع المنصور وتكلم، وعنده جماعة من الاعيان، فكادت الحنابلة يثيرون فتنة ذلك اليوم، ولكن لطف الله وسلم.
وحج بالناس فيها قيماز الارجواني.
وممن توفي فيها من الاعيان الشيخ:
__________
(1) وهو محمد بن عبد الله بن محمد الاشبيلي ولد سنة 468، وتوفي بمدينة فاس سنة 543 كما في الوافي بالوفيات 3 / 330 وسنة 546 كما في شذرات الذهب 4 / 141.
(2) التقوا في شمال حلب، عند تل باشر وعين تاب وإعزاز.
(3) وهي: تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان، وبرج الرصاص وحصن البارة وكفر سود وكفرلاثا ودلوك ومرعش ونهر الجوز (الكامل 11 / 155).
برهان الدين أبو الحسن بن علي البلخي شيخ الحنفية بدمشق، درس بالبلخية ثم بالخاتونية البرانية، وكان عالما عاملا، ورعا زاهدا.
ودفن بمقابر باب الصغير.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة
فيها توفي السلطان مسعود وقام بالامر من بعده أخوه ملكشاه بن محمود، ثم جاء السلطان محمد وأخذ الملك واستقر له، وقتل الامير خاص بك، وأخذ أمواله وألقاه للكلاب، وبلغ الخليفة أن واسط قد تخبطت أيضا، فركب إليها في الجيش في أبهة عظيمة، وأصلح شأنها، وكر على الكوفة والحلة، ثم عاد إلى بغداد فزينت له البلد.
وفيها ملك عبد المؤمن صاحب المغرب بجاية وهي بلاد بني حماد، فكان آخر ملوكهم يحيى بن عبد العزيز بن حماد، ثم جهز عبد المؤمن جيشا إلى صنهاجة فحاصرها، وأخذ أموالها.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج (1)، فكسرهم وقتل منهم خلقا ولله الحمد.
وفيها اقتتل السلطان سنجر وملك الغور علاء الدين الحسين ابن الحسين أول ملوكهم، فكسره سنجر وأسره، فلما أحضره بين يديه قال له: ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني ؟ فأخرج قيدا من فضة وقال: كنت أقيدك بهذا.
فعفى عنه وأطلقه إلى بلاده، فسار إلى غزنة فانتزعها من يد صاحبها بهرام شاه البسكتكيني، واستخلف عليها أخاه سيف الدين فغدر به أهل البلد وسلموه إلى بهرام شاه فصلبه، ومات بهرام شاه قريبا فسار إليه علاء الدين فهرب خسرو بن بهرام شاه عنها، فدخلها علاء الدين فنهبها ثلاثة أيام، وقتل من أهلها بشرا كثيرا، وسخر أهلها فحملوا ترابا في مخالي إلى محلة هنالك بعيدة عن البلد، فعمر من ذلك التراب قلعة معروفة إلى الآن، وبذلك انقضت دولة بني سبكتكين عن بلاد غزنة وغيرها، وقد كان ابتداء أمرهم في سنة ست وستين وثلثمائة إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وكانوا من خيار الملوك، وأكثرهم جهادا في الكفرة، وأكثرهم أموالا ونساء وعددا وعددا، وقد كسروا الاصنام وأبادوا الكفار، وجمعوا من الاموال ما لم يجمع غيرهم من الملوك، مع أن بلادهم كانت من أطيب البلاد وأكثرهم ريفا ومياها ففني جميعه وزال عنهم (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير) [ آل عمران: 26 ] ثم ملك الغور والهند وخراسان، واتسعت ممالكهم وعظم سلطان علاء الدين بعد الاسر، وحكى ابن الجوزي أن في هذه السنة باض ديك بيضة واحدة، ثم باض بازي بيضتين، وباضت نعامة من غير ذكر، وهذا شئ عجيب.
__________
(1) وهي وقعة دلوك.
وممن توفي فيها من الاعيان..المظفر بن أردشير أبو منصور العبادي، الواعظ، سمع الحديث ودخل إلى بغداد فأملى ووعظ، وكان الناس يكتبون ما يعظ به، فاجتمع له من ذلك مجلدات.
قال ابن الجوزي: لا تكاد تجد في المجلد خمس كلمات جيدة، وتكلم فيه وأطال الحط عليه، واستحسن من كلامه قوله: وقد سقط مطر وهو يعظ الناس، وقد ذهب الناس إلى تحت الجدران، فقال لا تفروا من رشاش ماء رحمة قطر من سحاب نعمة، ولكن فروا من رشاش نار اقتدح من زناد الغضب.
توفي وقد جاوز الخمسين (1) بقليل.
مسعود السلطان صاحب العراق وغيرها، حصل له من التمكن والسعادة شئ كثير لم يحصل لغيره، وجرت له خطوب طويلة، كما تقدم بعض ذلك، وقد أسر في بعض حروبه الخليفة المسترشد كما تقدم، توفي يوم الاربعاء سلخ جمادى الآخرة منها.
يعقوب الخطاط الكاتب توفي بالنظامية، فجاء ديوان الحشر (2) ليأخذوا ميراثه فمنعهم الفقهاء فجرت فتنة عظيمة آل الحال إلى عزل المدرس الشيخ أبي النجيب وضربه في الديوان تعزيرا.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فيها وقع الحرب بين السلطان سنجر وبين الاتراك، فقتل الاتراك من جيشه خلقا كثيرا بحيث صارت القتلى مثل التلول العظيمة، وأسروا السلطان سنجر وقتلوا من كان معه من الامراء صبرا، ولما أحضروه قاموا بين يديه وقبلوا الارض له، وقالوا نحن عبيدك، وكانوا عدة من الامراء الكبار من مماليكهم، فأقام عندهم شهرين ثم أخذوه وساروا به فدخلوا مرو، وهي كرسي مملكة خراسان، فسأله بعضهم أن يجعلها له إقطاعا، فقال سنجر هذا لا يمكن، هذه كرسي المملكة، فضحكوا منه
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه.
قال: وكانت ولادته سنة 491 ه.
فيكون له من العمر عند وفاته 57 سنة.
وذكره ابن الاثير فيمن توفي سنة 546 ه.
(2) في الكامل: حضر متولي المتروكات.
وضرطوا به فنزل عن سرير المملكة ودخل خانقاه، وصار فقيرا من جملة أهلها، وتاب عن الملك واستحوذ أولئك الاتراك على البلاد فنهبوها وتركوها قاعا صفصفا، وأفسدوا في الارض فسادا عريضا، وأقاموا سليمان شاه ملكا، فلم تطل أيامه حتى عزلوه، وولوا ابن أخت سنجر الخاقان محمود بن كوخان (1)، وتفرقت الامور واستحوذ كل إنسان منهم على ناحية من تلك الممالك، وصارت الدولة دولا.
وفيها كانت حروب كثيرة بين عبد المؤمن وبين العرب ببلاد المغرب.
وفيها أخذت الفرنج مدينة عسقلان من ساحل غزة.
وفيها خرج الخليفة إلى واسط في جحفل فأصلح شأنها وعاد إلى بغداد.
وحج بالناس فيها قيماز الارجواني.
وفيها كانت وفاة الشاعرين القرينين الشهيرين في الزمان الاخير بالفر زدق وجرير وهما أبو الحسن (2) أحمد بن منير الجوني بحلب، وأبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير (3) القيسراني الحلبي بدمشق، وعلي بن السلار الملقب بالعادل وزير الظافر صاحب مصر، وهو باني المدرسة بالاسكندرية للشافعية للحافظ أبي طاهر السلفي، وقد كان العادل هذا ضد اسمه، كان ظلوما غشوما حطوما، وقد ترجمه ابن خلكان.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة فيها ركب الخليفة المقتفي في جيش كثيف إلى تكريت فحاصر قلعتها، ولقي هناك جمعا من الاتراك والتركمان، فأظفره الله بهم، ثم عاد إلى بغداد.
ملك السلطان نور الدين الشهيد بدمشق وجاءت الاخبار بأن مصر قد قتل خليفتها الظافر، ولم يبق منهم إلا صبي صغير ابن خمس شهور (4)، قد ولوه عليهم ولقبوه الفائز، فكتب الخليفة عهدا إلى نور الدين محمود بن زنكي بالولاية
__________
(1) ابن بغراجان كما في ابن الاثير، وذكره ابن خلدون في العبر: محمد بن محمود.
(2) في الوافي ووفيات الاعيان والنجوم الزاهرة وابن عساكر: أبو الحسين.
الشاعر المشهور ولد ابن منير سنة 473 ه قدم دمشق فسكنها ثم سجن فيها ثم شفعوا فيه فنفاه صاحب دمشق بوري بن طغتكين كان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات وأجوبة ومهاجاة وكانا مقيمين في حلب متنافسين في صنعتهما على عادة المتماثلين.
مات هذه السنة ودفن بجبل جوشن بحلب.
(3) الشاعر المشهور وحامل لواء الشعر في زمانه ولد بعكا سنة 478 ه ونشأ بقيسرية الساحل فنسب إليها وسكن دمشق، ثم سكن حلب وتولى بها خزانة الكتب، وتردد إلى دمشق وبها مات في هذه السنة.
(4) في الكامل 11 / 192: سنين.
(انظر ابن خلدون 4 / 75).
وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 229: نحو ست سنين.
على بلاد الشام والديار المصرية، وأرسله إليها.
وفيها هاجت ريح شديدة بعد العشاء فيها نار فخاف الناس أن تكون الساعة، وزلزلت الارض وتغير ماء دجلة إلى الحمرة، وظهر بأرض واسط بالارض دم لا يعرف ما سببه، وجاءت الاخبار عن الملك سنجر أنه في أسر الترك، وهو في غاية الذل والاهانة، وأنه يبكي على نفسه كل وقت.
وفيها انتزع نور الدين محمود دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق (1)، وذلك لسوء سيرته وضعف دولته، ومحاصرة العامة له في القلعة، مع وزيره مؤيد الدولة علي بن الصوفي، وتغلب الخادم عطاء على المملكة مع ظلمه وغشمه، وكان الناس يدعون ليلا ونهارا أن يبدلهم بالملك نور الدين، واتفق مع ذلك أن الفرنج أخذوا عسقلان فحزن نور الدين على ذلك، ولا يمكنه الوصول إليهم، لان دمشق بينه وبينهم، ويخشى أن يحاصروا دمشق فيشق على أهلها، ويخاف أن يرسل مجير الدين إلى الفرنج فيخذلونه كما جرى غير مرة، وذلك أن الفرنج لا يريدون أن يملك نور الدين دمشق فيقوى بها عليهم ولا يطيقونه، فأرسل بين يديه الامير أسد الدين شيركوه في ألف فارس في صفة طلب الصلح، فلم يلتفت إليه مجير الدين ولا عده شيئا، ولا خرج إليه أحد من أعيان أهل البلد، فكتب إلى نور الدين بذلك، فركب الملك نور الدين في جيشه فنزل عيون الفاسريا من أرض دمشق، ثم انتقل إلى قريب من الباب الشرقي، ففتحها قهرا ودخل من
الباب الشرقي بعد حصار عشرة أيام، وكان دخوله في يوم الاحد عاشر صفر من هذه السنة وتحصن مجير الدين في القلعة فأنزله منها وعوضه مدينة حمص ودخل نور الدين إلى القلعة واستقرت يده على دمشق ولله الحمد.
ونادى في البلد بالامان والبشارة بالخير، ثم وضع عنهم المكوس وقرئت عليهم التواقيع على المنابر، ففرح الناس بذلك وأكثروا الدعاء له، وكتب ملوك الفرنج إليه يهنونه بدمشق ويتقربون إليه ويخضعون له.
وممن توفي فيها من الاعيان..الرئيس مؤيد الدولة علي بن الصوفي وزير دمشق لمجير الدين، وقد ثار على الملك غير مرة، واستفحل أمره، ثم يقع الصلح بينهما كما تقدم.
عطاء الخادم أحد أمراء دمشق، وقد تغلب على الامور بأمر مجير الدين، وكان ينوب على بعلبك في بعض الاحيان، وقد كان ظالما غاشما وهو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج باب شرقي والله أعلم.
__________
(1) في الكامل: مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغدكين.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة هجربة فيها خرج الخليفة في تجمل إلى دموقا (1) فحاصرها فخرج إليه أهلها أن يرحل عنهم فإن أهلها قد هلكوا من الجيشين، فأجابهم ورحل عنهم، وعاد إلى بغداد بعد شهرين ونصف، ثم خرج نحو الحلة والكوفة والجيش بين يديه، وقال له سليمان شاه أنا ولي عهد سنجر، فإن قررتني في ذلك وإلا فأنا كأحد الامراء، فوعده خيرا، وكان يحمل الغاشية بين يدي الخليفة على كاهله، فمهد الامور ووطدها، وسلم على مشهد على إشارة بأصبعه، وكأنه خاف عليه غائلة الروافض أو أن يعتقد في نفسه من القبر شيئا أو غير ذلك، والله أعلم.
فتح بعلبك بيد نور الدين الشهيد
وفيها افتتح نور الدين بعلبك عودا على بدء وذلك أن نجم الدين أيوب كان نائبا بها على البلد والقلعة فسلمها إلى رجل يقال له الضحاك البقاعي (2)، فاستحوذ عليها وكاتب نجم الدين لنور الدين، ولم يزل نور الدين يتلطف حتى أخذ القلعة أيضا واستدعى بنجم الدين أيوب إليه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وأكرمه من أجل أخيه أسد الدين، فإنه كانت له اليد الطولى في فتح دمشق، وجعل الامير شمس الدولة بوران شاه بن نجم الدين شحنة دمشق، ثم من بعده جعل أخاه صلاح الدين يوسف هو الشحنة، وجعله من خواصه لا يفارقه حضرا ولا سفرا، لانه كان حسن الشكل حسن اللعب بالكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة لتدمين الخيل وتعليمها الكر والفر، وفي شحنة صلاح الدين يوسف يقول عرقلة: وهو حسان بن نمير الكلبي الشاعر: رويدكم يا لصوص الشام * فإني لكم ناصح في مقالي فإياكم وسمي النبي يوسف * رب الحجا والكمال فذاك مقطع أيدي النساء * وهذا مقطع أيدي الرجال وقد ملك أخاه بوران شاه بلاد اليمن فيما بعد ذلك، وكان يلقب شمس الدولة وممن توفي فيها من الاعيان..محمد بن ناصر ابن محمد بن علي الحافظ، أبو الفضل البغدادي.
ولد ليلة النصف من شعبان سنة سبع
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء - حوادث سنة 550 ه - دقوقا.
(2) البقاعي: قال ابن خلدون نسبة إلى بقاعة ; وقال ابن الاثير: منسوب إلى بقاع بعلبك.
وستين وأربعمائة، وسمع الكثير، وتفرد بمشايخ، وكان حافظا ضابطا مكثرا من السنة كثير الذكر سريع الدمعة.
وقد تخرج به جماعة منهم أبو الفرج بن الجوزي، سمع بقراءته مسند أحمد وغيره من الكتب الكبار، وكان يثني عليه كثيرا، وقد رد على أبي سعد السمعاني في قوله: محمد بن ناصر يحب ؟ أن يقع في الناس.
قال ابن الجوزي: والكلام في الناس بالجرح والتعديل ليس من هذا القبيل
وإنما ابن السمعاني يحب أن يتعصب على أصحاب الامام أحمد، نعوذ بالله من سوء القصد ؟ والتعصب.
توفي محمد بن ناصر ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شعبان منها، عن ثلاث وثمانين سنة.
وصلي عليه مرات، ودفن بباب حرب.
مجلي بن جميع أبو المعالي المخزومي الارسوفي ثم المصري قاضيها، الفقيه الشافعي، مصنف الذخائر وفيها غرائب كثيرة وهي من الكتب المفيدة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة في المحرم دخل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه إلى بغداد وعلى رأسه الشمسية، فتلقاه الوزير أبن هبيرة وأدخله على الخليفة، فقبل الارض وحلفه على الطاعة وصفاء النية والمناصحة والمودة، وخلع عليه خلع الملوك، وتقرر أن للخليفة العراق ولسليمان شاه ما يفتحه من خراسان، ثم خطب له ببغداد بعد الملك سنجر، ثم خرج منها في ربيع الاول فاقتتل هو والسلطان محمد بن محمود بن ملكشاه، فهزمه محمد وهزم عسكره، فذهب مهزوما فتلقاه نائب قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فأسره وحبسه بقلعة الموصل، وأكرمه مدة حبسه وخدمه، وهذا من أغرب الاتفاقات.
وفيها ملكت الفرنج المهدية من بلاد المغرب بعد حصار شديد.
وفيها فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل حارم واقتلعها من أيدي الفرنج، وكانت من أحصن القلاع وأمنع البقاع، وذلك بعد قتال عظيم ووقعة هائلة كانت من أكبر الفتوحات (1)، وامتدحه الشعراء عند ذلك.
وفيها هرب الملك سنجر من الاسر وعاد إلى ملكه بمرو، وكان له في يد أعدائه نحو من خمس سنين.
وفيها ولي عبد المؤمن ملك الغرب أولاده على بلاده، استناب كل واحد منهم على بلد كبير وإقليم متسع (2).
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه أنهم: أرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم، واصطلحوا على ذلك ورحل عنهم - بعد أن حصرها وضيق على أهلها (11 / 208 والعبر لابن خلدون 5 / 242).
(2) استعمل أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها، وأبا الحسن عليا على فارس وأعمالها، وأبا حفص عمر على تلمسان
وأعمالها، وأبا سعيد سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة.
قال أبو الفداء في تاريخه: بايع بولاية العهد لولده محمد.
(انظر ابن الاثير 3 / 30).
حصار بغداد وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه أرسل إلى المقتفي يطلب منه أن يخطب له في بغداد، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من همذان إلى بغداد ليحاصرها، فانجفل الناس وحصن الخليفة البلد، وجاء السلطان محمد فحصر بغداد، ووقف تجاه التاج من دار الخلافة في جحفل عظيم، ورموا نحوه النشاب، وقاتلت العامة مع الخليفة قتالا شديدا بالنفط وغيره، واستمر القتال مدة، فبينما هم كذلك إذ جاءه الخبر أن أخاه قد خلفه في همذان، فانشمر عن بغداد إليها في ربيع الاول من سنة اثنتين وخمسين، وتفرقت عنه العساكر الذين كانوا معه في البلاد، وأصاب الناس بعد ذلك القتال مرض شديد، وموت ذريع، واحترقت محال كثيرة من بغداد، واستمر ذلك فيها مدة شهرين.
وفيها أطلق أبو الوليد البدر بن الوزير بن هبيرة من قلعة تكريت، وكان معتقلا فيها من مدة ثلاث سنين، فتلقاه الناس إلى أثناء الطريق، وامتدحه الشعراء، وكان من جملتهم الابله الشاعر، أنشأ الوزير قصيدة يقول في أولها: بأي لسان للوشاة ألام * وقد علموا أني سهرت وناموا ؟ إلى أن قال: ويستكثرون الوصل لي ليلة * وقد مر عام بالصدود وعام فطرب الوزير عند ذلك.
وخلع عليه ثيابه وأطلق له خمسين دينارا، وحج بالناس قيماز.
وممن توفي فيها من الاعيان..علي بن الحسين أبو الحسن الغزنوي الواعظ، كان له قبول كثير من العامة، وبنت له الخاتون زوجة المستظهر رباطا بباب الازج، ووقفت عليه أوقافا كثيرة، وحصل له جاه عريض وزاره السلطان.
وكان حسن
الايراد مليح الوعظ، يحضر مجلسه خلق كثير وجم غفير من أصناف الناس.
وقد ذكر ابن الجوزي أشياء من وعظه، قال وسمعته يوما يقول: حزمة حزن خير من أعدال أعمال.
ثم أنشد: كم حسرة لي في الحشا * من ولد إذا نشا أملت فيه رشده * فما يشاء كما نشا قال وسمعته يوما ينشد: يحسدني قومي على صنعتي * لانني في صنعتي فارس سهرت في ليلي واستنعسوا * وهل يستوي الساهر والناعس ؟
قال: وكان يقول: تولون اليهود والنصارى فيسبون نبيكم في يوم عيدكم، ثم يصبحون يجلسون إلى جانبكم ؟ ثم يقول: ألا هل بلغت ؟ قال: وكان يتشيع، ثم سعى في منعه من الوعظ ثم أذن له، ولكن ظهر للناس أمر العبادي، وكان كثير من الناس يميلون إليه، وقد كان السلطان يعظمه ويحضر مجلسه، فلما مات السلطان مسعود ولى الغزنوي بعده، وأهين إهانة بالغة، فمرض ومات في هذه السنة.
قال ابن الجوزي: وبلغني أنه كان يعرق في نزعه ثم يفيق وهو يقول: رضى وتسليم، ولما مات دفن في رباطه الذي كان فيه.
محمود بن إسماعيل بن قادوس أبو الفتح الدمياطي، كاتب الانشا بالديار المصرية، وهو شيخ القاضي الفاضل، كان يسميه ذا البلاغتين، وذكره العماد الكاتب في الجريدة.
ومن شعره فيمن يكرر التكبير ويوسوس في نية الصلاة في أولها: وفاتر النية عنينها * مع كثرة الرعدة والهمزة يكبر التسعين في مرة * كأنه يصلي على حمزة الشيخ أبو البيان بنا بن محمد المعروف بابن الحوراني، الفقيه الزاهد العابد الفاضل الخاشع، قرأ القرآن وكتاب
التنبيه على مذهب الشافعي، وكان حسن المعرفة باللغة، كثير المطالعة وله كلام يؤثر عنه، ورأيت له كتابا بخطه فيه النظائم التي يقولها أصحابه وأتباعه بلهجة غريبة، وقد كان من نشأته إلى أن توفي على طريقة صالحة، وقد زاره الملك نور الدين محمود في رباطه داخل درب الحجر، ووقف عليه شيئا، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ربيع الاول من هذه السنة، ودفن بمقابر الباب الصغير، وكان يوم جنازته يوما مشهودا.
وقد ذكرته في طبقات الشافعية رحمه الله.
