كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

أدبر فأدبرت، ثم قال أقبل فأقبلت، ثم قال بخ بخ، أعيرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه.
رب يوم يا سراق بن مالك، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى، كان شرفا لك ولقومك، انزع.
فنزعت.
فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي.
ثم بكى حتى رحمه من كان عنده.
ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك ما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي.
وذكر سيف بن عمر التميمي: أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر جئ بسيف كسرى ومعه عدة سيوف منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة وأن عمر قال: الحمد لله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه.
ثم قال: إن قوما أدوا هذا لامناء، أو لذوا أمانة.
ثم قال: إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته (1)، ولم يقدم لنفسه، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول في مواضعها لحصل له.
وقد قال بعض المسلمين وهو أبو نجيد نافع بن الاسود في ذلك: وأملنا (2) على المدائن خيلا * بحرها مثل برهن أريضا فانتشلنا (3) خزائن المرء كسرى * يوم ولوا وحاص (4) منا جريضا وقعة جلولاء لما سار كسرى وهو يزدجرد بن شهريار من المدائن هاربا إلى حلوان شرع في أثناء الطريق في
جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس وأمر على الجميع مهران، وسار كسرى إلى حلوان فأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء، واحتفروا خندقا عظيما حولها، وأقاموا بها في العدد والعدد وآلات الحصار، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك.
فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني (5).
ففعل
__________
(1) زاد الطبري: أو امرأة ابنه.
(2) في الطبري: وأسلنا.
(3) في الطبري: وانتثلنا.
وفيه وفي الكامل: أبو بجيد تحريف.
(4) كذا في الاصل والطبري، وفي الكامل: وخاض.
(5) في فتوح البلدان 2 / 324: حجر بن عدي على الميمنة، وعمرو بن معد يكرب على الخيل، وطليحة بن خويلد = على الرجال وعلى الاعاجم خرزاد أخو رستم.

سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشا كثيفا يقارب اثني عشر ألفا، من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والانصار، ورؤوس العرب.
وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالا لم يسمع بمثله.
وجعل كسرى يبعث إليهم الامداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه، مرة بعد أخرى.
وحمى القتال، واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة، فحرضهم على القتال والتوكل على الله.
وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت، وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدا حتى يفنوا العرب.
فلما كان الموقف الاخير وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله حتى فني النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء،
وصاروا إلى السيوف والطبر زنيات، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءا، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون ؟ قالوا: نعم إنا كالون وهم مريحون، فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس، فأما القعقاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والابطال والشجعان حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية الابطال بمن معهم في الناس وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل وفي الابطال يومئذ طليحة الاسدي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح، وحجر بن عدي.
ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا مناديه ينادي: أين أيها المسلمون، هذا أميركم على باب خندقهم.
فلما سمع ذلك المجوس فروا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مهرب، وأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف حتى جللوا وجه الارض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء.
وغنموا من الاموال والسلاح والذهب والفضة قريبا مما غنموا من المدائن قبلها.
وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى، فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزما (1)، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم الفيرزان فاستمر منهزما، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة، وغنموا دواب كثيرة جدا.
ثم بعث هاشم بالغنائم والاموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي النجدة، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين.
__________
= وقال ابن الكلبي: كان على الناس يوم جلولاء: سعد عمرو بن عتبة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة.
وفي ابن الاعثم: جرير على الميمنة، وحجر بن عدي على الميسرة وعلى الجناح المكشوح المرادي وعمرو بن معدي كرب على أعنة الخيل وطلحة بن خويلد الاسدي على الرجالة.
(1) في الطبري والكامل: منهزما إلى خانقين.

قال الشعبي: كان المال المتحصل من وقعة جلولاء ثلاثين ألف ألف، فكان خمسه ستة آلاف ألف وقال غيره: كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن - يعني اثني عشر ألفا لكل فارس - وقيل أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب (1).
وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله، سلمان الفارسي (2) رضي الله عنه.
ثم بعث سعد بالاخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان، وقضاعي بن عمرو، وأبي مقرن (3) الاسود.
فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك، فقال له: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الارض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك ؟ فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة عظيمة بليغة فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المصقع - يعني الفصيح - فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاؤا به سقف حتى يقسمه، فبات عبد الله بن أرقم وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء عمر في الناس، بعد ما صلى الغداة وطلعت الشمس، فأمر فكشف عنه جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الاصفر وفضته البيضاء، بكى عمر، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين: فوالله إن هذا لموطن شكر، فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.
ثم قسمه كما قسم أموال القادسية.
وروى سيف بن عمر عن شيوخه أنهم قالوا: وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ستة عشر، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر وقد تكلم ابن جرير ههنا فيما رواه عن سيف على ما يتعلق بأرض السواد وخراجها، وموضع تحرير ذلك كتاب الاحكام.
وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء:
يوم جلولاء ويوم رستم * ويوم زحف الكوفة المقدم ويوم عرض الشهر المحرم * وأيام خلت من بينهن صرم (4)
__________
(1) وهو قول الطبري: 4 / 182.
(2) سلمان بن ربيعة الباهلي وليس الفارسي (انظر الطبري والكامل) وكانت العرب تسميه سلمان الخيل.
(3) في الطبري: أبي مفزر.
(4) البيت في الطبري.

شيبن أصدغي فهي هرم * مثل ثغام البلد المحرم وقال أبو نجيد في ذلك: ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت * كتائبنا تردى بأسد عوابس فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم * فتبا لاجساد المجوس النجائس وأفلتهن الفيرزان بجرعة * ومهران أردت يوم حز القوانس أقاموا بدار للمنية موعد * وللترب تحثوها خجوج الروامس ذكر فتح حلوان ولما انقضت الوقعة أقام هشام بن عتبة بجلولاء عن أمر عمر بن الخطاب - في كتابه إلى سعد - وتقدم القعقاع بن عمرو إلى حلوان، عن أمر عمر أيضا ليكون ردءا للمسلمين هنالك، ومرابطا لكسرى حيث هرب.
فسار كما قدمنا، وأدرك أمير الوقعة وهو مهران الرازي، فقتله وهرب منه الفيرزان، فلما وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء، وما جرى على الفرس بعده، وكيف قتل منهم مائة ألف، وأدرك مهران فقتل، هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الري، واستناب على حلوان أميرا يقال له خسروشنوم (1)، فتقدم إليه القعقاع بن عمرو، وبرز إليه خسروشنوم إلى مكان (2) خارج من حلوان، فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا ثم فتح الله ونصر المسلمين وانهزم خسروشنوم، وساق القعقاع (3) إلى حلوان فتسلمها ودخلها المسلمون فغنموا
وسبوا، وأقاموا بها، وضربوا الجزية على من حولها من الكور والاقاليم، بعد ما دعوا إلى الدخول في الاسلام فأبوا إلا الجزية.
فلم يزل القعقاع بها حتى تحول من سعد من المدائن إلى الكوفة، فسار إليها كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فتح تكريت والموصل لما افتتح سعد المدائن بلغه أن أهل الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل من الكفرة يقال له
__________
= ويوم عرض النهر المحرم * من بين أيام خلون صرم (1) قصر شيرين على فرسخ من حلوان (انظر الطبري - فتوح ابن الاعثم).
(2) وفي الفتوح لابن الاعثم 1 / 279: دعا رجلا من قواده من الاعاجم يقال له منوشهر بن هرمزدان فاستخلفه على حلوان.
(3) في ابن الاعثم: أقبل سعد بن أبي وقاص - على علته - وعلى مقدمته جرير بن عبد الله البجلي حتى دخل حلوان 1 / 280 وفي فتوح البلدان 2 / 370: ان جرير بن عبد الله فتح حلوان صلحا بعد هرب يزدجرد منها، وكان ذلك سنة تسع عشرة.

الانطاق، فكتب إلى عمر بأمر جلولاء واجتماع الفرس بها، وبأمر أهل الموصل، فتقدم ما ذكرناه من كتاب عمر في أهل جلولاء، وما كان من أمرها.
وكتب عمر في قضية أهل الموصل الذين قد اجتمعوا بتكريت على الانطاق، أن يعين جيشا لحربهم، ويؤمر عليه عبد الله بن المعتم (1)، وأن يجعل على مقدمته ربعي بن الافكل الغزي (2)، وعلى الميمنة الحارث بن حسان الذهلي، وعلى الميسرة فرات بن حيان العجلي، وعلى الساقة هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة.
ففصل عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف من المدائن، فسار في أربع حتى نزل بتكريت على الانطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم، ومن الشهارجة، ومن نصارى العرب، من إياد وتغلب والنمر.
وقد أحدقوا بتكريت، فحاصرهم عبد الله بن المعتم أربعين يوما.
وزاحفوه في هذه المدة أربعة وعشرين مرة (3)، ما من مرة إلا وينتصر عليهم ويفل جموعهم، فضعف جانبهم،
وعزمت الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، وراسل عبد الله بن المعتم إلى من هنالك من الاعراب، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة على أهل البلد، فجاءت القصاد إليه عنهم بالاجابة إلى ذلك، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقروا بما جاء من عند الله.
فرجعت القصاد إليه بأنهم قد أسلموا فبعث إليهم: إن كنتم صادقين فإذا كبرنا وحملنا على البلد الليلة فأمسكوا علينا أبواب السفن، وامنعوهم أن يركبوا فيها، واقتلوا منهم من قدرتم على قتله، ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد فكبرت الاعراب من الناحية الاخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الابواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلا ذريعا، وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الابواب الاخر فقتل جميع أهل البلد عن بكرة أبيهم، ولم يسلم إلا من أسلم من الاعراب من إياد وتغلب والنمر، وقد كان عمر عهد في كتابه إذا نصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الافكل إلى الحصنين (4) وهي الموصل سريعا، فسار إليها كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة، وجماعة من الابطال، فسار إليها حتى فجئها قبل وصول الاخبار إليها، فما كان إلا أن واقفها حتى أجابوا إلى الصلح فضربت عليهم الذمة عن يد وهم صاغرون، ثم قسمت الاموال التي تحصلت من تكريت، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألف درهم، وبعثوا بالاخماس مع فرات بن حيان، وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولى إمرة حرب الموصل ربعي بن
__________
(1) في الطبري: العنزي.
(2) في فتوح البلدان: ان عمر بن الخطاب ولى عتبة بن فرقد السلمي الموصل سنة عشرين فقاتله أهل نينوى، فأخذها عنوة وصالحه أهل الحصن الآخر (الموصل) على الجزية والاذن لمن أراد الجلاء بالجلاء 2 / 407.
(3) في الطبري والكامل: زحفا.
(4) في الكامل: الحصنان هما الموصل ونينوى.
وتسمى الموصل الحصن الغربي، ونينوى الحصن الشرقي 2 / 524.

الافكل، وولي الخراج بها عرفجة بن هرثمة.
فتح ماسبذان من أرض العراق لما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى عمر بالمدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع طائفة من الفرس، فكتب إلى عمر في ذلك، فكتب إليه أن أبعث جيشا وأمر عليهم ضرار ابن الخطاب (1).
فخرج ضرار في جيش من المدائن، وعلى مقدمته ابن الهزيل (2) الاسدي، فتقدم ابن الهزيل بين يدي الجيش، فالتقى مع آذين وأصحابه قبل وصول ضرار إليه، فكسر ابن الهزيل طائفة الفرس، وأسر آذين بن الهرمزان، وفرعنه أصحابه، وأمر ابن الهزيل فضرب عنق آذين بين يديه، وساق وراء المنهزمين حتى انتهى إلى ماسبذان - وهي مدينة كبيرة - فأخذها عنوة، وهرب أهلها في رؤوس الجبال والشعاب، فدعاهم فاستجابوا له، وضرب على من لم يسلم الجزية، وأقام نائبا عليها حتى تحول سعد من المدائن إلى الكوفة كما سيأتي.
فتح قرقيسيا وهيت في هذه السنة قال ابن جرير وغيره: لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن وكان أهل الجزيرة قد أمدوا أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت، كتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب إليه أن يبعث إليهم جيشا، وأن يؤمر عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، فسار فيمن معه من المسلمين (3) إلى هيت، فوجدهم قد خندقوا عليهم، فحاصرهم حينا فلم يظفر بهم، فسار في طائفة من أصحابه واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد، فراح عمر بن مالك (4) إلى قرقيسيا فأخذها عنوة، وأنابوا إلى بذل الجزية، وكتب إلى نائبه على هيت: إن لم يصالحوا أن يحفر من وراء خندقهم خندقا، ويجعل له أبوابا من ناحيته.
فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة.
قال شيخنا / أبو عبد الله الحافظ الذهبي: وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين فصالح أهل حلب، ومنبج، وأنطاكية، على الجزية.
وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة.
قال: وفيها افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم.
__________
(1) كذا بالاصل والطبري والمعجم، وفي ابن الاعثم 1 / 280: كان أمير الجيش المكشوح المرادي في عشرة آلاف وفي فتوح البلدان ان أبا موسى الاشعري فتح ماسبذان صلحا وصلحه أهل السيروان 2 / 377.
(2) في الطبري: الهذيل.
(3) وكان على مقدمة جيشه الحارث بن يزيد العامري، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر ومالك بن حبيب (الطبري - الكامل).
(4) في فتوح العراق للواقدي 2 / 107: كان على الجيش عبد الله بن غسان وسهيل بن عدي.

قال: وفيها فيما ذكر ابن الكلبي سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر إيليا فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على ذلك، فكتب أبو عبيدة إلى عمر فقدم حتى صالحهم وأقام أياما ثم رجع إلى المدينة.
قلت: قد تقدم هذا فيما قبل هذه السنة والله أعلم.
قال الواقدي: وفي هذه السنة حمى عمر الربذة بخيل المسلمين، وفيها غرب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع (1)، وفيها تزوج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد.
قلت: الذي قتل يوم الجسر، وكان أمير السرية وهي أخت المختار بن أبي عبيد أمير العراق فيما بعد، وكانت امرأة صالحة، وكان أخوها فاجرا وكافرا أيضا.
قال الواقدي: وفيها حج عمر بالناس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.
قال: وكان نائبه على مكة عتاب، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق سعد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن أمية، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى الموصل ربعي بن الافكل، وعلى الجزيرة عياض بن غنم الاشعري.
قال الواقدي وفي ربيع الاول من هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه.
قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها، أم التي بعدها ؟ ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئا يعرفون فيه حلول ديونهم.
فيقال
إنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر فكرهوا ذلك، ولطوله أيضا.
وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون من مبعثه عليه السلام.
وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد فإنه أظهر من المولد والمبعث.
فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها، وعند مالك رحمه الله فيما حكاه عن السهيلي وغيره: أن أول السنة من ربيع الاول لقدومه عليه السلام إلى المدينة.
والجمهور على أن أول السنة من المحرم، لانه أضبط لئلا تختلف الشهور، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية.
وفي هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في المحرم منها فيما ذكره الواقد وابن جرير وغير واحد، وصلى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها وأرضاها، وهي مارية القبطية، أهداها صاحب اسكندرية - وهو جريج بن مينا - في جملة تحف وهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل ذلك منه.
وكان
__________
(1) في الاصل: إلى ما صنع، وأثبتنا ما في الطبري، وباضع جزيرة في بحر اليمن، وفي الكامل ناصع.
وناصع بلد في الحبشة.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: نفاه عمر إلى جزيرة في البحر.

معها أختها شيرين التي وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان.
ويقال أهدى المقوقس معهما جاريتين أخريين، فيحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وسيرين.
وأهدى معهن غلاما خصيا اسمه مابور، وأهدى مع ذلك بغلة شهباء اسمها الدلدل، وأهدى حلة حرير من عمل الاسكندرية.
وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان.
فحملت مارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه السلام، فعاش عشرين شهرا، ومات قبل أبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة سواء.
وقد حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى عليه وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، وقد تقدم ذلك في سنة عشر.
وكانت
مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان.
وقد حظيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجب بها، وكانت جميلة ملاحة، أي حلوة، وهي تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلا منهما من ديار مصر وتسراها نبي كريم، وخليل جليل، عليهما السلام.
ثم دخلت سنة سبع عشرة في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها وغبارها.
فكتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب عمر: إن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها (1).
فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبا يصلح لاقامتهم (2).
فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء، فأعجبتهما ووجد هنالك ديرات ثلاث دير حرقة (3) بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة، فنزلا فصليا هنالك وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الارض وما أقلت، ورب الريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت، والخصاص وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات.
ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد.
وأمر سعد رجلا راميا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الاربع جهات فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصرا تلقاء محراب المسجد للامارة وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد.
وبعث سعد إلى الامراء والقبائل فقدموا عليه، فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد أبا هياج (4) الموكل بإنزال الناس فيها بأن
__________
(1) زاد في فتوح البلدان: فارتد لهم موضعا عدنا، ولا تجعل بيني وبينهم بحرا.
(2) في فتوح البلدان: ان الذي دل سعدا على أرض الكوفة عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة 2 / 339.
(3) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل: حرمة.
(4) أبو الهياج الاسدي واسمه عمرو بن مالك بن جنادة.

يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعا.
ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعا، وللازقة سبعة أذرع، وبنى لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعدا من الحديث، فكان يغلق بابه ويقول: سكن الصويت فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة، فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده ويجمع حطبا ويحرق باب القصر ثم يرجع من فوره.
فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدا أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على بابه أحدا يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد وعرض على محمد بن مسلمة شيئا من المال فامتنع من قبوله، ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر، من غير عجز ولا خيانة.
أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدم عمر إلى الشام وذلك أن جمعا من الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا بأهل الجزيرة.
وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة، فبعث أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه من قنسرين، وكتب إلى عمر بذلك، واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجز الروم أو يتحصن بالبلد حتى يجئ أمر عمر ؟ فكلهم أشار بالتحصن، إلا خالدا فإنه أشار بمناجزتهم، فعصاه وأطاعهم.
وتحصن بحمص وأحاط به الروم، وكل بلد من بلدان الشام مشغول أهله عنه بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه وأقبلوا إلى حمص لانخرم النظام في الشام كله.
وكتب عمر إلى سعد أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيرهم إلى حمص من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لابي عبيدة فإنه محصور، وكتب إليه أن يجهز جيشا إلى أهل الجزيرة الذين مالاوا الروم على حصار أبي عبيدة ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة (1) عياض بن غنم.
فخرج الجيشان معا من الكوفة، القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي عبيدة، وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية وقيل إنما بلغ سرع.
قاله ابن إسحاق، وهو أشبه والله أعلم.
فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم، انشمروا إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت
الروم بقدوم أمير المؤمنين عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جدا.
وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهزمت الروم هزيمة فظيعة.
وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الامداد إليهم بثلاث ليال.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر وهو بالجابية يخبره بالفتح وأن المدد وصل إليهم بعد ثلاث ليال وسأله هل يدخلهم في القسم معهم مما أفاء الله عليهم ؟ فجاء الجواب بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإن العدو إنما ضعف وإنما انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في الغنيمة.
وقال عمر: جزى
__________
(1) سهيل بن عدي إلى الرقة، وعبد الله بن عتبان إلى نصيبين، والوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من تنوخ وربيعة، وأمير الفرق جميعا عياض.
(الطبري - الكامل).

الله أهل الكوفة خيرا يحمون (1) حوزتهم ويمدون أهل الامصار.
فتح الجزيرة قال ابن جرير: وفي هذه السنة فتحت الجزائر فيما قاله سيف بن عمر، قال ابن جرير: في ذي الحجة من سنة سبع عشرة فوافق سيف بن عمر في كونها في هذه السنة.
وقال ابن إسحاق: كان ذلك في سنة تسع عشرة.
سار إليها عياض بن غنم.
وفي صحبته أبو موسى الاشعري وعمر ابن سعد بن أبي وقاص (2)، وهو غلام صغير السن ليس إليه من الامر شئ، وعثمان بن أبي العاص.
فنزل الرها فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران على ذلك.
ثم بعث أبا موسى الاشعري إلى نصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار بنفسه إلى دارا، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية، فكان عندها شئ من قتال قتل فيه صفوان بن المعطل السلمي شهيدا.
ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار.
وقال سيف في روايته: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان (2) فسلك على رجليه (3) حتى انتهى إلى الموصل فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كما صنع أهل
الرقة (4).
وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة، فقال لهم عمر: أدوا الجزية.
فقالوا: أبلغنا مأمننا فوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن أرض الروم، والله لتفضحنا من بين العرب.
فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، ووالله لتؤدن الجزية وأنتم صغرة قمئة، ولئن هربتم إلى الروم لاكتبن فيكم، ثم لاسبينكم.
قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسميه جزية.
فقال: أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسموه ما شئتم.
فقال له علي بن أبي طالب: ألم يضعف عليهم سعد الصدقة ؟ قال: بلى، وأصغى إليه ورضي به منهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام فوصل إلى
__________
(1) في الطبري: يكفون.
وفي فتوح البلدان عن شمر بن عطية قال قال عمر: هم رمح الله وكنز الايمان وجمجمة العرب، يحرسون ثغورهم ويمدون أهل الامصار 2 / 354.
(2) في فتوح البلدان: عمير بن سعد، قال الكلبي وهو عمير بن سعد بن شهيد بن عمرو أحد الاولى.
وقال الواقدي: هو عمير بن سعد بن عبيد وقتل أبوه سعد يوم القادسية.
(3) في الطبري: عتبان، وفي الواقدي كالاصل.
والعبارة في الطبري: عبد الله بن عيد الله بن عتبان سلك على دجلة...(4) قال البلاذري في فتوح البلدان عن ثابت بن الحجاج: فتح عياض الرقة وحران والرها ونصيبين وميا فارقين وقرقيسيا وقرى الفرات ومدائنها صلحا وأرضها عنوة.

سرع في قول محمد بن إسحاق، وقال سيف: وصل إلى الجابية.
قلت: والاشهر أنه وصل سرع، وقد تلقاه أمراء الاجناد، أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد (1)، إلى سرع فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فاستشار عمر المهاجرين والانصار فاختلفوا عليه، فمن قائل يقول: أنت قد جئت لامر فلا ترجع عنه.
ومن قائل يقول: لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوباء.
فيقال إن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد.
فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله ؟ قال: نعم ! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت واديا ذا
عدوتين إحداهما مخصبة والاخرى مجدبة، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ ثم قال لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة.
قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخاري: وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبا في بعض شأنه، فلما قدم قال: إن عندي من ذلك علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض قوم فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه (2).
فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس.
وقال الامام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان بن حسين ابن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة ابن زيد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم، فإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه (3) " ورواه الامام أحمد أيضا من حديث سعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد عن سعد بن أبي وقاص به.
قال سيف بن عمر: كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من هذه السنة ثم ارتفع، وكأن سيفا يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس، الذي هلك فيه خلق من الامراء ووجوه المسلمين، وليس الامر كما زعم، بل طاعون عمواس من السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وذكر سيف بن عمر: أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف البلدان، ويزور الامراء، وينظر فيما اعتقدوه وما آثروا من الخير، فاختلف عليه الصحابة فمن قائل يقول ابدأ بالعراق، ومن قائل يقول بالشام.
فعزم عمر على قدوم الشام لاجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون عمواس، فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام فعزم على ذلك.
وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سرع.
والله أعلم.
قال سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث
__________
(1) في الطبري: شرحبيل بن حسنة بدل خالد.
(2) أخرجه البخاري في الانبياء 54 وفي الحيل 13، ومالك في الموطأ في المدينة 22، 23، 24.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 182 و 4 / 195.

الناس بالشام أبدأ بها فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأنبذ إليهم أمري.
قالوا: فأتى عمر الشام أربع مرات مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة سبع عشرة، ولم يدخلها في الاولى من الاخريين.
وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى أنه كان في سنة ثماني عشرة.
وفيه توفي أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الاعيان، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
شئ من أخبار طاعون عمواس الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم.
أورده ابن جرير في هذه السنة.
قال محمد بن إسحاق عن شعبة عن المختار (1) بن عبد الله البجلي عن طارق بن شهاب البجلي.
قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده فلما جلسنا قال: لا تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها، حتى يرتفع هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى.
من ذلك أن يظن من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك أما بعد فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك بها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي: قال فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، فقال: يغفر الله لامير المؤمنين.
ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم
أمره وقضاءه، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي.
فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة ؟ قال: لا، وكأن قد.
قال: ثم كتب إليه " سلام عليك أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة " قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فأخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لارتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت، فرجعت إليه وقلت: والله لقد كان في أهلي حدث.
فقال: لعل صاحبتك قد أصيبت ؟ قلت: نعم، فأمر ببعير فرحل فلما وضع رجله في غرزه طعن فقال: والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل
__________
(1) في الطبري المخارق.

الجابية ورفع عن الناس الوباء (1).
وقال محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح بن شهر بن حوشب عن رابة - رجل من قومه -.
وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عمواس.
قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم (2) وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لابي عبيدة [ منه ] حظه، فطعن، فمات واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده.
فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ [ منه ] حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب (3) ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا.
فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص فقام فيهم خطيبا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال نار، فتحصنوا (4) منه في الجبال.
فقال أبو وائل الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت شر من حماري هذا.
فقال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه.
قال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا ودفعه الله عنهم.
قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب
من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الاردن وخراجها.
وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم ير مثلهما (5) وطال مكثه، وفني خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو وتخوفت قلوب المسلمين لذلك.
قلت: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الامراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الاعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة.
__________
(1) الخبر في الطبري 4 / 201 والكامل في التاريخ 2 / 558 في حوادث سنة 81 ه.
(2) قوله دعوة نبيكم: حين جاءه جبرائيل فقال: فناء أمتك بالطعن أو الطاعون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فبالطاعون.
(3) في الطبري: يقبل، وفي الكامل: يقبلها.
وانظر خطبتيهما في فتوح ابن الاعثم 1 / 312 - 313.
(4) في الطبري: فتجبلوا.
وفي فتوح ابن الاعثم 1 / 313 قال: إن هذا الوباء قد وقع فيكم، إنما هو وخز من الجن، فمن أقام به هوى ومن انحاز عنه نجا.
(5) في الطبري: وقع موتانا لم ير مثله.
وفي الكامل: وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قط، وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفا.

وقال سيف بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة، قال: فلما أراد القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، فبسطنا (1) بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج، وبوأنا لكم، ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم أطعماتكم، وأمرنا
لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانكم.
فمن علم شيئا ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله ولا قوة إلا بالله.
قال وحضرت الصلاة فقال الناس: لو أمرت بلالا فأذن ؟ فأمره فأذن فلم يبق أحد كان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن جرير في هذه السنة من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام، وتدلكه بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الاثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر فلا تمسوها أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر.
فكتب إليه عمر: إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه فانتهى لذلك.
قال سيف: وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضا فمات بشر كثير وجم غفير، رحمهم الله ورضي الله عنهم أجمعين.
قالوا: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام فلم يرجع منهم إلا أربعة.
فقال المهاجر بن خالد في ذلك: من يسكن الشام يعرس به * والشام إن لم يفننا كارب أفنى بني ريطة فرسانهم * عشرون لم يقصص لهم شارب ومن بني أعمامهم مثلهم * لمثل هذا يعجب العاجب طعنا وطاعونا مناياهم * ذلك ما خط لنا الكاتب كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضا قال ابن جرير: وفي هذه السنة أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم، أي سلكا درب الروم وأغارا عليهم، فغنموا أموالا عظيمة وسبيا كثيرا.
ثم روى من طريق سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع وأبي المجالد.
قالوا: لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة انتجعه
__________
(1) في الطبري: قسطنا.

الناس يبتغون رفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الاشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف فلما بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة يأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته وينزع عنه قلنسوته ويقيده بعمامته ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الاشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ثم أعزله عن عمله.
فطلب أبو عبيدة خالدا وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي قدم بالكتاب.
هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك.
ثم سار خالد إلى قنسرين فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص فخطبهم أيضا وودعهم وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد عمر قول الشاعر: صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الاقوام فالله صانع ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف ؟ فقال: من الانفال والسهمان.
قال: فما زاد على الستين ألفا فلك، ثم قوم أمواله وعروضه وأخذ منه عشرين ألفا ثم قال: والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعمل (1) لي بعد اليوم على شئ.
وقال سيف عن عبد الله عن المستورد عن أبيه عن عدي بن سهل.
قال: كتب عمر إلى الامصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.
ثم رواه سيف عن مبشر عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر فذكر مثله.
قال الواقدي: وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمر في المسجد الحرام وأمر بتجديد أنصاب الحرم، أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.
قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله المري عن أبيه عن جده قال: قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
قال الواقدي: وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة.
وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها وأنه أمهرها أربعين ألفا، وقال إنما تزوجتها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل سبب ونسب فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " قال: وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الاشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الاول فشهد عليه فيما حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن عبيد (2)، وزياد.
ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة
__________
(1) في الطبري: ولن تعاتبني.
(2) في الطبري: ابن كلدة.

