كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

أفشت سره فهرب من أجل ذلك، وأطلق سراح الاخرى، فأقامت تعبد الله في بعض نواحي تلك المدينة، فمر بها رجل يوما فسمعته يقول بسم الله فقالت له: أنى لك هذا الاسم فقال إني من أصحاب الخضر فتزوجته فولدت له أولادا.
ثم صار من أمرها ماشطة بنت فرعون فبينما هي تمشطها إذ وقع المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت إبنة فرعون: أبي ؟ فقالت: لا ربي وربك ورب أبيك الله فأعلمت أباها فأمر بنقرة من نحاس، فأحميت ثم أمر بها فألقيت فيه، فلما عاينت ذلك تقاعست أن تقع فيها فقال لها ابن معها صغير يا أمه أصبري فإنك على الحق فألقت نفسها في النار فماتت رحمها الله.
وقد روى ابن عساكر عن أبي داود الاعمى نفيع وهو كذاب وضاع عن أنس بن مالك، ومن طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو كذاب أيضا عن
أبيه عن جده أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقول: " اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه فبعث إليه رسول الله أنس بن مالك فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: قل له: إن الله فضلك على الانبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور وفضل أمتك على الامم كما فضل يوم الجمعة على غيره.
الحديث (1) وهو مكذوب لا يصح سندا ولا متنا كيف لا يتمثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجئ بنفسه مسلما ومتعلما وهم يذكرون في حكاياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم أن الخضر يأتي إليهم ويسلم عليهم ويعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه حتى يتعرف إليه بأنه موسى بني إسرائيل.
وقد قال الحافظ أبو الحسين بن المنادي بعد إيراده حديث أنس هذا وأهل الحديث متفقون على أنه حديث منكر الاسناد، سقيم المتن يتبين فيه أثر الصنعة.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي (2) قائلا: أخبرنا أبو عبد الله
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل ج 5 / 423 ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد فسمع كلاما من زاوية وإذا هو بقائل يقول: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: ألا تضم إليها أختها ؟ فقال: اللهم ارزقني شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه.
قال رسول الله لانس بن مالك وكان معه: اذهب يا أنس فقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي ; فجاء أنس فبلغه فقال له الرجل: يا أنس أنت رسول الله إلي ؟ فقال كما انت فرجع فاستثبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل له: نعم فقال: نعم فقال له: اذهب فقل له فضلك الله..الحديث.
وتمامه على سائر الايام فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر عليه السلام.
رواه ابن عدي عن كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف، عن أبيه عن جده، ورواه الطبراني في الاوسط واورده جلال الدين السيوطي في اللالئ المصنوعة 1 / 164 وختمه بقوله: عبد الله بن نافع ليس بشئ متروك.
وفي المجروحين 2 / 221 كثير هذا: منكر الحديث جدا.
وقال الشافعي عنه: ركن من أركان الكذب.
(2) دلائل النبوة ج 7 / 269 وفيه عباد بن عبد الصمد ابن معمر البصري.

الحافظ، [ قال ] أخبرنا أبو بكر بن بالويه، [ قال ] حدثنا محمد بن بشر بن مطر، [ قال ] حدثنا كامل بن طلحة، [ قال ] حدثنا عباد بن عبد الصمد، عن أنس بن مالك قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه، فبكوا حوله، واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم، فبكى ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فانيبوا وإليه فارغبوا، ونظر إليكم في البلاء فانظروا فإن المصاب من لم يجبر وانصرف فقال بعضهم لبعض، تعرفون الرجل ؟ فقال أبو بكر وعلي نعم هو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام.
وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن كامل بن طلحة بن وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي ثم قال البيهقي: عباد بن عبد الصمد ضعيف، وهذا منكر بمرة.
قلت: عباد بن عبد الصمد هذا هو ابن معمر البصري.
روى عن أنس نسخة قال ابن حبان والعقيلي أكثرها موضوع.
وقال البخاري منكر الحديث.
وقال أبو حاتم ضعيف الحديث جدا منكره.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه في فضائل علي وهو ضعيف غال في التشيع وقال الشافعي في مسنده: أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده علي بن الحسين قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.
قال علي بن الحسين أتدرون من هذا.
هذا الخضر.
شيخ الشافعي القاسم العمري متروك.
قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يكذب.
زاد أحمد ويضع الحديث ثم هو مرسل ومثله لا يعتمد عليه ههنا والله أعلم.
وقد روي من وجه آخر ضعيف عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده، عن أبيه عن علي.
ولا يصح.
وقد روى عبد الله بن وهب عمن حدثه، عن محمد بن عجلان، عن محمد بن المنكدر، أن عمر بن الخطاب بينما هو يصلي على جنازة إذ سمع هاتفا وهو يقول لا تسبقنا يرحمك الله، فانتظره حتى لحق بالصف، فذكر دعاءه للميت إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك.
ولما دفن قال
طوبى لك يا صاحب القبر، إن لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر خذوا الرجل نسأله عن صلاته وكلامه عمن هو.
قال فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع.
فقال عمر هذا والله الخضر الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الاثر مبهم وفيه انقطاع ولا يصح مثله.
وروى الحافظ ابن عساكر عن الثوري، عن عبد الله بن محرز (1) عن يزيد بن الاصم، عن علي بن أبي طالب قال: دخلت الطواف في بعض الليل فإذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو
__________
(1) في قصص الانبياء: ابن المحرر، قال في الهامش: " في المطبوعة ابن محرز وقد صححه محقق الاولى (من قصص الانبياء) من ميزان الاعتدال 2 / 500 وانظر الكنى والاسماء للدولابي 258 " قلت: ولم أجد فيما لدي من مراجع عبد الله بن المحرز.

يقول: يا من لا يمنعه سمع من سمع ويامن لا تغلطه المسائل، ويامن لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا مسألة السائلين ارزقني برد عفوك، وحلاوة رحمتك، قال: فقلت أعد علي ما قلت: فقال لي: أو سمعته ؟ قلت: نعم فقال لي: الذي نفس الخضر بيده، قال: وكان هو الخضر.
لا يقولها عبد خلف صلاة مكتوبة إلا غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر وورق الشجر وعدد النجوم لغفرها الله له.
وهذا ضعيف من جهة عبد الله بن المحرز فإنه متروك الحديث ويزيد بن الاصم لم يدرك عليا ; ومثل هذا لا يصح، والله أعلم.
وقد رواه أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا صالح بن أبي الاسود، عن محفوظ بن عبد الله الحضرمي، عن محمد بن يحيى قال: بينما علي بن أبي طالب يطوف بالكعبة إذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا يغلطه السائلون، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين، أرزقني برد عفوك، وحلاوة رحمتك، قال: فقال له علي: يا عبد الله أعد دعاءك هذا قال: وقد سمعته ؟ قال: نعم قال: فادع به في دبر كل صلاة فوالذي نفس الخضر بيده، لو كان عليك من الذنوب عدد نجوم السماء ومطرها، وحصباء الارض وترابها لغفر لك أسرع من طرفة
عين.
وهذا أيضا منقطع وفي اسناده من لا يعرف والله أعلم.
وقد أورد ابن الجوزي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا: حدثنا يعقوب بن يوسف، حدثنا مالك بن إسماعيل فذكر نحوه.
ثم قال وهذا إسناد مجهول منقطع وليس فيه ما يدل على أن الرجل الخضر.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد، أنبأنا أبو إسحق المزكي، حدثنا محمد بن إسحق بن خزيمة، حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد، أملاه علينا بعبادان، أنبأنا عمرو بن عاصم، حدثنا الحسن بن رزين عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم (1)، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله، لا يصرف الشر إلا الله ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال ابن عباس: من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات، آمنه الله من الغرق والحرق والسرق.
قال: وأحسبه قال: ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب.
قال الدارقطني في الافراد هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ يعني الحسن بن رزين هذا.
وقد روى عنه محمد بن كثير العبدي أيضا ومع هذا قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي ليس بمعروف.
وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي مجهول وحديثه غير
__________
(1) ذكر الخبر الطبري في تاريخه دون تعليق قال: عن محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب قال: الخضر من ولد فارس والياس من بني إسرائيل يلتقيان في كل عام بالموسم.
1 / 188.

محفوظ.
وقال أبو الحسن بن المنادي هو حديث واه بالحسن بن رزين (1).
وقد روى ابن عساكر نحوه من طريق علي بن الحسن الجهضمي وهو كذاب عن ضمرة بن حبيب المقدسي عن أبيه عن العلاء بن زياد القشيري عن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب مرفوعا قال: يجتمع كل يوم عرفة بعرفات جبريل وميكائيل وإسرافيل * والخضر وذكر حديثا
طويلا موضوعا تركنا إيراده قصدا ولله الحمد.
وروى ابن عساكر من طريق هشام ابن خالد، عن الحسن بن يحيى الخشني، عن ابن أبي رواد، قال الياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويحجان في كل سنة، ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة تكفيهما إلى مثلها من قابل.
وروى ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان، باني جامع دمشق، أحب أن يتعبد ليلة في المسجد، فأمر القومة أن يخلوه له ففعلوا، فلما كان من الليل جاء من باب الساعات فدخل الجامع، فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء.
فقال للقومة: ألم آمركم أن تخلوه ؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يجئ كل ليلة يصلي ههنا.
وقال ابن عساكر أيضا: أنبأنا أبو القاسم بن إسماعيل بن أحمد، انبأنا أبو بكر بن الطبري، أنبأنا أبو الحسين بن الفضل، أنبأنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب - هو ابن سفيان الفسوي - حدثني محمد بن عبد العزيز، حدثنا ضمرة (2)، عن السري بن يحيى، عن رباح بن عبيدة، قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل حاف، قال فلما انصرف من الصلاة - قلت: من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا ؟ قال: وهل رأيته يا رباح ؟ قلت: نعم.
قال: ما أحسبك إلا رجلا صالحا ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي وأعدل.
قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: الرملي مجروح عند العلماء * وقد قدح أبو الحسين بن المنادي في ضمرة والسري ورباح.
ثم أورد من طرق أخر عن عمر بن عبد العزيز أنه اجتمع بالخضر، وضعفها كلها.
وروى ابن عساكر أيضا أنه اجتمع بإبراهيم التيمي وبسفيان بن عيينة وجماعة يطول ذكرهم.
وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم وكل من الاحاديث المرفوعة ضعيفة جدا، لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف في الاسناد، وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره، لانه يجوز عليه الخطأ والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أبا سعيد قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يوما ] حديثا طويلا عن الدجال.
وقال فيما يحدثنا: " يأتي - الدجال - وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة - [ فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة ]
فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خيرهم، فيقول [ له ]: أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه فيقول الدجال: أرايتم إن قتلت هذا ثم أحييته،
__________
(1) في النسخ المطبوعة: زريق، والصواب ما أثبتناه من ميزان الاعتدال.
(2) في النسخ المطبوعة: جمرة وفي نسخة حمزة وهو تحريف.
والصواب ما أثبتناه.

أتشكون في الامر ؟ فيقولون: لا.
فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحيي والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن قال: فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه (1) قال معمر بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة من نحاس وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به.
وقال أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي عن مسلم الصحيح أن يقال: إن هذا الرجل الخضر.
وقول معمر وغيره بلغني ليس فيه حجة وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث فيأتي بشاب ممتلئ شبابا فيقتله وقوله الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتضي المشافهة بل يكفي التواتر.
وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه: " عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر " للاحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعة، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد * وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات ومنهم البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي وقد انتصر لذلك وألف فيه كتابا سماه " عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر " فيحتج لهم بأشياء كثيرة * منها قوله [ تعالى ] (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) [ الانبياء: 34 ] فالخضر إن كان بشرا فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح انتهى.
والاصل عدمه حتى يثبت.
ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله.
ومنها أن الله تعالى قال (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول الله مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم
وأخذتم على ذلك إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) [ آل عمران: 81 ] قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه.
ذكره البخاري عنه.
فالخضر إن كان نبيا أو وليا، فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله، أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الاعداء إليه، لانه إن كان وليا فالصديق أفضل منه، وإن كان نبيا فموسى أفضل منه.
وقد روى الامام أحمد في مسنده: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد،
__________
(1) صحيح البخاري 29 / 9، 76 / 30، 97 / 31 ومسلم في 15 / 485 و 52 كتاب الفتن 21 باب في صفة الدجال 112 (2938) ص 4 / 2256 ورواه مالك في الموطأ، وأخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 183، 2 / 237 - 330 - 483، 3 / 202 - 277 - 393، 5 / 81 - 207.
(نقاب المدينة: أي طرقها وفجاجها، وهو جمع نقب، وهو الطريق بين الجبلين.
- ما بين معكوفين في الحديث زيادة اقتضاها السياق من صحيح مسلم.
- أبو سعيد يعني الخدري.

عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (1).
وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة.
وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة أن الانبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعا له، وتحت أوامره، وفي عموم شرعه.
كما أنه صلوات وسلامه عليه لما اجتمع معهم ليلة الاسراء، رفع فوقهم كلهم، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة، أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم، فصلى بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم فدل على أنه الامام الاعظم، والرسول الخاتم المبجل المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
فإذا علم هذا - وهو معلوم عند كل مؤمن - علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وممن
يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك * هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان بحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها ولا يحيد عنها، وهو أحد أولى العزم الخمسة (2) المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه، أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد.
وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه عزوجل، واستنصره واستفتحه على من كفره: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض " (3) وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب: وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد (4) فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته وأعظم غزواته.
قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي: سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات ؟ فقال: نعم.
قال: وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغباري قال: وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نقله ابن الجوزي في العجالة.
فإن قيل: فهل يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه.
فالجواب أن الاصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات.
ثم ما الحامل له على هذا الاختفاء وظهوره أعظم لاجره وأعلى في مرتبته وأظهر بمعجزته، ثم لو كان باقيا بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحاديث النبوية والآيات القرآنية وإنكاره لما وقع من الاحاديث المكذوبة والروايات المقلوبة والآراء البدعية
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 387.
(2) وهم - صلوات الله عليهم - نوح، وابراهيم - وموسى، وعيسى ومحمد عليهم السلام.
(3) أخرجه ابن جرير الطبري، في تفسيره سورة الانفال، وابن المنذر، وابن مردويه ونقله عنهم السيوطي في الدر المنثور 3 / 169.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: وتبير بدل " وبئر " وهو تحريف.

والاهواء العصبية وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهوده جمعهم، وجماعاتهم، ونفعه إياهم، ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم وتسديده العلماء، والحكام وتقريره الادلة، والاحكام أفضل ما يقال عنه من كنونه (1) في الامصار.
وجوبه الفيافي والاقطار.
وإجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم.
وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ليلة العشاء ثم قال: " أرأيتم ليلتكم هذه فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الارض اليوم أحد ".
وفي رواية " عين تطرف ".
قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه وإنما أراد انخرام قرنه.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، قال: أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة أن عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: " أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الارض أحد " (3).
وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري * وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل أو بشهر: " ما من نفس منفوسة أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية " (4) وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بشهر: " يسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله أقسم بالله ما على الارض نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة " (5).
وهكذا رواه مسلم من طريق أبي نضرة وأبي الزبير كل منهما عن جابر بن عبد الله به نحوه.
وقال الترمذي: حدثنا عباد، حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما على الارض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة ".
وهذا أيضا على شرط مسلم * قال ابن الجوزي فهذه الاحاديث الصحاح تقطع دابر
دعوى حياة الخضر.
قالوا: فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع فلا إشكال.
وإن كان قد أدرك زمانه فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة فيكون الآن مفقودا لا موجودا لانه داخل في هذا العموم والاصل عدم المخصص له
__________
(1) كنون من كن، كن الشئ إذا ستره.
وكنونه: تستره وتخفيه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 3 / 41 / 116 فتح الباري ومسلم في صحيحه 44 / 53 / 217.
(3) أخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 88.
(4) مسند الامام أحمد 3 / 305 - 306 ومسلم في صحيحه 44 / 53 / 218.
(5) مسند الامام أحمد ج 3 / 345.

حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله والله أعلم.
وقد حكى الحافظ والقاسم السهيلي في كتابه " التعريف والاعلام " عن البخاري وشيخه أبي بكر بن العربي أنه أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن مات بعده لهذا الحديث وفي كون البخاري رحمه الله يقول بهذا وأنه بقي إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم نظر * ورجح السهيلي بقاءه وحكاه عن الاكثرين.
قال وأما إجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لاهل البيت بعده فمروي من طرق صحاح ثم ذكر ما تقدم مما ضعفناه ولم يورد أسانيدها والله أعلم.
وأما (1) الياس عليه السلام فقال الله تعالى بعد قصة موسى وهرون من سورة الصافات (وإن الياس لمن المرسلين.
إذ قال لقومه ألا تتقون.
أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين.
الله ربكم ورب آباءكم الاولين.
فكذبوه فانهم لمحضرون.
إلا عباد الله المخلصين.
وتركنا عليه في الآخرين.
سلام على الياسين.
إنا كذلك نجزي المحسنين.
إنه من عبادنا المؤمنين) [ الصافات: 123 - 132 ] قال علماء النسب هو الياس التشبي * ويقال ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون * وقيل الياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران.
قالوا وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي
دمشق (1) فدعاهم إلى الله عزوجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا.
وقيل كانت امرأة اسمها بعل والاول أصح.
ولهذا قال لهم (ألا تتقون.
أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين.
الله ربكم ورب آباءكم الاولين) [ الصافات: 124 - 126 ] فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله فيقال إنه هرب منهم واختفى عنهم * قال أبو يعقوب الاذرعي، عن يزيد بن عبد الصمد، عن هشام بن عمار قال: وسمعت من يذكر عن كعب الاحبار أنه قال: إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين، حتى أهلك الله الملك وولى غيره، فأتاه إلياس فعرض عليه الاسلام، فأسلم، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم.
وقال ابن أبي الدنيا حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم، حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن بعض مشيخة دمشق قال: أقام إلياس عليه السلام هاربا من قومه في كهف جبل عشرين ليلة.
أو قال أربعين ليلة - تأتيه الغربان برزقه.
وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: أول نبي
__________
(1) قال الطبري ج 1 / 239: كان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل.
وقال ابن قتيبة في المعارف: إلياس من سبط يوشع بن نون بعثه الله في أهل بعلبك وكانوا يعبدون صنما يقال له بعل وملكهم اسمه احب وامرأته أزبيل.
أما الطبري فيقول أن أحاب أحد ملوك بني إسرائيل واسم امرأته ازبل فقد كان يسمع منه ويصدقه - دون سائر ملوك بني إسرائيل الذين عبدوا بعل.

بعث إدريس، ثم نوح ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم إلياس التشبي بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام هكذا قال وفي هذا الترتيب.
وقال مكحول عن كعب أربعة أنبياء أحياء اثنان في الارض إلياس والخضر، واثنان في السماء إدريس وعيسى [ عليهم السلام ].
وقد قدمنا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت المقدس، وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى
مثلها من العام المقبل * وأوردنا الحديث الذي فيه انهما يجتمعان بعرفات كل سنة.
وبينا أنه لم يصح شئ من ذلك وأن الذي يقوم عليه الدليل: أن الخضر مات، وكذلك إلياس عليهما السلام.
وما ذكره وهب بن منبه وغيره: أنه لما دعا ربه عزوجل أن يقبضه إليه لما كذبوه وآذوه، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها وجعل الله له ريشا وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار ملكيا بشريا سماويا أرضيا وأوصى إلى اليسع بن أخطوب (1) ففي هذا نظر وهو من الاسرائيلات التي لا تصدق ولا تكذب بل الظاهر أن صحتها بعيدة والله أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي (2): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني (3) ببخارا حدثنا عبد الله بن محمود، حدثنا عبدان بن سنان، حدثني أحمد بن عبد الله البرقي، حدثنا يزيد بن يزيد البلوي، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الاوزاعي عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفورة المثاب لها قال: فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع فقال لي: من أنت ؟ فقلت: أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأين هو ؟ قلت: هوذا يسمع كلامك قال فأته فأقرته السلام وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام.
قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم [ عليه ] * ثم قعدا يتحادثان فقال له يا رسول الله إني ما آكل في [ السنة ] إلا يوما وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت قال: فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس فأكلا وأطعماني وصلينا العصر، ثم ودعه [ ثم رأيته ] مر في السحاب نحو السماء.
فقد كفانا البيهقي (4)
__________
(1) روى الخبر ابن الاثير في الكامل ج 1 / 214.
(2) دلائل النبوة ج 5 / 421.
(3) كذا في الاصول: وفي دلائل البيهقي: البغدادي.
البرقي - في الدلائل الرقي.
يزيد بن يزيد البلوي: في الدلائل: يزيد العلوي.
(4) ما بين معكوفين في الحديث من دلائل البيهقي.
عقب البيهقي بعد تمام الحديث قال: قلت: هذا الذي روي في هذا الحديث في قدرة الله تعالى جائز وبما خص الله

أمره وقال: هذا حديث ضعيف بمرة والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين وهذا مما يستدرك به على المستدرك (1) فإنه حديث موضوع مخالف للاحاديث الصحاح من وجوه.
ومعناه لا يصح أيضا فقد تقدم في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في السماء إلى أن قال - " ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " وفيه أنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه.
وهذا لا يصح لانه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الانبياء.
وفيه أنه يأكل في السنة مرة وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب وفيما تقدم عن بعضهم أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر.
وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شئ منها.
وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها وهذا عجب منه كيف تكلم عليه فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة، عن هانئ بن الحسن، عن بقية، عن الاوزاعي، عن مكحول، عن واثلة، عن ابن الاسقع فذكر نحو هذا مطولا وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك وأنه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان قالا: فإذا هو أعلى جسما بذراعين أو ثلاثة واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الابل وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا من طعام الجنة وقال: إن لي في كل أربعين يوما أكلة وفي المائدة خبز ورمان وعنب وموز ورطب وبقل ما عدا الكراث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: عن الخضر فقال: عهدي به عام أول وقال لي إنك ستلقاه قبلي فأقرئه مني السلام.
وهذا يدل على أن الخضر وإلياس بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة وهذا لا يسوغ شرعا وهذا موضوع أيضا.
وقد أورد ابن عساكر طرقا فيمن اجتمع بالياس من العباد وكلها لا يفرح بها لضعف إسنادها أو لحهالة المسند إليه فيها * ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني بشر بن معاذ حدثنا حماد بن واقد عن ثابت قال: كنا
مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة فدخلت حائطا أصلي فيه ركعتين فافتتحت (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول) [ غافر: 1 - 2 ].
فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية، فقال لي إذا قلت غافر الذنب فقل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي.
وإذا قلت قابل التوب فقل: يا قابل التوب تقبل توبتي.
وإذا قلت شديد العقاب فقل: يا شديد العقاب لا تعاقبني.
وإذا قلت ذي الطول فقل: يا ذا الطول تطول علي برحمة فالتفت فإذا لا أحد وخرجت فسألت: مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه
__________
= عزوجل به رسوله من المعجزات يشبه، إلا أن إسناد هذا الحديث ضعيف بمرة.
(1) قال الذهبي في الميزان 4 / 441 عن يزيد بن يزيد عن أبي إسحاق الفزاري بحديث باطل أخرجه الحاكم في مستدركه..فما استحي الحاكم من الله يصحح مثل هذا ثم قال الذهبي في تلخيص المستدرك: هذا موضوع، قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا.
ورواه ابن الجوزي في الموضوعات 1 / 200 وقال: حديث موضوع لا أصل له.