عبد الغافر بن إسماعيل ابن عبد القادر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن سعيد، الفارسي الحافظ، تفقه بإمام الحرمين وسمع الكثير على جده لامه أبي القاسم القشيري، ورحل إلى البلاد وأسمع، وصنف المفهم في غريب مسلم وغيره، وولي خطابة نيسابور، وكان فاضلا دينا حافظا.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وخمسمائة استهلت هذه السنة ومحمد شاه بن محمود محاصر بغداد والعامة والجند من جهة الخليفة المقتفي يقاتلون أشد القتال، والجمعة لا تقام لعذر القتال، والفتنة منتشرة، ثم يسر الله بذهاب السلطان، كما تقدم في السنة التي قبلها، وقد بسط ذلك ابن الجوزي في هذه السنة فطول.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام، هلك بسببها خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وتهدم أكثر حلب وحماه وشيزر وحمص وكفر طاب وحصن الاكراد واللاذقية والمعرة وفامية وإنطاكية وطرابلس.
قال ابن الجوزي: وأما شيزر فلم يسلم منها إلا امرأة وخادم لها، وهلك الباقون، وأما كفر طاب فلم يسلم من أهلها أحد، وأما فامية فساحت قلعتها، وتل حران انقسم نصفين فأبدى نواويس وبيوتا كثيرة في وسطه.
قال: وهلك من مدائن الفرنج شئ كثير، وتهدم أسوار أكثر مدن الشام، حتى أن مكتبا من مدينة حماه انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم، فلم يأت أحد يسأل عن أحد منهم، وقد ذكر هذا الفصل الشيخ أبو شامة في كتاب الروضتين مستقصى، وذكر ما قاله الشعراء من القصائد في ذلك.
وفيها ملك السلطان محمود بن محمد بعد خاله سنجر جميع بلاده.
وفيها فتح السلطان محمود (1) بن
زنكي حصن شيزر (2) بعد حصار، وأخذ مدينة بعلبك، وكان بها الضحاك البقاعي، وقد قيل إن ذلك كان في سنة خمسين كما تقدم فالله أعلم، وقد تقدم ذلك.
وفيها مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه ثم عوفي ففرح المسلمون فرحا شديدا، واستولى أخوه قطب الدين مودود صاحب الموصل على جزيرة ابن عمر.
وفيها عمل الخليفة بابا للكعبة مصفحا بالذهب، وأخذ بابها الاول فجعله لنفسه تابوتا.
وفيها أغارت الاسماعيلية على حجاج خراسان فلم يبقوا منهم أحدا، لا زاهدا ولا عالما.
وفيها كان غلاء شديد بخراسان حتى أكلوا الحشرات، وذبح إنسان منهم رجلا علويا فطبخه وباعه في السوق، فحين ظهر عليه قتل.
وذكر أبو شامة: أن فتح بانياس كان في هذه السنة على يد نور الدين بنفسه، وقد كان معين الدين سلمها إلى الفرنج حين حاصروا دمشق، فعوضهم بها وقيل ملكها وغنم شيئا كثيرا.
وفيها قدم الشيخ أبو الوقت عبد الاول بن عيسى بن شعيب السجزي، فسمعوا عليه البخاري في دار الوزير ببغداد، وحج بالناس قيماز.
وممن توفي فيها من الاعيان..
__________
(1) في العبر والكامل: نور الدين محمود.
(2) شيزر: حصن منيع قريب من حماه على نصف مرحلة منها - بينهما نصف نهار - على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة.
وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه..إلى أن انتهى إلى المرهف نصر بن علي وخلفه عليه أخوه أبو سلامة مرشد بن علي ثم ولاه أخاه سلطان إلى أن اختلف أولاد مرشد وسلطان الذين استنجدوا بالفرنج فحنق عليهم نور الدين.
ثم كان هلاكهم أجمعين في الزلزلة ولم ينج منهم أحد.
ثم ملكها نور الدين.
وعمر أسوارها ودورها.
أحمد بن محمد ابن عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، أبو الليث النسفي من أهل سمرقند، سمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان حسن السمت، قدم بغداد فوعظ الناس، ثم عاد إلى بلده فقتله قطاع الطريق رحمه الله تعالى.
أحمد بن بختيار
ابن علي بن محمد، أبو العباس المارداني الواسطي قاضيها، سمع الحديث وكانت له معرفة تامة في الادب واللغة، وصنف كتابا في التاريخ وغير ذلك، وكان ثقة صدوقا توفي ببغداد وصلي عليه بالنظامية.
السلطان سنجر ابن الملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أبو الحارث واسمه أحمد، ولقب بسنجر، مولده في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وأقام في الملك نيفا وستين سنة، من ذلك استقلالا إحدى وأربعين سنة، وقد أسره الغز نحوا من خمس سنين، ثم هرب منهم وعاد إلى ملكه بمرو، ثم توفي في ربيع الاول من هذه السنة ودفن في قبة بناها سماها دار الآخرة رحمه الله.
محمد بن عبد اللطيف ابن محمد بن ثابت، أبو بكر الخجندي الفقيه الشافعي، ولي تدريس النظامية ببغداد، وكان يناظر حسنا ويعظ الناس وحوله السيوف مسللة.
قال ابن الجوزي: ولم يكن ماهرا في الوعظ وكانت حاله أشبه بالوزراء من العلماء، وتقدم عند السلاطين حتى كانوا يصدرون عن رأيه، توفي بأصبهان فجأة فيها.
محمد بن المبارك ابن محمد بن الخل أبو الحسن بن أبي البقاء، سمع الحديث وتفقه على الشاشي، ودرس وأفتى، وتوفي في محرم هذه السنة (1)، وتوفي أخوه الشيخ أبو الحسين بن الخل الشاعر في ذي القعدة منها.
__________
(1) كذا بالاصل والوافي والمنتظم وشذرات الذهب ; وذكر ابن الاثير وفاته سنة 551 ه.
يحيى بن عيسى ابن إدريس أبو البركات الانباري الواعظ، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه ووعظ الناس على طريقة الصالحين، وكان يبكي من أول صعوده إلى حين نزوله، وكان زاهدا عابدا ورعا آمرا
بالمعروف ناهيا عن المنكر، ورزق أولادا صالحين سماهم بأسماء الخلفاء الاربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحفظهم القرآن كلهم بنفسه، وختم خلقا كثيرا، وكان هو وزوجته يصومان الدهر، ويقومان الليل، ولا يفطران إلا بعد العشاء، وكانت له كرامات ومنامات صالحة، ولما مات قالت زوجته: اللهم لا تحيني بعده، فماتت بعده بخمسة عشر يوما، وكانت من الصالحات رحمهما الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة فيها كثر فساد التركمان من أصحاب ابن برجم الايواني، فجهز إليهم الخليفة منكورس (1) المسترشدي في جيش كثيف، فالتقوا معهم فهزمهم أقبح هزيمة، وجاؤوا بالاسارى والرؤوس إلى بغداد.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين السلطان محمود وبين الغز، فكسروه ونهبوا البلاد، وأقاموا بمرو ثم طلبوه إليهم فخاف على نفسه فأرسل ولده بين يديه فأكرموه، ثم قدم السلطان عليهم فاجتمعوا عليه وعظموه.
وفيها وقعت فتنة كبيرة بمرو بين فقيه الشافعية المؤيد بن الحسين، وبين نقيب العلويين بها أبي القاسم زيد بن الحسن، فقتل منهم خلق كثير، وأحرقت المدارس والمساجد والاسواق، وانهزم المؤيد الشافعي إلى بعض القلاع.
وفيها ولد الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله، وفيها خرج المقتفي نحو الانبار متصيدا وعبر الفرات وزار الحسين ومضى إلى واسط وعاد إلى بغداد، ولم يكن معه الوزير.
وحج بالناس فيها قيماز الارجواني.
وفيها كسر جيش مصر الفرنج بأرض عسقلان كسروهم كسرة فجيعة صحبة الملك صالح أبو الغارات، فارس الدين طلائع بن رزيك، وامتدحه الشعراء.
وفيها قدم الملك نور الدين من حلب إلى دمشق وقد شفي من المرض ففرح به المسلمون، وخرج إلى قتال الفرنج، فانهزم جيشه وبقي هو في شرذمة قليلة من أصحابه في نحر العدو، فرموهم بالسهام الكثيرة، ثم خاف الفرنج أن يكون وقوفه في هذه الشرذمة القليلة خديعة لمجئ كمين إليهم، ففروا منهزمين ولله الحمد.
__________
(1) كذا بالاصل، وفي الكامل 11 / 229: خطلبرس وفي رواية عند ابن الاثير 11 / 239: منكبرس المسترشدي.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 520: خلطوا براس.
عبد الاول بن عيسى ابن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق، أبو الوقت السجزي الصوفي الهروي، راوي البخاري ومسند الدارمي، والمنتخب من مسند عبد بن حميد، قدم بغداد فسمع عليه الناس هذه الكتب، وكان من خيار المشايخ وأحسنهم سمتا وأصبرهم على قراءة الحديث.
قال ابن الجوزي: أخبرني أبو عبد الله محمد بن الحسين التكريتي الصوفي قال أسندته إلي فمات، كان آخر ما تكلم به أن قال (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) [ يس: 27 ].
نصر بن منصور ابن الحسين بن أحمد بن عبد الخالق العطار، أبو القاسم الحراني كان كثير المال، يعمل من صدقاته المعروف الكثير من أنواع القربات الحسنة، ويكثر تلاوة القرآن، ويحافظ على الصلوات في الجماعة، ورئيت له منامات صالحة، وقارب الثمانين رحمه الله.
يحيى بن سلامة ابن الحسين (1) أبو الفضل الشافعي، الحصكفي نسبة إلى حصن كيفا، كان إماما في علوم كثيرة من الفقه والآداب، ناظما ناثرا، غير أنه كان ينسب إلى الغلو في التشيع، وقد أورد له ابن الجوزي قطعة من نظمه، فمن ذلك قوله في جملة قصيدة له: تقاسموا يوم الوداع كبدي * فليس لي منذ تولوا كبد على الجفون رحلوا في الحشاء * نزلوا وماء عيني وردوا وأدمعي مسفوحة وكبدي * مقروحة وعلتي ما وقد بدوا وصبوتي دائمة ومقلتي * دامية ونومها مشرد تيمني منهم غزال أغيد * يا حبذا ذاك الغزال الاغيد حسامه مجرد وصرحه * ممرد وخده مورد وصدغه فوق احمرار خده * مبلبل معقرب مجعد
كأنما نكهته وريقه * مسك وخمر والثنايا برد يقعده عند القيام ردفه * وفي الحشا منه المقيم المقعد له قوام كقضيب بانة * يهتز قصدا ليس فيه أود (2)
__________
(1) في الكامل 11 / 239: الحسن.
(2) أود: اعوجاج.
وهي طويلة جدا، ثم خرج من هذا التغزل إلى مدح أهل البيت والائمة الاثني عشر رحمهم الله وسائلي عن حب أهل البيت * هل أقر إعلانا به أم أجحد ؟ هيهات ممزوج بلحمي ودمي * حبهم وهو الهدى والرشد حيدرة والحسنان بعده * ثم علي وابنه محمد وجعفر الصادق وابن جعفر * موسى ويتلوه علي السيد أعني الرضى ثم ابنه محمد * ثم علي وابنه المسدد والحسن الثاني ويتلو تلوه * محمد بن الحسن المفتقد فإنهم أئمتي وسادتي * وإن لحاني معشر وفندوا (1) أئمة أكرم بهم أئمة * أسماؤهم مسرودة تطرد هم حجج الله على عباده * وهم إليه منهج ومقصد قوم لهم فضل وجد باذخ * يعرفه المشرك والموحد قوم لهم في كل أرض مشهد * لا بل لهم في كل قلب مشهد قوم مني والمشعران لهم * والمروتان لهم والمسجد قوم لهم مكة والابطح والخ * يف وجمع والبقيع الغرقد ثم ذكر بلطف مقتل الحسين بألطف عبارة إلى أن قال: يا أهل بيت المصطفى يا * عدتي ومن على حبهم أعتمد
أنتم إلى الله غدا وسيلتي * وكيف أخشى وبكم أعتضد وليكم في الخلد حي خالد * والضد في نار لظى مخلد ولست أهواكم ببغض غيركم * إني إذا أشقى بكم لا أسعد فلا يظن رافضي أنني * وافقته أو خارجي مفسد محمد والخلفاء بعده * أفضل خلق الله فيما أجد هم أسسوا قواعد الدين لنا * وهم بنوا أركانه وشيدوا ومن يخن أحمد في أصحابه * فخصمه يوم المعاد أحمد هذا اعتقادي فالزموه تفلحوا * هذا طريقي فاسلكوه تهتدوا والشافعي مذهبي مذهبه * لانه في قوله مؤيد اتبعته في الاصل والفرع معا * فليتبعني الطالب المرشد إني بإذن الله ناج سابق * إذا ونى الظالم ثم المفسد
__________
(1) لحاني: لحا: لام، وفندوا: قالوا بالاباطيل وتهجموا علي وافتروا.
ومن شعره أيضا: إذا قل مالي لم تجدني جازعا * كثير الاسى معرى بعض الانامل ولا بطرا إن جدد الله نعمة * ولو أن ما أوتي جميع الناس لي ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة فيها مرض الخليفة المقتفي مرضا شديدا، ثم عوفي فزينت بغداد أياما، وتصدق بصدقات كثيرة.
وفيها استعاد عبد المؤمن مدينة المهدية من أيدي الفرنج، وقد كانوا أخذوها من المسلمين في سنة ثلاث وأربعين.
وفيها قاتل عبد المؤمن خلقا كثيرا من الغرب حتى صارت عظام القتلى هناك كالتل العظيم، وفي صفر منها سقط برد بالعراق كبار، زنة البردة قريب من خمسة أرطال، ومنها ما هو تسعة أرطال بالبغدادي، فهلك بذلك شئ كثير من الغلات، وخرج الخليفة إلى واسط فاجتاز
بسوقها ورأى جامعها، وسقط عن فرسه فشج جبينه، ثم عوفي.
وفي ربيع الآخر زادت دجلة زيادة عظيمة، فغرق بسبب ذلك محال كثيرة من بغداد، حتى صار أكثر الدور بها تلولا، وغرقت تربة أحمد، وخسفت هنالك القبور، وطفت الموتى على وجه الماء.
قاله ابن الجوزي: وفي هذه السنة كثر المرض والموت، وفيها أقبل ملك الروم في جحافل كثيرة قاصدا بلاد الشام فرده الله خائبا خاسئا، وذلك لضيق حالهم من الميرة، وأسر المسلمون ابن أخته ولله الحمد.
وحج بالناس فيها قيماز الارجواني.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن معالي ابن بركة الحربي، تفقه بأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي، وبرع وناظر ودرس وأفتى، ثم صار بعد ذلك شافعيا، ثم عاد حنبليا، ووعظ ببغداد وتوفي في هذه السنة، وذلك أنه دخلت به راحلته في مكان ضيق فدخل قربوس سرجه في صدره فمات.
السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه لما رجع من محاصرة بغداد إلى همذان أصابه مرض السل فلم ينجح منه، بل توفي في ذي الحجة منها، وقبل وفاته بأيام أمر أن يعرض عليه جميع ما يملكه ويقدر عليه، وهو جالس في المنظرة، فركب الجيش بكماله وأحضرت أمواله كلها، ومماليكه حتى جواريه وحظاياه، فجعل يبكي ويقول: هذه العساكر لا يدفعون عني مثقال ذرة من أمر ربي، لا يزيدون في عمري لحظة، ثم ندم وتأسف على ما
كان منه إلى الخليفة المقتفي، وأهل بغداد وحصارهم وأذيتهم، ثم قال: وهذه الخزائن والاموال والجواهر لو قبلهم ملك الموت مني فداء لجدت بذلك جميعه له، وهذه الحظايا والجواري الحسان والمماليك لو قبلهم فداء مني لكنت بذلك سمحا له.
ثم قال: (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) [ الحاقة: 28 ] ثم فرق شيئا كثيرا من ذلك من تلك الحواصل والاموال، وتوفي عن ولد صغير، واجتمعت العساكر والامراء على عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه، وكان مسجونا
بالموصل فأفرج عنه وانعقدت له السلطنة، وخطب له على منابر تلك البلاد سوى بغداد والعراق.
والله سبحانه أعلم ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة فيها كانت وفاة الخليفة المقتفي بأمر الله.
أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله مرض بالتراقي (1) وقيل بدمل خرج بحلقه، فمات ليلة الاحد ثاني ربيع الاول منها عن ست وستين سنة، إلا ثمانية وعشرين يوما، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب، وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة وعشرين (2) يوما، وكان شهما شجاعا مقداما، يباشر الامور بنفسه، ويشاهد الحروب ويبذل الاموال الكثيرة لاصحاب الاخبار، وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن السلطان، من أول أيام الديلم إلى أيامه، وتمكن في الخلافة وحكم على العسكر والامراء، وقد وافق أباه في أشياء: من ذلك مرضه بالتراقي، وموته في ربيع الاول، وتقدم موت السلطان محمد شاه قبله بثلاثة أشهر، وكذلك أبوه المستظهر مات قبله السلطان محمود بثلاثة أشهر وبعد غرق بغداد بسنة مات أبوه، وكذلك هذا.
قال عفيف الناسخ: رأيت في المنام قائلا يقول.
إذا اجتمعت ثلاث خاآت مات المقتفي - يعني خمسا وخمسين وخمسمائة.
خلافة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع بالخلافة في صبيحة يوم الاحد ثاني ربيع الاول من هذه السنة، بايعه
__________
(1) التراقي: مرض يصيب الترقوة ; وهي العظمة التي بين ثغرة النحر والعاتق في أعلى الصدر.
(2) في الكامل 11 / 256: وستة وعشرين يوما.
وفي الوافي 2 / 95: وواحد وعشرين وفي مفرج الكروب 1 / 133 واثنين وعشرين يوما.
وفي دول الاسلام 2 / 71: كانت دولته خمسا وعشرين سنة.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 522: لاربع وعشرين سنة وأربعة أشهر.
أشراف بني العباس، ثم الوزير والقضاة والعلماء والامراء وعمره يومئذ خمس وأربعون سنة، وكان
رجلا صالحا، وكان ولي عهد أبيه من مدة متطاولة، ثم عمل عزاء أبيه، ولما ذكر اسمه يوم الجمعة في الخطبة نثرت الدراهم والدنانير على الناس، وفرح المسلمون به بعد أبيه، وأقر الوزير ابن هبيرة على منصبه ووعده بذلك إلى الممات، وعزل قاضي القضاة أبن الدامغاني وولى مكانه أبا جعفر بن عبد الواحد، وكان شيخا كبيرا، له سماعا بالحديث، وباشر الحكم بالكوفة، ثم توفي في ذي الحجة منها.
وفي شوال من هذه السنة اتفق الاتراك بباب همذان على سليمان شاه، وخطبوا لارسلان شاه بن طغرل، وفيها توفي.
الفائز خليفة مصر الفاطمي وهو أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، توفي في صفر منها وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، ومدة ولايته من ذلك ست سنين وشهران، وكان مدبر دولته أبو الغارات.
ثم قام بعده العاضد آخر خلفائهم، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان يومئذ قد ناهز الاحتلام، فقام بتدبير مملكته الملك الصالح طلائع بن رزيك الوزير، أخذ له البيعة وزوجه بابنته، وجهزها بجهاز عظيم يعجز عنه الوصف، وقد عمرت بعد زوجها العاضد ورأت زوال دولة الفاطميين على يد الملك صلاح الدين بن يوسف، في سنة أربع وستين كما سيأتي.
وفيها كانت وفاة السلطان الكبير صاحب غزنة.
خسروشاه بن ملكشاه ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين، من بيت ملك ورياسة باذخة، يرثونها كابرا عن كابر، وكان من سادات الملوك وأحسنهم سيرة، يحب العلم وأهله، توفي في رجب منها، وقام بعده ولده ملكشاه، فسار إليه علاء الدين الحسين بن الغوري فحاصر غزنة فلم يقدر عليها، ورجع خائبا.
وفيها مات: ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي بأصبهان مسموما، فيقال إن الوزير عون الدين بن هبيرة دس إليه من سقاه إياه والله أعلم.
وفيها مات أمير الحاج قيماز بن عبد الله الارجواني سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة بميدان الخليفة، فسال دماغه من أذنه فمات من ساعته، وقد كان من خيار الامراء، فتأسف الناس عليه،
وحضر جنازته خلق كثير، مات في شعبان منها، فحج بالناس فيها الامير برغش مقطع الكوفة.
وحج الامير الكبير شيركوه بن شادي، مقدم عساكر الملك نور الدين، وتصدق بأموال كثيرة.
وفيها استعفى القاضي زكي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى أبو الحسن القرشي من القضاء بدمشق، فأعفاه نور الدين، وولى مكانه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، وكان من خيار القضاة وأكثرهم صدقة، وله صدقات جارية بعده، وكان عالما، وإليه ينسب الشباك الكمالي الذي يجلس فيه الحكام بعد صلاة الجمعة من المشهد الغربي بالجامع الاموي، والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان..الامير مجاهد الدين نزار بن مامين الكردي، أحد مقدمي جيش الشام، قبل نور الدين وبعده، وقد ناب في مدينة صرخد، وكان شهما شجاعا كثير البر والصدقات، وهو واقف المدرسة المجاهدية بالقرب من الغورية جوار الخيميين، وله أيضا المدرسة المجاهدية داخل باب الفراديس البراني، وبها قبره.
وله السبع المجاهدي داخل باب الزيادة من الجامع بمقصورة الخضر، توفي بداره في صفر منها، فحمل إلى الجامع وصلي عليه ثم أعيد إلى مدرسته ودفن بها داخل باب الفراديس، وتأسف الناس عليه.
الشيخ عدي بن مسافر ابن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاري، شيخ الطائفة العدوية، أصله من البقاع غربي دمشق، من قرية بيت نار (1)، ثم دخل إلى بغداد فاجتمع فيها بالشيخ عبد القادر والشيخ حماد الدباس، والشيخ عقيل المنبجي، وأبي الوفا الحلواني، وأبي النجيب السهروردي وغيرهم، ثم انفرد عن الناس وتخلى بجبل هكار وبنى له هناك زاوية واعتقده أهل تلك الناحية اعتقادا بليغا، حتى أن منهم من يغلو غلوا كثيرا منكرا ومنهم من يجعله إلها أو شريكا، وهذا
اعتقاد فاحش يؤدي إلى الخروج من الدين جلمة.
