كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
لانعمه) أي قائما بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله (اجتباه) أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليلا وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة وقال تعالى (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا) [ النساء: 125 ].
يرغب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام لانه كان على الدين القويم والصراط المستقيم.
وقد قام بجميع ما أمره به ربه، ومدحه تعالى بذلك فقال (وابراهيم الذي وفى) [ النجم - 27 ] ولهذا اتخذه الله خليلا والخلة هي غاية المحبة كما قال بعضهم.
قد تخللت مسلك الروح مني * وبذا سمي الخليل خليلا وهكذا نال هذه المنزلة (1) خاتم الانبياء وسيد الرسل (2) محمد صلوات الله وسلامه عليه كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جندب البجلي وعبد الله بن عمرو وابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيها الناس إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ".
وقال أيضا في آخر خطبة خطبها: " أيها الناس لو كنت متخذا من أهل الارض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله " (3).
أخرجاه من حديث أبي سعيد وثبت أيضا من حديث عبد الله بن الزبير وابن عباس وابن مسعود.
وروى البخاري في صحيحه حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن عمرو بن ميمون قال إن معاذا لما قدم اليمن صلى
بهم الصبح فقرأ: واتخذ الله إبراهيم خليلا.
فقال رجل من القوم لقد قرت عين أم إبراهيم * وقال ابن مردويه حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا اسمعيل بن أحمد ابن أسيد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة ابن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله * وقال آخر ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما.
وقال آخر فعيسى روح الله وكلمته.
وقال آخر آدم اصطفاه الله.
فخرج عليهم فسلم وقال: " قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى كليمه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك.
ألا وإني حبيب الله ولا فخر ألا وإني أول شافع وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة باب الجنة فيفتحه الله فيدخلنيها ومعي
__________
(1) وفي نسخة: المرتبة.
(2) وفي نسخة: المرسلين.
(3) أخرجه البخاري في 63 / 45 / 1904 فتح الباري و 62 / 5 / 3656 في رواية طويلة والدارمي في سننه، وابن ماجة في سننه مقدمه 11 / 93، وأحمد في مسنده 1 / 270 - 359، 3 / 18 - 478، 4 / 4 - 5، 5 / 212.
وأخرجه الترمذي ومسلم في 44 / 1 / 2 / 7.
فقراء المؤمنين وأنا أكرم الاولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " * هذا حديث غريب من هذا الوجه وله شواهد من وجوه أخر والله أعلم (1) * وروى الحاكم في مستدركه من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال أتنكرون أن تكون الخلة لابراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين * وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد المسلمي، حدثنا الوليد، عن اسحاق بن بشار (2) قال: لما اتخذ الله ابراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل حتى أن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد، كما يسمع خفقان الطير في الهواء، وقال عبيد بن عمير كان إبراهيم
عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه فلم يجد احدا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني قال دخلتها بأذن ربها * قال: ومن أنت ؟ قال: أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره بان الله قد اتخذه خليلا قال: من هو فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت، قال: ذلك العبد أنت ! قال: أنا، قال: نعم قال: فبم اتخذني ربي خليلا قال بأنك تعطي الناس ولا تسألهم.
رواه ابن أبي حاتم * وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا في غير ما موضع بالثناء عليه والمدح له فقيل إنه مذكور في خمسة وثلاثين (3) موضعا منها خمسة عشر في البقرة وحدها وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الانبياء في آيتي الاحزاب والشورى وهما قوله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) [ الاحزاب: 7 ] وقوله (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه) [ الشورى: 13 ] الآية.
ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة مسندا ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
وما وقع في حديث شريك ابن أبي نمير عن أنس في حديث الاسراء من أن ابراهيم في السادسة وموسى في السابعة فمما انتقد على شريك في هذا الحديث والصحيح الاول.
__________
(1) أخرج القسم الاخير منه البيهقي بروايات مختلفة راجع دلائل النبوة ج 5 / 478 وما بعدها.
(2) بشار تحريف والصواب يسار.
(3) ذكر اسم إبراهيم في القرآن في: البقرة: 124 - 125 - 126 - 127 - 130 - 132 - 133 - 135 - 136 - 140 - 258 - 260، وآل عمران: 33 - 35 - 67 - 68 - 84 - 95 - 97، النساء: 54 - 125 - 163، الانعام: 74 - 75 - 83 - 151، التوبة: 70 - 114، هود: 69 - 74 - 75 - 83 - 151، يوسف: 6 - 38، ابراهيم: 36، الحجر: 51، النحل: 120 - 123 -، مريم: 41 - 46 - 58، الانبياء: 51 - 60 -
62 - 69.
الحج: 26 - 43 - 78.
الشعراء: 69، العنكبوت: 16 - 31، الاحزاب: 7، الصافات: 83 - 104 - 109 ص: 45، الشورى: 13، الزخرف: 26، الذاريات: 24، النجم: 37، الحديد: 26، الممتحنة: 4، الاعلى: 19.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سملة، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم خليل الرحمن ".
تفرد به احمد (1).
ثم مما يدل على أن إبراهيم أفضل من موسى الحديث الذي قال فيه: " وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم " رواه مسلم (2) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " ثم ذكر إستشفاع الناس بآدم ثم بنوح ثم ابراهيم ثم موسى ثم عيسى فكلهم يحيد عنها حتى يأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها أنا لها " الحديث.
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله، حدثني سعيد (3) عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله من أكرم (4) الناس ؟ قال: " أتقاهم ".
قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: " فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله بن خليل الله ".
قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: " فعن معادن (5) العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا " (6) وهكذا رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طريق عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به * ثم قال البخاري قال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما وحديث عبدة ابن سليمان والنسائي من حديث محمد بن بشر أربعتهم عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أحمد حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم
يوسف بن يعقوب بن اسحق ابن ابراهيم خليل الله ".
تفرد به أحمد * وقال البخاري حدثنا عبدة حدثنا عبد الصمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكريم ابن الكريم
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 322.
وأخرج بنحوه البخاري 6 / 19 / 3290 وأحمد من رواية ابن عمر 2 / 96.
(2) أخرجه مسلم في 6 / 48 / 273 من حديث طويل ج 1 / 561 - 562.
وأخرجه أحمد في مسنده ج 5 / 127 - 129.
(3) في البخاري:.
حدثنا عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، وعبيدالله هو - بن سعيد.
(4) أكرم الناس: قال العلماء: أصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم مكارم الاخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبيا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين ; وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه وسياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة.
(5) معادن العرب: أصولها.
(6) أخرجه البخاري في كتاب المناقب (60) - باب 14 ح 3374.
ومسلم في 43 / كتاب الفضائل - 43 باب ح 168 / 2378 ص 4 / 1846.
ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب ابن اسحق بن ابراهيم ".
تفرد به من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر به * فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس حفاة عراة غرلا فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام " (1) ثم قرأ (كما بدأنا أول خلق نعيده) [ الانبياء: 104 ] فأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وهذه الفضيلة المعينة لا تقتضي الافضلية بالنسبة إلى ما قابلها مما ثبت لصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الاولون والاخرون * وأما الحديث الآخر الذي قال الامام أحمد حدثنا وكيع وأبو نعيم حدثنا سفيان هو الثوري عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا خير البرية
فقال: " ذاك ابراهيم " (2) فقد رواه مسلم من حديث الثوري وعبد الله بن إدريس وعلي بن مسهر ومحمد بن فضيل أربعتهم عن المختار بن فلفل * وقال الترمذي حسن صحيح * وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام كما قال: " لا تفضلوني على الانبياء " وقال: " لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلى أم جوزي بصعقة الطور ؟ " * وهذا كله لا ينافي في ما ثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه من أنه سيد ولد آدم يوم القيامة وكذلك حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم (3) وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى ابراهيم ".
ولما كان ابراهيم عليه السلام أفضل الرسل وأولي العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أمر المصلي أن يقول في تشهده ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وغيره قال: قلنا يارسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك " قال قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد " وقال تعالى (وإبراهيم الذي وفى) [ النجم: 37 ] قالوا وفي جميع ما أمر به وقام بجميع خصال الايمان وشعبه وكان لا يشغله مراعاة الامر الجليل عن القيام بمصلحة الامر القليل ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار.
قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن) [ البقرة: 124 ]
__________
(1) أخرجه البخاري في 60 كتاب المناقب باب (8) ح 3349 فتح الباري وأخرجه مسلم في صحيحه 51 / 14 / 58 ورواه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده ج 5 / 3 والنسائي في سننه وأبو داود الطيالسي.
(2) أخرجه مسلم في 43 كتاب الفضائل 41 / 150 وأبو داود في سننه وأحمد في مسنده ج 3 / 178 - 184.
(3) تقدم التعليق فليراجع في موضعه.
(4) مسلم في 4 كتاب الصلاة 17 باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 66 / 406 ص 1 / 305 والحديث في البخاري رقم 1591.
قال إبتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد.
في الرأس قص الشارب والمضمضة والسواك والاستنشاق وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الاظفار وحلق العانة والختان ونتف الابط وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
رواه ابن أبي حاتم * وقال وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك قلت: وفي الصحيحين (1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: " الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط " وفي صحيح مسلم (2) وأهل السنن من حديث وكيع عن ذكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي عن طلق بن حبيب العتري عن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عشر من الفطرة قص الشارب واعفاء اللحية والسواك وإستنشاق الماء وقص الاظفار وغسل البراجم (3) ونتف الابط وحلق العانة وإنتقاص الماء " - يعني الاستنجاء - وسيأتي في ذكر مقدار عمره الكلام على الختان * والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالاخلاص لله عزوجل وخشوع العبادة العظيمة عن مراعاة مصلحة بدنه وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الاصلاح والتحسين وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر أو وجود قلح (4) أو وسخ فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم (وإبراهيم الذي وفى).
قصره في الجنة قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي، ومحمد بن موسى القطان، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة قصرا أحسبه قال من لؤلؤة ليس فيه فصم ولا وهي أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلا ".
قال البزار وحدثناه أحمد بن جميل المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن حماد بن سلمة فأسنده إلا يزيد بن هارون والنضر بن شميل، وغيرهما يرويه موقوفا.
قلت: لولا هذه العلة لكان على شرط
الصحيح.
ولم يخرجوه.
__________
(1) مسلم في صحيحه 2 كتاب الطهارة 16 باب خصال الفطرة ح 50 ص 1 / 222.
وفي البخاري ح رقم 2291 ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ومالك في الموطأ وأحمد في مسنده.
(2) في 2 كتاب الطهارة 16 باب خصال الفطرة حديث 56 / 261 ص 1 / 223.
(3) البراجم: جمع برجمة وهي عقد الاصابع ومفاصلها كلها.
(4) قلح: صفرة الاسنان وسوادها.
صفة ابراهيم عليه السلام قال الامام أحمد حدثنا يونس وحجين قالا: حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عرض علي الانبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود، ورأيت ابراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية.
تفرد به الامام أحمد من هذا الوجه وبهذا اللفظ (1) * وقال أحمد حدثنا أسود بن عامر، حدثنا اسرائيل، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى ابن مريم وموسى وابراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر - وأما موسى فآدم جسيم ".
قالوا له فابراهيم ؟ قال: " انظروا إلى صاحبكم " يعني نفسه * وقال البخاري حدثنا بنان (2) بن عمرو، حدثنا النضر، أنبأنا ابن عون، عن مجاهد، أنه سمع ابن عباس وذكروا له الدجال بين عينيه كافرا و (ك ف ر) فقال لم اسمعه ولكنه قال صلى الله عليه وسلم: " أما ابراهيم فانظروا إلى صاحبكم وأما موسى فجعد آدم على جمل احمر مخطوم بخلبه كأني انظر إليه انحدر في الوادي ".
ورواه البخاري أيضا ومسلم عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي عن عبد الله بن عون به * وهكذا رواه البخاري أيضا في كتاب الحج وفي اللباس ومسلم جميعا عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي عن عبد الله بن عون به.
وفاة ابراهيم وما قيل في عمره
ذكر ابن جرير في تاريخه أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان وهو فيما قيل الضحاك الملك المشهور الذي يقال انه ملك ألف سنة وكان في غاية الغشم والظلم * وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام وأنه كان إذ ذاك ملك الدنيا.
وذكروا أن طلع نجم اخفى ضوء الشمس والقمر فهال ذلك أهل ذلك الزمان وفزع النمرود.
فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك فقالوا يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه.
فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء وأن يقتل المولودون من ذلك الحين فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين فحماه الله عزوجل وصانه من كيد الفجار وشب شبابا باهرا وانبته الله نباتا حسنا حتى كان من أمره ما تقدم وكان مولده بالسوس وقيل ببابل وقيل بالسواد من ناحية كوثى (3) وتقدم عن ابن عباس أنه
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 324 ومسلم في صحيحه 1 / 74 / 271 وفيه زيادة: ورأيت جبرائيل عليه السلام فإذا أقرب ما رأيت به شبها دحية.
وقبله..رأيت إبراهيم..شبها بصاحبكم (يعني نفسه).
(2) في البخاري: بيان بن عمرو.
(3) تقدم التعليق فليراجع في موضعه.
ولد ببرزة شرقي دمشق فلما أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران ثم إلى أرض الشام وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا وولد له إسماعيل واسحق وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة فيما ذكر أهل الكتاب فحزن عليها ابراهيم عليه السلام ورثاها رحمها الله واشترى من رجل من بني حيث يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال ودفن فيها سارة هنالك قالوا ثم خطب إبراهيم على ابنه اسحق فزوجه رفقا بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح وبعث مولاه فحملها من بلادها ومعها مرضعتها وجوارها على الابل قالوا ثم تزوج ابراهيم عليه السلام قنطورا (1) فولدت له زمران ويقشان ومادان ومدين وشياق وشوح (2).
وذكروا ما ولد كل واحد من هؤلاء أولاد قنطورا.
وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيئ ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة الله أعلم
بصحتها * وقد قيل إنه مات فجأة وكذا داود وسليمان والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك.
قالوا ثم مرض إبراهيم عليه السلام ومات عن مائة وخمس وسبعين * وقيل وتسعين سنة ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي عند إمرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي وتولى دفنه اسمعيل واسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين * وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي.
(3) سنة كما قاله ابن الكلبي وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة حدثنا علي بن زياد اللخمي حدثنا أبو قرة عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اختتن ابراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة " (4) وقد رواه الحافظ بن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون العمري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن أبي هريرة موقوفا.
ثم قال ابن حبان ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد نيست (5) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة واختتن بقدوم.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتت عليه ثمانون سنة.
ثم روى ابن حبان عن
__________
(1) قطورا بنت يقطن من الكنعانيين ابن الاثير في الكامل والطبري في تاريخه.
وقيل تزوج بعدها حجورا بنت أهير.
(2) ذكر المسعودي 1 / 43 الاسماء كالتالي: مرق - نفس - مدن - مدين - سنان وسرح.
وفي الطبري: يقسان، زمران مديان، يسبق، سوح، بسر.
(3) في الكامل وتاريخ الطبري: مائتي سنة - وعند المسعودي: مائة وخمس وتسعين.
(4) رواه ابن عساكر في تاريخه ج 2 / 149 تهذيب.
(5) هكذا في الاصول ; ولم أجد فيما لدي من مراجع من تسمى من الرجال بهذا الاسم، وقد ورد محمد بن عبد الله بن نمير ممن روى عن قتيبة ولم يعرف غيره.
عبد الرزاق أنه قال القدوم اسم القرية.
قلت الذي في الصحيح أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة * وفي رواية وهو ابن ثمانين سنة وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك والله أعلم * وقال محمد بن اسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: كان إبراهيم أول من تسرول وأول من فرق وأول من استحد وأول من اختتن بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وأول من قرى الضيف، وأول من شاب.
هكذا رواه موقوفا وهو أشبه بالمرفوع خلافا لابن حبان والله أعلم.
وقال مالك (1) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال كان إبراهيم أول من أضاف (2) الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه (3) وأول الناس رأى الشيب، فقال يا رب ما هذا ؟ فقال الله [ تبارك وتعالى ] " وقار [ يا ابراهيم ] " فقال يا رب زدني وقارا.
وزاد غيرهما وأول من قص شاربه وأول من استحد وأول من لبس السراويل * فقبره وقبر ولده اسحق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد " حبرون " وهو البلد المعروف بالخليل اليوم وهذا تلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيل بعد جيل من زمن بني اسرائيل وإلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا.
فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم فينبغي أن تراعي تلك المحلة وأن تحترم احترام مثلها وأن تبجل وأن تجل أن يداس في أرجائها خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الانبياء عليهم السلام تحتها * وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه قال وجد عند قبر ابراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة.
الهي جهولا أمله * يموت من جا أجله ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله وكيف يبقى آخر * من مات عنه أوله والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله ذكر أولاد إبراهيم الخليل
أول من ولد له: اسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحق من سارة بنت عم الخليل، ثم تزوج بعدها " قنطورا " بنت يقطن الكنعانية فولدت له ستة مدين وزمران وسرج ويقشان ونشق ولم يسم السادس ثم تزوج بعدها " حجون " بنت أمين (4) فولدت له خمسة كيسان
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ - باب ما جاء في السنة في الفطرة ح 1667 / ص 510.
(2) عند مالك: أول الناس ضيف الضيف.
(3) عند مالك: الشارب.
(4) في الكامل لابن الاثير: حجون بنت أهير.
وسورج واميم ولوطان ونافس * وهكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه " التعريف والاعلام ".
ومما وقع في حياة ابراهيم خليل من الامور العظيمة، قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة الغميمة (1) وذلك أن لوطا بن هاران بن تارح وهو آزر كما تقدم ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل فإبراهيم وهاران وناحور اخوة كما قدمنا ويقال إن هاران هذا هو الذي بنى حران * وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب والله أعلم * وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وأذنه فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر وكأن أم تلك المحلة ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم واسوأهم طوية وأرداهم سريرة وسيرة يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم وهي إتيان الذكران من العالمين وترك من خلق الله من النسوان لعباده الصالحين فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش المنكرات والافاعيل المستقبحات فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم واستمروا على فجورهم وكفرانهم فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم وجعلهم مثلة في العالمين وعبرة يتعظ بها الالباء من العالمين ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع من كتابه المبين فقال تعالى في سورة الاعراف (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة
ما سبقكم بها أحد من العالمين.
أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون.
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون.
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) [ الاعراف: 80 - 84 ].
وقال تعالى في سورة هود (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ.
فلما رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحق ومن وراء اسحاق يعقوب.
قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب.
قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد.
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى تجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب.
يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك.
وإنهم آتاهم عذاب غير مردود.
ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب.
وجاءه قومه يهرعون إليه.
ومن قبل كانوا يعملون السيئات.
قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد.
قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد.
قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن
__________
(1) وفي نسخة العميمة ; أي الشاملة.
شديد.
قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد الا إمرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.
فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) [ هود: 69 - 83 ].
وقال تعالى في سورة الحجر (ونبئهم عن ضيف ابراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قال لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم.
قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم
تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
قال فما خطبكم أيها المرسلون.
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين.
الا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين.
إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين.
فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون.
قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وآتيناك بالحق وإنا لصادقون.
فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.
وجاء أهل المدينة يستبشرون.
قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون.
واتقوا الله ولا تخزون.
قالوا أولم ننهك عن العالمين.
قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين.
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون.
فأخذتهم الصيحة مشرقين.
فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل.
إن في ذلك لآيات للمتوسمين وانها لبسبيل مقيم.
إن في ذلك لآية للمؤمنين) [ الحجر: 51 - 77 ].
وقال تعالى في سورة الشعراء (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين.
فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين.
وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 160 - 175 ].
وقال تعالي في سورة النمل (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون.
أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) [ النمل: 54 - 58 ].
وقال تعالي في سورة العنكبوت (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون
الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب
الله إن كنت من الصادقين.
قال رب انصرني على القوم المفسدين * ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية * إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين * ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن انا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) [ العنكبوت: 28 - 35 ] وقال تعالى في سورة الصافات (وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين.
الا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * إنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون) [ الصافات: 133 - 137 ] وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم (قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين * فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين.
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين.
وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم) [ الذاريات: 31 - 38 ].
وقال في سورة الانشقاق (كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر.
نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر * ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر *) [ القمر: 33 - 40 ].
وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير * وقد ذكر الله لوطا وقومه في مواضع أخر من القرآن تقدم ذكرها (1) مع قوم نوح وعاد وثمود * والمقصود الآن ايراد ما كان من أمرهم وما أحل الله بهم مجموعا من الآيات والآثار وبالله المستعان * وذلك أن لوطا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من
الفواحش فلم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به حتى ولا رجل واحد منهم ولم يتركوا ما عنه نهوا بل استمروا على حالهم ولم يرتدعو (2) عن غيهم وضلالهم وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم [ واستضعفوه وكثروا منه ] (3) وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا (أخرجوا آل لوط من قريتكم انهم أناس يتطهرون) [ النمل: 56 ] فجعلوا غاية المدح ذما يقتضي الاخراج وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.
فطهره الله وأهله إلا امرأته وأخرجهم منها أحسن اخراج وتركهم في محلتهم خالدين لكن بعدما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج لكنها عليهم في
__________
(1) غير ما تقدم ذكر اسم لوط في: الانعام 86، الانبياء: 71 - 74، الحج: 43، الصافات: 133 ص: 13، ق: 12، التحريم: 10.
(2) وفي نسخة: ولم يرعووا.
(3) سقطت من النسخ المطبوعة.
الحقيقة نار تأجج وحر يتوهج وماؤها ملح أجاج.
وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن [ ارتكاب ] (1) الطامة العظمى والفاحشة الكبرى التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا (2) * ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ويخونون الرقيق ويأتون في ناديهم وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم المنكر من الاقوال والافعال على اختلاف أصنافه حتى قيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ولا يستحيون من مجالسهم وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نصيحة من عاقل وكانوا في ذلك وغيره كالانعام بل أضل سبيلا ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر ولا ندموا على ما سلف من الماضي ولا راموا في المستقبل تحويلا فأخذهم الله أخذا وبيلا وقالوا له فيما قالوا (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) [ العنكبوت: 29 ] فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الاليم وحلول البأس العظيم فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين فغار الله لغيرته وغضب لغضبته واستجاب لدعوته وأجابه إلى طلبته وبعث
رسله الكرام وملائكته العظام فمروا على الخليل ابراهيم وبشروه بالغلام العليم وأخبروه بما جاؤوا له من الامر الجسيم والخطب العميم (قال فما خطبكم أيها المرسلون.
قالوا انا ارسلنا إلى قوم مجرمين.
لنرسل عليهم حجارة من طين.
مسومة عند ربك للمسرفين) [ الذاريات: 31 - 34 ] وقال (ولما جائت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين.
قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين) [ العنكبوت: 31 - 34 ] وقال الله تعالى (فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) [ هود: 74 ].
وذلك إنه كان يرجو أن ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا.
ولهذا قال تعالى (إن ابراهيم لحليم أواه منيب.
يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) [ هود: 75 ] أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم، إنه قد جاء أمر ربك أي قد أمر به، من لا يرد أمره، ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.
وذكر سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن اسحاق أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: * (أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا لا قال فمائتا مؤمن قالوا لا قال فأربعون مؤمنا قالوا لا قال فأربعة عشر مؤمنا قالوا لا) قال ابن اسحق إلى أن قال (أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا لا قالوا إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها) الآية وعند أهل الكتاب أنه قال: يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا فقال الله لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا ثم تنازل إلى
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) في نسخة: من العالمين.
عشرة فقال الله (لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون) قال الله تعالى (وقال ولما جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) قال المفسرون لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم في صور شبان حسان
اختبارا من الله تعالى لقوم لوط وإقامة للحجة عليهم فاستضافوا لوطا عليه السلام وذلك عند غروب الشمس فخشي إن لم يضفهم يضيفهم غيره وحسبهم بشرا من الناس وسيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن اسحق شديد بلاؤه وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم كما كان يصنع بهم في غيرهم وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحدا ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه * وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها فتضيفوا فاستحيى منهم وانطلق أمامهم وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية وينزلوا في غيرها فقال لهم: فيما قال [ والله ] (1) يا هؤلاء ما أعلم على وجه الارض أهل بلد أخبث من هؤلاء ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حيت كرره أربع مرات قال وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.
وقال السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط فأتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لاهلها وكانت له ابنتان اسم الكبرى ريثا والصغرى ذعرتا فقالوا لها يا جارية هل من منزل فقالت لهم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقت (2) عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أرادك (3) فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم لا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل البيت فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط فجاءه قومه يهرعون إليه.
وقوله (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) [ هود: 77 ] أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة (قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) [ هود: 78 ] يرشدهم إلى غشيان نسائهم وهن بناته شرعا لان النبي للامة بمنزلة الوالد كما ورد في الحديث وكما قال تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) [ الاخزاب: 6 ] وفي قول بعض الصحابة والسلف وهو أب لهم.
وهذا كقوله (أتأتون الذكران من العالمين.
وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) [ الشعراء: 165 - 166 ]
وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن اسحق
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) وفي نسخة: شفقة عليهم ; وفي الكامل: خافت عليهم.
(3) في الكامل: أدرك.
وهو الصواب.
والقول الاخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم إن الملائكة كانوا إثنين وانهم تعشوا عنده وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما وقوله (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) [ هود: 78 ] نهي لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير بل الجميع سفهاء.
فجرة أقوياء.
كفرة أغبياء.
وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه من قبل أن يسألوه عنه.
فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد.
مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الامر السديد (لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما تريد) [ هود: 79 ] يقولون عليهم لعائن الله لقد علمت يالوط إنه لا أرب لنا في نسائنا وانك لتعلم مرادنا وغرضنا [ من غير النساء ] (1).
واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم ولم يخافوا سطوة العظيم.
ذي العذاب الاليم.
ولهذا قال عليه السلام (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) [ هود: 80 ] ود أن لو كان له بهم قوة أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.
وقد قال الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا: " نحن أحق بالشك من ابراهيم، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لاجبت الداعي " (2) ورواه أبو الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة * وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد (يعني الله عزوجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه " (3).
وقال تعالى
(وجاء أهل المدينة يستبشرون قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون.
واتقوا الله ولا تخزون.
قالوا أو لم ننهك عن العالمين.
قال هؤلاء بناتي ان كنتم فاعلين) [ الحجر: 67 - 71 ] فأمرهم بقربان نسائهم وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيآتهم هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون بل كلما لهم (4) يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون.
ولم يعلموا ما حم به القدر مما هم إليه صائرون.
وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) [ الحجر: 72 ] وقال تعالى (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر.
ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) [ القمر - 36 - 38 ] ذكر المفسرون وغيرهم أن نبي الله لوطا عليه السلام جعل
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 60 كتاب المناقب باب 11 ح 3372 فتح الباري وروى ابن ماجة نحوه ورواه أحمد في مسنده 2 / 326 - 332 - 350.
(3) انظر الدر المنثور ج 2 / 185.
(4) هكذا في الاصول وفي نسخة من قصص الانبياء لابن كثير: كلما نهاهم.
يمانع قومه الدخول ويدافعهم والباب مغلق وهم يرومون فتحه وولوجه وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب وكل ما لهم في إلحاح وإنحاح فلما ضاق الامر وعسر الحال قال [ ما قال ] (1): لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " لاحللت.
بكم النكال * قالت الملائكة (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) [ هود: 81 ] وذكروا أن جبريل عليه السلام خرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر فرجعوا يتجسسون مع الحيطان.
ويتوعدون رسول الرحمن ويقولون إذا كان الغد كان لنا وله شأن قال الله تعالى (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام آمرين له بأن يسري هو
وأهله من آخر الليل ولا يلتفت منكم أحد يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم * وقوله (إلا امرأتك) على قراءة النصب يحتمل أن يكون مستثنى من قوله فأسر بأهلك كأنه يقول إلا امرأتك فلا تسر بها.
ويحتمل أن يكون من قوله ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك.
أي فانها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم.
ويقوي هذا الاحتمال قراءة الرفع ولكن الاول أظهر في المعنى والله أعلم.
قال السهيلي واسم امرأة لوط والهة واسم امرأة نوح والغة.
وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء والاشباه الذين جعلهم الله سلفا لكل خائن مريب (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) [ هود: 81 ] فلما خرج لوط عليه السلام بأهله وهم ابنتاه ولم يتبعه منهم رجل واحد ويقال إن إمرأته خرجت معه فالله أعلم.
فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد.
ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد * وعند أهل الكتاب أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم فقالوا اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها ثم نحل بهم العذاب فذكروا أنه ذهب إلى قرية صغر التي يقول الناس غورزغر فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب قال الله تعالى (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) [ هود: 82 - 83 ] قالوا اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن وكن سبع مدن (2) بمن فيهن من الامم فقالوا إنهم كانوا أربع مائة نسمة.
قيل أربعة آلاف (3) نسمة وما معهم من الحيوانات وما يتبع تلك المدن من الاراضي والاماكن
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) في الطبري والكامل والمسعودي: خمس قرى، ذكر المسعودي المدائن الخمس وهي: سدوم، عمورا، وادموتا، وصاعورا، وصابورا.
(3) وفي نسخة: أربعة آلاف ألف نسمة.
والمعتملات فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها قال مجاهد فكان أول ما سقط منها شر فاتها (وأمطرة عليهم حجارة من سجيل) [ الحجر: 74 ] والسجيل فارسي معرب وهو الشديد الصلب القوي (منضود) أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء (مسومة) أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه كما قال (مسومة عند ربك للمسرفين) [ الذاريات: 34 ] وكما قال تعالى (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) [ الشعراء: 173 ] وقال تعالى (والمؤتفكة أهوى.
فغشاها ما غشى) [ النجم: 53 - 54 يعني قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها وغشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها * ويقال إن امرأة لوط مكثت مع قومها ويقال إنها خرجت مع زوجها وبنتيها ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة والتفتت إلى قومها وخالفت أمر ربها قديما وحديثا وقالت واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها إذ كانت على دينهم وكانت عينا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان كما قال تعالى (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [ التحريم: 10 ] أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه.
وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة حاشا وكلا ولما.
فإن الله لا يقدر على نبي آن تبغي امرأته كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف ما بغت امرأة نبي قط * ومن قال خلاف هذا فقد اخطأ خطأ كبيرا.
قال الله تعالى في قصة الافك: لما انزل براءة ام المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج رسول اله صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الافك ما قالوا فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر ووعظ وحذر وقال فيما قال (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) [ النور: 15 - 16 ] أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة * وقوله ههنا (وما هي من الظالمين ببعيد) أي وما
هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم.
ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصنا أو لا نص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الائمة واحتجوا أيضا بما رواه الامام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " (1) وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه 2 / 468 والترمذي في سننه 15 / 24 / 1456 وابن ماجة.
وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب: لينه ابن معين، وقال أحمد: ما به بأس.
وقال أبو داود: ليس بالقوي.
وفي تقريب التهذيب: ثقة ربما وهم 2 / 75 / 642.
لقوله تعالى: (وما هي من الظالمين ببعيد).
وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينفع بمائها ولا بما حولها من الاراضي المتاخمة لفنائها لردائتها ودناءتها فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله واتبع هواه وعصى مولاه.
ودليلا على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات.
وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات كما قال تعالى (ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وان ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: * - 9 ] وقال تعالى (فأخذتهم الصيحة مشرقين.
فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل.
إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم.
ان في ذلك لآية للمؤمنين) [ الحجر: 73 - 77 ] أي من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها ؟ وكيف جعلها بعدما كانت آهلة عامرة.
هالكة غامرة ؟ كما روى الترمذي وغيره مرفوعا: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (1) ثم قرأ (إن في ذلك لآيات للمتوسمين).
وقوله (وانها لبسبيل مقيم) [ الحجر: 76 ] أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن كما قال (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) [ الصافات: 137 ] وقال تعالى (ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون) [ العنكبوت: 35 ] وقال تعالى (فأخرجنا من كان
فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم) [ الذاريات: 35 - 37 ] أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة وخشي الرحمن بالغيب وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه وخاف أن يشابه قوم لوط (ومن تشبه بقوم فهو منهم) وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه كما قال بعضهم: فان لم تكونوا قوم لوط بعينهم * فما قوم لوط منكم ببعيد فالعاقل اللبيب الخائف من ربه الفاهم يمتثل ما أمره الله به عزوجل ويقبل ما أرشده إليه رسول الله من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال.
والجواري من السراري ذوات الجمال.
وإياه أن يتبع كل شيطان مريد.
فيحق عليه الوعيد.
ويدخل في قوله تعالى (وما هي من الظالمين ببعيد).
__________
(1) سنن الترمذي 48 / 16 / 3127 عن أبي سعيد الخدري وقال: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم، وقال في المتوسمين.
المتفرسين.
ورواه ابن حجر في لسان الميزان (5 / 1154) والقرطبي في أحكامه (1 / 43) ورواه الاصفهاني في حلية الاولياء 4 / 94 والسيوطي في الدر المنثور 4 / 103 والذهبي في الطب النبوي ص 112.
والطبراني في المعجم الكبير 8 / 121.
قصة مدين قوم شعيب عليه السلام (1) قال الله تعالى في سورة الاعراف بعد قصة قوم لوط (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم فاوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين.
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون.
وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين.
وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة
لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين.
قد أفترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما.
على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون.
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين.
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد ابلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) [ الاعراف: 83 - 95 ].
وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط.
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الارض مفسدين.
بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين.
وما أنا عليكم بحفيظ.
قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
إنك لانت الحليم الرشيد.
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد.
واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود.
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز.
قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورائكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط.
ويا قوم اعملوا على
__________
(1) ذكر شعيب في القرآن في: الاعراف: 85 - 88 - 90 - 92 وفي سورة هود: 84 - 87 - 90 - 95، وفي الشعراء: 177 وفي العنبكوت: 36.
مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب.
ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين.
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) [ هود: 84 - 95 ].
وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضا.
(وإن كان أصحاب الايكة لظالمين فانتقمنا منهم وانهما لبامام مبين) [ الحجر: 78 - 79 ] وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم (كذب أصحاب الايكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول امين.
فاتقو الله وأطيعون.
وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
اوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم.
ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين.
واتقوا الله الذي خلقكم والجبلة الاولين.
قالوا انما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين.
فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين.
قال ربي أعلم بما تعملون.
فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 176 - 191 ].
كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية (1) من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط.
وكانوا بعدهم بمدة قريبة.
ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة (2) وهم من بني مدين بن مديان بن إبرهيم الخليل وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل (3) بن يشجن ذكره ابن اسحاق قال ويقال له بالسريانية بنزون (4) وفي هذا نظر ويقال شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ويقال شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن ابراهيم ويقال شعيب بن ضيفور بن عيفا (5) بن ثابت بن مدين بن ابراهيم وقيل غير ذلك في نسبه.
قال ابن عساكر ويقال جدته ويقال أمه بنت لوط.
وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق وعن وهب ابن منبه أنه قال شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار وهاجرا معه إلى الشام فزوجهما بنتي لوط عليه السلام.
ذكره ابن قتيبة * وفي هذا كله نظر أيضا والله أعلم.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة سلمة بن سعد العنزي [ انه ]: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة فقال: " نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون قوم
__________
(1) وفي نسخة قريبة ; وهو الصواب.
(2) وفي نسخة أخرى: مدينة عرفت بها القبيلة ; وهو الصواب.
(3) في الطبري 1 / 167: ميكائيل.
(4) في الطبري: يثرون.
(5) في الطبري: بن صيفون بن عنقا.
شعيب وأختان (1) موسى ".
فلو صح هذا لدل على أن شعيبا من (2) موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة يقال لهم عنزة لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان فإن هؤلاء بعده بدهر طويل والله أعلم.
وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الانبياء والرسل قال: " أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر " وكان بعض السلف يسمي شعيبا خطيب الانبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الايمان برسالته * وقد روى ابن اسحاق بن بشر، عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا قال: " ذاك خطيب الانبياء " وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ويخيفون المارة ويعبدون الايكة وهي شجرة من الايك حولها غيضة ملتفة بها وكانوا من أسوء الناس معاملة يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيها يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه الافاعيل القبيحة من بخس الناس أشيائهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد وهو الولي الحميد.
كما قال تعالى (وإلى مدين أخاهم شعيبا.
قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم) [ الشعراء: 85 ] أي دلالة وحجة
واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وإنه أرسلني وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلا وان كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالا (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها) [ الاعراف: 85 ] أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم على خلاف ذلك فقال (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط) [ الاعراف: 86 ] أي طريق (توعدون) أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل * قال السدي في تفسيره عن الصحابة (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة * وقال اسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق (يبخسون الناس) يعني يعشرونهم وكانوا أول من سن ذلك (وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا) [ الاعراف: 86 ] فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه كما قال لهم في القصة الاخرى (ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم
__________
(1) أختان موسى: أصهار موسى.
وفي الاستيعاب: وأحبار موسى.
(2) وفي نسخة: صهر موسى.
محيط) [ هود: 84 ] أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق (1) الله بركة ما في أيديكم (2) ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم.
وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة.
فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم وعذابه الاليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف.
ثم قال لهم آمرا بعد ما كان عن ضده زاجرا (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الارض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) [ هود: 86 ] قال
ابن عباس والحسن البصري (بقيت الله خير لكم) أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس * وقال ابن جرير ما فضل لكم من الريح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف.
قال وقد روي هذا عن ابن عباس وهذا الذي قاله وحكاه حسن وهو شبيه بقوله تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو اعجبتك كثرة الخبيث) [ المائدة: 100 ] يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام فإن الحلال مبارك وإن قل والحرام ممحوق وإن كثر كما قال تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) [ البقرة: 276 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل " رواه أحمد (3) أي إلى قلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " * والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي وإن كثر ولهذا قال نبي الله شعيب (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) وقوله (وما أنا عليكم بحفيظ) أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه لا لاراكم أنا وغيري (قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لانت الحليم الرشيد) [ هود: 78 ] يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ونترك ما يعبد أباؤنا الاقدمون وأسلافنا الاولون (5) ؟ أو أن لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها ؟، (انك لانت الحليم الرشيد) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
(قال يا قوم أر أيتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما
__________
(1) يمحق: يمحي.
(2) وفي نسخة: ما بأيديكم.
(3) مسند أحمد ج 1 / 395 و 424.
(4) ورواه الحاكم في المستدرك 2 / 37، 4 / 317، وصححه ووافقه الذهبي، وابن ماجة في سننه رقم 2279.
وأحمد في مسنده ج 2 / 183.
(5) رواه مسلم في 21 / 43 / 47 والبخاري في 34 / 19 - 42 - 43 فتح الباري وأحمد في مسنده 3 / 402 - 403 - 434 ورواه أصحاب السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي.
ورواه مالك في الموطأ.
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) [ هود: 88 ] هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة.
يقول لهم: " أرأيتم " أيها المكذبون (ان كنت على بينة من ربي) أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم (ورزقني منه رزقا حسنا) يعني النبوة والرسالة يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم.
وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء.
وقوله (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي لست آمركم بالامر إلا وأنا أول فاعل له وإذا نهيتكم عن الشئ فأنا أول من يتركه وهذه في الصفة المحمودة العظيمة وضدها هي المردودة الذميمة كما تلبس بها علماء بني اسرائيل في آخر زمانهم وخطباؤهم الجاهلون * قال الله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [ البقرة: 44 ] وذكر عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل فيلقى النار فتندلق أقتاب بطنه - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول: بلى.
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه " * وهذه صفة مخالفي الانبياء من الفجار والاشقياء فأما السادة من النجباء والالباء من العلماء، والذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبي الله شعيب (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت) أي ما أريد في جميع أمري إلا الاصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي (وما توفيقي) أي في جميع أحوالي (إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب) أي عليه أتوكل في سائر الامور واليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب.
ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد)
[ هود: 89 ] أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.
وقوله (وما قوم لوط منكم ببعيد) قيل معناه في الزمان أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم * وقيل معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان.
وقيل في الصفات والافعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات.
والجمع بين هذه الاقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) [ هود: 90 ] أي أقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود فإنه من تاب إليه تاب عليه فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما نقول وإنا لنراك فينا ضعيفا) [ هود: 91 ] روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا كان ضرير
البصر * وقد روي في حديث مرفوع أنه بكى من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره.
وقال يا شعيب أتبكي خوفا من النار أو من شوقك إلى الجنة فقال: بل من محنتك فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي فأوحى الله إليه هنيئا لك يا شعيب لقاني فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي * رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي عن علي بن الحسن بن بندار عن أبي عبد الله محمد بن اسحق التربلي (1)، عن هشام بن عمار، عن إسمعيل بن عباس عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أمين (2)، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وهو غريب جدا، وقد ضعفه الخطيب البغدادي * وقولهم (ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) [ هود: 91 ] وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث قالوا (ما نفقه كثيرا مما تقول) أي ما نفهمه ولا نتعقله لانا لا نحبه ولا نريده وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا
عاملون) [ فصلت: 5 ] وقولهم (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي مضطهدا مهجورا (ولولا رهطك) أي قبيلتك وعشيرتك فينا (لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
(قال يا قوم ارهطي أعز عليكم من الله) [ هود: 92 ] أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم، ولا تخافون جنبة (3) الله ولا تراعوني لاني رسول الله فصار رهطي أعز عليكم من الله (واتخذتموه وراءكم ظهريا) أي جانب الله وراء ظهوركم (إن ربي بما تعملون محيط) [ هود: 92 ] أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه.
(ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا اني معكم رقيب) [ هود: 93 ] وهذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار.
ومن يحل عليه الهلاك والبوار (من يأتيه عذاب يخزيه) أي في هذه الحياة الدنيا (ويحل عليه عذاب مقيم) أي في الاخرى (ومن هو كاذب) أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر (وارتقبوا اني معكم رقيب) وهذا كقوله (وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي ارسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) [ الاعراف: 87 ] (قال الملا (4) الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين.
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها الا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [ الاعراف:
__________
(1) وفي نسخه الرملي.
(2) ابن امين تحريف، وفي نسخة ابن أوس.
(3) وفي نسخة: عذاب الله.
(4) الملا: أشراف القوم وسادتهم وكبراؤهم.
88 - 89 ] طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه
فقال: (أو لو كنا كارهين) أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا وإنما يعودون إليه إن عادوا اضطرارا مكرهين، وذلك لان الايمان إذا خالطته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ولا يرتد أحد عنه ولا محيد لاحد منه.
ولهذا قال (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا) أي فهو كافينا وهو العاصم لنا وإليه ملجاؤنا في جميع أمرنا ثم استفتح على قومه واستنصر ربه عليه في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) أي الحاكمين، فدعا عليهم والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفروه ورسوله خالفوه.
ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون (وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) [ الاعراف: 90 ] قال الله تعالى: (فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين) [ الاعراف: 91 ] ذكر في سورة الاعراف أنهم أخذتهم رجفة أي رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالا شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها وأصبحت جثثهم جاثية لا أرواح فيها ولا حركات بها ولا حواس لها * وقد جمع الله عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات وأشكالا من البليات وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات وصيحة عظيمة أخمدت الاصوات وظلة أرسل عيلهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها في سباق قصة الاعراف ارجفوا نبي الله وأصحابه وتوعدوهم بالاخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم راجعين فقال تعالى (فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين) فقابل الارجاف بالرجفة والاخافة بالخيفة وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق * وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وذلك لانهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص (أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لانت الحليم الرشيد) [ هود: 87 ] فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به هذا
الرسول الكريم الامين الفصيح فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة اسكنتهم.
وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة.
وكان إجابة لما طلبوا.
وتقريبا إلى ما إليه رغبوا.
فإنهم قالوا (إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين.
قال رب أعلم بما تعملون) [ الشعراء: 185 - 188 ] قال الله تعالى (وهو السميع العليم فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) [ الشعراء: 189 ] ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أن أصحاب الايكة أمة أخرى غير أهل مدين فقوله ضعيف.
وإنما عمدتهم شيئان: أحدهما أنه قال: (كذب
أصحاب الايكة المرسلين إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخوهم كما قال: (وإلى مدين أخاهم شعيبا).
والثاني أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة والجواب عن الاول أنه لم يذكر الاخوة بعد قوله: (كذب أصحاب الايكة المرسلين) لانه وصفهم بعبادة الايكة فلا يناسب ذكر الاخوة ههنا ولما نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم * وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة * وأما إحتجاجهم بيوم الظلة فإن كان دليلا بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلا على أنهما أمتان أخريان وهذا لا يقوله أحد يفهم شيأ من هذا الشأن * فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن شفيق بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " إن مدين وأصحاب الايكة أمتان بعث الله اليهما شعيبا النبي عليه السلام ".
فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه * والاشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني اسرائيل والله أعلم * ثم قد ذكر الله عن أهل الايكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب * وذكر في كل موضع ما يناسب من
الخطاب.
وقوله (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) ذكروا أنهم أصابهم حر شديد وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الاسراب فهربوا من محلتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليسظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الارض وجاءتهم صيحة من السماء، فأزهقت الارواح، وخربت الاشباح.
(فاصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) [ الاعراف: 91 - 92 ].
(ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين)، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) [ هود: 94 - 95 ].
وقال تعالى (وقال الملا من قومه لئن إتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون.
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كان لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) [ الاعراف: 90 - 92 ].
وهذا في مقابلة قولهم (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) [ الاعراف: 93 ] ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤنبا ومقرعا فقال تعالى (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) [ الاعراف: 93 ] أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) أي قد أديت ما كان واجبا علي من البلاغ التام والنصح
الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك لان الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم لانكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة.