مقطعات يمنية ؟ فقالوا ما مر بنا أحد فكانوا لا يرون إلا أنه الياس.
وقوله تعالى.
(فكذبوه فانهم لمحضرون) [ الصافات: 127 ] أي للعذاب إما في الدنيا والآخرة أو في الآخرة.
والاول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون.
(وقوله إلا عباد الله المخلصين) [ الصافات: 128 ] أي إلا من آمن منهم وقوله (وتركنا عليه في الآخرين) [ الصافات: 129 ] أي ابقينا بعده ذكرا حسنا له في العالمين فلا يذكر إلا بخير ولهذا قال (سلام على الياسين) [ الصافات: 130 ] أي سلام على الياس.
العرب تلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا إسماعيل وإسماعين وإسرائيل وإسرائين والياس والياسين.
ومن قرأ سلام على آل ياسين أي على آل محمد وقرأ ابن مسعود وغيره سلام على ادراسين.
ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود انه قال: الياس هو إدريس وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم وحكاه قتادة ومحمد بن إسحاق والصحيح أنه غيره كما تقدم والله أعلم

البداية والنهاية - ابن كثير ج 2
البداية والنهاية
ابن كثير ج 2

البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثاني دار إحياء التراث العربي

بسم الله الرحمن الرحيم [ ذكر ] (1) جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام ثم نتبعهم بذكر داود وسليمان عليهما السلام قال ابن جرير في تاريخه (2): لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور السالفين من أمتنا وغيرهم أن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع [ كان ] كالب بن يوفنا (3) يعني أحد أصحاب موسى عليه السلام، وهو زوج اخته مريم، وهو أحد الرجلين اللذين ممن يخافون الله وهما يوشع وكالب وهما القائلان لبني إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد (أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) [ المائدة: 23 ] قال ابن جرير ثم من بعده كان القائم بأمور بني إسرائيل حزقيل بن بوذي (4) وهو الذي دعا الله فأحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.
قصة حزقيل قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله
موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) [ البقرة: 243 ].
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي وهو ابن العجوز (5) وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه
__________
(1) سقطت من النسخ المطبوعة.
(2) تاريخ الطبري: ج 1 / 226 و 237 دار القاموس الحديث.
(3) قال صاحب مروج الذهب 1 / 49: ووجدت في نسخة أن القائم في بني اسرائيل بعد وفاة يوشع بن نون كوشان الكفري، وأنه أقام فيهم ثمانين سنة.
(4) في المسعودي: مروج الذهب: فنحاص بن العازر بن هارون.
(5) سمي بابن العجوز: لان أمه سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله لها.

فيما بلغنا: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) قال ابن إسحاق فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الارض فقال لهم الله موتوا فماتوا جميعا فحظروا عليهم حظيرة دون السباع فمضت عليهم دهور طويلة فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكرا فقيل له أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر ؟ فقال: نعم فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحما وأن يتصل العصب بعضه ببعض فناداهم عن أمر الله له بذلك فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.
وقال أسباط عن السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة [ الهمداني ] عن ابن مسعود وعن اناس من الصحابة في قوله: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) قالوا: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها فهلك [ أكثر ] من بقي في القرية وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم فوقع في قابل فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن
موتوا فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبي يقال له حزقيل فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوي شدقيه وأصابعه فأوحى الله إليه [ يا حزقيل ] تريد أن أريك كيف أحييهم قال: نعم وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقيل له: ناد فنادى: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادا من عظام ثم أوحى الله إليه أن ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها.
ثم قيل له ناد فنادى: أيتها الاجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا.
قال أسباط: فزعم منصور [ بن المعتمر ] عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: (سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت) فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد رسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم (1).
وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه ثمانية آلاف وعن أبي صالح تسعة آلاف وعن ابن عباس أيضا كانوا أربعين ألفا.
وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات.
وقال ابن جريج عن عطاء هذا مثل يعني أنه سيق مثلا مبينا " أنه لن يغني حذر من قدر " وقول الجمهور أقوى إن هذا وقع.
وقد روى الامام أحمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن [ عبد الله بن ] الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس أن عمر بن
__________
(1) روى الطبري الخبر في تاريخه ج 1 / 237 - 238.
وما بين معكوفين في الخبر زيادة من الطبري.

الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ (1) لقيه أمراء الاجناد (2) أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء (3) وقع بالشام.
فذكر الحديث يعني في مشاورته المهاجرين والانصار فاختلفوا عليه فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا ببعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " (4).
فحمد الله عمر ثم انصرف.
وقال الامام: حدثنا حجاج ويزيد
المفتي (5) قالا: حدثنا ابن أبي ذؤيب عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن هذا السقم عذب به الامم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال فرجع عمر من الشام " (6).
وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه.
قال محمد بن إسحاق ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه.
فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظمت فيهم الاحداث وعبدوا الاوثان وكان في جملة ما يعبدونه من الاصنام صنم يقال له بعل فبعث الله إليهم الياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
قلت وقد قدمنا قصة إلياس تبعا لقصة الخضر لانهما يقرنان في الذكر غالبا ولاجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات فتعجلنا قصته لذلك والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام وهذه: قصة اليسع عليه السلام وقد ذكره الله تعالى مع الانبياء في سورة الانعام في قوله: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) [ الانعام: 86 ] وقال تعالى في سورة ص: (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) [ ص: 48 ] قال إسحاق بن بشر أبو حذيفة أنبأنا سعيد عن قتادة عن الحسن قال كان بعد الياس اليسع عليهما السلام، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم
__________
(1) سرغ: هي قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز.
(2) المراد بالاجناد هنا: مدن الشمس الخمس - وهي فلسطين والاردن ودمشق وحمص وقنسرين قال الامام النووي: هكذا فسروه واتفقوا عليه.
(3) الوباء: قال الخليل وغيره: الطاعون.
قالوا: وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعون والوباء الذي وقع بالشام زمن عمر كان طاعونا وهو طاعون عمواس وهي قرية معروفة بالشام.
(4) أخرجه مسلم في 39 كتاب السلام 32 باب الطاعون 98 / 2219 وأخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 194 والبخاري
حديث رقم 2259.
(5) هو يزيد بن أبي حبيب، سمي بالمفتي لانه كان مفتي أهل مصر كما قال ابن سعد.
(6) مسند أحمد ج 1 / 193 ومسلم 39 / 32 / 100 / 2219.

إلى الله مستمسكا بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله عزوجل إليه ثم خلف فيهم الخلوء ؟ ؟ وعظمت فيهم الاحداث والخطايا وكثرت الجبابرة وقتلوا الانبياء وكان فيهم ملك عنيد طاغ.
ويقال إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمي ذا الكفل.
قال محمد بن إسحاق هو اليسع بن أخطوب.
وقال الحافظ أبو القسم بن عساكر في حرف الياء من تاريخه: اليسع وهو الاسباط بن عدي بن شوتلم بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
ويقال هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام.
ويقال كان مستخفيا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم ذهب معه إليها فلما رفع الياس خلفه اليسع في قومه ونبأه الله بعده.
ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه.
قال وقال غيره وكان ببانياس.
ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف وبالتشديد ومن قرأ والليسع وهو اسم واحد لنبي من الانبياء.
قلت قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليهما السلام لانه قد قيل إنه ابن أيوب فالله أعلم.
فصل قال ابن جرير (1) وغيره ثم مرج أمر بني إسرائيل وعظمت منهم الخطوب والخطايا وقتلوا من قتلوا من الانبياء وسلط الله عليهم بدل الانبياء ملوكا جبارين يظلمونهم ويسفكون دماءهم وسلط الله عليهم الاعداء من غيرهم أيضا وكانوا إذا قاتلوا أحدا من الاعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قبة الزمان كما تقدم ذكره فكانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات
كمدا وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبيا من الانبياء يقال له شمويل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا ليقاتلوا معه الاعداء فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.
قال ابن جرير فكان من وفاة يوشع بن نون إلى أن بعث الله عزوجل شمويل بن بالي أربعمائة سنة وستون سنة.
ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك الذين ملكوا عليهم وسماهم واحدا واحدا تركنا ذكرهم قصدا.
قصة شمويل عليه السلام وفيها بدأ أمر داود عليه السلام هو شمويل ويقال له أشمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن
__________
(1) تاريخ الطبري 1 / 243 روى الخبر مطولا.

علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا.
قال مقاتل وهو من ورثة هارون وقال مجاهد هو أشمويل بن هلفاقا (1) ولم يرفع في نسبه أكثر من هذا فالله أعلم.
حكى السدي بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبي وغيرهم أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقا كثيرا وسبوا من أبنائهم جمعا كثيرا وانقطعت النبوة من سبط لاوى ولم يبق فيهم إلا امرأة حبلى فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولدا ذكرا فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه بالعبرانية (2) إسماعيل أي سمع الله دعائي فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته عند رجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته فكان عنده فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد، فانتبه مذعورا، فظنه الشيخ يدعوه فسأله: أدعوتني ؟ فكره أن يفزعه فقال: نعم.
نم، فنام.
ثم ناداه الثانية فكذلك، ثم الثالثة فإذا جبريل يدعوه فجاءه فقال إن ربك قد بعثك إلى قومك فكان من أمره معهم ما قص الله في كتابه، قال الله تعالي في كتابه العزيز: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب
عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين.
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم.
وقال لهم نبيهم أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين) [ البقرة: 246 - 251).
قال أكثر المفسرين: كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو شمويل.
وقيل شمعون وقيل هما واحد وقيل يوشع وهذا بعيد لما ذكره الامام أبو جعفر بن جرير في تاريخه أن بين
__________
(1) وقال المسعودي في مروج الذهب: شمويل بن بروحان بن ناحور.
(2) قال ابن قتيبة في المعارف: ص 20 اشماويل بن هلقانا وهو اسماعيل بالعربية واسم أمه حنة لم يكن بينه وبين يوشع بن نون نبي وهو الذي ذكره الله عزوجل في القرآن حين قال: (وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا).

موت يوشع وبعثة شمويل أربعمائة سنة وستين سنة فالله أعلم.
والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الاعداء سألوا نبي الله في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكا يكونون تحت طاعته ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الاعداء.
فقال لهم: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله) [ البقرة: 246 ] أي وأي شي يمنعنا من القتال (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) يقولون نحن محروبون موتورون، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.
قال تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) [ البقرة: 246 ] كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) قال الثعلبي وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (1).
قال عكرمة والسدي كان سقاءا وقال وهب بن منبه كان دباغا.
وقيل غير ذلك (2) فالله أعلم ولهذا: (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى وأن الملك كان في سبط يهوذا فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم وقالوا نحن أحق بالملك منه و [ قد ] (3) ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه، فكيف يكون مثل هذا ملكا ؟ (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم).
قيل كان الله قد أوحى إلى شمويل أن أي بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا وإذا حضر عندك يفور هذا القرن (4) الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك (5) عليهم وقال لهم: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم) قيل في أمر الحروب وقيل بل مطلقا (والجسم) قيل الطول وقيل الجمال والظاهر من
__________
(1) في مروج الذهب 1 / 51: طالوت وهو ساود بن بشر بن أنيال بن طرون بن بحرون بن أفيح بن سميداح بن فالح بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وفي كامل ابن الاثير: وهو بالسريانية: شاول بن قيس بن انمار بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق.
(2) جاء في القرطبي - أحكام القرآن: وقيل كان مكاريا.
وكان عالما.
(3) سقطت قد - من نسخ البداية المطبوعة.
(4) القرن: بالتحريك: الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخرز.
(5) في نسخة: الملك.

السياق أنه كان اجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام: (والله يؤتي ملكه من يشاء) فله الحكم وله الخلق والامر (والله واسع عليم).
(وقال لهم نبيهم إن آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) [ البقرة: 248 ] وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم وقهرهم الاعداء عليه وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه (فيه سكينة من ربكم) قيل طشت من ذهب كان يغسل فيه صدور الانبياء.
وقيل السكينة مثل الريح الخجوج، وقيل صورتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر (1) (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قيل كان فيه رضاض (2) الالواح وشئ من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه (تحمله الملائكة) أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانا ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم ولهذا قال: (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) وقيل إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة.
وقيل كان فيه التوراة أيضا فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم فأخذهم داء في رقابهم، فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما فيقال إن الملائكة ساقتهما حتى جاؤوا بهما ملا بني إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك فالله أعلم
على أي صفة جاءت به الملائكة والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم بالجنود من الآية والله أعلم.
وإن كان الاول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم (فلما فصل طالوت قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) [ البقرة: 249 ].
قال ابن عباس وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الاردن، وهو المسمى بالشريعة، فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له اختبارا وامتحانا أن
__________
(1) قال القرطبي: 3 / 249: قال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الانبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.
(2) رضاض الشئ فتاته.
وفي بقية: أقوال: - قال ابن عباس: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الالواح.
- قال الثوري: قفيز من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون.
- الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الاعداء.

من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة (1) في يده.
قال الله تعالى: (فشربوا منه إلا قليلا منهم).
قال السدي كان الجيش ثمانين ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا فبقي معه أربعة آلاف كذا قال.
وقد روى البخاري في صحيحه: من حديث إسرائيل وزهير والثوري عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلثمائة مؤمن (2).
وقول السدي أن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه نظر، لان أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفا والله أعلم.
قال الله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) [ البقرة: 249 ] أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة
أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم: (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) [ البقرة: 249 ] يعني بها الفرسان منهم.
والفرسان أهل الايمان والايقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) [ البقرة: 250 ] طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الابطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال فسألوا التثبت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا وأنالهم ما إليه فيه رغبوا ولهذا قال: (فهزموهم باذن الله) أي بحول الله لا بحولهم وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم كما قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [ آل عمران: 133 ] وقوله تعالى: (وقتل داود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) [ البقرة: 251 ] فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلا أذل (3) به جنده وكسره ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الاموال الجزيلة ويأسر الابطال والشجعان والاقران وتعلو كلمة الايمان على الاوثان ويدال لاولياء الله على أعدائه.
ويظهر
__________
(1) بين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية ; والمغترف بيده غرفة: الآخذ منها قدر الحاجة وقال بعض المفسرين الغرفة بالكف الواحد، والغرفة: بالكفين.
(2) قال الطبري 1 / 243: عبر معه منهم أربعة ألاف ورجع ستة وسبعون ألفا ولما نظروا إلى جالوت رجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون وخلص في ثلثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر - وفي رواية وثلاثة عشر - وما جاز معه إلا مؤمن.
(3) قال القرطبي: كان داود رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده.

الدين الحق على الباطل وأوليائه.
وقد ذكر السدى فيما يرويه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه وكانوا ثلاثة عشر ذكرا كان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي وكان داود عليه السلام يرمي بالقذافة وهو المقلاع رميا عظيما فينا هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر: أن خذني فإن بي تقتل جالوت فأخذه ثم حجر آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود فقال له: ارجع فإني أكره قتلك، فقال: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الاحجار الثلاثة فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرا واحدا.
ثم رمى بها جالوت ففلق (1) رأسه وفر جيشه منهزما فوفى (2) له طالوت بما وعده فزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه، وعظم داود عليه السلام، عند بني إسرائيل وأحبوه، ومالوا إليه أكثر من طالوت، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك فلم يصل إليه وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم، حتى لم يبق منهم إلا القليل.
ثم حصل له توبة وندم وأقلاع عما سلف منه وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه فنودي ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء وآذيتنا ونحن أموات فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره، وهل له من توبة، فقيل له: وهل أبقيت عالما ؟ حتى دل على امرأة من العابدات فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام قالوا: فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال: أقامت القيامة ؟ فقالت: لا ولكن هذا طالوت يسألك هل له من توبة ؟ فقال: نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل، ثم عاد ميتا.
فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا (3) قالوا فذلك قوله: (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) [ البقرة: 251 ] هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه (4) من طريق السدي بإسناده.
وفي بعض هذا نظر ونكارة.
والله أعلم.
وقال محمد بن إسحق: النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب حكاه
ابن جرير أيضا.
وذكر الثعلبي: أنها أتت به إلى قبر اشمويل فعاتبه على ما صنع بعده من الامور وهذا أنسب.
ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حيا فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي وتلك
__________
(1) في الطبري: فنقبت رأسه.
(2) ذكر المسعودي: أن طالوت أبى أن يفي لداود بما تقدم من شرطه.
فلما رأى ميل الناس إليه زوجه ابنته، وسلم إليه ثلت الجباية، وثلث الحكم وثلث الناس مروج الذهب 1 / 52.
(3) ذكر المسعودي أنه مات على سرير ملكه ليلة كمدا.
(4) تاريخ الطبري ج 1 / 245 - 246.

المرأة لم تكن نبية والله أعلم.
وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون (1) سنة فالله أعلم.
قصة داود وما كان في أيامه [ وذكر ] (2) فضائله وشمائله ودلائل نبوته واعلامه هو داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن إرم (3) بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس.
قال محمد بن أسحق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيرا أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه.
تقدم أنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكره ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر (4) فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمع في داود هذا وهذا كما قال تعالى: (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء.
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين) [ البقرة: 251 ] أي لولا إقامة الملوك حكاما على الناس لاكل قوي الناس ضعيفهم.
ولهذا جاء في
بعض الآثار (السلطان ظل الله في أرضه).
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له أخرج إلي وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت.
قال وهب بن منبه فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود.
وقيل إن ذلك [ كان ] (5) عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاه قبل الوقعة (6) قال ابن جرير (7) والذي عليه
__________
(1) في مروج الذهب: عشرين سنة.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: ثم، وسقطت كلمة ذكر.
وقد ورد اسم داود في القرآن الكريم في ستة عشر موضعا: سورة البقرة: 251، سورة النساء: 163، سورة المائدة: 78، سورة الانعام: 84، سورة الاسراء: 55، سورة الانبياء: 78 - 79، سورة النمل: 15 - 16، سورة سبأ: 10 - 12، سورة ص: 20 - 22 - 24 - 26.
(3) في الطبري: باعز بدل عابر وعمي نادب بدل عويناذب ; ورام بدل إرم.
وفي الانجيل: إنجيل متى: هو داود بن يسى، بن عوبيد، بن بوعز، بن سلمون، بن نحشون، بن عمينا داب، بن ارام، بن حصرون بن فارص بن يهوذا، بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
(4) قال في مروج الذهب: كان ببيسان من أرض الغور من بلاد الاردن.
(5) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(6) وذكر ذلك أيضا ابن عساكر في تاريخه 5 / 190 تهذيب.
(7) انظر تاريخ الطبري 1 / 246.
وقال المسعودي: إن داود أبى أن تنافس طالوت في حكمه.

الجمهور: أنه إنما ولي ذلك بعد قتل جالوت والله أعلم.
وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم وأن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية فالله أعلم.
وقال تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) [ سبأ: 11 ] وقال تعالى:
(وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين.
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) [ الانبياء: 79 ].
أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الاعداء وارشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: (وقدر في السرد) أي لا تدق المسمار فيفلق ولا تغلظه فيفصم قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة.
قال الحسن البصري وقتادة والاعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده، لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة.
قال قتادة فكان أول من عمل الدروع من زرد، وإنما كانت قبل ذلك من صفائح، قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم وقد ثبت في الحديث: " أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده " (1) وقال تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الايد أنه أواب.
انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) [ ص: 17 ] قال ابن عباس ومجاهد الايد القوة في الطاعة، يعني: ذا قوة في العبادة، والعمل الصالح قال قتادة: أعطي قوة في العبادة وفقها في الاسلام، قال: وقد ذكرنا لنا: أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى " (2).
وقوله: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق والطير محشورة كل له أواب) [ ص: 18 - 19 ] كما قال: (يا جبال أوبي معه والطير) [ سبأ: 10 ] أي سبحي معه.
قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق) أي عند آخر النهار وأوله وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحدا بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب البيوع باب 15 كسب الرجل وعمل بيده وأحمد في مسنده 2 / 466 و 4 / 141 والدارمي في سننه كتاب البيوع.
وابن ماجه في تجارات 1 / 25.
بألفاظ ومن عدة طرق.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (13 / 181، 182 وما بعدها - 196) وأحمد في مسنده 1 / 314، 2 / 160، 164، 187، 190، 194، 195 - 5 / 296 والبخاري في صحيحه: 30 / 54، 56 - 60 / 37 - 66 / 34 - 79 - 38.
ورواه أبو داود وابن ماجه والدارمي والنسائي في سننهم.
وابن عساكر في تاريخه 5 / 192 - 193 تهذيب.

صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الاوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطي داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط حتى أن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشا وجوعا، وحتى أن الانهار لتقف.
وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله فيعكف الجن والانس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعا.
وقال أبو عوانة الاسفراييني: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن منصور الطوسي، سمعت صبيحا أبا تراب (1) رحمه الله قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدني حدثنا محمد بن صالح العدوي حدثنا سيار هو ابن حاتم عن جعفر، عن مالك، قال كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى.
وهذا غريب.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال: وما بأس بذلك ؟ سمعت عبيد بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكي وتبكي.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الاشعري وهو يقرأ فقال: " لقد أوتي أبو موسى من مزامير آل داود " (2).
وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد أعطي أبو موسى من مزامير داود " (3) على شرط مسلم وقد روينا عن أبي عثمان النهدي (4) أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتا أحسن من صوت أبي موسى الاشعري.
وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابه
الزبور، كما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه ".
وكذلك رواه البخاري منفردا به: عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق به، ولفظه: " خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه ولا يأكل إلا من عمل يديه " (5).
ثم قال البخاري:
__________
(1) عبارة محرفة.
وفي نسخة البداية المطبوعة: انبئنا برادح وهي محرفة وصححت في قصص الانبياء لابن كثير ; كما أثبتناه من نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية رقم تاريخ 3609 مصورة عن نسخة الاستانة.
(2) مسند أحمد ج 2 / 369 وابن ماجه في سننه.
ورواه الهيثمي في الزوائد وفيه: قلت أصله في الصحيحين من حديث أبي موسى ; في صحيح البخاري 66 / 30 / 5048 فتح الباري وفي مسلم من حديث بريدة 6 / 34 / 235 ورواه النسائي من حديث عائشة.
ورواه الدارمي في سننه من حديث أبي موسى.
(3) مسند أحمد ج 2 / 354.
(4) في نسخ البداية المطبوعة: الترمذي وهو تحريف.
(5) مسند أحمد ج: 2 / 314، وصحيح البخاري 60 / 37 / 3417 فتح الباري.

ورواه موسى بن عقبة، عن صفوان هو ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسنده ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في تاريخه من طرق: عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبي عاصم، عن أبي بكر السبري عن صفوان بن سليم به.
والمراد بالقرآن ههنا الزبور الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظا فإن كان ملكا له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب وهذ أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع صلوات الله وسلامه عليه وقد قال الله تعالى: (وآتينا داود زبورا) [ الاسراء: 55 ] والزبور كتاب مشهور وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه أحمد
وغيره أنه أنزل في شهر رمضان وفيه من المواعظ والحكم (1) ما هو معروف لمن نظر فيه.
وقوله: (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) أي أعطيناه ملكا عظيما وحكما نافذا.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم: عن ابن عباس: أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر.
ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه، فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعي فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك، فأنا قاتلك لا محالة فما خبرك فيما ادعيته على هذا ؟ قال: والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا فأمر به داود فقتل فعظم أمر داود في بني إسرائيل جدا وخضعوا له خضوعا عظيما.
قال ابن عباس وهو قوله تعالى: (وشددنا ملكه) وقوله تعالى: (وآتيناه الحكمة) أي النبوة (2) (وفصل الخطاب) قال شريح والشعبي وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم فصل الخطاب الشهود والايمان يعنون بذلك البينة على المدعي واليمين على من أنكر (3).
وقال مجاهد والسدي هو إصابة القضاء وفهمه.
وقال مجاهد هو الفصل في الكلام وفي الحكم واختاره ابن جرير وهذا لا ينافي ما روي عن أبي موسى أنه قول " أما بعد ".
وقال وهب بن منبه لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل أعطي داود سلسلة لفصل القضاء فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأيهما كان محقا نالها والآخر لا يصل إليها فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلا لؤلؤة فجحدها منه واتخذ عكازا
__________
(1) الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود.
وإنما هو دعاء تحميد وتمجيد.
(2) وقال مجاهد: أي العدل ; وأبو العالية: أي العلم بكتاب الله، وقال قتادة: السنة.
(3) رواه ابن عساكر في تاريخه 5 / 196 تهذيب وفي صحيح البخاري بنحوه 48 / 6 / 2514.
وفي رواية ابن عباس: (..ان اليمين على المدعى عليه) ورواه مسلم في 30 كتاب الاقضية (1) باب اليمين على المدعى عليه.
عن ابن عباس وفيه: ولكن اليمين على المدعى عليه.
حديث 1 - 2 ص 3 / 1336 / ورواه الترمذي في 13 / 12 / 1342.

وأودعها فيه فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعي فلما قيل للآخر خذها بيدك عمد إلى العكاز فأعطاه المدعي وفيه تلك اللؤلؤة وقال اللهم: إنك تعلم أني دفعتها إليه، ثم تناول السلسلة فنالها فأشكل أمرها على بني إسرائيل.
ثم رفعت سريعا من بينهم.
ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين.
وقد رواه إسحق بن بشر عن إدريس بن سنان عن وهب به بمعناه.
(وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب.
فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ ص 21 - 25 ].
وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف ههنا قصصا وأخبارا أكثرها إسرائيليات ومنها ما هو مكذوب لا محالة تركنا إيرادها في كتابنا قصدا اكتفاء واقتصارا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد اختلف الائمة في سجدة ص هل هي من عزائم السجود أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود على قولين: قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن العوام، قال سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال سألت ابن عباس من أين سجدت قال أو ما تقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان) (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الامام أحمد: حدثنا اسمعيل هو ابن علية عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال في السجود في ص ليست من عزائم السجود.
وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.
وكذا رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب وقال الترمذي حسن صحيح وقال النسائي أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن
عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: " سجدها داود توبة ونسجدها شكرا.
تفرد به أحمد ورجاله ثقات.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود قفال [ النبي صلى الله عليه وسلم ]: " إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزنتم

للسجود ] " فنزل وسجد (1).
تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر هو ابن عمر وأبو الصديق الناجي أنه أخبره: أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب ص فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شئ بحضرته انقلب ساجدا قال فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد.
تفرد به أحمد وروى الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس، عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: قال لي ابن جريج: حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول: وهي ساجدة: " اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا وأقبلها مني كما قبلت من عبدك داود " وقال ابن عباس فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول: وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة.
ثم قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذ الوجه.
وقد ذكر بعض المفسرين أن عليه السلام مكث ساجدا أربعين يوما وقاله مجاهد والحسن وغيرهما وورد في ذلك حديث مرفوع لكنه من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف متروك الرواية، قال الله تعالى: (فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ ص: 25 ].
أي أن له يوم القيامة لزلفى وهي القربة التي يقربه الله بها ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها كما ثبت في حديث:
" المقسطون على منابر من نور.
عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا " (2).
وقال الامام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر " (3) وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الاغر به وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله: (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) قال: يقوم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول الله: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة - باب السجود في ص حديث رقم 1410 ج 2 / 59.
- ما بين معكوفين في الحديث سقطت من نسخ البداية المطبوعة واستدركت من أبي داود.
- التشزن: قال في النهاية: التأهب والتهيؤ للشئ، والاستعداد له، مأخوذ من عرض الشئ وجانبه.
وقد وردت في نسخ البداية، تشرف وتشرفتم وهو تحريف.
واستدركت من أبي داود.
(2) أخرجه مسلم في 33 كتاب الامارة (5) باب فضيلة الامام العادل 18 / 1827 والنسائي في آداب القضاة وأحمد في مسنده ج 2 / 160.
(3) مسند أحمد ج 3 / 22، والترمذي في سننه 12 / 4 / 1329.

الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني في الدنيا فيقول: وكيف وقد سلبته ؟ فيقول إني أرده عليك اليوم، قال: فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
[ قال تعالى ]: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) [ ص: 26 ] هذا خطاب من الله تعالى مع داود والمراد ولاة الامور وحكام الناس وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله لا ما سواه من الآراء والاهواء وتوعد من سلك غير ذلك وحكم
بغير ذلك، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الوقت في العدل، وكثرة العبادة، وأنواع القربات، حتى إنه كان لا يمضي ساعة من آناء الليل، وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلا ونهارا كما قال تعالى: (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) [ سبأ: 13 ] قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا صالح المزي (1)، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد قال: قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال فأتاه الوحي " أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني قال بلى يا رب قال فأنى أرضى بذلك منك ".
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بالويه، حدثنا محمد بن يونس القرشي، حدثنا روح بن عبادة، حدثني عبد الله بن لاحق عن ابن شهاب قال: قال داود: " الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، فأوحى الله إليه: أنك أتعبت الحفظة يا داود " ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد عن الثوري مثله.
وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أنبأنا سفيان الثوري، عن رجل، عن وهب بن منبه قال: إن في حكمة آل داود حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقلوب، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه، وحق على العاقل أن لا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زاد لمعاده، ومرمة لمعاشه، ولذة في غير محرم.
وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي الاغر عن وهب بن منبه فذكره.
ورواه أيضا عن علي بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشي، عن أبي الاغر، عن وهب بن منبه فذكره.
وأبو الاغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته.
قاله ابن عساكر ; وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه فذكر مثله.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله كن لليتيم كالاب
__________
(1) في نسخ البداية والنهاية: المزي وهو تحريف.
وما أثبتناه المري وهو: صالح بن بشير المري البصري.

الرحيم.
واعلم انك كما تزرع كذلك تحصد.
وروى بسند غريب مرفوعا قال داود يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الاحمق في نادي القوم كمثل المغني عند رأس الميت، وقال أيضا: ما أقبح الفقر بعد الغنى وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى.
وقال انظر ما تكره أن يذكر عنك في نادي القوم فلا تفعله إذا خلوت.
وقال لا تعدن أخاك بما لا تنجزه له، فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.
وقال محمد بن سعد أنبأنا محمد بن عمر الواقدي، حدثني هشام بن سعد، عن عمر مولى عفرة قال: قالت يهود لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء: انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ولا والله ما له همة إلا إلى النساء حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك، فقالوا: لو كان نبيا ما رغب في النساء وكان أشدهم في ذلك حيي بن أخطب فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله عليه وسلامه فقال: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) [ النساء: 54 ] يعني بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) [ النساء: 54 ] يعني ما أتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة سبعمائة مهرية (1) وثلثمائة سرية، وكانت لداود عليه السلام مائة (2) امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة، هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الكلبي نحو هذا وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة منهن ثلثمائة سرية.
وروى (3) الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروي عن ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصي، عن أبي هريرة الحمصي، عن صدقة الدمشقي أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لاحدثنك بحديث كان عندي في البحث (4) مخزونا إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواما قواما، وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوما ويفطر يوما وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصيام صيام داود وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يكون فيها وكانت
له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شئ ويصرف بصوته الهموم والمحموم " (5).
وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام، ومن وسطه ثلاثة أيام، ومن آخره ثلاثة أيام يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام.
وإن شئت انبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم: فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر يأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد ليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل
__________
(1) مهرية: الزوجة ذات المهر.
(2) في رواية للطبري عن السدي: تسع وتسعون امرأة.
1 / 249.
(3) الحافظ ابن عساكر في تاريخه: 6 / 418 - 419 تهذيب.
(4) البحث: المعدن (قاموس).
(5) أخرجه أحمد في مسنده ج 2 / 164 - 190.

صف (1) بين قدميه، وقام يصلي حتى يصبح، وكان راميا لا يفوته صيد يريده وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم.
وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران فإنها كانت تصوم يوما وتفطر يومين.
وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الامي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول إن ذلك صوم الدهر.
وقد روى الامام أحمد عن أبي النصر عن فرج بن فضالة عن أبي هرم عن صدقة عن ابن عباس مرفوعا في صوم داود.
[ ذكر ] (2) كمية حياته وكيفية وفاته عليه السلام قد تقدم في ذكر الاحاديث الواردة في خلق آدم: أن الله لما استخرج ذريته من ظهره فرأى فيهم الانبياء عليهم السلام ورأى فيهم رجلا يزهر فقال: أي رب من هذا ؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب كم عمره ؟ قال: ستون عاما قال: أي رب زد في عمره.
قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عاما فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك
الموت، فقال: بقي من عمري أربعون سنة، ونسي آدم ما كان وهبه لولده داود، فأتمها الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.
رواه أحمد عن ابن عباس والترمذي وصححه عن أبي هريرة وابن خزيمة وابن حبان.
وقال الحاكم على شرط مسلم.
وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم.
قال ابن جرير وقد زعم بعض أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعا وسبعين سنة قلت هذا غلط مردود عليهم قالوا وكان مدة ملكه أربعين سنة وهذا قد يقبل نقله لانه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.
وأما وفاته عليه السلام فقال الامام أحمد في مسنده: حدثنا قبيصة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلقت (3) الابواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة، والله لنفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت ؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب.
فقال داود أنت والله إذن ملك الموت مرحبا بأمر الله.
ثم مكث حتى قبضت روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس.
فقال سليمان للطير: أظلي على داود.
فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الارض، فقال سليمان للطير اقبضي
__________
(1) في نسخة صفن، وكلاهما بمعنى.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: أغلق وما أثبتناه من مسند أحمد.

جناحا.
قال: قال أبو هريرة: " فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وغلبت عليه يومئذ المضرحية " (1).
انفرد بإخراجه الامام أحمد، وإسناده جيد قوي، رجاله ثقات ومعنى قوله وغلبت عليه يومئذ المضرحية: أي وغلبت على التظليل عليه
الصقور الطوال الاجنحة، واحدها مضرحي.
قال الجوهري وهو الصقر الطويل الجناح، وقال السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة وكان بسبت وكانت الطير تظله.
وقال السدي أيضا عن أبي مالك، وعن سعيد بن جبير قال: مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة.
وقال إسحاق بن بشر (2) عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة ومات يوم الاربعاء فجأة (3).
وقال أبو السكن الهجري مات إبراهيم الخليل فجأة وداود فجأة وابنه سليمان فجأة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين رواه ابن عساكر، وروي عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه، فقال له: دعني أنزل أو أصعد فقال: يا نبي الله قد نفدت السنون والشهور والآثار والارزاق.
قال: فخر ساجدا على مرقاة من تلك المراقي فقبضه وهو ساجد.
وقال اسحاق بن بشر: أنبأنا وافر بن سليمان، عن أبي سليمان الفلسطيني، عن وهب بن منبه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال: وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهرون أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه منهم على داود، قال: فأذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية لما أصابهم من الحر فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت، فأمرها أن تظل الناس فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه حتى استمسكت الريح، فكاد الناس أن يهلكوا غما فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير: أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحية الريح ففعلت، فكان الناس في ظل، وتهب عليهم الريح فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثني الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتي سنة ".
هذا حديث غريب وفي
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 419.
(2) وهو غير اسحاق بن يسار ; إسحاق بن بشر بن حذيفة البخاري صاحب " المبتدأ والفتوح ".
متروك.
كذبه علي بن المديني.
(3) قال الطبري: عمر داود فيما وردت به الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة سنة.
وفي رواية للطبري: عن بعض أهل الكتب فإنه زعم أن عمره كان سبعا وسبعين سنة وأن مدة ملكه كانت أربعين سنة.

رفعه نظر والوضين بن عطاء كان ضعيفا في الحديث والله أعلم.
قصة سليمان (1) بن داود عليهما السلام قال الحافظ ابن عساكر: هو سليمان بن داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عمينا داب بن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (2) أبي الربيع نبي الله ابن نبي الله.
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق (3).
قال ابن ماكولا فارص بالصاد المهملة وذكر نسبه قريبا مما ذكره ابن عساكر قال الله تعالى: (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) [ النمل: 16 ] أي ورثه في النبوة والملك، وليس المراد ورثه في المال، لانه قد كان له بنون غيره، فما كان ليخص بالمال دونهم، وأنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " (4) وفي لفظ: " نحن معاشر الانبياء لا نورث " (5).
فأخبر الصادق المصدوق أن الانبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بها أقرباؤهم لان الدنيا كانت أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك، كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم وقال: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) الآية يعني أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي بن حمشاد (6) حدثنا اسمعيل بن قتيبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو جعفر
الاستوائي (7) يعني محمد بن عبد الرحمن عن أبي يعقوب القمي (8)، حدثني أبو مالك قال: مر
__________
(1) ذكر سليمان في القرآن ست عشرة مرة في: البقرة - النساء - الانعام - الانبياء - النمل - سبأ - ص.
(2) راجع التعليق على نسب داود، وقد تقدم قريبا.
(3) راجع تاريخ ابن عساكر ج 6 / 352 - 253 تهذيب.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 85 / 3 / 6727 فتح الباري، وأخرجه مسلم في صحيحه 32 / 16 / 49 ومالك في الموطأ 56 / 12 / 27 والترمذي في سننه 22 / 44 / 1610 والنسائي في سننه وأحمد في مسنده 1 / 4، 6، 9، 25 - 2 / 463 - 6 / 145، 262.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الخمس، وفضائل أصحاب النبي (12) وفي المغازي (14، 38) وفي النفقات (3) وفي الفرائض (3) وفي كتاب الجهاد (49، 52، 54، 56).
(6) في الاصول حشاد، وهو تحريف.
(7) في الاصول الاسواني وهو تحريف والصواب الاستوائي نسبة إلى اتسوا وهي كورة بنواحي نيسابور ذكره صاحب معجم البلدان وفيه: محمد بن بسطام بن الحسن الاستوائي وقد ولي قضاء نيسابور ودام له القضاء ولاولاده.
معجم البلدان ج 1 / 175.
(8) في الاصول: العمي، وهو أبو الحسن يعقوب بن عبد الله بن سعد بن مالك الاشعري القمي روى عن =

سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال لاصحابه: أتدرون ما يقول قالوا وما يقول يا نبي الله ؟ قال يخطبها إلى نفسه ويقول زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت.
قال سليمان عليه السلام لان غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد ولكن كل خاطب كذاب.
رواه ابن عساكر (1): عن أبي القاسم زاهر بن طاهر عن البيهقي به وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات: (وأوتينا من كل شئ) أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والانس والطيور والوحوش والشياطين السارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من
الناطقات والصامتات ثم قال: (إن هذا لهو الفضل المبين) أي من بارئ البريات وخالق الارض والسموات كما قال تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) [ النمل: 17 - 19 ].
يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أنه ركب يوما في جيشه جميعه من الجن والانس والطير، فالجن والانس يسيرون معه، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة أي نقباء يردون أوله على آخره فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه، ولا يتأخر عنه (2) قال الله تعالى: (حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) [ النمل: 18 ] فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور.
وقد ذكر وهب أنه مر وهو على البساط بواد (3) بالطائف وأن هذه النملة كان اسمها جرسا (4) وكانت من قبيلة يقال لهم بنو الشيصبان وكانت عرجاء وكانت بقدر الذئب.
وفي هذا كله نظر بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكبا في خيوله وفرسانه لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط لانه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شئ ولا وطئ لان البساط كان عليه جميع ما
__________
= عيسى بن جابر وروى عنه أبو الربيع الزهراني وغيره توفي بقزوين سنة 74 معجم البلدان 4 / 398.
(1) تاريخ ابن عساكر 6 / 253 تهذيب.
(2) قال القرطبي في أحكام القرآن ج 13 / 168 وفي الآية دليل على اتخاذ الامام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ; إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
(3) وادي السرير.
(4) قال في أحكام القرآن: قيل كان اسمها: طاخية.
وقال السهيلي: " قالوا اسمها حرميا.
ولا أدري كيف
يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا.

يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والاثقال والخيام والانعام والطير من فوق ذلك كله كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة لامتها من الرأي السديد، والامر الحميد، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره وليس كما يقوله بعض الجهلة، من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان، وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها، فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم لغاتها مزية على غيره، إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك ولو كان قد أخذ عليها العهد أن لا تتكلم مع غيره وكان هو يفهمها لم يكن في هذا أيضا فائدة يعول عليها، ولهذا قال: (رب أوزعني) أي ألهمني وأرشدني: (أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره وأن ييسر عليه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحين وقد استجاب الله تعالى له.
والمراد بوالديه داود عليه السلام وأمه وكانت من العابدات الصالحات كما قال سنيد بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قالت أم سليمان بن داود: يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرا يوم القيامة ".
رواه ابن ماجه (1) عن أربعة من مشايخه عنه به نحوه.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي فقال لاصحابه: ارجعوا فقد سقيتم إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها.
قال ابن عساكر (2): وقد روي مرفوعا ولم يذكر فيه سليمان ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن
روح بن خالد، عن عقيل، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خرج نبي من الانبياء بالناس يستسقون الله فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال النبي: " ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة ".
وقال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام، فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: " اللهم أنا خلق من خلقك ولا غناء بنا عن فضلك " قال فصب الله عليهم المطر.
قال تعالى: (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لاعذبنه عذابا
__________
(1) رواه ابن ماجه في اقامة ح 174 وفيه:..تترك الرجل فقيرا.
(2) رواه ابن عساكر في تاريخه 6 / 271 تهذيب.