مات في هذه السنة بزاويته وله سبعون (2) سنة رحمه الله.
__________
(1) في معجم البلدان بيت النار قرية كبيرة من قرى إربل من جهة الموصل، بينها وبين إربل ثمانية أميال.
وفي وفيات الاعيان 3 / 254: بيت فار من أعمال بعلبك.
وقال في شذرات 4 / 180: قال السخاوي أصله من قرية بشوف الاكراد تسمى بيت فار.
وفي الكامل 11 / 289: وهو من الشام، من بلد بعلبك.
(2) ذكر ابن خلكان وشذرات الذهب وفاته سنة سبع وخمسين وخمسمائة وانظر الكامل 11 / 289 وقال ابن خلكان: وله تسعون سنة.
عبد الواحد بن أحمد ابن محمد بن حمزة، أبو جعفر الثقفي، قاضي قضاة بغداد، وليها بعد أبي الحسن الدامغاني في أول هذه السنة، وكان قاضيا بالكوفة قبل ذلك، توفي في ذي الحجة منها وقد ناهز الثمانين، وولي بعده ابنه جعفر.
والفائز صاحب مصر، وقيماز تقدما في الحوادث.
محمد بن يحيى ابن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي، ولد بمدينة زبيد باليمن سنة ثمانين (1) تقريبا، وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة، فوعظ وكانت له معرفة بالنحو والادب، وكان صبورا على الفقر لا يشكو حاله إلى أحد، وكانت له أحوال صالحة رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة فيها قتل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه، وكان عنده استهزاء وقلة مبالاة بالدين، مدمن شرب الخمر في رمضان، فثار عليه مدبر مملكته يزديار (3) الخادم فقتله، وبايع بعده السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه.
وفيها قتل الملك الصالح فارس الدين أبو الغارات طلائع بن رزيك الارمني، وزير العاضد صاحب مصر، ووالد زوجته، وكان قد حجر على العاضد
لصغره واستحوذ على الامور والحاشية، ووزر بعده ولده رزيك، ولقب بالعادل، وقد كان أبوه الصالح كريما أديبا، يحب أهل العلم ويحسن إليهم، كان من خيار الملوك والوزراء، وقد امتدحه غير واحد من الشعراء.
قال ابن خلكان: كان أولا متوليا بمنية بني الخصيب، ثم آل به الحال إلى أن صار وزير العاضد والفائز قبله، ثم قام في الوزارة بعده ولده العادل رزيك بن طلائع، فلم يزل فيها حتى انتزعها منه شاور كما سيأتي.
قال: والصالح هذا هو باني الجامع عند بابا زويلة ظاهر القاهرة، قال: ومن العجائب أنه ولي الوزارة في تاسع عشر شهر ونقل من دار الوزارة إلى القرافة في تاسع عشر شهر، وزالت دولتهم في تاسع عشر شهر آخر.
قال ومن شعره ما رواه عنه زين الدين علي بن نجا الحنبلي (3):
__________
(1) كذا بالاصل، ولعله سنة 480 ه.
(2) في الكامل: كردبازو.
(3) الابيات في ديوانه ص 57.
مشيبك قد محى صنع (1) الشباب * وحل الباز في وكر الغراب تنام ومقلة الحدثان يقظى * وما ناب النوائب عنك ناب وكيف نفاد عمرك وهو كنز * وقد أنفقت منه بلا حساب وله (2): كم ذا يرينا الدهر من أحداثه * عبرا وفينا الصد والاعراض ننسى الممات وليس يجري ذكره * فينا فتذكرنا به الامراض ومن شعره أيضا قوله (3): أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر * ويخدمنا في ملكنا العز والنصر علمنا بأن المال تفنى ألوفه * ويبقى لنا من بعده الاجر والذكر خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا * سحاب لديه البرق والرعد والقطر
وله أيضا وهو مما نظمه قبل موته بثلاث ليال: [ نحن في غفلة ونوم وللمو * ت عيون يقظانة لا تنام ] قد رحلنا إلى الحمام سنينا * ليت شعري متى يكون الحمام ؟ ثم قتله غلمان العاضد في النهار غيلة وله إحدى وستون سنة، وخلع على ولده العادل بالوزارة ورثاه عمارة التميمي بقصائد حسان، ولما نقل إلى تربته بالقرافة سار العاضد معه حتى وصل إلى قبره فدفنه في التابوت.
قال ابن خلكان: فعمل الفقيه عمارة في التابوت قصيدة فجار فيها في قوله: وكأنه تابوت موسى أودعت * في جانبيه سكينة ووقار وفيها كانت وقعة عظيمة بين بني خفاجة وأهل الكوفة، فقتلوا من أهل الكوفة خلقا، منهم الامير قيصر وجرحوا أمير الحاج برغش جراحات، فنهض إليهم وزير الخلافة عون الدين بن هبيرة، فتبعهم حتى أوغل خلفهم في البرية في جيش كثيف، فبعثوا يطلبون العفو.
وفيها ولي مكة الشريف عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، وقيل قاسم بن أبي فليتة بن القاسم بن أبي هاشم.
وفيها أمر الخليفة بإزالة الدكاكين التي تضيق الطرقات، وأن لا يجلس أحد من الباعة في عرض الطريق، لئلا يضر ذلك بالمارة.
وفيها وقع رخص عظيم ببغداد جدا.
وفيها فتحت المدرسة التهي بناها ابن الشمحل في
__________
(1) في الديوان وابن خلكان 2 / 527: نضا صبغ الشباب.
(2) ديوانه ص 84.
(3) الابيات في تاريخ ابن الاثير 11 / 275.
المامونية ودرس فيها أبو حكيم إبراهيم بن دينار النهرواني الحنبلي، وقد توفي من آخر هذه السنة، ودرس بعده فيها أبو الفرج بن الجوزي، وقد كان عنده معيدا، ونزل عن تدريس آخر بباب الازج عند موته.
وممن توفي فيها من الاعيان..حمزة بن علي بن طلحة أبو الفتوح الحاجب، كان خصيصا عند المسترشد والمقتفي، وقد بنى مدرسة إلى جانب داره،
وحج فرجع متزهدا ولزم بيته معظما نحوا من عشرين سنة، وقد امتدحه الشعراء فقال فيه بعضهم: يا عضد الاسلام يا من سمت * إلى العلا همته الفاخره كانت لك الدنيا فلم ترضها * ملكا فأخلدت إلى الآخرة ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة فيها دخلت الكرج بلاد المسلمين فقتلوا خلقا من الرجال وأسروا من الذراري، فاجتمع ملوك تلك الناحية: ايلدكز صاحب أذربيجان وأبن سكمان صاحب خلاط، وابن آقسنقر صاحب مراغة، وساروا إلى بلادهم في السنة الآتية فنهبوها، وأسروا ذراريهم، والتقوا معهم فكسورهم كسرة فظيعة منكرة، مكثوا يقتلون فيهم ويأسرون ثلاثة أيام.
وفي رجب أعيد يوسف الدمشقي إلى تدريس النظامية بعد عزل ابن نظام الملك بسبب أن امرأة ادعت أنه تزوجها فأنكر ثم اعترف، فعزل عن التدريس.
وفيها كملت المدرسة التي بناها الوزير ابن هبيرة بباب البصرة، ورتب فيها مدرسا وفقيها، وحج بالناس أمير الكوفة برغش.
وممن توفي فيها من الاعيان..شجاع شيخ الحنفية ودفن عن المشهد، وكان شيخ الحنفية بمشهد أبي حنيفة، وكان جيد الكلام في النظر، أخذ عنه الحنفية.
صدقة بن وزير الواعظ دخل بغداد ووعظ بها وأظهر تقشفا، وكان يميل إلى التشيع وعلم الكلام، ومع هذا كله راج
عند العوام وبعض الامراء، وحصل له فتوح كثير، ابتنى منه رباطا ودفن فيه سامحه الله تعالى.
زمرد خاتون بنت جاولي أخت الملك دقماق بن تتش لامه، وهي بانية الخاتونية ظاهر دمشق عند قرية صنعاء بمكان يقال له تل الثعالب، غربي دمشق، على جانب الشرق القبلي بصنعاء الشام، وهي
قرية معروفة قديما، وأوقفتها على الشيخ برهان الدين علي بن محمد البلخي الحنفي المتقدم ذكره، وكانت زوجة الملك بوري بن طغتكين، فولدت له ابنيه شمس الملوك إسماعيل المذكور، وقد ملك بعد أبيه وسار سيرته، ومالا الفرنج على المسلمين وهم بتسليم البلد والاموال إليهم فقتلوه، وتملك أخوه وذلك بعد مراجعتها ومساعدتها، وقد كانت قرأت القرآن، وسمعت الحديث، وكان حنفية المذهب تحب العلماء والصالحين، وقد تزوجها الاتابكي زنكي صاحب حلب طمعا في أن يأخذ بسببها دمشق فلم يظفر بذلك، بل ذهبت إليه إلى حلب ثم عادت إلى دمشق بعد وفاته، وقد دخلت بغداد وسارت من هناك إلى الحجاز، وجاورت بمكة سنة، ثم جاءت فأقامت بالمدينة النبوية حتى ماتت بها ودفنت بالبقيع في هذه السنة، وقد كانت كثيرة البر والصدقات والصلاة والصوم، قال السبط: ولم تمت حتى قل ما بيدها، وكانت تغربل القمح والشعير وتتقوت بأجرته، وهذا من تمام الخير والسعادة وحسن الخاتمة رحمها الله تعالى، والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فيها مات صاحب المغرب عبد المؤمن بن علي التومرتي، وخلفه في الملك من بعده ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صفة أنه مريض، فلما وصلها أظهر موته فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، ولقبوه أمير المؤمنين، وقد كان عبد المؤمن هذا حازما شجاعا، جوادا معظما للشريعة، وكان من لا يحافظ على الصلوات في زمانه يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الاذان يزدحم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، ولكن كان سفاكا للدماء، حتى على الذنب الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء.
وفيها قتل سيف الدين محمد بن علاء الدين الغزي (1)، قتله الغز، وكان عادلا.
وفيها كبست الفرنج نور الدين وجيشه (2) فانهزم المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشبحة في رجله فنزل رجل كردي فقطعها، فسار نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج ذلك الكردي فقتلوه رحمه الله، فأحسن نور الدين
__________
(1) في الكامل 11 / 293: الغوري، ملك الغور.
(2) في تل وراء الجبل الذي عليه حصن الاكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة.
(انظر ابن خلدون 5 / 245).
إلى ذريته، وكان لا ينسى ذلك له.
وفيها أمر الخليفة بإجلاء بني أسد عن الحلة وقتل من تخلف منهم، وذلك لافسادهم ومكاتبتهم السلطان محمد شاه، وتحريضهم له على حصار بغداد، فقتل من بني أسد أربعة آلاف، وخرج الباقون منها، وتسلم الخليفة الحلة.
وحج بالناس فيها الامير برغش الكبير.
وممن توفي فيها من الاعيان السلطان الكبير: أبو محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكوفي تلميذ ابن التومرت، كان أبوه يعمل في الطين فاعلا، فحين وقع نظر ابن التومرت عليه أحبه وتفرس فيه أنه شجاع سعيد، فاستصحبه فعظم شأنه، والتفت عليه العساكر التي جمعها ابن التومرت من المصامدة وغيرهم، وحاربوا صاحب مراكش علي بن يوسف بن تاشفين، ملك الملثمين، واستحوذ عبد المؤمن على وهران وتلمسان وفاس وسلا وسبتة، ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرا فافتتحها في سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة، وتمهدت له الممالك هنالك، وصفا له الوقعت وكان عاقلا وقورا شكلا حسنا محبا للخير، توفي في هذه السنة ومكث في الملك ثلاثا وثلاثين سنة (1)، وكان يسمي نفسه أمير المؤمنين رحمه الله.
طلحة بن علي ابن طراد، أبو أحمد الزينبي، نقيب النقباء، مات فجأة وولي النقابة بعده ولده أبو الحسن علي وكان أمرد فعزل وصودر في هذه السنة.
محمد بن عبد الكريم ابن إبراهيم، أبو عبد الله المعروف بابن الانباري كاتب الانشاء ببغداد، كان شيخا حسنا ظريفا وانفرد بصناعة الانشاء، وبعث رسولا إلى الملك سنجر وغيره، وخدم الملوك والخلفاء، وقارب التسعين.
ومن شعره في محبي الدنيا والصور: يامن هجرت ولا تبالي * هل ترجع دولة الوصال
هل أطمع يا عذاب قلبي * أن ينعم في هواك بالي ما ضرك أن تعلليني * في الوصل بموعد المحال
__________
(1) زيد في الكامل وتاريخ أبي الفداء: وشهورا.
أهواك وأنت حظ غيري * يا قاتلتي فما احتيالي أيام عنائي قبل سود * ما أشبههن بالليالي العذل فيك يعذلوني * عن حبك ما لهم وما لي يا ملزمني السلو عنها * الصب أنا وأنت سالي والقول بتركها صواب * ما أحسنه لو استوى لي طلقت تجلدي ثلاثا * والصبوة بعد في خيالي ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة فيها قدم شاور بن مجير الدين أبو شجاع السعدي الملقب بأمير الجيوش، وهو إذ ذاك وزير الديار المصرية بعد آل رزيك، لما قتل الناصر رزيك بن طلائع، وقام في الوزارة بعده، واستفحل أمره فيها، ثار عليه أمير يقال له الضرغام بن سوار، وجمع له جموعا كثيرة، واستظهر عليه وقتل ولديه طيبا وسليمان، وأسر الثالث وهو الكامل بن شاور، فسجنه ولم يقتله، ليد كانت لابيه عنده، واستوزر ضرغام ولقب بالمنصور، فخرج شاور من الديار المصرية هاربا من العاضد ومن ضرغام، ملتجئا إلى نور الدين محمود، وهو نازل بجوسق الميدان الاخضر، فأحسن ضيافته وأنزله بالجوسق المذكور، وطلب شاور منه عسكرا ليكونوا معه ليفتح بهم الديار المصرية، وليكون لنور الدين ثلث مغلها (1)، فأرسل معه جيشا عليه أسد الدين شيركوه بن شادي، فلما دخلوا بلاد مصر خرج إليهم الجيش الذين بها فاقتتلوا أشد القتال، فهزمهم أسد الدين وقتل منهم خلقا، وقتل ضرغام بن سوار وطيف برأسه في البلاد، واستقر أمر شاور في الوزارة، وتمهد حاله، ثم اصطلح العاضد وشاور على أسد الدين، ورجع عما كان عاهد عليه نور الدين، وأمر أسد الدين بالرجوع فلم يقبل منه، وعاث
في البلاد، وأخذ أموالا كثيرة، وافتتح بلدانا كثيرة من الشرقية وغيرها، فاستغاث شاور عليهم بملك الفرنج الذي بعسقلان، واسمه مري، فأقبل في خلق كثير فتحول أسد الدين إلى بلبيس وقد حصنها وشحنها بالعدد والآلات وغير ذلك، فحصروه فيها ثمانية (2) أشهر، وامتنع أسد الدين وأصحابه أشد الامتناع، فبينما هم على ذلك إذ جاءت الاخبار بأن الملك نور الدين قد اغتنم غيبة الفرنج فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا، وفتح حارم وقتل من الفرنج بها خلقا، وسار إلى بانياس، فضعف صاحب عسقلان الفرنجي، وطلبوا من أسد الدين الصلح فأجابهم إلى ذلك،
__________
(1) حدد ابن الاثير في تاريخه شروط الاتفاق بين شاور ونور الدين: يكون ثلث دخل البلاد لنور الدين بعد إقطاعات العساكر ; ويكون شيركوه مقيما بعساكره في مصر، ويتصرف هو (أي شاور) بأمر نور الدين واختياره (11 / 298 والعبر لابن خلدون 5 / 246).
(2) في الكامل والعبر: ثلاثة أشهر (انظر تاريخ أبي الفداء).
وقبض من شاور ستين ألف دينار، وخرج أسد الدين وجيشه فساروا إلى الشام في ذي الحجة.
وقعة حارم فتحت في رمضان من هذه السنة، وذلك أن نور الدين استغاث بعساكر المسلمين، فجاؤوه من كل فج ليأخذ ثأره من الفرنج (1)، فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب إنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسلين (2)، وقتل منهم عشرة آلاف، وقيل عشرين ألفا.
وفي ذي الحجة منها فتح نور الدين مدينة بانياس، وقيل إنه إنما فتحها في سنة ستين فالله أعلم.
وكان معه أخوه نصر (3) الدين أمير أميران، فأصابه سهم في إحدى عينيه فأذهبها، فقال له الملك نور الدين: لو نظرت لما أعد الله لك من الاجر في الآخرة لاحببت أن تذهب الاخرى.
وقال لابن معين الدين: إنه اليوم بردت جلدة والدك من نار جهنم، لانه كان سلمها للفرنج، فصالحه عن دمشق.
وفي شهر ذي الحجة احترق قصر جيرون حريقا عظيما، فحضر في تلك الليلة الامراء منهم أسد الدين شيركوه، بعد رجوعه من مصر، وسعى سعيا
عظيما في إطفاء هذه النار وصون حوزة الجامع منها.
وممن توفي فيها من الاعيان...جمال الدين وزير صاحب الموصل، قطب الدين مودود بن زنكي، كان كثير المعروف، واسمه محمد بن علي بن أبي منصور، أبو جعفر الاصبهاني، الملقب بالجمال، كان كثير الصدقة والبر، وقد أثر آثارا حسنة بمكة والمدينة، من ذلك أنه ساق عينا إلى عرفات، وعمل هناك مصانع، وبنى مسجد الخيف ودرجه، وعملها بالرخام، وبنى على المدينة النبوية سورا، وبنى جسرا على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت، والحديد والرصاص، وبنى الربط الكثيرة، وكان يتصدق في كل يوم في بابه بمائة دينار، ويفتدي من الاسارى في كل سنة بعشرة آلاف دينا، وكان لا تزال صدقاته وافدة إلى الفقهاء والقراء، حيث كانوا من بغداد وغيرها من البلاد، وقد حبس في سنة ثمان وخمسين، فذكر ابن الساعي في تاريخه عن شخص كان معه في السجن أنه نزل إليه طائر أبيض قبل موته فلم يزل عنده وهو يذكر الله حتى توفي في شعبان من هذه السنة، ثم طار عنه ودفن في رباط بنابيه لنفسه بالموصل، وقد
__________
(1) يعني بعد هزيمته في وقعة البقيعة، تحت حصن الاكراد.
(2) من الكامل، وفي الاصل جوسليق، وفي ابن خلدون: ابن جوسكين.
(3) في الكامل 11 / 304: نصرة ; وفي ابن خلدون 5 / 247: نصير.
كان بينه وبين أسد الدين شيركوه بن شادي مواخاة وعهد أيهما مات قبل الآخر أن يحمله إلى المدينة النبوية، فحمل إليها من الموصل على أعناق الرجال، فما مروا به على بلدة إلا صلوا عليه وترحموا عليه، وأثنوا خيرا، فصلوا عليه بالموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وفيد ومكة وطيف به حول الكعبة، ثم حمل إلى المدينة النبوية فدفن بها في رباط بناه شرقي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الجوزي وابن الساعي: ليس بينه وبين حرم النبي صلى الله عليه وسلم وقبره سوى خمسة عشر ذراعا.
قال ابن الساعي: ولما صلي عليه بالحلة صعد شاب نشزا فأنشد:
سرى نعشه على الرقاب وطالما * سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر على الوادي فتثني رماله * عليه وبالنادي فتثني أرامله وممن توفي بعد الخمسين (1): ابن الخازن الكاتب أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق أبو الفضل المعروف بابن الخازن الكاتب البغدادي الشاعر.
كان يكتب جيدا فائقا، اعتنى بكتابة الختمات، وأكثر ابنه نصر الله من كتابة المقامات، وجمع لابنه ديوان شعر أورد منه ابن خلكان قطعة كبيرة.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة في صفر منها وقعت بأصبهان فتنة عظيمة بين الفقهاء بسبب المذاهب دامت أياما، وقتل فيها خلق كثير.
وفيها كان حريق عظيم ببغداد فاحترقت محال كثيرة جدا، وذكر ابن الجوزي: أن في هذه السنة ولدت امرأة ببغداد أربع بنات في بطن واحد، وحج بالناس فيها الامير برغش الكبير.
وممن توفي فيها من الاعيان..عمر بن بهليقا الطحان الذي جدد جامع العقيبة ببغداد، واستأذن الخليفة في إقامة الجمعة فيه، فأذن له في ذلك، وكان قد اشترى ما حوله من القبور فأضاف ذلك إليه، ونبش الموتى منها، فقيض الله له من نبشه من قبره بعد دفنه، جزاء وفاقا.
__________
(1) في الوافي 8 / 80 ووفيات الاعيان 1 / 148: مات سنة 518 ه ; وقال ابن الجوزي في المنتظم 9 / 204: مات سنة 512 ه.
قال ابن خلكان وكان ابنه نصر الله حيا في سنة 575 ه ولم أقف على تاريخ وفاته.
محمد بن عبد الله بن العباس بن عبد الحميد أبو عبد الله الحراني، كان آخر من بقي من الشهود المقبولين عند أبي الحسن الدامغاني، وقد سمع الحديث وكان لطيفا ظريفا، جمع كتابا سماه روضة الادباء، فيها نتف حسنة.
قال ابن
الجوزي زرته يوما فأطلت الجلوس عنده فقلت: أقوم فقد ثقلت، فأنشدني: لئن سئمت إبراما وثقلا * زيارات رفعت بهن قدري فما أبرمت إلا حبل ودي * ولا ثقلت إلا ظهر شكري مرجان الخادم كان يقرأ القراءات، وتفقه لمذهب الشافعي، وكان يتعصب على الحنابلة ويكرههم، ويعادي الوزير ابن هبيرة وابن الجوزي معاداة شديدة، ويقول لابن الجوزي، مقصودي قلع مذهبكم، وقطع ذكركم.
ولما توفي ابن هبيرة في هذه السنة قوي على ابن الجوزي وخافه ابن الجوزي، فلما توفي في هذه السنة فرح ابن الجوزي فرحا شديدا توفي في ذي القعدة منها.
