كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الاول والآخر، الباطن الظاهر، الذي هو
بكل شئ عليم، الاول فليس قبله شئ، الآخر فليس بعده شئ، الظاهر فليس فوقه
شئ الباطن، فليس دونه شئ، الازلي القديم الذي لم يزل موجودا بصفات الكمال،
ولا يزال دائما مستمرا باقيا سرمديا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال.يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وعدد الرمال.
وهو العلي الكبير المتعال، العلي العظيم الذي خلق كل شئ فقدره تقديرا.
ورفع السموات بغير عمد، وزينها بالكواكب الزاهرات، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وسوى فوقهن سريرا، شرجعا عاليا منيفا متسعا مقبيا مستديرا.
وهو العرش العظيم - له قوائم عظام، تحمله الملائكة الكرام، وتحفه الكروبيون عليهم الصلاة والسلام، ولهم زجل بالتقديس
والتعظيم.
وكذا أرجاء السموات مشحونة بالملائكة، ويفد منهم في كل يوم سبعون ألفا إلى البيت المعمور بالسماء الرابعة لا يعودون إليه، آخر ما عليهم في تهليل وتحميد وتكبير وصلاة وتسليم.
ووضع الارض للانام على تيار الماء.
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام قبل خلق السماء، وأنبت فيها من كل زوجين اثنين، دلالة للالباء من جميع ما يحتاج العباد إليه في شتائهم وصيفهم، ولكل ما يحتاجون إليه ويملكونه من حيوان بهيم.
وبدأ خلق الانسان من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، في قرار مكين.
فجعله سميعا بصيرا، بعد ان لم يكن شيئا مذكورا.
وشرفه بالعلم والتعليم.
خلق بيده الكريمة آدم أبا البشر، وصور جثته ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وخلق منه زوجه حواء أم البشر فآنس بها وحدته، وأسكنهما جنته، واسبغ عليهما نعمته.
ثم أهبطهما إلى الارض لما سبق في ذلك من حكمة الحكيم.
وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وقسمهم بقدرة العظيم ملوكا ورعاة، وفقراء وأغنياء، وأحرارا وعبيدا، وحرائر وإماء.
وأسكنهم أرجاء الارض، طولها والعرض، وجعلهم
خلائف فيها يخلف البعض منهم البعض، إلى يوم الحساب والعرض على
العليم الحكيم.
وسخر لهم الانهار من سائر الاقطار، تشق الاقاليم إلى الامصار، ما بين صغار
وكبار، على مقدار الحاجات والاوطار، وأنبع لهم العيون والآبار.
وأرسل عليهم السحائب بالامطار، فأنبت لهم سائر صنوف الزرع والثمار.
وآتاهم من كل ما سألوه بلسان حالهم وقالهم: (وإن تعدوا نعمة الله لا
تحصوها إن الانسان لظلوم كفار): فسبحان الكريم العظيم الحليم * وكان من
أعظم نعمه عليهم.
وإحسانه إليهم، بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل وأنطقهم، أن أرسل
رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم: مبينة حلاله وحرامه، وأخباره وأحكامه،
وتفصيل كل شئ في المبدإ والمعاد إلى يوم القيامة.
فالسعيد من قابل الاخبار بالتصديق والتسليم، والاوامر بالانقياد والنواهي
بالتعظيم.
ففاز
بالنعيم المقيم، وزحزح عن مقام المكذبين في الجحيم ذات الزقوم والحميم،
والعذاب الاليم * أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يملا أرجاء السموات
والارضين، دائما أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى يوم الدين، في كل ساعة
وآن ووقت وحين، كما ينبغي لجلاله العظيم، وسلطانه القديم ووجهه الكريم *
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ولد له ولا والد له، ولا
صاحبة له، ولا نظير ولا وزير له ولا مشير له، ولا عديد ولا نديد ولا قسيم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، المصطفى من خلاصة العرب
العرباء من الصميم، خاتم الانبياء، وصاحب الحوض الاكبر الرواء، صاحب
الشفاعة العظمى يوم القيامة، وحامل اللواء الذي يبعثه الله المقام المحمود
الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم
وعلى سائر اخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم وشرف وكرم أزكى صلاة وتسليم،
وأعلى تشريف وتكريم.
ورضي الله عن جميع أصحابه الغر الكرام، السادة النجباء الاعلام، خلاصة
العالم بعد الانبياء.
ما اختلط الظلام بالضياء، وأعلن الداعي بالنداء وما نسخ النهار ظلام الليل
البهيم.
(أما بعد) فهذا كتاب أذكر فيه بعون الله وحسن توفيقه ما يسره الله تعالى
بحوله وقوته من ذكر مبدإ المخلوقات: من خلق العرش والكرسي والسموات،
والارضين وما فيهن وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين، وكيفية خلق
آدم عليه السلام، وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل
وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام نبينا محمد صلوات الله وسلامه
عليه.
فنذكر سيرته كما ينبغي فتشفي الصدور والغليل، وتزيح الداء عن العليل.
ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا، ونذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة.
ثم البعث والنشور وأهوال القيامة، ثم صفة ذلك وما في ذلك اليوم، وما يقع
فيه من الامور الهائلة.
ثم صفة النار، ثم صفة الجنان وما فيها من الخيرات الحسان، وغير ذلك وما
يتعلق به، وما ورد في
ذلك من الكتاب والسنة والآثار والاخبار المنقولة المقبولة عند
العلماء وورثة الانبياء، الآخذين من
مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
ولسنا نذكر من الاسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب
الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب،
مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في
تعيينه لنا فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه
والاعتماد عليه.
وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبينه.
وبالله المستعان وعليه التكلان.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحيكم العلي العظيم.
فقد قال الله تعالى في كتابه (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد
آتيناك من لدنا ذكرا) وقد قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر ما مضى
من خلق المخلوقات، وذكر الامم الماضين، وكيف فعل بأوليائه، وماذا أحل
بأعدائه.
وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته بيانا شافيا، سنورد عند كل
فصل ما وصل إلينا عنه، صلوات الله وسلامه عليه.
من ذلك تلو الآيات الواردات (1) في ذلك فأخبرنا بما نحتاج إليه من ذلك،
وترك ما لا فائدة فيه مما قد يتزاحم على علمه ويتراجم في فهمه طوائف من
علماء أهل الكتاب مما لا فائدة فيه لكثير من الناس إليه.
وقد يستوعب نقله طائفة من علمائنا ولسنا نحذو حذوهم ولا ننحو نحوهم ولا
نذكر منها إلا القليل على سبيل الاختصار.
ونبين ما فيه حق مما وافق ما عندنا، وما خالفه فوقع فيه الانكار.
فأما الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بلغوا عني ولو آية،
وحدثوا عن بني إسرائل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي
متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " فهو محمول على الاسرائيليات المسكوت عنها
عندنا.
فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار.
وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا * فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا
حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا.
وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل
الانكار والابطال.
فإذا كان الله، سبحانه وله الحمد، قد أغنانا برسولنا محمد، صلى الله عليه
وسلم، عن سائر الشرائع،
وبكتابه عن سائر الكتب، فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط
وخلط، وكذب ووضع، وتحريف وتبديل، وبعد ذلك كله نسخ وتغيير.
فالمحتاج إليه قد بينه لنا رسولنا، وشرحه وأوضحه.
عرفه من عرفه، وجهله من جهله.
كما قال علي بن أبي طالب " كتاب الله فيه خير ما قبلكم ونبأ ما بعدكم،
وحكم ما بينكم وهو الفضل ليس بالهزل.
من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله " وقال أبو
ذر، رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير
بجناحيه إلا أذكرنا منه علما "
وقال البخاري في كتاب بدء الخلق، وروي عن عيسى بن موسى غنجار عن
رقية عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال " سمعت عمر بن الخطاب يقول قام
فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل
أهل الجنة منازلهم.
وأهل النار منازلهم " حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه " قال أبو مسعود
الدمشقي في أطرافه هكذا قال البخاري، وإنما رواه عيسى غنجار عن أبي حمزة
عن رقية، وقال الامام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده: حدثنا أبو عاصم
حدثنا عزرة بن ثابت، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري: حدثنا أبو زيد
الانصاري، قال قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الصبح،
ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى الظهر.
ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر ثم صعد المنبر
فخطبنا حتى غابت الشمس فحدثنا بما كان، وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا "
انفرد باخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن من صحيحه عن يعقوب بن ابراهيم
الدورقي وحجاج بن الشاعر، جميعا عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل عن
عزرة عن علباء عن أبي زيد عمرو بن أخطب بن رفاعة الانصاري رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
فصل قال الله تعالى في كتابه العزيز (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل)
[ الزمر: 62 ] فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له، مربوب ومدبر، مكون بعد أن
لم يكن
محدث بعد عدمه.
فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بين ذلك من جامد
وناطق الجميع خلقه، وملكه وعبيده وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته
(خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام.
ثم استوى على العرش.
يعلم ما يلج في الارض، وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها،
وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير) [ الحديد: 4 ].
وقد أجمع العلماء قاطبة لا يشك في ذلك مسلم أن الله خلق السموات والارض،
وما بينهما في ستة أيام كما دل عليه القرآن الكريم.
فاختلفوا في هذه الايام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة مما تعدون ؟
على قولين كما بينا ذلك في التفسير، وسنتعرض لايرادة في موضعه.
واختلفوا هل كان قبل خلق السموات والارض شئ مخلوق قبلهما.
فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لم يكن قبلهما شئ وأنهما خلقتا من العدم
المحض.
وقال آخرون بل كان قبل السموات والارض مخلوقات أخر لقوله [ تعالى ] (وهو
الذي خلق السموات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) [ يونس: 3 ]
الآية.
وفي حديث عمران بن حصين كما سيأتي " كان الله ولم يكن قبله شئ وكان عرشه
على الماء وكتب في الذكر كل شئ ثم خلق السموات والارض " وقال الامام أحمد
بن
حنبل حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو يعلى (1) بن عطاء
عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي أنه قال " يا رسول
الله أين كان (2) ربنا قبل أن يخلق السموات والارض ؟ قال: كان في عماء ما
فوقه هواء وما تحته هواء (3) ثم خلق عرشه على الماء " ورواه عن يزيد بن
هرون عن حماد بن سلمة به.
ولفظه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ وباقيه سواء وأخرجه الترمذي عن
أحمد بن منيع وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح ثلاثتهم
عن يزيد بن هرون، وقال الترمذي حسن.
واختلف هؤلاء في أيها خلق أولا ؟ فقال قائلون خلق القلم قبل هذه الاشياء
كلها، وهذا هو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي، وغيرهما قال ابن جرير، وبعد
القلم السحاب الرقيق.
واحتجوا بالحديث الذي رواه الامام أحمد، وأبو داود
والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " إن أول ما خلق الله القلم.
ثم قال له أكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " لفظ
أحمد (4).
وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره (أن العرش
مخلوق قبل ذلك) وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس
كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (5).
حيث قال: حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو [ بن عبد الله بن عمرو ] بن السرح
حدثنا ابن وهب أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجيلي (6) عن
عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "
كتب الله مقادير الخلائق (7) قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة،
قال وعرشه على الماء قالوا فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير.
وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي
كتب به المقادير.
وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي
كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير.
ويحمل حديث
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 11 و 12 وفي الروايتين عن يعلى بن عطاء وليس أبو يعلى.
(2) قوله أين كان: للسؤال عن المكانة دون المكان كما نص عليه ابن العربي
في شرح الترمذي.
وفي عماء أي في حجاب معنوي يحول دون العلم به فيتفق الممدود والمقصور في
المعنى.
قال يزيد بن هارون: عماء أي ليس معه شئ.
وهو أجود ما ذكره.
وحمل (في) على معنى (على) هنا لا يجدي ولا يبعد الامر عن التمكن.
(3) ما تحته هواء: قال البيهقي في الاسماء: أي ما تحت السماء هواء،
والمراد بالسحاب ليس السحاب المعهود الذي فوقه هواء وتحته هواء بل المراد
السحاب المعنوي والحجاب الذي يحجب عن العلم به سبحانه (قاله ابن العربي).
(4) مسند أحمد ج 5 / 317.
(5) 46 كتاب القدر (2) باب حجاج آدم صلى الله عليه وآله - 16 - 2653 ص
2044.
(6) عند مسلم: الحبلي.
(7) كتب الله مقادير الخلائق: قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في
اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير.
فإن ذلك أزلي لا أول له.
القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم.
ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن عمران بن حصين: قال قال أهل اليمن لرسول
الله صلى الله عليه وسلم " جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا
الامر فقال كان الله ولم يكن شئ قبله * وفي رواية معه، وفي رواية غيره "
وكان عرشه على الماء.
وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والارض " وفي لفظ: ثم خلق السموات
والارض.
فسألوه عن ابتداء خلق السموات والارض.
ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الامر فأجابهم عما سألوا فقط.
ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم.
قال ابن جرير وقال آخرون " بل خلق الله عزوجل الماء قبل العرش " رواه
السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا " ان الله كان عرشه على
الماء (1)، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء " وحكى ابن جرير عن محمد
بن اسحاق أنه قال " أول ما خلق الله عزوجل النور والظلمة ثم ميز بينهما
فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا " قال ابن
جرير وقد قيل: " إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي.
ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة.
ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء " والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي.
قال الله تعالى (رفيع الدرجات ذو العرش) [ غافر: 15 ] وقال تعالى (فتعالى
الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) [ المؤمنون: 116 ] وقال
الله (لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [ المؤمنون: 86 ] وقال (وهو الغفور
الودود ذو العرش المجيد) [ البروج: 14 ].
وقال تعالى (الرحمن على العرش استوى) [ طه: 5 ] وقال (استوى على العرش) [
الرعد: 2 ] في غير ما آية من القرآن، وقال تعالى (الذين يحملون العرش ومن
حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما) [ غافر: 7 ] وقال
تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [ الحاقة: 17 ] وقال تعالى
(وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق
وقيل الحمد لله رب العالمين) [ الزمر: 75 ] وفي الدعاء المروي في الصحيح
في دعاء الكرب " لا إله إلا الله العظيم الحليم.
لا إله إلا الله رب العرش الكريم.
لا إله إلا الله رب السموات ورب الارض رب العرش الكريم ".
وقال الامام أحمد (2) حدثنا عبد الرزاق حدثنا يحيى بن العلاء عن عمه شعيب
بن
__________
(1) قال ابن العربي: " وكان عرشه على الماء " والذي عندي أنه أراد بالعرش
الخلق كله - وهو بهذا المعنى وعلى الماء بمعنى يمسكه بقدرته لا بعمد
ترافده وأساس يعاضده.
(2) مسند أحمد ج 1 / 206 وسقط فيه الاحنف بن قيس.
خالد حدثني سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن الاحنف بن قيس
عن عباس بن عبد المطلب قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالبطحاء فمرت سحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما هذا
قال قلنا السحاب قال والمزن قال قلنا والمزن قال والعنان قال فسكتنا فقال
هل تدرون كم بين السماء والارض قال قلنا الله ورسوله أعلم.
قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة،
وكشف كل سماء (1) مسيرة خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله
وأعلاه كما بين السماء والارض، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهن
واظلافهن كما بين السماء والارض ثم على ظهورهم (2) العرش بين أسفله وأعلاه
كما بين السماء والارض والله فوق ذلك وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شئ
".
هذا لفظ الامام أحمد.
ورواه أبو داود وابن ماجة والترمذي من حديث سماك باسناده نحوه.
وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك ووقفه ولفظ
أبي داود " وهل تدرون بعد ما بين السماء والارض ؟ قالوا لا ندري " قال "
بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتين أو ثلاثة وسبعون سنة " والباقي نحوه.
وقال أبو داود حدثنا عبد الاعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار،
وأحمد بن سعيد
الرباطي قالوا حدثنا وهب بن جرير.
قال أحمد كتبناه من نسخته وهذا لفظه.
قال حدثنا أبي قال سمعت محمد بن اسحاق يحدث عن يعقوب بن عقبة عن جبير بن
محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم اعرابي فقال يارسول الله جهدت الانفس وجاعت العيال (3) ونهكت الاموال
وهلكت الانعام.
فاستسق الله لنا فانا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك " قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " ويحك أتدري ما تقول " وسبح رسول الله صلى الله
عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال " ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك
ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة
عليه وإنه ليئط به أطيط الزحل بالراكب.
قال ابن بشار في حديثه " ان الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته " وساق الحديث.
وقال عبد الاعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عقبة وجبير بن محمد بن
جبير عن أبيه عن جده، قال أبو داود والحديث بإسناد أحمد بن سعيد وهو
الصحيح.
وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ورواه جماعة منهم عن
ابن اسحاق كما قال أحمد أيضا، وكان سماع عبد الاعلى وابن المثنى وابن بشار
في نسخة واحدة فيما بلغني.
تفرد بإخراجها أبو داود، وقد صنف الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي جزءا
في الرد على هذا الحديث.
سماه (ببيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الاطيط) واستفرغ وسعه في الطعن
على محمد بن إسحاق بن بشار راويه.
وذكر كلام الناس فيه، ولكن قد روى هذا اللفظ من طريق أخرى عن غير محمد بن
__________
(1) كذا في الاصل، وفي المسند وكيف بالياء، ولعل الصواب كثف.
(2) في المسند: ثم فوق ذلك.
(3) كذا في الاصل، وفي سنن أبي داود: وضاعت العيال.
اسحاق، فرواه عبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما، وابن أبي عاصم
والطبراني في كتابي السنة لهما، والبزار في مسنده والحافظ الضياء المقدسي
في مختارته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن خليفة عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال " أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت
ادع الله أن يدخلني الجنة قال فعظم الرب تبارك وتعالى وقال " إن كرسيه وسع
السموات والارض وإن له أطيطا كأطيط الزحل الجديد من ثقله.
عبد الله بن خليفة هذا ليس بذاك المشهور.
وفي سماعه من عمر نظر.
ثم منهم من يرويه موقوفا ومرسلا، ومنهم من يزيد فيه زيادة غريبة والله
أعلم * وثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "
إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه
عرش الرحمن ".
يروى وفوقه بالفتح على الظرفية، وبالضم.
قال شيخنا الحافظ المزي وهو أحسن، أي وأعلاها عرش الرحمن.
وقد جاء في بعض الآثار (أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش وهو تسبيحه
وتعظيمه) وما ذاك إلا لقربهم منه.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لقد اهتز عرش الرحمن
لموت سعد بن معاذ (1).
وذكر الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش عن
بعض السلف " أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين
ألف سنة " وذكرنا عند قوله تعالى (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة) [ المعارج: 4 ] أنه بعد ما بين العرش إلى الارض
السابعة مسيرة خمسين ألف سنة وإتساعه خمسون ألف سنة.
وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط
بالعالم من كل جهة ولذا سموه الفلك التاسع والفلك الاطلس والاثير.
وهذا ليس بجيد لانه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك
لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضا فانه فوق الجنة والجنة فوق السموات
وفيها مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض فالبعد الذي بينه
وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك.
وأيضا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك كما قال تعالى (ولها
عرش عظيم) [ النمل: 23 ].
وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك.
والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو
كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات.
قال الله تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
ويستغفرون للذين آمنوا) [ غافر: 7 ] وقد تقدم في حديث الاوعال أنهم
ثمانية، وفوق ظهورهن العرش،
وقال تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [ الحاقة: 17 ] وقال شهر
بن حوشب " حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك
الحمد على حلمك بعد
__________
(1) قال أبو علي بن محمد بن مهدي الطبري: الصحيح من التأويل في هذا أن
يقال الاهتزاء هو الاستبشار والسرور (الاسماء والصفات ص 503).
علمك " وأربعة يقولون " سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك
بعد قدرتك " فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد هو
أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن اسحاق عن يعقوب بن
عقبة (1) عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية
يعني ابن أبي الصلت في بيتين من شعره فقال: رجل وثور تحت رجل يمينه *
والنسر للاخرى وليث مرصد (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق.
فقال: والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد (3) تأبى فلا
تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " صدق " فانه حديث صحيح الاسناد رجاله ثقات.
وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة، فيعارضه حديث الاوعال.
اللهم إلا أن يقال إن اثبات هؤلاء الاربعة على هذه الصفات لا ينفي ما
عداهم.
والله أعلم.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت في العرش قوله: مجدوا الله فهو للمجد أهل *
ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا * س وسوى فوق
السماء سريرا شرجعا لا يناله بصر العي * ن ترى حوله الملائك صورا صور جمع
أصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو (4) والشرجع هو العالي المنيف.
والسرير هو العرش في اللغة.
ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته
حين اتهمته بجاريته.
شهدت بأن وعد الله حق * وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف
* وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام * ملائكة الآله مسومينا
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 256 وفيه يعقوب بن عتيبة ; وفي التقريب أبن عتبة وفي
الكاشف ابن عتبة الثقفي ثقة من العلماء مات سنة 128 ه.
وقال إبراهيم بن سعد: كان ورعا مسلما يستعمل على الصدقات ويستعين به
الولاة.
وكذلك هو ابن عتبة في الطبري والاغاني.
(2) قال الجاحظ في الحيوان 6 / 68 طبع مصر: وقد جاء في الخبر أن من
الملائكة من هو في صورة الرجال ومنهم من هو في صورة الثيران، ومنهم من هو
في صورة النسور ويدل على ذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لامية.
" وأورد البيت.
(3) في المسند: حمراء يصبح لونها بتورد.
(4) صور جمع أصور وهو المائل العنق لثقل حمله.
(اللسان).
ذكره ابن عبد البر وغير واحد من الائمة * وقال أبو داود حدثنا
أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن موسى بن
عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما
بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام.
ورواه ابن أبي عاصم ولفظه محقق الطير (1) مسيرة سبعمائة عام.
وأما الكرسي فروى ابن جرير من طريق جويبر (2) وهو ضعيف - عن الحسن البصري
أنه كان يقول لكرسي هو العرش وهذا لا يصح عن الحسن بل الصحيح عنه وعن غيره
من الصحابة والتابعين أنه غيره وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما قالا في
قوله تعالى (وسع كرسيه السموات والارض) (3) أي علمه والمحفوظ عن ابن عباس
كما رواه الحاكم في مستدركه.