وملخصها: أن امرأة كان يقال لها أم جميل بنت الافقم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال من نساء بني هلال.
وكان زوجها (1) من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الامراء والاشراف، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة وهو أمير البصرة، وكانت دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما الطريق، وفي دار أبي بكرة كوة تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة شنآن.
فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية، إذ فتحت الريح باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها، فقال أبو بكرة لاصحابه: تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل.
فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة، فقالوا لابي بكرة.
ومن أين قلت إنها أم جميل ؟ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -.
فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة فقال أبو بكرة: هذه أم جميل.
فعرفوها فيما يظنون.
فلما خرج المغيرة - وقد اغتسل - ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى عمر أبا موسى الاشعري أميرا على البصرة.
وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد.
فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجرا ولا زائرا ولا جاء إلا أميرا.
ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتابا من عمر هو أوجز كتاب فيه " أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى
أميرا فسلم ما في يديك والعجل " وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليت عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم وليجبي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم.
وأهدى المغيرة لابي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى عقيلة وقال: إني رضيتها لك، وكانت فارهة.
وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد بن أمية، وشبل بن معبد البجلي.
فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة.
فقال المغيرة: سئل هؤلاء الاعبد كيف رأوني ؟ مستقبلهم أو مستدبرهم ؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا ؟ أو مستدبري فكيف استحلوا النظر في منزلي على امرأتي ؟ والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت تشبهها.
فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما ؟ قال: مستدبرهما.
قال: فكيف استبنت رأسها قال: تحاملت.
ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك، فقال استقبلتهما أم استدبرتهما ؟ قال: استقبلتهما.
وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.
قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان وأستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا.
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة ؟ قال: لا.
فهل تعرف المرأة ؟ قال: لا ولكن أشبهها.
قال: فتنح.
وروي أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك ثم أمر بالثلاثة فجلدوا الحد وهو يقرأ قوله تعالى * (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) * [ النور: 13 ] فقال المغيرة: اشفني من الاعبد.
قال: اسكت أسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك.
__________
(1) واسمه: الحجاج بن عبيد.

فتح الاهواز ومناذر ونهر تيري قال ابن جرير: كان في هذه السنة، وقيل: في سنة ست عشرة.
ثم روى من طريق سيف ؟ ن شيوخه أن الهرمزان كان قد تغلب على هذه الاقاليم وكان ممن فر يوم القادسية من الفرس، جهز أبو موسى من البصرة (1)، وعتبة بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه،
أخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من أرادوا، ثم صانعهم طلب مصالحتهم عن بقية بلاده (2)، فشاروا في ذلك عتبة بن غزوان فصالحه، وبعث بالاخماس البشارة إلى عمر، وبعث وفدا فيهم الاحنف بن قيس.
فأعجب عمر به وحظي عنده.
وكتب إلى عتبة يوصيه به ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه.
ثم نقض الهرمزان العهد والصلح، واستعان بطائفة من الاكراد، وغرته نفسه، وحسن له الشيطان عمله في ذلك.
فبرز إليه المسلمون فنصروا عليه وقتلوا من جيشه جما غفيرا، وخلقا كثيرا، وجمعا عظيما، واستلبوا منه ما بيده من الاقاليم والبلدان إلى تستر، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك.
وقد قال الاسود بن سريع في ذلك - وكان صحابيا رضي الله عنه -.
لعمرك ما أضاع بنو أبينا * ولكن حافظوا فيمن يطيعوا أطاعوا ربهم وعصاه قوم * أضاعوا أمره فيمن يضيع مجوس لا ينهنهها كتاب * فلاقوا كبة فيها قبوع وولى الهرمزان على جواد * سريع الشد يثفنه الجميع وخلى سرة الاهواز كرها * غداة الجسر إذ نجم الربيع وقال حرقوص بن زهير السعدي وكان صحابيا أيضا: غلبنا الهرمزان على بلاد * لها في كل ناحية ذخائر سواء برهم والبحر فيها * إذا صارت نواحيها بواكر لها بجر يعج بجانبيه * جعافر لا يزال لها زواخر
__________
(1) لم يأت الطبري في روايته على ذكر أبي موسى، الخبر فيه 4 / 208.
وقال في فتوح البلدان: أن المغيرة بن شعبة غزا في ولايته سوق الاهواز وشخص عتبة من البصرة آخر سنة خمس عشرة أو أول سنة ست عشرة.
وبعد نكث الهرمزان صلحه غزاها أبو موسى وكان قد تولى البصرة بعد المغيرة وذلك في سنة سبع عشرة 2 / 464.
ويؤيده ما ذكره ابن الاعثم في فتوحه 2 / 3 في كتاب عمر إلى أبي موسى: " فقد بلغني أن الاعاجم قد تحركت بأرض الاهواز من تستر والسوس ومناذر وما والى ذلك...سر على بركة الله ".
(2) كان الصلح معه على الاهواز كلها ومهرجان خان ما خلا نهر تيري ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الاهواز.

فتح تستر المرة الاولى صلحا قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته.
وقال غيره: في سنة ست عشرة وقال غيره: كانت في سنة تسع عشرة.
ثم قال ابن جرير: ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو قالوا: ولما افتتح حرقوص بن زهير (1) سوق الاهواز، وفر الهرمزان بين يديه، فبعث في إثره جزء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر بذلك - فما زال جزء يتبعه حتى انتهى إلى رامهرمز فتحصن الهرمزان في بلادها، وأعجز جزءا تطلبه، واستحوذ جزء على تلك البلاد والاقاليم والاراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها، وشق الانهار إلى خرابها ومواتها: فصارت في غاية العمارة والجودة.
ولما رأى الهرمزان ضيق بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جزء بن معاوية المصالحة، فكتب إلى حرقوص، فكتب حرقوص إلى عتبة بن غزوان، وكتب عتبة إلى عمر في ذلك.
فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهرمز، وتستر، وجندسابور، ومدائن أخر من ذلك.
فوقع الصلح على ذلك كما أمر به عمر رضي الله عنه (2).
ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين عن ابن جرير عن سيف وذلك أن العلاء بن الحضرمي كان على البحرين في أيام الصديق، فلما كان عمر عزله عنها وولاها لقدامة بن مظعون.
ثم أعاد العلاء بن الحضرمي إليها.
وكان العلاء بن الحضرمي يباري سعد بن أبي وقاص.
فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية البحرين.
فأحب العلاء أن يفعل فعلا في فارس نظير ما فعله سعد فيهم، فندب الناس إلى حربهم، فاستجاب له أهل بلاده، فجزأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن المعلى، وعلى الاخرى السوار بن همام، وعلى الاخرى خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد هو أمير الجماعة.
فحملهم في البحر إلى فارس،
وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر يكره ذلك لان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ما أغزيا فيه المسلمين - فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند اصطخر فحالت فارس بينهم وبين سفنهم، فقام في الناس خليد بن المنذر فقال: أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم لمحاربتهم، فاستعينوا بالله وقاتلوهم، فإنما الارض والسفن لمن غلب، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فأجابوه إلى ذلك فصلوا الظهر
__________
(1) حرقوص بن زهير السعدي، مدد عمر لعتبة بن غزوان بعد نقض الهرمزان صلحه (الطبري - الكامل).
(2) انظر الطبري 4 / 211 وفتوح البلدان 2 / 464 - 465 والكامل: 2 / 545.
وفتوح ابن الاعثم 2 / 9 فعند ابن الاعثم والبلاذري أن أبا موسى الاشعري تولى بنفسه صلح تستر.

ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في مكان من الارض يدعى طاوس، ثم أمر خليد المسلمين فترجلوا وقاتلوا فصبروا، ثم ظفروا فقتلوا فارس مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها.
ثم خرجوا يريدون البصرة فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا ووجدوا شهرك في أهل اصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا من العدو.
ولما بلغ عمر ما صنع العلاء بن الحضرمي، اشتد غضبه عليه، وبعث إليه فعزله وتوعده، وأمره بأثقل الاشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه.
فقال: الحق بسعد بن أبي وقاص [ فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد ] (1) مضافا إليه، وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إن لا ينصروا، أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا.
فندب عتبة المسلمين وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من الامراء والابطال، منهم هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، والاخنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفا.
وعلى الجميع أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعا، فساروا على الساحل لا يلقون أحدا حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء،
وبين أهل فارس بالمكان المسمى بطاوس، وإذا خليد بن المنذر ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت عليهم تلك الامم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا القتال.
فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين رأسا، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، وأخذ منهم أموالا جزيلة باهرة، واستنقذ خليدا ومن معه من المسلمين من أيديهم، وأعز به الاسلام وأهله، ودفع الشرك وذله ولله الحمد والمنة ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة.
ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له فسار إلى الحج واستخلف على البصرة أبا سبرة بن أبي رهم، واجتمع بعمر في الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه ليرجعن إلى عمله.
فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرف من الحج، فتأثر عليه عمر وأثنى عليه خيرا، وولى بعده بالبصرة المغيرة بن شعبة، فوليها بقية تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدث، وكان مرزوق السلامة في عمله.
ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة فكان من أمره ما قدمنا.
ثم بعث إليها أبا موسى الاشعري واليا عليها رضي الله عنهم.
__________
(1) بياض بالاصل، وما بين معكوفين من الطبري.

ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي.
وكان سبب ذلك أن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت ويؤنبهم بملك العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم فكتب إلى أهل الاهواز وأهل فارس فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة.
وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة - أن ابعث جيشا كثيفا إلى الاهواز مع النعمان بن مقرن وعجل وليكونوا بإزاء الهرمزان (1)، وسمى رجالا من الشجعان
الاعيان الامراء يكونون في هذا الجيش، منهم جرير بن عبد الله البجلي، وجرير بن عبد الله الحميري، والنعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن: وعبد الله بن ذي السهمين.
وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة أن ابعث إلى الاهواز جندا كثيفا وأمر عليهم سهيل (2) بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن ثور (3)، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد.
وليكن على أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة بن أبي رهم، وعلى كل من أتاه من المدد.
قالوا: فسار النعمان بن مقرن بجيش الكوفة فسبق البصريين فانتهى إلى رامهرمز (4) وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد بينه وبين المسلمين، فبادره طمعا أن يقتطعه قبل مجئ أصحابه من أهل البصرة رجاء أن ينصر أهل فارس، فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل (5)، فاقتتلا قتالا شديدا، فهزم الهرمزان وفر إلى تستر، وترك رامهرمز فتسلمها النعمان عنوة وأخذ ما فيها من الحواصل والذخائر والسلاح والعدد.
فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان وأنه فر فلجأ إلى تستر، ساروا إليها ولحقهم أهل الكوفة حتى أحاطوا بها فحاصروها جميعا، وعلى الجميع أبو سبرة، فوجدوا الهرمزان قد حشد بها خلقا كثيرا، وجما غفيرا.
وكتبوا إلى عمر في ذلك وسألوه أن يمدهم، فكتب إلى أبي موسى أن يسير إليهم.
فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة واستمر أبو سبرة على الامرة (6) على جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم أشهرا وكثر القتل من
__________
(1) كذا بالاصل والطبري وفتوح البلدان والكامل، وفي فتوح ابن الاعثم: الهرمزدان أنو شروان.
(2) في الطبري والكامل: سهل بن عدي أخو سهيل.
(3) في الطبري: سور.
(4) في فتوح البلان: أن أبا موسى هادن أهل رامهرمز ولما انقضت هدنتهم وجه إليهم أبا مريم الحنفي فصالحهم على ثماني مئة ألف درهم ثم غدروا ففتحها أبو موسى عنوة.
(2 / 466 - 467) وفي ابن الاعثم أن النعمان وجرير ابن عبد الله افتتحا معا قلاع ومدينة رمهرمز بالسيف قسرا بعد أن هادنهم وأجلهم أبو موسى ستة أشهر 2 / 11.
(5) في الطبري والكامل: اربك.
(6) في فتوح البلدان وفتوح ابن الاعثم: أبو موسى كان الامير على الناس.
وفي الطبري والكامل فكالاه.

الفريقين، وقتل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز سوى من قتل غير ذلك، وكذلك فعل كعب بن ثور، ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة (1) وغيرهم من أهل البصرة، وكذلك أهل الكوفة قتل منهم جماعة مائة مبارزة كحبيب بن قرة، وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الاسود وقد تزاحفوا أياما متعددة، حتى إذا كان في آخر زحف قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجاب الدعوه -: يا براء اقسم على ربك ليهزمنهم لنا.
فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني قال: فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ المشركون إلى البلد فتحصنوا به، وقد ضاقت بهم البلد، وطلب رجل (2) من أهل البلد الامان من أبي موسى فأمنه، فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون منه إلى البلد، وهو من مدخل الماء إليها، فندب الامراء الناس إلى ذلك فانتدب رجال من الشجعان والابطال، وجاؤا فدخلوا مع الماء - كالبط - إلى البلد، وذلك في الليل، فيقال كان أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني (3)، وجاؤا إلى البوابين فأناموهم وفتحوا الابواب، وكبر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت الفجر إلى أن تعالى النهار، ولم يصلوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس - كما حكاه البخاري عن أنس بن مالك قال: شهدت فتح تستر، وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس - فما أحب أن لي بتلك الصلاة حمر النعم.
احتج بذلك البخاري لمكحول والاوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة لعذر القتال.
وجنح إليه البخاري واستدل بقصة الخندق في قوله عليه السلام " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملا الله قبورهم وبيوتهم نارا (4) " وبقوله يوم بني قريظة " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة (5) " فأخرها فريق من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، وقد تكلمنا على ذلك في غزوة الفتح.
والمقصود أن الهرمزان لما فتحت البلد لجأ إلى القلعة فتبعه جماعة من الابطال ممن ذكرنا وغيرهم فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا تلافه أو تلافهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن
مالك ومجزأة بن ثور رحمهما الله: إن معي جعبة فيها مائة سهم، وإنه لا يتقدم إلي أحد منكم إلا رميته بسهم قتلته.
ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعدما قتلت منكم مائة رجل ؟ قالوا: فماذا تريد ؟ قال: تؤمنوني حتى أسلمكم يدي فتذهبوا بي إلى عمر بن
__________
(1) في الطبري: أبو تميمة.
(2) في فتوح ابن الاعثم ذكر اسمه: نسيبه بن دارنه.
وفي الاخبار الطوال: سينة.
(3) في فتوح ابن الاعثم عوف بن مجزأة.
وفي فتوح البلدان 2 / 468: رجل من بني شيبان يقال له أشرس بن عوف وفي الاخبار الطوال ص (131) مثل فتوح البلدان.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (98) باب ح (2931) فتح الباري 6 / 105.
وفي المغازي ح (4111) ومسلم في كتاب المساجد (36) باب.
ح 204.
(5) أخرجه البخاري في المغازي فتح الباري 7 / 407 ومسلم في الجهاد ح (69) ص (1391).

الخطاب فيحكم في بما يشاء.
فأجابوه إلى ذلك فألقى قوسه ونشابه وأسروه فشدوه وثاقا وأرصدوه ليبعثوه إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الاموال والحواصل فاقتسموا أربعة أخماسه فنال كل فارس ثلاثة آلاف وكل راجل ألف درهم.
فتح السويس ثم ركب أبو سبرة في طائفة من الجيش ومعه أبو موسى الاشعري والنعمان بن مقرن، واستصحبوا معهم الهرمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس حتى نزلوا على السوس، فأحاطوا بها.
وكتب أبو سبرة إلى عمر فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة، وأمر عمر زر ابن عبد الله بن كليب العقيمي (1) - وهو صحابي - أن يسير إلى جندسابور، فسار.
ثم بعث أبو سبرد بالخمس وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك والاحنف بن قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ.
ثم دخلوا المدينة وهو كذلك فتيمموا به منزل أمير المؤمنين، فسألوا عنه فقالوا: إنه ذهب إلى المسجد بسبب
وفد من الكوفة.
فجاؤا المسجد فلم يروا أحدا فرجعوا، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه فقالوا: إنه نائم في المسجد متوسدا برنسا له.
فرجعوا إلى المسجد فإذا هو متوسد برنسا له كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره، والدرة معلقة في يده.
فقال الهرمزان: أين عمر ؟ فقالوا: هو ذا.
وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه، وجعل الهرمزان يقول: وأين حجابه ؟ أين حرسه ؟ فقالوا: ليس له حجاب ولا حرس، ولا كاتب ولا ديوان.
فقال: ينبغي أن يكون نبيا.
فقالوا: بل يعمل عمل الانبياء.
وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان ؟ قالوا: نعم.
فتأمله وتأمل ما عليه ثم قال: أعوذ بالله من النار وأستعين بالله.
ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالاسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غدارة (2).
فقال له الوفد: هذا ملك الاهواز فكلمه.
فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شئ.
ففعلوا ذلك وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله ؟ فقال: يا عمر: إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا.
فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.
ثم قال: ما عذرك وما حجتك في انقاضك مرة بعد مرة ؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.
قال: لا تخف ذلك.
فاستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ (3)، فقال: لو
__________
(1) في الطبري والكامل: الفقيمي.
وفي فتوح البلدان أن أبا موسى سار إلى جنديسابور فطلبوا الامان وصالحهم 2 / 470.
(2) في الطبري: غرارة.
(3) في ابن الاعثم: من خشب.

مت عطشا لم أستطع أن أشرب في هذا.
فأتي به في قدح آخر يرضاه فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب.
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه فأكفأه.
فقال
عمر: أعيدوه عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.
فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس (1) به.
فقال له عمر: إني قاتلك، فقال: إنك أمنتني.
قال: كذبت: فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ويحك يا أنس أنا أؤمن من قتل مجزأة والبراء ؟ لتأتيني بمخرج وإلا عاقبتك، قال: قلت لا بأس عليك حتى تخبرني.
وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك.
فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني والله لا أنخدع إلا أن تسلم.
فأسلم ففرض له في ألفين وأنزله المدينة.
وفي رواية أن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة، فقال له عمر: قل له من أي أرض أنت ؟ قال مهرجاني.
قال: تكلم بحجتك.
فقال: أكلام حي أم ميت ؟ قال: بل كلام حي.
فقال قد أمنتني، فقال خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم.
فأسلم ففرض له في ألفين وأنزله المدينة.
ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضا.
قلت: وقد حسن إسلام الهرمزان وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر فاتهمه بعض الناس بممالاة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة على ما سيأتي تفصيله.
وقد روينا أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال: لا إله إلا الله.
وأما جفينة فصلب على وجهه.
والمقصود أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم خوفا عليهم من العجم، حتى أشار عليه الاحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات فإن الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين، وإن لم يستأصل شأو العجم وإلا طمعوا في الاسلام وأهله، فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه.
وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئا كثيرا، ولله الحمد.
وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها.
ثم نعود إلى فتح السوس وجندسابور وفتح نهاوند في قول سيف.
كان قد تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الامراء من تستر إلى السوس، فنازلها حينا وقتل من الفريقين خلق كثير، فأشرف عليه علماء أهلها فقالوا: يا معشر المسلمين لا تتعبوا في حصار هذا البلد فإنا نأثر فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال أو قوم معهم الدجال، واتفق أنه كان في
جيش أبي موسى الاشعري صاف بن صياد، فأرسله أبو موسى فيمن يحاصره، فجاء إلى الباب فدقه برجله فتقطعت السلاسل، وتكسرت الاغلاق، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالامان ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى ذلك، وكان على السوس شهريار (2) أخو
__________
(1) في الطبري: أستأمن.
(2) في فتوح ابن الاعثم: سابور ابن آذرماهان 2 / 6.

الهرمزان، فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلد قديم العمارة في الارض يقال إنه أول بلد وضع على وجه الارض.
والله أعلم.
وذكر ابن جرير أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما قدم بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره فكتب إليه أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره، ففعل (1).
وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد.
قال ابن جرير: وقال بعضهم أن فتح السوس ورامهز وتسيير الهرمزان من تستر إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم.
وكان الكتاب العمري قد ورد بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل نهاوند فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها ثم ذهب إلى نهاوند ففتحها.
ولله الحمد.
قلت: المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي فيها بيان ذلك، وهي وقعة عظيمة وفتح كبير، وخبر غريب ونبأ عجيب، وفتح زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جندي سابور (2) فاستوثقت تلك البلاد للمسلمين.
هذا وقد تحول يزدجرد من بلد إلى بلد، حتى انتهى أمره إلى الاقامة بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريبا من ثلثمائة من العظماء عليهم رجل يقال له سياه، فكانوا يفرون من المسلمين من بلد إلى بلد حتى فتح المسلمون تستر واصطخر، فقال سياه لاصحابه: إن هؤلاء بعد الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك الاقدمين، ولا يلقون جندا إلا كسروه، والله ما هذا عن باطل.
- ودخل في قلبه الاسلام وعظمته - فقالوا له: نحن تبع لك.
وبعث عمار بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى الاشعري بإسلامهم، وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم
في ألفين ألفين، وفرض لستة منهم في ألفين وخمسمائة، وحسن إسلامهم، وكان لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصنا فامتنع عليهم فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن وضمخ ثيابه بدم، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه فثار إلى البواب فقتله، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا من فيه من المجوس.
إلى غير ذلك من الامور العجيبة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وذكر ابن جرير أن عمر بن الخطاب عقد الالوية والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم كما أشار عليه بذلك الاحنف بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها كما سنبينه وننبه عليه ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ذكرت مضامين هذه الرسالة في مصادرها مختصرة فقال الطبري: " وكتب إلى عمر فيه، فكتب إليه يأمره بتوريته " وقال ابن الاثير في الكامل: " فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه " وقال البلاذري: " فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أن كفنه وادفنه.
فسكر أبو موسى نهرا حتى إذا انقطع، دفنه، ثم اجرى الماء عليه ".
(2) في الاصل جند سابور، والتصحيح من الطبري.

قال: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر نوابه على البلاد، وهم من ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على البصرة بدله أبو موسى الاشعري.
قلت: وقد توفي في هذه السنة أقوام قيل إنهم توفوا قبلها وقد ذكرناهم، وقيل فيما بعدها وسيأتي ذكرهم في أماكنهم والله تعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة المشهور الذي عليه الجمهور أن طاعون عمواس كان بها، وقد تبعنا قول سيف بن عمر وابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها، لكنا نذكر وفاة من مات في الطاعون في هذه السنة إن شاء الله تعالى، قال ابن إسحاق، وأبو معشر: كان في هذه السنة طاعون عمواس وعام الرمادة،
فتفانى فيهما الناس.
قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعا شديدا.
وقد بسطنا القول في ذلك في سيرة عمر.
وسميت عام الرمادة لان الارض اسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيها بالرماد.
وقيل: لانها تسفى الريح ترابا كالرماد.
ويمكن أن تكون سميت لكل منهما.
والله أعلم.
وقد أجدبت الناس في هذه السنة بأرض الحجاز، وجفلت الاحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد فلجأوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الاطعمة والاموال حتى أنفده، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصيب يبث له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت.
وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف.
واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم.
قال الشافعي: بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحلت الاحياء عن المدينة: لقد انجلت عنك ولانك لابن حرة.
أي واسيت الناس وأنصفتهم وأحسنت إليهم.
وقد روينا أن عمر عس المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلا يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السؤال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون.
فكتب عمر إلى أبي موشى بالبصرة أن يا غوثاه لامة محمد.
وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن يا غوثاه لامة محمد.
فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الاطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة.
وهذا الاثر جيد الاسناد، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم.
والله أعلم.

وذكر سيف عن شيوخه أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحلة تحمل طعاما، فأمره
عمر بتفريقها في الاحياء حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له بأربعة آلاف درهم فأبى أن يقبلها، فلح عليه عمر حتى قبلها.
وقال سيف بن عمر عن سهل بن يوسف السلمي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني عشرة، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس، حتى جعلت الوحش تأوي إلى الانس، فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الامصار حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسول رسول الله إليك، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد عهدتك كيسا، وما زلت على ذلك (1)، فما شأنك " ؟ قال: متى رأيت هذا ؟ قال: البارحة.
فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين ثم قام فقال: أيها الناس أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرا غيره خير منه ؟ فقالوا: اللهم لا، فقال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية.
قالوا: صدق بلال فاستغث بالله ثم بالمسلمين.
فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر، بلغ البلاء مدته فانكشف.
ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم الاذى والبلاء.
وكتب إلى أمراء الامصار أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم.
وأخرج الناس إلى الاستسقاء فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشيا، فخطب وأوجز وصلى ثم جثى لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا.
ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران.
ثم روى سيف عن مبشر بن الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب: أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة فقال: ليس فيهن شئ.
فألحوا عليه فذبح شاة فإذا عظامها حمر فقال يا محمداه.
فلما أمسى أرى في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: " أبشر بالحياة، إيت عمر فأقره مني السلام وقل له إن عهدي بك وفي العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر "، فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه استأذن لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأتى عمر فأخبره ففزع، ثم صعد عمر المنبر فقال للناس: أنشدكم الله الذي هداكم
للاسلام هل رأيتم مني شيئا تكرهونه ؟ فقالوا: اللهم لا، وعم ذاك ؟ فأخبرهم بقول المزني - وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن.
فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا.
فنادى في الناس فخطب فأوجز ثم صلى ركعتين فأوجز ثم قال: اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحيي العباد والبلاد.
__________
(1) في الطبري: وما زلت على رجل.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر، حدثنا إبراهيم (1) بن علي الذهلي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق الله لامتك فإنهم قد هلكوا.
فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: إيت عمر فأقره (2) مني السلام واخبرهم أنهم مسقون، وقل له عليك بالكيس الكيس.
فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه (3).
وهذا إسناد صحيح.
وقال الطبراني: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو محمد الانصاري، ثنا أبي، عن ثمامة ابن عبد الله بن أنس، عن أنس أن عمر خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي يقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه البخاري عن الحسن بن محمد عن محمد بن عبد الله به ولفظه " عن أنس أن عمر كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب فيقول: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.
قال: فيسقون (4).
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا - في كتاب المطر وفي كتاب مجابي الدعوة - حدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا عطاء بن مسلم، عن العمري عن خوات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك فما برح
من مكانه حتى مطروا فقدم أعراب فقالوا: يا أمير المؤمنين بينا نحن في وادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا منها صوتا: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان عن مطرف بن طريف عن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع فقالوا يا أمير المؤمنين ما نراك استسقيت.
فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) * [ نوح: 11 ] ثم قرأ * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * الآية [ هود: 3 ].
وذكر ابن جرير في هذه السنة من طريق سيف بن عمر، عن أبي المجالد والربيع وأبي عثمان وأبي حارثة وعن عبد الله بن شبرمة عن الشعبي قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب أن نفرا
__________
(1) في دلائل البيهقي: أبو بكر بن علي الذهلي.
(2) في الدلائل: فاقرئه.
(3) روى الخبر البيهقي في الدلائل 7 / 47.
(4) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب (3) ح (1010) فتح الباري (2 / 494).
ورواه البيهقي في الدلائل من طريق يعقوب بن سفيان ج 6 / 147.

من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار وأبو جندل بن سهل، فسألناهم فقالوا: خيرنا فاخترنا.
قال فهل أنتم منتهون ؟ ولم يعزم.
فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم، وأن المعنى: فهل أنتم منتهون أي انتهوا.
وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين.
وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل.
فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم فسلهم عن الخمر، فإن قالوا هي حلال فاقتلهم، وإن قالوا: هي حرام فاجلدهم.
فاعترف القوم بتحريمها، فجلدوا الحد وندموا على ما كان منهم من اللجاجة فيما تأولوه، حتى وسوس أبو جندل في نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في ذلك، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره، فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك، من
عمر إلى أبي جندل، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتب وارفع رأسك وابرز ولا تقنط فإن الله تعالى يقول * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) * [ الزمر: 53 ] وكتب عمر إلى الناس: إن عليكم أنفسكم ومن غير فغيروا عليه، ولا تعيروا أحدا فيفشو فيكم البلاء، وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك.
ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى * وليس على صرف المنون بقادر صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي * ولست عن الصهباء يوما بصابر (1) رماها أمير المؤمنين بحتفها * فخلانها يبكون حول المقاصر قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام - وكان ملصقا بجدار الكعبة - فأخره إلى حيث هو الآن لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين.
قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة.
قال: وفيها استقضى عمر شريحا على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة.
قال وفيها حج عمر بالناس وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية، وفيها فتحت الرقة والرها وحران على يدي عياض بن غنم.
قال: وفتحت رأس عين الوردة على يدي عمر (2) بن سعد بن أبي وقاص.
وقال غيره خلاف ذلك.
وقال شيخنا الحافظ الذهبي في تاريخه: وفيها - يعني هذه السنة - افتتح أبو موسى الاشعري الرها وشمشاط عنوة، وفي أوائلها وجه أبو عبيدة عياض بن غنم إلى الجزيرة فوافق أبا موسى فافتتحها حران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل صلحا.
وفيها سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة.
وفيها بنى سعد جامع الكوفة.
وقال الواقدي: وفيها كان طاعون عمواس فمات فيه خمسة وعشرون ألفا.
قلت: هذا الطاعون منسوب إلى بلدة صغيرة يقال لها عمواس - وهي بين القدس والرملة - لانها كان أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الواقدي توفي: في
__________
(1) الصهباء: الخمرة.
(2) انظر الحاشية رقم 2 ص 88 من هذا الجزء.

عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفا.
وقال غيره: ثلاثون ألفا.
وهذا ذكر طائفة من أعيانهم رضي الله عنهم.
الحارث بن هشام أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح، وكان سيدا شريفا في الاسلام كما كان في الجاهلية، استشهد بالشام في هذه السنة في قول، وتزوج عمر بعده بامرأته فاطمة.
شرحبيل بن حسنة أحد أمراء الارباع، وهو أمير فلسطين، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن (1) قطن الكندي حليف بني زهرة، وحسنة أمه، نسب إليها وغلب عليه ذلك.
أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة وجهزه الصديق إلى الشام، فكان أميرا على ربع الجيش، وكذلك في الدولة العمرية، وطعن هو وأبو عبيدة وأبو مالك الاشعري في يوم واحد سنة ثماني عشرة.
له حديثان روى ابن ماجه أحدهما في الوضوء وغيره.
عامر بن عبد الله بن الجراح ابن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي أبو عبيدة بن الجراح الفهري، أمين هذه الامة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد، وهم عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وأبو عبيدة بن الجراح.
أسلموا على يدي الصديق.
ولما هاجروا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، وقيل بين محمد بن مسلمة.
وقد شهد بدرا وما بعدها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح (2) " ثبت ذلك في الصحيحين.
وثبت في الصحيحين أيضا أن الصديق قال يوم السقيفة: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوه - يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة - وبعثه الصديق أميرا على ربع الجيش إلى الشام، ثم لما انتدب خالدا من العراق كان أميرا على أبي عبيدة وغيره لعلمه بالحروب.
فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل
__________
(1) في الاصابة: بن عبد الله بن الغطريف بن عبد العزي بن جثامة بن مالك الكندي.
وفي الاستيعاب: بن المطاع بن عمرو من كندة.
وقال موسى بن عقبة من بني جمح.
وقال الزبير: تبنته حسنة زوجة سفيان بن معمر بن حبيب الجمحي وليس بابن لها.
(2) أخرجاه من طريق أبي قلابة عن أنس، والبخاري نحوه من حديث حذيفة.
وأخرج الامام أحمد من طريق عفان عن حماد عن ثابت عن أنس.

خالدا وولى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالدا، فجمع للامة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد.
قال ابن عساكر: وهو أول من سمي أمير الامراء بالشام.
قالوا: وكان أبو عبيدة طوالا نحيفا أجنى معروق الوجه، خفيف اللحية، أهتم، وذلك لانه لما انتزع الحلقتين من وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد خاف أن يؤلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحامل على ثنيتيه فسقطتا، فما رأى أحسن هتما منه.
توفي بالطاعون عام عمواس كما تقدم سياقه في سنة ست عشرة عن سيف بن عمر.
والصحيح أن عمواس كانت في هذه السنة - سنة ثماني عشرة - بقرية فحل، وقيل بالجابية.
وقد اشتهر في هذه الاعصار قبر بالقرب من عقبة ينسب إليه والله أعلم.
وعمره يوم مات ثمان وخمسون سنة.
الفضل بن عباس بن عبد المطلب كان حسنا وسيما جميلا، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه يوم النحر من حجة الوداع، وهو شاب حسن، وقد شهد فتح الشام، واستشهد بطاعون عمواس، في قول محمد بن سعد والزبير بن بكار وأبي حاتم وابن الرقي وهو الصحيح.
وقيل يوم مرج الصفر، وقيل بأجنادين.
ويقال باليرموك سنة ثمان وعشرين.
معاذ بن جبل ابن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن علي بن أسد بن ساردة ابن يزيد بن جشم بن الخزرج الانصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني صحابي جليل كبير
القدر.
قال الواقدي: كان طوالا حسن الشعر والثغر براق الثنايا، لم يولد له.
وقال غيره: بل ولد له ولد وهو عبد الرحمن.
شهد معه اليرموك.
وقد شهد معاذ العقبة.
ولما هاجر الناس آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين ابن مسعود.
وحكى الواقدي الاجماع على ذلك.
وقد قال محمد بن إسحق: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب.
وشهد بدرا وما بعدها.
وكان أحد الاربعة من الخزرج، الذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد عمر بن أنس بن مالك.
وصح في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من حديث حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن الصنابحي.
عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " يا معاذ والله إني لاحبك فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " وفي المسند والنسائي وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا " وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له " بم تحكم " ؟ فقال: بكتاب الله وبالحديث.
وكذلك أقره الصديق على ذلك يعلم الناس الخير

باليمن.
ثم هاجر إلى الشام فكان بها حتى مات بعد ما استخلفه أبو عبيدة حين طعن ثم طعن بعده في هذه السنة.
وقد قال عمر بن الخطاب.
إن معاذا يبعث أمام العلماء بربوة.
ورواه محمد ابن كعب مرسلا.
وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم الخليل.
وقال ابن مسعود: إن معاذا كان قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين.
وكانت وفاته شرقي غوربيسان سنة ثماني عشرة.
وقيل سنة تسع عشرة وقيل سبع عشرة، عن ثمان وثلاثين (1) سنة على المشهور وقيل غير ذلك والله أعلم.
يزيد بن أبي سفيان أبو خالد صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الاموي، أخو معاوية، وكان يزيد أكبر وأفضل.
وكان يقال له يزيد الخير، أسلم عام (2) الفتح، وحضر حنينا وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الابل وأربعين أوقية، واستعمله الصديق على ربع الجيش إلى
الشام، وهو أول أمير وصل إليها، ومشى الصديق في ركابه يوصيه، وبعث معه أبا عبيدة وعمرو ابن العاص وشرحبيل بن حسنة فهؤلاء أمراء الارباع.
ولما افتتحوا دمشق دخل هو من باب الجابية الصغير عنوة كخالد في دخوله من الباب الشرقي عنوة وكان الصديق قد وعده بأمرتها، فوليها عن أمر عمر وأنفذ له ما وعده الصديق، وكان أول من وليها من المسلمين.
المشهور أنه مات في طاعون عمواس كما تقدم.
وزعم الوليد بن مسلم أنه توفي سنة تسع عشرة بعد ما فتح قيسارية.
ولما مات كان قد استخلف أخاه معاوية على دمشق فأمضى عمر بن الخطاب له ذلك رضي الله عنهم.
وليس له في الكتب شئ، وقد روى عنه أبو عبد الله الاشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده مثل الجائع الذي لا يأكل إلا التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئا ".
أبو جندل بن سهيل ابن عمرو، وقيل اسمه العاص (3) أسلم قديما وقد جاء يوم صلح الحديبية مسلما يرسف في قيوده لانه كان قد استضعف فرده أبوه وأبى أن يصالح حتى يرد، ثم لحق أبو جندل بأبي بصير إلى سيف البحر، ثم هاجر إلى المدينة وشهد فتح الشام.
وقد تقدم أنه تأول آية الخمر ثم رجع،
__________
(1) في الاصابة: أربع وثلاثين سنة وكذا قال سعيد بن المسيب.
(2) في الاستيعاب: يوم فتح مكة.
وفي الاصابة: من مسلمة الفتح.
(3) في الاصابة: عبد الله، وقال في الاستيعاب عبد الله أخاه، وقال الزبير: اسم أبي جندل سهيل بن عمرو بن سهيل.

ومات بطاعون عمواس رحمه الله ورضي عنه * أبو عبيدة بن الجراح هو عامر بن عبد الله تقدم * أبو مالك الاشعري، قيل اسمه كعب بن عاصم قدم مهاجرا سنة خيبر مع أصحاب السفينة، وشهد ما بعدها، واستشهد بالطاعون عام عمواس هو وأبو عبيدة ومعاذ في يوم واحد رضي الله عنهم أجمعين.
ثم دخلت سنة تسع عشرة قال الواقدي وغيره: كان فتح المدائن وجلولاء فيها.
والمشهور خلاف ما قال كما تقدم.
وقال محمد ابن إسحق: كان فتح الجزيرة والرها وحران ورأس العين ونصيبين في هذه السنة.
وقد خالفه غيره.
وقال أبو معشر وخليفة وابن الكلبي: كان فتح قيسارية في هذه السنة وأميرها معاوية.
وقال غيره يزيد بن أبي سفيان.
وقد تقدم أن معاوية افتتحها قبل هذا بسنتين.
وقال محمد بن إسحق كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين.
وقال سيف بن عمر: كان فتح قيسارية وفتح مصر في سنة ست عشرة.
قال ابن جرير: فأما فتح قيسارية فقد تقدم، وأما فتح مصر فإني سأذكره في سنة عشرين إن شاء الله تعالى.
قال الواقدي: وفي هذه السنة ظهرت نار من حرة ليلا فأراد عمر أن يخرج بالرجال إليها، ثم أمر المسلمين بالصدقة فطفئت ولله الحمد.
ويقال كان فيها وقعة أرمينية، وأميرها عثمان بن أبي العاص، وقد أصيب فيها صفوان بن المعطل بن رخصة السامي ثم الذكواني، وكان أحد الامراء يومئذ.
وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما علمت عليه إلا خيرا " وهو الذي ذكره المنافقون في قصة الافك فبرأ الله ساحته، وجناب أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا.
وقد كان إلى حين قالوا لم يتزوج، ولهذا قال والله ما كشفت كنف أنثى قط.
ثم تزوج بعد ذلك، وكان كثير النوم ربما غلب عليه عن صلاة الصبح في وقتها، كما جاء في سنن أبي داود وغيره.
وكان شاعرا ثم حصلت له شهادة في سبيل الله.
قيل بهذا البلد، وقيل بالجزيرة، وقيل بشمشاط.
وقد تقدم بعض هذا فيما سلف.
وفيها فتحت تكريت في قول والصحيح قبل ذلك، وفيها فيما ذكرنا أسرت الروم عبد الله بن حذافة.
وفيها في ذي الحجة منها كانت وقعة بأرض العراق قتل فيها أمير المجوس شهرك، وكان أمير المسلمين يومئذ الحكم بن أبي العاص رضي الله عنه.
قال ابن جرير وفيها حج بالناس عمر، ونوابه في البلاد وقضاته هم المذكورون قبلها.
والله أعلم.
ذكر من توفي فيها من الاعيان وممن توفي فيها من الاعيان أبي بن كعب سيد القراء، وهو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن
زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو المنذر وأبو الطفيل، الانصاري النجاري سيد القراء، شهد العقبة وبدرا وما بعدهما، وكان سيدا جليل القدر.
وهو أحد القراء الاربعة

الخزرجيين الذين جمعوا القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لعمر يوما: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه منه جبريل وهو رطب.
وفي المسند والنسائي وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا " أقرأ أمتي أبي بن كعب " وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ".
قال: وسماني لك ؟ " قال نعم " فزرفت عيناه وقد تكلمنا على ذلك في التفسير عند سورة * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) * قال الهيثم بن عدي: توفي أبي سنة تسع عشرة.
وقال يحيى بن معين: سنة سبع عشرة أو عشرين.
وقال الواقدي عن غير واحد: توفي سنة ثنتين وعشرين.
وبه قال أبو عبيد وابن نمير وجماعة.
وقال الفلاس وخليفة: توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه (1) * وفيها مات خباب مولى عتبة ابن غزوان من المهاجرين شهد بدرا وما بعدها، وهو صحابي من السابقين وصلى عليه عمر * ومات فيها صفوان بن المعطل في قول كما تقدم والله أعلم.
سنة عشرين من الهجرة قال محمد بن إسحق: فيها كان فتح مصر.
وكذا قال الواقدي: إنها فتحت هي واسكندرية في هذه السنة.
وقال أبو معشر: فتحت مصر سنة عشرين، واسكندرية في سنة خمس وعشرين.
وقال سيف: فتحت مصر واسكندرية في سنة ست عشرة في ربيع الاول منها.
ورجح ذلك أبو الحسن بن الاثير في الكامل لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرمادة، وهو معذور فيما رجحه والله أعلم.
وفيها كان فتح تستر في قول طائفة من علماء السير بعد محاصرة سنتين وقيل سنة ونصف.
والله أعلم.
صفة فتح مصر عن ابن إسحاق وسيف قالوا: لما استكمل عمرو المسلمون فتح الشام بعث عمرو بن العاص إلى مصر وزعم سيف
أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بشر بن أرطاة، وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي.
فاجتمعا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الاسقف أبو مريم في أهل الثبات (2)، بعثه المقوقس صاحب اسكندرية لمنع بلادهم، فلما تصافوا قال عمرو بن العاص لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إلي بو مريم وأبو مريم راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه، فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق
__________
(1) قال أبو نعيم مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين، واحتج له بأن زر بن حبيش لقبه في خلافة عثمان، وهذا ما أكده علي بن المديني من انه مات في صدر خلافة عثمان.
وقال ابن عبد البر: الاكثر على انه مات في خلافة عمر.
(2) في الطبري: أهل النيات.

وأمره به وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الاعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الاسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا منكم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.
ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيرا، لان لهم رحما وذمة.
فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الانبياء معروفة شريفة، كانت إبنة ملكنا وكانت من هل منف والملك فيهم فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا.
أمنا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظرا قومكما وإلا ناجزتكم.
قالا: زدا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا.
فزادهم يوما.
فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم، فقالا لاهل مصر: أما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم.
وقد بقيت أربعة أيام قاتلوا وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين، فقال الملا منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم.
فألح الارطبون في أن يبيتوا للمسلمين ففعلوا فلم يظفروا بشئ بل قتل منهم طائفة منهم الارطبون (1)، وحاصر
المسلمون عين شمس (2) من مصر في اليوم الرابع.
وارتقى الزبير عليهم سور البلد (3)، فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو فأمضوا الصلح وكتب لهم عمرو كتاب أمان: " بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الامان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما حق لصونهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة.
وإن نقص نهرهم من غايته رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة، فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا،
__________
(1) وكان ذلك ببلبيس، وبلبيس بمديرية الشرقية وكان نابليون رمم حصونها لما قدم مصر، وقد قاومت بلبيس شهرا وكان بها ارمانوسة ابنة المقوقس والتي كان أبوها قد زوجها من قسطنطين بن هرقل وأرسلها إليه في قيسارية، وقد أخذت ارمانوسة وأرسلها عمرو بن العاص إلى أبيها مكرمة في جميع مالها مع قيس بن أبي العاص السهمي فسر بقدومها.
(انظر الواقدي في فتوح مصر).
(2) قال الشيخ محمد رضا في كتابه عمر بن الخطاب: لم يكن لعين شمس أهمية عسكرية عند الفتح الاسلامي غير انها كانت صالحة للقتال فالمياة واصلة إليها ومن السهل تموين الجيش فيها، وكان عمرو بن العاص يقصد بنزوله عين شمس محاربة الروم في العراء بعيدا عن الحصون.
ص 239.
(3) وهو سور حصن بابليون أو قصر الشمع وقد بناه الريان بن ارسلاون وكان هذا القصر يوقد عليه الشمع في رأس كل شهر وذلك انه إذا حلت الشمس في برج من البروج.

عليهم ما عليهم أثلاثا، في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم.
على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شهد الزبير وعبد
الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر (1) " فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط، وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة.
فأبى عمرو أن يردها عليهما، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوهم فيها أن يرد عليهم، وكل سبي أخذ ممن لم يقاتل وكذلك من قاتل فلا يرد عليه سباياه.
وقيل إنه أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الاسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمن اختار الاسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم وأخذوا منه الجزية، وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردهم ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به.
ففعل عمرو ما أمر به أمير المؤمنين، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم فمنهم من اختار الاسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلح بينهم.
ثم أرسل عمرو جيشا إلى اسكندرية وكان المقوقس صاحب الاسكندرية قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر إلى ملك الروم - فلما حاصره عمرو بن العاص جمع أساقفته وأكابر دولته وقال لهم: إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر وأزالوهم عن ملكهم ولا طاقة لنا بهم، والرأي عندي أن نؤدي الجزية إليهم.
ثم بعث إلى عمرو بن العاص يقول: إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم - فارس والروم - ثم صالحه على أداء الجزية، وبعث عمرو بالفتح والاخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر سيف أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف فجعل عمر يزمرهم ويحثهم على الثبات: فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد.
فقال له عمرو: اسكت فإنما، أنت كلب.
فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب.
فأعرض عنه عمرو ونادى يطلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين.
فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر.
قال سيف: ففتحت مصر في ربيع الاول من سنة ست عشرة وقام فيها ملك الاسلام ولله الحمد والمنة.
وقال غيره: فتحت مصر في سنة عشرين، وفتحت اسكندرية في سنة
خمس وعشرين بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل صلحا على اثني عشر ألف دينار.
وقد ذكر أن المقوقس سأل من عمرو أن يهادنه أولا، فلم يقبل عمرو وقال له: قد علمتم ما فعلنا بملككم
__________
(1) قال الاستاذ بتلر أن هذا العقد - وقد أورده الطبري 4 / 239 - هو عقد صلح الاسكندرية.
أقول ويبدو ان هذا العقد مقتضب فقد فرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كل نفس شريفهم ووضيعهم من بلغ منهم الحلم (وأخرج النساء والصبيان من ذلك) انظر فتوح البلدان 1 / 256.

الاكبر هرقل.
فقال المقوقس لاصحابه: صدق فنحن أحق بالاذعان.
ثم صالح على ما تقدم.
وذكر غيره أن عمرا والزبير سارا إلى عين شمس فحاصراها وأن عمرا بعث إلى الفرما (1) أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الاسكندرية، فقال كل منهما لاهل بلده: أن نزلتم فلكم الامان.
فتربصوا ماذا يكون من أهل عين شمس، فلما صالحوا صالح الباقون.
وقد قال عوف بن مالك لاهل اسكندرية: ما أحسن بلدكم ؟ فقالوا: إن اسكندر لما بناها قال: لابنين مدينة فقيرة إللى الله غنية عن الناس.
فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لاهل الفرما: ما أقبح مدينتكم: فقالوا إن الفرما - وهو أخو الاسكندر - لما بناها قال لابنين مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس.
فهي لا يزال ساقطا بناؤها فشوهت بذلك.
وذكر سيف أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما ولي مصر بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رءوسا من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كل سنة، ويعوضهم المسلمون بطعام مسمى وكسوة.
وأقر ذلك عثمان بن عفان وولاة الامور بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فأمضاه أيضا نظرا لهم، وإبقاء لعهدهم.
قلت: وإنما سميت ديار مصر بالفسطاط نسبة إلى فسطاط عمرو بن العاص، وذلك أنه نصب خيمته وهي الفسطاط موضع مصر اليوم، وبنى الناس حوله، وتركت مصر القديمة من زمان عمرو بن العاص وإلى اليوم، ثم رفع الفسطاط وبنى موضعه جامعا وهو المنسوب إليه اليوم.
وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر النوبة فنالهم جراحات كثيرة، وأصيبت أعين كثيرة، لجودة رمي النوبة فسموهم جند الحدق.
ثم فتحها الله بعد ذلك وله الحمد والمنة،
وقد اختلف في بلاد مصر فقيل: فتحت صلحا إلا الاسكندرية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب.
وقيل: كلها عنوة وهو قول ابن عمر وجماعة.
وعن عمرو بن العاص أنه خطب الناس فقال: ما قعدت هذا ولاحد من القبط عندي عهد إن شئت قتلت، وإن شئت بعت وإن شئت خمست إلا لاهل الطابلس (2) فإن لهم عهدا نوفي به.
قصة نيل مصر روينا من طريق ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن عمن حدثه قال: لما افتتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص - حين دخل بؤنة من أشهر العجم - فقالوا: أيها الامير، لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها.
قال: وما ذاك: قالوا: إذا كانت اثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية
__________
(1) الفرما: مدينة قديمة وميناء بمصر شرقي بور سعيد على بعد عشرين ميلا منها وقد كانت مفتاح مصر من جهة الشام وكان لها شأن كبير في الحرب التي نشبت بين الفرس ومصر.
قال ابن حوقل والمقريزي وبها قبر جالينوس.
(2) في فتوح البلدان: أنطابلس.

بكر من أبويها، فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل.
فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الاسلام، إن الاسلام يهدم ما قبله.
قال: فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى والنيل لا يجري قليلا ولا كثيرا، حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل.
فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك " قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم (1).
قال سيف بن عمر: وفي ذي القعدة من هذه السنة - وهي عنده سنة ست عشرة - جعل عمرو المسالح على أرجاء مصر، وذلك لان هرقل أغزا الشام ومصر في البحر.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة غزا أرض الروم أبو بحرية عبد الله بن قيس العبدي - وهو أول من دخلها فيما قيل - فسلم وغنم وقيل أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي.
قال الواقدي: وفيها عزل عمر قدامة ابن مظعون عن البحرين، وحده في الشراب.
وولى على البحرين واليمامة أبا هريرة الدوسي رضي الله عنه.
قال: وفيها شكا أهل الكوفة سعدا في كل شئ، حتى قالوا: لا يحسن يصلي، فعزله عنها وولى عليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان - وكان نائب سعد - وقيل بل ولاها عمرو بن ياسر.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن عبد الملك سمعه من جابر بن سمرة.
قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن يصلي، قال الاعاريب ؟ والله ما آلو بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، اردد في الاوليين واصرف في الاخيرين.
فسمعت عمر يقول: كذا الظن بك يا أبا إسحق.
وفي صحيح مسلم أن عمر بعث من يسأل عنه أهل الكوفة فأثنوا خيرا إلا رجلا يقال له: أبو سعدة قتادة بن أسامة قام فقال: أما إذ أنشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية.
فقال سعد: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة، فأطل عمره وأدم فقره وعرضه للفتن.
فأصابته دعوة سعد - فكان شيخا كبيرا يرفع حاجبيه عن عينيه، ويتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن، فيقال له في ذلك، فيقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
وقد قال عمر في وصيته - وذكره في الستة " فإن أصابت الامرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولى، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
قال: وفيها أجلى عمر يهود خيبر عنها إلى أذرعات وغيرها، وفيها أجلى عمل يهود نجران منها أيضا إلى الكوفة، وقسم خيبر، ووادي القرى، ونجران بين المسلمين.
قال: وفيها دون عمر الدواوين، وزعم
__________
(1) الخبر رواه الواقدي في فتوح مصر 2 / 69.

غيره أنه دونها قبل ذلك.
فالله أعلم.
قال: وفيها بعث عمر علقمة بن مجزر المدلجي إلى الحبشة
في البحر فأصيبوا فآلى عمر على نفسه أن لا يبعث جيشا في البحر بعدها.
وقد خالف الواقدي في هذا أبو معشر فزعم أن غزوة الحبشة إنما كانت في سنة إحدث وثلاثين - يعني في خلافة عثمان بن عفان - والله أعلم.
قال الواقدي: وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد بن عبتة.
التي مات عنها الحارث بن هشام في الطاعون.
وهي أخت خالد بن الوليد.
قال: وفيها مات هلال بدمشق، وأسيد بن الحضير في شعبان، وزينب بنت جحش أم المؤمنين.
وهي أول من مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنها.
قال: وفيها مات هرقل وقام بعده ولده قسطنطين.
قال: وحج الناس في هذه السنة عمر ونوابه وقضاته من تقدم في التي قبلها.
سوى من ذكرنا أنه عزله وولى غيره.
ذكر المتوفين من الاعيان - أسيد بن الحضير ابن سماك الانصاري الاشهلي من الاوس، أبو يحيى أحد النقباء ليلة العقبة، وكان أبوه رئيس الاوس يوم بعاث، وكان قبل الهجرة بست سنين وكان يقال له حضير الكتائب، يقال إنه أسلم على يدي مصعب بن عمير.
ولما هاجر الناس آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة، ولم يشهد بدرا.
وفي الحديث الذي صححه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن الحضير " وذكر جماعة.
وقدم الشام مع عمر وأثنت عليه عائشة، وعلى سعد بن معاذ، وعباد بن بشر، رضي الله عنهم.
وذكر ابن بكير أنه توفي بالمدينة سنة عشرين، وأن عمر حمل بين عموديه وصلى عليه ودفن بالبقيع، وكذا أرخ وفاته سنة عشرين الواقدي وأبو عبيد وجماعة.
أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي هو وأبوه وجده صحابة وكان أنيس هذا عينا لرسول الله يوم حنين، ويقال إنه الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " والصحيح أنه غيره، فإن في الحديث " فقال لرجل من أسلم " فقيل: إنه أنيس بن الضحاك الاسلمي.
وقد مال ابن الاثير إلى ترجيحه والله أعلم.
له حديث في الفتنة قال إبراهيم بن المنذر: توفي في ربيع الاول سنة عشرين.
بلال بن أبي رباح الحبشي المؤذن مولى أبي بكر ويقال له بلال بن حمامة.
وهي أمه.
أسلم قديما فعذب في الله فصبر فاشتراه الصديق فأعتقه، شهد بدرا وما بعدها.
وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا.
رواه البخاري.

ولما شرع الاذان بالمدينة كان هو الذي يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أم مكتوم يتناوبان، تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال ندي الصوت حسنه، فصيحا، وما يروى " أن سين بلال عند الله شيئا " فليس له أصل.
وقد أذن يوم الفتح على ظهر الكعبة.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الاذان، ويقال أذن للصديق أيام خلافته ولا يصح.
ثم خرج إلى الشام مجاهدا، ولما قدم عمر إلى الجابية أذن بين يديه بعد الخطبة لصلاة الظهر، فانتحب الناس بالبكاء.
وقيل إنه زار المدينة في غضون ذلك فأذن فبكى الناس بكاء شديدا ويحق لهم ذلك، رضي الله عنهم.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال " إني دخلت الجنة فسمعت خشف نعليك أمامي فأخبرني بأرجى عمل عملته ".
فقال: ما توضأت إلا وصليت ركعتين.
" فقال بذاك " وفي رواية " ما أحدثت إلا توضأت وما توضأت إلا رأيت أن علي أن أصلي ركعتين " قالوا: وكان بلال آدم شديد الادمة طويلا نحيفا كثير الشعر خفيف العارضين.
قال ابن بكير: توفي بدمشق في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.
وقال محمد بن إسحق وغير واحد: توفي سنة عشرين.
قال الواقدي: ودفن بباب الصغير وله بضع وستون سنة.
وقال غيره: مات بداريا ودفن بباب كيسان.
وقيل دفن بداريا، وقيل إنه مات بحلب.
والاول أصح والله أعلم.
سعيد بن عامر بن خذيم من أشراف بني جمح، شهد خيبر وكان من الزهاد والعباد، وكان أميرا لعمر على حمص بعد أبي عبيدة، بلغ عمر أنه قد أصابته جراحة شديدة، فأرسل إليه بألف دينار فتصدق بها جميعها، وقال لزوجته: أعطيناها لمن يتجر لنا فيها رضي الله عنه.
قال خليفة: فتح هو ومعاوية فيسارية كل منهما أمير على من معه.
عياض بن غنم أبو سعد الفهري من المهاجرين الاولين، شهد بدرا وما بعدها، وكان سمحا جوادا، شجاعا، وهو الذي افتتح الجزيرة، وهو أول من جاز درب الروم غازيا، واستنابه أبو عبيدة بعده على الشام فأقره عمر عليها إلى أن مات سنة عشرين عن ستين سنة.
أبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اسمه المغيرة.
أسلم عام الفتح فحسن إسلامه جدا وكان قبل ذلك من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى دينه ومن تبعه، وكان شاعرا مطيقا يهجو الاسلام وأهله، وهو الذي رد عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قوله:

ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء هجوت محمدا وأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء ولما جاء هو و عبد الله بن أبي أمية ليسلما لم يأذن لهما عليه السلام حتى شفعت أم سلمة لاخيها فأذن له، وبلغه أن أبا سفيان هذا قال: والله لئن لم يأذن لي لآخذن بيد بني هذا - لولد معه صغير - فلاذهبن فلا يدري أين أذهب.
فرق حينئذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكان آخذا بلجام بغلته يومئذ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبه وشهد له بالجنة، وقال " أرجو أن تكون خلفا من حمزة " وقد رثى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي بقصيدة ذكرناها فيما سلف وهي التي يقول فيها: أرقت فبات ليلي لا يزول * وليل أخ المصيبة فيه طول وأسعدني البكاء وذاك فيما * أصيب المسلمون به قليل فقد عظمت مصيبتنا وجلت * عشية قيل قد قبض الرسول فقدنا الوحي والتنزيل فينا * يروح به ويغدو جبرئيل
ذكروا أن أبا سفيان حج فلما حلق رأسه فطع الحالق ثؤلولا له في رأسه فتمرض منه فلم يزل كذلك حتى مات بعد مرجعه إلى المدينة، وصل عليه عمر بن الخطاب.
وقد قيل إن أخاه نوفلا توفي قبله بأربعة أشهر والله أعلم.
أبو الهيثم بن التيهان هو مالك بن مالك بن عسل (1) بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن دعورا (2) بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الانصاري الاوسي، شهد العقبة نقيبا، وشهد بدرا وما بعدها، ومات سنة عشرين، وقيل إحدى وعشرين، وقيل إنه شهد صفين مع علي، قال ابن الاثير وهو الاكثر (3).
وقد ذكره شيخنا هنا.
فالله أعلم.
__________
(1) في الاصابة عتيك، وقد سقط من نسبه في الاستيعاب.
(2) في الاصابة والاستيعاب: زعورا.
(3) وقد رجحه ابن عبد البر في الاستيعاب، وقد شكك الواقدي وابن حجر في هذا القول وذهبا إلى ترجيح قول من قال سنة عشرين أو احدى وعشرين.