ابن التلميذ الطبيب الحاذق الماهر، اسمه هبة الله بن صاعد توفي عن خمس وتسعين سنة، وكان موسعا عليه في الدنيا، وله عند الناس وجاهة كبيرة، وقد توفي قبحه الله على دينه، ودفن بالبيعة العتيقة، لا رحمه الله إن كان مات نصرانيا، فإنه كان يزعم أنه مسلم، ثم مات على دينه.
الوزير ابن هبيرة يحيى بن محمد بن هبيرة، أبو المظفر الوزير للخلافة عون الدين، مصنف كتاب الافصاح، وقد قرأ القرآن وسمع الحديث، وكانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة والعروض، وتفقه على مذهب الامام أحمد، وصنف كتبا جيدة مفيدة، من ذلك الافصاح في مجلدات، شرح فيه الحديث وتكلم على مذاهب العلماء، وكان على مذهب السلف في الاعتقاد، وقد كان فقيرا لا مال له، ثم تعرض للخدمة إلى أن وزر للمقتفي ثم لابنه المستنجد، وكان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة، وأبعدهم عن الظلم، وكان لا يلبس الحرير، وكان المقتفي يقول: ما وزر لبني العباس مثله، وكذلك ابنه المستنجد، وكان المستنجد معجبا به، قال مرجان الخادم سمعت أمير المؤمنين المستنجد ينشد لابن هبيرة وهو بين يديه من شعره:
صفت نعمتان خصتاك وعمتا * فذكرهما حتى القيامة يذكر وجودك والدنيا إليك فقيرة * وجودك والمعروف في الناس ينكر فلو رام يا يحيى مكانك جعفر * ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا * المظفر إلا كنت أنت المظفر وقد كان يبالغ في إقامة الدولة العباسية، وحسم مادة الملوك السلجوقية عنهم بكل ممكن، حتى استقرت الخلافة في العراق كله، ليس للملوك معهم حكم بالكلية ولله الحمد.
وكان يعقد في داره للعلماء مجلسا للمناظرة يبحثون فيه ويناظرون عنده، يستفيد منهم ويستفيدون منه، فاتفق يوما أنه كلم رجلا من الفقهاء كلمة فيها بشاعة قال له: يا حمار، ثم ندم فقال: أريد أن تقول لي كما قلت لك، فامتنع ذلك الرجل، فصالحه على مائتي دينار.
مات فجأة، ويقال إنه سمه طبيب فسم ذلك الطبيب بعد ستة أشهر، وكان الطبيب يقول سممته فسممت (1).
مات يوم الاحد الثاني عشر من جمادي الاولى من هذه السنة، عن إحدى وستين سنة (2)، وغسله ابن الجوزي، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير جدا، وغلقت الاسواق، وتباكى الناس عليه، ودفن بالمدرسة التي أنشأها بباب البصرة رحمه الله.
وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة فيها فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة [ من الشام ] (3) وقتل عنده خلق كثير من الفرنج، وغنم أموالا جزيلة.
وفيها هرب عز الدين بن الوزير ابن هبيرة من السجن، ومعه مملوك تركي، فنودي عليه في البلد من رده فله مائة دينار، ومن وجد عنده هدمت داره وصلب على بابها، وذبحت أولاده بين يديه، فدلهم رجل من الاعراب عليه فأخذ من بستان فضرب ضربا شديدا وأعيد إلى السجن وضيق عليه.
وفيها أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا يتمكنون منها في هذه الاعصار المتقدمة، خوفا من ابن هبيرة، ووقع بين العوام كلام فيما يتعلق بخلق القرآن.
وحج بالناس برغش.
وممن توفي فيها من الاعيان..
__________
(1) قال الفخري ص 315: وفي آخر أيامه عرض له تزايد البلغم فمات وهو ساجد.
ولم يعلق ابن الاثير في تاريخه على موته فاعتبر وفاته طبيعيا.
(2) قال ابن خلكان 6 / 242: ولد سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وفي ابن الاثير 11 / 321: ومولده سنة تسعين وأربعمائة.
فعلى هذا يكون قد تجاوز 63 سنة حسب رواية ابن خلكان.
(3) من الكامل.
الحسن بن العباس ابن أبي الطيب بن رستم، أبو عبد الله الاصبهاني، كان من كبار الصالحين البكائين، قال: حضرت يوما مجلس ماشاده وهو يتكلم على الناس فرأيت رب العزة في هذه الليلة وهو يقول لي: وقفت على مبتدع وسمعت كلامه ؟ لاحر منك النظر في الدنيا، فأصبح لا يبصر وعيناه مفتوحتان كأنه بصير.
عبد العزيز بن الحسن (1) ابن الحباب الاغلبي السعدي القاضي، أبو المعالي البصري، المعروف بابن الجليس، لانه كان يجالس صاحب مصر، وقد ذكره العماد في الخريدة، وقال: كان له فضل مشهور وشعر مأثور فمن ذلك قوله (2): ومن عجب أن السيوف لديهم * تحيض دماء والسيوف ذكور وأعجب من ذا أنها في أكفهم * تأجج نارا والاكف بحور الشيخ عبد القادر الجيلي ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي (3)، ولد سنة سبعين وأربعمائة، ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنى مدرسة ففوضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلم على الناس بها، ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعا كثيرا، وكان له سمت حسن، وصمت غير الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولاتباعه
وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالا وأفعالا ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحا ورعا، وقد صنف كتاب الغنية وفتوح الغيب، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، [ توفي ] وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وخمسمائة فيها أقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصرفوا في
__________
(1) في الروضتين لابي شامة 1 / 2 / 360: الحسين.
(2) الابيات في الخريدة - قسم شعراء مصر 1 / 190.
(3) الجيلي ; ويقال الجيلاني، نسبة إلى جيل وهي بلاد متفرقة من وراء طبرستان، ويقال لها جيلان وكيلان.
بعض البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين في العود إليها، وكان كثير الحنق على الوزير شاور، فأذن له فسار إليها في ربيع الآخر ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد وقع في النفوس أنه سيملك الديار المصرية، وفي ذلك يقول عرقلة المسمى بحسان الشاعر: أقول (1) والاتراك قد أزمعت * مصر إلى حرب الاعاريب رب كما ملكها يوسف الص * ديق من أولاد يعقوب فملكها في عصرنا يوسف الص * ادق من أولاد أيوب من لم يزل ضراب هام العدا * حقا وضراب العراقيب ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤوا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم، وإنما معه ألفا فارس، فاستشار من معه من الامراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين، لكثرة الفرنج، إلا أميرا واحدا يقال له شرف الدين برغش، فإنه قال: من خاف القتل والاسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم
إلى العدو، وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعزم الله لهم فساروا نحوا الفرنج فاقتتلوا هم وإياهم قتالا عظيما، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عزوجل، ولله الحمد.
فتح الاسكندرية على يدي أسد الدين شيركوه ثم أشار أسد الدين بالمسير [ إلى الاسكندرية ] (2) فملكها (3) وجبى أموالها، وأستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف وعاد إلى الصعيد فملكه، وجمع منه أموالا جزيلة جدا، ثم إن الفرنج والمصريين اجتمعوا على حصار الاسكندرية ثلاثة أشهر لينتزعوها من يد صلاح الدين، وذلك في غيبة عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الاقوات وضاق عليهم الحال جدا، فاسر إليهم أسد الدين فصالحه شاور الوزير عن الاسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك، وخرج صلاح الدين منها وسلمها إلى المصريين، وعاد إلى الشام في منتصف شوال، وقرر شاور للفرنج على مصر في كل سنة مائة ألف دينار، وأن يكون لهم شحنة (4) بالقاهرة،
__________
(1) سقطت من الاصل، واستدركت من الروضتين 1 / 2 / 364.
(2) سقطت من الاصل، واستدركت من تاريخ ابن الاثير وتاريخ ابن خلدون.
(3) في الروضتين 1 / 2 / 365: تسلمها من غير قتال، سلمها إليه أهلها (انظر الكامل 11 / 326).
(4) في الاصل ما يقام للدواب من العلف الذي يكفيها يومها وليلتها.
وشحنة البلد من فيه الكفاية لضبطها من قوات الامن.
والشحنكية: رئاسة الشرطة.
(القاموس المحيط).
وعادوا إلى بلادهم بعد أن كان الملك نور الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم حصونا كثيرة، وقتل منهم خلقا من الرجال، وأسر جما غفيرا من النساء والاطفال، وغنم شيئا كثيرا من الامتعة والاموال ولله الحمد.
وكان معه أخوه قطب الدين مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها.
وفيها في شعبان منها كان قدوم العماد الكاتب من بغداد إلى دمشق، وهو أبو حامد محمد بن محمد الاصبهاني، صاحب الفتح القدسي، والبرق الشامي، والخريدة، وغير ذلك من المصنفات، فأنزله قاضي
القضاة كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية (1) داخل باب الفرج، فنسبت إليه لسكناه بها، فيقال لها العمادية، ثم ولي تدريسها في سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه ابن عبد وأول من جاء للسلام عليه نجم الدين أيوب كانت له وبه معرفة من تكريت، فامتدحه العماد بقصيدة ذكرها أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بمصر فبشره فيها بولاية صلاح الدين الديار المصرية حيث يقول (2) ويستقر بمصر يوسف، وبه * تقر بعد التنائي عين يعقوب ويلتقي يوسف فيها بإخوته * والله يجمعهم من غير تثريب ثم تولى عماد الدين كتابة الانشاء للملك نور الدين محمود.
وممن توفي فيها من الاعيان..برغش أمير الحاج سنين متعددة كان مقدما على العساكر، خرج من بغداد لقتال شملة التركماني فسقط عن فرسه فمات.
أبو المعالي الكاتب محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية، وقد ولي ديوان لزمام مدة، توفي في ذي القعدة ودفن بمقابر قريش.
الرشيد الصدفي (3) كان يجلس بين يدي العبادي على الكرسي، كانت له شيبة وسمت ووقار، وكان يدمن حضور السماعات، ويرقص، فاتفق أنه مات وهو يرقص في بعض السماعات.
__________
(1) وهي التي عرفت فيما بعد باسم العمادية أيضا، داخل باب الفرج (الدارس في المدارس 1 / 406).
(2) انظر الروضتين 1 / 2 / 369.
(3) واسمه أبو الحسن أحمد بن القاضي الرشيد أبي الحسن علي الغساني الاسواني ; نسبة إلى أسوان قرية بصعيد مصر.
أمر به شاور أن يصلب شنقا.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة في صفر منها وصل شرف الدين أبو جعفر ابن البلدي من واسط إلى بغداد، فخرج الجيش لتلقيه والنقيبان والقاضي، ومشى الناس بين يديه إلى الديوان فجلس في دست الوزارة، وقرئ عهده ولقب بالوزير شرف الدين جلال الاسلام معز الدولة سيد الوزراء صدر الشرق والغرب.
وفيها أفسدت خفاجة في البلاد ونهبوا القرى، فخرج إليهم جيش من بغداد فهربوا في البراري فانحسر الجيش عنهم خوفا من العطش، فكروا على الجيش فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وكان قد أسر الجيش منهم خلقا فصلبوا على الاسوار.
وفي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود بن زنكي إلى بغداد تريد الحج من هناك، وهي الست عصمت الدين خاتون بنت معين الدين، ومعها الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الامامات وأكرمت غاية الاكرام.
وفيها مات قاضي قضاة بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثا وعشرين يوما، حتى ألزموا روح بن الحدثني قاضي القضاة في رابع رجب.
وممن توفي من الاعيان..جعفر بن عبد الواحد أبو البركات الثقفي، قاضي قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وسبب وفاته أنه طلب منه مال وكلمه الوزير ابن البلدي كلاما خشنا فخاف فرمي الدم ومات.
أبو سعد السمعاني عبد الكريم بن محمد بن منصور، أبو سعد السمعاني، رحل إلى بغداد فسمع بها وذيل على تاريخها للخطيب البغدادي، وقد ناقشه ابن الجوزي في المنتظم، وذكر عنه أنه كان يتعصب على أهل مذهبه، ويطعن في جماعة منهم، وأنه يترجم بعبارة عامية، مثل قوله عن بعض الشيخات أنها كانت عفيفة.
وعن الشاعر المشهور بحيص بيص إنه كانت له أخت يقال لها دخل خرج، وغير ذلك.
عبد القاهر بن محمد ابن عبد الله أبو النجيب السهروردي (1)، كان يذكر أنه من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله
__________
(1) السهروردي: نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان وفي الكامل لابن الاثير 11 / 333: الشهرزوري.
عنه سمع الحديث وتفقه وأفتى ودرس بالنظامية وابتنى لنفسه مدرسة ورباطا، وكان مع ذلك متصوفا يعظ الناس، ودفن بمدرسته.
محمد بن عبد الحميد ابن أبي الحسين أبو الفتح الرازي، المعروف بالعلاء العالم، وهو من أهل سمرقند، وكان من الفحول في المناظرة، وله طريقة في الخلاف والجدل، يقال لها التعليقة العالمية.
قال ابن الجوزي وقد قدم بغداد وحضر مجلسي، وقال أبو سعد السمعاني: كان يدمن شرب الخمر.
قال: وكان يقول: ليس في الدنيا أطيب من كتاب المناظرة وباطية من خمر أشرب منها.
قال ابن الجوزي: ثم بلغني عنه أنه أقلع عن شرب الخمر والمناظرة وأقبل على النسك والخير.
يوسف بن عبد الله ابن بندار الدمشقي، مدرس النظامية ببغداد، تفقه على أسعد الميهني، وبرع في المناظرة وكان يتعصب للاشعرية، وقد بعث رسولا في هذه السنة إلى شملة التركماني فمات في تلك البلاد.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة فيها كان فتح مصر على يدي الامير أسد الدين شيركوه وفيها طغت الفرنج بالديار المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجا أفواجا، ولم يبق شئ من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمين، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع الفرنج بذلك جاؤوا إليها من كل فج وناحية صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين، ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلا ومعقلا لهم، ثم ساروا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا البلد وذهب للناس أموال كثيرة جدا، وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين ويوما، فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين، وبعث إليه
بشعور نسائه يقول أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج، والتزم له بثلث خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيما بها عندهم، والتزم له بإقطاعات زائدة على الثلث، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر، فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الفرنج يقول قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد، وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار، فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفا
من عساكر نور الدين، وطمعا في العودة إليها مرة ثانية، (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) [ آل عمران: 54 ].
ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله، وضيق على الناس مع ما نالهم من الضيق والحريق والخوف، فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم، وذلك أن نور الدين استدعى الامير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئا من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، ويقال إنه هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وأنعم عليه بمائتي ألف دينار وأضاف إليه من الامراء الاعيان، كل منهم يبتغي بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله، وكان من جملة الامراء ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يكن منشرحا لخروجه هذا بل كان كارها له، وقد قال الله تعالى (قل اللهم مالك الملك) الآية [ آل عمران: 26 ]، وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، وجعل أسد الدين مقدما على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام نور الدين بدمشق، ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة، وكان وصوله إليها في سابع ربيع الآخر (1)، فدخل الامير أسد الدين على العاضد في ذلك اليوم فخلع عليه خلعة سنية فلبسها وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد، وفرح المسلمون بقدومه، وأجريت عليهم الجرايات، وحملت إليهم التحف
والكرامات، وخرج وجوه الناس إلى المخيم خدمة لاسد الدين، وكان فيمن جاء إليه المخيم الخليفة العاضد متنكرا، فأسر إليه أمورا مهمة منها قتل الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الامير أسد الدين ولكن شرع يماطل بما كان التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أسد الدين، ويركب معه، وعزم على عمل ضيافة له فنهاه أصحابه عن الحضور خوفا عليه من غائلته، وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الامير أسد الدين من ذلك، فلما كان في بعض الايام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب لزيارة قبر الشافعي، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين وانهزم أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه، فأرسل العاضد إلى الامير أسد الدين يطلب منه رأسه، فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر ربيع الآخر، ففرح المسلمون بذلك وأمر أسد الدين بنهب دار شاور، فنهبت، ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة، ولقبه الملك المنصور، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك، ولما بلغ نور الدين خبر فتح مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة، غير أنه لم ينشرح لكون أسد الدين صار وزيرا للعاضد، وكذلك لما انتهت
__________
(1) في الكامل 11 / 339 جمادى الاخرة.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 45: رابع ربيع الآخر.
الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين، فشرع نور الدين في إعمال الحيلة في إزالة ذلك فلم يتمكن، ولا قدر عليه، ولا سيما أنه بلغه أن صلاح الدين استحوذ على خزائن العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، والله أعلم.
وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتبا فأرسلوا إليه القاضي الفاضل رجاء أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون، وبعث أسد الدين العمال في الاعمال وأقطع الاقطاعات، وولى الولايات، وفرح بنفسه أياما معدودات، فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، فلما توفي أسد الدين رحمه الله أشار الامراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد عمه، فولاه العاضد الوزارة وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه الملك الناصر.
صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين مما ذكره أبو شامة في الروضتين عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب، وثوب دبيقي بطراز ذهب وجبة بطراز ذهب، وطيلسان بطراز مذهبة، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار، وسيف محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب وسرفسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قصبة ذهب فيها تندة بيضاء بأعلام بيض ومع الخلعة عدة بقج، وخيل وأشياء أخر، ومنشور الوزارة ملفوف بثوب أطلس أبيض، وذلك في يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، من هذه السنة، وكان يوما مشهودا، وسار الجيش بكماله في خدمته، لم يتخلف عنه سوى عين الدولة الياروقي، وقال: لا أخدم يوسف بعد نور الدين، ثم سار بجيشه إلى الشام فلامه نور الدين على ذلك، وأقام الملك صلاح الدين بمصر بصفة نائب للملك نور الدين، يخطب له على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه بالامير الاسفهسلار (1) صلاح الدين ويتواضع له صلاح الدين في الكتب والعلامة (2)، لكن قد التفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد، وارتفع قدر صلاح الدين بين العباد بتلك البلاد، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه واحترموه وخدموه، وكتب إليه نور الدين
__________
(1) من الكامل 11 / 344 والروضتين 1 / 2 / 408، وفي الاصل الاسفهلار وهو تحريف، والاسفهسلار اصطلاح عسكري مركب من كلمتين: اسفه: مقدم وهي فارسية: وسلار: عسكر وهي تركية.
فمعناه مقدم العسكر.
وقد استعمل هذا الاصطلاح منذ العهد الفاطمي، وتغير معناه تغيرا طفيفا بمرور الزمن وبصفة خاصة خلال العصر المملوكي، لكنه لم يخرج عن دائرة النظام العسكري (انظر صبح الاعشى ج 3 وج 6).
(2) العلامة: اصطلاح يختاره الخليفة أو السلطان ليوقع به على المنشورات والاوامر الرسمية، وهي عبارة عن آية قرآنية أو حديث أو قول مأثور أو اقتباس شعري، وقد تكون توقيعا بالاسم (انظر المقريزي الخطط ج 3 وكتاب السلوك 1 / 344 حاشية رقم 1).
يعنفه على قبول الوزارة بدون مرسومه، وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية، فلم يلتفت صلاح
الدين إلى ذلك وجعل نور الدين يقول في غضون ذلك: ملك ابن أيوب.
وأرسل [ صلاح الدين ] إلى نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته، فأرسلهم إليه وشرط عليهم السمع والطاعة له.
فاستقر أمره بمصر وتوطأت دولته بذلك، وكمل أمره وتمكن سلطانه وقويت أركانه.
وقد قال بعض الشعراء في قتل صلاح الدين لشاور الوزير: هيا لمصر حور يوسف ملكها * بأمر من الرحمن كان موقوتا وما كان فيها قتل يوسف شاورا * يماثل إلا قتل داود جالوتا قال أبو شامة، وقتل العاضد في هذه السنة أولاد شاور وهم شجاع الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم، وأخوهما الآخر الملقب بفارس المسلمين، وطيف برؤوسهم ببلاد مصر.
ذكر قتل الطواشي مؤتمن الخلافة وأصحابه على يدي صلاح الدين، وذلك أنه كتب من دار الخلافة بمصر إلى الفرنج ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الاسلامية الشامية، وكان الذي يفد بالكتاب إليهم الطواشي مؤتمن الخلافة، مقدم العساكر بالقصر، وكان حبشيا، وأرسل الكتاب مع إنسان أمن إليه فصادفه في بعض الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى الملك صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب ففهم صلاح الدين الحال فكتمه، واستشعر الطواشي مؤتمن الدولة أن صلاح الدين قد اطلع على الامر فلازم القصر مدة طويلة خوفا على نفسه، ثم عن له في بعض الايام أن خرج إلى الصيد، فأرسل صلاح الدين إليه من قبض عليه وقتله وحمل رأسله إليه، ثم عزل جميع الخدام الذين يلون خدمة القصر، واستناب على القصر عوضهم بهاء الدين قراقوش، وأمره أن يطالعه بجميع الامور، صغارها وكبارها.
وقعة السودان، وذلك أنه لما قتل الطواشي مؤتمن الخلافة الحبشي، وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك، واجتمعوا قربيا من خمسين ألفا، فاقتتلوا هم وجيش صلاح الدين بين القصرين، فقتل خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قذف الجيش الشامي من القصر
بحجارة، وجاءهم منه سهام فقيل كان ذلك بأمر العاضد، وقيل لم يكن بأمره.
ثم إن أخا الناصر نورشاه شمس الدولة - وكان حاضرا للحرب قد بعثه نور الدين لاخيه ليشد أزره - أمر بإحراق منظرة العاصد، ففتح الباب ونودي إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين أظهركم،
ومن بلادكم، فقوي الشاميون وضعف جأش السودان جدا، وأرسل السلطان إلى محلة السودان المعروفة بالمنصورة، التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة فأحرقها، فولوا عند ذلك مدبرين، وركبهم السيف فقتل منهم خلقا كثيرا، ثم طلبوا الامان فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج لهم شمس الدولة نورشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم أيضا، ولم يقى منهم إلا القليل، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
وفيها افتتح نور الدين قلعة جعبر وانتزعها من يد صاحبها شهاب الدين مالك بن علي العقيلي وكانت في أيديهم من أيام السلطان ملكشاه.
وفيها احترق جامع حلب فجدده نور الدين.