وقال إنه على شرط
الشيخين ولم يخرجاه من طريق سفيان الثوري عن عمار الدهني عن مسلم البطين
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر
قدره إلا الله عزوجل.
وقد رواه شجاع بن مخلد الفلاس في تفسيره عن أبي عاصم النبيل عن الثوري
فجعله مرفوعا والصواب انه موقوف على ابن عباس وحكاه ابن جرير عن أبي موسى
الاشعري والضحاك بن مزاحم واسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ومسلم
البطين وقال السدي عن أبي مالك " الكرسي تحت العرش.
وقال السدي السموات والارض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش " وروى
ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: " لو أن
السموات السبع والارضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة
الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة " وقال ابن جرير حدثني يونس حدثنا
ابن وهب قال: قال ابن زيد حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس " قال
وقال أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما الكرسي في العرش
إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الارض " أول الحديث مرسل.
وعن أبي ذر منقطع.
وقد روي عنه من طريق أخرى موصولا فقال الحافظ أبو بكر بن مردوية في تفسيره
أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني أنبأنا عبد الله بن وهيب المغربي أنبأنا
محمد بن أبي سري العسقلاني أنبأنا محمد بن عبد الله التميمي عن القاسم بن
محمد الثقفي عن أبي ادريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن
__________
(1) قوله محقق الطير، كذا بالاصول ولم نعثر له على معنى..(2) يقال اسمه
جابر وجويبر لقب، ابن سعيد الازدي أبو قاسم البلخي نزيل الكوفة.
تركوه.
قال ابن حجر: ضعيف جدا مات بعد المائة والاربعين (التقريب 1 / 136)
(الكاشف 1 / 133).
(3) سورة البقرة الآية: 255.
الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما
السموات السبع والارضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن
فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة * وقال
ابن جرير في تاريخه حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن سفيان عن الاعمش عن
المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله عزوجل وكان
عرشه على الماء على أي شئ كان الماء ؟ قال: على متن الريح قال: والسموات
والارضون وكل ما فيهن من شئ تحيط بها البحار ويحيط بذلك كله الهيكل ويحيط
بالهيكل فيما قيل الكرسي.
وروى (1) عن وهب ابن منبه نحوه.
وفسر وهب الهيكل فقال شئ من أطراف السموات يحدق بالارضين والبحار كأطناب
الفسطاط * وقد زعم بعض من ينتسب إلى علم الهيئة أن الكرسي عبارة عن الفلك
الثامن الذي يسمونه فلك الكواكب الثوابت.
وفيما زعموه نظر لانه قد ثبت أنه أعظم من السموات السبع بشئ كثير ورد
الحديث المتقدم بأن نسبتها إليه كنسبة حلقة ملقاة بأرض فلاة وهذا ليس نسبة
فلك إلى فلك.
فإن قال قائلهم فنحن نعترف بذلك ونسميه مع ذلك فلكا فنقول الكرسي ليس في
اللغة عبارة عن الفلك وإنما هو كما قال غير واحد من السلف بين يدي العرش
كالمرقاة إليه.
ومثل هذا لا يكون فلكا.
وزعم أن الكواكب الثوابت مرصعة فيه لا دليل لهم عليه.
هذا مع اختلافهم في ذلك أيضا كما هو مقرر في كتبهم والله أعلم.
ذكر اللوح المحفوظ قال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عثمان بن
أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا زياد بن عبد
الله عن ليث عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن نبي
الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء
صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور لله فيه في كل يوم ستون
وثلثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيى ويعز ويذل ويفعل ما يشاء " وقال
اسحاق بن بشر أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال " إن في
صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الاسلام ومحمد عبده ورسوله.
فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة " قال " واللوح المحفوظ
لوح من درة بيضاء: طوله ما بين السماء والارض، وعرضه ما بين المشرق
والمغرب.
وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه معقود
بالعرش، واصله في حجر ملك " وقال أنس بن مالك، وغيره
من السلف " اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل " وقال مقاتل هو عن يمين العرش.
ما ورد في خلق السموات والارض وما بينهما قال الله تعالى (الحمد لله الذي
خلق السموات والارض، وجعل الظلمات والنور ثم
__________
(1) أي ابن جرير.
الذين كفروا بربهم يعدلون) [ الانعام: 1 ] وقال تعالى (خلق
السموات والارض وما بينهما في ستة أيام) [ هود: 7 ] في غير ما آية من
القرآن وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة الايام على قولين.
فالجمهور على أنها كأيامنا هذه.
وعن ابن عباس، ومجاهد والضحاك، وكعب الاحبار: أن كل يوم منها كألف سنة مما
تعدون.
رواهن ابن جرير، وابن أبي حاتم، واختار هذا القول الامام أحمد بن حنبل في
كتابه الذي رد فيه على الجهمية، وابن جرير وطائفة من المتأخرين والله أعلم.
وسيأتي ما يدل على هذا القول.
وروى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، وغيره أن أسماء الايام الستة " أبجد
هوز حطي كلمن سعفص قرشت " وحكى ابن جرير في أول الايام ثلاثة أقوال، فروى
عن محمد بن اسحاق أنه قال " يقول أهل التوراة ابتدأ الله الخلق يوم الاحد،
ويقول أهل الانجيل: ابتدأ الله الخلق يوم الاثنين، ونقول نحن المسلمون
فيما انتهى إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ الله الخلق يوم
السبت " وهذا القول الذي حكاه ابن اسحاق عن المسلمين مال إليه طائفة من
الفقهاء من الشافعية، وغيرهم.
وسيأتي فيه حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) والقول بأنه الاحد
رواه ابن جرير عن السدي عن أبي مالك، وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن
ابن مسعود، وعن جماعة من الصحابة ورواه أيضا عن عبد الله بن سلام، واختاره
ابن جرير.
وهو نص التوراة، ومال إليه طائفة آخرون من الفقهاء.
وهو أشبه بلفظ الاحد ولهذا كمل الخلق في ستة أيام فكان آخرهن الجمعة
فاتخذه المسلمون عيدهم في الاسبوع وهو اليوم الذي أضل الله عنه أهل الكتاب
قبلنا كما سيأتي بيانه ان شاء الله.
وقال تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء
فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم)
[ البقرة: 29 ] وقال تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين
وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها
وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين.
ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا
أتينا طائعين.
فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا
بمصابيح، وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) [ فصلت: 9 ] فهذا يدل على أن
الارض خلقت قبل السماء لانها كالاساس للبناء كما قال تعالى: (الله الذي
جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات
ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) [ غافر: 64 ] قال تعالى (ألم
نجعل الارض مهادا والجبال أوتادا إلى أن قال وبنينا فوقكم سبعا شدادا
وجعلنا سراجا وهاجا) [ المرسلات: 25 ] وقال [ تعالى ] (أو لم ير الذين
كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي
أفلا يؤمنون) [ الانبياء: 30 ] أي فصلنا ما بين السماء والارض حتى هبت
الرياح ونزلت الامطار وجرت العيون، والانهار وانتعش الحيوان.
ثم قال (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) [ الانبياء: 32
] أي عما خلق فيها من الكواكب الثوابت، والسيارات والنجوم
الزاهرات والاجرام النيرات، وما في ذلك من الدلالات على حكمة
خالق الارض والسموات كما قال تعالى * (وكأين من آية في السموات والارض
يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * [
يوسف: 105 ] فأما قوله تعالى (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها
فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والارض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها
ومرعاها، والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) [ النازعات: 28 ] فقد تمسك
بعض الناس بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الارض.
فخالفوا صريح الآيتين المتقدمين ولم يفهموا هذه الآية الكريمة فان مقتضى
هذه الآية أن دحي الارض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء.
وقد كان ذلك مقدرا فيها بالقوة كما قال تعالى (وبارك فيها وقدر فيها
أقواتها) [ فصلت: 10 ] أي هيأ أماكن الزرع ومواضع العيون والانهار ثم لما
أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي دحى الارض أخرج منها ما كان مودعا
فيها فخرجت العيون وجرت الانهار، ونبت الزرع والثمار ولهذا فسر الدحي
بإخراج الماء والمرعى منها وإرسال الجبال فقال (والارض بعد ذلك دحاها أخرج
منها ماءها ومرعاها) وقوله (والجبال أرساها) [ المرسلات: 30 - 32 ] أي
قررها في أماكنها التي وضعها فيها وثبتها وأكدها وأطدها وقوله (والسماء
بنيناها بايد وإنا لموسعون، والارض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شئ
خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) [ الذاريات: 37 ] بأيد أي بقوة.
وأنا لموسعون، وذلك أن كل ما علا اتسع فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي
أوسع منها.
ولهذا كان الكرسي أعلى من السموات.
وهو أوسع منهن كلهن.
والعرش أعظم من ذلك كله بكثير.
وقوله بعد هذا (والارض فرشناها) أي بسطناها وجعلناها مهدا أي قارة ساكنة
غير مضطربة ولا مائدة بكم.
ولهذا قال (فنعم الماهدون) والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع.
وإنما يقتضي الاخبار المطلق في اللغة والله أعلم * وقال البخاري حدثنا عمر
بن جعفر بن غياث حدثنا أبي حدثنا الاعمش حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن
محرز أنه حدثه عن عمران بن حصين قال " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم
وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم
" قالوا قد بشرتنا فاعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال " اقبلوا
البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم " قالوا قد قبلنا يارسول الله
قالوا جئناك نسألك عن هذا الامر.
قال " كان الله ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ
وخلق السموات والارض " فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا
هي تقطع دونها السراب فوالله لوددت اني كنت تركتها " هكذا رواه هاهنا وقد
رواه في كتاب المغازي وكتاب التوحيد وفى بعض ألفاظه (ثم خلق السموات
والارض) وهو لفظ النسائي أيضا.
وقال الامام أحمد بن حنبل (1) حدثنا حجاج حدثني ابن جريج أخبرني إسماعيل بن
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 327.
مية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي
هريرة قال " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله التربة
يوم السبت وخلق الجبال [ فيها ] يوم الاحد وخلق لشجر [ فيها ] يوم الاثنين
وخلق المكروه يوم الثلاث (1) وخلق النور يوم الاربعاء وبث [ فيها ] لدواب
يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق خلق في آخر ساعة من
ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس
وهرون بن عبد الله والنسائي عن هرون ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن
محمد المصيصي الاعور عن ابن جريج به مثله سواء.
وقد رواه النسائي في التفسير عن ابراهيم ين يعقوب الجوزجاني عن محمد ابن
الصباح عن أبي عبيدة الجداد عن الاخضر بن عجلان عن ابن جريح عن عطاء بن
أبي رباح عن أبي هريرة " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال
يا أبا هريرة " إن الله خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم
استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت " وذكر تمامه بنحوه
فقد اختلف فيه على ابن جريج وقد تكلم في هذا الحديث على ابن المديني
والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ قال البخاري في التأريخ، وقال بعضهم
عن كعب وهو أصح يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب
الاحبار فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدثه عن صحفه، وهذا
يحدثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقاه
أبو هريرة عن كعب عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، وأكد رفعه بقوله " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي
" ثم في متنه غرابة شديدة.
فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الارض وما فيها في
سبعة أيام.
وهذا خلاف القرآن لان الارض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات في يومين
من دخان.
وهو بخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من ربذة الارض
بالقدرة العظيمة البالغة كما قال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في
خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن
مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق لكم ما
في الارض
جميعا ثم استوى إلى (2) السماء فسواهن سبع سموات " قال إن الله كان عرشه
على الماء ولم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج
من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء * ثم أيبس الماء
فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين (الاحد والاثنين) وخلق
الارض على حوت وهو النون قال الله تعالى (نون والقلم وما يسطرون) (3)
والحوت
__________
(1) في المسند: الثلاثاء وما بين معكوفين في الحديث زيادة من المسند.
(2) قال البيهقي في الاسماء ص 520: قال يحيى بن زياد الفراء: الاستواء في
كلام العرب على جهتين: احداهما: ان يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ; أو
يستوي من اعوجاج، ووجه ثالث: أن تقول كان مقبلا علي فلان يشاتمني والي
سواء على معنى أقبل إلي وعلي.
وعن ابن عباس قال: استوى: صعد.
(3) سورة القلم الآية 1.
في الماء والماء على صفات والصفات على ظهر ملك والملك على صخرة
والصخرة في الريح.
وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الارض فتحرك الحوت
فاضطرب فتزلزلت الارض فأرسى عليها الجبال فقرت.
وخلق الله يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع.
وخلق يوم الاربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب وفتق السماء
وكانت رتقا فجعلها سبع سموات في يومين الخميس والجمعة.
وإنما سمي يوم الجمعة لانه جمع فيه خلق السموات والارض وأوحى في كل سماء
أمرها.
ثم قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والبحار وجبال البرد وما لا
يعلمه غيره.
ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة وحفظا يحفظ من الشياطين.
فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش.
هذا الاسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة وكان كثير منها متلقى
من الاسرائيليات.
فإن كعب الاحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي
الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب فيستمع له عمر تأليفا له، وتعجبا مما
عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر فاستجاز كثير من
الناس نقل ما يورده كعب الاحبار لهذا، ولما جاء من الاذن في التحديث عن
بني إسرائيل لكن كثيرا ما يقع مما يرويه غلط كبير وخطأ
كثير * وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن معاوية أنه كان يقول في كعب
الاحبار (وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب) أي فيما ينقله لا أنه يتعمد
ذلك والله أعلم.
ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الائمة المتقدمين عنهم.
ثم نتبع ذلك من الاحاديث بما يشهد له بالصحة أو يكذبه ويبقى الباقي مما لا
يصدق ولا يكذب وبه المستعان وعليه التكلان.
قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي زناد عن
الاعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قضى
الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي " وكذا
رواه مسلم (3) والنسائي عن قتيبة به.
ثم قال البخاري: (3)
__________
(1) صحيح البخاري - من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن انه سمع معاوية
" يحدث رهطا من قريش بالمدينة.
وذكر كعب الاحبار فقال: انه كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن
أهل الكتاب وإن كنا لنبلو مع ذلك عليه الكذب.
(2) البخاري - كتاب بدء الخلق - ج 4 / 73.
عند مسلم في 49 كتاب التوبة ج 14 (2751) عن قتيبة بن سعد وفيه: لما خلق
الله.
وقوله عنده: قال العيني في شرح البخاري: والعندية ليست مكانية بل إشارة
إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق، مرفوعا عن حيز إدراكهم.
(3) في كتاب بدء الخلق.
باب ما جاء في سبع أرضين.
ما جاء في سبع أرضين وقوله تعالى (والله الذي خلق سبع سموات ومن
الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير ; وان الله
قد أحاط بكل شئ علما) (1) ثم قال حدثنا علي بن عبد الله أخبرنا ابن علية
عن علي بن المبارك حدثنا يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن وكانت بينه وبين ناس خصومة في أرض فدخل على عائشة
فذكر لها ذلك.
فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الارض فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين " ورواه أيضا في كتاب المظالم ومسلم من
طرق عن يحيى بن كثير به * ورواه أحمد من حديث محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة
به، ورواه أيضا عن يونس عن إبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة
بمثله.
ثم قال البخاري حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله عن موسى بن عقبة عن
سالم عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أخذ شيئا من الارض
بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " ورواه في المظالم أيضا عن
مسلم بن إبراهيم عن عبد الله هو ابن المبارك عن موسى بن عقبة به وهو من
أفراده.
وذكر البخاري هاهنا حديث محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن
أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الزمان قد استدار كهيئته
يوم خلق الله السموات والارض السنة اثني عشر شهرا " الحديث ومراده والله
أعلم تقرير قوله تعالى (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن) أي في
العدد كما أن عدة الشهور الآن اثني عشر مطابقة لعدة الشهور عند الله في
كتابه الاول فهذه مطابقة في الزمن كما أن تلك مطابقة في المكان.
ثم قال البخاري حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه خاصمته أروى (2) في حق زعمت أنه ائتقصه
لها إلى مروان فقال سعيد رضي الله عنه أنا انتقص من حقها شيئا ؟ أشهد
لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أخذ شبرا من الارض ظلما
فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين " ورواه (3).
وقال الامام أحمد حدثنا حسن وأبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عبد الله ابن
لهيعة حدثنا عبد الله (4) بن أبي جعفر عن أبي عبد الرحمن عن ابن مسعود قال
" قلت يارسول الله أي الظلم أعظم ؟ قال: ذراع من الارض ينتقصه المرء
المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الارض يأخذها
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12.
(2) أروى بفتح الهمزة وسكون الراء وهي أروى بنت أبي أوس.
(3) قوله ورواه هكذا بالاصل: وفي البخاري: قال ابن أبي الزناد عن هشام عن
أبيه (عروة) قال قال لي سعيد بن
زيد: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) مسند أحمد ج 1 / 397 وفيه: عبيد الله بدل عبد الله.
أحد إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الارض، ولا يعلم قعرها إلا
الذي خلقها " تفرد به أحمد.
وهذا إسناد لا بأس به.
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ شبرا من الارض بغير حقه
طوقه من سبع أرضين " تفرد به من هذا الوجه وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد حدثنا يحيى عن ابن عجلان حدثني أبي عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " من اقتطع شبرا من الارض بغير حقه طوقه إلى سبع
أرضين " تفرد به أيضا وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ من الارض شبرا بغير
حقه طوقه من سبع أرضين " تفرد به أيضا وقد رواه الطبراني من حديث معاوية
بن قرة عن ابن عباس مرفوعا مثله * فهذه الاحاديث كالمتواترة في إثبات سبع
أرضين والمراد بذلك أن كل واحدة فوق الاخرى والتي تحتها في وسطها عند أهل
الهيئة حتى ينتهي الامر إلى السابعة وهي صماء لا جوف لها، وفي وسطها
المركز وهي نقطة مقدرة متوهمة.
وهو محط الاثقال، إليه ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يعاوقه مانع.
واختلفوا هل هن متراكمات بلا تفاصل أو بين كل واحدة والتي تليها خلاء على
قولين وهذا الخلاف جار في الافلاك أيضا.
والظاهر أن بين كل واحدة والتي تليها خلاء على قولين.
وهذا الخلاف جار في الافلاك أيضا.
والظاهر أن بين كل واحدة منهن وبين الاخرى مسافة لظاهر قوله تعالى (الله
الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن) الآية وقال الامام
أحمد حدثنا شريح حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة
قال " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت سحابة فقال "
أتدرون ما هذه قلنا الله ورسوله أعلم قال العنان وزوايا الارض تسوقه إلى
من لا يشكرونه من عباده ولا يدعونه أتدرون ما هذه فوقكم: قلنا الله ورسوله
أعلم قال الرفيع موج مكفوف وسقف محفوظ أتدرون كم بينكم وبينها قلنا الله
ورسوله أعلم.
قال مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال أتدرون ما الذي فوقها قلنا الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمسمائة عام
حتى عد سبع سموات * ثم قال أتدرون ما فوق ذلك قلنا الله ورسوله أعلم قال
العرش أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة قلنا الله ورسوله أعلم.
قال مسيرة خمسمائة عام.
ثم قال أتدرون ما هذه تحتكم قلنا الله وروسله أعلم قال أرض أتدرون ما
تحتها قلنا الله ورسوله أعلم قال أرض أخرى أتدرون كم بينهما قلنا الله
ورسوله أعلم.
قال مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبع أرضين ثم قال وأيم الله لو دليتم أحدكم
إلى الارض السفلى السابعة لهبط.
ثم قرأ هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ورواه الترمذي عن
عبد بن حميد، وغير واحد عن يونس بن محمد المؤدب عن شيبان بن عبد الرحمن عن
قتادة، قال حدث الحسن عن أبي هريرة وذكره إلا أنه ذكر أن بعد ما بين كل
أرضين خمسمائة عام وذكر في آخره كلمة (1) ذكرناها عند تفسير هذه الآية من
__________
(1) في المسند: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الارض
السفلى لهبط على الله.
قال ابن
سورة الحديد ثم قال الترمذي هذا حديث غريب من هذا الوجه قال
ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد أنهم قالوا لم يسمع الحسن من أبي
هريرة * ورواه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي
جعفر الرازي عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة فذكر مثل لفظ الترمذي سواء
بدون زيادة في آخره ورواه ابن جرير في تفسيره عن بشر عن يزيد عن سعيد بن
أبي عروبة عن قتادة مرسلا وقد يكون هذا أشبه والله أعلم.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولكن لا يصح إسناده والله أعلم (1) * وقد تقدم عند صفة
العرش من حديث الاوعال ما يخالف هذا في ارتفاع العرش عن السماء السابعة
وما يشهد له.
وفيه وبعد ما بين كل سماءين خمسمائة عام، وكثفها أي سمكها خمسمائة عام *
وأما ما ذهب إليه بعض المتكلمين على حديث (طوقه من سبع أرضين) أنها سبعة
أقاليم.
فهو قول يخالف ظاهر الآية والحديث الصحيح وصريح كثير من ألفاظه مما يعتمد
من الحديث الذي أوردناه من طريق الحسن عن أبي هريرة.
ثم إنه حمل الحديث والآية على خلاف ظاهرهما بلا مستند
ولا دليل والله أعلم.
وهكذا ما يذكره كثير من أهل الكتاب وتلقاه عنهم طائفة من علمائنا من أن
هذه الارض من تراب والتي تحتها من حديد والاخرى من حجارة من كبريت والاخرى
من كذا فكل هذا إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله.
وهكذا الاثر المروي عن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الخلق مثل ما في
هذه حتى آدم كآدمكم وإبراهيم كإبراهيمكم فهذا ذكره ابن جرير مختصرا
واستقصاه البيهقي في الاسماء والصفات وهو محمول إن صح نقله عنه على أنه
أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الاسرائيليات والله أعلم * وقال الامام
أحمد حدثنا يزيد حدثنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن
مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق
الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب
هل من خلقك شئ أشد من الجبال قال نعم الحديد.