زينب بنت جحش ابن رباب الاسدية من أسد خزيمة أول أمهات المؤمنين وفاة، أمها أميمة بنت عبد المطلب، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله زينب، وتكنى أم الحكم، وهي التي زوجه الله بها، وكانت تفتخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء.
قال الله تعالى * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) * الآية [ الاحزاب: 37 ].
وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فلما طلقها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل كان ذلك في سنة ثلاث وقيل أربع وهو الاشهر.
وقيل سنة خمس وفي دخوله عليه السلام بها نزل الحجاب كما ثبت في الصحيحين عن أنس.
وهي التي كانت تسامي عائشة بنت الصديق في الجمال والحظوة، وكانت دينة ورعة عابدة كثيرة الصدقة.
وذاك الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا " أي
بالصدقة.
وكانت امرأة صناعا تعمل بيديها وتتصدق على الفقراء، قالت عائشة: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى الله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم أمانة وصدقة من زينب بنت جحش.
ولم تحج بعد حجة الوداع لا هي ولا سودة، لقوله عليه السلام لازواجه " هذه ثم ظهور الحصر " وأما بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكن يخرجن إلى الحج وقالتا زينب وسودة: والله لا تحركنا بعده دابة.
قالوا: وبعث عمر إليها فرضها اثني عشر ألفا فتصدقت به في أقاربها.
ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد هذا.
فماتت في سنة عشرين وصلى عليها عمر.
وهي أول من صنع لها النعش، ودفنت بالبقيع.
صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول وهي أم الزبير بن العوام، وهي شقيقة حمزة والمقوم وحجل، أمهم هالة بنت وهيب (1) بن عبد مناف بن زهرة.
لا خلاف في إسلامها وقد حضرت يوم أحد ووجدت على أخيها حمزة وجدا كيثرا، وقتلت يوم الخندق رجلا من اليهود جاء فجعل يطوف بالحصن التي هي فيه وهو فارع حصن حسان فقالت لحسان: انزل فاقتله، فأبى، فنزلت إليه فقتلته ثم قالت: انزل فاسلبه فلولا أنه رجل لاستلبته.
فقال: لا حاجة لي فيه.
وكانت أول امرأة قتلت رجلا من المشركين.
وقد اختلف في إسلام من عداها من عمات النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: أسلمت أروى وعاتكة.
قال ابن الاثير وشيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ: والصحيح أنه لم يسلم منهن غيرها (2).
وقد تزوجت أولا بالحارث بن حرب بن أمية.
ثم خلف عليها العوام بن خويلد فولدت له الزبير وعبد الكعبة.
وقيل تزوج بها العوام بكرا، والصحيح الاول توفيت بالمدينة سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة
__________
(1) كذا في الاصل وابن سعد والاستيعاب وفي الاصابة: وهب.
(2) وفي ابن سعد ان أروى وعاتكة اسلمتا بمكة وهاجرتا إلى المدينة، 8 / 42 - 44.

ودفنت بالبقيع رضي الله عنها وقد ذكر ابن إسحق من توفي غيرها.
عويم بن ساعدة الانصاري
شهد العقبتين والمشاهد كلها وهو أول من استنجى بالماء، وفيه نزل قوله تعالى * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * [ التوبة: 108 ] وله روايات توفي هذه السنة بالمدينة * بشر بن عمرو بن حنش يلقب بالجارود، أسلم في السنة العاشرة، وكان شريفا مطاعا في عبد القيس، وهو الذي شهد على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، فعزله عمر عن اليمن وحده قتل الجارود شهيدا * أبو خراشة خويلد بن مرة الهذلي، كان شاعرا مجيدا مخضرما أدرك الجاهلية والاسلام وكان إذا جرى سبق الخيل.
نهشته حية فمات بالمدينة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وكانت وقعة نهاوند وهي وقعة عظيمة جدا لها شأن رفيع ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح قال ابن إسحق والواقدي: كانت وقعة نهاوند في سنة إحدى وعشرين.
وقال سيف: كانت في سنة سبع عشرة.
وقيل في سنة تسع عشرة والله أعلم.
وإنما ساق أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك وجمعنا كلام هؤلاء الائمة في هذا الشأن سياقا واحدا، حتى دخل سياق بعضهم في بعض.
قال سيف وغيره: وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا الاهواز ومنعوا جيش العلاء من أيديهم واستولوا على دار الملك القديم من اصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثا، وهي المدائن، وأخذ تلك المدائن والاقاليم والكور والبلدان الكثيرة، فحموا عند ذلك واستجاشهم يزدجرد الذي تقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى أصبهان مبعدا طريدا، لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله، وكتب إلى ناحية نهاوند وما والاها من الجبال والبلدان، فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل ذلك (1)، فبعث سعد إلى عمر يعلمه بذلك، وثار أهل الكوفة على سعد في غضون هذا الحال.
فشكوه في كل شئ حتى قالوا: لا يحسن يصلي.
وكان الذي نهض بهذه الشكوى رجل يقال له: الجراح بن سنان الاسدي في نفر معه، فلما ذهبوا إلى عمر فشكوه قال لهم عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الحال عليه، وهو مستعد لقتال أعداء الله، وقد جمعوا لكم، ومع هذا لا يمنعني أن أنظر في
__________
(1) في الطنبري 4 / 235 والكامل 3 / 5 وبلغ الخبر سعدا وفي فتوح ابن الاعثم: وبلغ ذلك أهل الكوفة فاجتمعوا إلى أميرهم عمار بن ياسر 2 / 32.

أمركم.
ثم بعث محمد بن مسلمة - وكان رسول العمال - فلما قدم محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة فكل يثني على سعد خيرا إلا ناحية الجراح بن سنان فإنهم سكتوا فلم يذموا ولم يشكروا، حتى انتهى إلى بني عبس، فقام رجل يقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال: أما إذ ناشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية.
فدعا عليه سعد فقال: اللهم إن كان قالها كذبا ورياءا وسمعة فاعم بصره، وكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن.
فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك.
ثم دعا سعد على الجراح وأصحابه فكل أصابته فارعة في جسده، ومصيبة في ماله بعد ذلك.
واستنفر محمد بن مسلمة أهل الكوفة لغزو أهل نهاوند في غضون ذلك عن أمر عمر بن الخطاب.
ثم سار سعد ومحمد بن مسلمة والجراح وأصحابه حتى جاءوا عمر فسأله عمر: كيف يصلي ؟ فأخبره أنه يطول في الاوليين ويخفف في الاخرين، وما آلوا ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحق.
وقال سعد في هذه القصة.
لقد أسلمت خامس خمسة، ولقد كنا وما لنا طعام إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا، وإني لاول رجل رمى بسهم في سبيل الله، ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه وما جمعهما لاحد قبلي، ثم أصبحت بنو أسد يقولون لا يحسن يصلي.
وفي رواية يغرر بي على الاسلام، لقد خبت إذا وضل عملي.
ثم قال عمر لسعد: من استخلفت على الكوفة ؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره عمر على نيابته الكوفة - وكان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة حليفا لبني الحبلى من الانصار - واستمر سعد معزولا من غير عجز ولا خيانة ويهدد أولئك النفر، وكاد يوقع بهم بأسا.
ثم ترك ذلك خوفا من أن لا يشكو أحدا أميرا.
والمقصود أن أهل فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند.
حتى اجتمع منهم مائة
ألف وخمسون ألف مقاتل، وعليهم الفيرزان (1) ويقال: بندار، ويقال ذو الحاجب.
وتذامروا فيما بينهم، وقالوا: إن محمدا الذي جاء العرب لم يتعرض لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار ملكنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عقر دارنا، وأخذ بيت المملكة وليس بمنته حتى يخرجكم من بلادكم.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا البصرة والكوفة ثم يشغلوا عمر عن بلاده، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتابا.
فأما كتب سعد بذلك إلى عمر - وكان قد عزل سعدا في غضون ذلك - شافه سعد عمر بما تمالؤا عليه وقصدوا إليه، وأنه قد اجتمع منهم مائة وخمسون ألفا.
وجاء كتاب
__________
(1) في الكامل: فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان 3 / 6 وكذا في الطبري.
وفي الاخبار الطوال ص 124: فولى أمرهم مردان شاه بن هرمز، وفي فتوح البلدان فأمر عليهم مردان شاه ذا الحاجب، وفي فتوح ابن الاعثم: أمروا عليهم أربعة من ملوك العجم منهم: ذو الحاجب خرزاد بن هرمز وسنفاد بن حشرو وخهانيل بن فيروز وشروميان بن اسفنديار (2 / 33).

عبد الله بن عبد الله بن عتبان (1) من الكوفة إلى عمر مع قريب بن ظفر العبدي بأنهم قد اجتمعوا وهم منحرفون متذامرون على الاسلام وأهله، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعاجلهم عما هموا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا فقال عمر لحامل الكتاب: ما اسمك ؟ قال: قريب.
قال: ابن من ؟ قال: ابن ظفر.
فتفاءل عمر بذلك وقال: ظفر قريب.
ثم أمر فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس وكان أول من دخل المسجد لذلك سعد بن أبي وقاص، فتفاءل عمر أيضا بسعد، فصعد عمر المنبر حتى اجتمع الناس فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الايام، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين فأستنفر الناس، ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم.
فقام عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي، فتكلم كل منهم بانفراده فأحسن وأجاد، واتفق رأيهم على أن لا يسير من المدينة،
ولكن يبعث البعوث ويحصرهم برأيه ودعائه.
وكان من كلام علي رضي الله عنه أن قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الامر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ.
فنحن على موعود من الله والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثير عزيز بالاسلام، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان ويقيم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم أيضا.
- وكان عثمان قد أشار في كلامه أن يمدهم في جيوش من أهل اليمن والشام.
ووافق عمر على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة - فرد علي على عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة كما تقدم، ورد رأي عثمان فيما أشار به من استمداد أهل الشام خوفا على بلادهم إذا قل جيوشها من الروم.
ومن أهل اليمن خوفا على بلادهم من الحبشة.
فأعجب عمر قول علي وسر به - وكان عمر إذا استشار أحدا لا يبرم أمرا حتى يشاور العباس - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام عرضه على العباس فقال: يا أمير المؤمنين خفض عليك، فإنما اجتمع هؤلاء الفرس لنقمة تنزل عليهم.
ثم قال عمر: أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب وليكن عراقيا.
فقالوا: أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين.
فقال: أما والله لاولين رجلا يكون أول الاسنة إذا لقيها غدا.
قالوا: من يا أمير المؤمنين ؟ قال: النعمان بن مقرن.
فقالوا: هو لها - وكان النعمان قد كتب إلى عمر وهو على كسكر وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال أهل نهاوند - فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له، ثم كتب عمر إلى حذيفة أن يسير من الكوفة بجنود منها، وكتب إلى أبي موسى أن يسير بجنود البصرة، وكتب إلى النعمان - وكان بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه والامير على الناس كلهم
__________
(1) في فتوح البلدان 2 / 371 وفتوح ابن الاعثم 2 / 41: من عمار بن ياسر.

النعمان بن مقرن.
فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فقيس بن
مكشوح، فإن قتل قيس ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة، وقيل لم يسم فيهم.
والله أعلم.
وصورة الكتاب " بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النعمان بن مقرن سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغني أن جموعا من الاعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار، والسلام عليك.
فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الاعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله " (1).
وكتب عمر إلى نائب الكوفة - عبد الله بن عبد الله - أن يعين جيشا ويبعثهم إلى نهاوند، وليكن الامير عليهم حذيفة بن اليمان حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قتل النعمان فحذيفة، فإن قتل فنعيم بن مقرن.
وولى السائب بن الاقرع قسم الغنائم.
فسار حذيفة في جيش كثيف نحو النعمان بن مقرن ليوافوه بماه، وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة، وجعل الحرس في كل ناحية، واحتاطوا احتياطا عظيما، ثم انتهوا إلى النعمان بن مقرن حيث اتعدوا، فدفع حذيفة بن اليمان إلى النعمان كتاب عمرو فيه الامر له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكمل جيش المسلمين في ثلاثين ألفا من المقاتلة فيما رواه سيف عن الشعبي، فمنهم من سادات الصحابة ورؤوس العرب خلق كثير وجم غفير، منهم عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، وجرير بن عبد الله البجلي، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وعمرو ابن معدي كرب الزبيدي، وطليحة بن خويلد الاسدي، وقيس بن مكشوح المرادي.
فسار الناس نحو نهاوند وبعث النعمان بن مقرن الامير بين يديه طليعة ثلاثة وهم طليحة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وعمرو بن أبي سلمة (2).
ويقال له عمرو بن ثبى أيضا، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه.
فسارت الطليعة يوما وليلة فراجع عمرو بن ثبى فقيل له: ما رجعك ؟ فقال:
كنت في أرض العجم وقتلت أرض جاهلها وقتل أرضا عالمها.
ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال: لم نر أحد وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما فسار بعد ذلك نحوا من بضعة عشر فرسخا حتى انتهى إلى نهاوند، ودخل في العجم وعلم من
__________
(1) انظر الطبري 4 / 232 وفتوح ابن الاعثم 2 / 41 وفي رواية في فتوح البلدان من طريق شيبان 2 / 372: ان النعمان بن مقرن كان بالمدينة وقد استعمله عمر غازيا على نهاوند مشافهة.
(2) كذا في الاصل والطبري والكامل.
وفي فتوح ابن الاعثم: بعث بكير بن شداخ الليثي وطليحة بن خويلد الاسدي 2 / 44.

أخبارهم ما أحب، ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه ليس بينه وبين نهاوند شئ يكرهه.
فسار النعمان على تعبئته وعلى المقدمة نعيم بن مقرن، وعلى المجنبتين حذيفة وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفرس وعليهم الفيرزان، ومعه من الجيش كل من غاب عن القادسية في تلك الايام المتقدمة، وهو في مائة وخمسين ألفا، فلما تراءا الجمعان كبر النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، فزلزت الاعاجم ورعبوا من ذلك رعبا شديدا.
ثم أمر النعمان بحط الاثقال وهو واقف، فحط الناس أثقالهم، وتركوا رحالهم، وضربوا خيامهم وقبابهم.
وضربت خيمة للنعمان عظيمة، وكان الذين ضربوا أربعة عشر من أشراف الجيش، وهم حذيفة بن اليمان، وعتبة (1) بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وابن الهوبر، وربعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والاقرع بن عبد الله الحميري، والاشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر، فلم ير بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذه الخيمة، وحين حطوا الاثقال أمر النعمان بالقتال وكان يوم الاربعاء، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب سجال، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله، والاعاجم يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى
حصونهم إذا أرادوا.
وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة ابن شعبة، فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم، وانهم كانوا أطول الناس جوعا، وأقلهم دارا وقدرا.
وقال: ما يمنع هؤلاء الاساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجا من جيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تابوا نزركم مصارعكم.
قال: فتشهدت وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت، حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في الدنيا، والخير (2) في الآخرة، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا، وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم أو نقتل بأرضكم.
فقال: أما والله إن الاعور لقد صدقكم ما في نفسه.
فلما طال على المسلمين هذا الحال واستمر، جمع النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك، وكيف يكون من أمرهم حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد، فتكلم عمرو بن أبي سلمة أولا - وهو أسن من كان هناك - فقال: إن بقاءهم على ما هم عليه أضر عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين.
فرد الجميع عليه وقالوا: إنا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.
وتكلم عمرو بن معدي كرب فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم.
فردوا جميعا عليه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران والجدران أعوان لهم علينا.
وتكلم طليحة الاسدي
__________
(1) في الطبري 4 / 240: عقبة بن عمرو، وفي الكامل 3 / 10: عقبة بن عامر.
(2) في الطبري: والجنة.

فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابا، فإذا استطردوا وراءهم وانتموا إلينا عزمنا أيضا على الفرار كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرة أبيهم، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا.
فاستجاد الناس هذا الرأي، وأمر النعمان على المجردة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم
إذا برزوا إليهم.
ففعل القعقاع ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاع بمن معه ثم نكص ثم نكص فاغتنمها الاعاجم، ففعلوا ما ظن طليحة، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ لهم الابواب، حتى انتهوا إلى الجيش، والنعمان بن مقرن على تعبئته.
وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم، فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الارواح (1)، وينزل النصر كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
وألح الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلا ثابتا - فلما حان الزوال صلى بالمسلمين ثم ركب برذونا له أحوى قريبا من الارض.
فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم إلى المسلمين أنه يكبر الاولى فيتأهب الناس للحملة.
ويكبر الثانية فلا يبقى لاحد أهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة.
ثم رجع إلى موقفه.
وتعبت الفرس تعبئة عظيمة واصطفوا صفوفا هائلة.
في عدد وعدد لم ير مثله، وقد تغلغل كثير منهم بعض في بعض وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار، ولا التحيز.
ثم إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبر الاولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضا، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الارض دما، بحيث إن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل إن الامير النعمان بن مقرن زلق به حصانه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد، وقيل نعيم، وقيل غطاه بثوبه وأخفى موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نعيما مكانه، وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال لئلا ينهزم الناس.
فلما أظلم الليل انهزم المشركون مدبرين وتبعهم المسلمون وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق وفي تلك الاودية نحو مائة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل من المعركة، ولم يفلت
منهم إلا الشريد.
وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة فانفلت وانهزم واتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان همدان فلحقه القعقاع وأدركه عند ثنية همدان،
__________
(1) في الطبري: الرياح.

وقد أقبل منها بغال كثير وحمر تحمل عسلا، فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجل وتعلق في الجبل فاتبعه القعقاع حتى قتله، وقال المسلمون يومئذ: إن لله جنودا من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الاحمال وسميت تلك الثنية ثنية العسل.
ثم لحق القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى همدان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبها - وهو خسرشنوم - فصالحه عليها.
ثم رجع القعقاع إلى حذيفة ومن معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الوقعة نهاوند عنوة، وقد جمعوا الاسلاب والمغانم إلى صاحب الاقباض وهو السائب بن الاقرع.
ولما سمع أهل ماه بخبر أهل همدان بعثوا إلى حذيفة وأخذوا لهم منه الامان، وجاء رجل يقال له الهرند (1) - وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الامان ويدفع إليهم وديعة عنده (2) لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمنه حذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءتين جوهرا ثمينا لا يقوم، غير أن المسلمين لم يعبأوا به، واتفق رأيهم على بعثه لعمر خاصة، وأرسلوه صحبة الاخماس والسبي صحبة السائب ابن الاقرع، وأرسل قبله بالفتح مع طريف بن سهم، ثم قسم حذيفة بقية الغنيمة في الغانمين، ورضخ ونفل لذوي النجدات، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم، ومن كان ردءا لهم، ومنسوبا إليهم.
وأما أمير المؤمنين فإنه كان يدعو الله ليلا ونهارا لهم، دعاء الحوامل المقربات، وابتهال ذوي الضرورات، وقد استبطأ الخبر عنهم فبينا رجل من المسلمين ظاهر المدينة إذا هو براكب فسأله من أين أقبل ؟ فقال: من نهاوند.
فقال: ما فعل الناس ؟ قال: فتح الله عليهم وقتل الامير، وغنم المسلمون غنيمة أصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان.
ثم فاته وقدم ذلك الرجل المدينة فأخبر الناس وشاع الخبر حتى بلغ أمير المؤمنين فطلبه فسأله عمن أخبره، فقال راكب.
فقال: إنه لم يجئني، وإنما هو رجل من الجن بريدهم
واسمه عثيم، ثم قدم طريف بالفتح بعد ذلك بأيام، وليس معه سوى الفتح، فسأله عمن قتل النعمان فلم يكن معه علم حتى قدم الذين معهم الاخماس فأخبروا بالامر على جليته، فإذا ذلك قد الجني شهد الوقعة ورجع سريعا إلى قومه نذيرا.
ولما أخبر عمر بمقتل النعمان بكى وسأل السائب عمن قتل من المسلمين فقال: فلان وفلان وفلان، لاعيان الناس وأشرافهم.
ثم قال وآخرون من أفناد الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين، فجعل يبكي ويقول: وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين ؟ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر.
ثم أمر بقسمة الخمس على عادته، وحملت ذانك السفطان إلى منزل عمر، ورجعت الرسل، فلما أصبح عمر طلبهم فلم يجدهم، فأرسل في إثرهم البرد فما لحقهم البريد إلا بالكوفة.
__________
(1) في الطبري 4 / 243 والكامل 3 / 14: الهربذ صاحب بيت النار.
(2) في الطبري والكامل وابن الاعثم: كان قد أودعها النخيرجان وقد كان النخيرجان وزيرا ليزدجرد.

قال السائب بن الاقرع: فلما أنخت بعيري بالكوفة، أناخ البريد على عرقوب بعيري، وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: لماذا ؟ فقال: لا أدري.
فرجعنا على إثرنا، حتى انتهيت إليه.
قال: مالي ولك يا بن أم السائب، بل ما لابن أم السائب ومالي، قال: فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: ويحك والله إن هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السفطين وهما يشتعلان نارا، يقولون لنكوينك بهما.
فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين.
فاذهب بهما لا أبا لك فبعهما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تدر أنت معهم.
قال السائب: فأخذتهما حتى جئت بهما مسجد الكوفة وغشيتني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف.
ثم خرج بهما إلى أرض الاعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف.
فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد ذلك.
قال سيف: ثم قسم ثمنهما بين الغانمين فنال كل فارس أربعة
آلاف درهم من ثمن السفطين.
قال الشعبي: وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف وللراجل ألفان وكل المسلمون ثلاثين ألفا.
قال: وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة لسبع سنين من إمارة عمر، رواه سيف عن عمرو بن محمد عنه.
وبه عن الشعبي قال: لما قدم سبي نهاوند إلى المدينة جعل أبو لؤلؤة - فيروز غلام المغيرة بن شعبة - لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال: أكل عمر كبدي - وكان أصل أبي لؤلؤة من نهاوند فأسرته الروم أيام فارس وأسرته المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبي - قالوا: ولم تقم للاعاجم بعد هذه الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين تشريفا لهم وإظهارا لشأنهم.
وفي هذه السنة افتتح المسلمون أيضا بعد نهاوند مدينة جي - وهي مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح وفر منهم ثلاثون نفرا إلى كرمان لم يصالحوا المسلمين (1).
وقيل: إن الذي فتح أصبهان هو النعمان بن مقرن وأنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات وانهزم أصحابه.
والصحيح أن الذي فتح أصبهان عبد الله بن عبد الله بن عتبان - الذي كان نائب الكوفة - وفيها افتتح أبو موسى قم وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان.
وذكر ابن جرير عن الواقدي: أن عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى طرابلس (2) قال:
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم: أن الفاذوسفان صاحب أصبهان (وفي الطبري الفيروزان) هرب في ثلاثين فارسا ولحق بيزدجرد.
وفي فتوح البلدان: خرج ليلحق بيزدجرد إلى كرمان فلحق به عبد الله بن بديل...فتبارزا ثم صالحه الفيرزان على أصبهان انظر الطبري 4 / 247 والكامل 3 / 11 وابن الاعثم 2 / 69 - 70.
(2) في الطبري 4 / 250 انطابلس.

وهي برقة فافتتحها صلحا على ثلاث عشر ألف دينار في كل سنة.
قال: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى زويلة ففتحها بصلح، وصار
ما بين برقة إلى زويلة سلما للمسلمين.
قال: وفيها ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة بدل زياد ابن حنظلة الذي ولاه عبد عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال، فاشتكى أهل الكوفة من عمار فاستعفي عمار من عمله، فعزله وولى جبير بن مطعم، وأمره أن لا يعلم أحدا، وبعث المغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة جبير يعرض عليها طعاما للسفر فقالت: اذهبي فأتيني به.
فذهب المغيرة إلى عمر فقال: بارك الله يا أمير المؤمنين فيمن وليت على الكوفة.
فقال: وما ذاك ؟ وبعث إلى جبير بن مطعم فعزله وولى المغيرة بن شعبة ثانية، فلم يزل عليها حتى مات عمر رضي الله عنهم.
قال: وفيها حج عمر واستخلف على المدينة زيد بن ثابت وكان عماله على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى الكوفة.
قال الواقدي: وفيها توفي خالد بن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقال غيره توفي سنة ثلاث وعشرين، وقيل بالمدينة.
والاول أصح.
وقال غيره: وفيها توفي العلاء بن الحضرمي فولى عمر مكانه أبا هريرة.
وقد قيل إن العلاء توفي قبل هذا كما تقدم.
والله أعلم.
وقال ابن جرير فيما حكاه عن الواقدي: وكان أمير دمشق في هذه السنة عمير بن سعيد (1)، وهو أيضا على حمص وحوران وقنسرين والجزيرة، وكان معاوية على البلقاء والاردن، وفلسطين، والسواحل وإنطاكية، وغير ذلك.
ذكر من توفي سنة إحدى وعشرين خالد بن الوليد ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي أبو سليمان المخزومي، سيف الله، أحد الشجعان المشهورين، لم يقهر في جاهلية ولا إسلام.
وأمه عصماء (2) بنت الحارث أخت لبابة بنت الحارث، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين.
قال الواقدي: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة وانتهت إليه الامارة يومئذ عن غير إمرة، فقاتل يومئذ قتالا شديدا لم ير مثله، اندقت في يده تسعة أسياف، ولم تثبت في يده إلا صفيحة يمانية.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الطبري: عمير بن سعد.
(2) في الاصابة والاستيعاب: أمه لبابة الصغرى بنت الحارث بن حرب الهلالية أخت لبابة الكبرى زوج العباس...(1 / 413 وهامش الاصابة 1 / 406).

أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه ".
وقد روي أن خالدا سقطت قلنسوته يوم اليرموك وهو في الحرب فجعل يستحث في طلبها فعوتب في ذلك، فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها.
وقد روينا في مسند أحمد من طريق الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي بن حرب عن أبي بكر الصديق أنه لما أمر خالدا على حرب أهل الردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين (1) " وقال أحمد: حدثنا حسين الجعفي عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال: استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام وعزل خالد بن الوليد، فقال خالد: بعث إليكم أمين هذه الامة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح " فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خالد سيف من سيوف الله نعم فتى العشيرة (2) " وقد أورده ابن عساكر من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، ومن طرق مرسلة يقوي بعضها بعضا.
وفي الصحيح " وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله " وشهد الفتح وشهد حنينا وغزا بني جذيمة أميرا في حياته عليه السلام.
واختلف في شهوده خيبر وقد دخل مكة أميرا على طائفة من الجيش وقتل خلقا كثيرا من قريش، كما قدمنا ذلك مبسوطا في موضعه، ولله الحمد والمنة.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العزى - وكانت لهوازن - فكسر قمتها أولا ثم دعثرها وجعل يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك
ثم حرقها وقد استعمله الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فشفى واشتفى.
ثم وجهه إلى العراق ثم أتى الشام فكانت له من المقامات ما ذكرناها مما تقربها القلوب والعيون، وتتشنف بها الاسماع.
ثم عزله عمر عنها وولى أبا عبيدة وأبقاه مستشارا في الحرب، ولم يزل بالشام حتى مات على فراشه رضي الله عنه.
وقد روى الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: لما حضرت خالدا الوفاة بكى ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي شبرا إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
وقال أبو يعلى: ثنا شريح بن يونس ثنا يحيى بن زكريا عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس.
قال: قال خالد
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 8.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 245.