ولهذا قال فكيف آسى أي أحزن على قوم كافرين أي لا تقبلون الحق ولا ترجعون إليه ولا تلتفون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع ولا محيد لاحد أريد به عنه ولا مناص منه.
وقد ذكر الحافظ بن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أن شعيبا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام.
وعن وهب بن منبه أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم.
باب ذرية ابراهيم قد قدمنا قصته مع قومه وما كان من أمرهم وما آل إليه أمره عليه السلام والتحية والاكرام وذكرنا ما وقع في زمانه من قصة قوم لوط.
وأتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب عليه السلام لانها قرينتها في كتاب الله عزوجل في مواضع متعددة فذكر تعالى بعد قصة قوم لوط قصة مدين وهم أصحاب الايكة على الصحيح كما قدمنا فذكرناها تبعا لها إقتداء بالقرآن العظيم * ثم نشرع الآن في الكلام على تفصيل ذرية ابراهيم عليه السلام لان الله جعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي أرسل بعده فمن ولده.
اسماعيل عليه السلام وقد كان للخليل بنون كما ذكرنا ولكن أشهرهم الاخوان النبيان العظيمان الرسولان أسنهما وأجلهما الذي هو الذبيح على الصحيح إسماعيل بكر ابراهيم الخليل من هاجر القبطية المصرية عليها السلام من العظيم الجليل * ومن قال إن الذبيح هو إسحق فإنما تلقاه من نقلة بني إسرائيل الذين بدلوا وحرفوا وأولوا التوراة والانجيل وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل * فإن إبراهيم أمر بذبح ولده البكر * وفي رواية الوحيد وأياما كان فهو إسماعيل بنص الدليل ففي نص كتابهم إن إسماعيل ولد ولابراهيم من العمر ست وثمانون سنة * وإنما ولد اسحق بعد مضي مائة سنة من عمر الخليل فإسماعيل هو البكر لا محالة وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة * أما في الصورة فلانه كان وحده ولده أزيد من ثلاثة عشر سنة وأما أنه وحيد في المعنى فإنه هو الذي هاجر به أبوه ومعه أمه هاجر وكان صغيرا رضيعا فيما قيل فوضعهما في وهاد جبال فاران وهي الجبال التي حول مكة نعم المقيل وتركهما هنالك ليس معهما من الزاد والماء إلا القليل وذلك ثقة بالله وتوكلا عليه.
فحاطهما الله تعالى بعنايته وكفايته فنعم الحسيب والكافي والوكيل والكفيل فهذا هو الولد
الوحيد في الصورة والمعنى ولكن أين من يتفطن لهذا السر وأين من يحل بهذا المحل والمعنى لا يدركه
ويحيط بعلمه إلا كل نبيه نبيل * وقد أثنى الله تعالى عليه ووصفه بالحلم (1) والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والامر بها لاهله ليقيهم العذاب مع ما كان يدعو إليه من عبادة رب الارباب * قال تعالى (فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى.
قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) [ الصافات: 101 - 102 ] فطاوع أباه على ما إليه دعاه.
ووعده بأن سيصبر فوفى بذلك وصبر على ذلك.
وقال تعالى (واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) [ مريم: 54 - 55 ] وقال تعالى (واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار.
إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار.
واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) [ ص: 45 - 48 ] وقال تعالى (واسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) [ الانبياء: 85 - 86 ] وقال تعالى (إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط) [ النساء: 163 ] الآية.
وقال تعالى (قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط) [ البقرة: 136 ] الآية.
ونظيرتها من السورة الاخرى.
وقال تعالى (أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله) [ البقرة: 140 ] الآية.
فذكر الله عنه كل صفة جميلة وجعله نبيه ورسوله، وبرأه من كل ما نسب إليه الجاهلون، وأمر بأن يؤمن بما أنزل عليه عباده المؤمنون.
وذكر علماء النسب وأيام الناس أنه أول من ركب الخيل، وكانت قبل ذلك وحوشا فأنسها وركبها.
وقد قال سعيد بن يحيى الاموي في مغازيه: حدثنا شيخ من قريش، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتخذوا الخيل واعتبقوها فإنها مراث
أبيكم اسماعيل " وكانت هذه العراب وحشا (2) فدعا لها بدعوته التي كان أعطى فأجابته وإنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة * وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جرهم والعماليق وأهل اليمن من الامم المتقدمين من العرب قبل الخليل.
قال الاموي: حدثني علي بن المغيرة، حدثنا أبو عبيدة، حدثنا مسمع بن مالك، عن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة " فقال له يونس صدقت يا أبا سيار هكذا أبو جرى حدثني.
وقد قدمنا أنه تزوج لما شب من العماليق امرأة وأن أباه أمره بفراقها ففارقها * قال الاموي هي
__________
(1) وفي نسخة: بالعلم.
(2) وفي نسخة: وحوشا.
عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي * ثم نكح غيرها فأمره أن يستمر بها فاستمر بها وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي وقيل هذه ثالثة فولدت له إثني عشر ولدا ذكرا.
وقد سماهم محمد بن اسحق رحمه الله وهم نابت وقيذر (1) وازبل وميشى ومسمع وماش ودوصاوارر ويطور ونبش وطيما وقيذما * وهكذا ذكرهم أهل الكتاب في كتابهم.
وعندهم أنهم الاثنا عشر عظيما المبشر بهم المتقدم ذكرهم.
وكذبوا في تأويلهم ذلك وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى أهل تلك الناحية وما والاها من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن صلوات الله وسلامه عليه * ولما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه اسحق وزوج ابنته نسمة (2) من ابن أخيه العيص بن اسحق فولدت له الروم.
ويقال لهم بنو الاصفر لصفرة كانت في العيص * وولدت له اليونان في أحد الاقوال * ومن ولد العيص الاشبان قيل منهما أيضا * وتوقف ابن جرير رحمه الله.
ودفن اسماعيل نبي الله بالحجر مع أمه هاجر وكان عمره يوم مات مائة وسبعا وثلاثين سنة * وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال شكى اسماعيل عليه السلام إلى ربه عزوجل حر مكة فأوحى الله إليه أني سأفتح لك بابا إلى الجنة إلى الموضع الذي تدفن فيه تجري عليك روحها إلى يوم
القيامة وعرب الحجاز كلهم ينتسبون إلى ولديه نابت وقيذار * وسنتكلم على أحياء العرب وبطونها وعمائرها وقبائلها وعشائرها من لدن اسماعيل عليه السلام إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم * وذلك إذا انتهينا إلى أيامه الشريفة وسيرته المنيفة بعد الفراغ من أخبار أنبياء بني إسرائيل إلى زمان عيسى بن مريم خاتم انبيائهم ومحقق أنبائهم * ثم نذكر ما كان في زمن بني اسرائيل * ثم ما وقع في أيام الجاهلية ثم ينتهي الكلام إلى سيرة نبينا رسول الله إلى العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم من الامم إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم.
اسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم قد قدمنا أنه ولد ولابيه مائة سنة (3) بعد أخيه اسماعيل بأربع عشر سنة.
وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين (4) سنة قال الله تعالى (وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى
__________
(1) قال الطبري: وقد ينطق أسماء أولاد إسماعيل بغير الالفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق فيقول بعضهم في قيدر قيدار وفي ادبيل ادبال وفي ميشا ميشام.
وانظر التعليق حول هذا الموضوع في أخبار العرب ; الجزء الثاني من البداية والنهاية.
(2) في الطبري: بسمة.
(3) في الطبري والكامل: مائة وعشرين سنة.
(4) في الكامل لابن الاثير: سبعون سنة.
اسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) [ الصافات: 112 - 113 ] * وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز * وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن ابراهيم ".
وذكر أهل الكتاب أن إسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه، كان عمره أربعين سنة، وأنها كانت
عاقرا فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم * والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو اسرائيل الذي ينتسب إليه بنو اسرائيل قالوا وكان إسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لانه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لانه الاصغر قالوا فلما كبر إسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاما وأمره أن يذهب فيصطاد له صيدا ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاما كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لان العيص كان أشعر الجسد ويعقوب ليس كذلك فلما جاء به وقربه إليه قال من أنت قال ولدك فضمه إليه وجسه وجعل يقول أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس (1) والثياب فالعيص فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدرا وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده.
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له ما هذا يا بني قال هذا الطعام الذي اشتهيته فقال أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك فقال لا والله وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك فوجد في نفسه عليه وجدا كثيرا وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى وأن يجعل لذريته عليظ الارض وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها لابان الذي بأرض حران وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه عليه وأن يتزوج من بناته.
وقالت لزوجها إسحق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم (2) فأدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجرا فوضعه تحت رأسه ونام فرأى في نومه ذلك معراجا منصوبا من السماء إلى الارض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والرب تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك وأجعل لك هذه الارض ولعقبك من بعدك.
فلما هب من نومه فرح بما رأى ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنين في هذا
الموضع معبد الله عزوجل وأن جميع ما يرزقه من شئ يكون لله عشره ثم عمد إلى ذلك الحجر
__________
(1) في الطبري: المس.
(2) في الطبري: فكان يسري بالليل ويكمن بالنهار ولذلك سمي إسرائيل
فجعل عليه دهنا يتعرفه به وسمي ذلك الموضع بين إيل أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي قالوا فلما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وكانت أحسنهما.
وأجملهما [ فطلب يعقوب الصغرى من خاله ] (1) فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين فلما مضت المدة على خاله لا بان صنع طعاما وجمع الناس عليه وزف إليه ليلا ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر.
فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا فقال لخاله لم غدرت بي وأنت إنما خطبت إليك راحيل فقال إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى فان احببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وازوجكها فعمل سبع سنين وادخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغا في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة * وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لان فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته لانه معصوم * ووهب لابان لكل واحدة من إبنتيه جارية فوهب لليا جارية إسمها زلفى ووهب لراحيل جارية اسمها بلهى * وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولادا فكان أول من ولدت ليعقوب روبيل ثم شمعون ثم لاوى ثم يهوذا فغارت عند ذلك راحيل وكانت لا تحبل فوهبت ليعقوب جاريتها بلهى فوطئها فحملت وولدت له غلاما سمته دان وحملت وولدت غلاما آخر سمته نيفتالي فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفى من يعقوب عليه السلام فولدت له جاد (2) وأشير غلامين ذكرين ثم حملت أيضا فولدت غلاما خامسا منها وسمته ايساخر (3) * ثم حملت وولدت غلاما سادسا سمته زابلون ثم حملت وولدت بنتا سمتها دينا فصار لها سبعة من يعقوب * ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاما من يعقوب فسمع الله ندائها وأجاب دعائها فحملت من نبي الله يعقوب فولدت له غلاما (4) عظيما شريفا حسنا جميلا سمته يوسف كل هذا وهم مقيمون بأرض
حران (5) وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى فصار مدة مقامه عشرين سنة فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرحه ليمر إلى أهله فقال له خاله اني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت فقال تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع (6) وكل حمل ملمع أبيض بسواد وكل أملح (7) ببياض وكل أجلح (8) أبيض من المعز فقال نعم فعمد بنوه فابرزوا
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة واستدركت من الطبري وقصص الانبياء لابن كثير.
(2) كذا في الاصل وفي رواية للطبري ; وفي رواية أخرى عنده سماه: حادر.
(3) في الطبري: يسحر.
(4) في الطبري: ولدت راحيل ليعقوب بعد اليأس يوسف وأخاه بنيامين، وفي رواية أخرى عنده ماتت راحيل في نفاسها ببنيامين.
(5) في الطبري: بأرض بابل.
(6) أبقع: ما فيه بقع بيض وسود.
(7) الاملح: ما يخالط بياضه سواد.
(8) اجلح: ما لا قرن له.
من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شئ من الحملان على هذه الصفات وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم قالوا فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز وولب فكان يقشرها بلقا وينصبها في مساقي الغنم من المياه لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك وهذا يكون من باب خوارق العادات وينتظم في سلك المعجزات فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد وتغير له وجه خاله وبنيه وكأنهم انحصروا منه.
وأوحى الله تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ووعده بأن يكون معه فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته فتحمل بأهله وماله وسرقت راحيل (1) أصنام أبيها فلما جاوزوا
وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان وقومه فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه وهلا أعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول وحتى يودع بناته وأولادهن ولم أخذوا أصنامه معهم ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه فأنكر أن يكون أخذوا له أصناما فدخل بيوت بناته وامائهن يفتش فلم يجد شيئا وكانت راحيل قد جعلتهن في بردعة الحمل وهي تحتها فلم تقم وأعتذرت بأنها طامث فلم يقدر عليهن فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها جلعاد على أنه لا يهبن بناته ولا يتزوج عليهن ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخر لا لابان ولا يعقوب وعملا طعاما وأكل القوم معهم وتودع كل منهما من الآخر وتفارقوا راجعين إلى بلادهم فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم وبعث يعقوب البرد إلى أخيه العيصو يترفق له ويتواضع له فرجعت البرد وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليك في أربعمائة راجل فخشي يعقوب من ذلك ودعا الله عزوجل وصلى الله وتضرع إليه وتمسكن لديه وناشده عهده ووعده الذي وعده به وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص وأعد لاخيه هدية عظيمة وهي مائتا شاة وعشرون تيسا ومائتا نعجة وعشرون كبشا وثلاثون لقحة وأربعون بقرة وعشرة من الثيران وعشرون أتانا وعشرة من الحمر وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الاصناف وحده وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة فإذا لقيهم العيص فقال للاول لمن أنت ولمن هذه معك فليقل لعبدك يعقوب أهداها لسيدي العيص وليقل الذي بعده كذلك وكذا الذي بعده ويقول كل منهم وهو جائي بعدنا وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الاحد عشر بعد الكل بليلتين وجعل يسير فيهما ليلا ويكمن نهارا فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدا له ملك من الملائكة في صورة رجل فظنه يعقوب رجلا من الناس فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب فلما أضاء الفجر قال له الملك ما اسمك قال يعقوب قال لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا اسرائيل فقال له يعقوب ومن أنت وما أسمك فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله فلذلك لا يأكل
__________
(1) في الطبري: فقالت امرأة يعقوب، ولم يذكر اسمها، وعلى الارجح فيما رواه الطبري انها ليا ; لانه اعتبر في نفس الرواية ان راحيل قد ماتت.
1 / 165.
بنو اسرائيل عرق النساء ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة رجل فتقدم أمام أهله فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان وكان مشروعا لهم كما سجدت الملائكة لآدم تحية له وكما سجد أخوه يوسف وأبواه له كما سيأتي فلما رآه العيص تقدم إليه وأحتضنه وقبله وبكى ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان فقال من أين لك هؤلاء فقال هؤلاء الذين وهب الله لعبدك فدنت الامتان وبنوهما فسجدوا له ودنت ليا وبنوها فسجدوا له ودنت راحيل وابنها يوسف فخرا سجدا له وعرض عليه أن يقبل هديته وألح عليه فقبلها ورجع العيص فتقدم أمامه ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الانعام والمواشي والعبيد قاصدين جبال ساعير فلما مر بساحور ابتنى له بيتا ولدوا به ظلالا ثم مر على أورشليم قرية شخيم فنزل قبل القرية واشترى مزرعة شخيم بن جمور بمائة نعجة فضرب هنالك فسطاطه وابتنى ثم مذبحا فسماه إيل إله اسرائيل وأمر الله ببنائه ليستعلن له فيه * وهو بيت المقدس اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام وهو مكان الصخرة التي أعلمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك كما ذكرنا أولا.
وذكر أهل الكتاب هنا قصة دينا بنت يعقوب بنت ليا وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله ثم خطبها عن أبيها وأخوتها فقال إخوتها إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا فإنا لا نصاهر قوما غلفا فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم مضافا إلى كفرهم وما كانوا يعبدونه من أصنامهم فلهذ قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة.
ثم حملت راحيل (1) فولدت غلاما وهو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهدا شديدا وماتت عقيبه فدفنها يعقوب في أفراث وهي بيت لحم وصنع يعقوب على قبرها حجرا وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم * وكان أولاد يعقوب الذكور اثنى عشر رجلا فمن ليا روبيل وشمعون
ولاوى ويهوذا وايساخر وزايلون ومن راحيل يوسف وبنيامين (2) ومن أمة راحيل دان ونفتالي ومن أمة ليا حاد واشير عليهم السلام وجاء يعقوب إلى أبيه إسحاق فأقام عنده بقرية حبرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن ابراهيم ثم مرض اسحاق ومات عن مائة وثمانين سنة ودفنه ابناه العيص ويعقوب مع أبيه ابراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمنا.
__________
(1) في رواية الطبري ان راحيل قد ولدت بنيامين وهم في ديار أبيها قبل خروجهم إلى أرض فلسطين.
راجع التعليق قبل قليل.
(2) زاد ابن قتيبة في المعارف: وأخوات لهما، ولم يذكر اسماءهن.
ما وقع من الامور العجيبة في حياة اسرائيل فمن ذلك قصة يوسف (1) بن راحيل وقد أنزل الله عزوجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والامر الحكيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) [ يوسف: 1 - 3 ] قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم * وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير ونحن نذكر ههنا نبذا مما هناك على وجه الايجاز والنجاز.
وجملة القول في هذا المقام أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي انزله على عبده ورسوله الكريم بلسان عربي فصيح بين واضح جلي يفهمه كل عاقل ذكي زكي فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان.
بأفصح لغة وأظهر بيان.
فإن كان السياق في الاخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ودمغ الباطل وزيفه ورده.
وإن كان في الاوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج وأبين
حكما (2) وأعدل حكما.
فهو كما قال تعالى (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا) [ الانعام: 115 ].
يعني صدقا في الاخبار، عدلا في الاوامر والنواهي ولهذا قال تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) [ يوسف: 3 ] أي بالنسبة إلى ما أوحى اليك فيه كما قال تعالى (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور) [ الشورى: 52 - 53 ].
وقال تعالى (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق.
وقد آتيناك من لدنا ذكرا.
من أعرض عنه فانه يحمل يوم القيامة وزرا.
خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا) [ طه: 99 - 101 ] يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد كما قال في الحديث المروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين علي مرفوعا وموقوفا
__________
(1) ذكر اسم يوسف في 26 آية من الكتاب الكريم: 24 آية في سورة يوسف وآية في الانعام (84) وآية في غافر (34) وقد ذكرت قصته مطولة في سورة يوسف.
وقال النسفي في سبب نزول هذه السورة: ان كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم اليهود: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن قصة يوسف.
فنزلت.
(2) وفي نسخة: حكمة.
" من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ".
وقال الامام أحمد حدثنا سريج بن النعمان حدثنا هشام أنبأنا خالد (1) عن الشعبي عن جابر: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال فغضب وقال: " أتتهوكون (2) فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شئ فيخبرونكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (3) إسناد صحيح.
ورواه أحمد من وجه آخر عن عمرو فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم
موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الامم وأنا حظكم من النبيين " (4) وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف.
وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: " أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون.
ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا (إذ قال يوسف لابيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين.
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحق ان ربك عليم حكيم) [ يوسف: 4 - 6 ] قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره وباقي إخوته لم يوح إليهم.
وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول * ومن استدل على نبوتهم بقوله (قالوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى إبراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط) [ البقرة: 136 ] وزعم أن هؤلاء هم الاسباط فليس استدلاله بقوي (5) لان المراد بالاسباط شعوب بني اسرائيل وما كان يوجد فيهم من الانبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم.
ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه نص على واحد من إخوته سواه فدل على ما ذكرناه ويستأنس لهذا بما قال الامام أحمد: حدثنا: عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الكريم بن الكريم ابن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن
__________
(1) في المسند: عن هشيم عن مجالد.
(2) في المسند: أمتهوكون ; والتهوك: التحير.
(3) مسند أحمد: ج 3 / 388.
(4) مسند أحمد: ج 3 / 471.
(5) وفي نسخة: بالقوي.
ابراهيم " (1) " انفرد به البخاري ; فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة بن عبد الصمد بن عبد الوارث به * وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنه * قال المفسرون وغيرهم رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن (أحد عشر كوكبا) وهم اشارة إلى بقية اخوته (والشمس والقمر) وهما عبارة عن أبويه قد سجدوا له فهاله ذلك فلما استيقظ قصها على أبيه فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر وهذا يدل على ما ذكرناه * ولهذا جاء في بعض الآثار: " استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود "، وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معا وهو غلط منهم (وكذلك يجتبيك ربك) أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها (يجتبيك ربك) أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة (ويعلمك من تأويل الاحاديث) أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك (ويتم نعمته عليك) أي بالوحي إليك (وعلى آل يعقوب) آي بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة (كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم وإسحق) أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب وجدك إسحق ووالد جدك إبراهيم الخليل (إن ربك عليم حكيم) كما قال تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم قال: " يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " (2) وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وأبو يعلى والبزار في مسنديهما من حديث الحكم بن ظهير (3) وقد ضعفه الائمة - عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له بستانة اليهودي فقال: يا محمد أخبرني عن
الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها.
قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشئ ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها قال فبعث إليه رسول الله فقال: " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها قال نعم فقال هي جريان والطارق.
والديال وذو الكتفان.
وقابس.
ووثاب.
وعمردان (4) والفيلق.
والمصبح.
والضروح.
وذو الفرع.
والضياء.
والنور " فقال اليهودي أي والله إنها لاسماؤها.
وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه.
(لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين.
إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا
__________
(1) تقدم التعليق فليراجع.
(2) تقدم تخريجه فليراجع.
(3) الحكم بن ظهير الفزاري، أبو محمد وكنية أبيه أبو ليلى ; متروك.
اتهمه ابن معين تقريب التهذيب 1 / 485 / 191.
(4) في نسخة: عمودان.
منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين.
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين.
قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) [ يوسف: - 10 ].
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم والدلالات والمواعظ والبينات.
ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولاخيه يعنون شقيقه لامه بنيامين أكثر منهم وهم عصبة أي جماعة يقولون فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين (إن أبانا لفي ضلال مبين) أي بتقديمه حبهما علينا * ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض (1) محبته لهم وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك.
فلما تمالؤا على ذلك وتوافقوا عليه (قال قائل منهم) قال مجاهد هو شمعون * وقال السدي هو يهودا * وقال قتادة ومحمد بن اسحق هو أكبرهم روبيل (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة) أي
المارة من المسافرين (ان كنتم فاعلين) ما تقولون لا محالة فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون.
قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون.
قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) [ يوسف: 11 - 14 ] طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط وقد أضمروا له ما الله به عليم فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه فيأتي الذئب فيأكله ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.
(قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة إنا إذا لخاسرون أي عاجزون هالكون.
وعند أهل الكتاب أنه أرسله وراءهم يتبعهم فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم.
وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده (فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت (2) الجب وأوحينا إليه لننبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاؤا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين.
وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل.
والله المستعان على ما تصفون) [ يوسف: 15 - 18 ] لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم فما كان إلا أن غابوا عن عينيه فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال
__________
(1) تتمحض المحبة: تكون خالصة لهم.
(2) غيابة الجب: غوره.