وفيها مات ماروق الذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب وممن توفي فيها من الاعيان..سعد الله بن نصر بن سعيد الدجاجي أبو الحسن الواعظ الحنبلي، ولد سنة ثمانين وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان لطيف الوعظ، وقد أثنى عليه ابن الجوزي في ذلك، وذكر أنه سئل مرة عن أحاديث الصفات فنهى عن التعرض لذلك وأنشد: أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضي * وأنت الذي صيرت طاعته فرضا فلا تهجري من لا تطيقين هجره * وإن هم بالهجران خديك والارضا وذكر ابن الجوزي عنه أنه قال: خفت مرة من الخليفة فهتف بي هاتف في المنام وقال لي اكتب: ادفع بصبرك حادث الايام * وترج لطف الواحد العلام لا تيأسن وإن تضايق كربها * ورماك ريب صروفها بسهام
فله تعالى بين ذلك فرجة * تخفى على الافهام والاوهام كم من نجا من بين أطراف القنا * وفريسة سلمت من الضرغام توفي في شعبان منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن عند رباط الزوري ثم نقل إلى مقبرة الامام أحمد.
شاور بن مجير الدين أبو شجاع السعدي، الملقب أمير الجيوش، وزير الديار المصرية أيام العاضد، وهو الذي انتزع الوزارة من يدي رزيك، وهو أول من استكتب القاضي الفاضل، استدعى به من اسكندرية
من باب السدرة فحظي عنده وانحصر منه الكتاب بالقصر، لما رأوا من فضا ؟ وفضيلته.
وقد امتدحه الشعراء منهم عمارة اليمني حيث يقول: ضجر الحديد من الحديد وشاور * من نصر دين محمد لم يضجر حلف الزمان ليأتين بمثله * حنثت يمينك يا زمان فكفر ولم يزل أمره قائما إلى أن ثار عليه الامير ضرغام بن سوار فالتجأ إلى نور الدين فأرسل معه الامير أسد الدين شيركوه فنصروه على عدوه، فنكث عهده فلم يزل أسد الدين حنقا عليه حتى قتله في هذه السنة، على يدي ابن أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الامير جردنك في السابع عشر من ربيع الآخر، واستوزر بعده أسد الدين، فلم تطل مدته بعده إلا شهرين وخمسة أيام.
قال ابن خلكان: هو أبو شجاع شاور بن مجير الدين بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بن أبي ذؤيب عبد الله وهو والد حليمة السعدية، كذا قال، وفيما قال نظر لقصر هذا النسب لبعد المدة والله أعلم.
شيركوه بن شادي أسد الدين الكردي الزرزاري وهم أشرف شعوب الاكراد، وهو من قرية يقال لها درين (1) من أعمال أذربيجان، خدم هو وأخوه نجم الدين أيوب - وكان الاكبر - الامير مجاهد الدين نهروز (2)
الخادم شحنة العراق، فاستناب نجم الدين أيوب على قلعة تكريت، فاتفق أن دخلها عماد الدين زنكي هاربا من قراجا الساقي، فأحسنا إليه وخدماه، ثم اتفق أنه قتل رجلا من العامة فأخرجهما نهروز من القلعة فصارا إلى زنكي بحلب فأحسن إليهما، ثم حظيا عند ولده نور الدين محمود، فاستناب أيوب على بعلبك، وأقره ولده نور الدين، وصار أسد الدين عند نور الدين أكبر أمرائه، وأخصهم عنده وأقطعه الرحبة وحمص مع ماله عنده من الاقطاعات، وذلك لشهامته وشجاعته وصرامته وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات ووقعات معتبرات، ولا سيما يوم فتح دمشق، وأعجب من ذلك ما فعله بديار مصر، بل الله بالرحمة ثراه وجعل الجنة مأواه، وكانت وفاته يوم السبت فجأة بخانوق حصل له، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة رحمه الله.
قال أبو شامة: وإليه تنسب الخانقاة الاسدية بالشرق القبلي، ثم آل الامر من بعده إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف، ثم استوسق له الملك والممالك هنالك.
__________
(1) في الكامل 11 / 341: دوين، وفي الروضتين 1 / 2 / 368: من تكريت.
قال ياقوت في معجم البلدان: دوين بلدة من نواحي أران في آخر حدود أذربيجان بقرب من تفليس منها ملوك الشام بنو أيوب.
(2) في الكامل 11 / 341: بهروز.
محمد بن عبد الله بن عبد الواحد (1) ابن سليمان المعروف بابن البطي، سمع الحديث الكثير، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين (2).
محمد الفارقي أبو عبد الله الواعظ، يقال إنه كان يحفظ نهج البلاغة ويعبر ألفاظه، وكان فصيحا بليغا يكتب كلامه ويروي عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية.
المعمر بن عبد الواحد ابن رجار أبو أحمد الاصبهاني أحد الحفاظ الوعاظ، روى عن أصحاب أبي نعيم، وكانت له
معرفة جيدة بالحديث، توفي وهو ذاهب إلى الحج بالبادية رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة في صفر منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوما، بحيث ضيقوا على أهلها، وقتلوا أمما كثيرة، جاؤوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية وخوفا من استيلاء المسلمين على القدس، فكتب صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده عليهم، ويطلب منه أن يرسل إليه بأمداد من الجيوش، فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء، وإن قعد عن الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلا لهم يتقوون بها على أخذ مصر.
فأرسل إليه نور الدين ببعوث كثيرة، يتبع بعضها بعضا.
ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة فجلس خلال ديارهم، وغنم من أموالهم وقتل وسبى شيئا كثيرا، وكان من جملة من أرسله إلى صلاح الدين أبوه الامير نجم الدين أيوب، في جيش من تلك الجيوش، ومعه بقية أولاده، فتلقاه الجيش من مصر، وخرج العاضد لتلقيه إكراما لولده، وأقطعه اسكندرية ودمياط، وكذلك لبقية أولاده، وقد أمد العاضد صلاح الدين في هذه الكائنة بألف ألف دينار حتى انفصلت الفرنج عن دمياط، وأجلت الفرنج عن دمياط لانه بلغهم أن نور الدين قد غزا بلادهم، وقتل خلقا من
__________
(1) ذكره في الوافي بالوفيات 3 / 209 باسم: محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان أبو الفتح بن أبي القاسم الحاجب.
وانظر شذرات الذهب 4 / 213.
وتذكرة الحفاظ 4 / 1321.
(2) قال في الوافي: مولده سنة 477.
فيكون له 87 سنة عند وفاته.
وانظر تذكرة الحفاظ ص 1321.
رجالهم، وسبى كثيرا من نسائهم وأطفالهم وغنم من أموالهم، فجزاه الله عن المسلمين خيرا.
ثم سار نور الدين في جمادى الآخرة إلى الكرخ (1) ليحاصرها - وكانت من أمنع البلاد - وكاد أن يفتحها ولكن بلغه أن مقدمين (2) من الفرنج قد أقبلا نحو دمشق، فخاف أن يلتف عليهما الفرنج فترك الحصار وأقبل نحو دمشق فحصنها، ولما انجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين فرحا شديدا، وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيدا، وقد كان الملك نور الدين شديد الاهتمام قوي الاغتمام
بذلك، حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءا في ذلك فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يتبسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لاستحي من الله أن يراني متبسما والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط.
وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: سلم على نور الدين وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط، فقلت: يا رسول الله بأي علامة ؟ فقال: بعلامة ما سجد يوم تل حارم وقال في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب ؟.
فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأخبره بالعلامة، فلما جاء إلى عند ذكر " من هو محمود الكلب " انقبض من قول ذلك، فقال له نور الدين: قل ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال ذلك: فقال: صدقت، وبكى نور الدين تصديقا وفرحا بذلك، ثم كشفوا فإذا الامر كما أخبر في المنام.
قال العماد الكاتب: وفي هذه السنة عمر الملك نور الدين جامع داريا، وعمر مشهد أبي سليمان الداراني بها، وشتى بدمشق.
وفيها حاصر الكرك أربعة أيام، وفارقه من هناك نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، متوجها إلى ابنه بمصر، وقد وصاه نور الدين أن يأمر ابنه صلاح الدين أن يخطب بمصر للخليفة المستنجد بالله العباسي، وذلك أن الخليفة بعث يعاتبه في ذلك.
وفيها قدم الفرنج من السواحل ليمنعوا الكرك من ثبيب بن الرقيق وابن القنقري (3)، وكانا أشجع فرسان الفرنج، فقصدهما نور الدين ليقابلهما فحادا عن طريقه.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وعمت أكثر الارض، وتهدمت أسوار كثيرة بالشام، وسقطت دور كثيرة على أهلها، ولا سيما بدمشق وحمص وحماه وحلب وبعلبك، سقطت أسوارها وأكثر قلعتها، فجدد نور الدين عمارة أكثر ما وقع بهذه الاماكن.
وفيها توفي:
__________
(1) في الكامل 11 / 352: الكرك.
(2) وهما: ابن هنفري وقريب بن الرقيق.
وفي الروضتين 1 / 2 / 465: فيليب بن الرفيق.
(3) انظر الحاشية السابقة.
الملك قطب الدين مودود بن زنكي أخو نور الدين محمود صاحب الموصل، وله من العمر أربعون سنة، ومدة ملكه منها إحدى وعشرون سنة (1)، وكان من خيار الملوك، محببا إلى الرعية، عطوفا عليهم، محسنا إليهم، حسن الشكل.
وتملك من بعده ولده سيف الدين غازي من الست خاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق أصحاب ماردين، وكان مدبر مملكته والمتحكم فيها فخر الدين عبد المسيح، وكان ظالما غاشما.
وفيها كانت حروب كثيرة بين ملوك الغرب بجزيرة الاندلس، وكذلك كانت حروب كثيرة بين ملوك الشرق أيضا.
وحج بالناس فيها وفيما قبلها الامير برغش الكبير، ولم أر أحدا من أكابر الاعيان توفي فيها.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة فيها كانت وفاة المستنجد وخلافة ابنه المستضئ، وذلك أن المستنجد كان قد مرض في أول هذه السنة، ثم عوفي فيما يبدو للناس، فعمل ضيافة عظيمة بسبب ذلك، وفرح الناس بذلك، ثم أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، ويقال: إن ذلك كان بإشارة بعض الدولة على الطبيب، استعجالا لموته، توفي يوم السبت بعد الظهر ثاني (2) ربيع الآخر من ثمان وأربعين سنة (3)، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وشهرا (4)، وكان من خيار الخلفاء وأعدلهم وأرفقهم بالرعايا، ومنع عنهم المكوس والضرائب، ولم يترك بالعراق مكسا، وقد شفع إليه بعض أصحابه في رجل شرير، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له الخليفة أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وائتني بمثله لاريح المسلمين من شره، وكان المستنجد أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثين من العباسيين وذلك في الجمل لام باء ولهذا قال فيه بعض الادباء: أصبحت لب بني العباس جملتها * إذا عددت حساب الجمل الخلفا
__________
(1) في الكامل 11 / 355 زيد: وخمسة أشهر ونصفا.
وفي العبر لابن خلدون 5 / 249: لاحدى وعشرين سنة ونصف.
(2) في الكامل 11 / 360 وتاريخ أبي الفداء 3 / 49 وفي المنتظم 10 / 236 ومرآة الزمان 8 / 285 ونهاية الارب 12 / 299: تاسع ربيع الآخر.
(3) قال ابن الاثير في تاريخه: وكان مولده مستهل ربيع الآخر سنة 510 فعلى ما ذكره يكون له عند وفاته من العمر ست وأربعون سنة.
(4) في الكامل زاد: وستة أيام.
وفي نهاية الارب 12 / 299 زاد: وأيام.
وفي دول الاسلام 2 / 279: إحدى عشرة سنة وأياما.
وهو ما يتفق مع الروضتين 1 / 2 / 484.
وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، وقد رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: قل اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، دعاء القنوت بتمامه.
وصلي عليه يوم الاحد قبل الظهر، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة رحمه الله تعالى.
خلافة المستضئ وهو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي، وأمه أرمنية تدعى عصمت، وكان مولده في شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
بويع بالخلافة يوم مات أبوه بكرة الاحد تاسع ربيع الآخر، وبايعه الناس، ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي غير هذا، ووافقه في الكنية أيضا، وخلع يومئذ على الناس أكثر من ألف خلعة، وكان يوما مشهودا، وولى قضاء قضاة بغداد الروح بن الحدثني يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الاستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه الدبابات (1) ثلاثة أوقات الفجر والمغرب والعشاء، وأمر سبعة عشر أميرا من المماليك وأذن للوعاظ فتكلموا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجابه، ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل قال العماد الكاتب: قد أضاء الزمان بالمستضئ * وارث البرد وابن عم النبي جاء بالحق والشريعة والعد * ل فيا مرحبا بهذا المحيي (2)
فهنيئا لاهل بغداد فازوا * بعد بؤس بكل عيش هني ومضى إن كان في الزمن المظ * لم بالعود في الزمان المضي وفيها سار الملك نور الدين إلى الرقة فأخذها، وكذا نصيبين والخابور وسنجار، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه (3) مودود بن عماد الدين، ثم سار إلى الموصل فأقام بها أربعة وعشرين يوما، وأقرها على ابن أخيه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، مع الجزيرة، وزوجه ابنته الاخرى، وأمر بعمارة جامعها وتوسعته، ووقف على تأسيسه بنفسه، وجعل له خطيبا ودرسا للفقه، وولي التدريس للفقيه أبي بكر البرقاني، تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكتب له
__________
(1) جمع دبابة شبه برج متحرك، يتكون أحيانا من أربع طبقات، من الخشب والرصاص والحديد والنحاس ويتحرك على عجلات، ويستقر الجنود داخله في طبقاته لمهاجمة الحصون وتسلق الاسوار.
والدبابة في أبسط صورها تتكون من الخشب المكسو بالجلد المنقوع في الخل لصيانتها من الاحتراق (السلوك 1 / 56 حاشية: 8).
(2) في الروضتين 1 / 2 / 485: المجي.
(3) في الكامل وابن خلدون: عماد الدين ابن أخيه، قطب الدين مودود.
منشورا بذلك، ووقف على الجامع قرية من قرى الموصل، وذلك كله بإشارة الشيخ الصالح العابد ؟ عمر الملا، وقد كانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة في شهر المولد، يحضر فيها عنده الملوك والامراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك، وقد كان الملك نور الدين صاحبه، وكان يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وهو الذي أشار عليه في مدة مقامه في الموصل بجميع ما فعله من الخيرات، فلهذا حصل بقدومه لاهل الموصل كل مسرة، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عبد المسيح، وسماه عبد الله، وأخذه معه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وقد كان عبد المسيح هذا نصرانيا فأظهر الاسلام، وكان يقال إن له كنيسة في جوف داره، وكان سئ السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة، ولما دخل نور الدين الموصل كان الذي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وحين دخل نور الدين الموصل خرج إليه
ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إلى البلد في أبهة عظيمة، ولم يدخل نور الدين الموصل حتى قوي الشتاء فأقام بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: طابت لك بلدك وتركت الجهاد وقتال أعداء الله ؟ فنهض من فوره إلى السفر، وما أصبح إلا سائرا إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أبي عصرون، وكان معه على سنجار ونصيبين والخابور، فاستناب فيها ابن أبي عصرون نوابا وأصحابا.
وفيها عزل صلاح الدين قضاة مصر لانهم كانوا شيعة، وولى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية (1)، واشترى ابن أخيه تقي الدين عمر دارا تعرف بمنازل العز، وجعلها مدرسة للشافعية ووقف عليها الروضة وغيرها.
وعمر صلاح الدين أسوار البلد، وكذلك أسوار اسكندرية، وأحسن إلى الرعايا إحسانا كثيرا، وركب فأغار على بلاد الفرنج بنواحي عسقلان وغزة وضرب قلعة كانت لهم على أيلة، وقتل خلقا كثيرا من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون من الشام، واجتمع شمله بهم بعد فرقة طويلة.
وفيها قطع صلاح الدين الاذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها، وشرع في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر.
وممن توفي فيها من الاعيان.
__________
(1) المدرسة الشافعية أقيمت في دار المعونة وكانت حبسا للشحنة، كانت دارا للشرطة، ثم حولت في عهد العزيز بالله الفاطمي إلى سجن عرف بسجن المعونة ثم حولها صلاح الدين إلى مدرسة للشافعية.
والمدرسة المالكية، في دار الغزل وكانت قبل ذلك قيسارية يباع فيها الغزل ; وعرفت كذلك باسم المدرسة القمحية لان القمح كان يوزع على فقهائها من ضيعة بالفيوم أوقفها صلاح الدين عليها (مفرج الكروب 1 / 197 - 198).
طاهر بن محمد بن طاهر أبو زرعة المقدسي الاصل، الرازي المولد، الهمداني الدار، ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وأسمعه والده الحافظ محمد بن طاهر الكثير، ومما كان يرويه مسند الشافعي، توفي بهمدان
يوم الاربعاء سابع ربيع الآخر، وقد قارب التسعين.
يوسف القاضي أبو الحجاج بن الخلال صاحب ديوان الانشاء بمصر، وهو شيخ القاضي الفاضل في هذا الفن، اشتغل عليه فيه فبرع حتى قدر أنه صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان القاضي الفاضل يقوم به وبأهله حتى مات، ثم كان بعد موته كثير الاحسان إلى أهله رحمهم الله.
يوسف بن الخليفة المستنجد بالله بن المقتفي بن المستظهر، تقدم ذكر وفاته وترجمته، وقد توفي بعده عمه أبو نصر بن المستظهر بأشهر، ولم يبق بعده أحد من ولد المستظهر، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة منها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة فيها كانت وفاة العاضد صاحب مصر في أول جمعة منها، فأمر صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يوما مشهودا، ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك، مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي، فزينت بغداد وغلقت الاسواق، وعملت القباب وفرح المسلمون فرحا شديدا، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي، حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز الفاطمي، باني القاهرة، إلى هذا الآن، وذلك مائتا سنة وثمان سنين.
قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتابا سميته النصر على مصر.
موت العاضد آخر خلفاء العبيديين والعاضد في اللغة القاطع، " لا يعضد شجرها " لا يقطع، وبه قطعت دولتهم، واسمه عبد
الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور القاهري، أبي الغنائم بن المهدي أولهم، كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة وكانت سيرته مذمومة، وكان شيعيا خبيثا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة، واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قبل وفاته، وكان المستنجد إذ ذاك مدنفا مريضا، فلما مات تولى بعده ولده، فكانت الخطبة بمصر له، ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم عاشوراء، فحضر الملك صلاح الدين جنازته وشهد عزاه، وبكى عليه وتأسف، وظهر منه حزن كثير عليه، وقد كان مطيعا له فيما يأمره به، وكان العاضد كريما جوادا سامحه الله.
ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم (1)، وأجرى عليهم الارزاق والنفقات الهنية، والعيشة الرضية، عوضا عما فاتهم من الخلافة، وكان صلاح يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدرا مقدورا.
ومما نظمه العماد في ذلك: توفي العاضد الدعي فما * يفتح ذو بدعة بمصر فما وعصر فرعونها انقضى وغدا * يوسفها في الامور محتكما قد طفئت جمرة الغواة وقد * داخ من الشرك كل ما اضطرما وصار شمل الصلاح ملتئما * بها، وعقد السداد منتظما لما غدا مشعرا (2) شعار بني ال * عباس حقا والباطل اكتتما وبات داعي التوحيد منتظرا (3) * ومن دعاة الاشراك منتقما وظل أهل الضلال في ظلل * داجية من غبائة وعمى وارتكس الجاهلون في ظلم * لما أضاءت منابر العلما وعاد بالمستضئ معتليا (4) * بناء حق بعد ما كان منهدما أعيدت الدولة التي اضطهدت * وانتصر الدين بعدما اهتضما
واهتز عطف الاسلام من جلل * وافتر ثغر الاسلام وابتسما
__________
(1) قال أبو شامة في الروضتين: جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه في القاهرة، وهي دار كبيرة واسعة ثم ؟ قلوا بعد الدولة الصلاحية منها وأبعدوا عنها - وبرجوان وزير الحاكم بأمر الله الفاطمي قتل سنة 390 - (انظر 1 / 2 / 494).
(2) في الروضتين 1 / 2 / 496: معلنا.
(3) في الروضتين: منتصرا.
(4) في الروضتين: مجتهدا.
واستبشرت أوجه الهدى فرحا * فليقرع الكفر سنه ندما عاد حريم الاعداء منتهك الحمى وفي الطغاة منقسما (1) قصور أهل القصور أخربها * عامر بيت من الكمال سما أزعج بعد السكوت ساكنها * ومات ذلا وأنفه رغما ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضئ بالخطبة له بمصر وأعمالها: ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت * إليك به خوض الركائب توجف أخذت به مصرا وقد حال دونها * من الشرك يأس في لها الحق يقذف (2) فعادت بحمد الله باسم إمامنا * تتيه على كل البلاد وتشرف ولا غرو إن ذلت ليوسف مصره * وكانت إلى عليائه تتشوف فشابهه خلقا وخلقا وعفة * وكل عن الرحمن في الارض يخلف كشفت بها عن آل هاشم سبة * وعارا أبى إلا بسيفك يكشف وقد ذكر ذلك أبو شامة في الروضتين، وهي أطول من هذه، وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن بركات (3) الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد، وهكذا ذكر ابن الجوزي: أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه المستضئ، فجرى
المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر.
قال ابن أبي طي في كتابه: ولما تفرغ صلاح الدين من توطيد الملكة وإقامة الخطبة والتعزية، استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والامتعة والآلات والملابس والمفارش شيئا باهرا، وأمرا هائلا، من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الابهام، وحبل من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المانع، وطبل للقولنج (4) إذا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عنه ما يجده من القولنج، فاتفق أن بعض امراء الاكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه، فضرب عليه فحبق - أي ضرط - فألقاه من يده على الارض فكسره فبطل أمره.
وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه، وقسم بين الامراء شيئا كثيرا
__________
(1) في الروضتين مقتسما.
(2) في الروضتين: من الشرك ناس في لهى الحق تقذف.
(3) في الروضتين 1 / 2 / 500: تركان، قال وكان حاجب ابن هبيرة.