ابن الوليد: ما ليلة يهدي إلي فيها عروس، أو أبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو.
وقال أبو بكر بن عياش عن الاعمش عن خيثمة قال: أتي خالد برجل معه زق خمر فقال: اللهم اجعله عسلا، فصار عسلا.
وله طرق، وفي بعضها مر عليه رجل معه زق خمر فقال له خالد: ما هذا ؟ فقال: عسل فقال: اللهم اجعله خلا، فلما رجع إلى أصحابه قال: جئتكم بخمر لم يشرب العرب مثله، ثم فتحه فإذا هو خل، فقال أصابته والله دعوة خالد رضي الله عنه.
وقال حماد بن سلمة عن ثمامة عن أنس.
قال: لقي خالد عدوا له فولى عنه المسلمون منهزمين وثبت هو وأخو البراء بن مالك، وكنت بينهما واقفا، قال: فنكس خالد رأسه ساعة إلى الارض ثم رفع رأسه إلى السماء ساعة - قال: وكذلك كان يفعل إذا أصابه مثل هذا -، ثم قال لاخي البراء: قم فركبا، واختطب خالد من معه من المسلمين وقال: ما هو إلا الجنة وما إلى المدينة سبيل.
ثم حمل بهم فهزم المشركين.
وقد حكى مالك عن عمر بن الخطاب أنه قال لابي بكر: اكتب إلى خالد أن لا يعطى شاة ولا
بعيرا إلا بأمرك.
فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك.
فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزي عني جزاء خالد ؟ قال عمر: أنا.
قال: فأنت.
فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، ثم جاء الصحابة فأشاروا على الصديق بإبقاء عمر بالمدينة وإبقاء خالد بالشام.
فلما ولى عمر كتب إلى خالد بذلك فكتب إليه خالد بمثل ذلك فعزله، وقال: ما كان الله ليراني آمر أبا بكر بشئ لا أنفذه أنا.
وقد روى البخاري في التاريخ وغيره من طريق علي بن رباح عن ياسر بن سمي البرني، قال: سمعت عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف واللسان، فأمرت أبا عبيدة.
فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت لواء رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدت سيفا سله الله، ولقد قطعت الرحم، وحسدت ابن العم.
فقال عمر: إنك قريب القرابة، حديث السن مغضب في ابن عمك.
قال الواقدي رحمه الله، ومحمد بن سعيد وغير واحد: مات سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقال دحيم وغيره: مات بالمدينة.
والصحيح الاول.
وقدمنا فيما سلف تعزير عمر له حين أعطى الاشعث بن قيس عشرة آلاف، وأخذه من ماله عشرين ألفا أيضا.
وقدمنا عتبه عليه لدخوله الحمام وتدلكه بعد النورة بدقيق عصفر معجون بخمر، واعتذار خالد إليه بأنه صار غسولا.
وروينا عن خالد أنه طلق امرأة من نسائه وقال: إني لم أطلقها عن ريبة، ولكنها لم تمرض عندي ولم يصبها شئ في بدنها ولا رأسها ولا في شئ من جسدها.
وروى سيف وغيره: أن عمر قال حين عزل خالدا عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما وأن القوة لله جميعا.
وروى سيف أيضا: أن عمر

قال حين عزل خالدا عن قنسرين وأخذ منه ما أخذ: إنك علي لكريم، وإنك عندي لعزيز، ولن يصل إليك مني أمر تكرهه بعد ذلك.
وقد قال الاصمعي عن سلمة عن بلال عن مجالد عن الشعبي
قال: اصطرع عمر وخالد وهما غلامان - وكان خالد ابن خال عمر - فكسر خالد ساق عمر، فعولجت وجبرت، وكان ذلك سبب العداوة بينهما.
وقال الاصمعي عن ابن عون عن محمد بن سيرين قال: دخل خالد على عمر وعليه قميص حرير فقال عمر: ما هذا يا خالد ؟ فقال: وما بأس يا أمير المؤمنين، أليس قد لبسه عبد الرحمن بن عوف ؟ فقال: وأنت مثل ابن عوف ؟ ولك مثل ما لابن عوف ؟ عزمت على من بالبيت إلا أخذ كل واحد منهم بطائفة مما يليه.
قال: فمزقوه حتى لم يبق منه شئ.
وقال عبد الله بن المبارك عن حماد بن زيد حدثنا عبد الله بن المختار عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل - ثم شك حماد في أبي وائل - قال: ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.
وما من عملي شئ أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار.
ثم قال: إذا أنا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله.
فلما توفي خرج عمر على جنازته فذكر قوله: ما على آل نساء الوليد يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعا أو لقلقة.
قال ابن المختار: النقع التراب على الرأس، واللقلقة الصوت.
وقد علق البخاري في صحيحه بعض هذا فقال: وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة.
وقال محمد بن سعد ثنا وكيع وأبو معاوية وعبد الله بن نمير قالوا: حدثنا الاعمش عن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره.
فأرسل إليهن فانههن.
فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعا أو لقلقة.
ورواه البخاري في التاريخ من حديث الاعمش بنحوه.
وقال إسحق بن بشر وقال محمد: مات خالد بن الوليد بالمدينة فخرج عمر في جنازته وإذا أمه تندبه وتقول: أنت خير من ألف ألف من القو * م إذا ما كبت وجوه الرجال فقال: صدقت والله إن كان لكذلك.
وقال سيف بن عمر عن شيوخه عن سالم.
قال: فأقام خالد في المدينة حتى إذا ظن عمر أنه قد زال ما كان يخشاه من افتتان الناس به، وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، واشتكى خالد بعده وهو خارج من المدينة زائرا لامه فقال لها احدروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرضته فلما ثقل وأظل قدوم عمر لقيه لاق على مسيرة ثلاث صادرا عن حجة فقال له عمر بهم (1) فقال: خالد بن
__________
(1) كذا بالاصل.

الوليد ثقيل لما به.
فطوى عمر ثلاثا في ليلة فأدركه حين قضى، فرق عليه واسترجع وجلس ببابه حتى جهز، وبكته البواكي، فقيل لعمر: ألا تسمع ألا تنهاهن ؟ فقال: وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ؟ ما لم يكن نقع ولا لقلقة.
فلما خرج لجنازته رأى عمر امرأة محرمة تبكيه وتقول: أنت خير من ألف ألف من النا * س إذا ما كبت وجوه الرجال أشجاع فأنت أشجع من ليث * ضمر بن جهم أبي أشبال أجواد فأنت أجود من سيل * دياس يسيل بين الجبال فقال عمر: من هذه ؟ فقيل له: أمه.
فقال: أمه والا له ثلاثا.
وهل قامت النساء عن مثل خالد.
قال: فكان عمر يتمثل في طيه تلك الثلاث في ليلة وفي قدومه: تبكي ما وصلت به الندامى * ولا تبكي فوارس كالجبال أولئك إن بكيت أشد فقدا * من الا ذهاب والعكر الجلال (1) تمنى بعدهم قوم مداهم * فلم يدنوا لاسباب الكمال وفي رواية أن عمر قال لام خالد: أخالدا أو أجره ترزئين ؟ عزمت عليك أن لا تبيني حتى تسود يداك من الخضاب.
وهذا كله منا يقتضي موته بالمدينة النبوية، وإليه ذهب دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ولكن المشهور عن الجمهور وهم الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإبراهيم بن المنذر، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو عبد الله العصفري، وموسى بن أيوب، وأبو سليمان بن أبي محمد وغيرهم، أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين.
زاد
الواقدي: وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقد روى محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وغيره قالوا: قدم خالد المدينة بعد ما عزله عمر فاعتمر ثم رجع إلى الشام، فلم يزل بها حتى مات في سنة إحدى وعشرين.
وروى الواقدي: أن عمر رأى حجاجا يصلون بمسجد قباء فقال: أين نزلتم بالشام ؟ قالوا: بحمص، قال: فهل من معرفة خبر ؟ قالوا: نعم مات خالد بن الوليد.
قال: فاسترجع عمر وقال: كان والله سدادا لنحور العدو، ميمون النقيبة.
فقال له علي: فلم عزلته ؟ قال: لبذله المال لذوي الشرف واللسان.
وفي رواية أن عمر قال لعلي: ندمت على ما كان مني.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا عبد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت قيس بن أبي حازم يقول: لما مات خالد بن الوليد قال عمر: رحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أمورا ما كانت.
وقال جويرية عن نافع قال: لما مات خالد لم يوجد له إلا فرسه وغلامه وسلاحه، وقال القاضي المعافا ابن زكريا الحريري: ثنا أحمد بن العباس العسكري، ثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثني عبد الرحمن
__________
(1) العكر: من الابل ما بين الخمسين إلى المائة.

ابن حمزة اللخمي، ثنا أبو علي الحرنازي قال: دخل هشام بن البحتري في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال له: يا هشام أنشدني شعرك في خالد.
فأنشده فقال: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضا لمقت الله.
ثم قال عمر قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره.
وقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لاخرى مثلها فكأن قدي فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي * ولا موت من قد مات يوما بمخلدي ثم قال عمر: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه.
ولقد مات سعيدا وعاش حميدا ولكن رأيت الدهر ليس بقائل.
طليحة بن خويلد
ابن نوفل بن نضلة بن الاشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمر بن قعير (1) بن الحارث بن ثعلبة بن داود (2) بن أسد بن خزيمة الاسدي الفقعسي، كان ممن شهد الخندق من ناحية المشركين، ثم أسلم سنة تسع، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الصديق، وادعى النبوة كما تقدم.
وروى ابن عساكر أنه ادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ابنه خيال (3) قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: ما اسم الذي يأتي إلى أبيك ؟ فقال: ذو النون الذي لا يكذب ولا يخون، ولا يكون كما يكون.
فقال: لقد سمي ملكا عظيم الشأن، ثم قال لابنه: قتلك الله وحرمك الشهادة.
ورده كما جاء.
فقتل خيال في الردة في بعض الوقائع قتله عكشاة بن محصن ثم قتل طليحة عكاشة وله مع المسلمين وقائع.
ثم خذله الله على يدي خالد بن الوليد، وتفرق جنده فهرب حتى دخل الشام فنزل على آل جفنة، فأقام عندهم حتى مات الصديق حياء منه، ثم رجع إلى الاسلام واعتمر، ثم جاء يسلم على عمر فقال له: اغرب عني فإنك قاتل الرجلين الصالحين، عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم، فقال: يا أمير المؤمنين هما رجلان أكرمهما الله على يدي ولم يهني بأيديهما.
فأعجب عمر كلامه ورضي عنه.
وكتب له بالوصاة إلى الامراء أن يشاور ولا يولي شيئا من الامر ثم عاد إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك وبعض حروب كالقادسية ونهاوند الفرس، وكان من الشجعان المذكورين، والابطال المشهورين، وقد حسن إسلامه بعد هذا كله.
وذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة وقال: كان يعد بألف فارس لشدته وشجاعته وبصره بالحرب.
وقال أبو نصر بن ماكولا: أسلم ثم ارتد ثم أسلم
__________
(1) في أسد الغابة: معين.
(2) في أسد الغابة: دودان.
(3) في الاصابة حبال وقد تقدم.

وحسن إسلامه، وكان يعدل بألف فارس.
ومن شعره أيام ردته وادعائه النبوة في قتل المسلمين أصحابه:
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم * أليسوا وإن لم يسلموا برجال فإن يكن أزاد أصبى ونسوة * فلم يذهبوا فرعا بقتل خيال (1) نصبت لهم صدر الحمالة إنها * معاودة قتل الكماة نزال فيوما تراها في الجلال مصونة * ويوما تراها غير ذات جلال ويوما تراها تضئ المشرفية نحوها * ويوما تراها في ظلال عوالي عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة العمي عند مجال وقال سيف بن عمر عن مبشر بن الفضيل عن جابر بن عبد الله.
قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كما هجمنا عليهم من أمانتهم وزهدهم، طليحة بن خويلد الاسدي، وعمرو بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح.
قال ابن عساكر: ذكر أبو الحسن محمد بن أحمد بن الفراس الوراق أن طليحة استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن، وعمرو بن معدي كرب رضي الله عنهم.
عمرو بن معدي كرب ابن عبد الله بن عمرو بن عاصم بن عمرو بن زبيد الاصغر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن شيبة وهو زبيد الاكبر بن الحارث بن ضعف بن سعد العشيرة بن مذحج الزبيدي المذحجي أبو ثور، أحد الفرسان المشاهير الابطال، والشجعان المذاكير، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، وقيل عشر، مع وفد مراد، وقيل في وفد زبيد قومه.
وقد ارتد مع الاسود العنسي فسار إليه خالد بن سعيد بن العاص، فقاتله فضربه خالد بن سعيد بالسيف على عاتقه فهرب وقومه، وقد استلب خالد سيفه الصمصامة، ثم أسر ودفع إلى أبي بكر فأنبه وعاتبه واستتابه، فتاب وحسن إسلامه بعد ذلك، فسيره إلى الشام، فشهد اليرموك ثم أمره عمر بالمسير إلى سعد وكتب بالوصاة به، وأن يشاور ولا يولي شيئا، فنفع الله به الاسلام وأهله، وأبلى بلاء حسنا يوم القادسية.
وقيل إنه قتل بها، وقيل بنهاوند، وقيل مات عطشا في بعض القرى يقال لها روذة (2) فالله أعلم.
وذلك كله في إحدى وعشرين فقال بعض من رثاه من قومه:
__________
(1) أصبى: الذي كثرت صبيته.
(2) قال في الاستيعاب: مات بقرية من قرى نهاوند.
وفي الاصابة من طريق خالد بن قطن أنه بقي إلى خلافة عثمان.
وقال صاحب كتاب المعمرين انه شهد صفين.
والاكثر على انه مات سنة إحدى وعشرين.

لقد غادر الركبان يوم تحملوا * بروذة شخصا لا جبانا ولا غمرا فقل لزبيد بل لمذحج كلها * رزئتم أبا ثور قريع الوغى عمرا وكان عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه من الشعراء المجيدين، فمن شعره: أعاذل عدتي بدني ورمحي * وكل مقلص سلس القياد أعاذل إنما أفنى شبابي * إجابتي الصريخ إلى المنادي مع الابطال حتى سل جسمي * وأقرع عاتقي حمل النجاد ويبقى بعد حلم القوم حلمي * ويفنى قبل زاد القوم زادي تمنى أن يلاقيني قييس * وددت وأينما مني ودادي فمن ذا عاذري من ذي سفاه * يرود بنفسه مني المرادي أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مرادي له حديث واحد في التلبية رواه شراحيل بن القعقاع عنه، قال: كنا في الجاهلية إذا لبينا: لبيك تعظيما إليك عذرا * هذي زبيد قد أتتك قسرا * يعدو بها مضمرات شزرا * يقطعن خبتا وجبالا وعرا * قد تركوا الاوثان خلوا صفرا * قال عمرو: فنحن نقول الآن ولله الحمد ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
العلاء بن الحضرمي أمير البحرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره عليها أبو بكر ثم عمر.
تقدم أنه توفي سنة أربع عشرة ومنهم من يقول إنه تأخر إلى سنة إحدى وعشرين، وعزله عمر عن البحرين وولى مكانه أبا
هريرة.
وأمره عمر على الكوفة فمات قبل أن يصل إليها منصرفه من الحج.
كما قدمنا ذلك والله أعلم.
وقد ذكرنا في دلائل النبوة قصته في سيره بجيشه على وجه الماء وما جرى له من خرق العادات ولله الحمد.
النعمان بن مقرن بن عائذ المزني أمير وقعة نهاوند، صحابي جليل، قدم مع قومه من مزينة في أربعمائة راكب، ثم سكن البصرة وبعثه الفاروق أميرا على الجنود إلى نهاوند، ففتح الله على يديه فتحا عظيما، ومكن الله له في تلك البلاد، ومكنه من رقاب أولئك العباد، ومكن به للمسلمين هنالك إلى يوم التناد، ومنحه النصر في الدنيا ويوم يقوم الاشهاد، وأتاح له بعد ما أراه ما أحب شهادة عظيمة وذلك غاية المراد،

فكان ممن قال الله تعالى في حقه في كتابه المبين وهو صراطه المستقيم * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) * [ التوبة: 111 ].
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وفيها كانت فتوحات كثيرة منها فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها ثم أذربيجان قال الواقدي وأبو معشر: كانت في سنة ثنتين وعشرين.
وقال سيف: كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح همدان والري وجرجان.
وأبو معشر يقول بأن أذربيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أن الجميع كان في هذه السنة.
وعند الواقدي: أن فتح همدان والري في سنة ثلاث وعشرين، فهمدان افتتحها المغيرة (1) بعد مقتل عمر بستة أشهر، قال: ويقال كان فتح الري قبل وفاة عمر بسنتين، إلا أن الواقدي وأبا معشر متفقان على أن أذربيجان في هذه السنة، وتبعهما ابن جرير وغيره.
وكان السبب في ذلك أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب المتقدم،
فتحوا حلوان وهمذان بعد ذلك.
ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقاع ابن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان، وأن يجعل على مقدمته أخاه سويد ابن مقرن، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر الطائي، ومهلهل بن زيد التميمي.
فسار حتى نزل على ثنية العسل، ثم تحدر على همذان (2)، واستولى على بلادها، وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم ودخلها، فبينما هو فيها ومعه اثني عشر ألفا من المسلمين إذ تكاتف (3) الروم والديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فعلى الديلم ملكهم واسمه موتا، وعلى أهل الري أبو الفرخان، وعلى أذربيجان اسفندياذ أخو رستم، فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له واج الروذ، فاقتتلوا قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند ولم تك دونها، فقتلوا من المشركين جمعا كثيرا، وجما غفيرا لا يحصون كثرة، وقتل ملك
__________
(1) في رواية فتوح البلدان عن الواقدي 2 / 380 أن المغيرة وجه جرير بن عبد الله البجلي إلى همذان وافتتحها على مثل صلح نهاوند.
أما ابن الاعثم في فتوحه 2 / 64 فقال ان المسلمين دخلوا همذان بعدما رحل عنها الاعاجم واحتووا على ما قدروا عليه منها.
(2) في فتوح ابن الاعثم: كان على همذان رجل من عظماء الاعاجم واسمه كفتار.
(3) في الطبري: تكاتب وفي الكامل: كاتب.

الديلم موتا وتمزق شملهم، وانهزموا بأجمعهم، بعد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم من المسلمين.
وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمه ذلك واغتم له.
فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل.
ثم قدم عليه بالاخماس ثلاثة من الامراء وهم سماك بن خرشة، ويعرف بأبي دجانة، وسماك بن عبيد، وسماك بن مخرمة.
فلما استسماهم عمر قال: اللهم اسمك بهم الاسلام، وأمد بهم الاسلام، ثم كتب إلى نعيم بن مقرن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل نعيم.
وقد قال نعيم في هذه الوقعة:
ولما أتاني أن موتا ورهطه * بني باسل جروا جنود الاعاجم نهضت إليهم بالجنود مساميا * لامنع منهم ذمتي بالقواصم فجئنا إليهم بالحديد كأننا * جبال تراءى من فروع القلاسم (1) فلما لقيناهم بها مستفيضة * وقد جعلوا يسمون فعل المساهم صدمناهم في واج روذ بجمعنا * غداة رميناهم بإحدى العظائم فما صبروا في حومة الموت ساعة * لحد الرماح والسيوف الصوارم كأنهم عند انبثاث جموعهم * جدار تشظى لبنه للهادم أصبنا بها موتا ومن لف جمعه * وفيها نهاب قسمه غير عاتم تبعناهم حتى أووا في شعابهم * فنقتلهم قتل الكلاب الجواحم (2) كأنهم في واج روذ وجوه * ضئين أصابتها فروج المخارم (3) فتح الري استخلف نعيم بن مقرن على همذان يزيد بن قيس الهمداني وسار بالجيوش حتى لحق بالري فلقي هناك جمعا كثيرا من المشركين (4) فاقتتلوا عند سفح جبل الري فصبروا صبرا عظيما ثم انهزموا فقتل منهم نعيم بن مقرن مقتلة عظيمة بحيث عدوا بالقصب فيها، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريبا مما غنم المسلمون من المدائن.
وصالح أبو الفرخان على الري، وكتب له أمانا بذلك، ثم كتب نعيم (5) إلى عمر بالفتح ثم بالاخماس ولله الحمد والمنة.
__________
(1) القلاسم: اسم موضع.
(2) الجواحم: الكلاب المصابة بداء في عينها أو في رأسها.
(3) ضئين: الغنم.
(4) من أهل نهاوند وطبرستان وقومس وجرجان وعليهم ملك الري سياوخش بن مهران بن بهرام شوبين، وذكره ابن الاعثم: فرخنداد بن يزدامر الاكبر.
(5) اختلف المؤرخون في فتح الري، قيل إن فتحها كان على يد نعيم بن مقرن، وقيل على يد قرظة بن كعب وقيل

فتح قومس ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها كتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قومس.
فسار إليها سويد، فلم يقم له شئ حتى أخذها سلما وعسكر بها وكتب لاهلها كتاب أمان وصلح (1).
فتح جرجان لما عسكر سويد بقومس بعث إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وطبرستان وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لاهل كل بلدة كتاب أمان وصلح.
وحكى المدائني أن جرجان فتحت في سنة ثلاثين أيام عثمان.
فالله أعلم.
وهذا فتح أذربيجان لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث بين يديه بكير بن عبد الله (2) من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزإذ بكيرا وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير اسفندياذ، فقال له اسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب ؟ فقال: بل الصلح.
قال: فأمسكني عندك.
فأمسكه ثم جعل يفتح بلدا بلدا وعتبة بن فرقد أيضا يفتح معه بلدا بلدا في مقابلته من الجانب الآخر.
ثم جاء كتاب عمر بأن يتقد بكير إلى الباب وجعل سماك موضعه نائبا لعتبة بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وسلم إليه بكير اسفندياذ، وسار كما أمره عمر إلى الباب.
قالوا: وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام، فلما بلغ ذلك اسفندياذ وهو في الاسر عند بكير قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب.
فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم.
وعادت أذربيجان سلما، وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالاخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لاهلها كتاب أمان وصلح.
__________
= على يد عروة بن زيد الخيل الطائي.
انظر: الطبري 4 / 253 الكامل 3 / 24 فتوح البلدان 2 / 389 فتوح ابن
الاعثم 2 / 63 تاريخ اليعقوبي 2 / 157.
(1) انظر نص الكتاب في الطبري 4 / 254.
وفي فتوح البلدان 2 / 390 فتحها عروة بن زيد الخيل.
(2) في فتوح البلدان 4 / 400: ان حذيفة بن اليمان غزا أذربيجان ثم وليها عتبة بن فرقد السلمي.
وقال أبو مخنف.
ان المغيرة بن شعبة غزاها سنة عشرين ففتحها.
وفي الواقدي ان المغيرة غزاها سنة 22 وافتتحها عنوة.
والواضح أن أهل أذربيجان قد نقضوا أكثر من مرة الصلح فأغزوا مرارا ولعل هذا هو سبب اللغط في تأكيد من غزاها وافتتحها.

فتح الباب (1) قال ابن جرير: وزعم سيف أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتابا بالامرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب بذي النور - وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، ويقال له - ذو النور أيضا - وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الاخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة.
فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلما انتهى مقدم العساكر - وهو عبد الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك أرمينية وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل وغزا الشام في قديم الزمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه فأمنه عبد الرحمن بن ربيعة، فقدم عليه الملك، فأنهى إليه أن صغوه إلى المسلمين، وأنه مناصح للمسلمين.
فقال له: إن فوقي رجلا فاذهب إليه.
فبعثه إلى سراقة بن عمرو أمير الجيش، فسأل من سراقة الامان، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الامان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتابا بذلك.
ثم بعث سراقة بكيرا، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة، إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية جبال اللان (2) وتفليس وموقان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هنالك، وهو سراقة بن عمرو، واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلما بلغ عمر ذلك أقره على ذلك وأمره بغزو الترك.
أول غزو الترك وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما عراض الوجوه، دلف الانوف، حمر الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة (3) " وفي رواية " ينتعلون الشعر ".
لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك، سار حتى قطع الباب قاصدا لما أمره عمر، فقال له شهربراز: أين تريد ؟ قال: أريد ملك الترك بلنجر، فقال له شهربراز: إنا لنرضى منهم بالموادعة، ونحن من وراء الباب.
فقال له عبد الرحمن: إن الله بعث إلينا رسولا، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في
__________
(1) الباب: كذا في الاصل.
وفي فتوح البلدان وابن الاعثم مدينة الباب.
وفي معجم البلدان: باب الابواب ويقال له الباب غير مضاف والباب الابواب...وأما حديثها أيام الفتوح فإن سليمان بن ربيعة الباهلي غزاها في أيام عمر بن الخطاب.
(2) كذا في الاصل والطبري والكامل، وفي فتوح البلدان: أران.
(3) أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الاسلام.

بلاد بلنجر مائتي فرسخ، وغزا مرات متعددة.
ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال سيف بن عمر عن الغصن بن القاسم عن رجل عن سلمان بن ربيعة.
قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادهم حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت.
فتحصنوا منه وهربوا بالغنم والظفر.
ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان فظفر بهم، كما كان يظفر بغيرهم.
فلما ولي عثمان على الكوفة بعض من كان ارتد، غزاهم فتذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون (1)، قال: انظروا وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض.
فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله وهرب
عنه أصحابه، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أن المسلمين يموتون، فاقتتلوا قتالا شديدا ونادى مناد من الجو صبرا آل عبد الرحمن وموعدكم الجنة، فقالت عبد الرحمن حتى قتل وانكشف الناس وأخذ الراية سلمان بن ربيعة فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو صبرا آل سلمان ابن ربيعة.
فقاتل قتالا شديدا ثم تحيز سلمان وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة الترك ورميهم الشديد السديد على جيلان فقطعوها إلى جرجان، واجترأت الترك بعدها، ومع هذا أخذت الترك عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه في بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم.
وسيأتي تفصيل ذلك كله.
قصة السد ذكر ابن جرير بسنده أن شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لما قدم عليه حين وصل إلى الباب وأراه رجلا فقال شهربراز: أيها الامير إن هذا الرجل كنت بعثته نحو السد، وزودته مالا جزيلا وكتبت له إلى الملوك الذين يولوني، وبعثت لهم هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى من يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى سد ذي القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره.
فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي السد، فبعثت معه بازياره ومعه عقابه، فلما انتهوا إلى السد إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرس فيه، ثم لما هم بالانصراف قال له البازيار: على رسلك، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء، وانقض عليها العقاب.
فقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شئ، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شئ.
قال: فلم تدركها حتى وقعت في أسفله واتبعها العقاب فأخرجها فإذا فيها ياقوتة وهي هذه.
ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة، فنظر إليها عبد الرحمن ثم ردها إليه، فلما ردها إليه فرح وقال: والله لهذه خير
__________
(1) زاد ابن الاعثم في الفتوح: وقد بلغنا انهم نزلوا من السماء فليس يموتون ولا يعمل فيهم السلاح

من مملكة هذه المدينة - يعني مدينة باب الابواب التي هو فيها - ووالله لانتم أحب إلي اليوم من مملكة
آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم خبرها لانتزعوها مني.
وأيم الله لا يقوم لكم شئ ما وفيتم ووفى ملككهم الاكبر.
ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السد فقال: ما حال هذا الردم ؟ - يعني ما صفته - فأشار إلى ثوب في زرقة وحمرة فقال: مثل هذا.
فقال رجل لعبد الرحمن: صدق والله لقد نفذ ورأى.
فقال: أجل وصف صفة الحديد والصفر.
قال الله تعالى * (آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا) * [ الكهف: 96 ] وقد ذكرت صفة السد في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب.
وقد ذكر البخاري في صحيحه تعليقا أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد.
فقال: " كيف رأيته " ؟ قال: مثل البرد المحبر رأيته.
قالوا: ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز: كم كانت هديتك ؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان.
بقية من خبر السد أورد شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في هذه السنة ما ذكر صاحب كتاب مسالك الممالك عما أملاه عليه سلام الترجمان، حين بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم - وكان قد رأى في النوم كأن السد قد فتح - فأرسل سلاما هذا وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفي بغل تحمل طعاما فساروا بين سامرا إلى إسحق بتفليس، فكتب لهم إلى صاحب السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه، فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجه معه خمسة أولاد فساروا ستة وعشرين يوما.
انتهوا إلى أرض سواداء منتنة حتى جعلوا يشمون الخل، فساروا فيها عشرة أيام، فانتهوا إلى مدائن خراب مدة سبعة وعشرين يوما، وهي التي كانت يأجوج ومأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين، وإلى الآن، ثم انتهوا إلى حصن قريب من السد فوجدوا قوما يعرفون بالعربية وبالفارسية ويحفظون القرآن، ولهم مكاتب ومساجد، فجعلوا يعجبون منهم ويسألونهم من أين أقبلوا، فذكروا لهم أنهم من جهة أمير المؤمنين الواثق فلم يعرفوه بالكلية.
ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضرا وإذا السد هناك من لبن حديد مغيب في نحاس، وهو مرتفع جدا لا يكاد البصر ينتهي إليه، وله شرفات من حديد، وفي وسطه باب عظيم بمصراعين
مغلقين، عرضهما مائة ذراع، في طول مائة ذراع، في ثخانة خمسة أذرع، وعليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع - وذكر أشياء كثيرة - وعند ذلك المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم فيسمعون بعد ذلك صوتا عظيما مزعجا، ويقال: أن وراء هذا الباب حرس وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما عين ماء عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولبن من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله، في سمك شبر.
وذكروا أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج فأخبروهم أنهم رأوا منهم يوما أشخاصا فوق

الشرفات فهبت الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبر أو نصف شبر.
والله أعلم.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفة، من بلاد الروم، وكان معه حماد والصحابة فسار وغنم ورجع سالما.
وفيها ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان.
وفيها حج بالناس عمر بن الخطاب وكان عماله فيها على البلاد، هم الذين كانوا في السنة قبلها.
وذكر أن عمر عزل عمارا في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا: لا يحسن السياسة، فعزله وولى أبا موسى الاشعري، فقال أهل الكوفة: لا نريده، وشكوا من غلامه فقال: دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة من المسجد ليفكر من يولي.
فنام من الهم فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ فقال له: إن هذا الامر عظيم يا أمير المؤمنين، الذي بلغ بك هذا.
قال: وكيف وأهل الكوفة مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير.
ثم جمع الصحابة واستشارهم، هل يولي عليهم قويا مشددا أو ضعيفا مسلما ؟ فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن القوي لك وللمسلمين وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه لنفسه.
فقال عمر للمغيرة - واستحسن ما قال له -: اذهب فقد وليتك الكوفة.
فرده إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدم حدهم بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل.
وبعث أبا موسى الاشعري إلى البصرة [ فقيل لعمار: أساءك العزل ؟ فقال: والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل.
وفي رواية أن الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه،
ثم أراد عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص على الكوفة بدل المغيرة فعاجلته المنية في سنة ثلاث وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعد به.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا الاحنف بن قيس بلاد خراسان، وقصد البلد الذي فيه يزدجرد ملك الفرس.
قال ابن جرير: وزعم سيف أن هذا كان في سنة ثماني عشرة.
قلت: والاول هو المشهور والله أعلم.
قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى لما استلب سعد من يديه مدينة ملكه، وداره مقره، وإيوان سلطانه، وبساط مشورته وحواصله، تحول من هناك إلى حلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا حلوان فتحول إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثم أخذت الري، فتحول منها إلى أصبهان (1)، فأخذت أصبهان، فسار
__________
(1) أصبهان: في التاج (أصص): " أصبهان أصله أصت بهان أي سمنت المليحة، سميت لحسن هوائها وعذوبة مائها وكثرة فواكهها فخففت.
والصواب أنها أعجمية وقد تكسر همزتها وقد تبدل باؤها فاء فيهما، وأصلها اسباهان أي الاجناد لانهم كانوا سكانها...الخ ".