قالت يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد قال نعم النار.
قالت يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار قال نعم الريح.
قالت يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الريح قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه
يخفيها من شماله تفرد به أحمد * وقد ذكر أصحاب الهيئة إعداد جبال الارض في
سائر بقاعها شرقا وغربا، وذكروا طولها وبعد إمتدادها وإرتفاعها وأوسعوا
القول في ذلك بما يطول شرحه هنا.
وقد قال الله تعالى (ومن
__________
= العربي: والمقصود من الخبر ان نسبة الباري من الجهات إلى فوق كنسبته إلى
تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته.
(1) قال البيهقي في الاسماء ص 506: هذه الرواية اشتهرت فيما بين
الناس..والذي روي في آخر الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى وان
العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء ; وانه الظاهر.
الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) (1) قال ابن
عباس وغير واحد الجدد الطرائق وقال عكرمة وغيره الغرابيب الجبال الطوال
السود.
وهذا هو الشاهد من الجبال في سائر الارض تختلف باختلاف بقاعها وألوانها.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الجودي على التعيين وهو جبل عظيم
شرقي جزيرة ابن عمر إلى دجلة.
عند الموصل إمتداده من الجنوب إلى الشمال مسيرة ثلاثة أيام وإرتفاعه مسيرة
نصف يوم وهو أخضر لان فيه شجرا من البلوط وإلى جانبه قرية يقال لها قرية
الثمانين لسكني الذين نجوا في السفينة مع نوح عليه السلام في موضعها فيما
ذكره غير واحد من المفسرين والله أعلم.
فصل في البحار والانهار قال الله تعالى (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا
منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا
من فضله ولعلكم تشكرون.
وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهدون.
وعلامات وبالنجم هم يهتدون.
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله
لغفور رحيم) [ النحل: 14 - 15 ] وقال تعالى (وما يستوي البحران هذا عذب
فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية
تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) [ فاطر: 12
] وقال تعالى (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل
بينهما برزخا وحجرا محجورا) [ الفرقان: 53 ] وقال تعالى: (مرج البحرين
يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) [ الرحمن: 19 - 20 ] فالمراد بالبحرين
البحر الملح المر وهو الاجاج والبحر العذب هو هذه الانهار السارحة بين
أقطار والامصار لمصالح العباد قاله ابن جريج وغير واحد من الائمة.
وقال تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام إن يشأ يسكن الريح
فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا
ويعفو عن كثير) [ الشورى: 33 ] وقال تعالى (ألم تر أن الفلك تجري في البحر
بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج
كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما
يجحد بآياتنا إلا كل ختال كفور) [ لقمان: 31 ] وقال تعالى: (إن في خلق
السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع
الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها
من كل دابة وتصريف
الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون) [ الحج: 65 ]
فامتن تعالى
__________
(1) سورة فاطر الآية 27.
الجدد جمع جدة.
قال الزهري: الطرائق أو الخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض..
على عباده بما خلق لهم من البحار والانهار فالبحر المحيط بسائر
أرجاء الارض وما ينبت منه في جوانبها الجميع مالح الطعم مر وفي هذا حكمة
عظيمة لصحة الهواء إذ لو كان حلوا لانتن الجو وفسد الهواء بسبب ما يموت
فيه من الحيوانات فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم ولكن اقتضت الحكمة البالغة
أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة.
ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر قال: " هو الطهور
ماؤه الحل ميتته " (1).
وأما الانهار فماؤها حلو عذب فرات سائغ شرابها لمن أراد ذلك.
وجعلها جارية سارحة ينبعها تعالى في أرض ويسوقها إلى أخرى رزقا للعباد.
ومنها كبار ومنها صغار بحسب الحاجة والمصلحة.
وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتفسير على تعداد البحار والانهار الكبار
وأصول منابعها وإلى أين ينتهي سيرها بكلام فيه حكم ودلالات على قدرة
الخالق تعالى، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة - قوله تعالى (والبحر المسجور)
[ الطور: 6 ] فيه قولان أحدهما أن المراد به البحر الذي تحت العرش المذكور
في حديث الاوعال.
وأنه فوق السموات السبع بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، وهو الذي
ينزل منه المطر قبل البعث فتحيا منه الاجساد من قبورها.
وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس.
والثاني آن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الارض وهو قول الجمهور
* واختلفوا في معنى البحر المسجور فقيل المملوء وقيل يصير يوم القيامة
نارا تؤجج فيحيط بأهل الموقف كما ذكرناه في التفسير عن علي وابن عباس
وسعيد بن جبير وابن مجاهد وغيرهم.
وقيل المراد به الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى فيغمر الارض ومن عليها
فيغرقوا.
رواه الوالبي عن ابن عباس وهو قول السدي وغيره ويؤيده الحديث الذي رواه
الامام أحمد (1) حدثنا يزيد حدثنا
العوام حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال " لقيت أبا صالح مولى عمر بن
الخطاب فقال حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات [ على الارض ] يستأذن الله
عزوجل أن يتفصح عليهم فيكفه الله عزوجل " ورواه اسحاق بن راهوية
__________
(1) اخرجه أحمد في مسنده 2 / 227، 261، 278، 292 ; 3 / 273 ; 5 / 265.
وأبو داود في الطهارة والترمذي في الطهارة والنسائي في الطهارة والمياه
والصيد.
وأخرجه ابن ماجة في الطهارة.
وفي موطأ مالك والدارمي في الوضوء والصيد.
(2) سورة الطور الآية 6.
في معنى المسجور قال مجاهد: الموقد ; وافقه الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن
كعب والاخفش: انه بمنزلة التنور المسجور - الموقد المحمى -.
وعن ابن عباس قال: المسجور الذي ذهب ماؤه.
وقيل المسجور أي المفجور.
وعند المهايمي: أورده بعد السقف المرفوع للاشارة إلى أنه إذا ارتفع العمل
إلى السماء فاض منها على العبد من العلوم ما يجعله بحرا من المحبة ما يسجر
بنار الشوق إلى ربه.
عن يزيد بن هرون عن العوام بن حوشب حدثني شيخ مرابط قال " خرجت
ليلة المحرس لم يخرج أحد من المحرس غيري فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل
إلي أن البحر يشرف يحاذي برؤوس الجبال فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ فلقيت
أبا صالح فقال حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله أن يتفصح عليهم فيكفه
الله عزوجل في إسناده رجل مبهم والله أعلم.
وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم وسخره لهم
يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الاقاليم النائية بالتجارات وغيرها وهداهم
فيه بما خلقه في السماء والارض من النجوم والجبال التي جعلها لهم علامات
يهتدون بها في سيرهم وبما خلق لهم فيه من الآلئ والجواهر النفيسة العزيزة
الحسنة الثمينة التي لا توجد إلا فيه وبما خلق فيه من الدواب الغريبة
وأحلها لهم حتى ميتتها كما قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه) وقال
النبي صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وفي الحديث الآخر
" أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال " رواه أحمد وابن
ماجة وفي إسناده نظر * وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده " وجدت في
كتاب عن محمد بن معاوية البغدادي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر عن
سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه قال " كلم الله هذا البحر
الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للغربي إني حامل فيك عبادا من عبادي فكيف
أنت صانع بهم قال أغرقهم.
قال بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد، وكلم هذا البحر الشرقي فقال إني
حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم قال أحملهم على يدي، وأكون لهم
كالوالدة لولدها فأثابه الحلية والصيد * ثم قال لا تعلم أحدا.
ما رواه عن سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر وهو منكر الحديث.
قال وقد رواه سهيل عن عبد الرحمن بن أبي عياش عن عبد الله بن عمرو موقوفا.
قلت الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه فإنه قد كان وجد يوم
اليرموك ذاملتين مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما بأشياء
كثيرة من الاسرائيليات منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود.
فأما المعروف فترد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن
عمر بن الخطاب أبو القاسم المدني قاضيها.
قال فيه الامام أحمد ليس بشئ وقد سمعته منه * ثم مزقت حديثه كان كذابا
وأحاديثه مناكير * وكذا ضعفه بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والجوزجاني
والبخاري وأبو داود والنسائي وقال ابن عدي عامة أحاديثه مناكير وأفظعها
حديث البحر * قال علماء التفسير المتكلمون على العروض والاطوال والبحار
والانهار والجبال والمساحات وما في الارض من المدن والخراب والعمارات
والاقاليم السبعة الحقيقة في إصطلاحهم والاقاليم المتعددة العرفية وما في
البلدان والاقاليم من الخواص والنباتات وما يوجد في كل قطر من صنوف
المعادن والتجارات قالوا الارض مغمورة بالماء العظيم إلا مقدار
الربع منها وهو تسعون درجة
والعناية الالهية اقتضت إنحسار الماء عن هذا القدر منها لتعيش الحيوانات
عليها وتنبت الزرع والثمار منها كما قال تعالى (والارض وضعها للانام فيها
فاكهة والنخل ذات الاكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما
تكذبان) [ الرحمن: 10 - 13 ] قالوا المعمور من هذا البادي منها قريب
الثلثين منه أو أكثر قليلا.
هو خمس وتسعون درجة.
قالوا فالبحر المحيط الغربي ويقال له أوقيانوس وهو الذي يتاخم بلاد المغرب
وفيه الجزائر الخالدات وبينها وبين ساحله عشر درج مسافة شهر تقريبا وهو
بحر لا يمكن سلوكه ولا ركوبه لكثرة موجه وإختلاف ما فيه من الرياح
والامواج وليس فيه صيد ولا يستخرج منه شئ ولا يسافر فيه لمتجر ولا لغيره
وهو آخذ في ناحية الجنوب حتى يسامت الجبال القمر ويقال جبال القمر التي
منها أصل منبع نيل مصر ويتجاوز خط الاستواء * ثم يمتد شرقا ويصير جنوبي
الارض.
وفيه هناك جزائر الزابج وعلى سواحله خراب كثير * ثم يمتد شرقا وشمالا حتى
يتصل ببحر الصين والهند * ثم يمتد شرقا حتى يسامت (1) نهاية الارض الشرقية
المكشوفة.
وهناك بلاد الصين.
ثم ينعطف في شرق الصين إلى جهة الشمال حتى يجاوز بلاد الصين ويسامت سد
يأجوج ومأجوج.
ثم ينعطف ويستدير على أراضي غير معلومة الاحوال * ثم يمتد مغربا في شمال
الارض ويسامت بلاد الروس ويتجاوزها ويعطف مغربا وجنوبا ويستدير على الارض
ويعود إلى جهة الغرب وينبثق من الغربي إلى متن الارض الزقاق الذي ينتهي
أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب * ثم يأخذ في بلاد الروم حتى يتصل
بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم.
وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال: إن في
بحر الهند ألف جزيرة وسبعمائة جزيرة فيها مدن وعمارات سوى الجزائر العاطلة
ويقال لها البحر الاخضر فشرقيه بحر الصين وغربيه بحر اليمن وشماله بحر
الهند وجنوبيه غير معلوم * وذكروا أن بين بحر الهند وبحر اليمن جبالا
فاصلة بينهما وفيها فجاج يسلك المراكب بينها يسيرها لهم الذي خلقها كما
جعل مثلها في البر أيضا قال الله تعالى (وجعلنا في الارض رواسي أن تميد
بكم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلكم تهتدون) * وقد ذكر بطليموس أحد ملوك
الهند في كتابه
المسمى بالمجسطي الذي عرب في زمان المأمون، وهو أصل هذه العلوم أن البحار
المتفجرة من المحيط الغربي والشرقي والجنوبي والشمالي كثيرة جدا.
فمنها ما هو واحد، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له.
فمن ذلك بحر القلزم.
والقلزم قرية على ساحله قريب من أيلة.
وبحر فارس وبحر الخزر وبحر ورنك وبحر الروم وبحر بنطش وبحر الازرق، مدينة
على ساحله وهو بحر القرم أيضا ويتضايق حتى يصب في بحر الروم عند جنوبي
القسطنطينية وهو خليج القسطنطينية،
__________
(1) يسامت: يسير.
ولهذا تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم وتبطئ إذا
جاءت من الاسكندرية إلى القرم لاستقبالها جريان الماء.
وهذا من العجائب في الدنيا فإن كل ماء جار فهو حلو إلا هذا وكل بحر راكد
فهو ملح أجاج إلا ما يذكر عن بحر الخزر وهو بحر جرجان وبحر طبرستان أن فيه
قطعة كبيرة ماء حلوا فراتا على ما أخبر به المسافرون عنه.
قال أهل الهيئة وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو * وقيل إنه مثلث
كالقلع وليس هو متصلا بشئ من البحر المحيط بل منفرد وحده، وطوله ثمانمائة
ميل وعرضه ستمائة وقيل أكثر من ذلك والله أعلم.
ومن ذلك البحر الذي يخرج منه المد والجزر عند البصرة وفي بلاد المغرب
نظيره أيضا يتزايد الماء من أول الشهر ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة
الرابعة عشر منه وهو المد * ثم يشرع في النقص وهو الجزر إلى آخر الشهر *
وقد ذكروا تحديد هذه البحار ومبتداها ومنتهاها وذكروا ما في الارض من
البحيرات المجتمعة من الانهار وغيرها من السيول وهي البطائح * وذكروا ما
في الارض من الانهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءها وإنتهاءها ولسنا
بصدد بسط ذلك والتطويل فيه وإنما نتكلم على ما يتعلق بالانهار الوارد
ذكرها في الحديث.
وقد قال الله تعالى: (الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء
فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر
لكم الانهار وسخر لكم الشمس والقمر
دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة
الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار) ففي الصحيحين من طريق قتادة عن أنس
بن مالك عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سدرة
المنتهى قال فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران.
فأما الباطنان ففي الجنة وأما الظهران فالنيل والفرات * وفي لفط في
البخاري وعنصرهما أي مادتهما أو شكلهما وعلى صفتهما ونعتهما وليس في
الدنيا مما في الجنة الاسماوية وفي صحيح مسلم من حديث عبيد الله بن عمر عن
خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ".
وقال الامام أحمد حدثنا ابن نمير ويزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة
عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فجرت أربعة أنهار من
الجنة الفرات والنيل وسيحان وجيحان " وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وكأن المراد والله أعلم من هذا أن هذه الانهار تشبه أنهار الجنة في صفائها
وعذوبتها وجريانها ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها كما قال في الحديث
الآخر الذي رواه الترمذي وصححه من طريق سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " العجوة من
الجنة وفيها شفاء من السم " أي تشبه ثمر الجنة لا أنها مجتناة من الجنة،
فان الحس يشهد بخلاف ذلك فتعين أن المراد غيره وكذا قوله صلى الله عليه
وسلم " الحمى من فيح جهنم
فابردوها بالماء " وكذا قوله " إذا اشتد الحمى فأبردوها بالماء
فإن شدة الحر من فيح جهنم " * وهكذا هذه الانهار أصل منبعها مشاهد من
الارض * أما النيل.
وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته ولطافته وبعد مسراه
فيما بين مبتداه إلى منتهاه فمبتداه من الجبال القمر أي البيض ومنهم من
يقول جبال القمر بالاضافة إلى الكوكب وهي في غربي الارض وراء خط الاستواء
إلى الجانب الجنوبي.
ويقال إنها حمر ينبع من بينها عيون * ثم يجتمع من عشر مسيلات متباعدة.
ثم يجتمع كل خمسة منها في بحر.
ثم يخرج منها أنهار ستة.
ثم يجتمع كلها في بحيرة أخرى.
ثم يخرج منها نهر واحد هو النيل فيمر على بلاد
السودان الحبشة ثم على النوبة ومدينتها العظمى دمقلة ثم على أسوان ثم يفد
على ديار مصر (1).
وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها واجترف من ترابها وهى
محتاجة إليهما معا لان مطرها قليل لا يكفي زروعها وأشجارها.
وتربتها رمال لا تنبت شيئا حتى يجئ النيل بزيادته وطينه فينبت فيه ما
يحتاجون إليه وهي من أحق الاراضي بدخولها في قوله تعالى (أو لم يروا أنا
نسوق الماء إلى الارض الجرز فنخرج به رزعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا
يبصرون) ثم يجاوز النيل مصر قليلا فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه يقال
لها شطنوف فيمر الغربي على رشيد ويصب في البحر المالح * وأما الشرق فتفترق
أيضا عند جوجر فرقتين تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها ويصب في
البحر والشرقية منهما تمر على أشمون طناح فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط.
يقال لها بحيرة تنيس وبحيرة دمياط * وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى
منتهاه.
ولهذا كان ألطف المياه * قال ابن سينا له خصوصيات دون مياه سائر الارض *
فمنها انه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه.
ومنها أنه يجري على صخور ورمال (1) ليس فيه خز ولا طحلب ولا أوحال ومنها
أنه لا يخضر فيه حجر ولا حصاة وما ذاك إلا لصحة مزاجه وحلاوته ولطافته.
ومنها إن زيادته في أيام نقصان سائر الانهار.
ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع
النيل من مكان مرتفع أطلع عليه بعض الناس فرأى هناك هولا عظيما وجواري
حسانا وأشياء غريبة وأن الذي أطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد هذا فهو من
خرافات المؤرخين وهذيانات الافاكين * وقد قال عبد الله بن لهيعة عن قيس بن
الحجاج عمن حدثه قال " لما فتح عمرو بن عاص مصر أتى أهلها إليه حين دخل
شهر بؤنة من أشهر العجم (القبطية) فقالوا: (أيها الامير إن لنيلنا هذا سنة
لا يجري إلا بها فقال لهم وما ذاك قالوا إذا كان لثنتي عشرة ليلة خلت من
هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من
الجلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو إن
هذا لا يكون في الاسلام وأن الاسلام يهدم ما قبله فأقاموا بؤنة والنيل لا
يجرى لا قليلا ولا كثيرا * وفي رواية فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى وهو لا
يجري حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي
فعلت وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل فلما قدم
كتابه أخذ عمرو
البطاقة ففتحها فإذا فيها " من عند الله عمر أمير المؤمنين إلى
نيل مصر (أما بعد) فان كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد
القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك فألقى عمرو البطاقة في النيل
فأصبح يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وقطع
الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم * وأما الفرات فأصلها من شمالي أررن
الروم فتمر إلى قرب ملطيه ثم تمر على شميشاط.
ثم على البيرة قبليها ثم تشرق إلى بالس وقلعة جعبر ثم الرقة ثم إلى الرحبة
شماليها ثم إلى عانة، ثم إلى هيت ثم إلى الكوفة ثم تخرج إلى فضاء العراق
ويصب في بطائح كبار أي بحيرات وترد إليها ويخرج منها أنهار كبار معروفة.
وأما سيحان ويقال له سيحون أيضا فأوله من بلاد الروم ويجري من الشمال
والغرب إلى الجنوب والشرق وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر وهو ببلاد
الارض التي تعرف اليوم ببلاد سيس وقد كانت في أول الدولة الاسلامية في
أيدي المسلمين * فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية وملكوا الشام
وأعمالها عجزوا عن صونها عن الاعداء فتغلب تقفور الارمني على هذه البلاد
أعني بلاد سيس في حدود الثلاثمائة وإلى يومنا هذا.
والله المسؤل عودها إلينا بحوله وقوته.
ثم يجتمع سيحان وجيحان عند اذنه فيصيران نهرا واحدا.
ثم يصبان في بحر الروم بين أياس وطرسوس * وأما جيحان ويقال له جيحون أيضا
وتسميه العامة جاهان.
وأصله في بلاد الروم ويسير في بلاد سيس من الشمال إلى الجنوب وهو يقارب
الفرات في القدر * ثم يجتمع هو وسيحان عند اذنة فيصيران نهرا واحدا.
ثم يصبان في البحر عن إياس وطرسوس والله أعلم * فصل قال الله تعالى (الله
الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر
الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم
توقنون * وهو الذي مد الارض فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها
زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * وفي الارض
قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد
ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) وقال تعالى
(أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء ماء فانبتنا به حدائق ذات
بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل
الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا
أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) وقال تعالى (هو الذي أنزل من السماء
ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه
تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل
الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس
والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [ النحل 10 ]
فذكر تعالى ما خلق في الارض من الجبال والاشجار والثمار والسهول والاوعار
وما خلق من صنوف المخلوقات من الجمادات والحيوانات في البراري والقفار
والبر والبحار ما يدل على عظمته وقدرته وحكمته ورحمته بخلقه وما سهل لكل
دابة من الرزق الذي هي محتاجة إليه في ليلها ونهارها وصيفها وشتائها
وصباحها ومائلها كما قال تعالى (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها
ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) [ هود: 6 ] وقد روى الحافظ أبو
يعلى عن محمد بن المثنى عن عبيد بن واقد عن محمد بن عيسى بن كيسان عن محمد
بن المنكدر عن جابر عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول خلق الله ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر.
وأول شئ يهلك من هذه الامم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع
سلكه.
(عبيد بن واقد) أبو عباد البصري ضعفه أبو حاتم وقال بن عدي عامة ما يرويه
لا يتابع
عليه وشيخه أضعف منه.
قال الفلاس والبخاري منكر الحديث، وقال أبو زرعة لا ينبغي أن يحدث عنه.
وضعفه ابن حبان والدارقطني وأنكر عليه ابن عدي هذا الحديث بعينه وغيره
والله أعلم * وقال تعالى (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا
أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) [ الانعام: 38
].
ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات قد قدمنا أن خلق الارض قبل
خلق السماء كما قال تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى
إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم) [ البقرة: 29 ] وقال تعالى
(قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب
العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض
ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى
في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز
العليم) [ فصلت: 9 ] وقال تعالى (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع
سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والارض بعد ذلك دحاها) (1) فان
الدحي غير الخلق، وهو بعد
__________
(1) سورة النازعات الآيات 27 -
خلق السماء وقال تعالى (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ
قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور *
الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل
ترى من فطور.