شديدا أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم.
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون إلا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والارض ويعلم ما يخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.
إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون.
قالت يا أيها الملا إني القي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر إليك فانظري ماذا تأمرين.
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة أهلها اذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون.
ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون) [ النمل: 20 - 37 ].
يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون (1) يقومون بما يطلب منهم، ويحضرون عنده بالنوبة كما هي عادة الجنود مع الملوك.
وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا اعوزوا الماء في القفار في حال الاسفار يجئ فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الارض فإذا دلهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم.
فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته (فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) أي ماله مفقود من ههنا أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي (لاعذبنه عذابا شديدا) توعده بنوع من العذاب.
اختلف المفسرون فيه والمقصود حاصل على كل تقدير (أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) أي بحجة تنجيه من هذه الورطة.
قال الله تعالى: (فمكث غير بعيد) أي فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها: (فقال) لسليمان: (احطت بما لم تحط به) أي اطلعت على ما لم تطلع عليه (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) أي بخبر صادق (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم) يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم.
وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلا فعم به الفساد، فأرسلت إليه
__________
(1) في الطبري: اختار سليمان من كل طير طيرا فجعله رأس تلك الطير، فإذا أراد أن يسأل شيئا من تلك الطير سأل رأسها.

تخطبه فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمرا ثم حزت رأسه ونصبته على بابها (1)، فأقبل الناس عليها وملكوها عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهدهاد وقيل شراحيل بن ذي جدن بن السيرح (2) بن الحرث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وكان أبوها من أكابر الملوك وكان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن فيقال إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانة بنت
السكن (3)، فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمة (4) ويقال لها بلقيس.
وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان أحد أبوي بلقيس جنيا ".
وهذا حديث غريب وفي سنده ضعف.
وقال الثعلبي أخبرني أبو عبد الله بن قبحونة، حدثنا أبو بكر بن جرجة، حدثنا ابن أبي الليث، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ".
اسماعيل بن مسلم هذا هو المكي ضعيف.
وقد ثبت في صحيح البخاري: من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (5).
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حميد عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ بمثله ] وقال الترمذي حسن صحيح وقوله: (واوتيت من كل شئ) أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك (ولها عرش عظيم) يعني سرير مملكتها كان مزخرفا بأنواع الجواهر واللآلئ والذهب والحلى الباهر.
ثم ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصده إياهم عن عبادة الله وحده لا شريك له الذي يخرج الخبء في السموات والارض ويعلم ما يخفون وما يعلنون أي يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) أي له العرش العظيم، الذي لا أعظم منه في المخلوقات.
فعند ذلك بعثه معه سليمان عليه السلام كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله والانابة والاذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ولهذا قال لهم: (ألا تعلوا علي) أي لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري (واتوني مسلمين) أي وأقدموا علي سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة.
فلما
__________
(1) راجع الكامل لابن الاثير 1 / 233.
(2) ذكر الطبري في نسبها: ابنة ذي شرح بن ذي جدن بن ايلي شرح.
(3) في أحكام القرطبي: بلعمة بنت شيصان.
وفي الكامل: رواحة بنت السكر ; وقيل يلقمه بنت عمرو بن عمير الجني.
(4) في الطبري: بلمقة وفي الكامل: بلقمة.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 92 / 18، والترمذي في سننه 31 / 75 وأحمد في مسنده: 5 / 38، 43، 45، 47، 50، 51 والنسائي في سننه وأبو داود الطيالسي في مسنده.
قال القاضي ابن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه ونقل عن الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه.

جاءها الكتاب مع الطير ومن ثم اتخذ الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى، تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له، فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها (قالت يا أيها الملا إني القي إلي كتاب كريم) ثم قرأت عليهم عنوانه أولا (إنه من سليمان) ثم قرأته: (وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي واتوني مسلمين) ثم شاورتهم في أمرها وما قد حل بها وتأدبت معهم، وخاطبتهم، وهم يسمعون (قالت يا أيها الملا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) [ النمل: 32 ] تعني ما كنت لابت أمرا إلا وأنتم حاضرون (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الابطال فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين (و) مع هذا (الامر إليك فانظري ماذا تأمرين) [ النمل: 33 ] فبذلوا لها السمع والطاعة وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوضوا إليها في ذلك الامر، لترى فيه ما هو الارشد لها ولهم، فكان رأيها أتم وأسد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) [ النمل: 34 ] تقول برأيها السديد إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الامر من بينكم إلا إلي ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) [ النمل: 35 ] أرادت أن تصانع عن نفسها، وأهل مملكتها
بهدية ترسلها، وتحف تبعثها ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم، والحالة هذه صرفا ولا عدلا لانهم كافرون وهو وجنوده عليهم قادرون ولهذا (لما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون) [ النمل: 36 ] هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة، كما ذكره المفسرون (1).
ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) [ النمل: 37 ] يقول ارجع بهديتك التي قدمت بها إلي من قد من بها، فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الاموال، والتحف، والرجال ما هو أضعاف هذا وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) [ النمل: 37 ] أي فلابعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم ولاخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أذلة (وهم صاغرون) عليهم الصغار والعار
__________
(1) عن ابن عباس: بعث باثنتي عشرة وصيفة، واثني عشر غلاما، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير ; وبخرزتين احداهما مثقوبة ثقبا معوجا والاخرى غير مثقوبة.
وبقدح لا شئ فيه.
(من ذهب).
[ قيل بعثت الهدية مع رجل من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ].
أحكام القرآن 13 / 196.

والدمار.
فلما بلغهم ذلك عن نبي الله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة، وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين.
فلما سمع بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن.
(قال يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين.
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا
يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) [ النمل: 38 - 43 ] - لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها، قبل قدومها عليه (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) يعني قبل أن ينقضي مجلس حكمك وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهمات بني إسرائيل وما لهم من الاشغال (وإني عليه لقوي أمين) أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليك وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك (قال الذي عنده علم من الكتاب) المشهور أنه آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان.
وقيل هو رجل من مؤمني الجان كان فيما يقال يحفظ الاسم الاعظم.
وقيل رجل من بني إسرائيل من علمائهم وقيل إنه سليمان وهذا غريب جدا.
وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام قال وقد قيل فيه قول رابع وهو جبريل (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) قيل معناه قبل أن تبعث رسولا إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الارض ثم يعود إليك.
وقيل قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس وقيل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك.
وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته وهذا أقرب ما قيل.
(فلما رآه مستقرا عنده) أي فلما رأى عرش بلقيس مستقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) أي هذا من فضل الله علي وفضله على عبيده ليختبرهم على الشكر أو خلافه (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) أي إنما يعود نفع ذلك عليه (ومن كفر فإن ربي غني كريم) أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلى هذا العرش وينكر لها ليختبر فهمها وعقلها ولهذا قال: (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو) وهذا من فطنتها وغزارة فهمها لانها
استبعدت أن يكون عرشها لانها خلفته وراءها بأرض اليمن ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا

الصنع العجيب الغريب قال الله تعالى إخبارا عن سليمان وقومه: (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) أي ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي قومها من دون الله اتباعا لدين آبائهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلى ذلك ولا حداهم على ذلك، وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج، وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفا من زجاج، وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه (فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت ربي أني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) [ النمل: 44 ] وقد قيل إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها، وخشوا أن يتزوجها لان أمها من الجان فتتسلط عليهم معه.
وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة وهذا ضعيف.
وفي الاول أيضا نظر والله أعلم.
إلا أن سليمان قيل إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها سأل الانس عن زواله فذكروا له الموسى فامتنعت من ذلك.
فسأل الجان فصنعوا له النورة، ووضعوا لها الحمام، فكان أول من دخل الحمام فلما وجد مسه قال أوه من عذاب أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه.
رواه الطبراني مرفوعا وفيه نظر.
وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن (1) وردها إليه، وكان يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام ثم يعود على البساط وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن غمدان وسالحين وبيتون فالله أعلم.
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه أن سليمان لم يتزوجها بل زوجها بملك همدان (2) وأقرها على ملك اليمن وسخر زوبعة ملك جن اليمن فبنى لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن.
والاول أشهر وأظهر.
والله أعلم.
وقال تعالى في سورة ص: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه
بالعشى الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق.
ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم أناب.
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي أنك أنت الوهاب.
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد.
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ ص: 30 - 39 ] يذكر تعالى أنه وهب
__________
(1) هذا قول ابن الاثير في الكامل.
وفي أحكام القرآن عن الضحاك: أنه تزوجها وأسكنها الشام.
(2) وفي رواية أخرى في الكامل: أنه زوجها ذا تبع ملك همدان ثم ردها إلى اليمن.
ونقل الخبر الطبري في تاريخه 1 / 257.
وفيه أمر زوبعة أمير جن اليمن فصنع لذي تبع الصنائع باليمن..سلحين وصرواح ومرواح.
وبينون وهند وهنيدة وتلثوم (وهي حصون).

لداود سليمان عليهما السلام ثم أثنى الله عليه تعالى فقال: (نعم العبد إنه أواب) أي رجاع مطيع لله.
ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة.
الجياد وهي المضمرة السراع (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) يعني الشمس.
وقيل الخيل على ما سنذكره من القولين.
(ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق) قيل مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف.
وقيل مسح عنها العرق لما أجراها وسابق بينها وبين يديه على القول الآخر.
والذي عليه أكثر السلف الاول فقالوا: اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس روي هذا عن علي بن أبي طالب وغيره والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمدا من غير عذر، اللهم إلا أن يقال إنه كان سائغا في شريعتهم فأخر الصلاة لاجل أسباب الجهاد وعرض الخيل من ذلك.
وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق أن هذا كان مشروعا إذ ذاك حتى نسخ بصلاة الخوف قاله الشافعي وغيره.
وقال مكحول والاوزاعي بل هو حكم محكم إلى اليوم أنه يجوز تأخيرها بعذر القتال الشديد (1) كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة النساء عند صلاة الخوف.
وقال آخرون بل كان
تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق نسيانا وعلى هذا فيحمل فعل سليمان عليه السلام على هذا والله أعلم.
وأما من قال الضمير في قوله حتى توارت بالحجاب عائد على الخيل وأنه لم تفته وقت صلاة وإن المراد بقوله: (ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق) يعني مسح العرق عن عراقيبها وأعناقها، فهذا القول اختاره ابن جرير ورواه الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق.
ووجه هذا القول ابن جرير بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة ويهلك مالا بلا سبب ولا ذنب لها وهذا الذي قاله فيه نظر لانه قد يكون هذا سائغا في ملتهم وقد ذهب بعض علمائنا: إلى أنه إذا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شئ من الحيوانات من أغنام ونحوها جاز ذبحها وإهلاكها لئلا يتقووا بها، وعليه حمل صنيع جعفر بن أبي طالب يوم عقر فرسه بموته، وقد قيل إنها كانت خيلا عظيمة.
قيل كانت عشرة آلاف فرس.
وقيل عشرين ألف فرس (2).
وقيل كان فيها عشرون فرسا من ذوات الاجنحة.
وقد روى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني عمارة بن عزية ": أن محمد بن إبراهيم حدثه 4)
__________
(1) الخبر في تاريخ ابن عساكر ج 6 / 258 و 259 تهذيب وقال القرطبي في أحكامه: ومن قال إن الهاء في ردوها ترجع للشمس فذلك من معجزاته.
والاكثر أن التي توارت بالحجاب هي الشمس، ولما فاتته الصلاة فأمر الله الملائكة الموكلين بالشمس ردوها فردوها حتى صلى العصر في وقتها وأن أنبياء الله لا يظلمون لانهم معصومون.
ج 15 / 196.
(2) وعن الحسن والكلبي ومقاتل: كانت ألف فرس ورثها سليمان عن أبيه، عرض عليه تسعمائة فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت.

عن محمد (1) بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها (2) ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب، فقال: " ما هذا يا عائشة ؟ فقالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع.
فقال: " ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت: فرس.
قال: وما الذي عليه هذا ؟ قالت: جناحان.
قال: فرس له
جناحان ؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه وسلم " (3).
وقال بعض العلماء لما ترك الخيل لله عوضه الله عنها بما هو خير له منها وهو الريح التي كانت غدوها شهرا ورواحها شهرا كما سيأتي الكلام عليها، كما قال الامام أحمد: حدثنا إسمعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عزوجل وقال: " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عزوجل إلا أعطاك الله خيرا منه " (4).
وقوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب).
ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين ههنا آثارا كثيرة عن جماعة من السلف وأكثرها أو كلها متلقاة من الاسرائيليات (5) وفي كثير منها نكارة شديدة وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير واقتصرنا ههنا على مجرد التلاوة ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوما ثم عاد إليه ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس فبناه بناء محكما.
وقد قدمنا أنه جدده وأن أول من جعله مسجدا اسرائيل عليه السلام كما ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر، قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول قال: " المسجد الحرام " قلت: ثم أي ؟ قال: مسجد بيت المقدس، قلت: كم
__________
(1) في سنن أبي داود: عن أبي سلمة، وسقط اسم محمد ابنه.
(2) السهوة.
قال في النهاية: السهوة بيت صغير، منحدر في الارض قليلا وقيل هو كالصفة، وقيل شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشئ.
(3) سنن أبي داود - كتاب الادب - باب في اللعب بالبنات ح 4932 ج 4 / 283.
(4) مسند أحمد ج 5 / 79 وفيه: إلا أتاك الله خيرا منه.
(5) هذه الاقوال التي نقلها المفسرون لا تصح قصصا لمنافاتها للعصمة التي هي من أخص صفات الانبياء عليهم السلام.
ولو صح منها شئ لكان الوحي محل الشك والارتياب.
وقال أبو حيان في تفسيره: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الانبياء منها، وهي مما لا يحل نقلها وهي إما من أوضاع اليهود أو الزنادقة.
ولم يبين الله الفتنة ما هي ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان..وقال: ويستحيل
عقلا بعض ما ذكروه كتمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس..نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها.
وقال الالوسي: ومن أقبح ما زعم: تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض.
الله أكبر ! هذا بهتان عظيم وخطب جسيم..وقد ضعف القرطبي هذا الزعم.

بينهما ؟ قال: أربعون سنة " (1) ومعلوم أن بين إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام، وبين سليمان بن داود عليهما السلام أزيد من ألف سنة دع أربعين سنة وكان سؤاله الملك الذي لا ينبغي لاحد من بعده بعد إكماله اليت المقدس.
كما قال الامام أحمد، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم عن عبد الله بن فيروز الديلمي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزوجل خلالا ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة، سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها " (2).
فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) [ الانبياء: 78 - 79 ] وقد ذكر شريح القاضي وغير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كان لهم كرم فنفشت فيه غنم قوم آخرين، أي رعته بالليل فأكلت شجرة بالكلية، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لاصحاب الكرم بقيمته فلما خرجوا على سليمان قال: بما حكم لكم نبي الله ؟ فقالوا: بكذا وكذا فقال أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم فيستغلونها نتاجا ودرا حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه، ثم يتسلموا غنمهم، فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم به.
وقريب من هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا
الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخر فقالت الكبري: إنما ذهب بابنك.
وقالت الصغري: بل إنما ذهب بابنك.
فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى، فخرجتا على سليمان فقال ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به لها " (3).
ولعل كلا من الحكمين كان سائغا في شريعتهم، ولكن ما قاله سليمان أرجح، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه وإياه ومدح بعد ذلك أباه فقال: (وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) [ الانبياء: 79 - 80 ].
ثم قال: (ولسليمان الريح عاصفة) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة (تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الانبياء 10 - 40 ومسلم في المساجد 1، 2 والنسائي في مساجد 3 وابن ماجه في مساجد 7 ومسند أحمد ج 5 / 150، 156، 157، 160، 166، 167.
(2) أخرجه النسائي في مساجد - 6 - وابن ماجه إقامة 196 وأحمد في مسنده ج 2 / 176.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الانبياء 41 / 4 والقضاء 60 / 40 ورواه مسلم في 5 / 33، 30 / 20 والنسائي وأبو داود في سننيهما وابن ماجه في 28 / 14 وأحمد في مسنده 2 / 322 - 340 - 5 / 447 - 448.

ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) [ الانبياء: 81 - 82 ].
وقال في سورة ص: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.
وان له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ ص: 36 - 40 ].
لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله عوضه الله منها الريح التي هي أسرع سيرا وأقوى وأعظم ولا كلفة عليه لها تجري بأمره رخاء (حيث أصاب) أي حيث أراد من أي البلاد.
كان له بساط مركب من أخشاب بحيث إنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية والقصور والخيام والامتعة والخيول والجمال والاثقال والرجال من الانس والجان، وغير ذلك من الحيوانات والطيور فإذا أراد سفرا أو مستنزها أو قتال ملك أو أعداء
من أي بلاد الله شاء، فإذا حمل هذه الامور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته فرفعته فإذا استقل بين السماء والارض أمر الرخاء فسارت به، فإن أراد أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون فوضعته في أي مكان شاء بحيث إنه كان يرتحل في أول النهار من بيت المقدس فتغدو به الريح فتضعه باصطخر (1) مسيرة شهر فيقيم هناك إلى آخر النهار.
ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس كما قال تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) [ سبأ: 12 - 13 ].
قال الحسن البصري كان يغدو من دمشق فينزل باصطخر فيتغدى بها ويذهب رائحا منها فيبيت بكابل (2) وبين دمشق وبين إصطخر مسيرة شهر، وبين إصطخر وكابل مسيرة شهر.
قلت: قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان: أن إصطخر بنتها الجان لسليمان وكان فيها قرار مملكة الترك قديما وكذلك غيرها من بلدان شتى كتدمر وبيت المقدس وباب جبرون وباب البريد اللذان بدمشق على أحد الاقوال.
وأما القطر فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد: هو النحاس.
قال قتادة: وكانت باليمن أنبعها الله له.
قال السدي ثلاثة أيام فقط (3) أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات
__________
(1) إصطخر: بلدة بفارس، من أقدم مدنها وأشهرها، كان عليها قديما سور فتهدم بينها وبين شيراز اثنا عشر فرسخا النسبة إليها اصطخري واصطخرزي بناها اصطخر بن طهمورث ملك الفرس.
معجم البدان 1 / 211.
(2) كابل: كابل في الاقليم الثالث، قال ابن الفقيه: من ثغور طخارستان.
وهي بين الهند ونواحي سجستان في ظهر الغور.
غزاها المسلمون في أيام بني مروان وافتتحوها.
معجم البلدان 4 / 426.
(3) قال القشيري: تخصيص الاسالة بثلاثة أيام لا يدري ما حده، ولعله وهم من ناقله، إذ في رواية مجاهد: أنها سالت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها، وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة.

وغيرها وقوله: (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) [ سبأ: 12 ] أي وسخر الله له من الجن عمالا يعملون له ما يشاء، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته، ومن خرج منهم عن الامر عذبه ونكل به (يعملون له ما يشاء من محاريب) وهي الاماكن الحسنة وصدور المجالس (وتماثيل) وهي الصور في الجدران وكان هذا سائغا في شريعتهم وملتهم (1) (وجفان كالجواب).
قال ابن عباس الجفنة كالجوبة من الارض وعنه كالحياض، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم.
وعلى هذه الرواية يكون الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء كما قال الاعشى: تروح على آل المحلق جفنة * كجابية الشيخ العراقي يفهق (2) وأما القدور الراسيات فقال عكرمة: أثافهيا منها.
يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن وهكذا قال مجاهد وغير واحد.
ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام والاحسان إلى الخلق من إنسان وجان قال تعالى: (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) [ سبأ: 13 ] وقال تعالى: (والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد) يعني أن منهم من قد سخره في البناء ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر واللآلئ وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك وقوله: (وآخرين مقرنين في الاصفاد) أي قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الاصفاد: وهي القيود.
هذا كله من جملة ما هيأه الله وسخر له من الاشياء التي هي من تمام الملك الذي لا ينبغي لاحد من بعده، ولم يكن أيضا لمن كان قبله.
وقد قال البخاري: ثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي [ ص: 35 ] فرددته خاسئا) " (3).
وكذا رواه
__________
= وقال القرطبي في أحكامه: والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه دلالة على نبوته.
14 / 270.
(1) نسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، والتوعد لمن عملها أو اتخذها، فنسخ الله عزوجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لانه بعث صلى الله عليه وسلم والصور تعبد، فكان الاصلح إزالتها.
روى مسلم عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل.
(2) الفهق: الامتلاء.
وخص العراقي لجهله بالمياه لانه حضري، فإذا وجدها ملا جابيته وأعدها ولم يدر متى يجد المياه ; وأما البدوي فهو عالم بالمياه فهو لا يبالي ألا بعدها.
(3) صحيح البخاري 8 / 75، 60 / 40، وأخرجه مسلم في صحيحه (5) كتاب المساجد (28) باب - 309 / 541.
وأحمد في مسنده: 2 / 298.

مسلم والنسائي من حديث شعبة.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فسمعناه يقول: " أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا: يارسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك.
ورأيناك بسطت يدك، قال: " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي.
فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات.
ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لاصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة " (1) وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا مرة بن معبد، ثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال: رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال: حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة.
فلما فرغ من صلاته قال: " لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين: الابهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لاصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن
استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " (2).
روى أبو داود منه " فمن استطاع " إلى آخره عن أحمد بن سريج عن أحمد الزبيري به.
وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة سبعمائة بمهور وثلثمائة سراري وقيل بالعكس ثلثمائة حرائر وسبعمائة من الاماء.
وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما جدا قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال سليمان بن داود لاطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قالها لجاهدوا في سبيل الله " (3).
وقال شعيب وابن أبي الزناد تسعين وهو أصح.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال سليمان بن داود لاطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن
__________
(1) أخرجه مسلم: في 5 كتاب المساجد - 28 باب 40 / 542 ; والنسائي في سننه 17 / 19.
(2) مسند أحمد ج 3 / 82.
(3) صحيح البخاري 83 / 4 / 6639 فتح الباري.