إلى كرمان فقصد المسلمون كرمان فافتتحوها، فانتقل إلى خراسان فنزلها.
هذا كله والنار التي يعبدها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد، ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يحمل في الليل في مسيره إلى هذه البلدان على بعير عليه هودج ينام فيه.
فبينما هو ذات ليلة في هودجه وهو نائم فيه، إذ مروا به على مخاضة فأرادوا أن ينبهوه قبلها لئلا ينزعج إذا استيقظ في المخاضة، فلما أيقظوه تغضب عليهم شديدا وشتمهم، وقال: حرمتموني أن أعلم مدة بقاء هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيت في منامي هذا أني ومحمدا عند الله، فقال له: ملككم مائة سنة، فقال: زدني.
فقال: عشرا ومائة.
فقال: زدني.
فقال: عشرين ومائة سنة.
فقال: زدني فقال لك، وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الامة.
خراسان مع الاحنف بن قيس
وذلك أن الاحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد، فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين.
فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الاحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان.
فركب الاحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدا حرب يزدجرد، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد، وبعث الاحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس.
ولما اقترب الاحنف من مرو الشاهجان، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ فافتتح الاحنف مرو الشاهجان فنزلها.
وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى ملك الصغد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
وقصده الاحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان، وقد وفدت إلى الاحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء (1)، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومن بقي معه من جيشه فعبر النهر واستوثق ملك خراسان على يدي الاحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميرا، ورجع الاحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها.
فقال عمر: وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار.
فقال له علي: ولم يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال: يا أمير المؤمنين لان يكون ذلك بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين وكتب عمر إلى الاحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر.
وقال: احفظ ما بيدك من
__________
(1) وهم: علقمة بن النضر النضري.
وربعي بن عامر التميمي وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي وابن أم غزال الهمذاني (الطبري 4 / 263).

بلاد خراسان.
ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين (1) استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان الاعظم ملك
الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها، وفر عمال الاحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الاحنف بمرو الروذ فتبرز الاحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفا فسمع رجلا يقول لآخر: إن كان الامير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره ويبقى هذا النهر خندقا حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة.
فلما أصبح الاحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد، وجاءت الاتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الاحنف في الناس خطيبا فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم، * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * [ البقرة: 249 ] فكانت الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الاحنف أين يذهبون في الليل.
فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله فتقدم إليه الاحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الاحنف فقتله وهو يرتجز: إن على كل رئيس حقا * أن يخضب الصعدة أو يندقا إن لها شيخا بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى قال: ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر عليه طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله، فتقدم إليه الاحنف فقتله أيضا واستلبه طوقه ووقف موضعه فخرج ثالث فقتله وأخذ طوقه ثم أسرع الاحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية.
وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم يضرب الاول بطلبه، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث.
فلما خرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره: قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا.
فرجعوا إلى بلادهم وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحدا منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الاحنف بن قيس
ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها واستخرج منها خزانته التي كانت دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه.
وقد قال المسلمون للاحنف: ما ترى في اتباعهم ؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.
وقد أصاب الاحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث " اتركوا الترك ما تركوكم " وقد * (رد الله الذين كفروا
__________
(1) وهما خاقان ملك الترك، وغوزك ملك الصغد.

بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) * [ الاحزاب: 25 ].
ورجع كسرى خاسرا الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير، ولا انتصر كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * [ النساء: 88 ] وتحير في أمره ماذا يصنع ؟ وإلى أين يذهب ؟ وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده فقالوا: إنا نرى أن نصانع (1) هؤلاء القوم فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم.
فأبى عليهم كسرى ذلك.
ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العبا، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والابل، وماذا يصنعون ؟ وكيف يصلون.
فكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك فسالمهم وارض منهم بالمسالمة.
فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين.
ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه.
ولما بعث الاحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا.
فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث
محمدا بالهدى ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، فقال: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر جنده.
ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضير بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تغيروا يستبدل قوما غيركم، فإني لا أخاف على هذه الامة أن تؤتى إلا من قبلكم.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة ثنتين وعشرين -: وفيها فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة.
قاله ابن إسحاق: فيقال، إنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم.
وقال أبو عبيدة: فتحها حبيب بن سلمة الفهري بأهل الشام عنوة، ومعه أهل الكوفة فيهم حذيفة فافتتحها بعد قتال شديد والله أعلم.
وفيها افتتح حذيفة الدينور عنوة - بعدما كان سعد افتتحها فانتقضوا عهدهم -.
وفيها افتتح حذيفة ماه سندان عنوة - وكانوا نقضوا أيضا عهد سعد - وكان مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر: إن
__________
(1) في الطبري: نصالح.

الغنيمة لمن شهد الوقعة.
قال: أبو عبيدة ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة.
قال: ويقال افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة ويقال: افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين.
وفيها افتتحت جرجان.
قال خليفة: وفيها افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب، ويقال في السنة التي بعدها.
قلت: وفي هذا كله غرابة لنسبته إلى ما سلف والله أعلم.
قال شيخنا: وفيها توفي أبي بن كعب في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة.
ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان ولا صحبة له.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين
وفيها وفاة عمر بن الخطاب قال الواقدي وأبو معشر: فيها كان فتح اصطخر وهمذان.
وقال سيف: كان فتحها بعد فتح توج الآخرة.
ثم ذكر أن الذي افتتح توج مجاشع بن مسعود، بعدما قتل من الفرس مقتلة عظيمة وغنم منهم غنائم جمة.
ثم ضرب الجزية على أهلها، وعقد لهم الذمة، ثم بعث بالفتح وخمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم ذكر أن عثمان بن أبي العاص افتتح جور بعد قتال شديد كان عندها، ثم افتتح المسلمون اصطخر - وهذه المرة الثانية -، وكان أهلها قد نقضوا العهد بعد ما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر - من أرض البحرين - والتقوا هم والفرس في مكان يقال له طاوس، كما تقدم بسط ذلك في موضعه.
ثم صالحه الهربد على الجزية، وأن يضرب لهم الذمة.
ثم بعث بالاخماس والبشارة إلى عمر.
قال ابن جرير: وكانت الرسل لها جوائز، وتقضى لهم حوائج، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملهم بذلك.
ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشط الفرس، فنقضوا، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم، فاقتتلوا مع الفرس فهزم الله جيوش المشركين، وقتل الحكم بن أبي العاش شهرك (1)، وقتل ابنه معه أيضا.
وقال أبو معشر: كانت فارس الاولى واصطخر الآخرة سنة ثمان وعشرين في إمارة عثمان، وكانت فارس الآخرة ووقعة جور في سنة تسع وعشرين.
فتح فسا ودار أبجرد وقصة سارية بن زنيم ذكر سيف عن مشايخه أن سارية بن زنيم (2) قصد فسا ودار أبجرد (3)، فاجتمع له جموع
__________
(1) في رواية لابن الاثير في الكامل 3 / 40: قتله سوار بن همام العبدي والذي طعنه طعنة قاتلة فحمل عليه ابن شهرك فقتل سوار.
ووافقه في روايته البلاذري في فتوح البلدان 2 / 477.
(2) في فتوح البلدان 2 / 478: ان عثمان بن أبي العاص قصد داربجرد وفسا وفتحهما صلحا.
=

- من الفرس والاكراد - عظيمة، ودهم المسلمين منهم أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء وهناك جبل إن
أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها، خرج إلى الناس وصعد المنبر، فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال: يا سارية، الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودا ولعل بعضها أن يبلغهم.
قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوهم، وفتحوا البلد.
وذكر سيف في رواية أخرى عن شيوخه أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل.
فلجأ المسلمون إلى جبل هناك فلم يقدر العدو عليهم إلا من جهة واحدة فأظفرهم الله بهم، وفتحوا البلد.
وغنموا شيئا كثيرا، فكان من جملة ذلك سفط من جوهر فاستوهبه سارية من المسلمين لعمر، فلما وصل إليه مع الاخماس قدم الرسول بالخمس فوجد عمر قائما في يده عصا وهو يطعم المسلمين سماطهم، فلما رآه عمر قال له: اجلس - ولم يعرفه -، فجلس الرجل فأكل مع الناس، فلما فرغوا انطلق عمر إلى منزله واتبعه الرجل، فاستأذن فأذن له وإذا هو قد وضع له خبز وزيت وملح، فقال: ادن فكل.
فجلست فجعل يقول لامرأته: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين ؟ فقالت: إني أسمع حس رجل عندك.
فقال: أجل، فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال اشتريت لي غير هذه الكسوة.
فقال: أو ما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت علي وامرأة عمر.
فقالت: ما أقل غناء ذلك عني.
ثم قال للرجل: ادن فكل فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى.
فأكلا فلما فرغا قال: أنا رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين.
فقال: مرحبا وأهلا.
ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم، فأخبره ثم ذكر له شأن السفط (1) من الجوهر فأبى أن يقبله وأمر برده إلى الجند.
وقد سأل أهل المدينة رسول سارية عن الفتح فأخبرهم، فسألوه: هل سمعوا صوتا يوم الوقعة ؟ قال: نعم، سمعنا قائلا يقول: يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه ففتح الله علينا.
ثم رواه سيف عن مجالد عن الشعبي بنحو هذا.
وقال عبد الله بن وهب: عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر وجه جيشا ورأس عليهم رجلا يقال له سارية، قال: فبينما عمر يخطب فجعل ينادي: يا ساري الجبل يا ساري الجبل ثلاثا.
ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر: فقال: يا أمير المؤمنين
هزمنا فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديا يا سارية الجبل ثلاثا فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.
قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك.
وهذا إسناد جيد حسن.
وقال الواقدي: حدثني نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر.
أن عمر قال على
__________
= فسا: مدينة بفارس بينها وبين شيراز أربع مراحل، وأما كورة دارابجرد فإن أكبر مدنها فسا وهي مدينة قديمة ولها حصن وخندق.
(1) في الطبري والكامل: الدرج، والدرج هو السفط الصغير.

المنبر: يا سارية بن زنيم الجبل.
فلم يدر الناس ما يقول حتى قدم سارية بن زنيم المدينة على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين كنا محاصري العدو فكنا نقيم الايام لا يخرج علينا منهم أحد، نحن في خفض من الارض وهم في حصن عال، فسمعت صائحا ينادي بكذا وكذا يا سارية بن زنيم الجبل، فعلوت بأصحابي الجبل، فما كان إلا ساعة حتى فتح الله علينا.
وقد رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي من طريق مالك عنا نافع عن ابن عمر بنحوه، وفي صحته من حديث مالك نظر.
وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم عن أبيه.
وأبو سليمان عن يعقوب بن زيد قالا: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة إلى الصلاة فصعد المنبر ثم صاح: يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم.
ثم خطب حتى فرغ، فجاء كتاب سارية إلى عمر: إن الله قد فتح علينا يوم الجمعة ساعة كذا وكذا - لتلك الساعة التي خرج فيها عمر فتكلم على المنبر - قال سارية: فسمعت صوتا يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، فعلوت بأصحابي الجبل، ونحن قبل ذلك في بطن واد، ونحن محاصروا العدو ففتح الله علينا.
فقيل لعمر بن الخطاب ما ذلك الكلام ؟ فقال: والله ما ألقيت له إلا بشئ ألقي على لساني.
فهذه طرق يشد بعضها بعضا.
[ فتح كرمان وسجستان ومكران ]
ثم ذكر ابن جرير من طريق سيف عن شيوخه فتح كرمان على يدي سهيل بن عدي وأمده عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وقيل على يدي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي (1)، وذكر فتح سجستان (2) على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد، وكانت ثغورها متسعة، وبلادها متنائية، ما بين السند إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القندهار والترك من ثغورها وفروجها.
وذكر فتح مكران (3) على يدي الحكم بن عمرو، وأمده بشهاب بن المخارق بن شهاب، وسهيل بن عدي، و عبد الله بن عبد الله، واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند، وغنم السملمون منهم غنيمة كثيرة، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح وبعث بالاخماس مع صحار العبدي، فلما قدم
__________
(1) وقال في فتوح البلدان 2 / 482 ان عبد الله بن عامر وجه مجاشع بن مسعود السلمي إلى كرمان فقاتل أهلها في حصنهم ففتحها عنوة.
(2) هي ناحية كبيرة وولاية واسعة وهي جنوبي هراة.
سهلة لا يرى بها جبل وبها نخل كثير وتمر وفي رجالهم عظم خلق وجلادة بين سجستان وكرمان 130 فرسخا.
(3) هذه الولاية بين كرمان من غربيها وسجستان شمالها والبحر جنوبها والهند شرقها.
قال الاصطخري: مكران ناحية واسعة عريضة والغالب عليها المفاوز والضر والقحط.

على عمر سأله عن أرض مكران فقال: يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل، وماؤها وشل (1)، وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها.
فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر ؟ فقال: لا، بل مخبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو أن لا يغزو بعد ذلك مكران، وليقتصروا على ما دون النهر.
وقد قال الحكم بن عمرو في ذلك: لقد شبع الارامل غير فخر * بفئ جاءهم من مكران أتاهم بعد مسغبة وجهد * وقد صفر الشتاء من الدخان فإني لا يذم الجيش فعلي * ولا سيفي يذم ولا لساني (2)
غداة أدافع الاوباش دفعا * إلى السند العريضة والمداني ومهران لنا فيما أردنا * مطيع غير مسترخي العنان فلولا ما نهى عنه أميري * قطعناه إلى البدد الزواني غزوة الاكراد ثم ذكر ابن جرير بسنده عن سيف عن شيوخه: أن جماعة من الاكراد والتف إليهم طائفة من الفرس اجتمعوا فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيروذ قريب من نهر تيري، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان وقد استخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلم الحرب وحنق عليهم، فهزم الله العدو وله الحمد والمنة، كما هي عادته المستمرة وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، من أتباع سيد المرسلين.
ثم خمست الغنيمة وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه، وقد سار ضبة بن محصن العنزي فاشتكى أبا موسى إلى عمر، وذكر عنه أموارا لا ينقم عليه بسببها (3)، فاستدعاه عمر فسأله عنها فاعتذر منها
__________
(1) ماؤها وشل: أي قليل.
وتمرها دقل: أي التمر الردئ أو أردؤه.
(2) في الطبري: سناني.
(3) هذه الامور كما ذكرها الطبري 5 / 9: - اتخذ أبو موسى ستين غلاما من أبناء الدهاقين اتخذهم لنفسه.
- اتخذ جارية اسمها عقيلة يغديها بجفنة ويعشيها بجفنة.
- له قفيزان يكتال بأحدهما لنفسه وبالآخر لغيره.
- له خاتمان يختم بهما.
واستولى على أمره زياد بن عبيد بن علاج الثقفي.
- اجاز الحطيئة بألف.
- زاد ابن الاعثم في فتوحه: انه حلف يمينا كاذبة في انه أعطى أهل رامهرمز أمانا وعهدا وأجلا ستة أشهر.
(2 / 29).

بوجوه مقبولة فسمعها عمرو قبلها، ورده إلى عمله وعذر ضبة فيما تأوله ومات عمر، وأبو موسى على صلاة البصرة.
خبر سلمة بن قيس الاشجعي والاكراد بعثه عمر على سرية ووصاه بوصايا كثيرة بمضمون حديث بريدة في صحيح مسلم " اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله " الحديث إلى آخره، فساروا فلقوا جمعا من المشركين فدعوهم إلى إحدى ثلاث خلال (1)، فأبوا أن يقبلوا واحدة منها، فقاتلوهم فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم.
ثم بعث سلمة بن قيس رسولا إلى عمر بالفتح وبالغنائم، فذكروا وروده على عمر وهو يطعم الناس، وذهابه معه إلى منزله، كنحو ما تقدم من قصة أم كلثوم بنت علي، وطلبها الكسوة كما يكسى طلحة وغيره أزواجهم، فقال: ألا يكفيك أن يقال بنت علي وامرأة أمير المؤمنين ؟ ثم ذكر طعامه الخشن وشرابه من سلت، ثم شرع يستعلمه عن أخبار المهاجرين، وكيف طعامهم وأشعارهم، وهل يأكلون اللحم الذي هو شجرتهم، ولا بقاء للعرب دون شجرتهم ؟ وذكر عرضه عليه ذلك السفط من الجوهر، فأبى أن يأخذه وأقسم على ذلك، وأمره بأن يرده فيقسم بين الغانمين.
وقد أورده ابن جرير مطولا جدا.
وقال ابن جرير: وفي هذه السنة حج عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها رضي الله عنه.
قال: وفي هذه السنة كانت وفاته.
ثم ذكر صفة قتله مطولا أيضا، وقد ذكرت ذلك مستقصى في آخر سيرة عمر، فليكتب من هناك إلى هنا.
وهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي، أبو حفص العدوي، الملقب بالفاروق قيل لقبه بذلك أهل الكتاب.
وأمه حنتمة بنت هشام (2) أخت أبي جهل بن هشام.
أسلم عمر وعمره سبع وعشرين سنة (3)، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج في عدة سرايا، وكان أميرا على بعضها، وهو أول من دعي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وجمع الناس
على التراويح، وأول من عس بالمدينة، وحمل الدرة وأدب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح
__________
(1) كما في الطبري: دعوتهم إلى الاسلام فإن أبوا فادعوهم إلى الخراج فإن أبوا فقاتلوهم.
(5 / 10).
(2) قال ابن عبد البر وابن حجر وابن سعد: حنتمة بن هاشم بن المغيرة المخزومية: وقال في الاستيعاب: ومن قال بنت هشام فقد أخطأ وليست هي أخت أبي جهل إنما هي ابنة عمهما، فهاشم وهشام ابنا المغيرة اخوان (الاصابة 2 / 518 والهامش 2 / 458 طبقات ابن سعد: 3 / 265).
(3) في طبقات ابن سعد 3 / 270: ست وعشرين سنة.

الفتوح، ومصر الامصار، وجند الاجناد.
ووضع الخراج، ودون الدواوين (1)، وعرض الاعطية، واستقضى القضاة، وكور الكور، مثل السواد والاهواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كله، والجزيرة والموصل، وميا فارقين، وآمد، وأرمينية، ومصر واسكندرية.
ومات وعساكره على بلاد الري.
فتح من الشام اليرموك وبصرى ودمشق والاردن، وبيسان، وطبرية، والجابية، وفلسطين والرملة، وعسقلان وغزة والسواحل والقدس وفتح مصر واسكندرية وطرابلس الغرب وبرقة، ومن مدن الشام بعلبك وحمص وقنسرين وحلب وإنطاكية وفتح الجزيرة وحران والرها والرقة ونصيبين ورأس عين وشمشاط وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد الموصل وأرمينية جميعها.
وبالعراق القادسية والحيرة ونهر سير (2) وساباط، ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والابلة والبصرة والاهواز وفارس ونهاوند وهمذان والري وقومس وخراسان واصطخر وأصبهان والسوس ومرو ونيسابور وجرجان وأذربيجان وغير ذلك، وقطعت جيوشه النهر مرارا، وكان متواضعا في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديدا في ذات الله، يرقع الثوب بالاديم، ويحمل القربة على كتفيه، مع عظم هيبته، ويركب الحمار عريا، والبعير مخطوما بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحدا وكان نقش خاتمه كفى بالموت واعظا يا عمر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أشد أمتي في دين الله عمر " وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن لي وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الارض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل
ووزيراي من أهل الارض أبو بكر وعمر، وإنهما السمع والبصر " وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان يفرق من عمر " وقال " أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر (3) " وقيل لعمر إنك قضاء.
فقال: الحمد لله الذي ملا لهم قلبي رحما وملا قلوبهم لي رعبا.
وقال عمر: لا يحل لي من مال الله إلا حلتان حلة للشتاء وحلة للصيف، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين.
وكان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا وأشهد عليه رهطا من المهاجرين واشترط عليه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي
__________
(1) ديوان: على الارجح غير عربية - أصلها فارسي - قيل إن كسرى أطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم فقال: " ديوانه " أي " مجانين " فسمي موضعهم بهذا الاسم ثم حذفت الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان (انظر الاحكام السلطانية للماوردي) وقد اختلفوا في الذي أشار على عمر بتدوين الدواوين فقيل خالد بن الوليد، وقيل الوليد بن هشام وقيل الهرمزان.
وقد أحدثه عمر لما رأى كثرة الاموال التي ترد عليه.
وأمر ثلاثة من كتاب قريش وهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم فكتبوا ديوان العساكر الاسلامية على ترتيب الانساب مبتدئا من قرابة الرسول وما بعد فالاقرب فالاقرب...(2) في الطبري بهرسير، وفي الواقدي في فتوح العراق: نهمشير.
(2) الحديث أخرجه الترمذي في المناقب رقم (3793).
وابن ماجة في المقدمة.
والحاكم في المستدرك وابن عدي وابن عساكر وهو جزء من حديث أوله: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، ولفظ الترمذي: أرحم أمتي...

الحاجات.
فإن فعل شيئا من ذلك حلت عليه العقوبة.
وقيل إنه كان إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين فيقول عمر: احبس هذه احبس هذه، فيقول الرجل: والله كلما حدثتك به حق غير ما أمرتني أن أحبسه.
وقال معاوية بن أبي سفيان: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته فلم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن.
وعوتب عمر فقيل له: لو أكلت طعاما طيبا كان أقوى لك على الحق ؟ فقال: إني تركت صاحبي على جادة، فإن أدركت جادتهما فلم أدركهما في
المنزل.
وكان يلبس وهو خليفة جبة صوف مرقوعة بعضها بأدم ويطوف بالاسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس، وإذا مر بالنوى وغيره يلتقطه ويرمي به في منازل الناس ينتفعون به.
وقال أنس: كان بين كتفي عمر أربع رقاع، وإزاره مرقوع بأدم.
وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثنتي عشرة (1) رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر دينار، وقال لابنه: قد أسرفنا، وكان لا يستظل بشئ غير أنه كان يلقي كساءه على الشجر ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط.
ولما قدم الشام لفتح بيت المقدس كان على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة قد طبق رجليه بين شعبي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كبش من صوف، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته محشوة ليفا، وهي وسادته إذا نام، وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جيبه، فلما نزل قال: ادعوا لي رأس القرية، فدعوه فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني قميصا، فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا ؟ فقيل كتان.
فقال: فما الكتان ؟ فأخبروه.
فنزع قميصه فغسلوه وخاطوه ثم لبسه، فقال له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح فيها ركوب الابل.
فأني ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فلما سار جعل البرذون يهملج به فقال لمن معه: احبسوا، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي.
ثم نزل وركب الجمل.
وعن أنس قال: كنت مع عمر فدخل حائطا لحاجته فسمعته يقول - وبيني وبينه جدار الحائط - عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ، والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك.
وقيل: إنه حمل قربة على عاتقه فقيل له في ذلك فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها ؟ وكان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر.
وما مات حتى سرد الصوم، وكان في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت حتى اسود جلده ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع.
وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه فيحمل صريعا إلى منزله فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف.
وقال طلحة بن عبد الله: خرج عمر ليلة في سواد الليل فدخل بيتا فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة
__________
(1) بالاصل: اثني عشر، وهو تحريف.

فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيكي ؟ فقالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الاذي.
فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع ؟.
وقال أسلم مولى عمر: قدم المدينة رفقة من تجار، فنزلوا المصلى فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن تحرسهم الليلة ؟ قال: نعم ! فباتا يحرسانهم ويصليان، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لامه: اتق الله تعالي وأحسني إلى صبيك.
ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتى إلى أمه فقال لها: ويحك، إنك أم سوء، ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء ؟ ! فقالت: يا عبد الله إني أشغله عن الطعام فيأبى ذلك، قال: ولم ؟ قالت: لان عمر لا يفرض إلا للمفطوم.
قال: وكم عمر ابنك هذا ؟ قالت: كذا وكذا شهرا، فقال: ويحك لا تعجليه عن الفطام.
فلما صلى الصبح وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء.
قال: بؤسا لعمر.
كم قتل من أولاد المسلمين.
ثم أمر مناديه فنادى، لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الاسلام.
وكتب بذلك إلى الآفاق (1).
وقال أسلم: خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة فلاح لنا بيت شعر فقصدناه فإذا فيه امرأة تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها فقالت: أنا امرأة عربية وليس عندي شئ.
فبكى عمر وعاد يهرول إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في أجر ساقه الله إليك ؟ وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمل على ظهره دقيقا وشحما، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها - وهو لا يعرفه - يتحدث، فوضعت المرأة غلاما فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام.
فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك وأخذ يعتذر إلى عمر.
فقال عمر: لا بأس عليك، ثم أوصلهم بنفقة وما يصلحهم وانصرف.
وقال أسلم: خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار فقال: يا أسلم ههنا ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، قالت: وعليك السلام.
قال: أدنو.
قالت: ادن أو دع.
فدنا فقال: ما بالكم ؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد.
قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون ؟ قالت: من الجوع.
فقال: وأي شئ على النار ؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر.
فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وجراب شحم، وقال: يا أسلم احمله على ظهري، فقلت: أنا أحمله عنك.
فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة ؟.
فحمله على ظهره وانطلقنا إلى المرأة فألقى
__________
(1) روى الخبر ابن سعد عن نافع عن ابن عمر 3 / 301.