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير * ولقد زينا السماء
الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير) [
الملك: 5 ] وقال تعالى (وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا) [
النبأ: 12 ] وقال تعالى (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل
القمر فيهن نورا
وجعل الشمس سراجا) [ نوح: 15 ] وقال تعالى (الله الذي خلق سبع سموات
والارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله
قد أحاط بكل شئ علما) [ الطلاق: 12 ] وقال تعالى (تبارك الذي جعل في
السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) [
الفرقان: 61 ] وقال تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من
كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم
عذاب واصب.
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) [ الصافات: 6 ] وقال تعالى (ولقد
جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم.
إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) [ الحجر: 16 ] وقال تعالى (والسماء
بنيناها بايد وإنا لموسعون) [ الانبياء: 32 ] وقال تعالى (وجعلنا السماء
سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس
والقمر كل في فلك يسبحون) [ يس: 37 ] وقال تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ
منه النهار فإذا هم مظلمون.
والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك
القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) [ الانعام: 96 ] وقال
تعالى (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير
العزيز العليم.
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا
الآيات لقوم يعلمون) [ الاعراف: 54 ] وقال تعالى (إن ربكم الله الذي خلق
السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه
حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله
رب العالمين) [ الذاريات: 7 ] والآيات في هذا كثيرة جدا وقد تكلمنا على كل
منها في التفسير * والمقصود أنه تعالى يخبر عن خلق السموات وعظمة إتساعها
وإرتفاعها وأنها في غاية الحسن والبهاء والكمال والسناء كما قال تعالى
(والسماء ذات الحبك) أي الخلق الحسن وقال تعالى
__________
= دحاها أي بسطها، وهذا يشير إلى كون الارض بعد السماء ; والعرب تقول:
دحوت الشئ أدحوه دحوا:
بسطته.
وقيل: دحاها سواها وقيل دحاها: حرثها وشقها ومهدها الاقوات.
(فارجع البصر هلى ترى من فطور.
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) [ الملك: 3 ] (1)
أي خاسئا عن أن يرى فيها نقصا أو خللا وهو حسير أي كليل ضعيف ولو نظر حتى
يعى ويكل ويضعف لما اطلع على نقص فيها ولا عيب لانه تعالى قد أحكم خلقها
وزين بالكواكب أفقها كما قال (والسماء ذات البروج) [ البروج: 1 ] (2) أي
النجوم * وقيل محال الحرس التي يرمي منها بالشهب لمسترق السمع ولا منافاة
بين القولين وقال تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين
وحفظناها من كل شيطان رجيم) [ الحجر: 16 ] فذكر أنه زين منظرها بالكواكب
الثوابت والسيارات (الشمس والقمر والنجوم الزاهرات) وأنه صان حوزتها عن
حلول الشياطين بها وهذا زينة معنى * فقال وحفظناها من كل شيطان رجيم كما
قال (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا
يسمعون إلى الملا الاعلى) [ الصافات: 6 ].
قال البخاري في كتاب بدء الخلق وقال قتادة (ولقد زينا السماء الدنيا
بمصابيح) [ فصلت: 12 ] خلق هذه النجوم الثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما
للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف
ما لا علم له به.
وهذا الذي قاله قتادة مصرح به في قوله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا
بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) وقال تعالى (وهو الذى جعل لكم النجوم
لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) [ الانعام: 97 ] فمن تكلف غير هذه
الثلاث أي من علم أحكام ما تدل عليه حركاتها ومقارناتها في سيرها وأن ذلك
يدل على حوادث أرضية فقد أخطأ.
وذلك أن أكثر كلامهم في هذا الباب ليس فيه إلا حدس وظنون كاذبة ودعاوى
باطلة.
وذكر تعالى أنه خلق سبع سموات طباقا أي واحدة فوق واحدة * واختلف أصحاب
الهيئة هل هن متراكمات أو متفاصلات بينهن خلاء على قولين.
والصحيح الثاني لما قدمنا من حديث عبد الله بن عميرة عن الاحنف عن العباس
في حديث الاوعال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
أتدرون كم بين السماء والارض قلنا الله ورسوله أعلم، قال بينهما مسيرة
خمسمائة عام.
ومن كل سماء إلى سماء خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة * الحديث
بتمامه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه * وفي الصحيحين من
حديث أنس في حديث الاسراء قال فيه (ووجد في السماء الدنيا آدم فقال له
جبرئيل هذا أبوك آدم فسلم عليه فرد عليه السلام.
وقال
__________
(1) سورة الملك الآية 3.
قال القرطبي 17 / 31 في الحبك سبعة أقوال: الخلق الحسن المستوي - ذات
الزينة - ذات النجوم - ذات الطرائق - ذات الشدة - ذات الصفافة - المجرة
التي في السماء.
(2) سورة البروج الآية 1.
قال القرطبي: ج 19 / 283 قسم أقسم به الله وجل وعز وفي البروج أربعة
أقوال: النجوم - القصور - البروج فيها الحرس - البروج هي ذات الخلق الحسن
- المنازل.
مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت - إلى أن قال - ثم عرج إلى
السماء الثانية * وكذا ذكر في الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة
والسابعة) فدل على التفاصل بينها لقوله ثم عرج بنا حتى أتينا السماء
الثانية فاستفتح فقيل من هذا (الحديث) * وهذا يدل على ما قلناه والله أعلم.
وقد حكى ابن حزم وابن المنير وأبو الفرج ابن الجوزى وغير واحد من العلماء
الاجماع على أن السموات كرة مستديرة * واستدل على ذلك بقوله كل في فلك
يسبحون.
قال الحسن يدورون، وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل.
قالوا ويدل على ذلك أن الشمس تغرب كل ليلة من المغرب ثم تطلع في آخرها من
المشرق كما قال أمية ابن أبي الصلت.
والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد * تأبى فلا تبدو لنا في
رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فأما الحديث الذي رواه البخاري حيث قال حدثنا
محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الاعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي ذر حين غربت الشمس تدرى أين
تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها
تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها
وتستأذن فلا يؤذن لها.
يقال لها إرجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: (والشمس تجري
لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) [ يس: 38 ].
هذا لفظه في بدء الخلق ورواه في التفسير * وفي التوحيد من حديث الاعمش
أيضا ورواه مسلم في الايمان من طريق الاعمش ومن طريق يونس بن عبيد وأبو
داود من طريق الحكم بن عتبة كلهم عن إبراهيم بن يزيد بن شريك عن أبيه عن
أبي ذر به نحوه.
وقال الترمذي حسن صحيح * إذا علم هذا فإنه حديث لا يعارض ما ذكرناه من
إستدارة الافلاك التي هي السموات على أشهر القولين ولا يدل على كرية العرش
كما زعمه زاعمون.
قد أبطلنا قولهم فيما سلف ولا يدل على أنها تصعد إلى فوق السموات من جهتنا
حتى تسجد تحت العرش بل هي تغرب عن أعيننا وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه
وهو الرابع فيما قاله غير واحد من علماء التفسير.
وليس في الشرع ما ينفيه بل في الحس وهو الكسوفات ما يدل عليه ويقتضيه فإذا
ذهبت فيه حتى تتوسطه وهو وقت نصف الليل مثلا في إعتدال الزمان بحيث يكون
بين القطبين الجنوبي والشمالي فإنها تكون أبعد ما يكون من العرش لانه مقبب
من جهة وجه العالم وهذا محل سجودها كما يناسبها كما أنها أقرب ما تكون من
العرش وقت الزوال من جهتنا فإذا كانت في محل سجودها استأذنت الرب جل جلاله
في طلوعها من الشرق فيؤذن لها فتبدو من جهة الشرق وهي مع ذلك كارهة لعصاة
بني آدم أن تطلع عليهم ولهذا قال أمية.
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فإذا كان الوقت الذي
يريد الله طلوعها من جهة مغربها تسجد على عادتها وتستأذن في
الطلوع من عادتها فلا يؤذن لها فجاء أنها تسجد أيضا ثم تستأذن
فلا يؤذن لها ثم يسجد فلا يؤذن لها وتطول تلك الليلة كما ذكرنا في
التفسير، فتقول يا رب إن الفجر قد اقترب وأن المدى بعيد فيقال لها إرجعي
من حيث جئت فتطلع من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا جميعا.
وذلك حين لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وفسروا بذلك قوله
تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) قيل لوقتها الذي تؤمر فيه تطلع من مغربها
* وقيل مستقرها موضعها الذي تسجد فيه تحت العرش.
وقيل منتهى سيرها وهو آخر الدنيا.
وعن ابن عباس أنه قرأ والشمس تجري لا مستقر لها أي ليست تستقر فعلى هذا
تسجد وهي سائرة.
ولهذا قال تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار
وكل في فلك يسبحون) أي لا تدرك الشمس القمر فتطلع في سلطانه ودولته ولا هو
أيضا ولا الليل سابق النهار أي ليس سابقه بمسافة يتأخر ذاك عنه فيها بل
إذا ذهب النهار جاء الليل في أثره متعقبا له كما قال في الآية الاخرى
(يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا
له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين) وقال تعالى (وهو الذي جعل الليل
والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) [ الفرقان: 62 ] أي يخلف
هذا لهذا وهذا لهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل
الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم "
فالزمان المحقق ينقسم إلى ليل ونهار وليس بينهما غيرهما * ولهذا قال تعالى
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري
لاجل مسمى) [ لقمان: 29 ] فيولج من هذا في هذا، أي يأخذ من طول هذا في قصر
هذا فيعتدلان كما في أول فصل الربيع يكون الليل قبل ذلك طويلا والنهار
قصيرا فلا يزال الليل ينقص والنهار يتزايد حتى يعتدلا وهو أول الربيع * ثم
يشرع النهار يطول ويتزايد والليل يتناقص حتى يعتدلا أيضا في أول فصل
الخريف * ثم يشرع الليل يطول ويقصر النهار إلى آخر فصل الخريف * ثم يترجح
النهار قليلا قليلا ويتناقص الليل شيئا فشيئا حتى يعتدلا في أول فصل
الربيع كما قدمنا، وهكذا في كل عام.
ولهذا قال تعالى (وله اختلاف الليل والنهار) [ المؤمنون: 80 ] أي هو
المتصرف في ذلك كله الحاكم الذي لا يخالف ولا يمانع ولهذا يقول في ثلاث
آيات (1) عند ذكر السموات والنجوم والليل والنهار (ذلك تقدير العزيز
العليم) أي العزيز الذي قد قهر كل شئ ودان له كل شئ فلا يمانع ولا يغالب
العليم بكل شئ فقدر كل شئ تقديرا
على نظام لا يختلف ولا يضطرب.
وقد ثبت في الصحيحين (2) من حديث سفيان بن عيينة عن
__________
(1) يقول تعالى: (والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم) الانعام
96.
(والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) يس 38.
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فصلت 12.
(2) رواه مسلم في 40 كتاب الالفاظ من الادب - 1 - باب النهي عن سب الدهر ح
2246 / ص 1762 والبخاري ح
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " قال الله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي
الامر أقلب الليل والنهار " وفي رواية فأنا الدهر أقلب ليله ونهاره * قال
العلماء كالشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهما يسب الدهر أي يقول فعل
بنا الدهر كذا يا خيبة الدهر، أيتم الاولاد، أرمل النساء.
قال الله تعالى (وأنا الدهر) أي أنا الدهر الذي يعنيه فإنه فاعل ذلك الذي
أسنده إلى الدهر والدهر مخلوق، وإنما فعل هذا هو الله فهو يسب فاعل ذلك
ويعتقده الدهر.
والله هو الفاعل لذلك الخالق لكل شئ المتصرف في كل شئ كما قال وأنا الدهر
بيدي الامر أقلب ليله ونهاره وكما قال تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي
الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير
إنك على كل شئ قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج
الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) [ آل عمران:
27 ] وقال تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا
عدد السنين والحساب.
ما خلق الله ذلك إلا بالحق.
يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في إختلاف الليل والنهار وما خلق الله في
السموات والارض لآيات لقوم يتقون) [ يونس: 5.
6 ] أي فاوت بين الشمس والقمر في نورهما وفي شكلهما وفي وقتهما وفي سيرهما
فجعل هذا ضياء وهو شعاع الشمس برهان ساطع وضوء باهر والقمر نورا أي أضعف
من برهان الشمس وجعله مستفادا من ضوئها وقدره منازل أي يطلع أول ليلة من
الشهر صغيرا ضئيلا قليل النور لقربه من الشمس وقلة مقابلته لها فبقدر
مقابلته لها يكون نوره ولهذا في الليلة الثانية يكون
أبعد منها بضعف ما كان في الليلة الاولى فيكون نوره بضعف النور أول ليلة *
ثم كلما بعد إزداد نوره حتى يتكامل إبداره ليلة مقابلته إياها من المشرق
وذلك ليلة أربع عشرة من الشهر * ثم يشرع في النقص لاقترابه إليها من الجهة
الاخرى إلى آخر الشهر فيستتر حتى يعود كما بدأ في أول الشهر الثاني.
فبه تعرف الشهور وبالشمس تعرف الليالي والايام وبذلك تعرف السنين والاعوام
ولهذا قال تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا
عدد السنين والحساب) وقال تعالى (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية
الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين
والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا) [ الاسراء: 12 ] وقال تعالى (يسألونك عن
الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج) [ البقرة: 189 ].
وقد بسطنا القول على هذا كله في التفسير.
فالكواكب التي في السماء منها سيارات وهي المتخيرة في إصطلاح علماء
التفسير وهو علم غالبه صحيح بخلاف علم الاحكام فإن غالبه باطل
__________
= رقم 2042.
وعند مسلم بيدي الليل والنهار بدل بيدي الامر.
أنا الدهر: قال العلماء هو مجاز وسببه أن العرب كان من شأنها أن تسب الدهر
عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها.
وأما الدهر بمعنى الزمان فلا فعل له بل مخلوق من جملة خلق الله.
ودعوى ما لا دليل عليه وهي سبعة.
القمر في سماء الدنيا وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في
الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة.
وبقية الكواكب يسمونها الثوابت وهي عندهم في الفلك الثامن وهو الكرسي في
إصطلاح كثير من المتأخرين.
وقال آخرون بل الكواكب كلها في السماء الدنيا ولا مانع من كون بعضها فوق
بعض * وقد يستدل على هذا بقوله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح
وجعلناها رجوما للشياطين) (1) وبقوله [ تعالى ]: (فقضاهن سبع سموات في
يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك
تقدير العزيز العليم) [ فصلت: 12 ] فخص سماء الدنيا من بينهن بزينة
الكواكب فإن دل هذا على كونها مرصعة فيها فذاك وإلا فلا مانع مما قاله
الآخرون والله أعلم.
وعندهم أن الافلاك السبعة بل الثمانية تدور بما فيها من الكواكب الثوابت
والسيارات تدور على خلاف فلكه من المغرب إلى المشرق.
فالقمر يقطع فلكه في شهر والشمس تقطع فلكها وهو الرابع في سنة.
فإذا كان السيران ليس بينهما تفاوت وحركاتهما متقاربة كان قدر السماء
الرابعة بقدر السماء الدنيا ثنتي عشرة مرة وزحل يقطع فلكه وهو السابع في
ثلاثين سنة فعلى هذا يكون بقدر السماء الدنيا ثلثمائة وستين مرة * وقد
تكلموا على مقادير أجرام هذه الكواكب وسيرها وحركاتها وتوسعوا في هذه
الاشياء حتى تعدوا إلى علم الاحكام وما يترتب على ذلك من الحوادث الارضية
ومما لا علم لكثير منهم به.
وقد كان اليونانيون الذين كانوا يسكنون الشام قبل زمن المسيح عليه السلام
بدهور لهم في هذا كلام كثير يطول بسطه، وهم الذين بنوا مدينة دمشق وجعلوا
لها أبوابا سبعة وجعلوا على رأس كل باب هيكلا على صفة الكواكب السبعة،
يعبدون كل واحد في هيكله، ويدعونه بدعاء يأثره عنهم غير واحد من أهل
التواريخ وغيرهم.
وذكره صاحب السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم وغيره من علماء
الحرنانيين (2) (فلاسفة حران في قديم الزمان).
وقد كانوا مشركين يعبدون الكواكب السبعة وهم طائفة من الصابئين * ولهذا
قال الله تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس
ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [ فصلت: 37 ] وقال
تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان عليه السلام مخبرا عن بلقيس
وجنودها ملكة سبأ في اليمن وما والاها (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من
كل شئ ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم
الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
أن لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والارض ويعلم ما يخفون وما
يعلنون.
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [ النمل: 23 ] وقال تعالى
__________
(1) سورة الملك الآية 5.
(2) الحرنانيين: علماء حران، حران بتشديد الراء وآخره نون اسم بلد وهو
فعال، ويجوز أن يكون فعلان والنسبة إليه حرناني، وحراني على ما عليه
العامة وهو القياس (معجم البلدان - لسان العرب مادة حرن).
(ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس
والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه
العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [ الحج: 18 ]
وقال تعالى (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين
والشمائل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من
دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)
[ النحل: 48 ] وقال تعالى (والله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها
وظلالهم بالغدو والآصال) [ الرعد: 15 ] وقال تعالى (تسبح له السموات السبع
والارض ومن فيهن وإن من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان
حليما غفورا) [ الاسراء: 44 ] والآيات في هذا كثيرة جدا.
ولما كان أشرف الاجرام المشاهدة في السموات والارض هي الكواكب وأشرفهن
منظرا وأشرفهن معتبرا الشمس والقمر استدل الخليل على بطلان آلهية شئ منهن.
وذلك في قوله تعالى (فلما جن الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا
أحب الآفلين) [ الانعام: 76 ] أي الغائببين (فلما رأى القمر بازغا قال هذا
ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين.
فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ
مما تشركون.
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) [
الانعام: 77 ] فبين بطريق البرهان القطعي أن هذه الاجرام المشاهدات من
الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شئ منها للالهية لانها كلها مخلوقة مربوبة
مدبرة مسخرة في سيرها لا تحيد عما خلقت له ولا تزيغ عنه إلا بتقدير متقن
محرر لا تضطرب ولا تختلف * وذلك دليل على كونها مربوبة مصنوعة مسخرة
مقهورة ولهذا قال تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا
للشمس ولا للقمر واسحدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) (1) وثبت في
الصحيحين في صلاة الكسوف من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من
الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في خطبته يومئذ: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزوجل وإنهما
لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " (2).
وقال البخاري في بدء الخلق حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا
عبد الله الداناج
__________
(1) سورة فصلت الآية 37.
(2) صحيح مسلم 10 كتاب الكسوف - 1 - باب صلاة الكسوف ح 901 ص 618 وما
بعدها وصحيح البخاري ح رقم: 584.
يقال كسفت الشمس والقمر، وكسفا، وانكسفا وخسفا وخسفا وانخسفا بمعنى وجمهور
أهل اللغة وغيرهم على أن الخسوف والكسوف يكون لذهاب ضوئهما كله أو بعضه.
حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
الشمس والقمر مكوران يوم القيامة " انفرد به البخاري * وقد رواه الحافظ
أبو بكر البزار بأبسط من هذا السياق.
فقال: حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد
العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن
خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة وجاء الحسن فجلس إليه
فحدث قال حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الشمس
والقمر ثوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما دينهما فقال أحدثك عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما دينهما ثم قال البزار لا يروى عن
أبي هريرة إلا من هذا الوجه ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا
الحديث * وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق يزيد الرقاشي وهو ضعيف عن
أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشمس والقمر ثوران عقيران
في النار ".
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج وعمر بن عبد الله الازدي حدثنا
أبو أسامة عن مجالد عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس (إذا الشمس كورت).
قال يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله ريحا
دبورا فتضرمها نارا.
فدلت هذه الآثار على أن الشمس والقمر من مخلوقات الله خلقها الله لما أراد
* ثم يفعل فيها ما يشاء، وله الحجة الدافعة والحكمة البالغة فلا يسأل عما
يفعل لعلمه
وحكمته وقدرته ومشيئته النافذة وحكمه الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب *
وما أحسن ما أورده الامام محمد بن إسحاق بن يسار في أول كتاب السيرة من
الشعر لزيد بن عمرو بن نفيل في خلق السماء والارض والشمس والقمر وغير ذلك
* قال ابن هشام هي لامية ابن أبي الصلت.
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا (1) إلى
الملك الاعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا ألا أيها الانسان
إياك والردى * فإنك لا تخفي من الله خافيا (2) وإياك لا تجعل مع الله غيره
* فإن سبيل الرشد أصبح باديا حنانيك إن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا
ورجائيا (3) رضيت بك اللهم ربا فلن أرى * أدين إلها غيرك الله ثانيا (4)
وأنت الذي من فضل من ورحمة * بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له إذهب
وهرون فادعوا * إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
__________
(1) في ابن هشام: رصينا بدل رضيا، والرصين: الثابت.
(2) الردى: الهلاك والموت، والمراد هنا تحذير الانسان مما يأتي به الموت
وما يكشفه من جزاء الاعمال.
(3) حنانيك: أي حنانا بعد حنان، يريد التكرار وليس الاقتصار على اثنين فقط
; ويقال: حنانا في الدنيا وآخر في الآخرة.
(4) بعده في الاغاني: أدين لرب يستجاب ولا أرى * أدين لمن لم يسمع الدهر
داعيا
وقولا له آأنت سويت هذه * بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا (1) وقولا
له آأنت رفعت هذه * بلا عمد ارفق إذا بك بانيا (2) وقولا له آأنت سويت
وسطها * منيرا إذا ماجنه الليل هاديا وقولا له من يرسل الشمس غدوة * فيصبح
ما مست من الارض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه
حبه في رؤسه * وفي ذاك آيات لمن كان واعيا وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد
بات في أضعاف حوت لياليا وإني [ و ] لو سبحت باسمك ربنا * لاكثر إلا ما
غفرت خطائيا (3) فرب العباد ألق سيبا ورحمة * علي وبارك في بني وماليا
فإذا علم هذا فالكواكب التي في السماء من الثوابت والسيارات الجميع مخلوقة
خلقها الله تعالى كما قال [ تعالى ]: (وأوحى في كل سماء أمرها وزينا
السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) (4) وأما ما يذكره
كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت من أن الزهرة كانت امرأة فراوداها
على نفسها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الاعظم فعلماها فقالته فرفعت كوكبا
إلى السماء فهذا أظنه من وضع الاسرائيليين وإن كان قد أخرجه كعب الاحبار
وتلقاه عنه طائفة من السلف فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني
إسرائيل.