امرأة إلا امرأة ولدت نصف إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قال إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله الله عزوجل " (1).
إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال قال سليمان بن داود لاطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ولم يستثن فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو استثنى لولد له مائة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عزوجل " تفرد به أحمد أيضا (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سليمان بن داود لاطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله قال: ونسي أن يقول إن شاء الله فأطاف بهن قال: فلم تلد منهن امرأة إلا واحدة نصف إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " (3) وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به مثله.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا مقاتل، عن أبي الزناد وابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن سليمان بن داود كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوما: لاطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يستثن فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عزوجل ".
وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر فإنه منكر الحديث ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح.
وقد كان له عليه السلام من أمور الملك واتساع الدولة وكثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لاحد قبله، ولا يعطيه الله أحدا بعده كما قال: (وأوتينا من كل شئ) [ النمل: 16 ] (وقال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب) [ ص: 35 ] وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه من النعم الكاملة العظيمة إليه قال: (وهذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) أي أعط من شئت واحرم من شئت فلا حساب عليك أي تصرف في المال كيف شئت، فإن الله قد سوغ لك كل ما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك، وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه أن لا يعطي أحدا ولا يمنع أحدا إلا باذن الله له في ذلك، وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين فاختار أن يكون عبدا رسولا (4).
وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في ذلك، فأشار إليه أن تواضع فاختار أن يكون عبدا
__________
(1) رواه أحمد في مسنده ج 2 / 506 ورواه ابن عساكر في تاريخه 6 / 266 تهذيب.
(2) مسند الامام أحمد 2 / 229.
(3) مسند الامام أحمد 2 / 275.
(4) تقدم تخريج الحديث ورواته فليراجع في محله.

رسولا صلوات الله وسلامه عليه وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة فلله الحمد والمنة.
ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه السلام من خير الدنيا نبه على ما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والاجر الجميل والقربة التي تقربه إليه والفوز العظيم والاكرام بين يديه وذلك يوم المعاد والحساب حيث يقول تعالى: (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب).
[ ذكر ] (1) وفاته و [ كم كانت ] (1) مدة ملكه وحياته قال الله تبارك وتعالى: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) [ سبأ: 14 ].
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأس شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك فتقول كذا فيقول لاي شئ أنت ؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء أنبتت فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك قالت الخروب قال لاي شئ أنت ؟ قالت لخراب هذا البيت فقال سليمان: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الانس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا والجن تعمل فأكلتها الارضة، فتبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين.
قال وكان ابن عباس يقرأها كذلك قال فشكرت الجن للارضة فكانت تأتيها بالماء (2).
لفظ ابن جرير.
وعطاء الخراساني في حديثه نكارة.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا وهو أشبه بالصواب والله أعلم.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من
الصحابة كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها ما اسمك ؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا [ فيقول لها: لاي شئ نبت ؟ فتقول: نبت لكذا وكذا فيأمر بها فقطع ] (3) فإن كانت لغرس غرسها وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا فيجعلها كذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها ما اسمك ؟ فقالت: أنا الخروبة.
فقال ولاي شئ نبت ؟ فقالت نبت
__________
(1) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) روى الخبر الطبري في تاريخه (1 / 266 قاموس حديث).
(3) ما بين معكوفين، زيادة اقتضاها السياق، من تاريخ الطبري.

لخراب هذا المسجد.
فقال سليمان ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له.
ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول الست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتا فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه، ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الارضة، ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الارضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة.
ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي قراءة ابن مسعود فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا فأيقن الناس عند ذلك، أن الجن كانوا يكذبون، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم
يلبثوا في العذاب سنة يعملون له وذلك قول الله عزوجل: (ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) [ سبأ: 14 ] يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للارضة: لو كنت تأكلين الطعام لاتيناك بأطيب الطعام ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين قال فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في حوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكرا لها (1).
وهذا فيه من الاسرائيلات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في " كتاب القدر " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الاعمش، عن خيثمة قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال: ما أنا أعلم بذاك منك إنما هي كتب يلقى إلي فيها تسمية من يموت.
وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني.
فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي فاتكأ على عصاه قال فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوك على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت قال والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي قال فبعث الله دابة الارض - يعني - إلى منسأته فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر، فلما رأت الجن ذلك انفضوا
__________
(1) روى الخبر الطبري في تاريخه 1 / 261 - 262 (قاموس حديث).

وذهبوا قال فذلك قوله: (ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
قال أصبغ وبلغني عن غيره: أنها مكثت سنة تأكل في منسأته حتى خر وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم والله أعلم.
قال إسحاق بن بشر، عن محمد ابن إسحاق، عن الزهري وغيره أن سليمان عليه السلام
عاش ثنتين (1) وخمسين سنة وكان ملكه أربعين سنة وقال إسحاق أنبأنا أبوروق عن عكرمة عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة والله أعلم وقال ابن جرير: فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفا وخمسين سنة.
وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر.
ثم ملك بعده ابنه رحبعام (2) مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.
[ باب ذكر ] (3) جماعة من انبياء بني اسرائيل بعد داود وسليمان وقبل زكريا ويحيى عليهم السلام فمنهم شعيا بن أمصيا قال محمد بن إسحاق وكان قبل زكريا ويحيى، وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا (4) على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس وكان سامعا مطيعا لشعيا فيما يأمره به وينهاه عنه من المصالح، وكانت الاحداث قد عظمت في بني إسرائيل فمرض الملك، وخرجت في رجله قرحة.
وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان وهو سنحاريب قال ابن إسحاق في ستمائة ألف راية وفزع الناس فزعا عظيما شديدا وقال الملك للنبي شعيا: ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده فقال لم يوح إلي فيهم شئ بعد.
ثم نزل عليه الوحي بالامر للملك حزقيا بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء فإنه قد اقترب أجله فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله عزوجل بقلب مخلص وتوكل وصبر: " اللهم رب الارباب وإله الآلهة [ القدوس المتقدس ] (5) يا رحمن يا رحيم [ المترحم
__________
(1) في الكامل لابن الاثير: ثلاث وخمسين سنة.
(2) في المسعودي: أرخبعم.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(4) كذا في رواية الطبري: حزقيا بن أحاز ; وفيه عن ابن إسحاق كان يدعى: صديقة.
(5) من الطبري.

الرؤوف الذي ] (1) لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك فأنت أعلم به من نفسي سري وإعلاني لك " قال: فاستجاب الله له ورحمه، وأوحى الله إلى شعيا يبشره بأنه قد رحم بكاءه وقد أخر في أجله خمس عشر سنة وأنجاه من عدوه سنحاريب [ وجنوده ] فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجدا وقال في سجوده: " [ يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت ]، اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزعه ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الاول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين [ أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي ] " فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح قد برئ.
ففعل ذلك فشفي وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت (2) فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه منهم بخت نصر فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم، فجعلهم في الاغلال، وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم والاهانة لهم سبعين يوما ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير ثم أودعهم السجن، وأوحى الله تعالى إلى شعيا أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخربهم بما قد كان من أمرهم فقال له السحرة والكهنة: إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلما تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به.
ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين.
قال ابن إسحاق ثم لما مات حزقيا ملك بني إسرائيل مرج أمرهم واختلطت أحداثهم وكثر شرهم فأوحى الله تعالى إلى شعيا فقام فيهم فوعظهم وذكرهم وأخبرهم عن الله بما هو أهله وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه.
فلما فرغ من مقالته عدوا عليه وطلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأو ذلك جاؤوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها فإنا لله وإنا إليه
راجعون (3).
ومنهم ارميا بن حلقيا من سبط لاوى بن يعقوب وقد قيل إنه الخضر.
رواه الضحاك عن ابن عباس.
وهو غريب وليس بصحيح (4).
قال
__________
(1) من الطبري.
(2) قال ابن قتيبة في المعارف ص 23: سلط عليهم الطاعون فأصبحوا موتى.
(3) نقل الخبر الطبري ج 1 / 280.
ما ورد بين معكوفين في الرواية زيادة - اقتضاها السياق - من تاريخ الطبري.
(4) ضعفه الطبري في نقله للخبر: واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني اسرائيل أرميا بن حلقيا وكان من سبط هارون.

ابن عساكر: جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفور بدمشق فقال: أيها الدم فتنت الناس فاسكن فسكن.
ورسب حتى غاب (1).
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني علي بن أبي مريم، عن أحمد بن حباب، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال أرميا: أي رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال: أكثرهم لي ذكرا، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق، الذين لا تعرض لهم وساوس الفناء ولا يحدثون انفسهم بالبقاء.
الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه.
وإذا زوى عنهم سروا بذلك.
أولئك أنحلهم محبتي وأعطيهم فوق غاياتهم.
[ ذكر ] (2) خراب بيت المقدس وقوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح أنه كان عبدا شكورا.
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا.
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا.
ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين
وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا.
عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) [ الاسراء: 2 - 8 ].
وقال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون، وأعينا ولا يبصرون، وآذانا ولا يسمعون، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم.
فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي ؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الامر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقي وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي.
خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم.
وإني أقسم بجلالي وعزتي لاهيجن عليهم جيولا لا يفقهون ألسنتهم، ولا يعرفون وجوههم، ولا يرحمون بكاءهم، ولابعثن فيهم ملكا جبارا قاسيا له عساكر كقطع السحاب ومواكب كأمثال الفجاج (3) كأن خفقان راياته طيران النسور وكأن حمل فرسانه كر (4)
__________
(1) روى الخبر في تاريخه 2 / 384 تهذيب.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) في الطبري: العجاج.
(4) في الطبري: كرير.

العقبان يعيدون العمران خرابا ويتركون القرى وحشة، فياويل أيليا وسكانها كيف أذللهم للقتل وأسلط عليهم السبا وأعيد بعد لجب الاعراس صراخا، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شرافات القصور مساكن السباع وبعد ضوء السرج وهج العجاج وبالعز ذلا وبالنعمة العبودية وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب.
وبالمشي على الزرابي الخبب، ولاجعلن أجسادهم زبلا
للارض وعظامهن ضاحية للشمس ولادوسنهم بألوان العذاب، ثم لآمرن السماء فتكون طبقا من حديد والارض سبيكة من نحاس، فإن أمطرت لم تنبت الارض، وإن أنبتت شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم.
ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئا سلطت عليه الآفة فإن خلص منه شئ نزعت منه البركة، فإن دعوتي لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.
رواه ابن عساكر بهذا اللفظ (1).
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا إدريس، عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل وذلك حين عظمت الاحداث فيهم فعملوا بالمعاصي وقتلوا الانبياء طمع بخت نصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم فأوحى الله إلى أرميا إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحيي فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجدا وقال: يا رب وددت أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي فقال له: ارفع رأسك فرفع رأسه فبكى ثم قال: يا رب من تسلط عليهم فقال عبدة النيران لا يخافون عقابي، ولا يرجون ثوابي، قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل.
من قبل أن أخلقك اخترتك.
ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ نبأتك ومن قبل أن تبلغ الاشد اخترتك (2) ولامر عظيم أجتبيتك فقم مع الملك تسدده وترشده فكان مع الملك يسدده ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الاحداث [ في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم ] ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله إلى أرميا [ أن ائت قومك من بني إسرائيل ] قم فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم فقال أرميا: " يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخطئ إن لم تسددني مخذول إن لم تنصرني ذليل إن لم تعزني " فقال تعالى: " أو لم تعلم أن الامور كلها تصدر عن مشيئتي وأن الخلق والامر كله لي وأن القلوب والالسنة (3) كلها بيدي فأقلبها
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 388، 389، 390 تهذيب.
وروى الخبر الطبري في تاريخه مطولا بنحوه ج
1 / 286 وما بعدها.
(2) في الطبري: اختبرتك.
(3) في الطبري: والالسن.

كيف شئت فتطيعني فأنا الله الذي ليس شئ مثلي.
قامت السموات والارض وما فيهن بكلمتي.
وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي، ولا يعلم ما عندي غيري.
وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها ففعلت أمري، وحددت عليها حدودا فلا تعدو حدي، وتأتي بأمواج كالجبال، فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي وخوفا واعترافا لامري وإني معك، ولن يصل إليك شئ معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب لذلك أجر من أتبعك ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم يا معشر ابناء الانبياء.
وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي ؟ وكيف وجدتم مغبة معصيتي ؟ وهل وجدوا أحدا عصاني ؟ فسعد بمعصيتي ؟ أو هل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي ؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الامر الذي به أكرمت آباءهم وابتغوا الكرامة من غير وجهها.
أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم ويعملون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري وسنتي وعزوهم عني.
فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا ليي فهم يطيعونهم في معصيتي.
وأما ملوكهم وامراؤهم فبطروا نعمتي وآمنوا مكري وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ونسوا عهدي، فهم يحترمون كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم وغرة بي فسبحان جلالي وعلو مكاني، وعظمة شأني هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي ؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي ؟ وهل ينبغي لي أن اخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني ؟ أو آذن لاحد بالطاعة لاحد.
وهي لا تنبغي إلا لي.
وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، ويطيعونهم في معصيتي، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعملون لا ينتفعون بشئ مما علموا من كتابي.
وأما أولاد النبيين، فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين، يتمون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم.
وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم بصروا وصدقوا حتى عز أمرى وظهر ديني فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني.
فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر، وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون.
وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الارض وألبسهم

العافية وأظهرهم على العدو، ولا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني، فحتى متى هذا ؟ أبي يسخرون ؟ أم بى يتحرشون ؟ أم إياي يخادعون ؟ أم علي يجترئون فإني أقسم بعزتي لاتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم (1)، ويضل فيها رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم، ثم لاسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتبا ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة، وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل [ سواد ] الليل المظلم.
له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج، وكأن حفيف (2) راياته طيران النسور وحمل فرسانه كسرب (3) العقبان يعيدون العمران خرابا والقرى وحشا ويعثون في الارض فسادا ويتبرون ما علوا تتبيرا قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يرحمون.
ولا يبصرون ولا يسمعون يجولون في الاسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الاسد تقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الاحلام بألسنة لا يفقهونها ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها.
فوعرتي لاعطلن ببوتهم من كتبي وقدسي ولاخلين مجالسهم من حديثها ودروسها ولاوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير الدين ويتعلمون فيها لغير العمل، لابدلن ملوكها بالعز الذل وبالامن الخوف وبالغني
الفقر وبالنعمة الجوع وبطول العافية والرخاء أنواع البلاء وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء، وبالارواح الطيبة والادهان جيف القتل، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والاغلال.
ثم لاعيدن فيهم بعد القصور الواسعة، والحصون الحصينة الخراب، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الانس الوحشة والقفار.
ثم لابدلن نساءها بالاسورة الاغلال، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد.
وبألوان الطيب والادهان النقع والغبار، وبالمشي على الزرابي عبور الاسواق والانهار والخبب إلى الليل في بطون الاسواق، وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه، والسوق والاسفار والارواح السموم.
ثم لادوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق (4) لوصل ذلك إليه، إني إنما أكرم من أكرمني، وإنما أهين من هان عليه أمري.
ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقا من حديد ولآمرن الارض فلتكونن سبيكة من نحاس فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت.
فإن أمطرت خلال ذلك شيئا سلطت عليهم الآفة فإن خلص منه شئ نزعت منه البركة، وإن دعوني لم أجبهم وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا إلي صرفت وجهي عنهم.
وإن قالوا اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك، وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ثم مكنت لنا في البلاد،
__________
(1) في الطبري: الحليم.
(2) في الطبري: خفيق.
(3) في الطبري 1 / 287: كرير العقبان.
(4) حالق: المكان المرتفع.

واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا، وحفظتنا وإياهم برحمتك كبارا فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا.
ولا تبدل.
وإن بدلنا، وإن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك، فإن قالوا ذلك قلت لهم إني ابتدئ عبادي برحمتي ونعمتي.
فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت، وإن
شكروا ضاعفت، وإن غيروا غيرت، وإذا غيروا غضبت.
وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شئ بغضبي.
قال كعب: فقال أرميا: برحمتك أصبحت أتعلم بين يديك، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك، ولكن برحمتك أبقيتني لهذا اليوم، وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولا، والاقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني، فإن تعذبني فبذنبي، وإن ترحمني فذلك ظني بك.
ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت ربنا وتعاليت أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك ؟ يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الامة وعذابك إياهم وهم من ولد إبراهيم خليلك، وأمة موسى نجيك، وقوم داود صفيك، يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد ؟ وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم ؟ وأمة نجيك موسى ؟ وقوم خليفتك داود ؟ تسلط عليهم عبدة النيران قال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لانزلنهم دار العاصين إلا أن أتداركهم برحمتي ".
قال أرميا: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به.
وموسى قربته نجيا فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا فأوحى الله إليه: " يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم فلو أن قومك حفظوا اليتامى والارامل والمساكين وابن السبيل لمكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طاهر ماؤها ولا يغور ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل: إني كنت لهم بمنزلة الداعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا فياويلهم ثم يا ويلهم إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري، إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي، وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعا فيظهرونها في المساجد والاسواق وعلى رؤوس الجبال
وظلال الاشجار حتى عجت السماء إلي منهم وعجت الارض والجبال، ونفرت منها الوحوش بأطراف الارض وأقاصيها وفي كل ذلك لا ينهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب ".
قال فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا: " كذبت وأعظمت على الله الفرية فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته

وتوحيده فمن يعبده حين لا يبقى له في الارض عابد ولا مسجد ولا كتاب، لقد أعظمت الفرية على الله واعتراك الجنون " فأخذوه وقيدوه وسجنوه فعند ذلك بعث الله عليهم بخت نصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال تعالى: (فجاسوا خلال الديار) [ الاسراء: 5 ] قال فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه ففتحوا الابواب وتخللوا الازقة وذلك قوله: (فجاسوا خلال الديار) وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين فقتل منهم الثلث، وسبى الثلث، وترك الزمنى (1)، والشيوخ والعجائز ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس وساق الصبيان، وأوقف النساء في الاسواق حاسرات، وقتل المقاتلة وخرب الحصون، وهدم المساجد، وحرق التوراة، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب، فوجدوه قد مات وأخرج أهل بيته الكتاب إليه وكان فيهم دانيال بن حزقيل الاصغر وميشائيل وعزرائيل وميخائيل فأمضى لهم ذلك الكتاب وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الاكبر.
ودخل بخت نصر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم.
فلما فرغ منها انصرف راجعا وحمل الاموال التي كانت بها، وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الاحبار والملوك تسعين ألف (2) غلام وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير، وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين وثمانية آلاف من سبط ايشى بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ونفتالي ابني يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط دان بن يعقوب وثمانية آلاف من سبط يستاخر بن يعقوب وألفين من سبط زيكون (3) بن يعقوب وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي واثني عشر ألفا من سائر بني إسرائيل وانطلق حتى قدم
أرض بابل.
قال إسحاق بن بشر: قال وهب بن منبه: فلما فعل ما فعل قيل له: كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم ويصفك وخبرك لهم.
ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه.
فأمر بخت نصر فأخرج أرميا من السجن فقال له أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم ؟ قال: نعم قال: فأنى علمت ذلك ؟ قال أرسلني الله إليهم فكذبوني قال كذبوك وضربوك وسجنوك قال: نعم قال: " بئس القوم قوم كذبوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك " قال له أرميا: إني لم أزل في أمان الله منذ كنت، لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني
__________
(1) الزمني: أصحاب العاهات.
(2) في الطبري: سبعين ألف صبي.
أراد أن يقسمهم على جنوده، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: زبالون وهو تحريف وسقطت من الطبري ; وفيه زاد: وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب.

إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك ولم يكن لك عليهم سلطان فلما سمع بخت نصر هذا القول منه تركه، فأقام أرميا مكانه بأرض أيليا.
وهذا سياق غريب.
وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة وفيه من جهة التعريب غرابة.
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كان بخت نصر أصفهبذا لما بين الاهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب.
وكان قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء (1)، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الاماكن وبعث بخت نصر لقتال بني إسرائيل بالشام فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق، وقد قيل إن الذي بعث بخت نصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم.
وقد روى ابن جرير: عن يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب، عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب: أن
بخت نصر لما قدم دمشق وجد بها دما يغلي على كبا يعني القمامة فسألهم ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر قال فقتل على ذلك سبعين الفا من المسلمين وغيرهم فسكن.
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا وهذا لا يصح لان يحيى بن زكريا بعد بخت نصر بمدة والظاهر أن هذا دم نبي متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به.
قال هشام بن الكلبي ثم قدم بخت نصر بيت المقدس فصالحه ملكها وكان من آل داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بخت نصر رهائن ورجع.
فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لاجل أنه صالحه فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة.
وقتل المقاتلة وسبى الذرية.
قال وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره إياهم وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه.
فقال بخت نصر: بئس القوم قوم عصوا رسول الله وخلى سبيله وأحسن إليه واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عزوجل مما صنعنا فادع الله أن يقبل توبتنا فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل (2) فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة فأخبرهم ما أمره الله تعالى به فقالوا كيف نقيم بهذه البلدة وقد خربت وغضب الله على أهلها فأبوا أن يقيموا (3).
قال ابن الكلبي: ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادي القرى (4)، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر فكتب بخت نصر إلى ملكها
__________
(1) في الطبري: الحسناء.
(2) في الطبري: أنهم غير فاعلين.
(3) الخبر في الطبري (ج 1 / 281 قاموس حديث).
(4) العبارة في الطبري: ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى وغيرها.