عن ظهره وأخرج من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار وقال: إيتيني بصحفة.
فأتى بها فغرفها ثم تركها بين يدي الصبيان وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا - والمرأة تدعو له وهي لا تعرفه - فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.
وقيل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عمر وهو يعدو إلى ظاهر المدينة فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين ؟ فقال: قد ند بعير من إبل الصدقة فأنا أطلبه.
فقال: قد أتعبت الخلفاء من بعدك.
وقيل: إنه رأى جارية تتمايل من الجوع فقال: من هذه ؟ فقالت ابنة عبد الله: هذه ابنتي.
قال: فما بالها ؟ فقالت: إنك تحبس عنا ما في يدك فيصيبنا ما ترى.
فقال: يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله ما أعطيكم إلا ما فرض الله لكم، أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم: فأعود خائنا ؟.
روي ذلك عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا أبو حمزة يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي عمرو قال:
قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين ؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أمير المؤمنين هو " وأول من حياه بها المغيرة بن شعبة " وقيل غيره.
فالله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الصمد الانصاري، حدثتني أم عمرو بنت حسان الكوفية - وكان قد أتى عليها مائة وثلاثون سنة - عن أبيها قال: لما ولي عمر قالوا: يا خليفة رسول الله.
فقال عمر: هذا أمر يطول، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم.
فسمي أمير المؤمنين.
وملخص ذلك أن عمرو رضي الله عنه لما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين ونزل بالابطح دعا الله عز وجل وشكا إليه أنه قد كبرت سنه وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتا في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الامرين الشهادة في المدينة النبوية وهذا عزيز جدا، ولكن الله لطيف بما يشاء تبارك وتعالى، فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الاصل، الرومي الدار، وهو قائم يصلي في المحراب، صلاة الصبح من يوم الاربعاء، لاربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات، وقيل ست ضربات، إحداهن تحت سرته قطعت السفاق فخر من قامته، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر (1) رجلا مات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن
__________
(1) كذا في الاصل وابن سعد، وفي الاستيعاب اثنا عشر رجلا، وقال ابن سعد: ثلاثة عشر رجلا مات منهم تسعة.

عوف برنسا فانتحر نفسه لعنه الله، وحمل عمر إلى منزله والدم يسيل من جرحه - وذلك قبل طلوع الشمس - فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق ويقول: نعم، ولاحظ في الاسلام لمن تركها.
ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو ؟ فقالوا له: هو أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل يدعي الايمان ولم يسجد لله
سجدة.
ثم قال: قبحه الله، لقد كنا أمرنا به معروفا - وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجار نقاض حداد فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر - وقال له: لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحا تدور بالهواء فقال أبو لؤلؤة: أما والله لاعملن لك رحا يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب - وكان هذا يوم الثلاثاء عشية - وطعنه صبيحة الاربعاء (1) لاربع بقين من ذي الحجة.
وأوصى عمر أن يكون الامر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشية أن يراعى في الامارة بسببه، وأوصى من يستخلف بعده بالناس خيرا على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاث، ودفن في يوم الاحد مستهل المحرم من سنة أربع وعشرين بالحجرة النبوية، إلى جانب الصديق، عن إذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي ذلك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال الواقدي رحمه الله: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أبيه قال: طعن عمر يوم الاربعاء لاربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الاحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما، وبويع لعثمان يوم الاثنين لثلاث مضين من المحرم.
قال: فذكرت ذلك لعثمان الاخنس فقال: ما أراك إلا وهلت.
توفي عمر لاربع ليال بقين من ذي الحجة وبويع لعثمان لليلة بقيت من ذي الحجة فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين.
وقال أبو معشر: قتل عمر لاربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام وبويع عثمان بن عفان.
وقال ابن جرير: حدثت عن هشام بن محمد قال: قتل عمر لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام.
وقال سيف عن خليد بن وفرة (2) ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث من المحرم فخرج فصلى بالناس صلاة العصر.
وقال
__________
(1) قال ابن قتيبة ضربه أبو لؤلؤة يوم الاثنين لاربع بقين من ذي الحجة ومكث ثلاثا.
وقال عثمان بن محمد الاخنسي توفي عمر لاربع ليال بقين من ذي الحجة.
(وانظر أسد الغابة 3 / 77).
(2) في الطبري: ذفرة.

علي بن محمد المدائني عن شريك عن الاعمش - أو جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الاشجعي وعامر بن أبي محمد عن أشياخ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال: طعن عمر يوم الاربعاء لسبع بقين من ذي الحجة والقول الاول هو الاشهر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
صفته رضي الله عنه كان رجلا طوالا أصلع أعسر أيسر أحور العينين، آدم اللون، وقيل كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة، أشنب الاسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء.
واختلف في مقدار سنه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتها - عشرة - فقال ابن جرير: حدثنا زيد بن أحزم ثنا أبو قتيبة عن جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قتل عمر بن الخطاب وهو ابن خمس وخمسين سنة، ورواه الدراوردي عن عبد الله (1) عن نافع عن ابن عمر.
وقاله عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري، ورواه أحمد عن هشيم عن علي بن زيد عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع رواية أخرى ست وخمسون سنة.
قال ابن جرير: وقال آخرون: كان عمره ثلاثا وخمسين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد.
ثم روي عن عامر الشعبي أنه توفي وله ثلاث وستون سنة.
قلت: وقد تقدم في عمر الصديق مثله، وروي عن قتادة أنه قال: توفي عمر وهو ابن إحدى وستين سنة (2)، وعن ابن عمر والزهري خمس وستون.
وعن ابن عباس ست وستون، وروى ابن جرير عن أسلم مولى عمر أنه قال: توفي وهو ابن ستين سنة.
قال الواقدي: وهذا أثبت الاقاويل عندنا.
وقال المدائني: توفي عمر وهو ابن سبع وخمسين سنة.
ذكر زوجاته وأبنائه وبناته
قال الواقدي وابن الكلبي وغيرهما: تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان ابن مظعون فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الاكبر، وحفصة رضي الله عنهم.
وتزوج مليكة بنت جرول فولدت له عبيد الله فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفه، قال المدائني.
وقال الواقدي: هي أم كلثوم بنت جرول فولدت له عبيد الله وزيدا الاصغر.
قال المدائني وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر.
قالوا: وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها - حين قتل في الشام - فولدت له فاطمة
__________
(1) في الاستيعاب: عبيد الله.
(2) في رواية الاستيعاب عن قتادة: اثنتين وخمسين سنة.

ثم طلقها.
قال المدائني وقيل لم يطلقها.
قالوا: وتزوج جميلة (1) بنت عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح من الاوس.
وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي مليكة (2) ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنهم، ويقال هي أم ابنه عياض فالله أعلم.
قال المدائني: وكان قد خطب أم كلثوم ابنه أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين ؟ قالت: نعم، إنه خشن العيش فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فصده عنها ودله على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ومن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطبها من علي فزوجه إياها، فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفا، فولدت له زيدا (3) ورقية، قالوا: وتزوج لهية - امرأة من اليمن - فولدت له عبد الرحمن الاصغر، وقيل الاوسط.
وقال الواقدي: هي أم ولد وليست زوجة، قالوا: وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب.
قال الواقدي وهي أصغر ولده.
قال الواقدي: وخطب أم أبان بنت عتبة بن شيبة فكرهته وقالت: يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسا ويخرج عابسا.
قلت: فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولدا، وهم زيد الاكبر، وزيد
الاصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الاكبر، وعبد الرحمن الاوسط، قال الزبير بن بكار وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الاصغر وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة، رضي الله عنهم.
ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والاسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع، وهن جميلة بنت (1) عاصم بن ثابت بن الاقلح، وزينب بنت مظعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقريبة بنت أبي أمية، ومليكة بنت جرول، وأم حكيم بنت الحارث ابن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي مليكة بنت جرول.
وكانت له أمتان له منهما أولاد، هما فكيهة ولهية، وقد اختلف في لهية هذه فقال بعضهم: كانت أم ولد، وقال بعضهم: كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فالله أعلم.
ذكر بعض ما رثي به قال علي بن محمد المدائني: عن ابن داب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان عن
__________
(1) في ابن سعد: جميلة بنت ثابت بن أبي الاقلح وولدت عاصما.
وقيل كان اسمها عاصية فسماها النبي صلى الله عليه وآله جميلة.
وفي الطبري جميلة أخت عاصم بن ثابت 5 / 16.
والطبقات 3 / 265.
(2) في الطبري: عبد الله بن أبي بكر (انظر الاصابة 4 / 356).
(3) وهو زيد الاصغر.

المغيرة بن شعبة قال: لما مات عمر بكته ابنة أبي خيثمة (1) فقالت: واعمراه، أقام الاود وأبر العهد، أمات الفتن وأحيا السنن، خرج نقي الثوب بريا من العيب.
قال فقال علي بن أبي طالب: والله لقد صدقت، ذهب بخيرها، ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت.
قال: وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في زوجها عمر: فجعني فيروز لا در دره * بأبيض تال للكتاب منيب رؤوف على الادنى غليظ على العدى * أخى ثقة في النائبات نجيب متى ما يقل لا يكذب القول فعله * سريع إلى الخيرات غير قطوب
وقالت أيضا: عين جودي بعبرة ونحيب * لا تملي على الامام النجيب فجعتنا المنون بالفارس العي * - لم يوم الهياج والتلبيب (2) عصمة الناس والمعين على الده * - ر وغيث المنتاب والمحروب قل لاهل السراء والبؤس موتوا * قد سقته المنون كأس سغوب وقالت امرأة من المسلمين تبكيه: سيبكيك نساء الح * - ي يبكين شجيات ويخمشن وجوها * كالدنانير نقيات ويلبسن ثياب الحز * ن بعد القصبيات وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا ولما أسنده وروى عنه من الاحكام مجلدا آخر كبيرا مرتبا على أبواب الفقه ولله الحمد.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان، وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية ومعه من الصحابة عبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وأبو ذر، وشداد بن أوس.
وفيها فتح معاوية عسقلان صلحا.
قال: وفيها كان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سوار، قال: وأما مصعب الزبيري فإنه ذكر أن مالكا روى عن الزهري أن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاض وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في تاريخه في سنة ثلاث وعشرين.
فيها كانت قصة سارية بن زنيم.
وفيها فتحت كرمان وأميرها سهيل بن عدي.
وفيها فتحت سجستان، وأميرهم عاصم بن
__________
(1) في الطبري: ابن أبي حثمة.
(2) في أسد الغابة والطبري: فجعتني المنون بالفارس المعلم...

عمرو وفيها تحت مكران، وأميرها الحكم بن أبي العاص، أخو عثمان، وهي من بلاد الجبل.
وفيها
رجع أبو موسى الاشعري من بلاد أصبهان وقد افتتح بلادها، وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية.
ثم ذكر وفاة من مات فيها.
فمنهم قتادة بن النعمان الانصاري الاوسي الظفري أخو أبي سعيد الخدري لامه، وقتادة أكبر منه، شهد بدرا وأصيبت عينه في يوم أحد حتى وقعت على خده فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت أحسن عينيه، وكان من الرماة المذكورين، وكان على مقدمة عمر حين قدم إلى الشام توفي في هذه السنة على المشهور عن خمس وستين سنة، ونزل عمر في قبره، وقيل إنه توفي في التي قبلها.
ثم ذكر ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها وأكثر وأطنب، وأتي بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة.
ثم قال: ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الاقرع بن حابس ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة (1) بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي المجاشعي.
قال ابن دريد: واسمه فراس بن حابس ولقب بالاقرع لقرع في رأسه، وكان أحد الرؤساء، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد بني تميم، وهو الذي نادى من وراء الحجرات: يا محمد إن مدحي زين، وذمي شين، وهو القائل - وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن - أتقبله ؟ والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم.
فقال " من لا يرحم لا يرحم ".
وفي رواية " ما أملك أن نزع الله الرحمة من قبلك " وكان ممن تألفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه يوم حنين مائة من الابل، وكذلك لعيينة بن حصن الفزاري، وأعطى عباس بن مرداس خمسين (2) من الابل فقال: أتجعل نهبي ونهب العبي * - د بين عيينة والاقرع (3) فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع (4) وما كنت دون امرئ منهما * ومن يخفض اليوم لا يرفع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبي * - د بين عيينة والاقرع
رواه البخاري قال السهيلي: إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الاقرع قبل عيينة لان الاقرع كان خيرا
__________
(1) قال ابن منده وأبو نعيم جندلة بدل حنظلة، وقال ابن الاثير في أسد الغابة وهو خطأ والصواب حنظلة.
(2) في رواية البيهقي عن رافع بن خديج: أعطاه دون المائة.
وعن ابن اسحاق أعطاه أباعر.
(3) في البيهقي فأصبح بدل، اتجعل.
النهب: الغنيمة.
والعبيد: اسم فرس العباس بن مرداس.
(4) حصن: أبو عيينة، وحابس أبو الاقرع.
وفي رواية قال شيخي بدل مرداس.

من عيينة ولهذا لم يرتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما ارتد عيينة فبايع طليحة وصدقه ثم عاد.
والمقصود أن الاقرع كان سيدا مطاعا، وشهد مع خالد وقائعه بأرض العراق، وكان على مقدمته يوم الانبار.
ذكره شيخنا فيمن توفي في خلافة عمر بن الخطاب.
والذي ذكره ابن الاثير في الغابة أنه استعمله عبد الله ابن عامر على جيش وسيره إلى الجوزجان فقتل وقتلوا جميعا، وذلك في خلافة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
حباب بن المنذر ابن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عمر ويقال أبو عمرو الانصاري الخزرجي السلمي، ويقال له ذو الرأي لانه أشار يوم بدر أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ما يكون إلى القوم، وأن يغور ما وراءهم من القلب فأصاب في هذا الرأي، ونزل الملك بتصديقه وأما قوله يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكك، ومزيجها (1) المرجب، منا أمير ومنكم أمير.
فقد رده عليه الصديق والصحابة.
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (2) عتبة بن مسعود الهذلي، هاجر مع أخيه لابويه، عبد الله إلى الحبشة شهد أحدا وما بعدها.
قال الزهري: ما كان عبد الله بأفقه منه، ولكن مات عتبة قبله، وتوفي زمن عمر على الصحيح، ويقال في زمن معاوية سنة أربع وأربعين.
علقمة بن علاثة
ابن عوف بن الاحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، أسلم عام الفتح وشهد حنينا وأعطى يومئذ مائة من الابل تأليفا لقلبه، وكان يكون بتهامة وكان شريفا مطاعا في قومه، وقد ارتد أيام الصديق فبعث إليه سرية فانهزم ثم أسلم وحسن إسلامه، ووفد على عمر في خلافته، وقدم دمشق في طلب ميراث له ثم، ويقال استعمله عمر على حوران فمات بها، وقد كان الحطيئة قصده ليمتدحه فمات قبل مقدمه بليال فقال: فما كان بيني لو لقيتك سالما * وبين الغنى إلا ليال قلائل (3)
__________
(1) المشهور والمحفوظ: وعذيقها.
(2) أبو أروى الهاشمي لم يشهد بدرا وكان أسن من عمه العباس قال الزبير: مات قبل أخويه نوفل وأبي سفيان في خلافة عمر.
(3) وبعده: لعمري لنعم المرء من آل جعفر * بحوران أمسى أدركته الحبائل

علقمة بن مجزز ابن الاعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، أحد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض السرايا، وكانت فيه دعابة، فأجج نارا وأمر أصحابه أن يدخلوا فيها فامتنعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو دخلوا فيها ما خرجوا منها " وقال " إنما الطاعة في المعروف " وقد كان علقمة جوادا ممدحا رثاه جواس العذري فقال: إن السلام وحسن كل تحية * تغدو على ابن مجزز وتروح عويم بن ساعدة ابن عباس أبو عبد الرحمن الانصاري الاوسي، أحد بني عمرو بن عوف شهد العقبة وبدرا وما بعدها له حديث عند أحمد وابن ماجه في الاستنجاء بالماء.
قال ابن عبد البر: توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في خلافة عمر، وقال وهو واقف على قبره: لا يستطيع أحد أن يقول أنا خير من
صاحب هذا القبر ما نصبت راية للنبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو واقف تحتها.
وقد روى هذا الاثر ابن أبي عاصم كما أورده ابن الاثير من طريقه.
غيلان بن سلمة الثقفي أسلم عام الفتح (1) على عشر نسوة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا، وقد وفد قبل الاسلام على كسرى فأمره أن يبني له قصرا بالطائف، وقد سأله كسرى أي ولدك أحب إليك ؟ قال الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم، فقال له كسرى أن لك هذا ؟ هذا كلام الحكماء.
قال: فما غذاؤك ؟ قال: البر.
قال نعم هذا من البر لا من التمر واللبن.
معمر بن الحارث (2) ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي أخو حاطب (3) وحطاب، أمهم قيلة بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون أسلم معمر قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الارقم وشهد بدرا وما بعدها وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن عفراء.
__________
(1) قال في الاصابة والاستيعاب: أسلم يوم الطائف.
(2) في الاستيعاب والاصابة: معمر بن الحارث بن معمر.
(3) في الاستيعاب: أو حطاب، وأمهم قتيلة بنت مظعون.

ميسرة بن مسروق العبسي شيخ صالح قيل إنه صحابي شهد اليرموك ودخل الروم أميرا على جيش ستة آلاف وكانت له همة عالية فقتل وسبى وغنم وذلك في سنة عشرين، وروى عن أبي عبيدة وعنه أسلم مولى عمر، لم يذكره ابن الاثير في الغابة.
واقد بن عبد الله ابن عبد مناف بن عرين الحنظلي اليربوعي حليف بني عدي بن كعب، أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الارقم وشهد بدرا وما بعدها وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين بشر بن البراء بن
معرور، وهو أول من قتل في سبيل الله عز وجل ببطن نخلة، مع عبد الله بن جحش حين قتل عمرو بن الحضرمي، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه.
أبو خراش الهذلي الشاعر واسمه خويلد بن مرة، كان يسبق الخيل على قدميه، وكان فتاكا في الجاهلية، ثم أسلم وحسن إسلامه، وتوفي في زمن عمر، أتاه حجاج فذهب يأتيهم بماء فنهشته حية فرجع إليهم بالماء وأعطاهم شاة وقدرا، ولم يعلمهم بما جرى له، فأصبح فمات فدفنوه.
ذكره ابن عبد البر وابن الاثير في أسماء الصحابة.
والظاهر أنه ليست له وفادة، وإنما أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مخضرم والله أعلم.
أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ابن عمرو الانصاري شهد أحدا (1) وما بعدها، إلا تبوك فإنه تخلف لعذر الفقر، وهو أحد البكائين المذكورين.
سودة بنت زمعة القرشية العامرية أم المؤمنين، أول من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت صوامة قوامة، ويقال كان في خلقها حدة، وقد كبرت فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها
__________
(1) وفي أسد الغابة أنه شهد بدرا وما بعدها.
ولم يقدر على المسير إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وآله فنزل فيه وفي أصحابه: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون.
وقال في الاستيعاب والاصابة: شهد أحدا وما بعدها من المواقع - ولم يستثنيا تبوك.

- ويقال بل فارقها - فقالت: يا رسول الله لا تفارقني وأنا أجعل يومي لعائشة، فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحها على ذلك.
وفي ذلك أنزل الله عز وجل * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) * الآية [ النساء: 128 ].
قالت عائشة: نزلت في سودة بنت زمعة، توفيت في خلافة عمر بن الخطاب (1).
هند بن عتبة يقال: ماتت في خلافة عمر وقيل توفيت قبل ذلك كما تقدم فالله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثم استهلت سنة أربع وعشرين ففي أول يوم منها دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الاحد في قول وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كان عمر رضي الله عنه قد جعل الامر بعده شورى بين ستة نفر وهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين، وقال لا أتحمل أمرهم حيا وميتا، وإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومن تمام ورعه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، لانه ابن عمه خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه.
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه أنه استثناه من بينهم، وقال لست مدخله فيهم، وقال لاهل الشورى يحضركم عبد الله - يعني ابنه - وليس إليه من الامر شئ - يعني بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولي شيئا - وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاث أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الامر، ووكل بهم خمسين رجلا من المسلمين وجعل عليهم مستحثا أبا طلحة الانصاري، والمقداد بن الاسود الكندي، وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحدا، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه.
قالوا: فلما مات عمر رضي الله عنه وأحضرت جنازته تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف: لستما من هذا في شئ، إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس.
فتقدم صهيب وصلى عليه، ونزل في قبره
__________
(1) وقال الواقدي انها توفيت في شوال سنة 54 ه في خلافة معاوية بن أبي سفيان قال: وهذا الثبت عندنا.
(طبقات ابن سعد 8 / 57).

مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنه كان غائبا، فلما فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد ابن الاسود في بيت المسور بن مخرمة، وقيل في حجرة عائشة، وقيل في بيت المال، وقيل في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والاول أشبه والله أعلم.
فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب فحصبهم سعد ابن أبي وقاص وطردهما وقال جئتما لتقولا حضرنا أمر الشورى ؟ رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته.
والمقصود أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم، فكثر القول، وعلت الاصوات وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الامر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الامارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الامر فنفوض الامر إليه والله عليه والاسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله علي والاسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا نعم ! ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثان لئن ولاه ليعدلن ولئن ولى عليه ليسمعن وليطيعن، فقال كل منهما نعم ! ثم تفرقوا، ويروى أن أهل الشورى جعلوا الامر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي: أرأيت إن لم أو لك بمن تشير به علي ؟ قال: بعثمان.
وقال لعثمان: أرأيت إن لم أو لك بمن تشير به ؟ قال: بعلي بن أبي طالب.
والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الامر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الافضل والله عليه والاسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه.
ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والاعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره، فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاث أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاء واستخارة، وسؤالا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحدا يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور ؟ والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث، اذهب فادع إلي عليا وعثمان قال المسور: فقلت بأيهما أبدأ ؟ فقال بأيهما شئت، قال فذهبت إلى علي فقلت: أجب خالي، فقال: أمرك أن تدعو معي أحدا ؟

قلت: نعم ! قال: من ؟ قلت: عثمان بن عفان، قال: بأينا بدأ ؟ قلت لم يأمرني بذلك، بل قال: ادعو لي أيهما شئت أولا، فجئت إليك، قال: فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس علي حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بها على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان فقال: إني قد سألت الناس عنكما فلم أجد أحدا يعدل بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولى عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والانصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلا المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلا حييا رضي الله عنه - ثم صعد عبد الرحمن ابن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفا طويلا، ودعا دعاء طويلا، لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرا وجهرا بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما
علي وإما عثمان، فقم إلي يا علي، فقام إليه تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال فأرسل يده وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال: اللهم نعم ! قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.
قال وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال آخرا.
وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن خدعتني، وإنك إنما وليته لانه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن * (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما) *.
إلى غير ذلك من الاخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وناقليها.
والله أعلم.
والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الاخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومبادها وقويمها، والله الموفق للصواب.
وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه أنه بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جدا.
وقد روى الواقدي أيضا عن ابن جرير عن ابن أبي مليكة قال: بويع لعثمان بن عفان لعشر خلون من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليال، وهذا أغرب من الذي قبله، وكذا روى سيف بن عمر عن عامر الشعبي أنه قال: اجتمع

أهل الشورى على عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الاذان والاقامة فخرج فصلى بهم العصر.
وقال سيف عن
خليفة بن زفر ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس - يعني في أعطياتهم - مائة، ووفد أهل الامصار، وهو أول من صنع ذلك.
قلت: ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أن ذلك كان قبل الزوال، لكنه لما بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر وصلى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره.
وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين فروى سيف بن عمر عن بدر بن عثمان عن عمه قال لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبة فأتى منبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا [ فإنه لا يغفل عنكم ] (1).
أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا ؟ ألم تلفظهم ؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا، بالذي هو خير فقال تعالى * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا، المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) * [ الكهف: 45 ] قال: وأقبل الناس يبايعونه.
قلت وهذه الخطبة: إما بعد صلاة العصر يومئذ، أو قبل الزوال وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر وهو الاشبه والله أعلم.
وما يذكره بعض الناس من أن عثمان لما خطب أول خطبة ارتح عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب [ وإن بعد اليوم أياما ] (2)، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها، فهو شئ يذكره صاحب العقد وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه والله أعلم.
وأما قول الشعبي إنه زاد الناس مائة مائة - يعني في عطاء كل واحد من جند المسلمين - زاده
على ما فرض له عمر مائة درهم من بيت المال وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولامهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولى عثمان أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطا في المسجد أيضا للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل،
__________
(1) من الطبري 5 / 43.
(2) من طبقات ابن سعد 3 / 62.

والفقراء، والمساكين، رضي الله عنه.
وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليها، فلما ولى عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال إن هذا يطول، فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد الاذان الاول يوم الجمعة، قبل الاذان الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر، وأما أول حكومة حكم فيا فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلا نصرانيا يقال له جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر.
فالله أعلم.
وقد كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه، وأمر بقتله، وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالامس ويقتل هو اليوم ؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لان أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والامام يرى الاصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله.
قالوا فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول: ألا يا عبيد الله ما لك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر
على غير شئ غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر فقال سفيه والحوادث جمة * نعم أتهمه قد أشار وقد أمر وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والامر بالامر بعتبر قال: فشكا عبيد الله بن عمر زيادا إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد فأنشأ زياد يقول في عثمان: أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان أتعفو إذ عفوت بغير حق * فما لك بالذي يخلى يدان (1) قال فنهاه عثمان عن ذلك وزبره (2) فسكت زياد بن لبيد عما يقول.
ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الامصار أمراء الحرب، والائمة على الصلوات، والامناء على بيوت المال يأمرهم
__________
(1) في الطبري تحكى بدل يخلى.
وقبله في الطبري 5 / 42: فإنك إن غفرت الجرم عنه * وأسباب الخطا فرسا رهان (2) في الكامل: وشذبه.

بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتباع وترك الابتداع، قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة وولى عليها سعد ابن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه، لان عمر قال: فإن أصابت الامرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
فاستعمل سعدا عليها سنة وبعض أخرى، ثم رواه ابن جرير من طريق سيف عن مجالد عن الشعبي.
وقال الواقدي فيما ذكره عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر أوصى أن تقر عماله سنة، فلما ولي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله، واستعمل سعدا ثم عزله وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
قال ابن جرير: فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة خمس وعشرين.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الاسلام في
أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف، وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير: ههنا هذه الوقعة وملخصها أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية، حين نقضوا العهد فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالا جزيلة فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم في كل سنة فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالما غانما إلى الكوفة، فمر بالموصل.
وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة: أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلا أمينا كريما شجاعا (1) في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام.
فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيبا حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمره به أمير المؤمنين وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمر سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام وعلى جند المسلمين (2) حبيب بن مسلم الفهري، فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئا كثيرا وفتحوا حصونا كثيرة ولله الحمد.
وزعم الواقدي أن الذي أمد أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة بستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة وقد أقبل إليه الموريان الرومي في ثمانين ألفا من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعا شهما فعزم على أن يبيت جيش الروم فسمعته امرأته يقول للامراء ذلك فقالت له: فأين موعدي معك - تعني أين أجتمع بك غدا - فقال لها: موعدك سرادق الموريان أو الجنة، ثم
__________
(1) العبارة في الطبري: أما إذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته واسلامه...(2) في الطبري: وعلى جند الشام.

نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان
فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحاك بن قيس الفهري، فهي أم ولده.
قال ابن جرير: واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة فقال الواقدي وأبو معشر: حج بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان.
وقال آخرون: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
والاول هو الاشهر فإن عثمان لم يتمكن من الحج في هذه السنة لاجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه وكان يقال لهذه السنة سنة الرعاف، وفيها افتتح أبو موسى الاشعري الري بعد ما نقضوا العهد الذي كان واثقهم عليه حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، وفيها توفي سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ويكنى بأبي سفيان، كان ينزل قديدا وهو الذي اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الديلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أن يردهم على أهل مكة لما جعلوا في كل واحد من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مائة مائة من الابل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل فلم يسلطه الله عليهم، بل لما اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت قوائم فرسه في الارض حتى ناداهم بالامان، فأعطوه الامان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائل: يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للابد ؟ فقال له: " بل لابد الابد.
دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " (1).
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وفيها نقض أهل الاسكندرية العهد، وذلك أن ملك الروم بعث إليهم معويل الخصي في مراكب من البحر فطمعوا في النصرة ونقضوا ذمتهم (2)، فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الاول، فافتتح الارض عنوة وافتتح المدينة صلحا.
وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفيها في قول سيف عزل عثمان سعدا عن الكوفة وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكانه، فكان هذا مما نقم على عثمان.
وفيها وجه عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح لغزو بلاد المغرب، واستأذنه ابن أبي سرح في غزو إفريقية فأذن له ويقال فيها أيضا عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقيل بل كان هذا في سنة سبع
وعشرين كما سيأتي والله أعلم.
وفيها فتح معاوية الحصون، وفيها ولد ابنه يزيد بن معاوية.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج وأبو داود وابن ماجة والدارمي في المناسك وأحمد في مسنده 1 / 3 236 / 405، 4 / 175.
(2) في فتوح البلدان 2 / 260 قال أن الروم الذين بالاسكندرية بعثوا إلى ملك الروم قسطنطين بن هرقل يخبرونه بقلة عدد المسلمين عندهم، وبما هم فيه من الذلة واداء الجزية، فبعث منويل في ثلاثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة، فدخل الاسكندرية فقتل من بها من روابط المسلمين.