وقد روى الامام أحمد وابن حبان في صحيحه في ذلك حديثا رواه أحمد عن يحيى
بن بكير عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم وذكر القصة بطولها * وفيه: " فمثلت لهما الزهرة امرأة من
أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها " وذكر القصة.
وقد رواه عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن كعب
الاحبار به.
وهذا أصح وأثبت.
وقد روى الحاكم في مستدركه وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس فذكره
وقال فيه وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر
الكواكب وذكر تمامه * وهذا أحسن لفظ روي في هذه القصة والله أعلم.
وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الملك
الواسطي حدثنا يزيد بن هرون حدثنا مبشر بن عبيد عن يزيد بن أسلم عن ابن
عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا عمرو بن عيسى حدثنا عبد الاعلى حدثنا إبرهيم بن يزيد عن عمرو بن
دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سهيلا فقال: " كان
عشارا ظلوما فمسخه الله شهابا " ثم قال لم يروه عن
__________
(1) هذه: يريد الارض.
(2) هذه: المراد السماء.
(3) المراد: إني لاكثر من الدعاء: باسمك ربنا إلا ما غفرت..وما " زائدة.
والتسبيح هنا: الصلاة أي: أنا لا اعتمد في صلاتي إلا على دعائك واستغفارك.
(4) سورة فصلت الاية 12.
زيد بن أسلم إلا مبشر بن عبيد وهو ضعيف الحديث ولا عن عمرو بن
دينار إلا إبراهيم بن يزيد وهو لين الحديث * وإنما ذكرناه على ما فيه من
علة لانا لم نحفظه إلا من هذين الوجهين (قلت) أما مبشر بن عبيد القرشي فهو
أبو حفص الحمصي وأصله من الكوفة.
فقد ضعفه الجميع وقال فيه الامام أحمد والدارقطني كان يضع الحديث ويكذب
وأما إبراهيم بن يزيد فهو الخوزي (1) وهو ضعيف باتفاقهم * قال فيه أحمد
والنسائي متروك.
وقال ابن معين ليس بثقة وليس بشئ * وقال البخاري سكتوا عنه.
وقال أبو حاتم وأبو زرعة منكر الحديث ضعيف الحديث.
ومثل هذا الاسناد لا يثبت به شئ بالكلية.
وإذا أحسنا الظن قلنا هذا من أخبار بني إسرائيل كما تقدم من رواية ابن عمر
عن كعب الاحبار.
ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها والله أعلم.
المجرة وقوس قزح قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا
عارم أبو النعمان (2) حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس أن هرقل كتب إلى معاوية وقال إن كان بقي فيهم شئ من النبوة فسيخبرني
عما أسألهم عنه.
قال فكتب إليه يسأله عن المجرة وعن القوس وعن بقعة لم تصبها الشمس إلا
ساعة واحدة.
قال فلما أتى معاوية الكتاب والرسول قال إن هذا الشئ ما كنت آبه له أن
أسأل عنه إلى يومي هذا من لهذا ؟ قيل: ابن عباس فطوى معاوية كتاب هرقل
فبعث به إلى ابن عباس فكتب إليه " أن القوس أمان لاهل الارض من الغرق.
والمجرة باب السماء الذي تنشق منه الارض.
وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من النهار فالبحر الذي أفرج عن
بني إسرائيل وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه * فأما الحديث
الذي رواه الطبراني
حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج حدثنا إبراهيم بن مخلد حدثنا الفضل بن
المختار عن محمد بن مسلم الطائفي عن ابن أبي يحيى عن مجاهد عن جابر بن عبد
الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ إني مرسلك إلى قوم
أهل كتاب فإذا سئلت عن المجرة التي في السماء فقل هي لعاب حية تحت العرش "
فإنه حديث منكر جدا بل الاشبه أنه موضوع وراويه الفضل بن المختار هذا أبو
سهل البصري * ثم انتقل إلى مصر قال فيه أبو حاتم الرازي هو مجهول حدث
بالاباطيل.
وقال الحافظ أبو الفتح الازدي منكر الحديث جدا.
وقال ابن عدي لا يتابع على أحاديثه لا متنا ولا إسنادا
__________
(1) الخوزي بضم الخاء، أبو اسماعيل المكي مولى بني أمية متروك الحديث مات
سنة 151 ه.
والخوزي ينسب إلى الخوز: شعب بمكة يسمى شعب الخوز - وليس منسوبا إلى
خوزستان قال البخاري: سكتوا عنه وقال أحمد: متروك، تقريب التهذيب ج 1 / 46.
وقال الذهبي: مكى واه الكاشف ج 1 / 51.
(2) هو محمد بن الفضل السدوسي لقبه عارم، أبو الفضل البصري ثقة ثبت تغير
في آخر عمره (تقريب التهذيب 2 / 200) وفي الصحيحين: أبو النعمان.
(والعجلي) في ثقات العجلي: ليس يعرف إلا بعارم متفق على توثيقه (2 ص 411).
وقال الله تعالى (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب
الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من
يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) [ الرعد: 12 ] وقال تعالى (إن
في خلق السموات والارض وإختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر
بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها
وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض
لآيات لقوم يعقلون) [ البقرة: 164 ] وروى الامام أحمد عن يزيد بن هرون عن
إبراهيم بن سعد عن أبيه عن شيخ من بني غفار قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " إن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك
" وروى موسى بن عبيدة بن سعد بن إبرهيم أنه قال إن نطقه الرعد وضحكه البرق.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام عن عبيدالله الرازي عن
محمد بن مسلم قال بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه وجه إنسان ووجه ثور
ووجه نسر ووجه أسد فإذا مصع بذنبه فذاك البرق * وقد روى الامام أحمد
والترمذي والنسائي والبخاري في كتاب الادب والحاكم في مستدركه من حديث
الحجاج بن أرطأة حدثني ابن مطر عن سالم عن أبيه قال كان رسول الله إذا سمع
الرعد والصواعق قال (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل
ذلك * وروى ابن جرير من حديث ليث عن رجل عن أبي هريرة رفعه كان إذا سمع
الرعد قال: " سبحان من يسبح الرعد بحمده " وعن علي أنه كان يقول (سبحان من
سبحت له) وكذا عن ابن عباس والاسود بن يزيد وطاوس وغيرهم * وروى مالك عن
عبد الله بن عمر أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال سبحان ممن يسبح
الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول (إن هذا وعيد شديد لاهل الارض *
وروى الامام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
قال ربكم لو أن عبيدي أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس
بالنهار ولما أسمعتهم صوت الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرا " * وكل
هذا مبسوط في التفسير ولله الحمد والمنة * باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم
قال الله تعالى (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا
يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته
مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي
الظالمين) [ الانبياء: 26 ] وقال تعالى (تكاد السموات يتفطرن من فوقهن
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور
الرحيم) [ الشورى: 5 ] وقال تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون
بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات
عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز
الحكيم) وقال تعالى (فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل
والنهار وهم لا يسئمون)
[ غافر: 7 ] وقال (ومن عنده لا يستكبرون.
عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [ الانبياء: 19 ]
وقال تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم.
وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) [ الصافات: 165 ] وقال تعالى: (وما
نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك
نسيا) [ مريم: 64 ] وقال تعالى (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما
تفعلون) [ الانفطار: 12 ] وقال تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو) [
المدثر: 31 ] وقال تعالى (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم
بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [ الرعد: 23 ] وقال تعالى (الحمد لله فاطر
السموات والارض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في
الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير) [ فاطر: 1 ] وقال تعالى (يوم تشقق
السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما
على الكافرين عسيرا) [ الفرقان: 25 ] وقال تعالى (وقال الذين لا يرجون
لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم
وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا
محجورا) [ الفرقان: 21 ] وقال تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله
وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين) [ البقرة: 98 ] وقال تعالى (يا أيها
الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة
غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [ التحريم: 6 ]
والآيات في ذكر الملائكة كثيرة جدا يصفهم تعالى بالقوة في العبادة وفي
الخلق وحسن المنظر وعظمة الاشكال وقوة الشكل في الصور المتعددة كما قال
تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب *
وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات) [ هود: 76 ] الآيات
فذكرنا في التفسير ما ذكره غير واحد من العلماء من أن الملائكة تبدوا لهم
في صورة شباب حسان إمتحانا واختبارا حتى قامت على قوم لوط الحجة وأخذهم
الله أخذ عزيز مقتدر * وكذلك كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في صفات متعددة فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي (1) وتارة في
صورة أعرابي وتارة في صورته التي خلق عليها.
له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين
المشرق والمغرب كما رآه على هذه الصفة مرتين.
مرة منهبطا من السماء إلى الارض.
وتارة عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.
وهو قوله تعالى (علمه شديد القوى.
ذو مرة فاستوى.
وهو بالافق الاعلى.
ثم دنا فتدلى) (2) أي جبريل (3) كما ذكرناه عن غير واحد من الصحابة * منهم
ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة (فكان قاب قوسين أو أدنى.
فأوحى إلى عبده ما
__________
(1) دحية بن خليفة الكلبي: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحدا
وما بعدها وكان جبريل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته أحيانا
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر رسولا سنة ست في الهدنة.
(3) سورة النجم الآيات 5 - 8.
(3) أما الحسن فيقول هو الله عزوجل.
القرطبي 17 / 85 قال: هو جبريل في قول سائر المفسرين.
أوحى) (1) أي إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال [
تعالى ]: (ولقد رآه نزلة أخرى.
عند سدرة المنتهى.
عندها جنة المأوى.
إذ يغشى السدرة ما يغشى.
ما زاغ البصر وما طغى) (2) وقد ذكرنا في أحاديث الاسراء في سورة سبحان أن
سدرة المنتهى في السماء السابعة * وفي رواية في السادسة أي أصلها وفروعها
في السابعة فلما غشيها من أمر الله ما غشيها * قيل غشيها نور الرب جل
جلاله * وقيل غشيها فراش (3) من ذهب * وقيل غشيها ألوان متعددة كثيرة غير
منحصرة * وقيل غشيها الملائكة مثل الغربان * وقيل غشيها من نور الله تعالى
فلا يستطيع أحد أن ينعتها * أي من حسنها وبهائها.
ولا منافاة بين هذه الاقوال إذ الجميع ممكن حصوله في حال واحدة * وذكرنا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا
نبقها كالقلال * " وفي رواية " كقلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة " وإذا
يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران.
فأما الباطنان ففي الجنة.
وأما الظاهران فالنيل والفرات * وتقدم الكلام على هذا في ذكر خلق الارض
وما فيها من البحار والانهار * وفيه " ثم رفع لي البيت المعمور وإذا هو
يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم " * وذكر
أنه وجد إبراهيم الخليل عليه السلام مستندا ظهره إلى البيت المعمور.
وذكرنا وجه المناسبة في هذا أن البيت المعمور هو في السماء السابعة بمنزلة
الكعبة في
الارض * وقد روى سفيان الثوري وشعبة وأبو الاحوص عن سماك بن حرب عن خالد
بن عرعرة أن ابن الكوا سأل علي بن أبي طالب عن البيت المعمور فقال هو مسجد
في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها.
حرمته في السماء كحرمة البيت في الارض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من
الملائكة لا يعودون إليه أبدا * وهكذا روى علي بن ربيعة وأبو الطفيل عن
علي مثله * وقال الطبراني أنبأنا الحسن بن علوية القطان حدثنا إسماعيل بن
عيسى العطار حدثنا إسحاق بن بشر أبو حذيفة حدثنا ابن جريج عن صفوان بن
سليم عن كريب عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيت
المعمور في السماء يقال له الضراح وهو على مثل البيت الحرام بحياله لو سقط
لسقط عليه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يرونه قط فإن له في السماء
حرمة على قدر حرمة مكة ".
يعنى في الارض وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع بن أنس
والسدي وغير واحد * وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال يوما لاصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور قالوا الله ورسوله أعلم *
قال قال مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلي فيه كل يوم
سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم * وزعم الضحاك أنه
تعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس لعنه الله كان يقول
سدنته وخدامه منهم والله أعلم * وقال آخرون: في كل سماء بيت يعمره ملائكته
بالعبادة فيه ويفدون إليه بالنوبة والبدل كما
__________
(1) سورة النجم الايتان 9 - 10.
(2) سورة النجم الآيات 13 - 17.
(3) وقيل جراد عن أنس بن مالك، القرطبي / - الفخر الرازي.
يعمر أهل الارض البيت العتيق بالحج في كل عام والاعتمار في كل
وقت والطواف والصلاة في كل آن * قال سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي في أوائل
كتابه المغازي * حدثنا أبو عبيد في حديث مجاهد " أن الحرم حرم مناه (يعني
قدره) من السموات السبع والارضين السبع وأنه رابع أربعة عشر بيتا في كل
سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت سقط بعضها على بعض " ثم روى مجاهد
قال مناه أي مقابله وهو حرف مقصور.
ثم قال حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن أبي سليمان مؤذن الحجاج سمعت عبد
الله بن عمرو يقول " إن الحرم محرم في السموات السبع مقداره من الارض -
وإن بيت المقدس مقدس في السموات السبع مقداره من الارض كما قال بعض
الشعراء.
إن الذي سمك السماء بنى لها * بيتا دعائمه أشد وأطول واسم البيت الذي في
السماء بيت العزة * واسم الملك الذي هو مقدم الملائكة فيها إسماعيل * فعلى
هذا يكون السبعون ألفا من الملائكة الذين يدخلون في كل يوم إلى البيت
المعمور ثم لا يعودون إليه.
آخر ما عليهم (أي لا يحصل لهم نوبة فيه إلى آخر الدهر) يكونون من سكان
السماء السابعة وحدها.
ولهذا قال تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1) وقال الامام أحمد حدثنا
أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورق (2) عن
أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أرى ما لا ترون وأسمع
ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه
ملك ساجد لو علمتم ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم
بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزوجل " (3)
فقال أبو ذر (والله لوددت أني شجرة تعضد) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث
إسرائيل فقال الترمذي حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا * وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني حدثنا حسين بن عرفة المصري حدثنا عروة بن عمران الرقي
حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم بن مالك عن عطاء بن أبي رباح عن
جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السموات
السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع
فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لا نشرك بك
شيئا ".
فدل هذان الحديثان على أنه ما من موضع في السموات السبع إلا وهو مشغول
بالملائكة وهم في صنوف من العبادة.
منهم من هو قائم أبدا.
ومنهم من هو راكع أبدا ومنهم من هو ساجد أبدا ومنهم من هو في صنوف أخر
والله أعلم بها.
وهم دائمون في عبادتهم وتسبيحهم وأذكارهم وأعمالهم التي أمرهم الله بها،
ولهم منازل عند ربهم كما قال تعالى (وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا
لنحن الصافون * وإنا لنحن
__________
(1) سورة المدثر الآية 31.
(2) مورق بتشديد الراء، بن مشمدخ بن عبد الله العجلي، أبو المعتمر البصري
ثقة عابد مات بعد المائة / تقريب التهذيب 2 / 280.
(3) مسند أحمد ج 5 / 173.
المسبحون) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا تصفون كما تصف
الملائكة عند ربها * قالوا وكيف يصفون عند ربهم قال يكملون الصف الاول
ويتراصون في الصف " (2) * وقال صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس
بثلاث * جعلت لنا الارض مسجدا وتربتها لنا طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف
الملائكة) (3).
وكذلك يأتون يوم القيامة بين يدي الرب جل جلاله صفوفا كما قال تعالى (وجاء
ربك والملك صفا صفا) (4) ويقفون صفوفا بين يدي ربهم عز وجل يوم القيامة
كما قال تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له
الرحمن وقال صوابا) (5) * والمراد بالروح ههنا بنو آدم قاله ابن عباس
والحسن وقتادة * وقيل ضرب من الملائكة يشبهون بني آدم في الشكل * قاله ابن
عباس ومجاهد وأبو صالح والاعمش * وقيل جبرئيل * قاله الشعبي وسعيد بن جبير
والضحاك * وقيل ملك يقال له الروح بقدر جميع المخلوقات * قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس قوله: (يوم يقوم الروح) قال هو ملك من أعظم الملائكة
خلقا (6) * وقال ابن جرير حدثني محمد بن خلف العسقلاني حدثنا داود ابن
الجراح عن أبي حمزة عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال الروح في السماء
الرابعة هو أعظم السموات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف
تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يحيي يوم القيامة صفا
وحده * وهذا غريب جدا * وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد
الحكيم المصري حدثنا ابن وهب بن رزق أبو هبيرة حدثنا بشر بن بكر حدثنا
الاوزاعي حدثني عطاء عن عبد الله بن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول " إن لله ملكا لو قيل له التقم السموات والارضين بلقمة
واحدة لفعل.
تسبيحه سبحانك حيث كنت " وهذا أيضا حديث غريب جدا * وقد يكون موقوفا *
وذكرنا في
صفة حملة العرش عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه
إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " رواه أبو داود
__________
(1) سورة الصافات الآيات 165.
(2) أخرجه مسلم في الصلاة ح 119 - وأبو داود في الصلاة 93 - 96 - 65،
والنسائي في الامامة 28 - وابن ماجة في الاقامة ح 50 والامام أحمد في
مسنده 2 / 98 و 5 / 101.
(3) أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان - 5 - كتاب المساجد ح 4 / ص (1 / 371)
والبيهقي في الدلائل ج 5 / 475 عن حذيفة.
وفيه: فضلت على الناس.
(4) سورة الفجر الآية 22.
(5) سورة النبأ الآية 38.
(6) قال القرطبي ج 19 / 187: اختلف في الروح على أقوال ثمانية:..وذكر
منها: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الروح جند من جنود
الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ".
فهم خلق على صورة بني آدم كالناس وليسوا بناس.
وقيل الروح: أرواح بني آدم.
قاله عطبة.
وقيل القرآن عن زيد بن أسلم.
وابن أبي حاتم ولفظه مخفق الطير سبعمائة عام.
وقد ورد في صفة جبريل عليه السلام أمر عظيم قال الله تعالى (علمه شديد
القوى) قالوا كان من شدة قوته أنه رفع مدائن قوم لوط وكن سبعا بمن فيها من
الامم وكانوا قريبا من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات وما
لتلك المدن من الاراضي والمعتملات والعمارات وغير ذلك * رفع ذلك كله على
طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب وصياح
ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى.
وقوله (ذو مرة) أي خلق حسن وبهاء وسناء كما قال في الآية الاخرى (إنه لقول
رسول كريم) [ الحاقة: 40 ]
أي جبريل رسول من الله كريم أي حسن المنظر (ذي قوة) أي له قوة وبأس شديد
(عند ذي العرش مكين) أي له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله (ذي العرش
المجيد) مطاع ثم أي مطاع في الملا الاعلى أمين أي ذي أمانة عظيمة ولهذا
كان هو السفير بين الله وبين أنبيائه عليهم السلام الذي ينزل عليهم بالوحي.
فيه الاخبار الصادقة والشرائع العادلة * وقد كان يأتي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وينزل عليه في صفات متعددة كما قدمنا.
وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين * له ستمائة جناح كما روى
البخاري عن طلق بن غنام عن زائدة الشيباني قال سألت زرا عن قوله (فكان قاب
قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) قال حدثنا عبد الله يعني ابن مسعود
أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.
وقال الامام أحمد (1) حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن جامع بن راشد عن
أبي وائل عن عبد الله قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل في
صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الافق يسقط من جناحه التهاويل
من الدر والياقوت ما الله به عليم.
وقال أحمد أيضا حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن
زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية (ولقد راه نزلة أخرى عند سدرة
المنتهى) (2) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت جبريل وله
ستمائة جناح ينتشر من ريشه التهاويل الدر والياقوت ".
وقال أحمد (3) حدثنا زيد بن الحباب حدثنا الحسين حدثني عاصم بن بهدلة سمعت
شقيق بن سلمة يقول سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأيت جبريل على السدرة المنتهى وله ستمائة جناح فسألت عاصما عن الاجنحة
فأبى أن يخبرني قال فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب *
وهذه أسانيد جيدة قوية انفرد بها أحمد *
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 460.
(2) سورة النجم الآية 13.
(3) مسند أحمد ج 1 / 407، والحسين هو بن واقد المروزي أبو عبد الله القاضي
ثقة له أوهام.
قاضى مرو، قال ابن المبارك من مثله ؟ وثقه ابن معين وغيره مات سنة 159 ه
وقيل سنة سبع وخمسين / تقريب التهذيب 1 / 180
الكاشف 1 / 173.
وقال أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين حدثني حصين حدثني شقيق
سمعت ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبريل في
خضر (1) تعلق به الدر " * إسناده صحيح * وقال ابن جرير حدثنا ابن بزيغ
البغدادي قال حدثنا اسحاق بن منصور قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد
الرحمن بن يزيد عن عبد الله (ما كذب الفؤاد ما رأى) قال رأى رسول الله صلى
الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملا ما بين السماء والارض * إسناد
جيد قوي * وفي الصحيحين من حديث عامر الشعبي عن مسروق قال كنت عند عائشة
فقلت أليس الله يقول (ولقد رآه بالافق المبين ولقد رآه نزلة أخرى) فقالت:
أنا أول هذه الامة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: إنما ذاك
جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين رآه منهبطا من السماء إلى
الارض ساد أعظم خلقه ما بين السماء والارض.
وقال البخاري (2) حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن ذر وحدثني يحيى بن جعفر
حدثنا وكيع عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: " ألا تزورنا أكثر مما تزورنا قال
فنزلت (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا) (1) الآية *
وروى البخاري (3) من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن
فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة * وقال
البخاري (4) حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز
أخر العصر شيئا فقال له عروة أما إن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال عمر أعلم ما تقول يا عروة قال سمعت بشير بن أبي مسعود
يقول سمعت أبا مسعود يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نزل
جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معهن ثم صليت معه
" يحسب بأصابعه خمس صلوات.