يطلب منه من شرد منهم إليه، فأبى عليه فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم.
ثم
ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية.
قال ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والاردن وفي السبي دانيال [ وغيره من الانبياء ] (1).
قلت والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الاصغر لا الاكبر على ما ذكره وهب بن منبه والله أعلم.
[ ذكر ] (2) شئ من خبر دانيال عليه السلام قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن عبد الاعلى الشيباني قال: إن لم أكن سمعته من شعيب ابن صفوان فحدثني بعض أصحابنا عنه، عن الاجلح الكندي، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال ضرا بخت نصر أسدين فألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب، فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام: أن اعدد طعاما وشرابا لدانيال فقال يا رب أنا بالارض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرناك به فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت.
ففعل وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعده حتى وقف على رأس الجب فقال دانيال من هذا ؟ قال: أنا أرميا.
فقال: ما جاء بك ؟ فقال: أرسلني إليك ربك.
قال وقد ذكرني ربي ؟ قال: نعم.
فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره.
والحمد لله الذي يجيب من رجاه.
والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره.
والحمد لله الذي يجزي بالاحسان إحسانا.
والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة.
والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا.
والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ينقطع الحيل عنا.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحق، عن أبي خلد بن دينار، حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا فنسخه بالعربية.
فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا.
فقلت لابي العالية: ما كان فيه ؟ قال سيركم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد.
قلت: فما صنعتم بالرجل ؟ قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشونه.
قلت:
فما يرجون منه، قال: كانت السماء إذا حبست عنهم [ المطر ] (3) برزوا بسريره فيمطرون.
قلت: من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال قلت منذ كم وجدتموه قد مات قال منذ ثلثمائة سنة قلت: ما تغير منه شئ قال لا إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الانبياء لا تبليها الارض
__________
(1) من الطبري.
(2) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.

ولا تأكلها السباع.
وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظا من ثلثمائة سنة فليس بنبي بل هو رجل صالح لان عيسى بن مريم ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي بنص الحديث الذي في البخاري والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة ؟ وقيل ستمائة وقيل ستمائة وعشرون سنة وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة وهو قريب من وقت دانيال إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الامر فإنه قد يكون رجلا آخر إما من الانبياء أو الصالحين ولكن قربت الظنون أنه دانيال لان دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجونا كما تقدم.
وقد روى بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر.
وعن أنس بن مالك بإسناد جيد أن طول أنفه ذراع فيحتمل على هذا أن يكون رجلا من الانبياء الاقدمين قبل هذه المدد والله أعلم.
وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور: حدثنا أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري، حدثنا أبو محمد القاسم بن عبد الله، عن أبي الاشعت الاحمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دانيال دعا ربه عزوجل أن تدفنه أمة محمد، فلما افتتح أبو موسى الاشعري تستر وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دل على دانيال فبشروه بالجنة.
فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص فكتب أبو موسى إلى عمر بخبره فكتب إليه عمر أن أدفنه وابعث إلى حرقوص فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة وهذا مرسل من هذا الوجه وفي كونه محفوظا نظر والله أعلم.
ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو بلال، حدثنا قاسم بن عبد الله، عن عنبسة بن سعيد وكان عالما، قال: وجد أبو موسى مع دانيال مصحفا وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أما المصحف فابعث به إلينا وأما الودك فابعث إلينا منه ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به واقسم الدراهم بينهم وأما الخاتم فقد نفلناكه.
وروي عن ابن أبي الدنيا من غير وجه: أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال التزمه وعانقه وقبله.
وكتب إلى عمر يذكر له أمره وأنه وجد عنده مالا موضوعا قريبا من عشرة آلاف درهم وكان من جاء اقترض منها فإن ردها وإلا مرض وإن عنده ربعة (1) فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر (2) ويكفن ويدفن ويخفى قبره، فلا يعلم به أحد وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال وبالربعة فتحمل إليه ونفله خاتمه.
وروي عن أبي موسى: أنه أمر أربعة من الاسراء فسكروا نهرا (3) وحفروا في وسطه قبرا فدفنه فيه ثم قدم الاربعة الاسراء فضرب أعناقهم فلم يعلم موضع (4) قبره غير أبي موسى الاشعري رضي الله عنه
__________
(1) ربعة: صندوق تحفظ فيه الاوراق وأجزاء القرآن.
(2) سدر: شجرة النبق.
(3) سكروا نهرا: سدوه.
(4) في نسخة: مكان قبره ; وقال في المعارف: إن قبره كان بناحية السوس، وبقول صاحب أخبار الدول أن أبا =

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: رأيت في يد ابن بردة بن أبي موسى الاشعري خاتما نقش فصه أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل قال أبو بردة هذا خاتم ذلك الرجل الميت الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال أخذه أبو موسى يوم دفنه.
قال أبو بردة فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا: إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له انه يولد ليلة كذا وكذا غلام يعور (1) ملكك ويفسده فقال الملك والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الاسد فبات الاسد
ولبوته يلحسانه ولم يضراه فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ قال أبو بردة قال أبو موسى قال: علماء تلك القرية فنقش دانيال صورته وصورة الاسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.
إسناد حسن.
[ ذكر ] (2) عمارة بيت المقدس بعد خرابها واجتماع [ الملا من ] (2) بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الارض [ وشعابها ] (2) قال الله تعالى في كتابه المبين وهو أصدق القائلين: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.
قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) [ البقرة: 259 ] قال هشام بن الكلبي: ثم أوحى الله تعالى إلى أ عليه السلام فيما بلغني: أني عامر بيت المقدس فاخرج إليها فانزلها، فخرج حتى قدمها خراب، فقال في نفسه: سبحان الله أمرني الله أن أنزل هذه البلدة وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمرها ؟ ومتى يحييها الله بعد موتها ؟ ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة من طعام (3) فمكث في نومه سبعين (4) سنة حتى هلك بخت نصر والملك الذي فوقه وهو لهراسب وكان ملكه مائة وعشرين سنة وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب وكان موت بخت نصر في دولته فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين فلم يبق بها من الانس أحد فنادى في أرض بابل في
__________
= موسى وجده في العراق.
وقال ابن الاثير في كامله: وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان 1 / 268.
(1) يعور ملكه: يهلكه.
(2) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(3) عصير من عنب في ركوة وسلة تين ; في رواية أخرى للطبري.
(4) فأماته الله مائة عام.
في رواية أخرى عند الطبري.

بني إسرائيل: أن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلا من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها فرجعوا فعمروها وفتح الله لارميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبنى وكيف تعمر ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خرابا فلما نظر إليها عامرة آهلة قال أعلم أن الله على كل شئ قدير.
قال فأقام بنو إسرائيل بها ورد الله عليهم أمرهم فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف.
ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان يعني بعد ظهور النصارى عليهم.
هكذا حكاه ابن جرير في تاريخه عنه (1).
وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكا عادلا سائسا لمملكته قد دانت له العباد والبلاد والملوك والقواد وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الامصار والانهار والمعاقل.
ثم لما ضعف عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف نزل عن الملك لولده بشتاسب فكان في زمانه ظهور دين المجوسية وذلك أن رجلا كان اسمه زردشت كان قد صحب أرميا عليه السلام فأغضبه فدعا عليه أرميا فبرص زردشت فذهب فلحق بأرض آذربيجان وصحب بشتاسب فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه فقبله منه بشتاسب وحمل الناس عليه وقهرهم وقتل منهم خلقا كثير ممن اباه منهم.
ثم كان بعد يشتاسب بهمن بن بشتاسب وهو من ملوك الفرس المشهورين والابطال المذكورين وقد ناب بخت نصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة وعمر دهرا طويلا قبحه الله.
والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو أرميا عليه السلام.
قال (2) وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهما وهو قوي من حيث السباق المتقدم وقد روي عن علي وعبد الله بن سلام وابن عباس والحسن وقتاة والسدي وسليمان بن بريدة وغيرهم أنه عزير.
وهذا اشهر عند كثير من السلف والخلف والله أعلم.
وهذه قصة العزير قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: هو عزير بن جروة ويقال بن سوريق بن عديا بن أيوب ابن درزنا بن عرى بن تقى بن أسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران.
ويقال عزير بن
سروخا جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق.
ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي، عن داود بن عمرو عن حبان بن علي، عن محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا لا أدري العين بيع أم لا ولا أدري أكان عزير نبيا أم لا ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن عن محمد بن إسحاق السجزي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب (3)، عن سعيد المقبري، عن أبي
__________
(1) تاريخ الطبري (1 / 281 - 282 قاموس حديث).
(2) في نسخ البداية المطبوعة: قال وهو تحريف.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: ابن أبي ذؤيب وهو تحريف.
وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، أبو الحارث أحد الاعلام روى عن عكرمة ونافع والزهري وعنه معمر وغيره.
ثقة وكان يفتي بالمدينة.
توفي سنة 159 الكاشف ج 3 / 62.

هريرة مرفوعا نحوه.
ثم روي من طريق إسحاق بن بشر وهو متروك عن جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أن عزيزا كان ممن سباه بخت نصر وهو غلام حدث فلما بلغ أربعين سنة أعطاه الله الحكمة قال ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه قال وكان يذكر مع الانبياء حتى محى الله اسمه من ذلك حين سأل ربه عن القدر.
وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر والله أعلم.
وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد، عن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن سلام: أن عزيزا هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن ومقاتل وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس وعبد الله بن إسماعيل السدي عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس وإدريس عن جده وهب بن منبه قال إسحاق: كل هؤلاء حدثوني عن حديث عزير وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم أن عزيزا كان عبدا صالحا حكيما خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر ودخل الخربة وهو على حماره فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين وسلة فيها عنب فنزل في ظل تلك الخربة وأخرج قصعة معه
فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة ثم أخرج خبزا يابسا معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها وقد باد أهلها ورأى عظاما بالية فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) فلم يشك أن الله يحييها ولكن قالها تعجبا فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام.
فلما أتت عليه مائة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث قال: فبعث الله إلى عزير ملكا فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى.
ثم ركب خلقه وهو ينظر ثم كسى عظامه اللحم والشعر والجلد ثم نفخ فيه الروح كل ذلك وهو يرى ويعقل فاستوى جالسا فقال له الملك كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب فقال أو بعض يوم ولم يتم لي يوم فقال له الملك بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك يعني الطعام الخبز اليابس وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز يابس فذلك قوله: (لم يتسنه) يعني لم يتغير وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شئ من حالهما فكأنه أنكر في قلبه فقال له الملك: أنكرت ما قلت لك انظر إلى حمارك فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة فنادى الملك عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى ركبه الملك وعزير ينظر إليه ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا يظن القيامة قد قامت فذلك قوله: (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحما) يعني وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها حتى إذا صارت عظاما مصورا حمارا بلا لحم ثم انظر كيف نكسوها لحما فلما

تبين له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير من إحياء الموتى وغيره (1): قال فركب حماره حتى أتى محلته فانكره الناس وأنكر الناس وأنكر منزله فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين
سنة كانت عرفته وعقلته فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة (2).
فقال لها عزير يا هذه أهذا منزل عزير قالت: نعم هذا منزل عزير فبكت وقالت ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس قال فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر قال: فإني أنا عزير قالت: فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك.
قال فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال: قومي باذن الله فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال (3) فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر (4) سنة وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري واطلق رجلي وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه قال: فنهض الناس، فأقبلوا إليه فنظروا إليه فقال ابنه كان لابي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير فقالت بنو إسرائيل فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بخت نصر التوراة ولم يبق منها شئ إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه سروخا وقد دفن التوراة أيام بخت نصر في موضع يعرفه أحد غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب قال وجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدد لهم التوراة ونزل من السماء شهابان (5) حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل (6).
فمن ثم قالت اليهود عزير ابن الله للذي كان من أمر الشهابين وتجديده التوراة وقيامه بأمر بني إسرائيل وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل.
والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ.
قال ابن عباس فكان كما قال الله تعالى: (ولنجعلك آية للناس) يعنى لبني
__________
(1) الخبر رواه الطبري في تاريخه 1 / 289 وفيه أن الذي أماته الله أرميا وليس عزيرا.
(2) الزمانة: العاهة.
(3) عقال: قيد.
(4) في الكامل لابن الاثير: مائة وثلاث عشرة سنة ; 1 / 270.
(5) في الطبري والكامل: بعث الله ملكا في صورة انسان، أتاه باناء فيه ماء فسقاه من ذلك الاناء فتمثلت التوراة في صدره [ عزير ].
(6) زاد الطبري: فصاروا يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها وحدودها ; وقامت التوراة بين أظهرهم وصلح بها أمرهم.

إسرائيل.
وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب لانه مات وهو ابن اربعين سنة فبعثه الله شابا كهيئة يوم مات قال ابن عباس بعث بعد بخت نصر وكذلك قال الحسن، وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس: واسود رأس شاب من قبله ابنه * ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر يرى ابنه شيخا يدب على عصا * ولحيته سوداء والرأس أشقر وما لابنه حيل ولا فضل قوة * يقوم كما يمشي الصبي فيعثر يعد ابنه في الناس تسعين حجة * وعشرين لا يجري ولا يتبختر وعمر أبيه اربعون أمرها * ولان ابنه تسعون في الناس غبر فما هو في المعقول إن كنت داريا * وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر فصل المشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل (1)، وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة ألهمه الله حفظها فسردها على بني إسرائيل كما قال وهب بن منبه أمر الله ملكا فنزل بمعرفة (2) من نور فقذفها في عزير فنسخ التوراة حرفا بحرف حتى فرغ منها.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله) [ البقرة: 30 ] لم قالوا ذلك ؟ فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه وقول بني إسرائيل لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في
كتاب وإن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب فرماه طوائف منهم وقالوا عزير ابن الله.
ولهذا يقول كثير من العلماء: إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير.
وهذا متجه جدا إذا كان العزيز غير بني كما قاله عطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وفيما رواه إسحاق بن بشر عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، وعن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه ومقاتل عن عطاء بن أبي رباح قال: كان في الفترة تسعة أشياء بخت نصر وجنة صنعاء وجنة سبا وأصحاب الاخدود وأمر حاصورا وأصحاب الكهف وأصحاب الفيل ومدينة انطاكية وأمر تبع.
وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد عن قتادة، عن الحسن قال: كان أمر عزير وبخت نصر في الفترة.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أولى الناس بابن مريم [ الانبياء أولاد علات ] (3) لانا إنه ليس بيني وبينه نبي " (4)
__________
(1) ذكره المسعودي بين الانبياء وقال: وقد تنازع الناس في نبوته.
وقال ابن قتيبة في المعارف: أن الله محا أسمه من الانبياء لانه أكثر المناجاة في القدر.
(2) تقدم في الطبري: أن الملك أتى عزير باناء ماء وسقاه منه فتمثلت التوراة في صدره.
(3) ما بين معكوفين سقط من نسخ البداية المخطوطة والمطبوعة.
واستدرك من نص الحديث.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه في 43 / 40 / 143، 144، 145 وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أولى الناس =

وقال وهب بن منبه كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام.
وقد روى ابن عساكر عن أنس بن مالك وعطاء بن السائب أن عزيرا كان في زمن موسى بن عمران وأنه استأذن عليه فلم يأذن له يعني لما كان من سوآله عن القدر وأنه انصرف وهو يقول مائة موتة أهون من ذل ساعة وفي معنى قول عزير مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء: قد يصبر الحر على السيف * ويأنف الصبر على الحيف ويؤثر الموت على حالة * يعجز فيها عن قرى الضيف فأما ما روى ابن عساكر وغيره عن ابن عباس ونوف البكالي وسفيان الثوري وغيرهم من أنه سأل عن القدر فمحى اسمه من ذكر الانبياء فهو منكر وفي صحته نظر وكأنه مأخوذ عن
الاسرائيليات وقد روى عبد الرزاق وقتيبة بن سعيد عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال قال عزير فيما يناجي ربه: " يا رب تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء " فقيل له أعرض عن هذا فعاد فقيل له لتعرض عن هذا أو لامحون اسمك من الانبياء إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون وهذا لا يقتضي وقوع ما توعد عليه لو عاد فما محيا اسمه والله أعلم.
وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة، وكذلك رواه شعيب عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل نبي من الانبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بها فأحرقت بالنار فأوحى الله إليه مهلا نملة واحدة " (1).
فروى إسحاق بن بشر: عن ابن جريج، عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه أنه عزير.
وكذا روى عن ابن عباس والحسن البصري أنه عزير فالله أعلم.
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم: (كهيعص.
ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
إذ نادى ربه نداء خفيا.
قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا.
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا.
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا.
قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا.
قال
__________
= بعيسى مريم..في الاولى والآخرة ؟.
قالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال: " الانبياء أخوة من علات..وأمهاتهم شتى..فليس بيننا نبي " حديث رقم 145.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 59 / 16 / 3319 فتح الباري ; ومسلم في صحيحه 39 / 39 / 148، 149، 150 وأحمد في مسنده ج 2 / 312، 449 وأبو داود والنسائي في سننيهما.

كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا.
قال رب اجعل لي اية قال ايتك
أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا.
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا.
وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا.
وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا.
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) [ مريم: 1 - 15 ].
وقال تعالى: (وكفلها زكريا كلما دخل عليهما زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين.
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء.
قال رب اجعل لي آية.
قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) [ آل عمران: 37 - 41 ].
وقال تعالى في سورة الانبياء: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.
فاستجبنا له ووهبنا له يحيى واصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) [ الانبياء: 89 - 90 ] وقال تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) [ الانعام: 85 ].
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل.
زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهناشاط بن اينا من بن رحبعام بن سليمان بن داود أبويحيى النبي عليه السلام من بني إسرائيل.
دخل البثينة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى.
وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى والله أعلم.
وقد قيل غير ذلك في نسبه (1) ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر ويقال زكرى أيضا.
__________
(1) ذكر المسعودي في مروج الذهب: زكريا بن أدق من ولد داود من سبط يهوذا.
وقال ابن قتيبة في المعارف: زكريا بن أزن من ولد داود من سبط يهوذا.
ولم يذكر نسب زكريا في القرآن ولا في كتب الانبياء عند أهل الكتاب.
قال النجار في قصص الانبياء مشككا في نسبه المتداول: ويوجد زكريا - آخر - ليس له قصة في القرآن اصلا، وهذا له كتاب من الكتب القانونية عند النصاري.
وهو زكريا بن برخيا وكان في زمن داريوس أي قبل زمن المسيح بما يقرب من ثلاثه قرون.
والنصارى يؤولونه بالمسيح واليهود يؤولونه بمسيحهم المنتظر وهو المسيح الدجال.
أما زكريا أبويحيى فيظهر أنه كان ممن لهم شركة في خدمة الهيكل وعلى ذلك فهو لاوي.
ص 368.

والمقصود ان الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولدا على الكبر، وكانت امرأته [ مع ذلك ] (1) عاقرا في حال شبيبتها وقد أسنت أيضا حتى لا ييئس أحد من فضل الله ورحمته، ولا يقنط من فضله تعالى وتقدس فقال تعالى: (ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا).
قال قتادة عند تفسيرها: إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي.
وقال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرا عنده مخافته فقال: " يا رب يا رب يا رب فقال الله لبيك لبيك لبيك ".
(قال رب إني وهن العظم مني) أي ضعف وخار من الكبر (واشتعل الرأس شيبا) استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شبيه كما قال ابن دريد في مقصورته: أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدجا واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا وآض عود اللهو يبسا ذاويا * من بعد ما قد كان مجاج الثرى يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطنا وظاهرا وهكذا قال زكريا عليه السلام: (إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) وقوله: (لم أكن بدعائك رب شقيا) أي ما دعوتني فيما أسألك إلا الاجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ما ثان وكان كلما دخل
عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إوانها ولا في آوانها وهذه من كرامات الاولياء فعلم أن الرازق للشئ في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدا وإن كان قد طعن في سنه (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) وقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا) قيل المراد بالموالي العصبة وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون برا تقيا مرضيا ولهذا قال: (فهب لي من لدنك) أي من عندك بحولك وقوتك (وليا يرثني) أي في النبوة (2) والحكم في بني إسرائيل: (ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية (3) يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي وليس المراد ههنا وراثة
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) قال القرطبي في الآية: سؤال ودعاء ; ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة فقيل كان عمره بضع وسبعين وقيل خمس وتسعين سنة وغلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره.
" يرثني " قيل النبوة: قال القرطبي: فأما قومهم وراثة نبوة فمحال، لان النبوة لا تورث.
(3) كان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ويرجع نسبها إلى سليمان - داود - يهوذا يعقوب.
وزكريا من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب.

المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير ههنا وحكاه عن ابي صالح من السلف لوجوه: أحدها: ما قدمنا عند قوله تعالى: (وورث سليمان داود) [ النمل: 16 ] أي في النبوة والملك كما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين العلماء المروى في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " (1) فهذا نص على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من وراثه الذين لولا هذا النص لصرف إليهم وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس
رضي الله عنهم واحتج عليهم الصديق في منعه أياهم بهذا الحديث وقد وافقه على روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم.
الثاني: أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الانبياء: " نحن معاشر الانبياء لا نورث " (2) وصححه.
الثالث: أن الدنيا كانت أحقر عند الانبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسألوا الاولاد ليحوزوها بعدهم فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولدا يكون وارثا له فيها.
الرابع: أن زكريا عليه السلام كان نجارا يعمل بيده ويأكل من كسبها كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده والغالب ولا سيما من مثل حال الانبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهادا يستفضل منه ما لا يكون له ذخيرة له يخلفه من بعده وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهم إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا يزيد يعني ابن هرون، أنبأنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان زكريا نجارا " (3).
وهكذا رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه عن حماد بن سلمة به.
وقوله: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) [ مريم: 7 ].
وهذا مفسر بقوله: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي وأحمد.
وقد سبق تخريجه فليراجع.
(2) تقدم نص الحديث في الترمذي وفيه: " لا نورث ما تركنا من صدقة " من طريق أنس بن مالك.
22 / 44 / 1610.
وليراجع تخريج الحديث السابق.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 43 / 45 / 165 ومسند أحمد ج 2 / 296، 405، 485.