ثم دخلت سنة ست وعشرين قال الواقدي: فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم.
وفيها وسع المسجد الحرام.
وفيها عزل سعدا عن الكوفة وولاها الوليد بن عقبة، وكان سبب عزل سعد أنه اقترض من ابن مسعود مالا من بيت المال، فلما تقاضاه به ابن مسعود ولم يتيسر قضاؤه تقاولا، وجرت بينهما خصومة شديدة، فغضب عليهما عثمان فعزل سعدا واستعمل الوليد بن عقبة - وكان عاملا لعمر على عرب الجزيرة - فلما قدمها أقبل عليه أهلها فأقام بها خمس سنين وليس على داره باب، وكان فيه رفق برعيته.
قال الواقدي: وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقال غيره: وفيها افتتح عثمان بن أبي العاص سابور صلحا على ثلاثة آلاف ألف وثلثمائة ألف (1).
ثم دخلت سنة سبع وعشرين قال الواقدي وأبو معشر: وفيها عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله ابن سعد بن أبي سرح - وكان أخا عثمان لامه - وهو الذي شفع له يوم الفتح حين كان أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه.
غزوة إفريقية أمر عثمان بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن يغزو بلاد إفريقية فإذا افتتحها الله عليه فله خمس الخمس من الغنيمة نفلا، فسار إليها في عشرة آلاف فافتتحها سهلها وجبلها، وقتل خلقا
كثيرا من أهلها، ثم اجتمعوا على الطاعة والاسلام، وحسن إسلامهم، وأخذ عبد الله بن سعد خمس الخمس من الغنيمة (2) وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الجيش، فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار.
قال الواقدي: وصالحه بطريقها على ألفي ألف دينار وعشرين ألف دينار (3)، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم ويقال لآل مروان.
__________
(1) في فتوح البلدان 2 / 479: ان أبا موسى الاشعري افتتح سابور عنوة بعد نقض أهلها وغدرهم وكان على مقدمته عثمان بن أبي العاص.
(2) قال الطبري ان وفدا جاء عثمان وشكى إليه ما أخذه عبد الله ورفضوا تبرير عثمان مما اضطره إلى استرداده من عبد الله وتوزيعه على الجند 5 / 49.
(3) في الطبري: ألفي دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وفي الكامل ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار.

غزوة الاندلس لما افتتحت إفريقية بعث عثمان إلى عبد الله بن نافع بن عبد قيس وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين من فورهما إلى الاندلس فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر (1)، وأنتم إذا فتحتم الاندلس فأنتم شركاء لمن يفتتح قسطنطينية في الاجر آخر الزمان والسلام، قال فساروا إليها فافتتحوها ولله الحمد والمنة.
وقعة جرجير والبربر مع المسلمين لما قصد المسلمون وهم عشرون ألفا إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير (2) في عشرين ومائة ألف، وقيل في مائتي ألف، فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه، قال عبد الله بن الزبير: فنظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس،
فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان، قال فأمر بهم فحموا ظهري وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه - وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك - فلما اقتربت منه أحس مني الشر ففر على برذونه، فلحقته فطعنته برمحي، وذففت عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت، فلما رأى ذلك البربر فرقوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالا كثيرة، وسبيا عظيما، وذلك ببلد يقال له سبيطلة - على يومين من القيروان - فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه وأصحابهما أجمعين (3).
قال الواقدي: وفي هذه السنة افتتحت اصطخر ثانية على يدي عثمان بن أبي العاص، وفيها غزا معاوية قنسرين، وفيها حج بالناس عثمان بن عفان.
قال ابن جرير قال بعضهم وفي هذه السنة غزا معاوية قبرص، وقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثمان وعشرين.
وقال أبو معشر: غزاها معاوية سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم.
__________
(1) في الطبري: الاندلس.
(2) كذا في الاصل والكامل والطبري وفتوح البلدان، وفي فتوح ابن الاعثم: جرجين.
(3) الكامل لابن الاثير 3 / 90 فتوح البلدان 1 / 267.
ولم يشر الطبري في روايته إلى مقتل جرجير، ففي روايته أشار إلى صلح جرجير، وهو ما أشار إليه ابن الاعثم في فتوحه.
قال: سأل جرجين عبد الله الصلح بعد انهزامه ومقتل كثير من عسكره.
(الطبري 5 / 50 الفتوح 3 / 136).

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين فتح قبرص ففيها ذكر ابن جرير فتح قبرص تبعا للواقدي، وهي جزيرة غربي بلاد الشام في البحر، مخلصة وحدها، ولها ذنب مستطيل إلى نحو الساحل مما يلي دمشق، وغربيها أعرضها، وفيها فواكه كثيرة، ومعادن، وهي بلد جيد، وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليها
في جيش كثيف من المسلمين ومعه عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان التي تقدم حديثها في ذلك حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها ثم استيقظ يضحك فقالت: ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال: " ناس من أمتي عرضوا علي يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الاسرة ".
فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال " أنت منهم " ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: " أنت من الاولين " فكانت في هذه الغزوة وماتت بها وكانت الثانية عبارة عن غزو قسطنطينية بعد هذا كما سنذكره.
والمقصود أن معاوية ركب البحر في مراكب فقصد الجزيرة المعروفة بقبرص ومعه جيش عظيم من المسلمين، وذلك بأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه له في ذلك بعد سؤاله إياه، وقد كان سأل في ذلك عمر بن الخطاب فأبى أن يمكنه من حمل المسلمين على هذا الخلق العظيم الذي لو اضطرب لهلكوا عن آخرهم، فلما كان عثمان لح معاوية عليه في ذلك فأذن له فركب في المراكب فانتهى إليها، ووافاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها من الجانب الآخر، فالتقيا على أهلها فقتلوا خلقا كثيرا وسبوا سبايا كثيرة، وغنموا مالا جزيلا جيدا، ولما جئ بالاسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله ؟ فقال: ويحك إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة، وقال ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره ؟ ! ثم صالحهم معاوية على سبعة آلاف دينار (1) في كل سنة، وهادنهم، فلما أرادوا الخروج منها قدمت لام حرام بغلة لتركبها فسقطت عنها فاندقت عنقها فماتت هناك فقبرها هنالك يعظمونه ويستسقون به ويقولون قبر المرأة الصالحة.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
وتزوج عثمان
__________
(1) كذا في الاصل والطبري، وفي فتوح ابن الاعثم: سبعة آلاف دينار ومائتي دينار، وقال: كانوا يؤدون مثلها إلى ملك الروم.
3 / 119.
والكامل 3 / 96.
وذكر الكامل بندا هاما في العهد: على أهل قبرص أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم ويكن طريق
المسلمين إلى العدو عليهم.
وذكر الطبري بندا وهو: على أهل قبرص ألا يتزوجوا من عدونا - الروم - إلا باذننا.

نائلة بنت الفرافصة الكلبية - وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها - وفيها بنى عثمان داره بالمدينة الزوراء وفيها حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ففيها عزل عثمان بن عفان أبا موسى الاشعري عن البصرة، بعد عمله ست سنين وقيل ثلاث، وأمر عليها عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان بن عفان، وجمع له بين جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص وله من العمر خمس وعشرن سنة، فأقام بها ست سنين.
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن عامر فارس في قول الواقدي وأبي معشر.
زعم سيف أنه كان قبل هذه السنة.
فالله أعلم.
وفيها وسع عثمان بن عفان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبناه بالقصة (1) - وهي الكلس - كان يؤتى به من بطن نخل والحجارة المنقوشة، وجعل عمده حجارة مرصعة (2)، وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ستة، على ما كانت عليه في زمان عمر بن الخطاب، ابتدأ بناءه في ربيع الاول منها.
وفيها حج بالناس عثمان بن عفان، وضراب له بمنى فسطاطا فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة عامه هذا، فأنكر ذلك عليه غير واحد من الصحابة، كعلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، حتى قال ابن مسعود ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان، وقد ناظره عبد الرحمن بن عوف فيما فعله، فروى ابن جرير أنه قال: تأهلت بمكة، فقال له: ولك أهل بالمدينة وإنك تقوم حيث أهلك بالمدينة.
قال: وإن لي مالا بالطائف أريد أن أطلعه بعد الصدر، قال: إن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث، فقال: وإن طائفة من أهل اليمن قالوا: إن الصلاة بالحضر ركعتان فربما رأوني أصلي ركعتين فيحتجون بي، فقال له: قد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الاسلام فيهم قليل، وكان يصلي ههنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلي ههنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليت أنت ركعتين صدرا من إمارتك، قال فسكت عثمان ثم قال: إنما هو رأي رأيته.
سنة ثلاثين من الهجرة النبوية فيها افتتح سعد بن العاص طبرستان في قول الواقدي وأبي معشر والمدائني، وقال: هو أول
__________
(1) كذا في الاصل والطبري.
وفي الكامل: الجص.
وفي القاموس: القصة: الجصة، وسمي موضع قرب المدينة بذي القصة لانه كان به قصة أي جص.
(2) في الكامل والطبري: حجارة فيها رصاص.

من غزاها.
وزعم سيف أنهم كانوا صالحوا سويد بن مقرن قبل ذلك على أن لا يغزوها، على مال بذله له أصبهبذها فالله أعلم.
فذكر المدائني أن سعيد بن العاص ركب في جيش فيه الحسن والحسين، والعبادلة الاربعة (1)، وحذيفة بن اليمان، في خلق من الصحابة فسار بهم فمر على بلدان شتى يصالحونه على أموال جزيلة، حتى انتهى إلى بلد معاملة (2) جرجان، فقاتلوه حتى احتاجوا إلى صلاة الخوف، فسأل حذيفة: كيف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأخبره فصلى كما أخبره، ثم سأله أهل ذلك الحصن الامان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا ففتحوا الحصن فقتلهم إلا رجلا واحدا، وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطا مقفولا فاستدعى به سعيد ؟ ففتحوه فإذا فيه خرقة سوداء مدرجة فنشروها، فإذا فيها خرقة حمراء فنشروها، وإذا داخلها خرقة صفراء، وفيها إيران كميت وورد.
فقال شاعر يهجو بهما بني نهد: آب الكرام بالسبايا غنيمة * وفاز (3) بنو نهد بأيرين في سفط كميت وورد وافرين كلاهما * فظنوهما غنما فناهيك من غلط قالوا: ثم نقض أهل جرجان ما كان صالحهم عليه سعيد بن العاص، وامتنعوا عن أداء المال الذي ضربه عليهم - وكان مائة ألف دينار وقيل مائتي ألف دينار وقيل ثلثمائة ألف دينار - ثم وجه
إليهم يزيد بن المهلب بعد ذلك، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة عزل عثمان بن عفان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وولى عليها سعيد بن العاص وكان سبب عزله أنه صلى بأهل الكوفة الصبح أربعا ثم التفت فقال أزيدكم ؟ فقال قائل: ما زلنا منك منذ اليوم في زيارة.
ثم إنه تصدى له جماعة يقال كان بينهم وبينه شنآن، فشكوه إلى عثمان، وشهد بعضهم عليه أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقاياها، فأمر عثمان بإحضاره وأمر بجلده، فيقال إن عليا نزع عنه حلته، وأن سعيد بن العاص جلده بين يدي عثمان بن عفان، وعزله وأمر مكانه على الكوفة سعيد بن العاص (4).
وفي هذه السنة سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وهي من أقل الآبار ماء، فلم يدرك خبره بعد بذل مال جزيل، والاجتهاد في طلبه، حتى الساعة، فاستخلف عثمان بعده خاتما من فضة، ونقش عليه محمدا رسول الله، فلما قتل عثمان ذهب الخاتم
__________
(1) العبادلة الاربعة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير.
(2) في الطبري تخوم جرجان، وكان سعيد قد مر على قومس وجرجان وطميسة وقد قاتله أهلها.
زاد في فتوح البلدان: ونامنة وهي قرية.
(3) في الكامل: وآب.
(4) ذكر الخبر الطبري مطولا وأسباب عزله الوليد ج 5 / 58 وما بعدها.
ومروج الذهب 1 / 437 وابن الاعثم 3 / 166 - 167 وذكر كتاب عثمان إلى الكوفة بتولية سعيد بن العاص عليهم.

فلم يدر من أخذه.
وقد روى ابن جرير ها هنا (1) حديثا طويلا في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، ثم من فضة، وبعثه عمر بن الخطاب إلى كسرى، ثم دحية إلى قيصر، وأن الخاتم الذي كان في يد النبي صلى الله عليه وسلم ثم في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان ست سنين، ثم إنه وقع في بئر أريس، وقد تقدم بعض هذا في الصحيح.
وفي هذه السنة وقع بين معاوية وأبي ذر بالشام، وذلك أن أبا ذر أنكر على معاوية بعض الامور، وكان ينكر على من يقتني مالا من الاغنياء ويمنع أن يدخر فوق القوت،
ويوجب أن يتصدق بالفضل، ويتأول قول الله سبحانه وتعالى * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) * [ التوبة: 34 ] فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع، فبعث يشكوه إلى عثمان، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة، فقدمها فلامه عثمان على بعض ما صدر منه، واسترجعه فلم يرجع فأمره بالمقام بالربذة - وهي شرقي المدينة - ويقال إنه سأل عثمان أن يقيم بها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي " إذا بلغ البناء سلعا فأخرج منها " وقد بلغ البناء سلعا، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الاحيان، حتى لا يرتد أعرابيا بعد هجرته، ففعل فلم يزل مقيما بها حتى مات على ما سنذكره رضي الله عنه.
وفي هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء.
فصل وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - أبي بن كعب فيما صححه الواقدي.
جبار بن صخر ابن أمية بن خنساء، أبو عبد الرحمن الانصاري، عقبي بدري، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خارصا، وقد توفي عن ستين سنة.
حاطب بن أبي بلتعة (2) ابن عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى، شهد بدرا وما بعدها، وهو الذي كان كتب إلى المشركين يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به، ثم بعثه بعد ذلك برسالة إلى المقوقس ملك الاسكندرية.
__________
(1) تاريخ الطبري: ج 5 / 66 - 67.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: ابن بلتعة تحريف.

الطفيل بن الحارث
ابن المطلب أخو عبيدة، وحصين، شهد بدرا.
قال سعيد بن عمير توفي في هذه السنة (1).
عبد الله بن كعب ابن عمرو المازني أبو الحارث، وقيل أبو يحيى الانصاري، شهد بدرا وكان على الخمس يومئذ.
عبد الله بن مظعون أخو عثمان بن مظعون هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا.
عياض بن زهير ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال أبو سعيد (2) القرشي الفهري، شهد بدرا وما بعدها.
مسعود بن ربيعة وقيل ابن الربيع، أبو عمرو (3) القاري شهد بدرا وما بعدها.
توفي عن نيف وستين سنة.
معمر بن أبي سرح ابن ربيعة بن هلال القرشي أبو سعد الفهري، وقيل اسمه عمرو، بدري قديم الصحبة.
أبو أسيد مالك بن ربيعة قال الفلاس: مات في هذه السنة، والاصح أنه مات سنة أربعين، وقيل سنة ستين فالله أعلم.
__________
(1) في الاصابة والاستيعاب: مات سنة احدى وثلاثين وقيل سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث وثلاثين.
(2) في الاستيعاب: أبو سعد.
(3) في الاستيعاب: أبو عمير.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ففيها كانت غزوة الصواري، وغزوة الاساودة في البحر فيما ذكره الواقدي وقال أبو معشر:
كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين.
وملخص ذلك فيما ذكره الواقدي وسيف وغيرهما أن الشام كان قد جمعها لمعاوية بن أبي سفيان لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أحرزه غاية الحفظ وحمى حوزته، ومع هذا له في كل سنة غزوة في بلاد الروم في زمن الصيف، - ولهذا يسمون هذه الغزوة الصائفة - فيقتلون خلقا، ويأسرون آخرين، ويفتحون حصونا ويغنمون أموالا ويرعبون الاعداء، فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أصاب من الفرنج والبربر، ببلاد إفريقية والاندلس، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لم ير مثله منذ كان الاسلام، خرجوا في خمسمائة مركب (1)، وقصدوا عبد الله بن أبي سرح في أصحابه من المسلمين الذين ببلاد المغرب، فلما تراءى الجمعان بات الروم يقسقسون ويصلبون (2)، وبات المسلمون يقرأون ويصلون، فلما أصبحوا صف عبد الله بن سعد أصحابه صفوفا في المراكب، وأمرهم بذكر الله وتلاوة القرآن، قال بعض من حضر ذلك: فأقبلوا إلينا في أمر لم ير مثله من كثرة المراكب، وعقدوا صواريها، وكانت الريح لهم وعلينا، فأرسينا ثم سكنت الريح عنا، فقلنا لهم: إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر فمات الاعجل منا ومنكم، قال فنخروا نخرة رجل واحد وقالوا: الماء الماء، قال فدنونا منهم وربطنا سفننا بسفنهم، ثم اجتلدنا وإياهم بالسيوف، يثب الرجال على الرجال بالسيوف والخناجر، وضربت الامواج في عيون تلك السفن حتى ألجأتها إلى الساحل وألقت الاموال جثث الرجال إلى الساحل حتى صارت مثل الجبل العظيم، وغلب الدم على لون الماء، وصبر المسلمون يومئذ صبرا لم يعهد مثله قط، وقتل منهم بشر كثير، ومن الروم أضعاف ذلك، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فهرب قسطنطين وجيشه - وقد قلوا جدا - وبه جراحات شديدة مكينة مكث حينا يداوي منها بعد ذلك، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري أياما، ثم رجع مؤيدا منصورا مظفرا.
قال الواقدي: فحدثني معمر عن الزهري قال: كان في هذه الغزوة محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر، فأظهرا عيب عثمان وما غير وما خالف أبا بكر وعمر، ويقولان دمه حلال لانه استعمل عبد الله بن سعد - وكان قد ارتد وكفر بالقرآن العظيم وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما واستعملهم
عثمان، ونزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، فبلغ ذلك
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم: في قريب من ألف مركب من مراكب الروم فيها المقاتلة والزرافات والنيران والنفط والمسلمون في خمسمائة مركب فيها رجال مقاتلة والخيل والسلاح والطعام الكثير 3 / 128.
وفي الطبري في خمسمائة مركب أو ستمائة كانت جموع الروم 5 / 70.
(2) في الطبري: يضربون بالنواقيس، وفي فتوح ابن الاعثم: يضربون بالصنوج والطنابير ويشربون الخمور وينفخون في الصفارات.

عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين، ولقوا العدو فكانا أنكل المسلمين قتالا، فقيل لهما في ذلك فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه ؟ فأرسل إليهما عبد الله بن سعد فنهاهما أشد النهي وقال: والله لولا لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحسبتكما.
قال الواقدي وفي هذه السنة فتحت أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة.
وفي هذه السنة قتل كسرى ملك الفرس.
كيفية قتل كسرى ملك الفرس وهو يزدجرد قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل من بعض أهلها مالا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه وهرب هو حتى أتى منزل رجل ينقر الارحية على شط، فأوى إليه ليلا، فلما نام قتله.
وقال المدائني: لما هرب بعد قتل أصحابه انطلق ماشيا عليه تاجه ومنطقته وسيفه، فانتهى إلى منزل هذا الرجل الذي ينقر الارحية فجلس عنده فاستغفله وقتله وأخذ ما كان عليه، وجاءت الترك في طلبه فوجدوه قد قتله وأخذ حاصله، فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته واخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوت وحملوه إلى اصطخر، وقد كان يزدجرد وطئ امرأة من أهل مرو قبل أن يقتل فحملت منه ووضعت بعد قتله غلاما ذاهب الشق وسمى ذلك الغلام المخدج، وكان له نسل وعقب في خراسان، وقد سبى قتيبة بن مسلم في بعض غزواته بتلك البلاد جاريتين من نسله، فبعث
بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت له ابنه يزيد بن الوليد الملقب بالناقص.
وقال المدائني في رواية عن بعض شيوخه: إن يزدجرد لما انهزم عنه أصحابه عقر جواده وذهب ماشيا حتى دخل رحى على شط نهر يقال له المرغاب فمكث فيه ليلتين والعدو في طلبه فلم يدر أين هو، ثم جاء صاحب الرحى فرأى كسرى وعليه أبهته، فقال له: ما أنت ؟ إنسي أم جني ؟ قال: إنسي، فهل عندك طعام ؟ قال: نعم ! فأتاه بطعام فقال: إني مزمزم فأتني بما أزمزم به، قال: فذهب الطحان إلى أسوار من الاساورة فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به ؟ قال: عندي رجل لم أر مثله قط وقد طلب مني هذا، فذهب به الاسوار إلى ملك البلد - مرو واسمه ماهويه بن باباه - فأخبره خبره، فقال هو يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فذهبوا مع الطحان فلما دنوا من دار الرحى هابوا أن يقتلوه وتدافعوا وقالوا للطحان ادخل أنت فاقتله، فدخل فوجده نائما فأخذ حجرا فشدخ به رأسه ثم احتزه فدفعه إليهم وألقى جسده في النهر، فخرجت العامة إلى الطحان فقتلوه، وخرج أسقف فأخذ جسده من النهر وجعله في تابوت وحمله إلى اصطخر فوضعه في ناووس، ويروى أنه مكث في منزل ذلك الطحان ثلاثة أيام لا يأكل حتى رق له وقال له: ويحك يا مسكين ألا تأكل ؟ وأتاه بطعام فقال: إني لا أستطيع أن آكل إلا بزمزمة، فقال له: كل وأنا أزمزم لك، فسأل أن يأتيه بمزمزم، فلما ذهب يطلب له من بعض الاساورة شموا

رائحة المسك من ذلك الرجل، فأنكروا رائحة المسك منه فسألوه فأخبرهم فقال: إن عندي رجلا من صفته كيت وكيت، فعرفوه وقصدوه مع الطحان وتقدم الطحان فدخل عليه وهم بالقبض عليه فعرف يزدجرد ذلك فقال له: ويحك خذ خاتمي وسواري ومنطقتي ودعني أذهب من ههنا، فقال لا، أعطني أربعة دراهم وأنا أطلقك، فزاده إحدى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم أخرى، فهم في ذلك إذ دهمهم الجند فلما أحاطوا به أرادوا قتله قال: ويحكم لا تقتلوني فإنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى الملك أو إلى العرب، فإنهم يستحيون من قتل الملوك، فأبوا عليه ذلك
فسلبوه ما كان عليه من الحلى فجعلوه في جراب وخنقوه بوتر وألقوه في النهر فتعلق بعود فأخذه أسقف - واسمه إيليا - فحن عليه مما كان من أسلافه من الاحسان إلى النصارى الذين كانوا ببلادهم، فوضعه في تابوت ودفنه في ناووس، ثم حمل ما كان عليه من الحلى إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ففقد قرط من حليه فبعث إلى دهقان تلك البلاد فأغرمه ذلك.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وباقي ذلك هاربا من بلد إلى بلد، خوفا من الاسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الاطلاق، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " رواه البخاري.
وثبت في الحديث الصحيح أنه لما جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق كل ممزق، فوقع الامر كذلك، وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة كان قد نقض أهلها ما كان لهم من الصلح، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحا، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف مائتي ألف، وقيل على ستة آلاف ألف ومائتي ألف.
وفي هذه السنة حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وفيها غزا معاوية بلاد الروم حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - ومعه زوجته عاتكة، ويقال فاطمة (1) بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
قاله أبو معشر والواقدي: وفيها استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على جيش وأمره أن يغزو الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، فسار حتى بلغ بلنجر فحصروها ونصب عليها المجانيق والعرادات.
ثم إن أهل بلنجر خرجوا إليهم وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالا شديدا - وكانت الترك تهاب قتال المسلمين، ويظنون أنهم لا يموتون - حتى اجترأوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقوا معهم فاقتتلوا، فقتل يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النون (2) - وانهزم
__________
(1) في الاصابة: فاختة.
(2) في الطبري: ذو النور.

المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بلاد الخزر.
وفرقة سلكوا ناحية جيلان وجرجان، وفي هؤلاء أبو هريرة وسلمان الفارسي.
وأخذت الترك جسد عبد الرحمن بن ربيعة - وكان من سادات المسلمين وشجعانهم - فدفنوه في بلادهم فهم يستسقون عنده إلى اليوم، ولما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيد بن العاص على ذلك الفرع سلمان بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان في الامرة حتى اختلفا، فكان أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة وأهل الشام، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس (1): فإن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم * وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا * وهذا أمير في الكتائب مقبل ونحن ولاة الثغر كنا حماته * ليالي نرمي كل ثغر وننكل وفيها فتح ابن عامر مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان.
فأما مرو الروذ فبعث إليهم ابن عامر الاحنف بن قيس فحصرها فخرجوا إليه فقاتلهم حتى كسرهم فاضطرهم إلى حصنهم، ثم صالحوه على مال جزيل وعلى أن يضرب على أراضي الرعية الخراج، ويدع الارض التي كان اقتطعها كسرى لوالد المرزبان، صاحب مرو، حين قتل الحية التي كانت تقطع الطريق على الناس وتأكلهم، فصالحهم الاحنف على ذلك، وكتب لهم كتاب صلح بذلك (2)، ثم بعث الاحنف الاقرع بن حابس إلى الجوزجان ففتحها بعد قتال وقع بينهم، قتل فيه خلق من شجعان المسلمين، ثم نصروا فقال في ذلك أبو كثير النهشلي قصيدة طويلة فيها: سقى مزن السحاب إذا استهلت * مصارع فتية بالجوزجان إلى القصرين من رستاق خوط * أبادهم هناك الاقرعان ثم سار الاحنف من مرو الروذ إلى بلخ فحاصرهم حتى صالحوه على أربعمائة ألف، واستناب ابن عمه أسيد بن المشمس (3) على قبض المال، ثم ارتحل يريد الجهاد، وداهمه الشتاء فقال لاصحابه: ما تشاؤون ؟ قالوا: قد قال عمرو بن معد يكرب:
إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع فأمر الاحنف بالرحيل إلى بلخ فأقام بها مدة الشتاء، ثم عاد إلى عامر فقيل لابن عامر ما فتح على أحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وعامر خراسان، فقال: لا جرم، لاجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بعمرة من موقفي هذا مشمرا فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم على
__________
(1) أوس بن مغراء.
(2) ذكر الطبري نص كتاب الاحنف في تاريخه 5 / 81.
(3) في الطبري: المتشمس.

عثمان لامه على إحرامه من خراسان.
وفيها أقبل قارن في أربعين ألفا (1) فالتقاه عبد الله بن خازم في أربعة آلاف، وجعل لهم مقدمة ستمائة رجل، وأمر كلا منهم أن يحمل على رأس رمحه نارا، وأقبلوا إليهم في وسط الليل فبيتوهم فثاروا إليهم فناوشتهم المقدمة فاشتغلوا بهم، وأقبل عبد الله بن خازم بمن معه من المسلمين فاتفقوا هم وإياهم، فولى المشركون مدبرين، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا كيف شاؤوا.
وغنموا سبيا كثيرا وأموالا جزيلة، ثم بعث عبد الله بن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي عنه وأقره على خراسان - وكان قد عزله عنها - فاستمر بها عبد الله بن خازم إلى ما بعد ذلك.
ذكر من توفي من الاعيان في هذه السنة العباس بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الفضل المكي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالد الخلفاء العباسيين، وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، أسر يوم بدر فافتدى نفسه بمال، وافتدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث.
وقد ذكرنا أنه لما أسر وشد في الوثاق وأمسى الناس، أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله ما لك ؟ فقال " إني أسمع أنين العباس في وثاقه فلا أنام " فقام رجل من المسلمين فحل من وثاق العباس حتى سكن أنينه فنام
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم عام الفتح، وتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجحفة فرجع معه، وشهد الفتح، ويقال إنه أسلم قبل ذلك ولكنه أقام بمكة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، كما ورد به الحديث فالله أعلم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه وينزله منزلة الوالد من الولد، ويقول " هذا بقية آبائي " وكان من أوصل الناس لقريش وأشفقهم عليهم، وكان ذا رأي وعقل تام واف، وكان طويلا جميلا أبيض بضا ذا طفرتين وكان له من الولد عشرة ذكور سوى الاناث، وهم تمام - وكان أصغرهم - والحارث، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعون (2)، والفضل، وقثم، وكثير، ومعبد.
وأعتق سبعين مملوكا من غلمانه.
وقال الامام أحمد: ثنا علي بن عبد الله قال: حدثني محمد بن طلحة التميمي من أهل المدينة حدثني أبو سهيل نافع بن مالك عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس " هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها (3) " تفرد به وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر حين بعثه على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) من أهل الطبسين وأهل باذعيس وهراة وقوهستان.
(2) لم يرد في ابن سعد.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 185.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55