ومن صفة إسرافيل عليه السلام وهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور
بأمر ربه نفخات ثلاثة * أولا هن نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة
نفخة البعث كما سيأتي بيانه في موضعه من كتابنا هذا بحول الله وقوته وحسن
توفيقه * والصور قرن ينفخ فيه.
كل دارة منه كما بين السماء والارض.
وفيه موضع أرواح العباد حين يأمره الله بالنفخ للبعث فإذا نفخ تخرج الارواح
__________
(1) مسند أحمد 1 / 407 وفيه: خضر حصين.
قال في التاج: الخصر اسم للرخص من الشجر إذا قطع وخضر.
(2) في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة 4 / 80.
(3) نفس المصدر والباب ص 4 / 81.
(4) نفس المصدر والصفحة.
تتوهج فيقول الرب جل جلاله: " وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى
البدن الذي كانت تعمره في الدنيا فتدخل على الاجساد في قبورها فتدب فيها
كما يدب السم في اللديغ فتحيى الاجساد وتنشق عنهم الاجداث فيخرجون منها
سراعا إلى مقام المحشر " كما سيأتي تفصيله في موضعه.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم
القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له " * قالوا كيف نقول يارسول الله قال:
" قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
على الله توكلنا " * رواه أحمد والترمذي من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد
الخدري * وقال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن سعد الطائي
عن عطية العوفي عن أبي سعيد قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب
الصور فقال: " عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل " عليهم السلام.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا
محمد بن عمر أن ابن أبي ليلى (1) حدثني عن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن
ابن عباس * قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل بناحية إذ
انشق أفق السماء فأقبل إسرافيل يدنو من الارض ويتمايل فإذا ملك قد مثل بين
يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد إن الله يأمرك أن تختار بين
نبي عبد أو ملك نبي قال: " فأشار
جبريل إلي بيده (أن تواضع) فعرفت أنه لي ناصح فقلت: " عبد نبي " (2) فعرج
ذلك الملك إلى السماء فقلت: يا جبريل قد كنت اردت أن أسألك عن هذا فرأيت
من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل ؟ فقال هذا إسرافيل عليه
السلام خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه بينه وبين
الرب سبعون نورا ما منها من نور يكاد يدنو منه إلا احترق بين يديه لوح
فإذا أذن الله في شئ من السماء أو في الارض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته
فينظر فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان
من عمل ملك الموت أمره به * قلت " يا جبريل وعلى أي شئ أنت " قال: على
الريح والجنود * قلت: " وعلى أي شئ ميكائيل " قال: على النبات والقطر قلت:
" وعلى أي شي ملك الموت " قال: على قبض الانفس وما ظننت أنه نزل إلا لقيام
الساعة وما الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة * هذا حديث غريب من هذا
الوجه * وفي صحيح مسلم (3) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا قام من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر
السموات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك (4) إنك تهدي من تشاء إلى صراط
__________
(1) في تقريب التهذيب: محمد بن عمران بن محمد بن أبي ليلى، أبو عبد الرحمن
الكوفي صدوق.
قال أبو حاتم صدوق أملى علينا من كتاب الفرائض من حفظه عن أبيه عن جده - ج
2 / 196 والكاشف ج 3 / 76.
(2) أخرجه البيهقي بنحوه عن ابن عباس ولم يسم الملك.
دلائل ج 1 / 334، وأخرجه أيضا أحمد في مسنده 2 / 231 عن أبي هريرة.
ولم يسم الملك أيضا وآخره قال: بل عبدا رسولا.
(3) في 6 كتاب صلاة المسافرين وقصرها 26 باب الدعاء في صلاة الليل وقيامها
ح 200 (770) ص 1 / 534.
(4) قوله: اهدني.
باذنك: معناه ثبتني عليه.
مستقيم * وفي حديث الصور أن إسرافيل أول من يبعثه الله بعد الصعق
لينفخ في الصور * وذكر محمد بن الحسن النقاش أن إسرافيل أول من سجد من
الملائكة فجوزي بولاية اللوح المحفوظ * حكاه أبو القاسم السهيلي في كتابه
(التعريف والاعلام.
بما أبهم في القرآن من الاعلام) * وقال
تعالى * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (1) عطفهما على
الملائكة لشرفهما فجبريل ملك عظيم قد تقدم ذكره * وأما ميكائيل فموكل
بالقطر والنبات وهو ذو مكانة من ربه عز وجل ومن أشراف الملائكة المقربين *
وقد قال الامام أحمد حدثنا أبو اليمان حدثنا ابن عباس عن عمارة بن غزنة
الانصاري أنه سمع حميد بن عبيد مولى بني المعلى يقول سمعت ثابتا البناني
يحدث عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل:
مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قط (2) فقال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار *
فهؤلاء الملائكة المصرح بذكرهم في القرآن وفي الصحاح (3) هم المذكورون في
الدعاء النبوي " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل * فجبريل ينزل بالهدى
على الرسل لتبليغ الامم.
وميكائيل موكل بالقطر والنبات الذين يخلق منهما الارزاق في هذه الدار *
وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه.
يصرفون الرياح والسحاب كما يشاء الرب جل جلاله.
وقد روينا أنه ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقررها في موضعها
من الارض " وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور للقيام من القبور.
والحضور يوم البعث والنشور ليفوز الشكور.
ويجازي الكفور.
فذاك ذنبه مغفور.
وسعيه مشكور * وهذا قد صار عمله كالهباء المنثور.
وهو يدعو بالويل والثبور " فجبريل عليه السلام يحصل بما ينزل به الهدى *
وميكائيل يحصل بما هو موكل به الرزق.
وإسرافيل يحصل بما هو موكل به النصر والجزاء * وأما ملك الموت فليس بمصرح
باسمه في القرآن ولا في الاحاديث الصحاح.
وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل والله أعلم.
وقد قال الله تعالى * قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم
ترجعون) [ السجدة: 11 ] وله أعوان يستخرجون روح العبد من جثته حتى تبلغ
الحلقوم فيتناولها ملك الموت بيده فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين
حتى يأخذوها منه فيلقوها في أكفان تليق بها كما قد بسط عند قوله: (يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) [ إبراهيم:
27 ].
ثم يصعدون بها فإن كانت صالحة فتحت لها أبواب السماء وإلا غلقت دونها
وألقي بها إلى
الارض قال الله تعالى (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء
أحدكم الموت
__________
(1) سورة البقرة الآية 98.
(2) مسند أحمد 3 / 224.
(3) أي الاحاديث الصحيحة.
وفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له
الحكم وهو أسرع الحاسبين * [ الانعام: 61 ].
وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنهم قالوا إن الارض بين يدي ملك الموت مثل
الطست بتناول منها حيث يشاء وقد ذكرنا أن ملائكة الموت يأتون الانسان على
حسب عمله إن كان مؤمنا اتاه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب طيبة الارواح.
وإن كان كافرا فبالضد من ذلك * عياذا بالله العظيم من ذلك * وقد قال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري حدثنا عمرو بن شمر قال
سمعت جعفر بن محمد قال سمعت أبي يقول نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى ملك الموت عند رأس رجل من الانصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن " فقال ملك الموت: يا محمد طب نفسا
وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق * واعلم أن ما في الارض بيت مدر ولا شعر في
بر ولا بحر إلا وأنا أتفحصهم في كل يوم خمس مرات حتى إني أعرف بصغيرهم
وكبيرهم بأنفسهم والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على
ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها.
قال جعفر بن محمد أبي هو الصادق بلغني بتفحصهم عند مواقيت الصلاة فإذا حضر
عند الموت فإذا كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان
ولقنه الملك (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في تلك الحال العظيمة.
هذا حديث مرسل وفيه نظر وذكرنا في حديث الصور من طريق إسمعيل بن رافع
المدني القاص عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (الحديث) بطوله.
وفيه ويأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق فينفخ نفخة الصعق فيصعق أهل السموات
وأهل الارض إلا من شاء الله فإذا هم قد خمدوا
جاء ملك الموت إلى الجبار عزوجل فيقول يا رب قد مات أهل السموات والارض
إلا من شئت * فيقول الله وهو أعلم بمن بقي (فمن بقي) فيقول بقيت أنت الحي
الذي لا يموت وبقيت حملة عرشك وبقي جبريل وميكائيل * فيقول ليمت جبريل
وميكائيل فينطق الله العرش فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل فيقول: اسكت
فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرسي فيموتان " ثم يأتي ملك الموت إلى
الجبار عزوجل فيقول يا رب قد مات جبريل وميكائيل فيقول الله وهو أعلم بمن
بقي فمن بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت حملة عرشك وبقيت
أنا فيقول الله لتمت حملة عرشي.
فتموت.
ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب
قد مات حملة عرشك فيقول الله وهو أعلم بمن بقي (فمن بقي) فيقول بقيت أنت
الحي الذي لا يموت وبقيت أنا فيقول الله أنت خلق من خلقي خلقتك لما أردت
فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الاحد الصمد الذي لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد * كان آخرا كما كان أولا * وذكر تمام الحديث
بطوله رواه الطبراني وابن جرير والبيهقي ورواه الحافظ أبو موسى المديني في
كتاب (الطوالات) وعنده زيادة غريبة وهي قوله فيقول الله له أنت خلق من
خلقي خلقتك لما أردت فمت موتا لا تحيى بعده أبدا.
ومن الملائكة المنصوص على أسمائهم في القرآن هاروت وماروت في قول
جماعة كثيرة من السلف * وقد ورد في قصتهما وما كان من أمرهما آثار كثيرة
غالبها إسرائيليات * وروى الامام أحمد حديثا مرفوعا عن ابن عمر وصححه ابن
حبان في تقاسيمه.
وفي صحته عندي نظر والاشبه أنه موقوف على عبد الله بن عمر ويكون مما تلقاه
عن كعب الاحبار كما سيأتي بيانه والله أعلم * وفيه أنه تمثلت لهما الزهرة
امرأة من أحسن البشر * وعن علي وابن عباس وابن عمر أيضا ان الزهرة كانت
امرأة وأنهما لما طلبا منها ما ذكر أبت إلا أن يعلماها الاسم الاعظم
فعلماها فقالته فارتفعت إلى السماء فصارت كوكبا * وروى الحاكم في مستدركه
عن ابن عباس قال وفي ذلك الزمان إمرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في
سائر الكواكب.
وهذا اللفظ أحسن ما ورد في شأن الزهرة * ثم قيل
كان أمرهما وقصتهما في زمان إدريس * وقيل في زمان سليمان بن داود كما
حررنا ذلك في التفسير.
وبالجملة فهو خبر إسرائيلي مرجعه إلى كعب الاحبار كما رواه عبد الرزاق في
تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب أحبار بالقصة
* وهذا أصح إسنادا وأثبت رجالا والله أعلم.
ثم قد قيل إن المراد بقوله * وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت *
(1) قبيلان من الجان قاله ابن حزم وهذا غريب وبعيد من اللفظ * ومن الناس
من قرأ وما أنزل على الملكين بالكسر ويجعلهما علجين من أهل فارس.
قاله الضحاك.
ومن الناس من يقول هما ملكان من السماء ولكن سبق في قدر الله لهما ما ذكره
من أمرهما إن صح به الخبر ويكون حكمهما كحكم إبليس إن قيل إنه من الملائكة
لكن الصحيح أنه من الجن كما سيأتي تقريره.
ومن الملائكة المسمين في الحديث منكر ونكير عليهما السلام.
وقد استفاض في الاحاديث ذكرهما في سؤال القبر.
وقد أوردناها عند قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (2)
وهما فتانا القبر موكلان بسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه ويمتحنان
البر والفاجر وهما أزرقان أفرقان لهما أنياب وأشكال مزعجة وأصوات مفزعة
أجارنا الله من عذاب القبر وثبتنا بالقول الثابت آمين * وقال البخاري
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن وهب حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني عروة
أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله
عليه وسلم: " هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟.
قال: " لقد لقيت من قومك (3) وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (4) إذا
عرضت نفسي على ابن عبد
__________
(1) سورة البقرة الآية 102.
(2) سورة إبراهيم الآية 27.
(3) قومك: أي قريش، وتقدير العبارة: لقد لقيت منهم ما لقيت.
(4) يوم العقبة: وهو اليوم الذي وقف به النبي صلى الله عليه وسلم عند
العقبة بمنى داعيا الناس إلى الاسلام والى الله رب العالمين
ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على
وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (1) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد
أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك
وما ردوا به عليك وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك
الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم
الاخشبين (2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل أرجو أن يخرج الله من
أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا * ورواه مسلم من حديث ابن وهب
به (3).
فصل ثم الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام * فمنهم
حملة العرش كما تقدم ذكرهم ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش وهم أشرف
الملائكة مع حملة العرش.
وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله
ولا الملائكة المقربون) (4) * ومنهم جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وقد ذكر الله عنهم أنهم يستغفرون للمؤمنين بظهر الغيب كما قال تعالى:
(ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا
واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم.
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
إنك أنت العزيز الحكيم.
وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته.
وذلك هو الفوز العظيم) (5).
ولما كانت سجاياهم هذه السجية الطاهرة كانوا يحبون من اتصف بهذه الصفة
فثبت في الحديث عن الصادق المصدوق أنه قال " إذا دعا العبد لاخيه بظهر
الغيب قال الملك آمين ولك بمثل " (6).
__________
= موحدين له، فما أجيب إلا بالاذى وذلك اليوم أصبح معروفا.
(1) قرن الثعالب: هو قرن المنازل - وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من
مكة، والقرن أصله كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.
(2) الاخشبان: جبلا مكة: أبو قبيس والجبل الذي يقابله.
(3) في (32) كتاب الجهاد والسير - 39 باب ما لقي النبي من أذى المشركين ح
111 - 1795 ص 3 / 420 والبخاري رقم / 1525 - (4) سورة النساء الآية 172.
(5) سورة غافر الآية 7.
(6) رواه الترمذي في صحيحه في بر / 50.
وأبو داود كتاب الصلاة - باب الدعاء بظهر الغيب ج 1534، ج 2 / 89.
وابن ماجة في المناسك (5).
ومنهم سكان السموات السبع يعمرونها عبادة دائبة ليلا ونهارا
صباحا ومساء كما قال [ تعالى ]: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [
الانبياء: 20 ] فمنهم الراكع دائما والقائم دائما والساجد دائما * ومنهم
الذين يتعاقبون زمرة بعد زمرة إلى البيت المعمور كل يوم سبعون ألفا لا
يعودون إليه آخر ما عليهم.
ومنهم الموكلون بالجنان وإعداد الكرامة لاهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها من
ملابس ومصاغ ومساكن ومآكل ومشارب وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر.
وخازن الجنة ملك يقال له رضوان جاء مصرحا به في بعض الاحاديث.
ومنهم الموكلون بالنار وهم الزبانية * ومقدموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو
مقدم على جميع الخزنة.
وهم المذكورون في قوله تعالى (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم
يخفف عنا يوما من العذاب) [ غافر: 49 ] الآية.
وقال تعالى (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك.
قال انكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) [ الزخرف: 77
] وقال تعالى (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون) [ التحريم: 6 ] وقال تعالى (عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار
إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أتوا
الكتاب ويزداد الدين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين اؤتوا الكتاب والمؤمنون
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا *
كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء * وما يعلم جنود ربك إلا هو) [
المدثر: 31 ].
وهم الموكلون بحفظ بني آدم كما قال تعالى (سواء منكم من أسر القول ومن جهر
به.
ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه
يحفظون من أمر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا
أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) [ الرعد: 10 ].
قال الوالبي عن ابن عباس (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر
الله) وهي الملائكة وقال عكرمة عن ابن عباس يحفظونه من أمر الله * قال
ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وقال
مجاهد ما من عبد إلا وملك موكل بحفظه في نومه.
ويقظته من الجن والانس والهوام.
وليس شئ يأتيه يريده إلا وقال وراءك إلا شئ يأذن الله فيه فيصيبه.
وقال أبو أسامة (1): ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر
له.
وقال أبو مجلز جاء رجل إلى علي فقال: إن نفرا من مراد يريدون قتلك فقال إن
مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن
الاجل جنة (2) حصينة.
__________
(1) في القرطبي 9 / 293 أبو أمامة.
(2) في القرطبي: حصن.
ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد كما قال تعالى: (عن اليمين وعن
الشمال قعيد.
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق: 18 ] وقال تعالى: (وإن عليكم
لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) [ الانفطار: 12 ] قال الحافظ أبو
محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في تفسيره حدثنا أبي حدثنا علي بن
محمد الطنافسي حدثنا وكيع حدثنا سفيان ومسعر عن علقمة بن يزيد عن مجاهد
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكرموا الكرام الكاتبين الذين
لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم
فليستتر بجذم حائط أو بعيره أو يستره أخوه " هذا مرسل من هذا الوجه وقد
وصله البزار في مسنده من طريق جعفر بن
سليمان * وفيه كلام عن علقمة عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من الله والذين معكم
الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات الغائط
والجنابة والغسل.
فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستر بثوبه أو بجذم حائط أو بعيره.
ومعنى اكرامهم أن يستحي منهم فلا يملي عليهم الاعمال القبيحة التي
يكتبونها فان الله خلقهم كراما في خلقهم وأخلاقهم * ومن كرمهم أنه قد ثبت
في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة
ولا كلب ولا جنب (1) وفي رواية عن عاصم بن ضمرة عن علي (ولا بول) وفي
رواية رافع عن أبي سعيد مرفوعا لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا تمثال.
وفي رواية مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو
تمثال.
وفي رواية ذكوان أبي صالح السماك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب أو جرس.
ورواه زرارة بن أوفى عنه لا تصحب الملائكة رفقة معهم جرس.
وقال البزار حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقلوس.
حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام عن منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن
أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ملائكة الله يعرفون بني
آدم - وأحسبه.
قال - ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم
وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان نجا الليلة فلان.
وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه.
وقالوا هلك فلان الليلة * ثم قال سلام أحسبه سلام المدائني (2) وهو لين
الحديث.
وقد قال البخاري حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق وكتاب الانبياء والمغازي والنكاح.
وأبو داود في اللباس - والترمذي - والنسائي في الطهارة والصيد ومالك في
الموطأ " الاستئذان " والدارمي في الاستئذان.
والامام أحمد في مسنده 1 / 80 - 82 - 107 - 129 - 150.
(2) سلام بتشديد اللام، ابن سليم أو سلم أبو سليمان التميمي ويقال الطويل،
المدائني متروك تقريب 1 / 342 قال
البخاري: تركوه الكاشف 1 / 330.
الاعرح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر
وصلاة العصر.
ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم فيقول كيف تركتم عبادي
فيقولون تركناهم وهم يصلون.
وأتيناهم وهم يصلون * هذا اللفظ في كتاب بدء الخلق بهذا السياق وهذا اللفظ
تفرد به دون مسلم من هذا الوجه * وقد أخرجاه في الصحيحين في البدء من حديث
مالك عن أبي الزناد به * وقال البزار حدثنا زياد بن أيوب حدثنا مبشر بن
إسماعيل الحلبي حدثنا تمام بن نجيح عن الحسن يعني البصري عن أنس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من حافظين يرفعان إلى الله عزوجل ما
حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلا قال الله غفرت
لعبدي ما بين طرفي الصحيفة * ثم قال تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث
* قلت وقد وثقه ابن معين وضعفه البحاري وأبو حاتم وأبو زرعة والنسائي وابن
عدي ورماه ابن حبان بالوضع وقال الامام أحمد لا أعرف حقيقة أمره والمقصود
أن كل إنسان له حافظان ملكان اثنان واحد من بين يديه وآخر من خلفه يحفظانه
من أمر الله بأمر الله عزوجل * وملكان كاتبان عن يمينه وعن شماله وكاتب
اليمين أمير على كاتب الشمال.
كما ذكرنا ذلك عند قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول
إلا لديه رقيب عتيد) [ ق: 18 ].
فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا أسود ابن عامر * حدثنا سفيان.
حدثنا منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد الله هو ابن مسعود قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه
من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يارسول الله قال وإياي ولكن الله
أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير.
انفرد بإخراجه مسلم من حديث منصور به فيحتمل أن هذا القرين من الملائكة
غير القرين بحفظ الانسان وإنما هو موكل به ليهديه ويرشده بإذن ربه إلى
سبيل الخير وطريق الرشاد كما أنه قد وكل به القرين من الشياطين لا يألوه
جهدا في الخبال والاضلال.
والمعصوم من عصمه الله عزوجل وبالله المستعان (1) وقال البخاري حدثنا أحمد
بن يونس حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
والاغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان
يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الاول فالاول
فإذا جلس الامام طووا الصحف
__________
(1) مسند أحمد: ج 1 / 385 - 401 ومنصور: هو منصور بن زاذان.
وفيه بحق بدل بخير.
وأخرجه مسلم في 50 كتاب صفات المنافقين 16 باب ح 69 (2814) ص 4 / 2167 قال
القاضي: وأعلم أن الامة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من
الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه.
وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا
أنه معنا، لنحترز منه بحسب الامكان.
وجاؤوا يسمعون الذكر وهكذا رواه منفردا به من هذا الوجه وهو في
الصحيحين ومن وجه آخر * وقد قال الله تعالى (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر
كان مشهودا) * وقال الامام أحمد حدثنا أسباط حدثنا الاعمش عن إبراهيم عن
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم * وحدثنا الاعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (وقرآن الفجر إن قرآن
الفجر كان مشهودا) قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار * ورواه الترمذي
والنسائي وابن ماجة من حديث أسباط * وقال الترمذي حسن صحيح * قلت وهو
منقطع.
وقال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن
الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم * قال: " فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة.
ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " يقول أبو هريرة إقرؤا
إن شئتم (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) وقال البخاري حدثنا مسدد
حدثنا أبو عوانة عن الاعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان
لعنتها
الملائكة حتى تصبح " * تابعه شعبة وأبو حمزة وأبو داود وأبو معاوية عن
الاعمش.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أمن الامام
فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " * وفي
صحيح البخاري حدثنا إسماعيل بلفظ: " إذا قال الامام آمين فإن الملائكة
تقول في السماء آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من
ذنبه " * وفي صحيح البخاري حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن سمي (1) عن أبي
صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الامام سمع
الله لمن حمده فقولوا (اللهم ربنا ولك الحمد) فإن من وافق قوله قول
الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ".
ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث مالك * وقال الامام أحمد حدثنا
أبو معاوية حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد هو شك
(يعني الاعمش) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ملائكة
سياحين في الارض فضلا عن كتاب الناس فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله فنادوا
هلموا إلى بغيتكم فيجيئون بهم إلى السماء الدنيا فيقول الله أي شئ تركتم
عبادي يصنعون فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك فيقول وهل رأوني
فيقولون لا فيقول كيف لو رأوني فيقولون لو رأوك لكانوا أشد تحميدا وتمجيدا
وذكرا * قال فيقول فأي شئ يطلبون فيقولون يطلبون الجنة فيقول وهل رأوها
فيقولون لا فيقول وكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد عليها حرصا
وأشد لها طلبا قال فيقول من أي يتعوذون، فيقولون من النار فيقول وهل رأوها
فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها كانوا أشد منها هربا
وأشد منها خوفا.
قال فيقول أشهدكم أني قد غفرت لهم.
قال فيقول إن فيهم فلانا
__________
(1) سمي: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة قتل يوم قديد
سنة 13 وفي التقريب سنة 30 وهو الصواب قتلته الحرورية: (1 / 333) (الكاشف
1 / 223).
الخطاء لم يردهم إنما جاء لحاجة فيقول هم القوم لا يشقي بهم
جليسهم (1).
وهكذا رواه البخاري عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن الاعمش به.
وقال رواه شعبة عن الاعمش ولم يرفعه.
ورفعه سهيل عن أبيه.
وقد رواه أحمد عن عفان عن وهيب عن سهيل
عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه كما ذكره البخاري
معلقا عن سهيل.
ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد عن وهب به.
وقد رواه الامام أحمد أيضا عن غندر عن شعبة عن سليمان (هو الاعمش) عن أبي
صالح عن أبي هريرة كما أشار إليه البخاري رحمه الله * وقال الامام أحمد
حدثنا أبو معاوية.
حدثنا الاعمش وابن نمير * وأخبرنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن كربة عن كرب الدنيا
نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة * ومن ستر مسلما ستره الله في
الدنيا والآخرة.
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
ومن سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع
قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدا رسونه بينهم إلا نزلت
عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده *
ومن بطأ (2) به عمله لم يسرع به نسبه " * وكذا رواه مسلم من حديث أبي
معاوية * (3) وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أبي إسحاق
عن الاغر (أبي مسلم) عن أبي هريرة وأبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال: " ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت
عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده * وكذا رواه أيضا من حديث إسرائيل
وسفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق به نحوه * ورواه مسلم من حديث شعبة
والترمذي من حديث الثوري وقال حسن صحيح * ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن
أبي شيبة عن يحيى بن آدم عن عمار بن زريق عن أبي إسحاق بإسناد نحوه * وفي
هذا المعنى أحاديث كثيرة * وفي مسند الامام أحمد والسنن عن أبي الدرداء
مرفوعا (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع) أي تتواضع
له كما قال تعالى (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) [ الاسراء: 24 ] وقال
تعالى (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) [ الشعراء: 215 ] وقال الامام
أحمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله ملائكة سياحين في الارض
ليبلغوني عن أمتي لسلام * وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري
وسليمان الاعمش كلاهما عن عبد الله بن لسائب به * وقال الامام أحمد.
حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة
__________
(1) مسند أحمد: ج 1 / 452 و 2 / 251.
(2) قوله ومن بطأ به عمله: معناه من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب
الاعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل.
(3) مسند أحمد: ج 2 / 252.
ومسلم في 48 كتاب الذكر والدعاء - 11 باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن
38 (2699) ص 4 / 2074.
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت الملائكة من نور
وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " وهكذا رواه مسلم عن
محمد بن رافع وعبدة بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به.
والاحاديث في ذكر الملائكة كثيرة جدا * وقد ذكرنا ما يسره الله تعالى وله
الحمد.
فصل وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال: فأكثر ما
توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم
وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ بن عساكر في تاريخه في
ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلسا لعمر بن عبد العزيز
وعنده جماعة فقال عمر ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم.
واستدل بقوله تعالى (إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات أولئك هم خير البرية)
[ البينة: 7 ] ووافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد فقال عراك بن مالك ما
أحد أكرم على الله من ملائكته هم خدمة داريه ورسله إلى أنبيائه.
واستدل بقوله تعالى (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو
تكونا من الخالدين) [ الاعراف: 20 ] فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب
القرظي ما تقول أنت يا أبا حمزة * فقال قد أكرم الله آدم فخلقه بيده ونفخ
فيه من روحه وأسجد له الملائكة وجعل من ذريته الانبياء والرسل ومن يزوره
الملائكة * فوافق عمر بن عبد العزيز في الحكم واستدل بغير دليله * وأضعف
دلالة ما صرح به من الآية وهو قوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
مضمونه أنها ليست بخاصة بالبشر * فإن الله قد وصف الملائكة بالايمان في
قوله
(ويؤمنون به) وكذلك الجان (وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به) [ الجن: 13 ]
(وإنا منا المسلمون) قلت وأحسن ما يستدل به في هذه المسألة ما رواه عثمان
بن سعيد الدارمي عن عبد الله بن عمرو مرفوعا وهو أصح، قال: لما خلق الله
الجنة قالت الملائكة يا ربنا اجعل لنا هذه نأكل منها ونشرب فإنك خلقت
الدنيا لبني آدم فقال الله، لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن
فكان.
باب خلق الجان وقصة الشيطان قال الله تعالى (خلق الانسان من صلصال كالفخار
وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 14 ] وقال
تعالى (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون.
والجان خلقناه من قبل من نار السموم) [ الحجر: 26 - 27 ] وقال ابن عباس
وعكرمة ومجاهد والحسن وغير واحد (من مارج من نار) قالوا من طرف اللهب وفي
رواية من خالصه وأحسنه * وقد ذكرنا آنفا من طريق الزهري عن عروة عن عائشة
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت الملائكة من نور وخلق
الجان من نار وخلق آدم مما وصف لكم رواه
مسلم * قال كثير من علماء التفسير خلقت الجن قبل آدم عليه السلام
وكان قبلهم في الارض الحن والبن فسلط الله الجن عليهم فقتلوهم وأجلوهم
عنها وأبادوهم منها وسكنوها بعدهم.
وذكر السدي في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن
مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ الله من خلق
ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك الدنيا وكان من قبيلة من
الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لانهم خزان الجنة.
وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره إنما أعطاني الله هذا لمزية لي على
الملائكة.
وذكر الضحاك عن ابن عباس أن الجن لما أفسدوا في الارض وسفكوا الدماء بعث
الله إليهم إبليس ومعه جند من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم عن الارض إلى
جزائر البحور.
وقال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس كان اسم إبليس قبل
أن يرتكب المعصية عزازيل.
وكان من سكان الارض ومن أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما وكان من حي
يقال لهم الجن * وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه كان اسمه عزازيل
وكان من أشرف الملائكة من أولي الاجنحة الاربعة * وقد أسند عن حجاج عن ابن
جريج قال ابن عباس كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة * وكان خازنا
على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا.
وكان له سلطان الارض * وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس كان يسوس ما
بين السماء والارض رواه ابن جرير وقال قتادة عن سعيد بن المسيب كان إبليس
رئيس ملائكة سماء الدنيا * وقال الحسن البصري لم يكن من الملائكة طرفة عين
وأنه لاصل الجن كما أن آدم أصل البشر * وقال شهر ابن حوشب وغيره كان إبليس
من الجن الذين طردوهم الملائكة فأسره بعضهم وذهب به إلى السماء.
رواه ابن جرير * قالوا فلما أراد الله خلق آدم ليكون في الارض هو وذريته
من بعده وصور جثته منها جعل إبليس وهو رئيس الجان وأكثرهم عبادة إذ ذاك
وكان اسمه عزازيل يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك * وقال أما
لئن سلطت عليك لاهلكنك ولئن سلطت علي لاعصينك فلما أن نفخ الله في آدم من
روحه كما سيأتي وأمر الملائكة بالسجود له دخل إبليس منه حسد عظيم وامتنع
من السجود له وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فخالف الامر
واعترض على الرب عزوجل وأخطأ في قوله وابتعد من رحمة ربه وأنزل من مرتبته
التي كان قد نالها بعبادته وكان قد تشبه بالملائكة ولم يكن من جنسهم لانه
مخلوق من نار وهم من نور فخانه طبعه في أحوج ما كان إليه ورجع إلى أصله
الناري (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) [
الحجر: 30 ] وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس
كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو
بئس للظالمين بدلا) [ الكهف: 50 ].
فأهبط إبليس من الملا الاعلى وحرم عليه قدر أن يسكنه فنزل إلى الارض حقيرا
ذليلا مذؤما مدحورا متوعدا بالنار هو ومن اتبعه من الجن والانس إلا أنه مع
ذلك جاهد كل الجهد على إضلال
بني آدم بكل طريق وبكل مرصد كما قال (أرأيتك هذا الذي كرمت على
لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا.
قال إذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت
منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) [ الاسراء: 62 ].
وسنذكر القصة مستفاضة عند ذكر خلق آدم عليه السلام * والمقصود أن الجان
خلقوا من النار وهم كبني آدم يأكلون ويشربون ويتناسلون * ومنهم المؤمنون
ومنهم الكافرون كما أخبر تعالى عنهم في صورة الجن في قوله تعالى (وإذ
صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى
ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى
مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا
داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب
داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال
مبين) [ الاحقاف: 29 ] وقال تعالى (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن
فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا.
وانه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا.
وانه كان يقول سفيهنا على الله شططا.
وأن ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا.
وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا.
وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا * وأنا لمسنا السماء فوجدناها
ملائت حرسا شديدا وشهبا.
وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
وانا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا * وأنا منا
الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا * وأنا ظننا ان لن نعجز الله في
الارض ولن نعجزه هربا.
وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا.
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون.
فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.
وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه.
ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) [ الجن: 1 ]
وقد ذكرنا تفسير هذه السورة وتمام القصة في آخر سورة الاحقاف * وذكرنا
الاحاديث المتعلقة بذلك هنالك * وأن هؤلاء النفر كانوا من جن (نصيبين) وفي
بعض الآثار من جن (بصرى) وأنهم مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
قائم يصلي بأصحابه ببطن نخلة من أرض مكة فوقفوا فاستمعوا لقراءته.
ثم اجتمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة فسألوه عن أشياء أمرهم
بها ونهاهم عنها وسألوه الزاد فقال لهم (كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه
أوفر ما يكون لحما وكل روثة علف لدوابكم) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم
أن يستنجي بهما وقال: (إنهما زاد إخوانكم) [ أي ]: الجن.
ونهى عن البول في السرب لانها مساكن الجن.
وقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فما جعل يمر فيها
بآية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) إلا قالوا ولا بشئ من الآئك ربنا نكذب فلك
الحمد.
وقد أثنى عليهم
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لما قرأ هذه السورة على الناس
فسكتوا.
فقال (الجن كانو أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا
قالوا ولا بشئ من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه الترمذي عن جبير وابن
جرير والبزار عن ابن عمر.
وقد اختلف في مؤمني الجن هل يدخلون الجنة أو يكون جزاء طائعهم أن لا يعذب
بالنار فقط.
على قولين الصحيح أنهم يدخلون الجنة لعموم القرآن * ولعموم قوله تعالى
(ولمن خاف مقام ربه جنتان.
فبأي آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 64 ] فامتن تعالى عليهم بذلك فلولا
أنهم ينالونه لما ذكره وعده عليهم من النعم * وهذا وحده دليل مستقل كافي
في المسألة وحده والله أعلم.
وقال البخاري حدثنا قتيبة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد
الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه أن أبا سعيد الخدري قال له: (إني أراك تحب
الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك
بالنداء فانه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم
القيامة) * قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم * انفرد
به البخاري دون مسلم.
وأما كافرو الجن فمنهم الشياطين ومقدمهم الاكبر إبليس عدو آدم أبي البشر
وقد سلطه هو وذريته على آدم وذريته.
وتكفل الله عزوجل بعصمة من آمن به وصدق رسله واتبع شرعه منهم.
كما قال (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) [ الاسراء: 65 ]
وقال تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين.
وما كان عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك
على كل شئ حفيظ) [ سبأ: 20 ] وقال تعالى (يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان
كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم
هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) [
الاعراف: 27 ] وقال: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ
مسنون.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك أن لا تكون من
الساجدين قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون قال فاخرج
منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين.
إلى يوم الوقت المعلوم.
قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين.
إلا عبادك المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم.
ان عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين.
وإن جهنم لموعدهم أجمعين.
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) [ الحجر: 21 ].
وقد ذكر تعالى هذه القصة في سورة البقرة وفي الاعراف وههنا وفي
سورة سبحان وفي سورة طه وفي سورة ص * وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه في
كتابنا التفسير ولله الحمد * وسنوردها في قصة آدم إن شاء الله * والمقصود
أن إبليس أنظره الله إلى يوم القيامة محنة لعباده وإختبارا منه لهم كما
قال تعالى (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو
منها في شك.
وربك على كل شئ حفيظ) * وقال تعالى (وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله
وعدكم وعد
الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم
لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت
بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم * وأدخل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم
فيها سلام) [ إبراهيم: 28 ].
فإبليس لعنه الله حي الآن منظر إلى يوم القيامة بنص القرآن * وله عرش على
وجه البحر وهو جالس عليه ويبعث سراياه يلقون بين الناس الشر والفتن * وقد
قال الله تعالى (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) [ النساء: 76 ] وكان اسمه قبل
معصيته العظيمة عزازيل * قال النقاش وكنيته (أبو كردوس) ولهذا لما قال
النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد ما ترى قال أرى عرشا على الماء.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أخسأ فلن تعدو قدرك " فعرف أن مادة
مكاشفته التي كاشفه بها شيطانية مستمدة من إبليس الذي هو يشاهد عرشه على
البحر * ولهذا قال له أخسأ فلن تعدو قدرك أي لن تجاوز قيمتك الدنية
الخسيسة الحقيرة.
والدليل على أن عرش إبليس على البحر الذي رواه الامام أحمد حدثنا أبو
المغيرة حدثنا صفوان حدثني معاذ التميمي (1) عن جابر بن عبد الله قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرش إبليس في البحر يبعث سراياه في كل
يوم يفتنون الناس فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة للناس " ورواه (2).
وقال أحمد حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن
عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (عرش إبليس على
البحر يبعث سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة) تفرد به من
هذا الوجه.
وقال أحمد حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن جابر بن
عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد: " ما ترى " قال
أرى عرشا على الماء أو قال على البحر حوله
__________
(1) مسند أحمد: ج 1 / 332 ماعز التميمي بدل معاذ.
(2) ورواه بياض بالاصل.
والتقدير أن أحمد رواه بروايتين اخريين عن جابر من طريق أبي الزبير 3 /
384 ومن طريق
سفيان عن أبي الزبير عن جابر 3 / 332 وفيها: عرش إبليس على البحر.
حيات "، قال صلى الله عليه وسلم: " ذاك عرش إبليس " * هكذا رواه
في مسند جابر.
وقال في مسند أبي سعيد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد
عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صائد:
" ما ترى قال: أرى عرشا على البحر حوله الحيات "، فقال.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق ; ذاك عرش إبليس ".
وروى الامام أحمد من طريق معاذ التميمي وأبي الزبير (1) عن جابر بن عبد
الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده
المصلون ولكن في التحريش (2) بينهم " * وروى الامام مسلم من حديث الاعمش
عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن
الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة
أعظمهم عنده فتنة.
يجئ أحدهم فيقول ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا.
فيقول إبليس لا والله ما صنعت شيئا.
ويجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله.
قال فيقربه ويدنيه ويقول نعم أنت " يروى بفتح النون بمعنى نعم أنت ذاك
الذي تستحق الاكرام.
وبكسرها أي نعم منك * وقد استدل به بعض النحاة على جواز كون فاعل نعم
مضمرا وهو قليل * واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج الاول ورجحه ووجهه بما
ذكرناه والله أعلم.
وقد أوردنا هذا الحديث عند قوله تعالى (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) (3)
يعني أن السحر المتلقي عن الشياطين من الانس والجن يتوصل به إلى التفرقة
بين المتآلفين غاية التآلف المتوادين المتحابين ولهذا يشكر إبليس سعى من
كان السبب في ذلك.
فالذي ذمه الله يمدحه والذي يغضب الله يرضيه عليه لعنة الله * وقد أنزل
الله عزوجل سورتي المعوذتين مطردة لانواع الشر وأسبابه وغاياته.
ولا سيما سورة (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس
الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (4).
وثبت في الصحيحين عن أنس.
وفي صحيح البخاري عن صفية بنت حسين (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " إن الشيطان يجري من
ابن آدم مجرى الدم " (6).
__________
(1) في المسند ماعز التميمي وسقط اسم أبي الزبير.
(2) قوله في التحريش: متعلق بمقدر محذوف أي أن الشيطان سعى في التحريش بين
المصلين عن طريق بث الخصومات والبغضاء والحروب والفتن وغيرها.
(3) سورة البقرة الآية 102.
(4) سورة الناس الآية 4.
(5) عند مسلم صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب.
(6) قال القاضي عياض وغيره: قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة
وقدرة على الجري في باطن الانسان في مجاري دمه، وقيل هو على الاستعارة
لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الانسان كما لا يفارقه دمه.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا محمد بن جبير حدثنا عدي بن
أبي عمارة حدثنا زياد النميري عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي
التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس " * ولما كان ذكر الله مطردة للشيطان عن
القلب كان فيه تذكار للناس كما قال تعالى (واذكر ربك إذا نسيت) (1) " وقال
صاحب موسى (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) (2) وقال تعالى (فأنساه
الشيطان ذكر ربه) (3) يعني الساقي لما قال له يوسف اذكرني عند ربك نسي
الساقي أن يذكره لربه يعني مولاه الملك.
وكان هذا النسيان من الشيطان (فلبث يوسف في السجن بضع سنين) (4) ولهذا قال
بعده (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة) (5) أي مدة * وقرئ بعد أمة أي
نسيان.
وهذا الذي قلنا من أن الناسي هو الساقي هو الصواب من القولين كما قررناه
في التفسير والله أعلم.
وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم سمعت أبا تميمة
يحدث عن رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عثر بالنبي صلى الله عليه
وسلم حماره فقلت نفس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقل نفس
الشيطان فإنك إذا قلت نفس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته وإذا قلت بسم
الله تصاغر حتى
يصير مثل الذباب " * تفرد به أحمد وهو إسناد جيد * وقال أحمد حدثنا أبو
بكر الحنفي حدثنا الضحاك ابن عثمان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا كان في المسجد جاء الشيطان
فأيس به كما يئس الرجل بدابته فإذا سكن له زنقه أو ألجمه (6) * قال أبو
هريرة وأنتم ترون ذلك.
أما المزنوق فتراه مائلا كذا لا يذكر إلا الله * وأما الملجم ففاتح فاه لا
يذكر الله عزوجل تفرد به أحمد * وقال الامام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا
ثور يعني ابن يزيد عن مكحول عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " العين حق ويحضرها الشيطان وحسد ابن آدم " * وقال الامام أحمد
حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن ذر بن عبد الله الهمداني عن عبد الله بن
شداد عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله إني أحدث نفسي بالشئ - لان أخر من
__________
(1) سورة الكهف الآية 24.
(2) سورة الكهف الآية 63.
(3) سورة يوسف جزء من الآية 42.
(4) سورة يوسف جزء من الآية 42.
(5) سورة يوسف الآية 45.
أمة بالتشديد: الحين ولا تكون الحين إلا على حذف مضاف والامة الجماعة من
الناس.
وقرأ ابن عباس أمة بفتح الهمزة وتخفيف الميم أي بعد نسيان وقيل أمه
النسيان ذكره النحاس ورجل أمه ذاهب العقل.
قال صاحب اللسان أمه الرجل فهو مأموه وهو الذي ليس عقله معه.
وقرأ العقيلي بعد إمة أي بعد نعمة، أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة.
(6) أيس بالشئ: استقل به، وزنقه: ضيق عليه.
السماء أحب إلي من أن أتكلم به.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى
الوسوسة " * ورواه أبو داود والنسائي من حديث منصور زاد النسائي والاعمش
كلاهما عن أبي ذر به.
وقال البخاري حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال
أخبرني عروة قال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي
الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه
فليستعذ بالله ولينته " (1) * وهكذا رواه مسلم من حديث الليث ومن حديث
الزهري وهشام بن عروة كلاهما عن عروة به * وقد قال الله تعالى (إن الذين
اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) (2) وقال تعالى
(وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (3) وقال تعالى
(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم) (4) وقال تعالى
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على
الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (5).
وروى الامام أحمد وأهل السنن من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
وجاء مثله من رواية جبير بن مطعم وعبد الله بن مسعود وأبي أسامة الباهلي
(6).
وتفسيره في الحديث (فهمزه الموتة وهو الخنق الذي هو الصرع.
ونفخه الكبر.
ونفثه الشعر) وثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا دخل الخلاء قال " أعوذ بالله من الخبت والخبائث " قال كثير من
العلماء استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم (7) * وروى الامام أحمد عن شريح
عن عيسى بن يونس عن ثور عن الحسين عن ابن سعد الخير وكان من أصحاب عمر عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: " ومن أتى
الغائط فليستتر فان لم يجد إلا أن يجمع كثيبا فليستدبره فان الشيطان
__________
(1) عقيل هو عقيل بن خالد.