[ آل عمران: 39 ] فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد والحالة هذه له: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) [ مريم: 8 ] أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير قيل كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة والاشبه والله أعلم أنه كان أسن (1) من ذلك (وكانت امرأتي عاقرا) يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد والله أعلم.
كما قال الخليل: (أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون) [ الحجر: 54 ] وقالت سارة: (يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) [ هود: 72 - 73 ] وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه (كذلك قال ربك هو علي هين) أي هذا سهل يسير عليه (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) أي قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئا مذكورا أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا.
وقال تعالى: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) [ الانبياء: 90 ] ومعنى اصلاح زوجته: أنها كانت لا تحيض فحاضت.
وقيل كان في لسانها شئ أي بذاءة (2) (قال رب اجعل لي آية) أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به (قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا وأنت في ذلك سوي الخلق، صحيح المزاج، معتدل البنية.
وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والابكار فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه (فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشيا).
والوحي ههنا هو الامر الخفي إما بكتابه كما قاله مجاهد والسدي أو إشارة كما قاله مجاهد أيضا ووهب وقتادة.
قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتاده اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال ابن زيد كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد.
وقوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا)، يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الالهية لابيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه (3).
قال عبد الله بن المبارك قال معمر قال الصبيان
ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب فقال ما للعب خلقنا قال وذلك قوله: (وآتيناه الحكم صبيا) وأما قوله: (وحنانا من لدنا) فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لا أدري ما الحنان.
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك (وحنانا من لدنا)
__________
(1) تقدم أنه كان ابن خمس وتسعين سنة.
(2) قال في أحكام القرآن: قال أكثر المفسرين: وأصلحنا زوجه: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا، وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخلق.
11 / 336.
(3) قال قتاده: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين ; وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا.

أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد.
وعن عكرمة (وحنانا) أي محبة عليه ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس ولا سيما على أبويه وهو محبتهما والشفقة عليهما وبره بهما.
وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل.
والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره، ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمرا ونهيا وترك عقوقهما قولا وفعلا فقال: (وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا) ثم قال: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) هذه الاوقات الثلاثة أشد ما تكون على الانسان فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر فيفقد الاول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر ولا يدري ما بين يديه ولهذا يستهل صارخا إذا خرج من بين الاحشاء وفارق لينها وضمها وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الاموات سكان القبور وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور وما بين جبير وكسير وفريق في الجنة وفريق في السعير.
ولقد أحسن بعض الشعراء.
حيث يقول: ولدتك أمك باكيا مستصرخا * والناس حولك يضحكون سرورا
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكا مسرورا ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل موطن منها فقال: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى التقيا فقال له عيسى استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى: أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما، وأما قوله في الآية الاخرى: (وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) [ آل عمران: 39 ] فقيل المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء وقيل غير ذلك وهو أشبه لقوله: (هب لي من لدنك ذرية طيبة) [ آل عمران: 38 ] وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد من ولد آدم إلا وقد اخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لاحد يقول أنا خير من يونس بن متى " (1).
علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الائمة وهو منكر الحديث، وقد رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق أبي عاصم العباداني عن علي بن زيد بن جدعان به مطولا ثم قال ابن خزيمة وليس على شرطنا.
وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الانبياء فقال قال: موسى كليم الله.
وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته.
وقال قائل: إبراهيم خليل الله [ وهم يذكرون
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 254، 292.

ذلك ] (1) فقال: " اين الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب " قال ابن وهب: يريد يحيى بن زكريا.
وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس، عن يحيى بن سعيد الانصاري عن سعيد بن المسيب: حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا ".
فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين وقد عنعن ههنا.
ثم قال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب
مرسلا.
ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة عن يحيى بن سعيد الانصاري ثم قد رواه ابن عساكر من طريق ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق: حدثنا محمد بن الاصبهاني، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال ما أحد إلا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا.
ثم تلا: (وسيدا وحصورا) ثم رفع شيئا من الارض فقال ما كان معه إلا مثل هذا، ثم ذبح ذبحا وهذا موقوف من هذه الطريق وكونه موقوفا صح من رفعه والله أعلم.
وأورده ابن عساكر من طرق: عن معمر من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر وهو ضعيف، عن عثمان بن ساج (2) عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وروي من طريق أبي داود الطيالسي وغيره عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام " (3).
وقال أبو نعيم الحافظ الاصبهاني: حدثنا إسحاق بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول خرج عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا بن خالة قد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبدا.
قال: وما هي يابن خالة ؟ قال امرأة صدمتها.
قال والله ما شعرت بها.
قال: سبحان الله بدنك معي فأين روحك قال معلق بالعرش ولو أن قلبي اطمئن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين ".
فيه غرابة وهو من الاسرائيليات.
وقال اسرائيل: عن أبي حصين، عن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة وكان عيسى يلبس الصوف، وكان يحيى يلبس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه اين ما جنهما الليل أويا فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى: أوصني قال: لا تغضب قال لا أستطيع إلا أن أغضب قال لا تقتن مالا قال أما هذه فعسى.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: ابن سباح وهو تحريف والصواب ما أثبتناه.
وهو عثمان بن عمرو بن ساج، مولى
بني أمية وقد ينسب إلى جده، فيه ضعف من التاسعة.
تقريب التهذيب 2 / 13.
(3) رواه البيهقي في دلائله ج 7 / 578 من طريق حذيفة بن اليمان.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 381 وقال الذهبي صحيح.

وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه هل مات زكريا عليه السلام موتا أو قتل قتلا على روايتين: فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال هرب من قومه فدخل شجرة فجاؤوا فوضعوا المنشار عليهما فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن فأوحى الله إليه: لئن لم يسكن أنينك لاقلبن الارض ومن عليها فسكن أنينه حتى قطع باثنتين (1).
وقد روي هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله.
وروى إسحق بن بشر، عن إدريس بن سنان، عن وهب أنه قال الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا فأما زكريا فمات موتا فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الاشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وكان أن يبطئ، فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن.
فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن ؟ فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال: فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلا المسجد فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عزوجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن.
وأولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك مثل من اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا.
وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله
من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه.
وآمركم بذكر الله عزوجل كثيرا فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتي حصنا حصينا فتحصن فيه وأن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل.
قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " وأنا آمركم بخمس: الله أمرني بهن بالجماعة والسمع
__________
(1) قال ابن قتيبة في المعارف ص 24: قتلوه في جوف شجرة قطعوها وقطعوه معها.
وذكر المسعودي رواية قتله: قال: فنشروا الشجرة وهو فيها، دلهم عليه إبليس لعنه الله عزوجل، فقطعوه وقطعوها.
والسبب في قتله اتهامه بارتكابه الفاحشة مع مريم 1 / 59.
(وذكر ابن الاثير سببا آخر لقتله، ورواية قتله كما سبق إليها المسعودي وابن قتيبة - والسبب أنه لما قتل يحيى فر زكريا هاربا فأرسل الملك في طلبه.
فدخل الشجرة..1 / 306.

والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الاسلام من عنقه إلا أن يرجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم قال: يا رسول الله وإن صام وصلى قال: " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عزوجل المسلمين المؤمنين عباد الله عزوجل " (1).
وهكذا رواه أبو يعلى عن هدبة بن خالد، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير به.
وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي وموسى بن إسماعيل كلاهما عن أبان بن يزيد العطار به، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن محمد بن شعيب بن سابور، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الاشعري به.
ورواه الحاكم من طريق مروان بن محمد الطاطري، عن معاوية بن سلام عن أخيه به.
ثم قال تفرد به مروان الطاطري عن معاوية بن سلام.
قلت وليس كما قال ورواه الطبراني عن محمد بن عبدة عن أبي نوبة الربيع بن يافع،
عن معاوية بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الاشعري فذكر نحوه فسقط ذكر زيد بن سلام عن أبي سلام عن الحارث الاشعري فذكر نحو هذه الرواية.
ثم روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ذكر لنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات وذكر نحو ما تقدم.
وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس، إنما كان يأنس إلى البراري ويأكل من ورق الاشجار، ويرد ماء الانهار، ويتغذى بالجراد في بعض الاحيان ويقول: من أنعم منك يا يحيى.
وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه فوجداه عند بحيرة الاردن فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عزوجل.
وقال ابن وهب عن مالك، عن حميد بن قيس، عن مجاهد قال كان طعام يحيى بن زكريا العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: جلست يوما إلى أبي إدريس الخولاني وهو يقص فقال: ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاما إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشهم.
وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد قال: فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبرا وأقام فيه يبكي على نفسه فقال: يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام، وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه فقال يأبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة (2) لا يقطع إلا بدموع البكائين فقال له إبك يا بني فبكيا جميعا.
وهكذا حكاه
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 202 ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (1161).
(2) في كامل ابن الاثير: عقبة.

وهب بن منبه ومجاهد بنحوه.
وروى ابن عساكر عنه أنه قال: إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم فكذا ينبغي للصديقين أن لا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عزوجل.
ثم قال كم
بين النعيمين وكم بينهما وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه.
بيان سبب قتل يحيى عليه السلام وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها: أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمة (1)، أو من لا يحل له تزويجها فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها (2) منه.
فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها.
وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.
وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه " المبتدأ " حيث قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى زكريا في السماء فسلم عليه وقال له يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل.
قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه وكان أجملهم وأصبحهم وجها وكان كما قال الله تعالى: (سيدا وحصورا) وكان لا يحتاج إلى النساء فهوته امرأة ملك بني إسرائيل وكانت بغية فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب.
قال فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته وكان بها معجبا ولم تكن تفعله فيما مضى فلما أن شيعته قال الملك سليني فما سألتني شيئا إلا اعطيتك قالت: أريد دم يحيى بن زكريا قال لها: سليني غيره قالت: هو ذاك قال هو لك، قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى جانبه أصلي قال: فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغ من صبرك قال ما انفتلت من صلاتي قال: فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل قد غضب إله
__________
(1) قال الطبري: عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس فكان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الاخ.
وكان لملكهم (واسمه: هيرودس) ابنة أخ يريد أن يتزوجها فنهاه
يحيى.
راجع الكامل لابن الاثير ج 1 / 301 - 302.
(2) كذا في الاصول، والصواب كما يقتضيه السياق: في نفسه.
(3) جاء في الطبري والكامل: عن السدي: أن الملك أراد أن يتزوج ابنة امرأة له فنهاه يحيى عن ذلك وقال له: لا تحل لك.
فحقدت عليه المرأة وطلبت قتله.
وقال ابن قتيبة في المعارف ص 24 - أن أحب ملك بني اسرائيل قتله بحيلة امرأته ازبيل في قتله.
أما المسعودي فذكر حادثة القتل دون تعليق.

زكريا لزكريا فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا قال فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني الندير فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي فلما تخوفت أن لا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت إلي إلي وانصدعت لي ودخلت فيها.
قال وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة هذا طرف ردائه دخلها بسحره، فقالوا نحرق هذه الشجرة، فاق إبليس: شقوه بالمنشار شقا.
قال فشققت مع الشجرة بالمنشار قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل وجدت له مسا أو وجعا قال لا إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها.
هذا سياق غريب جدا.
وحديث عجيب ورفعه منكر وفيه ما ينكر على كل حال ولم ير في شئ من أحاديث الاسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث وإنما المحفوظ في بعض الفاظ الصحيح في حديث الاسراء فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة [ فجاء ] (1) على قول الجمهور، كما هو ظاهر الحديث فإن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران.
وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم فيكون يحيى ابن خالة مريم فالله أعلم.
ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الاقصى ؟ أم بغيره على قولين: فقال الثوري عن الاعمش، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا عليه السلام، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عبد الله بن صالح،
عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بخت نصر دمشق فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي فسأل عنه فأخبروه فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن.
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة بخت نصر كانت بعد المسيح (2) كما قاله عطاء والحسن البصري فالله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير وفي رواية كأنما قتل الساعة.
وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم.
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) رفض الطبري 2 / 15 والكامل 1 / 303 وقوع قصة بختنصر أيام المسيح قال: وهذا القول الذي روي عمن ذكرت في هذا الاخبار التي رويت وعمن لمن يذكر من ان بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا عند أهل السير والاخبار والعلم بأمور الماضين وعند غيرهم من أهل الملل غلط، وأجمعوا على أن غزوه كان عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد أرميا، وبين عهد أرميا ويحيى اربعمائة سنة وإحدى وستون.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الاقصى من طريق العباس بن سبع ؟ ؟.
عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك هذه المدينة يعني دمشق هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا.
ثم أنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا وذلك بإشارة أمها فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جيرون من أتاه برأسه في صينية فجعل الرأس يقول له لا تحل له لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك فلما تمثلت بين
يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها ففعل فلفظت الارض جثتها عند ذلك ووقعوا في الذل والفناء ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا.
قال سعيد بن عبد العزيز وهي دم كل نبي ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس فتبعهم إليها فقتل خلقا كثيرا لا يحصون كثرة وسبا منهم ثم رجع عنهم.
قصة عيسى بن مريم [ عبد الله ورسوله وابن أمته ] (1) عليه من الله أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولدا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الاقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم، على اختلاف فرقهم، فأنزل الله عزوجل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وقال له كن فكان سبحانه وتعالى.
وبين أصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته فقال تعالى وهو أصدق القائلين: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
واستدركت من قصص الانبياء لابن كثير.

العالمين.
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإني سميتها مريم وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) [ آل عمران: 33 - 37 ].
يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: (وآل إبراهيم) فدخل فيهم بنو إسماعيل وبنو إسحاق.
ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران والمراد بعمران هذا والد مريم عليها السلام وقال محمد بن إسحاق وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش بن اخريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن ايان بن رحبعام بن سليمان بن داود.
وقال أبو القاسم بن عساكر مريم بنت عمران بن ما ثان (1) بن العازر بن اليود بن اخبر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون بن ميشا بن حزقا بن احاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن ايشا بن ايبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام.
وفيه مخالفة كما ذكره محمد بن إسحاق ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم اشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها أشياع (2) فالله أعلم.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل فرأت يوما طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فنذرت لله أن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في خدمة بيت المقدس قالوا فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) وقرئ بضم التاء: (وليس الذكر كالانثى) أي في خدمة بيت المقدس وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم وقولها: (وإني سميتها مريم) استدل به على تسمية المولود يوم يولد وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله.
وجاء في حديث الحسن عن سمرة
__________
(1) في الطبري: ابن ما ثان بن اليعازر بن أليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زر بابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود.
(2) تبنى الطبري هذا القول.
وقال زوج خالة مريم: الاشباع.

مرفوعا " كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه " (1) رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وجاء في بعض ألفاظه ويدمى بدل ويسمى وصححه بعضهم والله أعلم.
وقولها: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " (2) ثم يقول أبو هريرة واقرأوا إن شئتم: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) (3) [ آل عمران: 36 ] أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية عن عبد الله بن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد: أيضا حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن عجلان، مولى المشمعل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان باصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى " (4).
تفرد به من هذا الوجه.
ورواه مسلم (5) عن أبي طاهر عن ابن وهب عن [ عمرو ] بن الحارث عن أبي يونس [ مولى أبي هريرة ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد حدثنا هشيم حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: " ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه " (6) وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه.
ورواه قيس، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى بن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) وكذا رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الملك، حدثنا المغيرة هو ابن
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 5 / 7، 12، 17، 22 والترمذي في سننه 17 / 21 ورواه أبو داود والنسائي في سننيهما وأبو داود الطيالسي في مسنده.
(2) هذه فضيلة ظاهرة، وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وأمه.
واختار القاضي عياض أن جميع الانبياء يتشاركون فيها.
(3) مسند أحمد ج 2 / 274 وأخرجه البخاري في صحيحه 60 / 44 / 3431 فتح الباري.
وأخرجه مسلم في صحيحه 43 كتاب الفضائل (40 باب) 146 / 2366 وفيه: نخسه الشيطان بدل مسه - في الموضعين - وإلا ابن مريم وامه - بدل إلا مريم وابنها.
(4) مسند أحمد ج 2 / 288، 292.
(5) صحيح مسلم 43 / 40 / 147 / 2366 وما بين معكوفين من صحيح مسلم.
(6) مسند أحمد: 2 / 368.

عبد الله الحزامي، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب " (1).
وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقوله: (فتقبلها ربها بقبول حسن وانبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا) ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها.
والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها.
ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها وكان زكريا نبيهم في ذلك
الزمان وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل أن زوجته اختها أو خالتها على القولين.
فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم وذلك أن الخالة بمنزلة الام.
قال الله تعالى: (وكفلها زكريا) أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى: (ذلك من أنبأ الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) [ آل عمران: 44 ].
قالوا وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث فأخرج واحدا منها وظهر قلم زكريا عليه السلام فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر، فأيهم جرى قلمه على خلاف جريه في الماء فهو الغالب ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء وسارت أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الاقلام قد انعكس سيرها صعدا فهو الغالب ففعلوا فكان زكريا هو الغالب لهم فكفلها.
إذ كان أحق بها شرعا وقدرا لوجوه عديدة (2).
قال الله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) [ آل عمران: 37 ] قال المفسرون اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه، وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الاحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى أنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها (أنى لك هذا فتقول هو من عند الله) أي رزق رزقنيه الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) [ آل عمران: 38 ] قال بعضهم قال يامن يرزق مريم الثمر في
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 523.
(2) قال القرطبي: في الآية دلالتان: - القرعة كانت آية له لانه نبي تجري الآيات على يديه.
ودلت الآية على أن
الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة.

غير أبانه (1) هب لي ولدا وإن كان في غير اوانه فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته.
[ قال الله تعالى: ]: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين.
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين.
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون.
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص واحيي الموتى باذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) [ آل عمران: 42 - 51 ].
يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمي زمانها (2) بأن اختارها لايجاد ولد منها من غير أب وبشرت بأن يكون نبيا شريفا (يكلم الناس في المهد) أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكذلك في حال كهولته فدل على أنه يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها وأمرت بكثرة العبادة والقنوت والسجود والركوع لتكون أهلا لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة فيقال إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها فقول الملائكة: (يا مريم إن الله اصطفاك) أي اختارك واجتباك (وطهرك) أي من الاخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة (واصطفاك على نساء العالمين).
يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها كقوله لموسى: (إني اصطفيتك على الناس)
[ الاعراف: 144 ] وكقوله عن بني إسرائيل: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) [ الدخان: 32 ] ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما وكذلك هذه الامة أفضل من سائر الامم قبلها وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم.
ويحتمل أن يكون قوله: (واصطفاك على نساء العالمين) محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها ووجد بعدها لانها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى محتجا بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: أوانه، والصواب ما أثبتناه.
(2) قال القرطبي: قال الزجاج وغيره على نساء العالمين أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح ; حيث أن الله خص مريم بما لم يؤته أحدا من النساء.

فلا يمتنع على هذا أن يكون مريم أفضل من سارة وأم موسى لعموم قوله: (واصطفاك على نساء العالمين) إذ لم يعارضه غيره والله أعلم.
وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الاشعري وغيره عن أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال (1) وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) [ المائدة: 75 ] فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها والله أعلم.
وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد رضي الله عنهن وأرضاهن.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عديدة: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد " (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبك من نساء العالمين بأربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة
بنت محمد " (3) ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زانجويه، عن عبد الرزاق به وصححه.
ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي.
وابن عساكر من طريق تميم بن زياد كلاهما عن أبي جعفر الرازي عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء العالمين أربع: " مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد رسول الله " وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري عن ابن المسيب قال كان أبو هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش احناه على ولد في صغره وارعاه لزوج في ذات يده " (4) قال أبو هريرة ولم تركب مريم بعيرا قط.
وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال أحمد حدثنا زيد بن الحباب، حدثني موسى بن علي، سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نساء ركبن الابل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده " (5) قال أبو هريرة وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنة عمران لم تركب الابل، تفرد به.
وهو على شرط
__________
(1) قال الرازي في تفسيره: اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الانبياء لقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم..) وإرسال جبريل إليها: إما أن يكون كرامة لها أو أرهاصا لعيسى عليه السلام.
(2) مسند أحمد: 1 / 84، 116، 132.
(3) مسند أحمد ج 3 / 135 ورواه الحاكم في مستدركه (3 / 197، 198 حيدر آباد).
(4) مسند أحمد ج 2 / 275، 449 وأخرجه مسلم في صحيحه 2 / 270.
(5) مسند أحمد ج 2 / 269، 319، 393، 502.

الصحيح ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض أربع خطوط فقال: " أتدرون ما هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت
عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " ورواه النسائي من طرق عن داود بن أبي هند.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الاشعث، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، نبأنا بشر بن مهران بن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران ".
وقال أبو القاسم البغوي حدثنا وهب بن بقية (1) حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت ثم ضحكت ؟ قالت أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقا به وأني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت.
وأصل هذا الحديث في الصحيح (2).
وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه انهما أفضل الاربع المذكورات.
وهكذا الحديث الذي رواه الامام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن يزيد هو ابن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نعم (3) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران " (4).
إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه وقد روى نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف.
والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الاربع.
ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الاول.
فقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: أنبأنا أبو الحسن بن الفرا وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا قالوا: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير هو ابن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: ابن منبه وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه.
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - باب منقبة فاطمة عليها السلام (5: 65) ميمنية.
وأخرجه مسلم في 44 / 15 وأخرجه أحمد في مسنده 6 / 77 - 240 وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 7 / 164 وابن سعد في الطبقات 2 / 247.
(3) في نسخ المطبوعة نعيم وهو تحريف وما أثبتناه مناسب لما في الحديث في المسند: نعم.
(4) مسند أحمد ج 3 / 64، 80.