واجمعوا على إلقائه في غيابت الجب أي في قعره على راعوفته وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح وهو الذي ينزل ليملي الدلاء إذا قل الماء والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح فلما ألقوه
فيه أوحى الله إليه أنه لابد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك خائفون منك (وهم لا يشعرون).
قال مجاهد وقتادة وهم لا يشعرون بايحاء الله إليه ذلك * وعن ابن عباس وهم لا يشعرون أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها * رواه ابن جرير عنه * فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشئ من دم ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم.
ولهذا قال بعض السلف لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا) أي ثيابنا (فأكله الذئب) أي في غيبتنا عنه في استباقنا وقولهم (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ولو كنا غير متهمين عندك فكيف وأنت تتهمنا في هذا فإنك خشيت أن يأكله الذئب وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.
(وجاؤا على قميصه بدم كذب) أي مكذوب مفتعل لانهم عمدوا إلى سخلة (1) ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموا أنه أكله الذئب قالوا ونسوا أن يخرقوه وآفة الكذب النسيان * ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم فإنه كان يفهم عداوتهم له وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته * ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه وأعدموه وغيبوه عن عينيه جاؤا وهم يتباكون وعلى ما تمالؤا عليه يتواطؤن ولهذا (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).
وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة.
فلما جاء روبيل من آخر النار ليخرج يوسف لم يجده، فصاح وشق ثيابه، وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه، ولطخوا من دمه جبة يوسف.
فلما علم يعقوب شق ثيابه، ولبس مئزرا أسود وحزن على إبنه أياما كثيرة.
وهذه الركاكة جاءت من خطئهم
في التعبير والتصوير [ وقال تعالى ]: (وجاءت سيارة فارسلوا واردهم فادلى دلوه.
قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون.
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ونتخذه ولدا.
وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث.
والله غالب على أمره ولكن أكثر
__________
(1) سخلة: ولد الشاة.
الناس لا يعلمون.
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) [ يوسف: 19 - 22 ] يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب: أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به، فجاءت سيارة أي مسافرون.
قال أهل الكتاب: كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم قاصدين ديار مصر من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه (1) يوسف فلما رآه ذلك الرجل (قال يا بشرى) أي يا بشارتي (هذا غلام وأسروه بضاعة) أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم (والله عليم بما يعملون) أي هو عالم بما تمالا عليه أخوته وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم ومع هذا لا يغيره تعالى لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأهل مصر مما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق ثم بعد هذا يملكه ازمة الامور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف.
ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا هذا غلامنا أبق منا، فاشتروه منهم * بثمن بخس أي قليل نزر وقيل هو الزيف (دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين).
قال ابن مسعود وابن عباس ونوف اليكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي باعوه بعشرين درهما اقتسموها درهمين درهمين.
وقال مجاهد اثنان وعشرون درهما.
وقال عكرمة ومحمد بن اسحق أربعون درهما فالله أعلم (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته اكرمي مثواه) أي أحسني إليه (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) وهذا من لطف
الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.
قالوا وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها وهو الوزير بها الذي [ تكون ] الخزائن مسلمة إليه * قال ابن اسحق وإسمه اطفير (2) بن روجيب قال وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق قال واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل.
وقال غيره كان اسمها زليخا والظاهر أنه لقبها.
وقيل فكا بنت ينوس رواه الثعلبي عن أبي هشام (3) الرفاعي.
وقال محمد بن اسحق عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كان اسم الذي باعه بمصر يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا (4) بن مديان بن ابراهيم فالله أعلم.
وقال ابن اسحق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر حين قال لامرأته اكرمي مثواه والمرأة التي قالت لابيها عن موسى (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت
__________
(1) في نسخة: تعلق به.
(2) في رواية للطبري عن ابن عباس اسمه قطفير ; وفي رواية أخرى قطين وكان عمره يوم اشتروه سبع عشرة سنة.
(3) في نسخة: ابن هشام.
(4) في الطبري: مالك بن دعر بن بويب بن عفقان.
القوي الامين) [ القصص: 26 ] وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ثم قيل اشتراه العزيز بعشرين دينارا.
وقيل بوزنه مسكا ووزنه حريرا ووزنه ورقا.
فالله أعلم وقوله (وكذلك مكنا ليوسف في الارض) أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر (ولنعلمه من تأويل الاحاديث) أي فهمها.
وتعبير الرؤيا من ذلك (والله غالب على أمره) أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا وامورا لا يهتدي إليها العباد ولهذا قال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين).
فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الاشد.
وهو حد الاربعين الذي يوحي الله
فيه إلى عبادة النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.
وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الاشد: فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبي: هو الحلم.
وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة.
وقال الضحاك: عشرون سنة.
وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة.
وقال السدي: ثلاثون سنة، وقال ابن عباس ومجاهد: وقتادة ثلاث وثلاثون سنة.
وقال الحسن: أربعون سنة، ويشهد له قوله تعالى (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) [ الاحقاف: 15 ].
(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب.
وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم.
قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين.
وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين.
فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) [ يوسف: 23 - 29 ].
يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلقت الابواب عليها وعليه وتهيأت له، وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها، وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير * قال ابن اسحق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.
وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبي من سلالة الانبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء.
وحماه عن مكر النساء.
فهو سيد السادة النجباء السبعة الاتقياء.
المذكورين في الصحيحين عن خاتم الانبياء.
في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الارض والسماء: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل.
ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه.
ورجلان تحابا في الله إجتمعا عليه وتفرقا عليه.
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة الله.
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله " (1).
والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص فقال (معاذ الله إنه ربي) يعني زوجها صاحب المنزل سيدي (أحسن مثواي) أي أحسن إلي وأكرم مقامي عنده (إنه لا يفلح الظالمون) وقد تكلمنا على قوله (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) بما فيه كفاية ومقنع في التفسير (2).
وأكثر أقوال المفسرين ههنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالاعراض عنه أولى بنا * والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرأه ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها * ولهذا قال تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين.
واستبقا الباب) أي هرب منها طالبا إلى الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره (والفيا) أي وجدا (سيدها) أي زوجها لدى الباب فبدرته بالكلام وحرضته عليه (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب اليم).
اتهمته وهي المتهمة وبرأت عرضها ونزهت ساحتها فلهذا قال يوسف عليه السلام (هي راودتني عن نفسي) إحتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة (وشهد شاهد من أهلها) قيل كان صغيرا في المهد قاله ابن عباس * وروي عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك واختاره ابن جرير.
وروي فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس ووقفه غيره عنه * وقيل كان رجلا قريبا إلى أطفير بعلها.
وقيل قريبا إليها * وممن قال إنه كان رجلا ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن اسحاق وزيد بن أسلم فقال (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) أي لانه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه (وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) أي لانه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك وكذلك كان.
ولهذا قال تعالى (فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) أي هذا الذي جرى من
مكركن أنت (3) راودته عن نفسه * ثم اتهمته بالباطل ثم ضرب بعلها عن هذا صفحا فقال (يوسف أعرض عن هذا) أي لا تذكره لاحد لان كتمان مثل هذه الامور هو الاليق والاحسن وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها والتوبة إلى ربها فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: فتح الباري 10 / 36 / 660 و 24 / 26 و 81 / 24 وأخرجه مسلم في صحيحه 12 / 30 / 91 والترمذي في سننه 37 / 53 / 2391 والنسائي ومالك في الموطأ 51 / 5 / 14 وأحمد في مسنده 2 / 439.
(2) يراجع تفسير ابن كثير ; تفسير سورة يوسف.
(3) في نسخة: أنت الذي راودتيه عن نفسه.
ثم اتهمتيه بالباطل.
وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الاصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك * ولهذا قال لها بعلها وعذرها من بعض الوجوه لانها رأت ما لا صبر لها على مثله إلا أنه عفيف نزيه برئ العرض سليم الناحية فقال (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) (1).
(وقال (2) نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين.
فلما سمعت بمكرهن أرسلت اليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن.
فلما رأينه أكبرنه وقطعن إيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم.
قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين.
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين.
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) [ يوسف: 30 - 34 ] * يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الامراء وبنات الكبراء (3) في الطعن على إمرأة العزيز وعيبها، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا لانه مولى من الموالي وليس مثله أهلا لهذا ولهذا قلن (إنا لنراها في ضلال مبين) أي في وضعها الشئ في غير محله (فلما سمعت بمكرهن) أي بتشنيعهن
عليها والتنقص لها والاشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها فأظهرن ذما وهي معذورة في نفس الامر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها.
واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين، كالاترج ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكينا، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه (4) الحالة.
فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة.
(فلما رأينه أكبرنه) أي اعظمنه وأجللنه وهبنه (5) وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم وبهرهن حسنه
__________
(1) سورة يوسف الآية 29 وفيها: (واستغفري..) رجح الرازي أن يكون القائل هو الشاهد ; ويحتمل أن يكون المراد طلب المغفرة من الزوج أي طلب العفو والصفح، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله.
لان أولئك الاقوام كانوا يثبتون الصانع ; إلا انهم كانوا يعبدون الاوثان.
(2) قوله (وقال نسوة) قال الرازي في تفسيره: لم يقل: وقالت نسوة لوجهين: - إن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنبته غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث.
الثاني - قال الواحدي تقدم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.
(3) قال في تفسير الرازي: قال الكلبي هن أربع: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب سجنه - وامرأة صاحب دوابه.
وزاد مقاتل: وامرأة الحاجب.
(4) في نسخة: في هذه.
(5) في قول للرازي: أكبرن بمعنى حضن، قال الازهري يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت ; وهو أن المرأة إذا خافت = وفزعت فربما اسقطت ولدها ; وربما حاضت.
حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في إيديهن بتلك الساكين ولا يشعرن بالجراح (وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم).
وقد جاء في حديث الاسراء: " فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ".
قال السهيلي وغيره من الائمة: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، لان الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه فكان في غاية نهايات الحسن البشرى، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم.
ولم يكن بينهما أحسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة إمرأة الخليل عليه السلام.
قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه * وقال غيره: كان في الغالب مبرقعا لئلا يراه الناس.
ولهذا لما قام عذر (1) امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) ثم مدحته بالعصمة (2) التامة فقالت (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) أي امتنع (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين) وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته، فأبى أشد الاباء.
ونأى لانه من سلالة الانبياء ودعا فقال في دعائه لرب العالمين (رب السجن أحب الي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين) يعني إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وحطني بحولك وقوتك.
ولهذا قال تعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين.
ودخل معه السجن فتيان.
قال احدهما إني أراني أعصر خمرا.
وقال الآخر إني أراني احمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين.
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون.
واتبعت ملة آبائي إبراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار.
ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا
__________
= وقال: وعندي يحتمل انهن إنما أكبرنه لانهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام.
وحمل الآية على هذا الوجه أولى.
18 / 127 - 128.
(1) في نسخة عذرن ; وهو مناسب أكثر.
(2) في نسخة بالعفة.
وفي نسخة أخرى: بالعصمة والعفة.
إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذي فيه تستفتيان) [ يوسف: 34 - 41 ].
يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم أي ظهر لهم من الرأي بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية وأخمد لامرها وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها فسجنوه ظلما وعدوانا.
وكان هذا مما قدر الله له * ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم.
ومخالطتهم * ومن ههنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي أن من العصمة أن لا تجد.
قال الله (ودخل معه السجن فتيان) قيل كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل " بنو " (1).
والآخر خبازه يعني الذي يلي طعامه وهو الذي يقول له الترك " الجاشنكير " واسمه فيما قيل " مجلث " (2) كان الملك قد اتهمهما في بعض الامور فسجنهما * فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه ودله وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته ربه وإحسانه إلى خلقه فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه * قال أهل التفسير رأيا في ليلة واحدة * أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه، ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز وضواري الطيور تأكل من السل الاعلى فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرهما لهما وقالا (إنا نراك من المحسنين) فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها و (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) * قيل معناه مهما رأيتما من حلم فأني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول * وقيل معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا أو حامضا كما قال عيسى (وانبئكم بما تأكلون وما
تدخرون في بيوتكم) [ آل عمران: 49 ] وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لاني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب (ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا) أي بأن هدانا لهذا (وعلى الناس) أي بأن امرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز وفي جبلتهم مغروز (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * ثم دعاهم إلى التوحيد وذم عبادة ما سوى الله عزوجل وصغر أمر الاوثان وحقرها وضعف أمرها.
فقال (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله) [ يوسف: 39 - 40 ] أي هو المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء (أمر أن لا تعبدوا إلا أياه) أي وحده لا شريك له و (ذلك الدين القيم) أي المستقيم والصراط القويم (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال لان نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقي ما يقول
__________
(1) في نسخة نبوا وفي الطبري نبو.
(2) في الطبري: محلب.
بالقبول فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الانفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه * ثم لما قام بما وجب عليه وارشد إلى ما أرشد إليه قال (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) قالوا وهو الساقي (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه) قالوا وهو الخباز (قضي الامر الذي فيه تستفتيان) أي وقع هذا لا محالة ووجب كونه على حالة ولهذا جاء في الحديث: " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ".
وقد روي عن بن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (أنهما قالا لم نر شيئا) فقال لهما (قضي الامر الذي فيه تستفتيان.
وقال للذي ظن أنه ناج منها اذكرني عند ربك فانساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) [ يوسف: 42 ] يخبر تعالى أن يوسف عليه
السلام قال للذي ظنه ناجيا منها وهو الساقي (أذكرني عند ربك) يعني اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك * وفي هذا دليل على جواز السعي في الاسباب * ولا ينافي ذلك التوكل على رب الارباب.
وقوله (فأنساه الشيطان ذكر ربه) أي فانسى الناجي منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام * قاله مجاهد ومحمد بن اسحق وغير واحد وهو الصواب وهو منصوص أهل الكتاب (فلبث يوسف في السجن بضع سنين) والبضع ما بين الثلاث إلى التسع * وقيل إلى السبع * وقيل إلى الخمس * وقيل ما دون العشرة.
حكاها الثعلبي * ويقال بضع نسوة وبضعة رجال * ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر قال وإنما يقال نيف.
وقال الله تعالى (فلبث في السجن بضع سنين) وقال تعالى (في بضع سنين) [ الروم: 2 ] وهذا رد لقوله * قال الفراء: ويقال بضعة عشر وبضعة وعشرون إلى التسعين ولا يقال بضع ومائة وبضع وألف وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر فمنع أن يقال بضعة وعشرون إلى تسعين * وفي الصحيح: " الايمان بضع وستون " وفي رواية وسبعون شعبة، أعلاها (1) قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الاذى عن الطريق " (2).
ومن قال إن الضمير في قوله (فأنساه الشيطان ذكر ربه) عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله وإن كان قد روي عن ابن عباس وعكرمة والحديث الذي رواه ابن جرير (3) في هذا الموضع ضعيف من كل وجه * تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي (4) المكي وهو
__________
(1) في نسخة وأعلاها وفي نسخة أخرى وأرفعها.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: فتح الباري 2 / 3 ورواه مسلم في 1 / 57 / 58 وأبو داود والنسائي في سننيهما وابن ماجة في المقدمة وأحمد في مسنده 2 / 144 - 379 - 445.
(3) تاريخ الطبري ج 1 / 177 وفي إسناده: عن وكيع عن عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار..(4) في نسخة خوذي وفي نسخة الخوري والصواب الخوزي.
نسبة إلى خوز وهو هنا شعب مكة يسمى شعب الخوز وليس منسوبا إلى خوزستان.
وهو أبو إسماعيل المكي، مولى بني أمية - متروك تقريب التهذيب 1 / 46.
متروك.
ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل ولا ههنا بطريق الاولى والاخرى والله أعلم.
فأما قول ابن حبان في صحيحه، [ عند ] ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث، أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا مسدد بن مسرهد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث ورحم الله لوطا أن كان ليأوي إلى ركن شديد إذ قال لقومه لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قال: فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه ".
فإنه حديث منكر من هذا الوجه ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها.
والذي في الصحيحين يشهد بغلطها والله أعلم.
(وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.
يا أيها الملا أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين.
وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.
يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون.
ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون.
ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) [ يوسف: 43 - 49 ] هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والاكرام، وذلك أن ملك مصر، وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى هذه الرؤيا.
قال أهل الكتاب رأى كأنه على حافة نهر وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان فجعلن يرتعن في روضة هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن، ثم ملن عليهن، فأكلنهن فاستيقظ مذعورا.
ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع
أخر دقاق يابسات فأكلنهن، فاستيقظ مذعورا.
فلما قصها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل (قالوا أضغاث أحلام) أي أخلاط أحلام من الليل لعلها لا تعبير لها، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك، ولهذا قالوا (وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين) فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا.
وذلك عن تقدير الله عزوجل وله الحكمة في ذلك فلما سمع رؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبيرها تذكر أمر يوسف وما كان أوصاه به من التذكار.
ولهذا قال تعالى (وقال الذي نجا منهما وأدكر) أي تذكر (بعد أمة) أي بعد مدة من الزمان وهو بضع سنين وقرأ بعضهم كما حكي عن ابن عباس وعكرمة والضحاك (وأدكر بعد أمة) أي بعد نسيان وقرأها مجاهد (بعد أمة) باسكان الميم وهو النسيان أيضا يقال أمه الرجل يأمه أمها وأمها إذا نسي قال الشاعر.
امهت وكنت لا أنسى حديثا * كذاك الدهر يزري بالعقول.
فقال لقومه وللملك (أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) أي فأرسلوني إلى يوسف فجاءه فقال (يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي إستدعاه إلى حضرته وقص عليه ما رآه ففسره له وهذا غلط والصواب ما قصه الله في كتابه القرآن لا ما عرفه هؤلاء الجهلة الثيران، من قراى وربان (1).
فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعا بل أجابهم إلى ما سألوا وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب (2) * (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية (وفيه يعصرون) يعني ما كانوا يعصرونه من الاقصاب والاعناب والزيتون والسمسم وغيرها فعبر لهم.
وعلى الخير دلهم وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم وما يفعلونه من ادخار حبوب سني الخصب في السبع الاول في سنبله إلا ما يرصد بسبب الاكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية إذ الغالب على
الظن أنه لا يرد البذر من الحقل * وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.
(وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربي بكيدهن عليم.
قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين.
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي أن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي ان ربي غفور رحيم) [ يوسف: 50 - 53 ].
لما أحاط الملك علما بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه أمر بإحضاره إلى حضرته ليكون من جملة خاصته فلما جاءه الرسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلما وعدوانا وأنه برئ الساحة مما نسبوه إليه بهتانا (قال ارجع إلى ربك) يعني الملك (فأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ان ربي بكيدهن عليم) قيل معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي أي فمر الملك فليسألهن كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي وحثهن لي على الامر الذي ليس برشيد ولا سديد.
فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الامر وما كان منه من الامر الحميد (وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) فعند ذلك (قالت امرأة العزيز) وهي زليخا (الآن حصحص الحق) أي ظهر وتبين ووضح والحق أحق أن يتبع (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) أي فيما يقوله من أنه برئ وانه لم يراودني وأنه حبس ظلما
__________
(1) في نسخة: من فرى وهذيان وفي أخرى: من افتراء وهذيان ; وما في النسخ المطبوعة تحريف.
(2) فالسمان المخاصيب والعجاف هن السنون المحول الجدوب.
وعدوانا وزورا وبهتانا.
وقوله (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) قيل إنه من كلام يوسف أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب.
وقيل إنه من تمام كلام زليخا أي إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الامر وإنما كان مراده لم يقع معها فعل فاحشة وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم ولم يحك
ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الاول.
(وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) قيل إنه من كلام يوسف وقيل من كلام زليخا وهو مفرع على القولين الاولين.
وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى والله أعلم (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين.
قال اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم.
وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين.
ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) [ يوسف: 54 - 57 ].
لما ظهر للملك براءة عرضه ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه (قال ائتوني به استخلصه لنفسي) أي اجعله من خاصتي ومن أكابر دولتي ومن أعيان حاشيتي فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) أي ذو مكانة وأمانة (قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم) طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالاهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما (1) بعد مضي سبع سني الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم وأخبر الملك إنه حفيظ أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه عليم بضبط الاشياء ومصالح الاهراء وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الامانة والكفاءة * وعند أهل الكتاب أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جدا وسلطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه وألبسه الحرير وطوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني ونودي بين يديه أنت رب ومسلط وقال له لست أعظم منك إلا بالكرسي.
قالوا وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة وزوجه إمرأة عظيمة الشأن.
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف.
وقيل (2) إنه لما مات زوجه إمرأته زليخا فوجدها عذراء لان زوجها كان لا يأتي النساء فولدت ليوسف عليه السلام رجلين وهما أفرايم ومنشا قال واستوثق ليوسف ملك مصر وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء.
وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة وأن الملك خاطبه بسبعين لغة وكل (3) ذلك يجاويه بكل لغة منها فأعجبه ذلك مع حداثة سنه فالله أعلم * قال الله تعالى (وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء) أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق
__________
(1) في نسخة: فيها بعد.
(2) في الطبري: أن أطفير (قطفير) مات في تلك الليالي أي بعد عزله مباشرة عن عمله.
(3) في نسخة: وفي كل.
الركاب بديار مصر (يتبوأ منها حيث يشاء) أي أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما (نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.
وهذا قال (ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) ويقال إن أطفير زوج زليخا كان قد مات فولاه الملك مكانه وزوجه إمرأته زليخا فكان وزير صدق.
وذكر محمد بن اسحق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدي يوسف عليه السلام فالله أعلم.
وقد قال بعضهم.
وراء مضيق الخوف متسع الامن * وأول مفروح به غاية الحزن فلا تيأسن فالله ملك يوسفا * خزائنه بعد الخلاص من السجن (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون.
ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوف الكيل وأنا خير المنزلين.
فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون.
قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون.
وقال لفتيانه إجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) [ يوسف: 58 - 62 ] يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه إلى الديار المصرية يمتارون طعاما وذلك بعد إتيان سني الجدب وعمومها على سائر البلاد والعباد.
وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينا ودنيا.
فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه لانهم لم يخطر ببالهم (1) ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
وعند أهل الكتاب أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه فأغلظ لهم في
القول: وقال: أنتم جواسيس، جئتم [ لنا ] لتأخذوا خير بلادي.
فقالوا معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا، ونحن بنو أب واحد من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلا ذهب منا واحد، وصغيرنا عند أبينا، فقال: لابد أن أستعلم أمركم * وعندهم: أنه حبسهم ثلاثة أيام ثم أخرجهم، وأحتبس شمعون عنده ليأتوه بالاخ الآخر.
وفي بعض هذا نظر.
قال الله تعالى (فلما جهزهم بجهازهم) أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كل إنسان
__________
(1) في عدم معرفتهم له وجوه: انه أمر حجابه أن يوقفوهم بعيدا عنه ولم يتكلم معهم إلا بالواسطة مع مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف.
- تغيره بعد إلقائه في الجب منذ زمن بعيد - قيل أربعون سنة.