(4) القولنج: مرض معوي يعسر معه خروج الثقل والريح (القاموس المحيط).
من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والاثاث والامتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر البيع فيما بقي هنالك من الاثاث والامتعة نحوا من عشر سنين، وأرسل إلى الخليفه ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وكذلك إلى الملك نور الدين، أرسل إليه من ذلك جانبا كثيرا صالحا، ولم يدخر لنفسه شيئا مما حصل له من الاموال، بل كان يعطي ذلك من حوله من الامراء وغيرهم، فكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش زنة الواحدة إحدى وثلاثون مثقالا، والاخرى ثمانية عشر مثقالا، والثالثة عشرة مثاقيل، وقيل أكثر مع لآلئ كثيرة، وستون ألف دينار، وعطر لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وفيل عظيم جدا، فأرسلت الحمارة إلى
الخليفة في جملة هدايا.
قال ابن أبي طي: ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الاسلام نظير، تشتمل على ألفي ألف مجلد (1)، قال ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، وكذا قال العماد الكاتب: كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد.
وقال ابن الاثير: كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، وقد تسلمها القاضي الفاضل، فأخذ منها شيئا كثيرا مما اختاره وانتخبه، قال وقسم القصر الشمالي بين الامراء فسكنوه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج، يقال له اللؤلؤة (2)، الذي فيه بستان الكافوري وأسكن أكثر الامراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين، ولا يلقى أحد من الاتراك أحدا من أولئك الذين كانوا بها من الاكابر إلا شلحوه ثيابه ونهبوا داره، حتى تمزق كثير منهم في البلاد، وتفرقوا شذر مذر وصاروا أيدي سبأ.
وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا (3)، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها.
وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادا اسمه عبيد، وكان يهوديا، فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والائمة بعد الاربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكا مطاعا، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض.
ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الظاهر علي، ثم أبنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد،
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 507: ألفي ألف وستمائة ألف كتاب.
(2) اللؤلؤة أو قصر اللؤلؤة من قصور الفاطميين يطل من شرقيه على البستان الكافوري الذي أنشأه محمد بن طغج الاخشيد واهتم به من بعده ولداه ثم عبده كافور.
(3) في الكامل 11 / 370: مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهر تقريبا.
ثم ابنه الآمر منصور، ثم أبن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة، وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضا، ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوز تابعة لارجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي.
وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد طرابلس وإنطاكية وجميع ما والى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقا وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عزوجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة: أصبح الملك بعد آل علي * مشرقا بالملوك من آل شادي وغدا الشرق يحسد الغر * ب للقوم فمصر تزهو على بغداد ما حووها إلا بعزم وحزم * وصليل الفولاذ في الاكباد لا كفرعون والعزيز ومن * كان بها كالخطيب والاستاد (1) قال أبو شامة: يعني بالاستاد كأنه نور الاخشيدي، وقوله آل علي يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدا، وكان يهوديا حدادا بسلمية،
ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الائمة فيهم وطعنهم في نسبهم.
قال: وقد استقصيت الكلام في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في الروضتين (2) في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم، وما كانوا يجهرون به في بعض الاحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شئ كثير في تراجمهم، قال أبو شامة: وقد أفردت كتابا سميته " كشف ما كان عليه بنو عبيد من
__________
(1) الابيات في الروضتين 1 / 2 / 509 وقافيتها بالذال.
وانظر الخريدة قسم شعراء الشام 1 / 302.
وفي الروضتين الخصيب بدل الخطيب، والخصيب هو الخصيب بن عبد الحميد والي خراج مصر زمن الرشيد وإليه تنسب منية ابن خصيب.
(2) انظر الروضتين 1 / 2 / 510 وما بعدها.
الكفر والكذب والكر والكيد " (1) وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة، من أجل ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني، الذي سماه " كشف الاسرار وهتك الاستار " وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر: أبدتم من بلى (2) دولة الكفر من * بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل زنادقة، شيعية، باطنية * مجوس وما في الصالحين لهم أصل يسرون كفرا، يظهرون تشيعا * ليستروا سابور عمهم الجهل وفيها أسقط الملك صلاح الدين عن أهل مصر المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الاشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر.
وفيها حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدين، وذلك أن نور الدين غزا في هذه السنة بلاد الفرنج في سواحل فأحل بهم بأسا شديدا، وقرر في أنفسهم منه نقمة ووعيدا، ثم عزم على محاصرة الكرك وكتب إلى صلاح الدين يلتقيه بالعساكر المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صلاح الدين وخاف أن يكون لهذا الامر غائلة يزول بها ما حصل له من التمكن من بلاد مصر، ولكنه مع ذلك ركب في جيشه من مصر لاجل امتثال المرسوم، فسار أياما، ثم كر راجعا
معتلا بقلة الظهر، والخوف على اختلال الامور إذا بعد عن مصر واشتغل عنها، وأرسل يعتذر إلى نور الدين.
فوقع في نفسه منه، واشتد غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غيره، ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه، وذكر ذلك بحضرة الامراء والكبراء، فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر وقال: والله لو قصدنا نور الدين لنقاتله، فشتمه الامير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وأسكته، ثم قال لابنه: اسمع ما أقول لك، والله ما ههنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا - يعني شهاب الدين الحارمي - ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الارض بين يديه، وكذلك بقية الامراء والجيش، ولو كتب إلى أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت، ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب، فلما خلى بابنه قال له: أما لك عقل ؟ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه، فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، ولكن ابعث إليه وترفق له وتواضع عنده، وقل له: وأي حاجة إلى مجئ مولانا السلطان إلى قتالي ؟ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجئ معه إلى بين يديك.
فبعث إليه بذلك فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام لان قلبه له، وانصرفت همته عنه، واشتغل بغيره، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
__________
(1) لم أعثر فيما بين أيدينا من مراجع لهذا الكتاب من أثر.
(2) في الروضتين: ألستم مزيلي..
وفيها اتخذ نور الدين الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته واتساعها، فإنه ملك من حد النوبة إلى همذان لا يتخللها إلى بلاد الفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته، ولذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي تحمل الرسائل إلى الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب ذلك العماد الكاتب، وأطرب وأعجب وأغرب.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد الله بن أحمد ابن أحمد بن أحمد أبو محمد بن الخشاب، قرأ القرآن وسمع الحديث، واشتغل بالنحو حتى ساد أهل زمانه فيهما، وشرح الجمل لعبد القاهر [ الجرجاني ]، وكان رجلا صالحا متطوعا، وهذا نادر في النحاة، توفي في شعبان من هذه السنة ودفن قريبا من الامام أحمد، ورئي في المنام فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال غفر لي وأدخلني الجنة إلا أنه أعرض عني وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول، قال ابن خلكان: كان مطرحا للكلفة في مأكله وملبسه، وكان لا يبالي بمن شرق أو غرب.
محمد بن محمد بن محمد أبو المظفر الدوي (1)، تفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وناظر ووعظ ببغداد، وكان يظهر مذهب الاشعري، ويتكلم في الحنابلة مات في رمضان منها.
ناصر بن الجوني الصوفي كان يمشي في طلب الحديث حافيا، توفي ببغداد.
قال أبو شامة: وفيها توفي.
نصر الله [ بن عبد الله ] أبو الفتوح الاسكندري المعروف بابن قلاقس الشاعر بعيذاب (2)، توفي عن خمس وأربعين سنة (3).
__________
(1) في الوافي بالوفيات 1 / 279 والكامل 11 / 376: البروي.
أبو منصور الفقيه الشافعي ; وفي شذرات الذهب 4 / 224: أبو حامد البروي.
(2) عيذاب: بليدة على شاطئ بحر جدة.
(3) في الروضتين 1 / 2 / 524: خمس وثلاثون سنة، قال وكانت ولادته سنة 532 وانظر وفيات الاعيان 5 / 388.
والشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي، نزل الموصل المقري النحوي، قال: وفيها ولد لعزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين عمر.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة فيها أرسل نور الدين إلى صلاح الدين - وكان الرسول الموفق خالد بن القيسراني - ليقيم حساب الديار المصرية، وذلك لان نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إليه من خزائن العاضد، ومقصوده أن يقرر على الديار المصرية خراجا منها في كل عام.
وفيها حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها، وخرب أماكن كثيرة من معاملاتها، ولكن لم يظفر بها عامه ذلك.
وفيها اجتمعت الفرنج بالشام لقصد زرع (1)، فوصلوا إلى سمسكين فبرز إليهم نور الدين فهربوا منه إلى الغور، ثم إلى السواد، ثم إلى الشلالة، فبعث سرية إلى طبرية فعاثوا هنالك وسبوا وقتلوا وغنموا وعادوا سالمين، ورجع الفرنج خائبين.
وفيها أرسل السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة نورشاه إلى بلاد النوبة فافتتحها، واستحوذ على معقلها وهو حصن يقال له إبريم، ولما رآها بلدة قليلة الجدوى لا يفي خراجها بكلفتها، استخلف على الحصن المذكور رجلا من الاكراد يقال له إبراهيم، فجعله مقدما مقررا بحصن إبريم، وانضاف إليه جماعة من الاكراد البطالين، فكثرت أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم.
وفيها كانت وفاة الامير نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين، سقط عن فرسه فمات وسنأتي على ترجمته في الوفيات.
وفيها سار الملك نور الدين إلى بلاد عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وأصلح ما وجده فيها من الخلل.
ثم سار فافتتح مرعش وبهسا (2)، وعمل في كل منهما بالحسنى.
قال العماد: وفيها وصل الفقيه الامام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الجاروق (3)، ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية، فأدركه الاجل قبل ذلك.
قال أبو شامة: وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب.
وفيها رجع شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد وقد أدى الرسالة بالخطبة العباسية بالديار المصرية،
__________
(1) كذا بالاصل، وفي تاريخ ابن الاثير 11 / 385:...وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه.
(2) كذا بالاصل: بهسنا.
وفي ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء: بهنسى.
قال ياقوت: وبهسنا بالالف، قلعة قرب سميساط ومرعش، وكانت من أعمال حلب.
(3) من الروضتين، وفي الاصل الحاروق، وهي المدرسة الجازوخية وكانت داخل بابي الفرج والفراديس شمالي الجامع الاموي بناها سيف الدين جاروخ التركماني (الدارس في المدارس 1 / 225).
ومعه توقيع من الخلافة بإقطاع درب هارون وصريفين لنور الدين، وقد كانتا قديما لابيه عماد الدين زنكي، فأراد نور الدين أن ينشئ ببغداد مدرسة على حافة الدجلة، ويجعل هذين المكانين وقفا عليها فعاقه القدر عن ذلك.
وفيها وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه، استقصاها ابن الاثير وابن الساعي.
وفيها هزم ملك الارمن مليح بن ليون عساكر الروم، وغنم منهم شيئا كثيرا، وبعث إلى نور الدين بأموال كثيرة، وثلاثين رأسا من رؤوس كبارهم، ؟ أرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضئ.
وفيها بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقوش مملوك تقي ؟ ؟ دين عمر بن شاهنشاه إلى بلاد إفريقية، فملكوا طائفة كثيرة منها، من ذلك مدينة طرابلس الغرب ؟ عدة مدن معها.
وممن توفي فيها من الاعيان...إيلدكز التركي الاتابكي صاحب أذربيجان وغيرها، كان مملوكا للكمال السميرمي وزير السلطان محمود، ثم علا أمره ؟ تمكن وملك بلاد أذربيجان وبلاد الجبل وغيرها، وكان عادلا منصفا شجاعا محسنا إلى الرعية، توفي ؟ ؟ مدان.
الامير نجم الدين أبو الشكر أيوب بن شادي ابن مروان، زاد بعضهم بعد مروان بن يعقوب، والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد ؟ ادي أحد في نسبهم، وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ؟ هذا ليس بصحيح، والذي نسب إليه ادعاء هذا هو أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن
؟ ؟ ادي ويعرف بابن سيف الاسلام، وقد ملك اليمن بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعى الخلافة وتلقب ؟ الامام الهادي بنور الله ولهجوا بذلك وقال هو في ذلك: وأنا (1) الهادي الخليفة والذي * أدوس رقاب الغلب بالضمر الجرد ولا بد من بغداد أطوي ربوعها * وأنشرها نشر الشماس على البرد (2) وأنصب أعلامي على شرفاتها * وأحيي بها ما كان أسه جدي ويخطب لي فيها على كل منبر * وأظهر أمر الله في الغور والنجد
__________
1) في الروضتين 1 / 2 / 535: وإني أنا...2) في الروضتين: نشر السماسر للبرد.
وما ادعاه ليس بصحيح، ولا أصل له يعتمد عليه، ولا مستند يستند إليه، والمقصود أن الامير نجم الدين كان أسن من أخيه أسد الدين شيركوه، ولد بأرض الموصل، كان الامير نجم الدين شجاعا، خدم الملك محمد بن ملكشاه فرأى فيه شهامة وأمانة، فولاه قلعة تكريت، فحكم فيها فعدل، وكان من أكرم الناس، ثم أقطعها الملك مسعود لمجاهد الدين نهروز (3) شحنة العراق، فاستمر فيها، فاجتاز به في بعض الاحيان الملك عماد الدين زنكي منهزما من قراجا الساقي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة، وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خمسة عشر يوما، ثم ارتحل إلى بلده الموصل، ثم اتفق أن نجم الدين أيوب عاقب رجلا نصرانيا فقتله، وقيل إنما قتله أخوه أسد الدين شيركوه، وهذا بخلاف الذي ذكره ابن خلكان، فإنه قال: رجعت جارية من بعض الخدم فذكرت له أنه تعرض لها اسفهسلار الذي بباب القلعة، فخرج إليه أسد الدين فطعنه بحربة فقتله، فحبسه أخوه نجم الدين وكتب إلى مجاهد الدين نهروز (1) يخبره بصورة الحال، فكتب إليه يقول: إن أباكما كانت له علي خدمة، وكان قد استنابه في هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين أيوب، وإني أكره أن أسوءكما، ولكن انتقلا منها.
فأخرجهما نهروز من قلعته، وفي ليلة خروجه منها ولد له الملك الناصر صلاح الدين يوسف.
قال فتشاءمت به لفقدي بلدي ووطني، فقال له بعض الناس: قد نرى ما
أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون هذا المولود ملكا عظيما له صيت ؟ فكان كما قال، فاتصلا بخدمة الملك عماد الدين زنكي أبي نور الدين، ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده، وارتفعت منزلتهما وعظما، فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبك، وكان أسد الدين من أكبر أمرائه، ولما تسلم بعلبك أقام مدة طويلة، وولد له فيها أكثر أولاده، ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية.
ثم إنه في ذي الحجة سقط عن فرسه ؟ ؟ ؟ ات بعد ثمانية أيام في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابنه صلاح الدين محاصر الكرك غائبا عنه، فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره، وأرسل يتحرق ويتحزن، وأنشد: وتخطفه يد الردى في غيبتي * هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع ؟ وقد كان نجم الدين أيوب كثير الصلاة والصدقة والصيام، كريم النفس جوادا ممدحا قال ابن خلكان: وله خانقاه بالديار المصرية، ومسجد وقناة خارج باب النصر من القاهرة، وقفها في سنة ست وستين.
قلت: وله بدمشق خانقاه أيضا، تعرف بالنجمية، وقد استنابه ابنه على الديار المصرية حين خرج إلى الكرك، وحكمه في الخزائن، وكان من أكرم الناس، وقد امتدحه الشعراء كالعماد وغيره ورثوه بمراث كثيرة، وقد ذكر ذلك مستقصى الشيخ أبو شامة في الروضتين، ودفن مع أخيه أسد الدين بدار الامارة، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين، فدفنا بتربة الوزير
__________
(1) في الكامل والروضتين: بهروز.
جمال الدين الموصلي، الذي كان مواخيا لاسد الدين شيركوه، وهو الجمال المتقدم ذكره، الذي ليس بين ترتبته ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مقدار سبعة عشر ذراعا، فدفنا عنده، قال أبو شامة: وفي هذه السنة توفي ملك الرافضة والنحاة.
الحسن بن صافي بن بزدن التركي كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيا خبيثا متعصبا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره
ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة.
وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك وذكر ابن الساعي في تاريخه أنه كان في صغره شابا حسنا مليحا معشوقا للاكابر من الناس.
قال ولشيخنا أبي اليمن الكندي فيه، وقد رمدت عينه: بكل صباح لي وكل عشية * وقوف على أبو ابكم وسلام وقد قيل لي يشكو سقاما بعينه * فها نحن منها نشتكي ونضام ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة قال ابن الجوزي في المنتظم: إنه سقط عندهم ببغداد برد كبار كالنارنج، ومنه ما وزنه سبعة أرطال، ثم أعقب ذلك سيل عظيم، وزيادة عظيمة في دجلة، لم يعهد مثلها أصلا، فخرب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع، حتى القبور، وخرج الناس إلى الصحراء، وكثر الضجيج والابتهال إلى الله حتى فرج الله عزوجل، وتناقصت زيادة الماء بحمد الله ومنه، قال: وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وانهدم بالماء نحو من ألفي دار، واستهدم بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الردم خلق كثير، وكذلك الفرات زادت زيادة عظيمة، فهلك بسببها شئ كثير من القرى، وغلت الاسعار بالعراق في هذه السنة في الزروع والثمار، ووقع الموت في الغنم، وأصيب كثير ممن أكل منها بالعراق وغيرها.
قال ابن الساعي: وفي شوال منها توالت الامطار بديار بكر والموصل أربعين يوما وليلة لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين، ثم تستتر بالغيوم، فتهدمت بيوت كثيرة، ومساكن على أهلها، وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة، وغرق كثير من مساكن بغداد والموصل، ثم تناقص الماء بإذن الله.
قال ابن الجوزي: وفي رجب وصل ابن الشهرزوري من عند نور الدين ومعه ثياب مصرية، وحمارة ملونة جلدها مخطط مثل الثوب العتابي.
وفيها عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أبو الخير القزويني.
قال: وفي جمادى الآخرة اعتقل المجير الفقيه
ونسب إلى الزندقة وإلانحلال وترك الصلاة والصوم، فغضب له ناس وزكوة وأخرج، وذكر أنه وعظ
بالحدثية فاجتمع عنده قريبا من ثلاثين ألفا.
قال ابن الساعي: وفيها سقط أحمد بن أمير المؤمنين المستضئ من قبة شاهقة إلى الارض فسلم، ولكن نبت يده اليمنى وساعده اليسرى، وانسلخ شئ من أنفه، وكان معه خادم أسود يقال له نجاح، فلما رأى سيده قد سقط ألقى هو نفسه أيضا خلفه، وقال: لا حاجة لي في الحياة بعده، فسلم أيضا، فلما صارت الخلافة إلى أبي العباس الناصر - وهو هذا الذي قد سقط - لم ينسها لنجاح هذا، فحكمه في الدولة وأحسن إليه، وقد كانا صغيرين لما سقطا.
وفيها سار الملك نور الدين نحو بلاد الروم وفي خدمته الجيش وملك الارمن وصاحب ملطية، وخلق من الملوك والامراء، وافتتح عدة من حصونهم، وحاصر قلعة الروم فصالحه صاحبها بخمسين ألف دينار جزية، ثم عاد إلى حلب وقد وجد النجاح في كل ما طلب، ثم أتى دمشق مسرورا محبورا.
وفيها كان فتح بلاد اليمن للملك صلاح الدين، وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بلغه أن بها رجلا يقال له عبد النبي بن مهدي، وقد تغلب عليها ودعا إلى نفسه وتسمى بالامام، وزعم أنه سيملك الارض كلها، وقد كان أخوه علي بن مهدي قد تغلب قبله عليها، وانتزعها من أيدي أهل زبيد، ومات سنة ستين فملكها بعده أخوه هذا، وكل منهما كان سئ السيرة والسريرة، فعزم صلاح الدين لكثرة جيشه وقوته على إرسال سرية إليه، وكان أخوه الاكبر شمس الدولة شجاعا مهيبا بطلا وكان ممن يجالس عمارة اليمني الشاعر، وكان عمارة ينعت له بلاد اليمن وحسنها وكثرة خيرها، فحداه ذلك على أن خرج في تلك السرية في رجب من هذه السنة، فورد مكة فاعتمر بها ثم سار منها إلى زبيد، فخرج إليه عبد النبي فهزمه توران شاه، وأسره وأسر زوجته الحرة، وكانت ذات أموال جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة، وذخائر جليلة، ونهب الجيش زبيد، ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وأسره، وأخذ البلد بيسير من الحصار، ومنع الجيش من نهبها، وقال ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لعمارتها وملكها، ثم سار في الناس سيرة حسنة عادلة فأحبوه، ثم تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف، واستوسق له ملك اليمن بحذافيره وألقى إليه أفلاذ كبده ومطاميره، وخطب للخليفة العباسي المستضئ، وقتل الدعي المسمى بعبد النبي، وصفت اليمن من أكدارها، وعادت إلى ما سبق من مضمارها، وكتب بذلك إلى الملك الناصر يخبره بما فتح
الله عليه، وأحسن إليه، فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين، فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له.
وفيها خرج الموفق خالد بن القيسراني من الديار المصرية، وقد أقام بها الملك الناصر حساب الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رسم به الملك نور الدين كما تقدم، وقد كاد صلاح الدين لما جاءته الرسالة بذلك يظهر شق العصا ويواجه بالمخالفة والاباء، لكنه عاد إلى طباعه الحسنة وأظهر الطاعة المستحسنة، وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب، فبادر إلى ذلك جماعة الدواوين والحساب والكتاب، وبعث مع ابن القيسراني بهدية سنية وتحف هائلة هنية، فمن ذلك خمس ختمات شريفات مغطات بخطوط مستويات ; ومائة
عقد من الجواهر النفيسات، خارجا عن قطع البلخش واليواقيت، والفصوص والثياب الفاخرات، والاواني والاباريق والصحاف الذهبيات والفضيات، والخيول المسومات، والغلمان والجواري الحسان والحسنات، ومن الذهب عشرة صناديق مقفلات مختومات، مما لا يدرى كم فيها من مئين ألوف ومئات، من الذهب المصري المعد للنفقات.