ثم آسية امرأة فرعون " فإن كان هذا اللفظ محفوظا بثم التي للترتيب فهو مبين لاحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء وتقدم على ما تقدم من الالفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي، عن داود الجعفري، عن عبد العزيز بن محمد، وهو الدراوردي، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعا فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية فخالفه إسنادا ومتنا فالله أعلم.
فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق: عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (1).
فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الامة كخديجة وفاطمة فخديجة خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة خمس عشرة سنة وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها، رضي الله عنها، وأرضاها، وأما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها خصت بمزيد
فضيلة على أخواتها لانها أصيبت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أخواتها متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يتزوج بكرا غيرها ولا يعرف في سائر النساء في هذه الامة بل ولا في غيرها أعلم منها، ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الافك ما قالوا فأنزل براءتها من فوق سبع سموات وقد عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين والاحسن الوقف فيهما رضي الله عنهما وما ذاك إلا لان قوله صلى الله عليه وسلم: " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
__________
(1) أخرجه مسلم في 44 كتاب الصحابة 12 باب فضائل خديجة 70 / 2431 والبخاري حديث رقم (1606) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد: 9 / 243 وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه.
قال العلماء في (فضل الثريد على سائر الطعام) معناه: أن فضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الاطعمة، لان الثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه..

يحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن ويحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى ما عدي المذكورات والله أعلم.
والمقصود ههنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقا كما قدمنا.
وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة هي واسية بنت مزاحم.
وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله: (ثيبات وابكارا) [ التحريم: 5 ] قال فالثيب آسية ومن الابكار مريم بنت عمران.
وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم فالله أعلم.
قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا أبي، أنبأنا عمي الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة، هو العوفي، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى " (1).
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى " رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به وزاد فقلت هنيأ لك يارسول الله.
ثم قال العقيلي وليس بمحفوظ.
وقال الزبير بن بكار حدثني محمد بن الحسن عن يعلى بن المغيرة عن ابن أبي داود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها: " بالكره مني ما أرى منك يا خديجة وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون " قالت وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال: " نعم " قالت بالرفاء والبنين " (2).
وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهزلي، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في مرض الموت فقال: " يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئهن مني السلام قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي قال: لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى ".
وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد: حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك.
ومجاهد، عن ابن عمر قال نزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت خديجة فقال جبريل من هذه يا محمد ؟ قال: هذه صديقة أمتي، قال جبريل: معي إليها رسالة من الرب عزوجل يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 218 وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 218 عن أبي رواد.
وقال: رواه الطبراني منقطع الاسناد وفيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف.

ولا صخب قالت: الله السلام، ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ما
ذلك البيت الذي من قصب قال: لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم وهما من أزواجي يوم القيامة.
وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا.
وكل من هذه الاحاديث في أسانيدها نظر (1).
وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان، عن كعب الاحبار: أن معاوية سأله عن الصخرة يعني صخرة بيت المقدس فقال: الصخرة على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة.
ثم رواه من طريق إسماعيل، عن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسعود، عن عبد الرحمن، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا منكر (2) من هذا الوجه.
بل هو موضوع.
قد رواه أبو زرعة، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن مسعود بن عبد الرحمان، عن ابن عابد: أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس فذكره قال الحافظ ابن عساكر وكونه من كلام كعب الاحبار أشبه.
قلت وكلام كعب الاحبار هذا إنما تلقاه من الاسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم وهذا منه والله أعلم.
ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم [ العذراء ] (3) البتول قال الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا.
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا.
قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا.
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا.
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا.
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت
للرحمن صوما فلم أكلم اليوم إنسيا.
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا.
يا
__________
(1) نقل الاحاديث الهيثمي في زوائده من عدة طرق بروايات مختلفة وعلق حول أسانيدها ورواتها ; فليراجع ج 9 / 223 - 224 - 225.
(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 218 وقال: رواه الطبراني وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهذا الحديث من منكراته.
(3) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.

أخت هرون ما كان أبوك أمرء سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا.
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أمرت ويوم أبعث حيا.
ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) [ مريم: 16 - 37 ].
ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها كما ذكر في سورة آل عمران قرن بينهما في سياق واحد وكما قال في سورة الانبياء: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين.
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) [ الانبياء: 89 - 91 ].
وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس وأنه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام، وأنه اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من
الاحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا بالمعجزات فتعجبت من وجود ولد من غير والد لانها لا زوج لها، ولا هي ممن تتزوج فأخبرتها الملائكة: بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لامر الله وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لانهم لا يعلمون حقيقة الامر وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر، ولا تعقل، وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها (1) أو لحاجة ضرورية لابد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء فبينما هي يوما قد خرجت لبعض شؤونها (وانتبذت) أي انفردت وحدها شرقي المسجد الاقصى إذ بعث الله إليها الروح الامين جبريل عليه السلام: (فتمثل لها بشرا سويا) فلما رأته: (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا).
قال أبو العالية علمت أن التقي ذو نهية، وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقي، فإن هذا قول باطل بلا دليل وهو من أسخف الاقوال.
__________
(1) قال الرازي أن مريم طهرت عن الحيض وقال: قالوا كانت مريم لا تحيض.
قال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس وقال غيره: لتعبد الله.
وهذا حسن (راجع الرازي - القرطبي).

(قال إنما أنا رسول ربك) أي خاطبها الملك قائلا: إنما أنا رسول ربك [ أي ] (1) لست ببشر، ولكني ملك بعثني الله إليك (ليهب لك غلاما زكيا) أي ولدا زكيا (قالت أنى يكون لي غلام) أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد (ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا) أي ولست ذات زوج (2) وما أنا ممن يفعل الفاحشة (قال كذلك قال ربك هو علي هين) أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلا: (كذلك قال ربك) أي وعد أنه سيخلق منك غلاما ولست بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين (هو علي هين) أي وهذا سهل عليه ويسير لديه فإنه على من يشاء قدير.
وقوله: (ولنجعله آية للناس) أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلا على كمال قدرتنا على أنواع الخلق فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر، ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا
أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى.
وقوله: (ورحمة منا) أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له، وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والاولاد والشركاء والنظراء والاضداد والانداد.
وقوله: (وكان أمرا مقضيا).
يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها يعني أن هذا أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختاره ابن جرير ولم يحك سواه والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: (وكان أمرا مقضيا) كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) [ التحريم: 12 ].
فذكر غير واحد من السلف: أن جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة إلى فرجها، فحملت من فورها، كما تحمل المرأة عند جماع بعلها.
ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن.
فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه كما قال تعالى: (فنفخنا فيه من روحنا) فدل (3) على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها كما روي عن أبي بن كعب ولا في صدرها كما رواه السدي بإسناده عن بعض الصحابة ولهذا قال تعالى: (فحملته) أي حملت ولدها (فانتبذت به مكانا قصيا) وذلك لان مريم عليها السلام لما حملت ضاقت به ذرعا وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم كلام في حقها فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) ذكرت مريم ذلك تأكيدا منها أنه لم يمسسها بشر، يحتمل الحلال والحرام، ولم تستبعد قدرة الله إنما تساءلت كيف يكون هذا الولد ؟ هل من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ (3) في نسخ البداية المطبوعة: يدل والصواب ما أثبتناه.

لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار وكان ابن خالها (1) فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر ؟ قالت: نعم فمن خلق الزرع الاول ؟ ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر ؟ قالت: نعم.
فمن خلق الشجر الاول ؟ ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت: نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى قال لها: فأخبريني خبرك فقالت إن الله بشرني (بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين.
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) ويروى مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم.
وذكر السدي بإسناده عن الصحابة أن مريم دخلت يوما على أختها، فقالت لها أختها: أشعرت أني حبلى فقالت مريم وشعرت أيضا أني حبلى ؟ فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله: (مصدقا بكلمة من الله) ومعنى السجود ههنا الخضوع والتعظيم كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان في شرع من قبلنا وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم.
وقال أبو القاسم: قال مالك: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة وكان حملهما جميعا معا فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام لان الله تعالى جعله يحيي الموتى ويبرئ الاكمه والابرص.
رواه ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت حدثني وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني.
ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن إذ لو كان خلاف ذلك لذكر.
وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر، وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته [ في الحال، وهذا هو الظاهر، لان الله تعالى، ذكر الانتباذ بعد الحمل ] (2) قال بعضهم حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله: (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) والصحيح أن تعقيب كل شئ بحسبه لقوله:
(فتصبح الارض مخضرة) [ الحج: 63 ] وكقوله: (فخلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضعة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) [ المؤمنون: 14 ] ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوما كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
قال محمد بن إسحاق شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل فما دخل على أهل بيت ما دخل
__________
(1) في الطبري: ابن عمها.
(2) ما بين معكوفين زيادة من القرطبي، من سياق كلام ابن عباس.

على ال بيت زكريا.
قال واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكانا قصيا (1) وقوله: (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعا والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا ببيت لحم (2) الذي بنى عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل (قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الحال أو كانت (نسيا منسيا) أي لم تخلق بالكلية.
وقوله: (فناداها من تحتها) وقرئ من تحتها على الخفض وفي المضمر قولان أحدهما: أنه جبريل قاله العوفي عن ابن عباس قال: ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم وهكذا قال سعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والضحاك والسدي وقتادة.
وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد بن جبير في رواية هو ابنها عيسى واختاره ابن جرير.
وقوله: (أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا) قيل النهر وإليه ذهب الجمهور.
وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف، واختاره ابن جرير وهو الصحيح.
وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها
والصحيح الاول لقوله: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) فذكر الطعام والشراب ولهذا قال: (فكلي واشربي وقري عينا).
ثم قيل كان جذع النخلة يابسا وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم.
ويحتمل أنها كانت نخلة لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك لان ميلاده كان في زمن الشتاء (2) وليس ذاك وقت ثمر وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان (تساقط عليك رطبا جنيا) قال عمرو بن ميمون ليس شئ أجود للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الاوزاعي (3)، عن عروة بن رويم، عن علي بن أبي طالب قال: قال
__________
(1) قال ابن قتيبة في المعارف: وكان يوسف النجار خطب مريم وتزوجها فيما ذكر في الانجيل فلما صارت إليه وجدها حبلى قبل أن يباشرها وكان رجلا صالحا فكره أن يفشي عليها وائتمر أن يسرحها خفية فتراءى له ملك في النوم فقال يا يوسف إن امرأتك مريم سوف تلد ابنا يسمى عيسى وهو ينجي أمته من خطاياهم.
(2) قال المسعودي: ولد بقرية يقال لها بيت لحم على أميال من بيت المقدس، وقد ولدته في يوم الاربعاء لاربع وعشرين ليلة خلت من كانون الاول.
(3) في نسخ البداية المطبوعة: الانصاري وهو تصحيف.
وعبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الاوزاعي، أبو عمرو الفقيه شيخ الاسلام ثقة جليل.
من السابعة مات سنة 157 تقريب التهذيب 1 / 1064 / 493 الكاشف 1 / 158.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجرة شئ يلقح غيرها " (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ".
وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ، عن مسروق بن سعيد، وفي رواية مسرور بن سعد.
والصحيح مسرور بن سعيد التميمي أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الاوزاعي به ثم قال وهو منكر الحديث، ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث.
وقال ابن حبان يروي عن الاوزاعي
المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها.
وقوله: (فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا).
وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال: (كلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا) أي فإن رأيت أحدا من الناس (فقولي) له أي بلسان الحال والاشارة (إني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام قاله قتادة والسدي وابن اسلم ويدل على ذلك قوله: (فلن أكلم اليوم إنسيا) فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل وقوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا.
يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها، فمروا على محلتها والانوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها: (يا مريم لقد جئت شيئا فريا) أي أمرا عظيما منكرا.
وفي هذا الذي قالوه نظر مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لان ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملت بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله.
قال ابن عباس وذلك بعد ما تعالت (2) من نفاسها بعد أربعين يوما (3).
والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا) والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال ثم قالوا لها: (يا أخت هرون) قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة وكان اسمه هرون وقيل شبهوها برجل فاجر في زمانهم اسمه هرون.
قاله سعيد بن جبير وقيل أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة.
وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهرون نسبا فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهرون ضربت بالدف يوم نجا الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملاه فاعتقد أن هذه هي هذه وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولا ولله
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 342 تهذيب.
ورواه الشوكاني في الفوائد المجموعة (489).
(2) في نسخ البداية المطبوعة: تعلت والصواب ما أثبتناه.
(3) هذا القول نقله القرطبي عن الكلبي أما ابن عباس فقال: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات.

الحمد والمنة.
وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هرون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها والله أعلم.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن ادريس سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا أرأيت ما تقرأون: (يا أخت هرون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالانبياء والصالحين قبلهم " (1) وكذا رواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن إدريس وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه وفي رواية: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم " وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون حتى قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهارون أربعون ألفا فالله أعلم.
والمقصود أنهم قالوا: (يا أخت هرون) ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هرون، وكان مشهورا بالدين والصلاح والخير ولهذا قالوا: (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) أي لست من بيت هذا شيمتهم ولا سجيتهم لا أخوك ولا أمك ولا أبوك فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء، فذكر ابن جرير (2) في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك أبليس بطرف ردائه فنشروه فيها كما قدمنا، ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها (3) يوسف بن يعقوب النجار فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال عظم التوكل على ذي الجلال ولم يبق إلا الاخلاص والاتكال (فأشارت إليه) أي خاطبوه وكلموه، فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه.
فعندها (قالوا) من كان منهم جبارا شقيا (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) أي كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده، ولا يميز بين محض
وزبده وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا، والاستهزاء والتنقص لنا والازدراء، إذ لا تردين علينا قولا نطقيا بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا فعندها (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا.
وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا.
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا).
هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مريم فكان أول ما تكلم به أن (قال إني عبد الله) اعترف لربه تعالى
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 4 / 252 وأخرجه مسلم في صحيحه 38 كتاب الآداب 1 باب ح 9 / 2135 ص 3 / 1685.
(2) الخبر في تاريخ الطبري 2 / 22 عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ; في سياق قصة مريم ; والذين اتهموه: بنو اسرائيل.
(3) تقدم أنه ابن عمها.

بالعبودية وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله بل هو عبده ورسوله وابن أمته ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: (آتاني الكتاب وجعلني نبيا) فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم كما قال تعالى: (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) [ النساء: 156 ] وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا إنها حملت به من زنا في زمن الحيض لعنهم الله فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبيا مرسلا أحد أولي العزم الخمسة الكبار ولهذا قال: (وجعلني مباركا أينما كنت) وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة والاحسان إلى الخليقة بالزكاة وهي تشتمل على طهارة النفوس من الاخلاق الرذيلة وتطهير الاموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الاصناف وقرى الاضياف والنفقات على الزوجات والارقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.
ثم قال: (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) أي وجعلني برا بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها فسبحان من خلق الخليقة وبراها وأعطى كل نفس هداها.
(ولم يجعلني جبارا شقيا) أي لست بفظ ولا غليظ ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته.
(والسلام علي يوم ولدت يوم أموت ويوم أبعث حيا).
وهذه الاماكن الثلاثة (1) التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه (2).
قال: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) [ مريم: 34 - 35 ] كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران: (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم.
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.
الحق من ربك فلا تكن من الممترين.
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم.
فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)
__________
(1) يوم ولدت: يعني في الدنيا، وقيل من همز الشيطان.
ويوم أموت: يعني في القبر ; ويوم أبعث حيا: يعني في الآخرة.
(2) في الآيات دلالات عديدة أبرزها ; - أن عيسى تكلم في طفولته ثم عاد إلى حالة الاطفال فكان نطقه اظهار براءة أمه.
- أن عيسى تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى.
- أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الامم السالفة، والقرون الخالية الماضية.
- الاشارة بمنزلة الكلام وتفهم ما يفهم القول.
قال المهلب: وقد تكون الاشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام.

[ آل عمران: 58 - 63 ].
ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر
منهم ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة فجعلوا يناظرون في أمر المسيح، فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالمة والموادعة وقال قائلهم: وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمد لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم أن ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والاقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلا أمينا فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران وسيأتي بسط هذه القضية في السيرة النبوية (1) إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح قال لرسوله: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) يعني من أنه عبد مخلوق (2) من امرأة من عباد الله ولهذا قال: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي لا يعجزه شئ ولا يكترثه ولا يؤوده بل هو القدير الفعال لما يشاء (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) وقوله: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم وأن هذا هو الصراط المستقيم.
قال الله تعالى: (فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) [ مريم: 37 ] أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه فمن قائل من اليهود إنه ولد زنية، واستمروا على كفرهم وعنادهم.
وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا هو الله وقال آخرون هو ابن الله.
وقال المؤمنون هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه وهؤلاء هم الناجون المثابون المؤيدون المنصورون ومن خالفهم في شئ من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم العليم بقوله: (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم).
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا الوليد، حدثنا الاوزاعي، حدثني عمير بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى
__________
(1) راجع سيرة ابن كثير 4 / 10 / 108.
(2) اعتقد اليهود أنه ابن يوسف النجار وقالت النصارى أنه الاله أو ابن الاله، وقول الحق هو كلمة الله في نعته لعيسى ; فكلام الله هو القول الحق الذي فيه يشكون.

مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
قال الوليد فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير عن جنادة وزاد " من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء " (1).
وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد عن الوليد [ بن مسلم ] (2) عن [ ابن ] (2) جابر به ومن طريق أخرى عن الاوزاعي به.
باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد [ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبير ] (3) قال تعالى في آخر هذه السورة: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا) أي شيئا عظيما ومنكرا من القول وزورا (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا.
أن دعوا للرحمن ولدا.
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا.
إن كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمن عبدا.
لقد احصاهم وعدهم عدا.
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) [ مريم: 88 - 95 ] فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لانه خالق كل شئ ومالكه وكل شئ فقير إليه، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والارض عبيده وهو ربهم لا إله إلا هو ولا رب سواه.
كما قال تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون.
بديع السموات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم.
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ
وكيل.
لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير) [ الانعام: 100 - 103 ].
فبين أنه خالق كل شئ فكيف يكون له ولد، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه له ولا عديل له فلا صاحبة له فلا يكون له ولد.
كما قال تعالى: (قل هو الله أحد.
الله الصمد.
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) [ الاخلاص: 1 - 4 ] يقرر أنه الاحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (الصمد) وهو السيد الذي كمل في علمه وحكمته و [ بلغ ] (4) رحمته وجميع صفاته (لم يلد) أي لم يوجد منه ولد (ولم يولد) أي ولم يتولد عن شئ قبله (ولم يكن له كفوا أحد) أي وليس له عدل ولا مكافئ ولا مساو فقطع النظير المداني الاعلى والمساوي فانتفى أن يكون له ولد إذ لا يكون الولد إلا متولدا بين شيئين متعادلين أو متقاربين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال تبارك وتعالى وتقدس: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 1 كتاب الايمان 10 باب 46 / 28 / ص 1 / 57.
والبخاري حديث رقم 1604.
(2) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية واستدركت من مسلم.
(3) ما بين معكوفين سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(4) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.

دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا.
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) [ النساء: 171 - 173 ].
ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والاطراء في الدين وهو مجاوزة الحد، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد.
فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه
عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها عن أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام، والذي اتصل بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقال: بيت الله وناقة الله وعبد الله، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفا لها وتكريما.
وسمي عيسى بها لانه كان بها من غير أب وهي الكلمة أيضا التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) [ آل عمران: 59 ].
وقال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون بديع السموات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) [ البقرة: 116 - 117 ].
وقال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) [ التوبة: 30 ].
فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهم لعائن الله، كل من الفريقين ادعوا على الله شططا وزعموا أن له ولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما ائتفكوه، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم.
وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الاول صدر عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعلة العلل والمبدأ الاول، وأنه صدر عن العقل الاول عقل ثان ونفس وفلك، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهت العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والافلاك إلى تسعة باعتبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها ولبسط الكلام معهم وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر.
وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا - لجهلهم - أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منهما الملائكة.
تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون كما قال تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن أناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) [ الزخرف: 19 ] وقال تعالى: (فاستفتهم الربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين.
فأتوا بكتابكم إن

كنتم صادقين.
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) [ الصافات: 149 - 160 ].
وقال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) [ الانبياء: 26 - 29 ]: وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا.
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) [ الكهف: 1 - 5 ].
وقال تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) [ يونس: 68 - 70 ] فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فرق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن الله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.
ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيرا للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض.
وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب.
قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [ النساء: 82 ].
فدل على أن الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب.
فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى وطائفة قالوا هو ابن الله عز الله وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة.
جل الله (1).
قال الله تعالى في سورة المائدة: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن
مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير) [ المائدة: 17 ] فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبين أنه الخالق القادر على كل شئ المتصرف في كل شئ وأنه رب كل شئ ومليكه وإلهه.
وقال في أواخرها: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم.
أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور
__________
(1) النسطورية: قالوا ابن الله، والملكانية قالوا: ثالث ثلاثة، واليعقوبية قالوا: هو الله.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55