- حصول العرفان والتذكر، لعله تعالى ما خلق ذلك في قلوبهم تحقيقا لما أخبره عنهم وهذا من معجزات يوسف عليه السلام.
حمل بعير لا يزيده عليه (قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم فقالوا كنا إثني عشر رجلا فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا فقال إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم (ألا ترون أنى أوف الكيل وأنا خير المنزلين) أي قد أحسنت نزلكم وقراكم فرغبهم ليأتوه به ثم رهبهم إن لم يأتوه به قال: (فإن لم تأتون به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) أي فلست أعطيكم ميرة ولا أقربكم بالكلية عكس ما أسدي إليهم أولا فاجتهد في إحضاره معهم ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب (قالوا سنراود عنه أباه) أي سنجتهد في مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن (وإنا لفاعلون) أي وإنا لقادرون على تحصيله.
ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاؤا به يتعوضون به عن الميرة في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها (لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) قيل أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم.
وقيل خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية.
وقيل تذمم أن يأخذ منهم عوضا عن الميرة.
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها * وعند أهل الكتاب أنها كانت صررا من ورق وهو أشبه والله أعلم (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون.
قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم.
قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير.
قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم.
فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل.
وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [ يوسف: 63 - 68 ].
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم * وقولهم له (منع منا الكيل) أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا فإن أرسلته معنا لم يمنع منا (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي) أي أي شئ نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا (ونمير أهلنا) أي نمتار لهم ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومحلهم (ونحفظ أخانا ونزداد) بسببه (كيل بعير) قال الله تعالى (ذلك كيل يسير) أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر وكان يعقوب عليه السلام أضن شئ بولده بنيامين لانه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه ويتعوض بسببه منه فلهذا قال (لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتتني به إلا أن يحاط بكم) أي إلا أن تغلبوا كلكم عن الاتيان به (1) (فلما آتوه موثقهم قال الله على ما تقول وكيل) أكد المواثيق وقرر
__________
(1) قال الرازي في تفسيره: قال الواحدي للمفسرين فيه قولان:
العهود واحتاط لنفسه في ولده ولن يغني حذر من قدر.
ولولا حاجته (1) وحاجة قومه إلى الميرة لما بعث الولد العزيز ولكن الاقدار لها أحكام والرب تعالى يقدر ما يشاء ويختار ما يريد ويحكم ما يشاء
وهو الحكيم العليم.
ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة.
قيل أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين وذلك لانهم كانوا أشكالا حسنة وصورا بديعة قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسدي والضحاك * وقيل أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرا ليوسف أو يحدثون عنه بأثر.
قاله إبراهيم النخعي.
والاول أظهر ولهذا قال (وما أغني عنكم من الله من شئ) وقال تعالى (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
وعند أهل الكتاب أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل وأخذوا الدراهم الاولى وعوضا آخر (2) (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذون أيتها العير إنكم لسارقون.
قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون.
قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم.
قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين.
قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين.
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم.
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون.
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) [ يوسف: 69 - 79 ].
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وأيوائه إليه وإخباره له سرا عنهم بأنه أخوه وأمره بكتم ذلك عنهم وسلاه عما كان منهم من الاساءة إليه * ثم
__________
= - معناه الهلال: قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذرا عندي.
- ما ذكره قتادة: إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين.
فلا تقدرون على الرجوع.
(1) في بعثه بنيامين معهم ; وقصة يوسف لا تزال حية في ضميره ; وجوه: - انهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح.
- انه كان يشاهد انه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد ما كان بينهم وبين يوسف.
- ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك.
- لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
راجع الرازي ج 18 / 170.
(2) في نسخة: وعرضا آخر وفي نسخة أخرى: وعوضوا آخر.
احتال على أخذه منهم وتركه (1) إياه عنده دونهم فأمر فتيانه بوضع سقايته.
وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام عن غرته (2) في متاع بنيامين.
ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك ووعدهم جعالة على رده حمل بعير وضمنه المنادى لهم فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجنوه فيما قاله لهم و (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين) يقولون أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين.
قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين).
وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق (3) منه ولهذا قالوا (كذلك نجزي الظالمين).
قال الله تعالى (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه) ليكون ذلك أبعد للتهمة وأبلغ في الحيلة ثم قال الله تعالى (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) أي لولا إعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر (إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء) أي في العلم (وفوق كل ذي علم عليم) وذلك لان يوسف كان أعلم منهم وأتم رأيا وأقوى عزما وحزما وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك لانه يترتب على هذا الامر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه فلما عاينوا إستخراج الصواع من حمل بنيامين (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) يعنون يوسف * قيل كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره.
وقيل كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقة كانت لاسحق
ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لا يشعر بما صنعت وإنما أرادت أن يكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له.
وقيل كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء.
وقيل غير ذلك فلهذا (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه) وهي كلمته بعدها وقوله (وأنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون) أجابهم سرا لا جهرا حلما وكرما وصفحا وعفوا فدخلوا معه في الترقق والتعطف فقالوا (يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البرئ.
هذا ما لا نفعله ولا نسمح به وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.
وعند أهل الكتاب أن يوسف تعرف إليهم حينئذ وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جدا (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف لن أبرح الارض حتى يأذن لى أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
__________
(1) في نسخة: وتركهم إياه.
(2) في نسخة: عن غرة.
(3) قال ابن عباس: كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا ; والمعنى جزاء هذا الجرم هو استعباد الشخص الذي يوجد المسروق في رحله ; إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضا جائزا.
إرجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين.
واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون.
قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم.
وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو أكون من الهالكين.
قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون.
يا بني إذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون) [ يوسف: 80 - 87 ].
يقول تعالى مخبرا عنهم أنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصوا يتناجون فيما بينهم قال كبيرهم وهو روبيل (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق لي وجه أقابله به (فلن أبرح الارض) أي لا أزال مقيما ههنا (حتى يأذن لي أبي) في القدوم عليه (أو يحكم الله لي) بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي (وهو خير الحاكمين.
ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن إبنك سرق) أي اخبروه بما رأيتم من الامر في ظاهر المشاهدة (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين.
واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) أي فإن هذا الذي أخبرناك به من أخذهم أخانا لانه سرق أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك (وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمر فصبر جميل) أي ليس الامر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا [ هو ] (1) خلقه وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل.
قال ابن اسحق وغيره لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال وهذا كما قال بعض السلف إن من جزاء السيئة السيئة بعدها ثم قال (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) يعني يوسف وبنيامين وروبيل (إنه هو العليم) أي بحالي وما أنا فيه من فراق الاحبة (الحكيم) فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة (وتولى عنهم) أي أعرض عن بنيه (وقال يا أسفى على يوسف) ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم وحرك ما كان كامنا كما قال بعضهم: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الاول وقال آخر (2): لقد لامني عند القبور على البكا * رفيقي لتذراف الدموع السوافك (3)
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) القائل: متمم بن نويرة.
(3) الدموع السوافك: المذروفة بغزارة.
فقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك (1) فقلت له إن الاسى يبعث الاسى * فدعني فهذا كله قبر مالك وقوله (وابيضت عيناه من الحزن) أي من كثرة البكاء (فهو كظيم) أي مكظم (2) من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق (قالوا) له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه (تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين) يقولون لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك وتضعف قوتك فلو رفقت بنفسك كان أولى بك (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) يقول لبنيه لست أشكوا إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه إنما أشكو إلى الله عزوجل وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى ولهذا قال: (واعلم من الله ما لا تعلمون) ثم قال لهم محرضا على تطلب يوسف وأخيه وأن يبحثوا عن أمرهما.
(يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) أي لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين.
قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون.
قالوا أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين.
قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين) [ يوسف: 88 - 93 ].
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة
عليهم رد أخيهم بنيامين إليهم (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال (وجئنا ببضاعة مزجاة) أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن بتجاوز عنا.
قيل كانت دراهم رديئة.
وقيل قليلة وقيل حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك.
وعن ابن عباس كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك (فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) قيل بقبولها قاله السدي.
وقيل برد أخينا إلينا قاله ابن جريج.
وقال سفيان بن عيينة إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال تعرف إليهم وعطف عليهم قائلا لهم
__________
(1) اللوى والدكادك: موضعان.
(2) في نسخة: مكمد.
عن أمر ربه وربهم.
وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال فيه الذي يعرفون (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون.
قالوا) وتعجبوا كل العجب وقد ترددوا إليه مرارا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو (أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي) يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم وسلف من أمركم فيه ما فرطتم وقوله (وهذا أخي) تأكيد لما قال وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد وعملوا في أمرهما من الاحتيال ولهذا قال (قد من الله علينا) أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا وصبرنا على ما كان منكم الينا وطاعتنا وبرنا لابينا ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا (إنه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين.
قالوا تالله لقد آثرك الله علينا) أي فضلك وأعطاك ما لم يعطنا (وإن كنا لخاطئين).
أي فيما أسدينا إليك (1) وها نحن بين يديك (قال لا تثريب عليكم اليوم) أي لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا ثم ذادهم على ذلك فقال (اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
ومن زعم أن الوقف على قوله لا تثريب عليكم وابتدأ بقوله اليوم يغفر الله لكم فقوله ضعيف
والصحيح الاول.
ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه فانه يرجع إليه بصره بعدما كان ذهب بإذن الله وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات * ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين (2) إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الامور.
(فلما فصلت العير قال أبوهم إني لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون.
قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم.
فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا.
قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون.
قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين.
قال سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) [ يوسف: 94 - 98 ].
قال عبد الرزاق أنبأنا اسرائيل عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل سمعت ابن عباس يقول: فلما فصلت العير قال: لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف (فقال إني لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون) قال فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام (3).
وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان (4) به.
وقال الحسن البصري وابن جريج المكي كان بينهما
__________
(1) قال أبو علي الجبائي: لم يعتذروا إليه من أقدامهم على إلقائه في الجب، وإنما اعتذروا من حيث انهم أخطأوا لانهم لم يظهروا لابيهم ما فعلوه.
قال الرازي وهذا الكلام ضعيف تفسير الفخر الرازي 18 / 205.
(2) قال الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا ; وقال مسروق: ثلاثة وتسعون بين رجل وامرأة.
تفسير الرازي 18 / 207.
وفي الطبري 1 / 187: كان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا من أهله.
(3) في نسخة: ثلاثة أيام.
(4) في نسخة: أبي سعد.
وفي الطبري: ابن سنان.
مسيرة ثمانين فرسخا وكان له منذ فارقه ثمانون سنة وقوله (لولا أن تفندون) أي تقولون إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن.
قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة تفندون تسفهون.
وقال مجاهد أيضا والحسن تهرمون (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) قال
قتادة والسدي قالوا له كلمة غليظة (1).
قال الله تعالى (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) أي بمجرد ما جاء (2) ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيرا بعد ما كان ضريرا وقال لبنيه عند ذلك (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسرني فعند ذلك (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عزوجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه وما كانوا عزموا عليه.
ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا قائلا (سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم).
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم أرجأهم إلى وقت السحر قال ابن جرير حدثني أبو السائب حدثنا ابن ادريس سمعت عبد الرحمن بن اسحق يذكر عن محارب بن دثار قال كان عمر يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول " اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فاطعت وهذا السحر فاغفر لي " قال فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله (سوف أستغفر لكم ربي) وقد قال الله تعالى (والمستغفرين بالاسحار) [ آل عمران: 17 ] وثبت في الصحيحين (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له " (4) وقد ورد في حديث ": أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة " قال ابن جرير (5) حدثني المثني.
ثنا سليمان بن عبد الرحمن بن أيوب الدمشقي حدثنا الوليد (6) أنبأنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس عن رسول لله صلى الله عليه وسلم (سوف أستغفر لكم ربي) يقول حتى تأتي ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه.
وهذا غريب من هذا الوجه.
وفي
__________
(1) زاد قتادة: ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله ; والمراد بقولهم: حبك القديم ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه، وما تكابد من الاحزان والشقاء على يوسف.
(2) جمهور المفسرين البشير هو: يهودا.
وفي رواية للطبري 1 / 185: البشير: يعني البريد الذي أبرده يوسف إلى
يعقوب.
(3) وفي النسخ المطبوعة: الصحيح وهو تحريف.
(4) صحيح مسلم في 6 كتاب صلاة المسافرين باب 23 / ح 166 / 757 ص 1 / 521 عن جابر بن عبد الله.
(5) تاريخ الطبري ج 1 / 186.
(6) وهو الوليد بن مسلم.
رفعه نظر والاشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضي الله عنه.
(فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السموات والارض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) [ يوسف: 99 - 101 ].
هذا إخبار عن حال إجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل أنها ثمانون سنة وقيل ثلاث وثمانون سنة وهما روايتان عن الحسن.
وقيل خمس وثلاثون سنة قاله قتادة.
وقال محمد بن اسحاق ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة * قال وأهل الكتاب يزعمون (1) أنه غاب عنه أربعين سنة وظاهر سباق القصة يرشد إل تحديد المدة تقريبا فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة فيما قاله غير واحد فامتنع فكان في السجن بضع سنين وهي سبع عند عكرمة وغيره.
ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي جاء إخوتهم يمتارون في السنة الاولى وحدهم وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين.
وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين فجاؤا كلهم (فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه) اجتمع بهما (2) خصوصا وحدهما دون إخوته (وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) قيل هذا من المقدم والمؤخر تقديره ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه.
وضعفه ابن جرير وهو معذور * قيل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام.
ثم لما اقتربوا من باب
مصر (قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) قاله السدي.
ولو قيل إن الامر لا يحتاج إلى هذا أيضا وأنه ضمن قوله أدخلوا معنى اسكنوا مصر أو اقيموا بها (إن شاء الله آمنين) لكان صحيحا مليحا أيضا.
وعند أهل الكتاب أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر وهي أرض بلبيس خرج يوسف لتلقيه وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرا بقدومه وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بن عمهم ومواشيهم * وقد ذكر جماعة من المفسرين أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب وهو اسرائيل أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف
__________
(1) في نسخة: يدعون.
(2) المراد بقوله أبويه: قولان: - المراد أبوه وأمه، وعلى هذا تكون أمه لا تزال حية إلى ذلك الوقت، وقيل انها كانت قد ماتت وأن الله تعالى احياها من قبرها.
- المراد أبوه وخالته، لان أمه - كما مر - ماتت في النفاس بأخيه بنيامين وقد تزوج أبوه بخالته فسماها الله بأحد الابوين.
تفسير الرازي 18 / 210.
وتعظيما لنبي الله إسرائيل وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم فالله أعلم.
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ثلاثة وستين إنسانا * وقال موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن عبد الله بن شداد كانوا ثلاثة وثمانين إنسانا.
وقال أبو إسحاق عن مسروق دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنسانا.
قالوا وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل * وفي نص أهل الكتاب أنهم كانوا سبعين نفسا وسموهم (1).
قال الله تعالى (ورفع أبويه على العرش) قيل كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة.
وقال بعض المفسرين فأحياها الله تعالى وقال آخرون بل كانت
خالته ليا والخالة بمنزلة الام.
وقال ابن جرير وآخرون بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه وهذا قوي والله أعلم (2).
ورفعهما على العرش أي اجلسهما معه على سريره (وخروا له سجدا) أي سجد له الابوان والاخوة الاحد عشر تعظيما وتكريما وكان هذا مشروعا لهم ولم يزل ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا (3).
(وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل) أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك من رؤيتي الاحد عشر كوكبا والشمس والقمر حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها ووعدتني ما وعدتني عند ذلك (قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن) أي بعد الهم والضيق جعلني حاكما نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت (وجاء بكم من البدو) أي البادية وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) أي فيما كان منهم إلي من الامر الذي تقدم وسبق ذكره * ثم قال (إن ربي لطيف لما يشاء) أي إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته (إنه هو العليم) أي بجميع الامور (الحكيم) في خلقه وشرعه وقدره.
__________
(1) تقدم التعليق فليراجع.
(2) تقدم التعليق فليراجع.
(3) قال الرازي: في سجود يعقوب ليوسف واستجازته له وجوه: - لاجل وجدانه سجدا لله تعالى، إن ذلك السجود كان سجودا للشكر فالمسجود له هو الله.
- جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه كما يقال: صلبت للكعبة.
- قد يسمى التواضع سجودا، إلا أن هذا شكل لانه تعالى قال: (وخروا له سجدا).
- الضمير في قوله (وخروا له) غير عائد للابوين وإلا لقال: وخروا له ساجدين بل الضمير عائد إلى إخوته.
- لعل الفعل الدال على التحية والاكرام في ذلك الوقت هو السجود، والمقصود التعظيم وهذا بعيد.
- لعل يعقوب علم أن إخوته لن يسجدوا له على سبيل التواضع، ففعل هو ذلك السجود مع جلالة قدره وعظم حقه حتى يصير عمله سببا لزوال الانفة والنفرة عن قلوبهم.
- لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية.
بإختصار تفسير الرازي 18 / 212 - 213.
وعند أهل الكتاب أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده - بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار والاثاث وما يملكونه كله حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء * ثم أطلق لهم أرضهم وأعتق رقابهم على أن يعملوا ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده (1).
وحكى الثعلبي أنه كان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار قال فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك * قلت وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة (2) حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.
وقال الشافعي قال رجل من الاعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة لقد انجلت عند وإنك لابن حرة.
ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت وشمله قد إجتمع عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار وأن كل شئ فيها ومن عليها فان.
وما بعد التمام إلا النقصان فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله واعترف له بعظيم إحسانه وفضله.
وسأل منه - وهو خير المسؤولين - أن يتوفاه أي حين يتوفاه على الاسلام.
وأن يلحقه بعباده الصالحين.
وهكذا كما يقال في الدعاء " اللهم احينا مسلمين وتوفنا مسلمين " أي حين تتوفانا.
ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملا الاعلى والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين كما قال: " اللهم في الرفيق الاعلى " ثلاثا ثم قضى (3).
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الاسلام منجزا في صحة بدنه وسلامته وأن ذلك كان سائغا في ملتهم وشرعتهم كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف.
فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد: " وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين " (4) وفي الحديث الآخر: " ابن آدم، الموت خير لك من الفتنة " وقالت مريم عليها السلام (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا
منسيا) [ مريم: 23 ] وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت الامور وعظمت الفتن واشتد
__________
(1) هو ما كانوا يسمونه في مصر نظام المزارعة، وقد بقي معمولا بعقود هذا النظام إلى وقت متأخر.
(2) عام الرمادة: لما صدر الناس عن الحج سنة ثماني عشرة أصاب الناس جهد شديد وأجدبت البلاد وأهلكت الماشية وجاع الناس وهلكوا.
سمي ذلك العالم عام الرمادة لان الارض كلها صارت سوداء فشبهت بالرماد وكانت تسعة أشهر.
طبقات ابن سعد 3 / 310.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 7 / 208 عن عائشة ورواه البخاري في الصحيح عن بشر بن محمد بن مبارك ح 4435 في 64 كتاب المغازي 83 باب مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة فتح الباري 8 / 136.
(4) الحديث رواه الترمذي في سننه 48 / 39 / 3235 وقال: هذا الحديث حسن صحيح.
ورواه أحمد في المسند 1 / 368، 4 / 66، 5 / 243، 5 / 427.
القتال وكثر القيل والقال وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال ولقي من مخالفيه الاهوال.
فأما في حال الرفاهية ؟ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما (1) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد وإما مسيئا فلعله يستعتب ولكن ليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي " والمراد بالضر ههنا ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه لا في دينه * والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند إحضاره أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.
وقد ذكر ابن اسحق عن أهل الكتاب أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة ثم توفي عليه السلام وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحق.
قال السدي فصبر وسيره إلى بلاد الشام فدفنه بالمغارة عند أبيه إسحق وجده الخليل عليهم السلام.
وعند أهل الكتاب أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة.
وعندهم أنه أقام
بأرض مصر سبع عشرة سنة ومع هذا قالوا فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة * هذا نص كتابهم وهو غلط إما في النسخة أو منهم أو قد أسقطوا الكسر وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا فكيف يستعملون هذه الطريقة ههنا وقد قال تعالى في كتابه العزيز (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) [ البقرة: 133 ] يوصي بنيه بالاخلاص وهو دين الاسلام الذي بعث الله به الانبياء عليهم السلام.
وقد ذكر أهل الكتاب أنه أوصى بنيه واحدا واحدا وأخبرهم بما يكون من أمرهم وبشر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تطيعه الشعوب وهو عيسى بن مريم والله أعلم.
وذكروا أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما وأمر يوسف الاطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوما ثم إستأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله فأذن له وخرج معه أكابر مصر وشيوخها فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي كان إشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي وعملوا له عزاء سبعة أيام قالوا ثم رجعوا إلى بلادهم وعزى إخوة يوسف ليوسف في أبيهم وترققوا له فأكرم وأحسن منقلبهم فأقاموا ببلاد مصر.
ثم
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 75 / 19، 80 / 30، 81 / 7 ورواه مسلم في 48 / 10 - 13 ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي في سننهم ; وأحمد في مسنده: 2 / 263 - 309 - 316 - 350، 3 / 100 - 104 - 163 - 171 - 195 - 208 - 247، 5 / 109 - 110 - 111 - 112، 6 / 339 - 395.
حضرت يوسف عليه السلام الوفاة فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه فحنطوه ووضعوه في تابوت فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه كما سيأتي.
قالوا فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين * هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة.
ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة *
وقال غيره أوصى إليه أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه.
قصة نبي الله ايوب قال ابن اسحق كان رجلا من الروم وهو أيوب بن موص بن زراح (1) بن العيص بن إسحق ابن إبراهيم الخليل.
وقال غيره هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن اسحق بن يعقوب وقيل غير ذلك في نسبه.
وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام.
وقيل كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام يوم ألقي في النار فلم تحرقه والمشهور الاول لانه من ذرية إبراهيم كما قررنا عند قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون) الآيات من أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام.
وهو من الانبياء المنصوص على الايحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب) الآية.
فالصحيح أنه من سلالة العيص بن اسحق وإمرأته قيل اسمها ليا بنت يعقوب وقيل رحمه بنت أفرائيم (2).
وقيل منشا بن يوسف بن يعقوب.
وهذا أشهر فلهذا ذكرناه هاهنا.
ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
قال الله تعالى (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) [ الانبياء: 83 - 84 ] وقال تعالى في سورة ص (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب.
أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب.
ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب.
وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) [ ص: 41 - 44 ] وروى ابن عساكر من طريق الكلبي أنه قال: أول نبي بعث إدريس.
ثم نوح.
ثم إبراهيم.
ثم إسماعيل.
ثم إسحق.
ثم يعقوب.
ثم يوسف.
ثم لوط.
ثم هود.
ثم صالح.
ثم شعيب.
ثم موسى وهرون.
ثم إلياس.
ثم اليسع.