فلما فصلت العير من الديار المصرية لم تصل إلى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الارضين والسموات، فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه، ويقال إن منها ما عدي عليه وعلم بذلك حين وضعت بين يديه.
مقتل عمارة بن أبي الحسن ابن زيدان الحكمي من قحطان، أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الفقيه الشاعر الشافعي، وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاما فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين، ووزيرا وأمراء وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج، إذا قدموا لنصرة الفاطميين، فخرج توران شاه ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، وقد أدخلوا معهم
فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالؤا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموال جزيلة، وأفاض عليه حللا جميلة، ثم استدعاهم السلطان واحدا واحدا فقررهم فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم، ثم عند ذلك أمر بقتل رؤسهم وأعيانهم، دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيد ؟ ن إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الارزاق والثياب، وكان عمارة معاديا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان لا تسمع منه، فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك، فندم ندما عظيما.
ولما ذهب به ليصلب مر بدار الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد: عبد الرحيم قد احتجب * إن الخلاص هو العجب قال ابن أبي طي: وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل القاضي، وهو أبو القاسم هبة الله ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب بفخر الامناء، فكان أول
من صلب فيما قاله العماد، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب، وله شعر رائق، فمن ذلك قوله في غلام رفاء: يا رافيا خرق كل ثوب * وما رفا (1) حبه اعتقادي عسى بكف الوصال ترفو * ما مزق الهجر من فؤادي وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدل عليها، فامتنع من ذلك فمات واندرست.
والعويرس وهو ناظر الديوان، وتولى مع ذلك القضاء.
وشبريا وهو كاتب السر.
وعبد الصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي ومنجم نصراني كان قد بشرهم بأن هذا الامر يتم بعلم النجوم.
وعمارة اليمني الشاعر وكان عمارة شاعرا مطيقا بليغا فصيحا، لا يلحق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في طبقات الشافعية لانه كان يشتغل بمذهب الشافعي، وله مصنف في الفرائض، وكتاب الوزراء الفاطميين، وكتاب جمع سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبا فاضلا فقيها، غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا وأقل ما كان ينسب إلى الرفض، وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العماد في الخريدة أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها (2): العلم مذ كان محتاج إلى العلم * وشفرة السيف تستغني عن القلم وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة.
قال وفيها: قد كان أول هذا الدين من رجل * سعى إلى أن دعوه سيد الامم قال العماد فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله، قال ويجوز أن يكون هذا البيت معمولا عليه والله أعلم.
وقد أورد ابن الساعي شيئا من رقيق شعره فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك: إذا (3) قابلت بشرى جبينه * فارقته والبشر فوق جبيني
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 571: ويا رشا.
(2) انظر مفرج الكروب 1 / 238 - 240 والروضتين 1 / 2 / 552 - 553 - النكت العصر ؟ ة ص 352.
(3) أوله في الروضتين 1 / 2 / 572: ملك إذا...
وإذا لثمت يمينه وخرجت من * بابه (1) لثم الملوك يميني ومن ذلك قوله (2): لي في هوى الرشا العذري إعذار * لم يبق لي مدا قسر (3) الدمع إنكار لي في القدود وفي لثم الخدو * د وفي ضم النهود لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به * وإلا فدعني لما أهوى وأختار ومما أنشده الكندي (4) في عمارة اليمني حين صلب: عمارة في الاسلام أبدى جناية * وبايع فيها بيعة وصليبا وأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب الصليب صليبا (5) سيلقى غدا ما كان يسعى لنفسه * ويسقى صديدا في لظى وصليبا قال الشيخ أبو شامة: فالاول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع ودك العظام.
ولما صلب الملك الناصر هؤلاء يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة، كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وبهم من الخزي والنكال، قال العماد: فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين رحمه الله تعالى، وكذلك قتل صلاح الدين رجلا من أهل الاسكندرية يقال له قديد القفاجي، كان قد افتتن به الناس، وجعلوا له جزءا من أكسابهم، حتى النساء من أموالهن، فأحيط به فأراد القفاجي الخلاص ولات حين مناص، فقتل أسوة فيمن سلف، ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه.
أسفي على زمان (6) الامام العاضد * أسف العقيم على فراق الواحد لهفي على حجرات قصرك إذ خلت * يا بن النبي من ازدحام الوافد وعلى انفرادك من عساكرك التي * كانوا كأمواج الخضم الراكد قلدت مؤتمن أمرهم فكبا * وقصر عن صلاح الفاسد
__________
(1) في الروضتين: أبوابه.
(2) من قصيدة يمدح بها شمس الدولة أخا الناصر صلاح الدين (النكت العصرية: 264).
(3) في الكامل والروضتين: مذ أقر..(4) وهو العلامة تاج الدين أبو اليمن، زيد بن الحسن بن زيد الكندي البغدادي المولد والمنشأ، الدمشقي الدار والوفاة المقرئ النحوي الاديب توفي سنة 613 ; ومولده سنة 520.
(5) وبعده في الروضتين: 1 / 2 / 566.
وكان خبيث الملتقى إن عجمته * تجد منه عودا في النفاق صليبا (6) في الروضتين: زمن.
فعسى الليالي أن ترد إليكم * ما عودتكم من جميل عوائد وله من جملة قصيدة: يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة * لك الملامة إن قصرت في عذلي بالله زر ساحة القصرين وابك معي * لا على صفين ولا الجمل (1) وقل لاهلهما والله ما التحمت * فيكم قروحي ولا جرحي بمندمل ماذا ترى كانت الافرنج فاعلة * في نسل ابني أمير المؤمنين علي وقد أورد له الشيخ أبو شامة في الروضتين أشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين، وكذا ابن خلكان.
ابن قسرول صاحب كتاب مطالع الانوار، وضعه على كتاب مشارق الانوار للقاضي عياض، وكان من علماء بلاده وفضلائهم المشهورين، مات فجأة بعد صلاة الجمعة سادس شوال منها عن أربع وستين سنة قاله ابن خلكان والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي وذكر شئ من سيرته العادلة هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الاتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زنكي الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الاتابك الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الاحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم
القرآن والفروسية والرمي، وكان شهما شجاعا ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة، فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا، وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم، ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى
__________
(1) العجز في الروضتين: عليهما، لا على صفين والجمل.
عليها الرصافات ووسع الاسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد، وغير ذلك، وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق، الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم، وأحاط السور على حارة اليهود، وكان خرابا، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية، وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لان شعار الرفض كان ظاهرا بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة، وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستانا لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضا، ووقف وقفا على من يعلم الايتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف دارة على جميع أبواب الخير، وعلى الارامل والمحاويج، وكان الجامع داثرا فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهزوري الموصلي، الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق، فأصلح أموره وفتح المشاهد الاربعة، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الاوقاف التي لا
يعرف واقفوها، ولا يعرف شروطهم فيها، وجعلها قلما واحدا، وسمى مال المصالح، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والارامل والايتام وما أشبه ذلك.
وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعا للآثار النبوية، محافظا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة محبا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج مقتصدا في الانفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتا وقورا.
قال ابن الاثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريا للعدل والانصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا، ولو مات جوعا، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال: إنما الاعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد، وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وركب يوما مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما ثم ساق نور الدين فرسه سوقا عنيفا وظله يتبعه، فقال لصاحبه: أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه ؟ شبهته بالدنيا تهرب ممن
يطلبها، وتطلب من يهرب منها، وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى: مثل الرزق الذي تطلبه * مثل الظل يمشي معك أنت لا تدركه مستعجلا * فإذا وليت عنه تبعك وكان فقيها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب: جمع الشجاعة والخشوع لديه (1) * ما أحسن الشجعان في المحراب وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الاتابك معين الدين تكثر القيام في الليل
فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرا جزيلا، وجراية كثيرة.
فألبس الله هاتيك العظام وإن * بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا سقى ثرى أودعوه رحمة ملات * مثوى قبورهم روحا وريحانا وذكر ابن الاثير: أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلا يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم، فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله على وسلم ولشرعه فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.
قال ابن الاثير: وهو أول من ابتنى دارا للعدل، وكان يجلس فيها في الاسبوع مرتين، وقيل أربع مرات، وقيل خمس.
ويحضر القاضي الفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم، وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند
__________
(1) في الكامل 11 / 403 وتاريخ أبي الفداء 3 / 55: لربه...ما أحسن المحراب.
نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الاملاك والاموال والمزارع
والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الاراضي والاملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الامراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد الدين إلى نوابه أن لا يدعوا لاحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك، فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحدا يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانه يعلو على رأسه، ولا يرى الجوكان في يده، لان الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة وكان شجاعا صبورا في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان في خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والاعمال بالنية.
وقال له يوما قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين.
فقال: له اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود ؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو ؟ ومن هو محمود ؟ قال فبكى من كان حاضرا رحمه الله.
وقد أسر بنفسه في بعض الغزات بعض ملوك الافرنج فاستشار الامراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل من المال ؟ وكان قد بذل له في فداء نفسه مالا كثيرا، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعا فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين وإذا لم يوجد بعض الادوية التي يعز وجودها إلى فيه فلا يمنع منه الاغنياء، ومن
جاء إليه فلا يمنع من شرابه، ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه رحمه الله.
قلت: ويقول بعض الناس إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا فالله أعلم.
وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والابراج، ورتب الخفراء في الاماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الاخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الامراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين: ويحك إن كان ما تقول حقا فله من
الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لاوذينك، فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك.
وقد ابتنى بدمشق دارا لاستماع الحديث وإسماعه.
قال ابن الاثير: وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب الامراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الامراء يجلس بلا إذن سوى الامير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الاكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحدا منهم شيئا مستكثرا يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الاعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.
وقد سمع عليه جزء حديث وفيه " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا السيف " فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الاجناد والامراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فرحمه الله.
وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له
هذا تأويل رؤياك.
وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم.
وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده: اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب، وقيل إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة: كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور ؟ ويقال إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شئ ولا يقبل من أحد شيئا، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الالوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له: مثل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور إن قيل نور الدين رحت مسلما * فاحذر بأن تبقى وما لك نور أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور عطلت كاسات المدام تعففا * وعليك كاسات الحرام تدور ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فردا وجاءك منكر ونكير ؟
ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فردا ذليلا وا ؟ حساب عسير ؟ وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور ووددت أنك ما وليت ولاية * يوما ولا قال الانام أمير وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير وحشرت عريانا حزينا باكيا * قلقا وما لك في الانام مجير أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور
أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبدا وأنت معذب مهجور مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور فلما سمع نور الدين هذه الابيات بكى بكاء شديدا، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد.
وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والامراء بها أن لا يفصلوا بها أمرا حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شئ امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا الا يجئ إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجئ يشهد له ؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصه فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم.
فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول: انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد.
وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه، فقال له السلطان: أليس الله تعالى يقول: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [ الفرقان: 63 ] وقال (وأعرض عن الجاهلين) [ الاعراف: 199 ] فسكت الشيخ ولم يحر جوابا.
وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائرا مرات، ووقف عليه وقفا.
وقال الفقيه أبو الفتح الاشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال: وكان نور الدين محافظا على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عزوجل في أموره كلها.
قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس
للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا.
قال: فهذا كلام الكفار في حقه.
وحكى الشيخ أبو شامة أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية، والثمانية أجزاء الاخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة، ومسجد عطية، ومسجد ابن لبيد بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، ومسجد دار البطيخ المعلق، والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف.
ومناقبه ومآثره كثيرة جدا.
وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها.
وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول الروضتين كثيرا من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات، ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها واستنابة غيره فيها غير مرة، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وستين وخمسمائة - وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظا لها من الفرنج في غيبته ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر، وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفا شديدا، فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الاخضر القبلي وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الاحد، ورمى القبق (1) في الميدان الاخضر الشمالي، والقدر يقول له: هذا آخر أعيادك، ومد في ذلك اليوم سماطا حافلا، وأمر بانتهابه، وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على
العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فحصل له غيظ من بعض الامراء - ولم يكن ذلك من سجيته - فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه، واحتبس أسبوعا عن الناس، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لاجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا
__________
(1) من الروضتين 1 / 2 / 579 وفي الاصل: العتق.
ولعبة القبق نوع من التدريب على الرماية، وهي من ألعاب الفروسية، وطريقتها نصب صار طويل من الخشب في رأسه شكل قرعة (وهو أصل معنى قبق) بمثابة الهدف ويوضع به حمام، ثم يأتي اللاعبون على ظهور الخيل يرمون القبق، القرعة، بالنشاب وفائز من يطير الحمام وقد يستبدل بالقرعة حلقة من الخشب (المواعظ والاعتبار 2 / 111).
يجود بموجوده، سرورا بذلك، فانعكست تلك الافراح بالاتراح، ونسخ الجد ذلك المزاح، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
فلما كان يوم الاربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه، ويطيب ويتبرك به كل مار، فيقول قبر نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له القسيم ابن القسيم.
وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد: عجبت من الموت لما أتى (1) * إلى ملك في سجايا ملك وكيف ثوى الفلك المستد * ير في الارض وسط فلك وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها رحمه الله تعالى: ومدرسة ستدرس كل شئ * وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا * بنور الدين محمود بن زنكي يقول وقوله حق وصدق * بغير كناية وبغير شك دمشق في المدائن بيت ملكي * وهذي في المدارس بنت (2) ملكي صفة نور الدين رحمه الله تعالى كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيبا متواضعا عليه جلالة ونور، يعظم الاسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع.
فصل فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل،
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 581: كيف اهتدى.
(2) في الروضتين: بيت.
وكان صغيرا، وجعل أتابكه الامير شمس الدين بن مقدم، فاختلف الامراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته - وكان محصورا منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، فإنا لله وإنا إليه راجون.
وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والامراء الذين له حكم عليهم، لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش، فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الارض فسادا وتحقق قول الشاعر: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سرا وقد أمكن الجهر وطمعت الاعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الاتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم، فهادنهم
مدة، ودفع إليهم أموالا جزيلة عجلها لهم، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه.
ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الامراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الاموال إلى الفرنج، وهم أقل وأذل، وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج، فردوا إليه كتابا فيه غلظة، وكلام فيه بشاعة، فلم يلتفت إليهم، ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، فلم يفعل لانه خاف أن يكون مكيدة منهم له، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين (1) الذي كان قد جعله الملك نور الدين عينا عليه، وحافظا له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو.
فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سرا، فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله، ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتق مع الامراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده، وتكون دمشق مسلمة إلى الاتابك شمس الدولة بن مقدم، والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان.
فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والامراء من دمشق إلى حلب، وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين، وإخوته الثلاثة، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه، لانه أحق الناس بذلك، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب، فكتب الملك صلاح الدين
__________
(1) في الكامل 11 / 406: كمشتكين ; وفي العبر لابن خلدون: كمستكين.
إلى الامراء [ يلومهم ] على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب، ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الامراء ورؤس الكبراء، ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم.
فكتبوا إليه يسيئون الادب عليه، وكل ذلك يزيده حنقا عليهم،
ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الامر الهائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية.
وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير: الحسن (1) بن الحسن ابن أحمد بن محمد العطار، أبو العلاء الهمداني الحافظ، سمع الكثير ورحل إلى بلدان كثيرة، اجتمع بالمشايخ وقدم بغداد وحصل الكتب الكثيرة، واشتغل بعلم القراءات واللغة، حتى صار أوحد زمانه في علمي الكتاب والسنة، وصنف الكتب الكثيرة المفيدة، وكان على طريقة حسنة سخيا عابدا زاهدا صحيح الاعتقاد حسن السمت، له ببلده المكانة والقبول التام، وكانت وفاته ليلة الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة (2) من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين بأربعة أشهر وأيام.
قال ابن الجوزي: وقد بلغني أنه رئي في المنام أنه في مدينة جميع جدرانها كتب وحوله كتب لا تعد ولا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها، فقيل له: ما هذا ؟ فقال سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا فأعطاني.
وفيها توفي: الاهوازي خازن كتب مشهد أبي حنيفة ببغداد، توفي فجأة في ربيع الاول من هذه السنة.
محمود بن زنكي بن آقسنقر السلطان الملك العادل نور الدين، صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهدا في الفرنج، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضا للظلم، صحيح الاعتقاد مؤثرا لافعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحدا في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمنا لقيام الليل يصوم كثيرا، ويمنع نفسه عن
__________
(1) في الكامل: الحسن بن أحمد بن الحسن (انظر تذكرة الحفاظ ص 1324).
(2) في تذكرة الحفاظ وشذرات الذهب 4 / 232: جمادى الاولى.
الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والايتام والارامل، وليست الدنيا عنده بشئ رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان.
قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة، وقد كان يكاتبني وأكاتبه، قال: ولما حضرته الوفاة أخذ العهد على الامراء من بعده لولده - يعني الصالح إسماعيل - وجدد العهد مع صاحب طرابلس أن لا يغير على الشام في المدة التي كان مادة فيها، وذلك أنه كان قد أسره في بعض غزواته وأسر معه جماعة من أهل دولته، فافتدى نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس، أي لبوس، وقنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وعاهده أن لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
وأخذ منه رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أكابر الفرنج وبطارقتهم، فإن نكث أراق دماءهم، وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله، فوافته المنية في شوال من هذه السنة، والاعمال بالنيات، فحصل له أجر ما نوى، وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهرا، وقد تقدم ذلك.
وهذا مقتضى ما ذكره ابن الجوزي ومعناه.
الخضر بن نصر علي بن نصر الاربلي الفقيه الشافعي، أول من درس بإربل في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكان فاضلا دينا، انتفع به الناس، وكان قد اشتغل على الكيا الهراسي وغيره ببغداد، وقدم دمشق فأرخه ابن عساكر في هذه السنة، وترجمه ابن خلكان في الوفيات (1)، وقال قبره يزار، وقد زرته غير مرة، ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبركون به، وهذا الذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور.
وفيها هلك ملك الفرنج مري لعنه الله، وأظنه ملك عسقلان ونحوها من البلاد، وقد كان قارب أن يملك الديار المصرية لولا فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين.
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة استهلت والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لاجل حفظه من الفرنج، ولكن دهمه أمر شغله عنه، وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في
أسطول لم يسمع بمثله، وكثرة مراكب وآلات من الحرب والحصار والمقاتلة، من جملة ذلك مائتي شيني (2) في كل منها مائة وخمسون مقاتلا، وأربعمائة قطعة أخرى، وكان قدومهم من صقلية إلى
__________
(1) وذكره وفاته سنة 567 رابع عشر جمادى الآخرة (2 / 238).
(2) شيني: الجمع شواني، وهي سفينة حربية كانت تعتبر في تاريخ الاسلام أكبر سفن الاسطول، وكانت تقام فيها الابراج والقلاع للدفاع، وكانت تنزلق على الماء بمساعدة مائة وأربعين مجدافا (السلوك 1 / 56 حاشية: 7).
ظاهر اسكندرية قبل رأس السنة بأربعة أيام (1)، فنصبوا المنجنيقات والدبابات حول البلد، وبرز إليهم أهلها فقاتلوهم دونها قتالا شديدا أياما، وقتل من كلا الفريقين خلق كثير، ثم اتفق أهل البلد على حريق المنجانيق والدبابات ففعلوا ذلك، فأضعف ذلك قلوب الفرنج، ثم كبسهم المسلمون فقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم ما أرادوا، فانهزم الفرنج في كل وجه، ولم يكن لهم ملجأ إلا البحر أو القتل أو الاسر، واستحوذ المسلمون على أموالهم وعلى خيولهم وخيامهم، وبالجملة قتلوا خلقا من الرجال وركب من بقي منهم في أسطول إلى بلادهم خائبين.
ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضا أن رجلا يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادي وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له أسوان.
وجعل يجمع عليه الناس، فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان والرعيان، وكان يزعم إليهم أنه سيعيد الدولة الفاطمية، ويدحض الاتابكة التركية، فالتف عليه خلق كثير، ثم قصدوا قوص وأعمالها، وقتل طائفة من أمرائها ورجالها، فجرد إليه صلاح الدين طائفة من الجيش وأمر عليهم أخاه الملك العادل أبا بكر الكردي، فلما التقيا هزمه أبو بكر وأسر أهله وقتله.
فصل فلما تمهدت البلاد ولم يبق بها رأس من الدولة العبيدية، برز السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في الجيوش التركية قاصدا البلاد الشامية، وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي وأخيف سكانها وتضعضعت أركانها، واختلف حكامها، وفسد نقضها وإبرامها،
وقصده جمع شملها والاحسان إلى أهلها، وأمن سهلها وجبلها، ونصرة الاسلام ودفع الطغام وإظهار القرآن وإخفاء سائر الاديان، وتكسير الصلبان في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان.
فنزل البركة في مستهل صفر وأقام بها حتى اجتمع عليه العسكر واستناب على مصر أخاه أبا بكر، ثم سار إلى بلبيس في الثالث عشر من ربيع الاول، فدخل مدينة دمشق في يوم الاثنين سلخ ربيع الاول، ولم ينتطح فيها عنزان، ولا اختلف عليه سيفان، وذلك أن نائبها شمس الدين بن مقدم كان قد كتب إليه أولا فأغلظ له في الكتاب، فلما رأى أمره متوجها جعل يكاتبه ويستحثه على القدوم إلى دمشق، ويعده بتسليم البلد، فلما رأى الجد لم يمكنه المخالفة، فسلم البلد إليه بلا مدافعة، فنزل السلطان
__________
(1) قال في مفرج الكروب: إن أسطول صقلية قد تقدم تنفيذا للمخطط المؤامرة التي اشترك فيها عمارة - وقد صلب - وكان من المقرر أن يشترك مع الاسطول جيش بري من القدس بقيادة أموري، وبانكشاف المؤامرة في مصر توقف جيش أموري واستمرت الحملة البحرية في التقدم لعدم تكامل الاخبار عند قائدها وليم الثاني.
(2 / 12).
وقال ابن شداد: إن نزول هذا العدو كان في شهر صفر وكانوا ثلاثين ألفا في ستمائة قطعة ما بين شيني وطرادة وبطشة وغير ذلك (النوادر ص 38).