ثم عرفى بن سويلخ بن أفرائيم بن يوسف بن
__________
(1) في الطبري: رازح.
وفي المعارف لابن قتيبة: بن صوص بن رعويل.
(2) في الطبري: افرائيم بن يوسف بن يعقوب.
يعقوب.
ثم يونس بن متى من بني يعقوب.
ثم أيوب بن زراح (1) بن آموص بن ليفرز بن العيص بن اسحق بن إبراهيم.
وفي بعض هذا الترتيب نظر فإن هودا وصالحا المشهور أنهما بعد نوح.
وقبل إبراهيم والله أعلم.
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الانعام والعبيد والمواشي والاراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران (2).
وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له وكان له أولاد وأهلون كثير فسلب من ذلك جميعه وابتلى في جسده بأنواع البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه.
يذكر الله عزوجل بها وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر الله عزوجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الانيس، وأخرج من بلده وألقى على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته.
وضعف حالها وقل مالها حتى كانت تخدم الناس بالاجر، لتطعمه وتقوم بأوده، رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد الناس بلاء الانبياء.
ثم الصالحون.
ثم الامثل فالامثل، يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه " (3).
ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام ويضرب المثل أيضا بما حصل له من أنواع البلايا * وقد روى عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر طويل في كيفية ذهاب ماله وولده وبلائه في جسده والله أعلم بصحته * وعن مجاهد أنه قال كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري وقد اختلفوا في
مدة بلواه على أقوال فزعم وهب أنه ابتلى ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص.
وقال أنس ابتلى سبع سنين وأشهرا وألقى على مزبلة (4) لبني اسرائيل تختلف الدواب في جسده حتى فرج الله عنه وعظم له الاجر وأحسن الثناء عليه.
__________
(1) وفي نسخة: راذح، وفي الطبري: رازح.
(2) في الطبري: وكان لايوب البثنية من الشام كلها بما فيها بين شرقها وغربها وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ولكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة كل فدان اتان لكل اتان ولد بين اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك.
(3) أحمد في مسنده 1 / 172 - 174 - 180 - 185 والترمذي في سننه 37 / 56 / 2398 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الدارمي وابن ماجة في سننيهما.
(4) في الطبري: كناسة خارج القرية لبني إسرائيل لا يقربه أحد إلا زوجته.
وقال حميد مكث في بلواه ثمانية عشرة سنة.
وقال السدي تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته فلما طال عليها قالت (يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك فقال قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة) فجزعت من هذا الكلام وكانت تخدم الناس بالاجر وتطعم أيوب عليه السلام.
ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب خوفا أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الاشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير فأتت به أيوب فقال من أين لك هذا وأنكره فقالت خدمت به أناسا فلما كان الغد لم تجد أحدا فباعت الضفيرة الاخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضا وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام فكشفت عن رأسها خمارها فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه (إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) [ الانبياء: 83 ].
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن خازم، عن عبد الله بن
عبيد بن عمير قال: كان لايوب أخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شئ قط قال (اللهم ان كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني) فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال (اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان) ثم قال اللهم بعزتك وخر ساجدا فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا حدثنا يونس بن عبد الاعلى، انبئنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه: يعلم الله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك قال: منذ ثماني عشر سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به.
فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول ؟ غير أن الله عزوجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكر الله إلا في حق ".
قال وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن (أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) [ ص: 42 ] فاستبطأته فتلقته تنظر وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو.
قال وكان له أندر
للقمح واندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الدهب حتى فاض وأفرغت الاخرى في أندر (1) الشعير الورق حتى فاض.
هذا لفظ ابن جرير وهكذا رواه بتمامه إبن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن حرملة عن ابن وهب به.
هذا
غريب رفعه جدا.
والاشبه أن يكون موقوفا.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا موسى بن اسمعيل حدثنا حماد أنبئنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب وجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله هذا المبتلي الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة قال ولعل أنا أيوب قالت أتسخر مني يا عبد الله فقال ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي.
قال ابن عباس ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه.
أوحى الله إليه قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك (2) قربانا واستغفر لهم فانهم قد عصوني فيك رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ بيده ويجعل في ثوبه قال فقيل له يا أيوب أما تشبع.
قال يا رب ومن يشبع من رحمتك " (3).
وهكذا رواه الامام أحمد عن أبي داود الطيالسي وعبد الصمد عن همام عن قتادة به.
ورواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد الازدي عن إسحق بن راهوية عن عبد الصمد به ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب وهو على شرط الصحيح فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب فجعل يقبضها في ثوبه فقيل يا أيوب ألم يكفك ما أعطيناك ؟ قال: أي رب ومن يستغني عن فضلك ؟ (4).
هذا موقوف.
وقد روى عن أبي هريرة من وجه آخر مرفوعا.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب
__________
(1) الاندر: الكدس من القمح خاصة.
(2) ذكر الطبري ان ثلاثة نفر (فقط) قد اتبعوه على دينه يقال للاول: يلدد، والآخر: اليفز، والثالث صافر.
ووردت في التوراة: بلدد الشوحي، أليفار اليماني، صوفر النعماني.
وفي تعليله لاشفائه: ان هؤلاء بكتوه في بلائه ; فأقبل على ربه يستغيثه ويتضرع إليه فرحمه ربه ورفع عنه البلاء ورد عليه أهله وماله ومثلهم معهم.
(3) رواه أحمد في مسنده 2 / 511 وأبو داود الطيالسي في مسنده 2 / 83 / 2302.
(4) مسند أحمد ج 2 / 243 - 304.
فجعل أيوب يحشي في ثوبه، فناداه ربه عزوجل (يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى) قال: بلى يا رب، ولكن لا غني لي عن بركتك " (1).
رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به.
وقوله (أركض برجلك) أي اضرب الارض برجلك فامتثل ما أمر به فانبع الله له عينا باردة الماء وأمر أن يغتسل فيها، ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الالم والاذى والسقم والمرض، الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة وجمالا تاما ومالا كثيرا حيت صب له من المال صبا مطرا عظيما جرادا (2) من ذهب وأخلف الله له أهله كما قال تعالى (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) [ الانبياء: 84 ].
فقيل أحياهم الله بأعيانهم.
وقيل آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة.
وقوله (رحمة من عندنا) أي رفعنا عنه شدته (وكشفنا ما به من ضر) رحمة منا به ورأفة وإحسانا (وذكرى للعابدين) أي تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه.
ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال هي رحمة من هذه الآية فقد أبعد النجعة وأغرق النزع (3).
وقال الضحاك عن ابن عباس رد الله إليها شبابها وزادها حتى ولدت له ستة وعشرون ولدا ذكرا.
وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية ثم غيروا بعده دين إبراهيم.
وقوله (خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) [ ص: 44 ] هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام فيما كان من حلفه
ليضربن امرأته مائة سوط فقيل حلفه ذلك لبيعها ضفائرها.
وقيل لانه عرضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لايوب فأتته فأخبرته فعرف أنه الشيطان فحلف ليضربها مائة سوط.
فلما عافاه الله عزوجل أفتاه أن يأخذ ضغثا (4) وهو كالعثكال (5) الذي يجمع الشماريخ (6) فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط ويبر ولا يحنث.
وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة المكابدة الصديقة البارة الراشدة رضي الله عنها.
ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله (إنا وجدناه صابرا
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 314 والبخاري في صحيحه 5 / 20 - 60 / 20 و 97 / 35.
(2) جراد: آنية.
(3) النزع.
النبت، (4) الضغث: قبضة من قضبان مختلفة، يجمعها أصل واحد مثل الاسل.
(5) العثكال: ما علق من عهن أو صوف أو زينة فتذبذب في الهواء.
(6) الشماريخ: واحدها شمراخ، وشماريخ العثكال اغصانه.
وأصله في العذق.
نعم العبد إنه أواب) وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الايمان والنذور وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الايمان وصدروه بهذه الآية الكريمة وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب * وسنذكر طرفا من ذلك في كتاب الاحكام عند الوصول إليه أن شاء الله تعالى.
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة.
وقيل إنه عاش أكثر من ذلك.
وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الاغنياء وبيوسف عليه السلام على الارقاء وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء رواه ابن عساكر بمعناه وأنه أوصى إلى ولده حومل وقام بالامر بعده ولده بشر بن أيوب وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم.
ومات ابنه هذا وكان نبيا فيما
يزعمون وكان عمره من السنين خمسا وسبعين * ولنذكر ههنا قصة ذي الكفل إذ قال بعضهم إنه ابن أيوب عليهما السلام.
قصة ذي الكفل (1) الذي زعم قوم انه ابن أيوب قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الانبياء (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين.
وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) [ الانبياء: 85 - 86 ] وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا في سورة ص (واذكر عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار.
إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار.
وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار.
واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) [ ص 45 - 48 ] فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الانبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور.
وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا * وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم.
وروى ابن جرير وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه لم يكن نبيا وإنما كان رجلا صالحا وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيه امرهم ويقتضي بينهم بالعدل فسمي ذا الكفل.
وروى ان جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن مجاهد أنه قال لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، فجمع الناس فقال: من يتقبل لي
__________
(1) قال الزجاج: الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير، والكفل أيضا النصيب.
بثلاث استخلفه.
يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب (1).
قال: فقام رجل تزدريه العين (2)، فقال: أنا.
فقال أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب قال نعم، قال فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال: أنا.
فاستخلفه قال: فجعل إبليس يقول للشياطين عليكم بفلان فأعياهم ذلك، فقال: دعوني وإياه فأتاه في
صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، إلا تلك النومة فدق الباب، فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم * قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا حتى حضر الرواح (3) وذهبت القائلة، وقال: إذا رحلت فأتني آخذ لك بحقك.
فانطلق وراح.
فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه.
فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب فقال: من هذا فقال الشيخ الكبير المظلوم ففتح له فقال ألم أقل لك إذا قعدت فأتني فقال إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني قال: فانطلق فإذا رحت فأتني قال ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق على النوم.
فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل وراءك وراءك فقال إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت وإذا هو يدق الباب من داخل قال فاستيقظ الرجل فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي والله فلم تؤت فأنظر من أين أتيت ؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فعرفه فقال أعدو الله قال: نعم أعييتني في كل شئ ففعلت ما ترى لاغضبنك، [ فعصمك الله مني ] (4) فسماه الله ذا الكفل لانه تكفل بأمر فوفى به.
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قريبا من هذا السياق.
وهكذا روى عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الاكبر وغيرهم من السلف نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر أنبئنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن كنانة بن الاخنس قال سمعت الاشعري - يعني أبا موسى رضي الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول: ما كان ذو الكفل نبيا، ولكن كان رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل.
ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.
__________
(1) زاد في القرطبي: ولا يغضب وهو يقضي.
(2) في القرطبي: رجل من ذرية العيص.
(3) الرواح: قيل الرواح العشي، وقيل: الرواح من لدن زوال الشمس إلى الليل.
(4) الزيادة من القرطبي.
قال: قال أبو موسى الاشعري، فذكره منقطعا.
فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد (1): حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الاعمش، عن عبد الله بن عبد الله.
عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر، قال سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرار - ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال: " كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك [ أ ] أكرهتك قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملتني عليه الحاجة قال فتفعلين هذا ولم تفعليه قط.
ثم نزل فقال اذهبي بالدنانير لك.
ثم قال والله لا يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله لكفل " (2).
ورواه الترمذي من حديث الاعمش به وقال حسن.
وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جدا.
وفي إسناده نظر فإن سعدا (3) هذا قال أبو حاتم لا أعرفه إلا بحديث واحد ووثقه ابن حبان ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا فالله أعلم.
باب ذكر أمم أهلكوا بعامة وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الاولى الآية) [ القصص: 43 ].
كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الاعرابي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الارض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الارض غير القرية التى مسخوا قردة.
ألم تر أن الله تعالى يقول: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الاولى) ورفعه البزار في رواية له.
والاشبه والله أعلم وقفه فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام: فمنهم:
اصحاب الرس قال الله تعالى في سورة الفرقان (وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا.
وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا) [ الفرقان: 38 - 39 ] وقال تعالى في صورة ق (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الايكة
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 23.
(2) رواه الترمذي الحكيم في نوادر الاصول.
ورواه الترمذي أبو عيسى في سننه كتاب صفة القيامة (38) باب 48 ح / 2496.
وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الاعمش ونحو هذا ورفعوه.
وروى بعضهم عن الاعمش ولم يرفعه.
(3) سعد ويقال طلحة، عن ابن عمر، وعنه عبد الله (الرازي) وثقة الكاشف (1 / 280) أو سعيد ويقال طلحة مولى سعد مجهول من الرابعة تقريب التهذيب 1 / 290.
وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد) [ ق: 12 - 14 ] وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا وهو الهلاك.
وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الاخدود الذين ذكروا في سورة البروج (1)، لان أولئك عند ابن اسحق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السلام وفيه نظر أيضا.
وروى ابن جرير قال قال ابن عباس أصحاب الرس (2) ; أهل قرية من قرى ثمود.
وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره: أن أصحاب الرس كانوا بحضور فبعث الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه فسار عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس فنزل الاحقاف وأهلك الله أصحاب الرس وانتشروا في اليمن كلها وفشوا مع ذلك في الارض كلها حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح دمشق وبنى مدينتها وسماها جيرون وهي إرم ذات العماد وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد
بالاحقاف، فكذبوه وأهلكهم الله عزوجل، فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة فالله أعلم (3).
وروى ابن أبي حاتم، عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبيه عن شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال الرس بئر بآذربيجان.
وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة قال الرس بئر رسوا فيها نبيهم أي دفنوه فيها (4).
وقال بن جريج قال عكرمة أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب ياسين.
وقال قتادة فلج من قرى اليمامة قلت: فإن كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة فقد أهلكوا بعامة قال الله تعالى في قصتهم (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) [ يس: 29 ] وستأتي قصتهم بعد هؤلاء وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد أهلكوا أيضا وتبروا * وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير.
وقد ذكر أبو بكر محمد ابن الحسن النقاش: أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم وتكفي أرضهم جميعا وكان لهم ملك عادل حسن السيرة فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته وقال إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه وأخبرهم أنه لا يموت أبدا فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه فبعث الله فيهم نبيا وأخبرهم (5) أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب ونهاهم عن
__________
(1) قال تعالى: (قتل أصحاب الاخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود (4 - 6).
(2) الرس: في كلام العرب البئر التي تكون مطوية والجمع رساس.
وفي الصحاح: الرس بئر كانت لبقية من ثمود.
والرس أيضا عند العرب: الدفن.
(3) تاريخ ابن عساكر 1 / 15 تهذيب.
(4) عن عكرمة: دفنوه حيا.
(5) في نسخة: فأخبرهم، وهو مناسب أكثر.
عبادته وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له قال السهيلي وكان يوحي إليه في النوم وكان اسمه حنظلة بن صفوان فعدوا عليه فقتلوه
وألقوه في البئر فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم وخربت ديارهم وتبدلوا بعد الانس بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وهلكوا عن آخرهم وسكن في مساكنهم الجن والوحوش (1) فلا يسمع ببقاعهم لا عزيف الجن وزئير الاسد (2) وصوت الضباع.
فأما ما رواه - أعني - ابن جرير عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحق عن محمد بن كعب القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الاسود " وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك الاسود.
ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ثم يأتي به إلى ذلك (3) لبئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها، ويدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت، قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون * ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع ينام (4) فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم إنه هب فتمطى وتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ثم إنه هب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع * ثم إنه ذهب إلى الحفرة إلى موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه * قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الاسود ما فعل فيقولون له ما تدري حتى قبض الله النبي عليه لسلام وأهب (5) الاسود من نومه بعد ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ذلك الاسود لاول من يدخل الجنة ".
فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر.
ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي والله أعلم.
ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال لا يجوز أن يحمل هؤلاء، على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن قال لان الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم (6).
__________
(1) في نسخة: والوحش.
(2) في نسخة: والاسود.
(3) في نسخة: تلك.
(4) في نسخة: فنام.
(5) في الرازي والقرطبي: وهب.
(6) قال الرازي: وأعلم أن القول ما قاله أبو مسلم وهو أن شيئا من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن.
ولا بخبر قوي الاسناد، ولكنهم كيف كانوا فقد أخبره الله تعالى عنهم انهم أهلكوا بسبب كفرهم 24 / 83.
اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم.
ثم اختار أنهم أصحاب الاخدود وهو ضعيف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الاخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هلاكهم وقد صرح بهلاك أصحاب الرس والله أعلم.
قصة قوم يس وهم (1) اصحاب القرية قال الله تعالى (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون.
إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون.
قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ إن أنتم إلا تكذبون.
قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون.
وما علينا إلا البلاغ المبين.
قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنك وليمسنكم منا عذاب أليم.
قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ومالي لا أعبد الذي فطرني إليه ترجعون.
أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون.
إني إذا لفي ضلال مبين.
إني آمنت بربكم فاسمعون.
قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين.
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) [ يس: 13 - 29 ].
اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية.
رواه ابن اسحق فيما بلغه عن
ابن عباس وكعب الاحبار ووهب بن منبه، وكذا روى عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم، قال ابن اسحق فيما بلغه عن ان ابن عباس وكعب ووهب انهم قالوا: وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيخس وكان يعبد الاصنام.
فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق وصدوق وشلوم فكذبهم.
وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عزوجل.
وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من المسيح.
وكذا قال ابن جرير عن وهب، عن ابن سليمان، عن شعيب الجبائي: كان اسم المرسلين (2) الاوليين
__________
= وفي القرطبي تعليقا على قول ابن جرير.
قال الثعلبي: هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس، لان الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس، أنه دمرهم.
ج 13 / 33.
(1) في نسخة: ومنهم أصحاب القرية.
(2) في نسخة: الرسولين.
قال القرطبي هذا قول الطبري وقال غيره: شمعون ويوحنا، وحكى النقاش: سمعان ويحيى ولم يذكرا صادقا وصدوقا.
شمعون، ويوحنا، واسم الثالث بولس، والقرية أنطاكية.
وهذا القول ضعيف جدا: لان أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ولهذا كانت إحدى المدن الاربع التي تكون فيها بتاركة النصارى وهن أنطاكية والقدس واسكندرية ورومية ثم بعدها إلى القسطنطينية ولم يهلكوا وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) [ يس: 29 ] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما فكذبوهم وأهلكهم الله ثم عمرت بعد ذلك.
فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم فلا يمنع هذا والله أعلم.
فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم ولان ظاهر سياق القرآن يقتضي من هؤلاء الرسل من عند الله.
قال الله تعالى (واضرب لهم
مثلا) يعني لقومك يا محمد (أصحاب القرية) يعني المدينة (إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) أي أيدناهما بثالث في الرسالة (فقالوا إنا إليكم مرسلون) فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما قالت الامم الكافرة لرسلهم يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وأنتقم منا أشد الانتقام (وما علينا إلا البلاغ المبين) أي إنما علينا أي نبلغكم ما أرسلنا به إليكم والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء (قالوا إنا تطيرنا بكم) أي تشائمنا بما جئتمونا به (1) (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) بالمقال وقيل بالفعال ويؤيد الاول قوله (وليمسنكم منا عذاب أليم) فوعدوهم بالقتل والاهانة.
(قالوا طائركم معكم) أي مردود عليكم (أأن ذكرتم) أي بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل والاهانة (بل أنتم قوم مسرفون) أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه.
وقوله تعالى (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) يعني لنصرة الرسل وأظهار الايمان بهم (قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة.
ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا (2) ولا في الآخرة (أني إذا لفي ضلال مبين) أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه * ثم قال مخاطبا للرسل (إني آمنت بربكم فاسمعون) قيل فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم.
وقيل معناه فاسمعوا يا قومي إيماني يرسل الله جهرة.
فعند ذلك.
__________
(1) قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا هذا بشؤمكم، القرطبي 15 / 16.
(2) قال وهب: وكان حبيب مجذوما، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة كان ينحث الاصنام وكان عكف على عبادة الاصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له ; فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله ; وأن هذه لا تنفع شيئا ولا تضر.
فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به.
القرطبي 15 / 18
قتلوه.
قيل رجما.
وقيل عضا وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه * وحكى ابن اسحق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبته [ من دبره ] (1).
وقد روى الثوري عن عاصم الاحول عن أبي مجلز كان اسم هذا الرجل حبيب بن مري * ثم قيل كان نجارا وقيل حبالا.
وقيل إسكافا.
وقيل قصارا وقيل كان يتعبد في غار هناك فالله أعلم.
وعن ابن عباس كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصدقة قتله قومه.
ولهذا قال تعالى: (إدخل الجنة) يعني لما قتله قومه أدخله الله الجنة فلما رأى فيها من النضرة والسرور (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) يعني ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي.
قال ابن عباس نصح قومه في حياته (يا قوم اتبعوا المرسلين) وبعد مماته (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) رواه ابن أبي حاتم وكذلك قال قتادة لا يلقى المؤمن إلا ناصحا لا يلقي غاشا لما عاين ما عاين من كرامة الله (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هو عليه قال قتادة فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) وقوله تعالى (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين) أي ما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم.
هذا معنى ما رواه ابن اسحق عن بعض أصحابه (2) عن ابن مسعود * قال مجاهد وقتادة وما أنزل عليهم جندا أي رسالة أخرى قال ابن جرير والاول أولى.
قلت: وأقوى، ولهذا قال (وما كنا منزلين) أي وما كنا نحتاج (3) في الانتقام إلى هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون).
قال المفسرون بعث الله إليهم جبريل عليه السلام فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون أي قد أخمدت أصواتهم وسكنت حركاتهم ولم يبق منهم عين تطرف.
وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية لان هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم فلهذا قيل إن أنطاكية أول مدينة
__________
(1) من القرطبي.
وقصبته: أمعاؤه.
وقيل في قتله: عن الحسن: حرقوه حرقا.
(2) في نسخة: أشياخه.
(3) في نسخة: محتاجين.
آمنت بالمسيح * فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الاشقري (1) عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون والسابق إلى عيسى صاحب يس والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب " (2) فإنه حديث لا يثبت لان حسينا هذا متروك وشيعي من الغلاة وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية والله أعلم.
قصة يونس قال الله تعالى في سورة يونس (فلولا كانت قرية آمنت فتفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) [ يونس: 98 ] وقال تعالى في سورة الانبياء (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) [ الانبياء: 87 - 88 ] وقال تعالى في سورة والصافات (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون.
فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين) [ الصافات: 139 - 148 ].
وقال تعالى في سورة نون (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) [ القلم: 47 - 50 ].
قال أهل التفسير بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى، من أرض الموصل، فدعاهم
إلى الله عزوجل فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث (3).
قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد من السلف والخلف فلما خرج من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والانابة وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا (4) إلى الله عزوجل وصرخوا وتضرعوا
__________
(1) في نسخة: الاشقر وفي أخرى: الاصفر وهو تحريف.
(2) رواه الطبراني في 3 / 111 / 2.
قال البخاري في الاشقري: ضعيف جدا.
وقال العقيلي: عن البخاري قال فيه: فيه نظر (الضعفاء 90).
(3) في تفسير الرازي بعد أربعين ليلة.
وعند القرطبي فكالاصل.
(4) عجوا: معناها هنا: تضرعوا.
إليه وتمسكنوا لديه وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والامهات (1) وجأرت الانعام والدواب والمواشي فرغت الابل وفصلانها وخارت البقر وأولادها وثغت الغنم وحملانها وكانت ساعة عظيمة هائلة فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم بسببه ودار على رؤسهم كقطع الليل المظلم ولهذا قال تعالى (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) أي هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها فدل على أنه لم يقع ذلك بل كما قال تعالى (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) [ سبأ: 34 ].
وقوله (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) [ يونس: 98 ] أي آمنوا بكمالهم.
وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا الايمان في الدار الآخرة فينقذهم من العذاب الاخروي كما أنقذهم من العذاب الدنيوي على قولين ; الاظهر من السياق نعم.
والله أعلم.
كما قال تعالى (لما آمنوا) وقال تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى
حين).
وهذا المتاع إلى حين لا يفني أن يكون معه غيره من رفع العذاب الاخروي والله أعلم.
وقد كانوا مائة ألف لا محالة واختلفوا في الزيادة فعن مكحول عشرة آلاف * وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية: حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) [ الصافات: 147 ] قال: " يزيدون عشرين ألفا فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث فاصلا في هذا الباب * وعن ابن عباس كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا وعنه وبضعة وثلاثين ألفا.
وعنه وبضعة وأربعين ألفا وقال سعيد بن جبير كانوا مائة ألف وسبعين ألفا.
واختلفوا هل كان ارساله إليهم قبل الحوت أو بعده أو هما أمتان على ثلاثة أقوال: هي مبسوطة في التفسير * والمقصود أنه عليه السلام لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ركب سفينة في البحر فلجت بهم واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون على ما ذكره المفسرون * قالوا فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتحفظوا منه.
فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس فلم يسمحوا به فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضا فشمر (2) ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه فأبوا عليه ذلك.
ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا لما يريده الله به من الامر العظيم.
قال الله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين.
إذ أبق إلى الفلك المشحون.
فساهم فكان من المدحضين.
فالتقمه الحوت وهو مليم) [ الصافات: 139 - 142 ].
وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في البحر وبعث الله عزوجل
__________
(1) في النسخ المطبوعة: الامهاب وهو تحريف.
(2) في نسخة: فتشمر.
حوتا عظيما من البحر الاخضر فالتقمه وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما فليس لك برزق فأخذه فطاف به البحار كلها وقيل إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه * قالوا ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي فخر لله ساجدا
وقال يا رب اتخذت لك مسجدا لم يعبدك أحد في مثله.
وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه.
فقال مجالد عن الشعبي التقمه ضحى ولفظه عشية * وقال قتادة مكث فيه ثلاثا وقال جعفر الصادق سبعة أيام ويشهد له شعر أمية بن أبي الصلت: وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد بات في أضعاف حوت لياليا وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك مكث في جوفه أربعين يوما والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه (1).
والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ويقتحم به لجج الموج الاجاجي (2) فسمع تسبيح الحيتان للرحمن وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ورب السموات السبع والارضين السبع وما بينها وما تحت الثرى * فعند ذلك وهنالك قال ما قال: بلسان الحال والمقال، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، سامع الاصوات وإن ضعفت وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات وإن عظمت، حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الامين، وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين (وذا النون إذ ذهب) إلى أهله (مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) [ الانبياء: 87 - 88 ] (فظن أن لن نقدر عليه) أن نضيق * وقيل معناه نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قدر وقدر كما قال الشاعر.
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى * تباركت ما يقدر يكن فلك الامر (3) (فنادى في الظلمات) قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والضحاك ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل وقال سالم بن أبي الجعد ابتلع الحوت حوت آخر فصار ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر (4).
وقوله تعالى (فلولا أنه
__________
(1) في القرطبي: قال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما.
الضحاك: عشرين يوما.
عطاء سبعة أيام.
مقاتل بن حبان: ثلاثة أيام وقيل ساعة واحدة.
15 / 123.
(2) الاجاجي: نسبة إلى الاجاج: الملح.
(3) في القرطبي: أنشد ثعلب: ولا عائد ذالك الزمان الذي مضى * تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر (4) قال الماوردي: انه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة.
كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) [ الصافات: 143 - 144 ] قيل معناه لولا أنه سبح الله هنالك وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة.
ولبعث من جوف ذلك الحوت.
هذا معنى ما روي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه.
وقيل معناه (فلولا أنه كان) من قبل أخذ الحوت له (من المسبحين) أي المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرا قاله الضحاك بن قيس وابن عباس وأبو العالية ووهب بن منبه وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وعطاء بن السائب والحسن البصري وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير ويشهد لهذا ما رواه الامام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: " يا غلام إني معلمك كلمات إحفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " (1) وروى ابن جرير في تفسيره والبزار في مسنده من حديث محمد بن اسحاق عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة [ قالت ] سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذ [ ه ] ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما [ فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر ] فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر * قال فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا [ ضعيفا ] بأرض غريبة، قال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر * قالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال: نعم * قال فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل " كما قال الله (وهو سقيم) هذا لفظ ابن
جرير إسنادا ومتنا (3) * ثم قال البزار لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الاسناد كذا قال.
وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن، أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه سمعت أنس بن مالك ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فأقبلت الدعوة تحن بالعرش فقالت الملائكة يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال أما تعرفون ذاك ؟ قالوا: يا رب ومن هو ؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة، قالوا: يا ربنا أولا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال: بلى، فأمر الحوت فطرحه في العراء * ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب به، زاد ابن أبي حاتم * قال: أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا احدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة قلنا يا أبا هريرة وما اليقطينة قال شجرة
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 293 - 307.
(2) ما بين معكوفين من الطبري 2 / 45.
الدباء قال أبو هريرة وهيأ الله له أروية (1) وحشية تأكل من خشاش (2) الارض أو قال هشاش الارض.
قال فتنفشخ (3) عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره: فأنبت يقطينا عليه برحمة * من الله لولا الله أصبح ضاويا وهذا غريب أيضا من هذا الوجه ويزيد الرقاشي ضعيف ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم كما يتقوى ذاك بهذا والله أعلم.
وقد قال الله تعالى (فنبذناه) أي القيناه (بالعراء) وهو المكان القفر الذي ليس فيه شئ من الاشجار بل هو عار منها (وهو سقيم) أي ضعيف البدن * قال ابن مسعود كهيئة الفرخ ليس عليه ريش * وقال ابن عباس والسدي وابن زيد كهيئة الضبي
حين يولد وهو المنفرش ليس عليه شئ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، قال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخرساني وغير واحد: هو القرع.
قال بعض العلماء في إنبات القرع عليه حكم جمة ; منها أن ورقه في غاية النعومة، وكثير وظليل، ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره، نيا ومطبوخا وبقشره وببزره أيضا.
وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك (4).
وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الاروية التي كانت ترضعه لبنها وترعى في البرية وتأتيه بكرة وعشية.
وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه ولهذا قال تعالى (فاستجبنا له فنجيناه من الغم) أي الكرب والضيق الذي كان فيه (وكذلك ننجي المؤمنين) أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا * قال ابن جرير حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا يحيى بن صالح حدثنا أبويحيى بن عبد الرحمن حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال سمعت سعد بن مالك وهو ابن أبي وقاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى " قال: فقلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: " هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها.
ألم تسمع قول الله تعالى: (فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) فهو شرط من الله لمن دعاه به ".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن حنطب قال: * قال أبو خالد: أحسبه
__________
(1) أروية: جمع أروى وهي أنثى الوعل الحيوان للجاحظ 3 / 498.
(2) خشاش: حشرات.
(3) في نسخة: فتفسح ; وفي الطبري: فتفسح.
(4) يحتوي اليقطين على الحديد والكلس، يستفاد منه في تناول بذوره لطرد الدودة الوحيدة من الامعاء.
عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من دعا بدعاء يونس أستجيب له " قال أبو سعيد الاشج يريد به (وكذلك ننجي المؤمنين) وهذان طريقان عن سعد.
وثالث أحسن منهما.
قال الامام أحمد حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا يونس بن أبي اسحق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد، حدثني والدي محمد، عن أبيه سعد، وهو ابن أبي وقاص قال مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه، فملا عينيه مني ثم لم يردد علي السلام، فأتيت عمر بن الخطاب، فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في السلام شئ قال: لا، وما ذاك قلت لا إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملا عينيه مني ثم لم يردد علي السلام قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه، فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام.
قال ما فعلت.
قال سعد: قلت: بلى حتى حلف وحلفت.
قال ثم إن عثمان ذكر فقال: بلى واستغفر الله وأتوب إليه أنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة قال سعد: فأنا أنبئك بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الارض فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذا أبو إسحق ؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله قال فمه قلت لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة.
ثم جاء هذا الاعرابي فشغلك.
قال نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شئ قط إلا استجاب له " (1) ورواه الترمذي والنسائي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد به.
فضل يونس قال الله تعالى (وإن يونس لمن المرسلين) وذكره تعالى في جملة الانبياء الكرام في سورتي النساء والانعام عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام * وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن الاعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " (2) ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري به * وقال البخاري
أيضا حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى ونسبه إلى أبيه " (3).
ورواه
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 170 والترمذي في جامعه 49 / 82 / 3505 وقال أبو عيسى: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن سعد ولم يذكر فيه عن أبيه.
(2) مسند أحمد ج 1 / 205 وأخرجه البخاري في صحيحه: فتح الباري 65 / 37 / 1 / 4804.
(3) صحيح البخاري (فتح الباري 65 / 46 / 4630) وأخرجه أحمد في المسند 1 / 242، 342 ومسلم في صحيحه
أحمد ومسلم وأبو داود من حديث شعبة به قال شعبة فيما حكاه أبو داود عنه: لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث هذا أحدها * وقد رواه الامام أحمد عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " (1) تفرد به أحمد.
ورواه الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا اسرائيل، عن أبي يحيى العتاب، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينبغي لاحد أن يقول أنا عند الله خير من يونس بن متى " إسناده جيد ولم يخرجوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " (2) وكذا رواه مسلم من حديث شعبة به وفي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن بن هرمز الاعرج عن أبي هريرة في قصة المسلم الذي لطم وجه اليهودي حين قال: لا والذي اصطفى موسى على العالمين (3).
قال البخاري في آخره: " ولا أقول إن أحدا خير من يونس بن متى " أي ليس لاحد أن يفضل نفسه على يونس * والقول الآخر لا ينبغي لاحد أن يفضلني على يونس بن متى كما قد ورد في بعض الاحاديث لا تفضلوني على الانبياء ولا على يونس بن متى * وهذا من باب الهضم والتواضع منه صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله
والمرسلين.
قصة موسى الكليم وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر (4) بن لاوى بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
قال تعالى (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا.
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا) [ مريم: 51 - 53 ] وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن * وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة مطولة وغير مطولة وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه من التفسير وسنورد سيرته ههنا من إبتدائها
__________
= 43 / 43 / 167 ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو داود السجستاني في سننه.
والبيهقي في الدلائل ج 5 / 495 وفيه: ونسبه إلى أمه بدل أبيه.
(1) مسند أحمد 1 / 291.
(2) صحيح البخاري ج 4631 ومسلم ح 166 (المرجع السابق) أحمد في مسنده 2 / 405.
(3) رواه أبو داود في سننه - كتاب السنة ح 4671 ص 4 / 217.
(4) سقط عازر من عمود نسب موسى عند الطبري وابن قتيبة في المعارف.
وزاد ابن قتيبة ولم يكن بين آل يعقوب وأيوب نبي حتى كان موسى.
إلى آخرها من الكتاب والسنة وما ورد في الاثار المنقولة من الاسرائيليات التي (1) ذكرها السلف وغيرهم إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان * قال الله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون.
إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين.
ونريد أن نمن على الذين أستضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.
ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [ القصص: 1 - 6 ] يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا فذكر أنه يتلو على نبيه خبر
موسى وفرعون بالحق أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للامر معاين له (إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا) أي تجبر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا وأعرض عن طاعة الرب الاعلى وجعل أهلها شيعا أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم وهم شعب بني إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الله وكانوا إذ ذاك خيار أهل الارض * وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأردأها وأدناها ومع هذا (يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين) [ القصص: 4 ] وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم، ما يأثرونه (2) عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه، وذلك والله أعلم حين كان جرى على سارة إمرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها * وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل فتحدث بها القبط فيما بينهم، ووصلت إلى فرعون، فذكرها له بعض أمرائه وأساورته، وهم يسمرون عنده، فأمر عن ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل، حذرا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر.
وذكر السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة (3) عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن نارا قد أقبلت من نحو (4) بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل * فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة، والحزأة، والسحرة، وسألهم عن ذلك فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء، يكون سبب هلاك
__________
(1) في نسخة: كما.
(2) يأثرونه يحفظونه.
(3) وهو مرة بن شراحيل الهمداني، أبو إسماعيل الكوفي ثقة عابد تقريب التهذيب 2 / 1007 ذكره ابن معين والعجلي في الثقات روى عن ابن مسعود وعمر الكاشف ج 3 / 116.
(4) في نسخة: من جهة بيت المقدس، وفي الطبري: من بيت المقدس.
أهل مصر.
على يديه فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان (1) ولهذا قال الله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض) [ القصص: 5 ] وهم بنو إسرائيل (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) أي الذين يؤل ملك مصر وبلادها إليهم (ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [ القصص: 6 ] أي سنجعل الضعيف قويا والمقهور قادرا والذليل عزيزا وقد جرى هذا كله لبني اسرائيل كما قال تعالى (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) [ الاعراف: 137 ] الآية * وقال تعالى (كم تركوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل) [ الشعراء: 57 - 59 ] سيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله.
والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالي ويعلمون ميقات وضعهن فلا تلد إمرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته * وعند أهل الكتاب أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان (2) لتضعف شوكة بني إسرائيل فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم.
وهذا فيه نظر بل هو باطل وإنما هذا في الامر بقتل الولدان بعد بعثة موسى كما قال تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولا حذرا من وجود موسى.
هذا والقدر يقول يا أيها ذا (3) الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه وإتساع سلطانه قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف أقداره إن هذا المولود الذي تحترز منه وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا بعد ولا يحصى لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك وأنت الذي تتبناه وتربية وتتعداه ولا تطلع على سر معناه ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين تكذيبك ما أوحى إليه لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السموات والارض هو
الفعال لما يريد وأنه هو القوي الشديد ذو البأس العظيم والحول والقوة والمشيئة التي لا مرد لها.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور وخشي أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون فأمر فرعون بقتل الابناء عاما وأن يتركوا عاما فذكروا أن هرون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الابناء وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم فضاقت أمه به ذرعا
__________
(1) رواه الطبري (ج 1 / 200 القاموس الحديث).
(2) في نسخة: كان يقتل الغلمان أولا.
(3) في نسخة: يا أيها.
واحترزت من أول ما حبلت ولم يكن يظهر عليها مخائيل الحبل.
فلما وضعت الهمت أن اتخذت له تابوتا فربطته في حبل وكانت دارهما متاخمة للنيل فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها فإذا ذهبوا استرجعته إليها به (1).
قال الله تعالى (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين.
وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون) [ القصص: 7 - 9 ] هذا الوحي وحي إلهام وإرشاد كما قال تعالى (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا الآية) [ النحل: 68 - 69 ] وليس هو بوحي نبوة كما زعمه ابن حزم وغير واحد من المتكلمين بل الصحيح الاول كما حكاه أبو الحسن الاشعري عن أهل السنة والجماعة.
قال السهيلي واسم أم موسى أيارخا.
وقيل أياذخت (2) * والمقصود أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه وألقى في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني، فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك.
وإن الله سيجعله نبيا مرسلا، يعلي كلمته في الدنيا والآخرة، فكانت تصنع ما أمرت به فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط في طرف الحبل عندها فذهب مع النيل فمر على دار فرعون (فالتقطه آل فرعون) قال الله تعالى (ليكون لهم عدوا وحزنا) قال بعضهم: هذه لام العاقبة، وهو ظاهر إن كان متعلقا بقوله فالتقطه * وأما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام، وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ليكون لهم عدوا وحزنا، صارت اللام معللة كغيرها، والله أعلم * ويقوى هذا التقدير الثاني قوله (إن فرعون وهامان) [ القصص: 8 ] وهو الوزير السوء (وجنودهما) المتابعين لهما (كانوا خاطئين) أي كانوا على خلاف الصواب، فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة.
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرن على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف * وقيل إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى * وقيل بل كانت عمته، حكاه السهيلي فالله أعلم.
وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصة مريم بنت عمران وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج
__________
(1) انظر تاريخ الطبري 1 / 200.
(2) في الطبري: يوخابد وقيل كان اسمها أناحيد ; وفي القرطبي: لوخا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب.
وفي المعارف لابن قتيبة: أباحثة، وفي التوراة اسمها: يوخابث بنت لاوى بن يعقوب.
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة * فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلالا بتلك الانوار النبوية، والجلالة الموسوية، فلما رأته، ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا جدا * فلما جاء فرعون قال ما هذا وأمر بذبحه فاستوهبته منه ودفعت عنه (وقالت قرة عين لي ولك) فقال لها فرعون أما لك فنعم وأما لي فلا أي لا حاجة لي به والبلاء موكل بالمنطق.
وقولها (عسى أن ينفعنا) [ القصص: 9 ] وقد أنالها الله ما رجت من النفع أما في الدنيا فهداها الله به وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه (أو تتخذه ولدا) وذلك أنهما تبنياه لانه لم يكن يولد لهما ولد.
قال الله تعالى
(وهم لا يشعرون) أي لا يدرون ماذا يريد الله بهم حين قيضهم (1) لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده [ وعند أهل الكتاب: أن التي التقطت موسى " دربتة " إبنة فرعون، وليس لامرأته ذكر بالكلية، وهذا من غلطهم على كتاب الله عزوجل ] (2) (وأصبح فؤاد آم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لاخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) [ القصص: 10 - 13 ] قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم (وأصبح فؤاد أم موسى فأرغا) أي من كل شئ من أمور الدنيا إلا من موسى إن كادت لتبدي به أي لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة (لولا أن ربطنا على قلبها) أي صبرناها وثبتناها (لتكون من المؤمنين) وقالت لاخته وهي ابنتها الكبيرة (3) قصيه أي اتبعي أثره واطلبي له خبره فبصرت به عن جنب * قال مجاهد عن بعد * وقال قتادة جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده * ولهذا قال (وهم لا يشعرون) وذلك لان موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما فحاروا في أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل.
كما قال تعالى (وحرمنا عليه المراضع من قبل) فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق لعل يجدون من يوافق رضاعته فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته فلم تظهر أنها تعرفه بل قالت (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) * قال ابن عباس لما قالت ذلك قالوا لها ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه فقالت رغبة في صهر الملك ورجاء منفعته فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها وأن تحسن إليها فأبت عليها وقالت إن لي بعلا وأولادا ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي فأرسلته معها ورتبت لها رواتب وأجرت عليها
__________
(1) في النسخ المطبوعة: أن قيضهم وهو تحريف.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
واستدركت من قصص الانبياء لابن كثير.
(3) جاء في تفسير القرطبي: اسمها: مريم بنت عمران ; وقال الضحاك: كلثمة.
وقال السهيلي: كلثوم.
النفقات والكساوى والهبات فرجعت به تحوزه إلى رحلها وقد جمع الله شمله بشملها.
قال الله تعالى (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق) أي كما وعدناها برده ورسالته فهذا رده وهو دليل على صدق البشارة برسالته (ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقد امتن الله على موسى بهذا ليلة كلمه فقال هل فيما قال له (ولقد متنا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني) [ طه: 37 - 39 ] [ وذلك أنه كان لا يراه أحد إلا أحبه ] (1) (ولتصنع على عيني) إذ قال قتادة وغير واحد من السلف أي تطعم وترفه وتغذي بأطيب المآكل وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظي وكلائتي لك فيما صنعت بك لك وقدرته من الامور التي لا يقدر عليها غيري (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرددناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) [ طه: 40 ] وسنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
(ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين.
ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) [ القصص: 14 - 17 ] لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك وإمتنانه عليها شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى هو إحتكام الخلق والخلق وهو سن الاربعين في قول الاكثرين آتاه الله حكما وعلما وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه حين قال (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر
وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك حتى كمل الاجل وانقضى الامد وكان ما كان من كلام الله له وإكرامه بما أكرمه به كما سيأتي.
قال تعالى (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي وذلك نصف النهار * وعن ابن عباس بين العشائين (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يتضاربان ويتهاوشان (هذا من شيعته) أي إسرائيلي (وهذا من عدوه) أي قبطي.
قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاها وارتفعت رؤوسهم بسبب أنهم أرضعوه وهم أخواله أي من الرضاعة فلما استغاث ذلك الاسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي أقبل إليه موسى (فوكزه) * قال مجاهد أي طعنه بجمع كفه *
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة واستدركت من قصص الانبياء لابن كثير.
وقال قتادة بعصا كانت معه (فقضى عليه) أي فمات منها * وقد كان ذلك القبطي كافرا مشركا بالله العظيم ولم يرد موسى قتله بالكلية وإنما أزاد زجره وردعه مع هذا (قال) موسى (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم.
قال رب بما أنعمت علي) أي من العز والجاه (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) (فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين.
فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى.
أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين.
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) [ القصص: 18 - 21 ] يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفا - أي من فرعون وملائه - أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل فتقوى ظنونهم أن موسى
منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم (خائفا يترقب) أي يلتفت فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الاسرائيلي الذي استنصره بالامس يستصرخه أي يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته قال له (إنك لغوي مبين) * ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدو لموسى وللاسرائيلي فيردعه عنه ويخلصه منه فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد الا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين) قل بعضهم إنما قال هذا الكلام الاسرائيلي الذي إطلع على ما كان صنع موسى بالامس وكأنه لما رأى موسى مقبلا إلى القبطي إعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله إنك لغوي مبين فقال ما قال لموسى وأظهر الامر الذي كان وقع بالامس فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون.
وهذا الذي لم يذكر كثير من الناس سواه.
ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي وأنه لما رآه مقبلا إليه خافه ورأى من سجيته إنتصارا جيدا للاسرائيلي فقال ما قال من باب الظن والفراسة إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالامس أو لعله فهم من كلام الاسرائيلي حين أستصرخه عليه ما دله على هذا والله أعلم.
والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالامس فأرسل في طلبه وسبقهم رجل ناصح عن طريق أقرب (وجاء رجل من أقصى المدينة) ساعيا إليه مشفقا عليه (1) فقال (يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) أي من هذه البلدة (إني لك من الناصحين) أي فيما أقوله لك قال الله تعالى (فخرج منها خائفا يترقب) أي فخرج من مدينة مصر من فوره
__________
(1) قال في تفسير القرطبي: قال أكثر أهل التفسير: هذا الرجل هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون.