أولا في دار والده دار العقيلي (1) التي بناها الملك الظاهر بيبرس مدرسة، وجاء أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الاحسان، وكان نائب القلعة إذ ذاك الطواشي ريحان، فكاتبه وأجزل نواله حتى سلمها إليه، ثم نزل إليه فأكرمه واحترمه، ثم أظهر السلطان أنه أحق الناس بتربية ولد نور الدين، لما لنور الدين عليهم من الاحسان المتين، وذكر أنه خطب لنور الدين بالديار المصرية، ثم إن السلطان عامل الناس بالاحسان وأمر بإبطال ما أحدث بعد نور الدين من المكوس والضرائب، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولله عاقبة الامور.
فصل فلما استقرت له دمشق بحذافيرها نهض إلى حلب مسرعا لما فيها من التخبيط والتخليط واستناب على دمشق أخاه طغتكين (2) بن أيوب الملقب بسيف الاسلام، فلما اجتاز حمص أخذ ربضها ولم
يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماه فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل (3)، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين، فأجابه إلى ذلك، فسار إليهم فحذرهم بأس صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطأ الجواب على السلطان، فكتب إليهم كتابا بليغا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف، وعدم الائتلاف، فردوا عليه أسوأ جواب، فأرسل إليهم يذكرهم أيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد لهم بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن (4)، ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق، فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحضرهم على قتال صلاح الدين، وذلك عن إشارة الامراء المقدمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الاذان بحي على خير العمل، وأن يذكر في الاسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الائمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمسا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر بن أبي المكارم حمزة بن زاهر الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل، وعجز أهل البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر، فأرسلوا أولا إلى شيبان صاحب الحسبة فأرسل نفرا من
__________
(1) في الكامل والروضتين: العقيقي.
(2) في الكامل: طغدكين، وفي ابن خلدون: طغركين.
(3) في الكامل: جورديك، وفي ابن خلدون: خرديك.
وفي الروضتين: رحل إلى جهة حماه فلما وصل إلى الرستن - وهي بليدة قديمة على نهر العاصي في منتصف الطريق بين حمص وحماه - خرج صاحبها عز الدين جرديك.
(4) جبل مطل على حلب في غربيها، كان يحمل منه الناس النحاس الاحمر، وفي سفحه مقابر الشيعة (معجم البلدان).
أصحابه إلى الناصر ليقتلوه فلم يظفر منه بشئ، بل قتلوا بعض الامراء، ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم، فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو
رحل عنهم الناصر، وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار (1) وألف أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين، بل قصد لحمص لياخذها فركب إليه السلطان الناصر، وقد أرسل السلطان إلى بلده طرابلس سرية فقتلوا وأسروا وغنموا، فلما اقترب الناصر منه نكص على عقبيه راجعا إلى بلده، ورأى أنه قد أجابهم إلى ما أرادوا منه، فلما فصل الناصر إلى حمص لم يكن قد أخذ قلعتها فتصدى لاخذها، فنصب عليها المنجنيقات فأخذها قسرا وملكها قهرا، ثم كر راجعا إلى حلب، فأناله الله في هذه الكرة ما طلب، فلما نزل بها كتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا فائقا رائقا، على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه: " فإذا قضى التسليم حق اللقا، فاستدعى الاخلاص جهد الدعا، فليعد وليعد حوادث ما كان حديثا يفترى، وجواري أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ما قد جرى، ويشرح صدر منها لعله يشرح منها صدرا، وليوضح الاحوال المستبشرة (2) فإن الله لا يعبد سرا.
ومن العجائب أن تسير غرائب * في الارض لم يعلم بها المأمول كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى * والماء فوق ظهورها محمول فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير، ونلتقي (3) السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، [ ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير، ولا بد ] (4) تسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي يرد به المغصوب ونظهر طاعتنا فتأخذ بحظ [ الالسن ] (5) كما أخذ بحظ القلوب، وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوح بمباشرتنا أنفسنا، ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا، ونحن ووالدنا وعمنا، فأي مدينة فتحت أو أي معقل للعدو أو عسكر أو مصاف (6) للاسلام معه ضرب [ ولم نكن فيه ] (7) ؟ فما يجهل أحد صنعنا، ولا يجحد عدونا أن يصطلي
__________
(1) في الكامل وأبي شامة: وخمسين ألف دينار.
(2) في الروضتين 1 / 2 / 616: المستسرة.
(3) في أبي شامة: نلقى.
(4) ما بين معكوفين من الروضتين 1 / 2 / 616.
وقد سقطت من الاصل وفيه بعد " التصوير، والابدان " وهو
تحريف.
(5) من الروضتين 1 / 2 / 616.
وبعدها كما أخذنا بحظ القلوب، وما كان العائق إلا أنا كنا ننتظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإنجابا للحق، يشاكل إنجابنا للسبق.
(6) المصاف: جمع مصف، وهو الموقف في الحرب والاصطفاف للقتال.
(7) من الروضتين.
الجمرة ونملك الكرة، ونقدم الجماعة ونرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها " ثم ذكر ما صنعوا بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع، وما بسط من العدل ونشر من الفضل، وما أقامه من الخطب العباسية ببلاد مصر واليمن والنوبة وإفريقية وغير ذلك، بكلام بسيط حسن.
فلما وصلهم الكتاب أساؤوا الجواب، وقد كانوا كاتبوا صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي نور الدين محمود بن زنكي، فبعث إليهم أخاه عز الدين في عساكره، وأقبل إليهم في دساكره، وانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا حماه في غيبة الناصر واشتغاله بقلعة حمص وعمارتها، فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش، فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة، فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه، وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه، حتى قال لهم في جملة ما قال: أنا أقنع بدمشق وحدها وأقيم بها الخطبة للملك الصالح إسماعيل، وأترك ما عداها من أرض الشام، فامتنع من المصالحة الخادم سعد الدولة كمشتكين، إلا أن يجعل لهم الرحبة التي هي بيد ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين، فقال ليس لي ذلك، ولا أقدر عليه، فأبوا الصلح وأقدموا على القتال، فجعل جيشه كردوسا واحدا، وذلك يوم الاحد التاسع عشر من رمضان عند قرون حماه (1)، وصبر صبرا عظيما، وجاء في أثناء الحال ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخ شاه في طائفة من الجيش، وقد ترجح دسته عليهم، وخلص رعبه إليهم، فولوا هنالك هاربين، وتولوا منهزمين، فأسر من أسر من رؤسهم، ونادى أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح
ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى حلب، وقد انعكس عليهم الحال وآلوا إلى شر مآل فبالامس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة، وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع، على أن المعرة وكفر طاب وماردين له زيادة على ما بيده من أراضي حماه وحمص، فقبل ذلك وكف عنهم وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح، وأن يدعو له على سائر منار بلاده، وشفع في بني الداية أخوه مجد الدين، على أن يخرجوا، ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا.
فلما كان بحماه وصلت إليه رسل الخليفة المستضئ بأمر الله بالخلع السنية والتشريفات العباسية والاعلام السود، والتو ؟ يع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام، وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأعوانه، وكان يوما مشهودا.
واستناب على حماه ابن خاله وصهره الامير شهاب الدين محمود، ثم سار إلى حمص فأطلقها إلى ابن عمه ناصر الدين، كما كانت من قبله لابيه شيركوه أسد الدين، ثم بعلبك على البقاع إلى دمشق في ذي القعدة.
وفيها ظهر رجل من قرية مشغرا من معاملة دمشق وكان مغربيا فادعى النبوة، وأظهر شيئا من
__________
(1) منطقة جبلية تشرف على مدينة حماه، وهي مكونة من قلتين متقابلتين (معجم البلدان: حماه).
المخاريق والمحاييل والشعبذة والابواب النارنجية، فافتتن به طوائف من الهمج والعوام، فتطلبه السلطان فهرب إلى معاملة حلب، فألف عليه كل مقطوع الذنب، وأضل خلقا من الفلاحين، وتزوج امرأة أحبها، وكنت من أهل تلك البطائح فعلمها أن ادعت النبوة، فأشبها قصة مسيلمة وسجاح.
وفيها هرب وزير الخليفة ونهبت داره.
وفيها درس أبو الفرج بن الجوزي بمدرسة أنشئت للحنابلة فحضر عنده قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني والفقهاء والكبراء، وكان يوما مشهودا، وخلعت عليه خلعة سنية.
وفيها توفي من الاعيان: روح بن أحمد أبو طالب الحدثني قاضي القضاة ببغداد في بعض الاحيان، وكان ابنه في أرض الحجاز، فلما بلغه موت أبيه مرض بعده فمات بعد أيام، وكان ينبذ بالرفض.
شملة التركماني كان قد تغلب على بلاد فارس واستحدث قلاعا وتغلب على السلجوقية، وانتظم له الدست نحوا من عشرين سنة، ثم حاربه بعض التركمان فقتلوه.
قيماز بن عبد الله قطب الدين المستنجدي، وزر للخليفة المستضئ، وكان مقدما على العساكر كلها، ثم خرج على الخليفة وقصد أن ينهب دار الخلافة فصعد الخليفة فوق سطح في داره وأمر العامة بنهب دار قيماز، فنهبت، وكان ذلك بإفتاء الفقهاء، فهرب فهلك هو ومن معه في المهامه والقفار (1).
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة فيها طلب الفرنج من السلطان صلاح الدين وهو مقيم بمرج الصفر أن يهادنهم فأجابهم إلى ذلك، لان الشام كان مجدبا، وأرسل جيشه صحبة القاضي الفاضل إلى الديار المصرية ليستغلوا المغل ثم يقبلوا، وعزم هو على المقام بالشام، واعتمد على كاتبه العماد عوضا عن القاضي، ولم يكن أحد أعز عليه منه:
__________
(1) مات في ذي الحجة على طريق الموصل وقبل وصوله إليها، فحمل ودفن بظاهر باب العمادي وقبره مشهور هناك (الكامل 11 / 425 شذرات 4 / 238)
وما عن رضى كانت سليمى بديلة * ولكنها للضرورات أحكام وكانت إقامة السلطان بالشام وإرسال الجيش صحبة القاضي الفاضل غاية الحزم والتدبير، ليحفظ ما استجد من الممالك خوفا عليه مما هنالك، فلما أرسل الجيوش إلى مصر وبقي هو في طائفة يسيرة والله قد تكفل له بالنصر، كتب صاحب الموصل سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين إلى جماعة الحلبيين يلومهم على ما وقع بينهم وبين الناصر من المصالحة، وقد كان إذ ذاك مشغولا بمحاربة أخيه ومحاصرته، وهو عماد الدين زنكي بسنجار، وليست هذه بفعلة صالحة، وما كان سبب قتاله لاخيه إلا لكونه أبى طاعة الملك الناصر، فاصطلح مع أخيه حين عرف قوة الناصر وناصريه، ثم
حرض الحلبيين على نقض العهود ونبذها إليه، فأرسلوا إليه بالعهود التي عاهدوه عليها ودعوه إليها، فاستعان عليهم بالله وأرسل إلى الجيوش المصرية ليقدموا عليه، فأقبل صاحب الموصل بعساكره ودساكره، واجتمع بابن عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وسار في عشرين ألف (1) مقاتل على الخيول المضمرة الجرد الابابيل، وسار نحوهم الناصر وهو كالهزبر الكاسر، وإنما معه ألف فارس من الحماة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ولكن الجيوش المصرية قد خرجوا إليه قاصدين، وله ناصرين في جحافل كالجبال، فاجتمع الفريقان وتداعوا إلى النزال، وذلك في يوم الخميس العاشر من شوال فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى حمل الملك الناصر بنفسه الكريمة، وكانت بإذن الله الهزيمة، فقتلوا خلقا من الحلبيين والمواصلة، وأخذوا مضارب الملك سيف الدين غازي وحواصله، وأسروا جماعة من رؤسهم فأطلقهم الناصر بعد ما أفاض الخلع على أبدانهم ورؤوسهم، وقد كانوا استعانوا بجماعة من الفرنج في حال القتال، وهذا ليس من افعال الابطال، وقد وجد السلطان في مخيم السلطان غازي سبتا من الاقفاص التي فيها الطيور المطربة، وذلك في مجلس شرابه المسكر، وكيف من هذا حاله ومسلكه ينتصر، فأمر السلطان بردها عليه وتسييرها إليه، وقال للرسول قل له بعد وصولك إليه وسلامك عليه: اشتغالك بهذه الطيور أحب إليك مما وقعت فيه من المحذور، وغنم منهم شيئا كثيرا ففرقه على أصحابه غيبا وحضورا، وأنعم بخيمة سيف الدين غازي على ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن نجم الدين، ورد ما كان في وطاقه من الجواري والمغنيات، وقد كان معه أكثر من مائة مغنية، ورد آلات اللهو واللعب إلى حلب، وقال قولوا لهم هذه أحب إليكم من الركوع والسجود، ووجد عسكر المواصلة كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والملاهي، وهذه سبيل كل فاسق ساه لاهي.
__________
(1) علق ابن الاثير على ذلك في تاريخه: فإنني وقفت على جريدة العرض، ولم يكن (العدد) كذلك، إنما كان على التحقيق يزيد على 6 آلاف فارس أقل من خمسمائة.
وإنما قصد (من قال هذا العدد) أن يعظم صاحبه - يعني العماد وصلاح الدين - بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفا.
فصل فلما رجعت الجيوش إلى حلب وقد انقلبوا شر منقلب، وندموا على ما نقضوا من الايمان، وشقهم العصا على السلطان، حصنوا البلد، خوفا من الاسد، وأسرع صاحب الموصل فوصلها، وما صدق حتى دخلها، فلما فرغ الناصر مما غنم أسر المسير إلى حلب وهو في غاية القوة، فوجدهم قد حصنوها، فقال المصلحة أن نبادر إلى فتح الحصون التي حول البلد، ثم نعود إليهم فلا يمتنع علينا منهم أحد، فشرع يفتحها حصنا حصنا، ويهدم أركان دولتهم ركنا ركنا، ففتح مراغة (1) ومنبج ثم سار إلى إعزاز فارسل الحلبيون إلى سنان (2) فأرسل جماعة لقتل السلطان، فدخل جماعة منهم في جيشه في زي الجند فقاتلوا أشد القتال، حتى اختلطوا بهم فوجدوا ذات يوم فرصة والسلطان ظاهر للناس فحمل عليه واحد منهم فضربه بسكين على راسه فإذا هو محترس منهم باللامة، فسلمه الله، غير أن السكين مرت على خده فجرحته جرحا هينا، ثم أخذ الفداوي رأس السلطان فوضعه إلى الارض ليذبحه، ومن حوله قد أخذتهم دهشه، ثم ثاب إليهم عقلهم فبادروا إلى الفداوي فقتلوه وقطعوه، ثم هجم عليه آخر في الساعة الراهنة فقتل، ثم هجم آخر على بعض الامراء فقتل أيضا، ثم هرب الرابع فأدرك فقتل، وبطل القتال ذلك اليوم، ثم صمم السلطان على البلد ففتحها وأقطعها ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وقد اشتد حنقه على أهل حلب.
لما ارسلوا إليه من الفداوية وإقدامهم على ذلك منه، فجاء فنزل تجاه البلد على جبل جوشن، وضربت خيمته على رأس الياروقية (3)، وذلك في خامس عشر ذي الحجة، وجبى الاموال وأخذ الخراج من القرى، ومنع أن يدخل البلد شئ أو يخرج منه أحد، واستمر محاصرا لها حتى انسلخت السنة.
وفي ذي الحجة (4) من هذه السن ؟ ة عاد نور الدولة أخو السلطان من بلاد اليمن إلى أخيه شوقا إليه، وقد حصل أموالا جزيلة، ففرح به السلطان، فلما اجتمعا قال السلطان البر التقي: (أنا يوسف وهذا أخي) [ يوسف: 90 ]، وقد استناب على بلاد اليمن من ذوي قرابته، فلما استقر عند أخيه استنابه على دمشق وأعمالها، وقيل إن قدومه كان قبل وقعة المواصلة، وكان من أكبر أسباب الفتح والنصر، لشجاعته وفروسيته.
وفيها أنفذ تقي الدين عمر ابن أخي الناصر مملوكه بهاء الدين
قراقوش في جيشه إلى بلاد المغرب ففتح بلادا كثيرة، وغنم أموالا جزيلة، ثم عاد إلى مصر.
وفيها قدم إلى دمشق أبو الفتوح الواعظ عبد السلام بن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي
__________
(1) في الكامل 11 / 429 والروضتين 1 / 2 / 655 وتاريخ أبي الفداء 3 / 58: بزاعة.
(2) سنان صاحب الحشيشية.
(3) من الروضتين، وفي الاصل " البادوقية " وهو خطأ.
والياروقية.
محلة كبيرة بظاهر حلب، تنسب إلى ياروق التركماني، أحد رجال نور الدين محمود، وقد توفي سنة 568 ه.
(معجم البلدان).
(4) وفي الروضتين: في شوال.
وفي الكامل 11 / 434: في رمضان.
الاصل، البغدادي المنشأ، وذكره العماد في الجريدة.
قال: وكان صاحبي، وجلس للوعظ وحضر عنده السلطان صلاح الدين، وأورد له مقطعات أشعار، فمن ذلك ما كان يقول: يا مالكا مهجتي يا منتهى أملي * يا حاضرا شاهدا في القلب والفكر خلقتني من تراب أنت خالقه * حتى إذا صرت تمثالا من الصور أجريت في قالبي روحا منورة * تمر فيه كجري الماء في الشجر جمعتني من صفا روح منورة * وهيكل صغته من معدن كدر إن غبت فيك فيا فخري ويا شرفي * وإن حضرت فيا سمعي ويا بصري أو احتجبت فسرى فيك في وله * وإن خطرت فقلبي منك في خطر تبدو فتمحو رسومي ثم تثبتها * وإن تغيب (1) عني عشت بالاثر وفيها توفي من الاعيان الحافظ أبو القاسم ابن عساكر.
علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر أبو القاسم الدمشقي، أحد أكابر حفاظ الحديث ومن عنى به سماعا وجمعا وتصنيفا واطلاعا وحفظا لاسانيده ومتونه، وإتقانا لاساليبه وفنونه، وصنف تاريخ الشام في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلدة، وقد ندر على من تقدمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين،
فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله، وحكم بأنه فريد دهره، في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكتب المفيدة، وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائق الحميدة، فله أطراف الكتب الستة، والشيوخ النبل، وتبيين كذب المفتري على أبي الحسن الاشعري، وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار، والاجزاء والاسفار، وقد أكثر في طلب الحديث من الترحال والاسفار، وجاز المدن والاقاليم والامصار، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الحفاظ نسخا واستنساخا، ومقابلة وتصحيح الالفاظ، وكان من أكابر سروات الدماشقة، ورياسته فيهم عالية باسقة، من ذوي الاقدار والهيئات، والاموال الجزيلة، والصلاة والهبات، كانت وفاته في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
وكان الذي صلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري.
قال ابن خلكان وله أشعار كثيرة منها: أيا نفس ويحك جاء المشيب * فماذا التصابي وماذا الغزل ؟
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 668: تغيبت.
تولى شبابي كأن لم يكن * وجاء المشيب كأن لم يزل (1) كأني بنفسي على غرة * وخطب المنون بها قد نزل فيا ليت شعري ممن أكون * وما قدر الله لي في الازل قال: وقد التزم فيها بما لم يلزم وهو الزاي مع اللام.
قال: وكان أخوه صائن الدين هبة الله بن الحسن محدثا فقيها، اشتغل ببغداد على أسعد الميهني، ثم قدم دمشق فدرس بالغزالية وتوفي بها عن ثلاث وستين سنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة استهلت هذه السنة والناصر محاصر حلب، فسألوه وتوسلوا إليه أن يصالحهم فصالحهم على أن تكون حلب وأعمالها للملك الصالح فقط، فكتبوا بذلك الكتاب، فلما كان المساء بعث السلطان
الصالح إسماعيل يطلب منه زيادة قلعة إعزاز، وأرسل بأخت له صغيرة وهي الخاتون بنت نور الدين ليكون ذلك أدعى له بقبول السؤال، وأنجع في حصول النوال، فحين رآها السلطان قام قائما، وقبل الارض وأجابها إلى سؤالها، وأطلق لها من الجواهر والتحف شيئا كثيرا، ثم ترحل عن حلب فقصد الفداوية الذين اعتدوا عليه فحاصر حصنهم مصبات (2) فقتل وسبى وحرق وأخذ أبقارهم وخربت ديارهم، ثم شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تتش صاحب حماه، لانهم جيرانه، فقبل شفاعته، وأحضر إليه نائب بعلبك الامير شمس الدين محمد بن عبد الملك مقدم، الذي كان نائب دمشق، جماعة من أسارى الفرنج (3) الذين عاثوا في البقاع في غيبته، فجدد ذلك له الغزو في الفرنج، فصالح الفداوية الاسماعيلية أصحاب سنان، ثم كر راجعا إلى دمشق فتلقاه أخوه شمس الدولة توران شاه، فلقبه الملك المعظم، وعزم الناصر على دخول مصر، وكان القاضي كمال الدين محمد الشهرزوري قد توفي في السادس من المحرم من هذه السنة، وقد كان من خيار القضاة وأخص الناس بنور الدين الشهيد، فوض إليه نظر الجامع ودار الضرب وعمارة الاسوار والنظر في المصالح العامة.
ولما حضرته الوفاة أوصى بالقضاء لابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري، مع أنه كان يجد عليه، لما كان بينه وبينه حين كان صلاح الدين سجنه بدمشق، وكان يعاكسه ويخالفه، ومع هذا أمضى وصيته لابن أخيه، فجلس في مجلس القضاء على عادة عمه وقاعدته، وبقى في نفس
__________
(1) البيت منسوب لعلي بن جبلة المعروف بالعكوك من تغيير يسير: شباب كأن لم يكن * وشيب كأن لم يزل (2) في الروضتين 1 / 2 / 669 مصياث ; وفي معجم البلدان: مصياث أو مصياف أو مصياب: حصن الاسماعيلية، الحشيشية بالشام قرب طرابلس.
(3) أكثر من مائتي أسير (الروضتين 1 / 2 / 669).