على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه قائلا (رب نجني من القوم الظالمين.
ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير
فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) [ القصص: 21 - 24 ].
يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفا يترقب أي يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون وهو لا يدري أين يتوجه ولا إلى أين يذهب وذلك لانه لم يخرج من مصر قبلها (ولما توجه تلقاء مدين) أي اتجه له طريق يذهب فيه (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).
أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود * وكذا وقع أو صلته إلى مقصود وأي مقصود (ولما ورد ماء مدين) وكانت بئرا يستقون منها * ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الايكة وهم قوم شعيب عليه السلام * وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قول العلماء * (ولما ورد الماء) المذكور (وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي تكفكفان [ عنهما ] غنمهما أن تختلط بغنم الناس * وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات.
وهذا أيضا من الغلط وكأنه كن سبعا ولكن إنما كان تسقى إثنتان منهن.
وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك محفوظا وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتان (قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) أي لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء (1) لضعفنا وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره قال الله تعالى (فسقى لهما).
قال المفسرون وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجئ هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده.
ثم استقى لهما وسقى غنمهما ثم رد الحجر كما كان * قال أمير المؤمنين عمر وكان لا يرفعه إلا عشرة [ رجال ] وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما.
ثم تولى إلى الظل قالوا وكان ظل شجرة من السمر (2) * روى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف (قال رب إني لما أنزلت الي من خير فقير) قال ابن عباس سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع وإن خضرة البقل لترى من داخل (3) جوفه وأنه لمحتاج إلى شق تمرة * قال عطاء بن السائب لما (قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) اسمع المرأة (فجاءته إحداهما
__________
(1) الرعاء: جمع راع.
(2) السمر: جمع السمرة وهي شجرة صغيرة الورق، قصيرة الشوك، لها برمة صفراء يأكلها الناس.
(3) معنى العبارة ركيك وغير مقبول عقليا ; وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس: - ولعله أقرب للواقع - وكان قد بلغ به الجوع، واخضر لونه من أكل البقل في بطنه.
تمشي على استحياء قالت ان أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
قالت إحداهما يا أبت إستأجره إن خير من إستأجرت القوي الامين.
قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين.
قال ذلك بيني وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل) [ القصص: 25 - 28 ] لما جلس موسى عليه السلام في الظل و (قال رب إني لما أنزلت الي من خير فقير) سمعته المرأتان (1) فيما قيل فذهبتا إلى ابيهما فيقال إنه استنكر سرعة رجوعهما فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه فجاءته إحداهما تمشي على استحياء أي مشى الحراير قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا * صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة.
وهذا من تمام حيائها وصيانتها، فلما جاءه وقص عليه القصص وأخبره خبره وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها (قال له) ذلك الشيخ (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) أي خرجت من سلطاتهم فلست في دولتهم.
وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو فقيل هو شعيب عليه السلام.
وهذا هو المشهور عند كثيرين وممن نص عليه الحسن البصري ومالك بن أنس.
وجاء مصرحا به في حديث ولكن في إسناده نظر وصرح طائفة بأن شعيبا عليه السلام عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوج بابنته.
وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري أن صاحب موسى عليه السلام هذا إسمه شعيب وكان سيد الماء ولكن ليس يالنبي صاحب مدين * وقيل إنه
ابن أخي شعيب * وقيل ابن عمه * وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب * وقيل رجل إسمه يثرون هكذا هو في كتب أهل الكتاب يثرون كاهن مدين أي كبيرها وعالمها * قال ابن عباس وأبو عبيدة بن عبد الله إسمه يثرون.
زاد أبو عبيدة وهو ابن أخي شعيب.
زاد ابن عباس صاحب مدين.
والمقصود أنه لما أضافه وأكرم مثواه وقص عليه ما كان من أمره بشره بأنه قد نجا فعند ذلك قالت إحدى البنتين لابيها (يأ أبت إستأجره) أي لرعي (2) غنمك ثم مدحته بأنه قوي أمين قال عمرو بن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحق وغير واحد لما قالت ذلك قال لها أبوها وما علمك بهذا ؟ فقالت إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة، وأنه لما جئت معه
__________
(1) قيل إحداهما: ليا.
والاخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون هو شعيب عليه السلام وقيل غير ذلك.
(2) إشارة إلى مشروعية نظام الاجارة، وانها كانت عندهم في نظام حياتهم الاقتصادية، وإشارة إلى انها ضرورة للخليقة ومصلحة التعامل بين الناس.
تقدمت أمامه فقال كوني من ورائي فإذا اختلف الطريق فأخذ في لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق (1) قال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: صاحب يوسف حين قال لامرأته أكرمي مثواه، وصاحبة موسى حين قالت يا أبت إستأجره إن خير من إستأجرت القوي الامين * وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) [ القصص: 27 ] استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك أنه يصح لقوله إحدى ابنتي هاتين * وفي هذا نظر لان هذه مراوضة لا معاقدة والله أعلم.
واستدل أصحاب أحمد على صحة الايجار بالطعمة والكسوة كما جرت به العادة وأستأنسوا
بالحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه مترجما [ عليه ] (2) في كتابه " باب إستئجار الاجير على طعام بطنه " حدثنا محمد بن المصفي الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن مسلمة بن علي، عن سعيد بن أبي أيوب، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن الدر (3) يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طس حتى إذا بلغ قصة موسى قال: " إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه " (4) وهذا من هذا الوجه لا يصح لان مسلمة بن على الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف عند الائمة لا يحتج بتفرده ولكن قد روى من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكر، حدثني أبن لهيعة وحدثنا أبورزعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي، قال سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله قال: " إن موسى عليه السلام آجر نفسه لعفة
__________
(1) إشارة إلى خلق موسى وتحرجه من النظر إلى ادبار النساء.
قال في تفسير القرطبي: فهبت ريح ضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرج موسى من النظر إليها ; فقال ارجعي وأرشديني إلى الطريق بصوتك..ودليني على الطريق يمينا ويسارا.
وكان هذا سبب وصفها له بالامانة.
(2) سقطت من النسخ المطبوعة.
(3) الدر تحريف، وفي ابن ماجة الندر.
(4) سنن ابن ماجة في: 16 / 5 / 2444.
وفيه: أو عشرا في إسناده ضعف لان فيه بقية (الزاوئد) بقية بن الوليد الحمصي المحدث المشهور قال أحمد: له مناكير وقال ابن حجر: كان كثيرا لتدليس عن الضعفاء والمجهولين.
- مسلم بن علي الخشني الشامي قال فيه البخاري: منكر الحديث وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة - الضعفاء والمتروكين (70) تقريب التهذيب (1 / 107) ميزان الاعتدال (109 / 4).
فرجه وطعمة بطنه " * ثم قال تعالى (ذلك بيني وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان علي والله
على ما نقول وكيل) [ القصص: 28 ] يقول إن موسى قال لصهره الامر على ما قلت فأيهما قضيت فلا عدوان علي والله على مقالتنا سامع ومشاهد، ووكيل علي وعليك ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الاجلين وأتمهما وهو العشر سنين كوامل تامة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الافطس (1)، عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الاجلين قضى موسى ؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل.
تفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد رواه النسائي في حديث الفتون، كما سيأتي من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير.
وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي وابن أبي حاتم عن أبيه كلاهما عن الحميدي (2) عن سفيان بن عيينة، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سألت جبريل أي الاجلين قضى موسى قال أتمهما وأكملهما (3) * وإبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث.
وقد رواه البزار، عن أحمد بن أبان القرشي، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقد رواه سنيد، عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مرسلا أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل فسأل جبريل إسرافيل فسأل إسرافيل الرب عزوجل فقال: أبرهما وأوفاهما.
وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرح مرسلا ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الاجلين قضى موسى قال: " أوفاهما وأتمهما ".
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران الجوني وهو ضعيف عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الاجلين قضى موسى قال: " أوفاهما وأبرهما " قال: " وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما ".
وقد رواه البزار وابن أبي
__________
(1) سالم الافطس وهو ابن عجلان الجزري ; أبو محمد الحراني قال ابن حجر: شامي ثقة ليس له في الصحيح سوى حديثين: هذا الحديث وآخر في الطب.
فتح الباري 52 / 28 / 2684 من السادسة قتل صبرا سنة اثنين
وثلاثين / تقريب التهذيب 1 / 281.
(2) الحميدي: عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي المكي، أبو بكر ثقة حافظ فقيه.
قال الحاكم كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره تقريب التهذيب أحد الاعلام.
قال الفسوي: ما لقيت أنصح للاسلام وأهله منه مات سنة 219 تقريب التهذيب 1 / 415 الكاشف للذهبي 2 / 77.
(2) تاريخ الطبري: 1 / 206.
حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح عن عتبة بن الندر أن رسول الله قال: " إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام بطنه " * فلما وفى الاجل قيل يا رسول الله أي الاجلين قال: " أبرهما وأوفاهما " * فلما أراد فراق شعيب سأل إمرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون (1) من ولد ذلك العام وكانت غنمه سودا حسانا فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها * ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال فأتمئت وآنثت (2) ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كموش تفوت الكف قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أقتحمتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية ".
قال ابن لهيعة الفشوش: واسعة الشخب (3)، والضبوب ; طويلة الضرع تجره، والعزوز: ضيقة الشخب (4)، والثعول: الصغيرة الضرع كالحلمتين، والكموش: التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره، وفي صحة رفع هذا الحديث نظر * وقد يكون موقوفا كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك قال: لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الاجل الذي كان بينهما قال له صاحبه كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها فعمد فوضع خيالا على الماء فلما رأت الخيال (5) فزعت فجالت جولة فولدن كلهن بلقا إلا شاة واحدة فذهب بأولادهن [ كلهن ] (6) ذلك
العام وهذا إسناد [ جيد ] (6) رجاله ثقات والله أعلم.
وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام فالله أعلم.
[ قال الله تعالى ] (6).
(فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لاهله أمكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون.
فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الايمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين.
وأن ألق عصاك
__________
(1) أي على غير لون أمها.
(2) في نسخة فأغنت وانثت.
وفي أخرى اتأمت وألبنت.
اتمئت: ولدت توأما.
انثت: ولدت انثى.
وألبنت: أي كثر لبنها.
(3) الشخب: اللبن الذي ينزل، والمقصود انها تشخب كثيرا عند حلبها في المرة الواحدة.
(4) أي تحلب حلبا قصيرا.
(5) في نسخة: في الموضعين: الحبال.
(6) ما بين معكوفين سقطت من النسخ المطبوعة.
فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين.
أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين) [ القصص: 29 - 32 ].
تقدم أن موسى قضى أتم الاجلين وأكملهما وقد يؤحذ هذا من قوله (فلما قضى موسى الاجل) وعن مجاهد أنه أكمل عشرا وعشرا بعدها.
وقوله (وسار بأهله) أي من عند صهره زاعما (1) فيما ذكره غير واحد من المفسرين - وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة وتاهوا في
طريقهم فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف وجعل يوري زناده فلا يرى (2) شيئا واشتد الظلام والبرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور وهو الجبل الغربي منه عن يمينه، فقال لاهله: امكثوا إني آنست نارا وكأنه، - والله أعلم - رآها دونهم لان هذه النار هي نور في الحقيقة ولا يصلح رؤيتها لكل أحد (لعلي آتيكم منها بخبر) أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق (أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة لقوله في الآية الاخرى (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) [ طه: 9 - 10 ] فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق * وجمع الكل في سورة النمل في قوله (إذ قال موسى لاهله إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) [ النمل: 7 ].
وقد أتاهم منها بخبر وأي خبر ووجد عندها هدى وأي هدى واقتبس منها نورا وأي نور.
قال الله تعالى (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الايمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) [ القصص: 30 ].
وقال في النمل (فلما جاءها نودى أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) [ النمل: 8 ] أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) [ النمل: 9 ] وقال في سورة طه (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى.
وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) [ طه: 11 - 16 ].
قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها فانتهى إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج (3) وكل ما لتلك النار في اضطرام وكل ما لخضرة تلك الشجرة
__________
(1) في نسخة ذاهبا وما أثبتناه مناسب أكثر.
(2) في النسخ المطبوعة: فلا يورى وما أثبتناه مناسب للسياق.
وفي تفسير القرطبي عن وهب بن منبه: فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا.
(3) العوسج: الشوك.
في ازدياد فوقف متعجبا وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه كما قال تعالى (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين) [ القصص: 44 ] وكان موسى في واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب فناداه ربه بالواد المقدس طوى فأمر أولا بخلع نعليه تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ولا سيما في تلك الليلة المباركة.
وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور مهابة له وخوفا على بصره ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له (إني أنا الله رب العالمين) [ القصص: 30 ] (إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) [ طه: 14 ] أي أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له.
ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار وإنما الدار الباقية يوم القيامة التي لا بد من كونها ووجودها (لتجزى كل نفس بما تسعى) [ طه: 15 ] أي من خير وشر.
وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ومبينا له أنه القادر على كل شئ الذي يقول للشئ كن فيكون.
(وما تلك بيمينك يا موسى) [ طه: 17 ] أي أما هذه عصاك التي نعرفها منذ صحبتها (قال هي عصاي أتؤكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) [ طه: 18 ] أي بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها (قال القها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى) [ طه: 19 - 20 ].
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه [ هو الذي ] يقول للشئ كن فيكون وأنه الفعال بالاختيار.
وعند أهل الكتاب أنه سأل برهانا [ صادقا ] (1) على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر فقال له الرب عزوجل ما هذه التي في يدك قال عصاي قال القها إلى الارض (فألقاها فإذا هي حية تسعى) [ طه: 20 ] فهرب موسى من قدامها فأمره الرب عزوجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها
فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده.
وقد قال الله تعالى في الآية الاخرى (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) [ النمل: 10 ] أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك (2) وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات * يقال الجان والجنان وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جدا فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى عليه السلام (ولى مدبرا) أي هاربا منها لان طبيعته البشرية تقتضي ذلك (ولم يعقب) أي ولم يلتفت (3) (فناداه ربه) قائلا (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين)
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) في نسخة: تصطك.
(3) في تفسير القرطبي: عن مجاهد: لم يرجع.
[ القصص: 21 ] فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها.
(قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى) [ طه: 21 ] فيقال إنه هابها شديدا فوضع يده في كم مدرعته ثم وضع يده في وسط فمها * وعند أهل الكتاب بذنبها فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين (1) فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين ثم أمره تعال بإدخال يده في جيبه.
ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء أي من غير برص ولا بهق.
ولهذا قال (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب) [ القصص: 32 ] قيل معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك.
وهذا وإن كان خاصا به إلا أن بركة الايمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالانبياء وقال في سورة النمل (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين) [ النمل: 12 ] أي هاتان الآيتان وهما العصا واليد وهما البرهانان المشار إليهما في قوله (فذلك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين) [ القصص: 32 ] ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة
سبحان حيث يقول تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذا جاءهم فقال له فرعون إني لاظنك يا موسى مسحورا.
قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لاظنك يا فرعون مثبورا) [ الاسراء: 101 - 102 ] وهي المبسوطة في سورة الاعراف في قوله (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين.
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) [ الاعراف: 130 - 133 ] كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات فإن التسع من كلمات الله القدرية والعشرة من كلماته الشرعية وإنما نبهنا على هذا لانه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة فظن أن هذه هي هذه كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل.
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون (قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون.
وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردأ يصدقني إني أخاف أن يكذبون.
قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) [ القصص: 33 - 35 ].
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام في جوابه لربه عزوجل حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر
__________
1) في الطبري عن وهب بن منبه: ذات شعبتين في رأسها ومحجن في طرفها.
2) في تفسير الرازي: قال العزيزي في غريب القرآن: اسلك يدك في جيبك: أدخلها فيه.
فرارا من سطوته وظلمه حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا (قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون.
وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردأ يصدقني إني أخاف أن يكذبون).
أي اجعله معي معينا وردأ ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم
فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا * قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا) أي برهانا (فلا يصلون إليكما) أي فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا.
وقيل ببركة آياتنا (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال في سورة طه (اذهب إلى فرعون انه طغى.
قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) [ طه: 24 - 28 ] قيل إنه أصابه في لسانه لثغة بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه التي كان فرعون أراد إختبار عقله حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله فخافت عليه آسية وقالت إنه طفل فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ولم يسأل زوالها بالكلية.
قال الحسن البصري والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ولهذا بقيت في لسانه بقية ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم أنه يعيب به الكليم (ولا يكاد يبين) [ الزخرف: 52 ] أي يفصح عن مراده ويعبر عما في ضميره وفؤاده * ثم قال موسى عليه السلام (واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) [ طه: 32 - 36 ] أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت وأعطيناك الذي طلبت وهذا من وجاهته عند ربه عزوجل حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم قال الله تعالى (وكان عند الله وجيها) [ الاحزاب: 69 ] وقال تعالى (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا) [ مريم: 53 ] وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لاناس وهم سائرون طريق الحج (أي أخ أمن على أخيه) فسكت القوم فقالت عائشة لمن حول هودجها هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هرون فأوحى إليه قال الله تعالى (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا) قال تعالى في سورة الشعراء (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون.
قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون.
قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم
مستمعون.
فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا نبي إسرائيل.
قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) [ الشعراء: 10 - 19 ] تقدير الكلام فأتياه فقالا له ذلك وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته وتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤا ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه فتكبر فرعون في نفسه وعتا
وطغى ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلا له (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) [ الشعراء: 18 ] أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر (1) وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين وأن الذي بعث إليه فرعون آخر.
وقوله (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) [ الشعراء ; 19 ] أي وقتلت الرجل القبطي وفررت منا وجحدت نعمتنا (2) (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين) [ الشعراء: 20 ] أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي (ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين) [ الشعراء: 21 ] ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية والاحسان إليه (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) [ الشعراء: 22 ] أي وهذه النعمة التي ذكرت من أنك أحسنت إلي وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله واستعبدتهم في أعمالك وخدمك وأشغالك (قال فرعون وما رب العالمين.
قال رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين.
قال لمن حوله ألا تستمعون.
قال ربكم ورب آبائكم الاولين.
قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.
قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) [ الشعراء: 23 - 28 ].
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقيلة المعنوية ثم الحسية.
وذلك أن فرعون قبحه الله أظهر جحد
الصانع تبارك وتعالى.
وزعم أنه الاله (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى) [ النازعات: 23 - 24 ] (وقال يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري) [ القصص: 38 ].
وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب وأن الله هو الخالق البارئ المصور الاله الحق كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كانت عاقبة المفسدين) [ النمل: 14 ] ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الانكار لرسالته والاظهار أنه ماثم رب أرسله (وما رب العالمين) [ الشعراء: 23 ] لانهما قالا له (إنا رسول رب العالمين) [ الشعراء: 16 ] فكأنه يقول لهما ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابعتثكما فأجابه موسى قائلا (رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين) [ الشعراء 24 ] يعني رب العالمين خالق هذه السموات والارض المشاهدة وما بينهما من المخلوقات المتعددة (3) من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ولا بد لها من موجد
__________
(1) كان بين خروج موسى حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر القرطبي 13 / 95.
(2) نعمتنا: أي نعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والاحسان إليك.
(3) في النسخ المطبوعة " المتجددة " وما أثبتناه مناسب للمعنى.
ومحدث وخالق.
وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين.
(قال) أي فرعون لمن حوله من أمرائه ومرازبته ووزرائه على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام ألا تسمعون يعني كلامه هذا قال موسى مخاطبا له ولهم (ربكم ورب آبائكم الاولين) [ الشعراء: 26 ] أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والاجداد والقرون السالفة في الآباد فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ولم يحدث من غير محدث وإنما أوجده وخلقه رب العالمين.
وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) [ فصلت: 53 ] ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.
قال رب المشرق
والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) [ الشعراء: 27 - 28 ] أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة (1).
المسير للافلاك الدائرة.
خالق الظلام والضياء.
ورب الارض والسماء رب الاولين والآخرين خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة والثوابت الحائرة خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون وفلك يسبحون يتعاقبون في سائر الاوقات ويدورون فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء.
فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته (2) (قال لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين.
قال أولو جئتك بشئ مبين.
قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) [ الشعراء: 29 - 33 ] وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما وهما العصا واليد.
وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم الذي بهر به العقول والابصار حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين.
أي عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول والمنظر العظيم الفظيع الباهر حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد (3) وخوف عظيم بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال * وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورا يبهر الابصار فإذا أعادها إلى جيبه [ واستخرجها ] (4) رجعت إلى صفتها الاولى.
ومع هذا كله لم ينتفع
__________
(1) في نسخة: المنيرة.
وفي أخرى: النيرة: (2) قطع فرعون المحاورة مع موسى، لما انقطعت عنده الحجة ; ولم يقل له ما دليلك على أن هذا الاله أرسلك لان فيه الاعتراف بأن ثم إلها آخر غيره ; فتوعده بالسجن، وفي ذلك ضعف منه وتراجع ; ولم يخفه موسى بل كان في منتهى اللطف به والطمع في إيمانه قال: أولو جئتك بشئ مبين.
لكنه كما قال مالك: دعاه إلى الاسلام أربعين سنة.
(3) في نسخة: أخذته رجفة شديدة.
وفي أخرى: أخذه رعبه.
(4) سقطت من النسخ المطبوعة.
فرعون - لعنه الله - بشئ من ذلك بل استمر على ما هو عليه، وأظهر أن هذا كله سحر، وأراد معارضته بالسحرة، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن [ هم ] (1) في رعيته وتحت قهره ودولته، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه، وأهل دولته وملته، ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى في سورة طه (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) [ طه: 40 - 46 ].
يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه، وأنعم بالنبوة عليه، وكلمه منه إليه: قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري فلبثت فيها سنين (ثم جئت على قدر) أي مني لذلك، فوافق ذلك تقديري وتسييري (واصطنعتك لنفسي) أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) [ طه: 45 ] يعني ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ووفدتما إليه (2) فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته وإهداء (3) النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه.
وقد جاء في بعض الاحاديث يقول الله تعالى " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه " (4) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا الآية) [ الانفال: 45 ] ثم قال تعالى (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) [ طه: 43 ] وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى كما قال لرسوله (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) في نسخة: عليه.
(3) في نسخة: وأداء.
(4) الحديث أخرجه الترمذي في 49 كتاب الدعوات 119 باب ح 3580 عن الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان عن أبي دوس اليحصبي عن ابن عائذ اليحصبي عن عمارة بن زعكرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم..وفيه زيادة (يعني عند القتال).
وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ليس اسناده بالقوي.
وعفير: ضعيف.
قال ابن أبي حاتم: لا يشتغل به / تقريب التهذيب 2 / 25