قوله فليستعذ بالله ولينته: معناه إذا عرض له الوسواس فليلجأ إلى الله في
دفع شروره وليعرض عن التفكير بذلك.
وليعلم أن هذا كله من وسوسة الشيطان الذي يسعى إلى إغرائه وإفساده وليشغل
نفسه بالتفكير بأمور أخرى بعيدا عن الاصغاء لوسوسة الشيطان.
(2) سورة الاعراف الآية 201.
(3) سورة المؤمنون الآيه 97.
(4) سورة الاعراف الآية 200.
(5) سورة النحل الآية 98.
(6) كذا أبو أسامة والصواب أبو أمامة الباهلي، وهو صدي بن عجلان صحابي
مشهور سكن الشهابي ومات بها سنة 86 / التقريب ج 1 / 366 - كاشف 2 / 26.
(7) وقال ابن الاثير في النهاية: وقيل الخبث بسكون الباء، وهو خلاف طيب
الفعل من فجور وغيره.
والخبائث يريد بها الافعال المذمومة والخصال الرديئة.
يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " * ورواه
أبو داود وابن ماجة من حديث ثور بن يزيد به.
وقال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الاعمش عن عدي بن
ثابت قال قال سليمان بن صرد استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن
عنده جلوس فأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: " إني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد.
لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لست
بمجنون.
ورواه أيضا مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن الاعمش.
وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع.
عن ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأكل أحدكم بشماله ولا
يشرب بشمال فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " * وهذا على شرط
الصحيحين بهذا الاسناد وهو في الصحيح من غير هذا الوجه.
وروى الامام أحمد من حديث إسماعيل بن أبي حكيم عن عروة عن عائشة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أكل بشماله أكل معه الشيطان ومن
شرب بشماله شرب معه الشيطان " * وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر
أنبأنا شعبة عن أبي زياد الطحان سمعت أبا هريرة يقول عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه رأى رجلا يشرب قائما فقال له: " قه " قال: لم.
قال: " أيسرك أن يشرب معك الهر ".
قال: لا.
قال: " فإنه قد شرب معك من هو شر منه الشيطان " تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أيضا: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن رجل عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الذي يشرب وهو
قائم ما في بطنه لاستقاء " قال: وحدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الاعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزهري *
وقال الامام حدثنا موسى حدثنا ابن لهيعة عن ابن الزبير أنه سأل جابرا سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله حين
يدخل وحين يطعم قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء ههنا.
وان دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال أدركتم المبيت.
وان لم يذكر اسم الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء " ؟ قال نعم *
وقال البخاري حدثنا محمد حدثنا عبدة حدثنا محمد عن هشام بن عروة عن أبيه
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا طلع حاجب الشمس
فدعوا الصلاة حتى يبرز وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى يغيب ولا
تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فانها تطلع بين قرني الشيطان " (1)
أو (الشياطين) لا أدري أي ذلك قال هشام * ورواه مسلم والنسائي من حديث
هشام به * وقال البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن
دينار عن ابن عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى
__________
(1) بين قرني الشيطان: قيل المراد بقرنه أمته وشيعته وقيل: قرنه جانب رأسه.
هذا ظاهر الحديث.
ومعناه أن يدنو برأسه إلى الشمس في هذا الوقت ليكون الساجدون للشمس من
الكفار كالساجدين له.
حينئذ يمكن أن يلبس على المصلي صلاته.
فكرهت الصلاة في هذا الوقت لسياق المعنى كما كرهت في مأوى الشيطان.
المشرق فقال " ها إن الفتنة ههنا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن
الشيطان " * هكذا رواه البخاري منفردا به من هذا الوجه * وفي السنن أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى أن يجلس بين الشمس والظل.
وقال إنه مجلس الشيطان ".
وقد ذكروا في هذا معاني.
من أحسنها أنه لما كان الجلوس في مثل هذا الموضع فيه تشويه بالخلقة فيما
يرى كان يحبه الشيطان لان خلقته في نفسه مشوه وهذا مستقر في الاذهان.
ولهذا قال تعالى: (طلعها كأنه رؤس الشياطين) (1) الصحيح أنهم الشياطين لا
ضرب من الحيات كما زعمه من زعمه من المفسرين والله أعلم * فان النفوس
مغروز فيها قبح الشياطين وحسن خلق الملائكة وإن لم يشاؤا.
ولهذا قال تعالى (طلعها كأنه رؤس الشياطين)
وقال النسوة لما شاهدن جمال يوسف (حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك
كريم) (2).
وقال البخاري حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري حدثنا
ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
استجنح) أو (كان جنح الليل) فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا
ذهب ساعة من العشاء فحلوهم وأغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر
اسم الله وأوك (3) سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو
تعرض عليه شيئا ".
ورواه أحمد عن يحيى عن ابن جريج وعنده فإن الشيطان لا يفتح مغلقا.
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن قط (4) عن أبي الزبير عن جابر قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أغلقوا أبوابكم وخمروا آنيتكم وأوكوا
أسقيتكم وأطفؤا سرجكم فان الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ولا يكشف غطاء ولا
يحل وكاء وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله يعني الفأرة.
وقال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن أحدكم إذا
أراد أن يأتي أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني فإن
كان بينهما ولد لم يضره الشيطان ولم يسلط عليه ".
وحدثنا الاعمش عن سالم عن كريب عن ابن عباس مثله.
ورواه أيضا عن موسى بن إسماعيل عن همام عن منصور عن سالم عن كريب عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال
بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فرزقا ولدا لم يضره
الشيطان " * وقال البخاري حدثنا إسماعيل حدثنا أخي عن سليمان عن يحيى بن
سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد.
يضرب على كل عقدة مكانها " عليك ليل طويل فارقد " فان استيقظ فذكر الله
انحلت عقدة.
فإن توضأ إنحلت عقدة.
فإن صلى إنحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس
كسلان " هكذا رواه منفردا به من
__________
(1) سورة الصافات الآية 65.
(2) سورة يوسف الآية 31.
(3) أوك من الوكاء وهو كل ما شد رأسه من وعاء وغيرها.
(4) كذا في الاصول قط وليس الرواة من تسمى بهذا الاسم وفي المسند ج 3 /
301 ورد قطر.
هذا الوجه.
وقال البخاري حدثنا إبراهيم عن حمزة حدثني ابن أبي حازم عن يزيد يعني ابن
الهادي عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فاستنثر ثلاثا فإن
الشيطان يبيت على خيشومه) ورواه مسلم عن بشر بن الحكم عن الدراوردي.
والنسائي عن محمد بن زنبور عن عبد العزيز بن أبي حازم كلاهما عن يزيد بن
الهادي به.
وقال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن
عبد الله قال " ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليله ثم أصبح
قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه " أو قال (في أذنه).
ورواه مسلم عن عثمان واسحاق كلاهما عن جرير به.
وأخرجه البخاري أيضا والنسائي وابن ماجة من حديث منصور بن المعتمر به.
وقال البخاري حدثنا محمد بن يوسف أنبأنا الاوزاعي عن يحى ابن أبي كثير عن
أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نودي
بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضى
أقبل حتى يخطر بين الانسان وقلبه.
فيقول اذكر كذا وكذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا
صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو " هكذا رواه منفردا به من هذا الوجه.
وقال أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا جعفر يعني الاحمر عن عطاء بن السائب
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " راصوا الصفوف فإن الشيطان
يقوم في الخلل " (1) وقال أحمد حدثنا أبان حدثنا قتادة عن أنس بن مالك أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " راصوا الصفوف وقاربوا بينها وحاذوا
بين الاعناق فوالذي نفس محمد بيده إني لارى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه
الحذف " (2) * وقال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا يونس
عن حميد بن هلال عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " إذا مر بين يدي أحدكم شئ فليمنعه فإن أبى فليمنعه فإن أبى
فليقاتله فإنما هو شيطان " ورواه أيضا مسلم وأبو داود من حديث سليمان بن
المغيرة عن حميد بن هلال به * وقال الامام أحمد حدثنا
أبو أحمد حدثنا بشير بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن
يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني * ثم قال حدثني أبو سعيد
الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه
يقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال " لو رأيتموني وإبليس
فأهويت بيدي فما فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين
الابهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لاصبح مربوطا بسارية من سواري
المسجد بتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين
القبلة أحد فليفعل * وروى أبو داود منه فمن استطاع إلى آخره عن أحمد بن
أبي سريج عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن محمد بن الزبير به.
وقال البخاري حدثنا محمود حدثنا شبابة حدثنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه صلى صلاة فقال إن الشيطان عرض لي
فسد علي لقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه " فذكر الحديث * وقد رواه
__________
(1) مسند أحمد 3 / 154.
(2) مسند أحمد 3 / 260.
مسلم والنسائي من حديث شعبة به مطولا.
ولفظ البخاري عند تفسير قوله تعالى أخبارا عن سليمان عليه السلام أنه قال
(رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب) (1) من
حديث روح وغندر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " إن عفريتا (2) من الجن تفلت علي البارحة " أو كلمة نحوها
(3) ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري
المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان (رب اغفر لي
وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب) قال روح فرده خاسئا *
وروى مسلم من حديث أبي إدريس عن أبي الدرداء قال قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: " اعوذ بالله منك " ثم قال: " ألعنك بلعنة
الله ثلاثا " وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يارسول
الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت
يدك فقال: " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجمله (4) في وجهي فقلت:
" أعوذ بالله منك ".
ثلاث مرات.
ثم
قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثم أردت أخذه والله لولا دعوة
أخينا سليمان لاصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة ".
وقال تعالى (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (5) يعني
الشيطان وقال تعالى (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه
ليكونوا من أصحاب السعير) فالشيطان لا يألو الانسان خبالا جهده وطاقته في
جميع أحواله وحركاته وسكناته كما صنف الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابا
في ذلك سماه (مصائد الشيطان).
وفيه فوائد جمة.
وفي سنن أبي داود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقول في دعائه.
وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت.
وروينا في بعض الاخبار أنه قال (يا رب وعزك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت
أرواحهم في أجسادهم فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما
استغفروني) وقال الله تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله
يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) (6) فوعد الله هو الحق المصدق
ووعد الشيطان هو الباطل.
وقد روى الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم في تفسيره من
حديث عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " إن للشيطان للمة بابن آدم وللملك لمة.
فأما لمة الشيطان
__________
(1) سورة ص الآية 35.
(2) العفريت: العاتي المارد من الجن.
(3) عند مسلم.
يفتك علي: والفتك الاخذ في غفلة وخديعة.
(4) عند مسلم: ليجعله.
(5) سورة لقمان الآية 33.
(6) سورة البقرة الآية 268.
فأيعاد بالشر وتكذيب بالحق.
وأما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق.
فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله.
ومن وجد الاخرى فليتعوذ من الشيطان " (1) ثم قرأ (والشيطان يعدكم
الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم).
وقد ذكرنا في فضل سورة البقرة أن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه.
وذكرنا في فضل آية الكرسي أن من قرأها في ليلة لا يقربه الشيطان حتى يصبح.
وقال البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأنا ملك عن سمي عن أبي صالح عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال لا إله إلا الله
وحده لا شريك له.
له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب
وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه
ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك " (2).
وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث ملك.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال البخاري أنبأنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن أبي الزناد عن الاعرج عن
أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم يطعن الشيطان في
جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ".
تفرد به من هذا الوجه.
وقال البخاري حدثنا عاصم بن علي حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن
أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " التثاؤب من الشيطان
فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا قال (ها) ضحك الشيطان ".
ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه النسائي من حديث ابن أبي ذئب به *
وفي لفظ " إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع فان الشيطان يدخل ".
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد
المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إن الله يحب العطاس ويبغض أو يكره التثاؤب فإذا قال أحدكم هاها فإنما ذلك
الشيطان يضحك من جوفه.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به.
وقال البخاري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن أشعث عن أبيه عن
مسروق قال: قالت عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: عن التفات الرجل في
الصلاة فقال: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم ".
وكذا رواه أبو داود والنسائي من رواية أشعث بن أبي الشعثاء
سليم بن أسود المحاربي عن أبيه عن مسروق به.
وروى البخاري من حديث الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني عبد الله بن أبي
قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة
من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليبصق عن يساره
وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره ".
وقال الامام أحمد حدثنا
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة (2 ; 25).
(2) أخرجه البخاري في أكثر من موضع (إيمان: 42) ومسلم في الايمان (46)
والترمذي في الطهارة (41) وابن ماجة في المقدمة (9).
عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح فانه لا يدري
أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده فيقع في حفرة من النار ".
أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
وقال الله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما
للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير) (1) وقال (إنا زينا السماء الدنيا
بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد.
لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب.
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) (2) وقال تعالى (ولقد جعلنا في
السماء بروجا وزيناها للناظرين.
وحفظناها من كل شيطان رجيم.
إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) (3) وقال تعالى (وما تنزلت به
الشياطين.
وما ينبغي لهم وما يستطيعون انهم عن السمع لمعزولون) (4) وقال تعالى
إخبارا عن الجان (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا.
وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) (5).
وقال البخاري: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا
الاسود أخبره عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة
تحدث في العنان (والعنان الغمام) بالامر يكون في الارض فتسمع الشياطين
الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كلمة.
هكذا رواه في صفة إبليس معلقا عن الليث به.
ورواه في صفة الملائكة عن
سعيد بن أبي مريم عن الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد
الرحمن أبي الاسود عن عروة عن عائشة بنحوه * تفرد بهذين الطريقين دون مسلم
* وروى البخاري في موضع آخر ومسلم من حديث الزهري عن يحيى بن عروة بن
الزبير عن أبيه قال: " قالت عائشة سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم: عن
الكهان فقال " انهم ليسوا بشئ " * فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا
أحيانا بشئ فيكون حقا فقال صلى الله عليه وسلم: " تلك الكلمة من الحق (6)
يخطفها (7) من الجني فيقرقرها (8) في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون
معها مائة كذبة * هذا لفظ البخاري.
__________
(1) سورة الملك الآية 5.
(2) سورة الصافات الآية 6.
(3) سورة الحجر الآية 16.
(4) سورة الشعراء الآية 210.
(5) سورة الجن الآية 8.
(6) عند مسلم من الجن، يعني الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما
نقتله الجن.
(7) يخطفها: الخطف الاستراق والاخذ بسرعة.
(8) قرقرها: وعند مسلم " قرها ": قال أهل اللغة القر ترديد الكلام في إذن
المخاطب حتى يفهمه، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته.
يقال: قرت تقرقرا وقريرا وتقول إذا رددته: قرقرت قرقرة.
قال الخطابي وغيره: معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها
الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها رفيقاتها.
وقال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت
عكرمة يقول سمعت أبا هريرة يقول إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "
إذا قضى الله الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه
سلسلة على صفوان.
فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال: الحق وهو العلي
الكبير.
فيسمعها مسترق السمع.
ومسترق السمع هكذا بعضه فوق
بعض.
ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه.
فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها
على لسان الساحر أو الكاهن.
فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها
مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا.
فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء انفرد به البخاري * وروى مسلم من
حديث الزهري عن علي بن الحسين زين العابدين عن ابن عباس عن رجال من
الانصار عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.
وقال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين.
وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون.
حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) (1) وقال
تعالى (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) (2) الآية
وقال تعالى (وقال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد.
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد.
ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) (3) وقال تعالى (وكذلك جعلنا لكل
نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.
ولتصغي إليه افئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم
مقترفون) (4).
وقد قدمنا في صفة الملائكة ما رواه أحمد ومسلم من طريق منصور عن سالم بن
أبي الجعد عن أبيه واسمه رافع عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من
الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا
يأمرني إلا بخير.
وقال الامام أحمد حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه
واسمه حصين بن جندب وهو أبو ظبيان الجنبي عن ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين
قالوا وأنت يارسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه
__________
(1) سورة الزخرف الآية 36.
(2) سورة فصلت الآية 25.
(3) سورة ق الآية 27.
(4) سورة الانعام الآية 111.
فأسلم (1) * تفرد به أحمد وهو على شرط الصحيح.
وقال الامام أحمد حدثنا هارون حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني أبو صخر عن
يزيد بن قسيط حدثه أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خرج من عندها ليلا
قالت فغرت عليه قالت فجاء فرأى ما أصنع فقال: " مالك يا عائشة أغرت "
قالت: فقلت ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفأخذك شيطانك " قالت: يا رسول الله
أو معي شيطان.
قال: " نعم ".
قلت ومع كل إنسان.
قال: " نعم " قلت ومعك يا رسول الله ؟ قال: " نعم ولكن ربي أعانني عليه
حتى اسلم " * وهكذا رواه مسلم عن هارون وهو ابن سعيد الايلي بإسناده نحوه.
وقال الامام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن المؤمن لينصى شيطانه
كما ينصى أحدكم بعيره في السفر " تفرد به أحمد من هذا الوجه ومعنى لينصى
شيطانه ليأخذ بناصيته فيغلبه ويقهره كما يفعل بالبعير إذا شرد ثم غلبه ".
وقوله تعالى إخبارا عن إبليس (قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد
أكثرهم شاكرين) (2).
قال الامام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل هو عبد الله بن عقيل
الثقفي حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان قعد لابن آدم
بأطرقة فقعد له بطريق الاسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك.
قال فعصاه وأسلم قال وقعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر وتذر أرضك وسماءك
وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر.
ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال أتقاتل فتقتل فتنكح
المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
فمن فعل ذلك منهم كان حقا على الله أن يدخله الجنة.
وان قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة وان كان غرق كان
حقا على الله أن يدخله الجنة وان وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله
الجنة.
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري حدثني جبير بن
أبي سليمان بن جبير بن مطعم سمعت عبد الله بن عمر يقول لم يكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدع هذه الدعوات حين يصبح وحين يمسي " اللهم اني أسألك
العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي
وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن
خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي
__________
(1) فأسلم فيها روايتان برفع الميم وفتحها.
فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شره وفتنته، ومن فتح الميم اعتبر أن
القرين أسلم وصار مؤمنا.
قال الخطابي الصحيح الرفع ; ورجح القاضي عياض الفتح: على معنيين: بمعنى
انقاد واستسلم وقيل، وهو الظاهر، صار مسلما مؤمنا.
والله أعلم.
(2) سورة الاعراف الآية 16.
وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " قال وكيع يعني الخسف ورواه أبو
داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به (1).
وقال الحاكم صحيح الاسناد.
باب خلق آدم عليه السلام (2) قال الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني
جاعل في الارض خليفة.
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
قال إني أعلم ما لا تعلمون.
وعلم آدم الاسماء كلها.
ثم عرضهم على الملائكة.
فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
قال يا آدم أنبئهم باسمائهم فلما أنبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم إني
أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس.
أبى واستكبر وكان من الكافرين.
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.
وكلا منها رغدا حيث شئتما.
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.
فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه.
وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
ولكم
في الارض مستقر ومتاع إلى حين.
فتلقى آدم من ربه كلمات.
فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.
قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى.
فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (3) وقال
تعالى (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)
(4) وقال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق
منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء
__________
(1) في المسند: ج 2 / 25 عمارة بن مسلم وهو تحريف.
وعبادة أبويحيى البصري ثقة اضطرب فيه قول ابن حبان / الكاشف ج 2 / 57
تقريب التهذيب 1 / 395.
(2) ذكر اسم آدم في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة في خمس وعشرين آية في
تسع سور: في: البقرة 31، 33، 34، 35، 36.
آل عمران 33، 59.
المائدة 27.
الاعراف 11، 19، 26، 27، 31، 35، 172.
الاسراء 61، 70.
الكهف 50.
مريم 58.
طه 115، 116، 117، 120، 121.
يس 60.
(3) سورة البقرة الآية 30.
(4) سورة آل عمران الآية 59.
واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام.
إن الله كان عليكم رقيبا) [ النساء: 1 ] كما قال (يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.
أن أكرمكم عند الله أتقاكم
ان الله عليم خبير) [ الحجرات: 13 ].
وقال تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) [
الاعراف: 189 ] الآية وقال تعالى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين.
قال فاهبط منها.
فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين.
قال انظرني إلى يوم يبعثون.
قال انك من المنظرين.
قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد
أكثرهم شاكرين.
قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين.
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة
فتكونا من الظالمين.
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما
ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين.
فدلاهما بغرور.
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخسفان عليهما من ورق الجنة.
وناداهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما ان الشيطان لكما عدو
مبين.
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا.
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين.
قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) [ الاعراف: 11 ].
كما قال في الآية الاخرى (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة
أخرى) [ طه: 55 ].
وقال تعالى (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون.
والجان خلقناه من قبل من نار السموم.
واذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
الا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين.
قال يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين.
قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون.
قال فاخرج منها فانك رجيم.
وان عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين.
الا عبادك منهم
المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم.
ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين.
وان جهنم لموعدهم أجمعين.
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) [ الحجر: 26 ] وقال تعالى (وإذ
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس.
قال أأسجد لمن خلقت طينا.
قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته
إلا قليلا.
قال اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا.
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال
والاولاد وعدهم وما يعدهم
الشيطان الا غرورا.
ان عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) [ الكهف: 50 ] وقال تعالى
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.
فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [
الاسراء: 61 ].
وقال تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما.
واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى.
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.
ان لك ان لا تجوع فيها ولا تعرى.
وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى.
فوسوس إليه الشيطان.
قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وعصى آدم ربه فغوى.
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو.
فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا.
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [ طه: 115 ].
وقال تعالى (قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون.
ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي الا أنما أنا نذير
مبين.
إذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين.
قال
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
قال فاخرج منها فانك رجيم.
وان عليك لعنتي إلى يوم الدين.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.
قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين.
ان هو الا ذكر للعالمين.
ولتعلمن نبأه بعد حين) [ ص: 68 ].
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن * وقد تكلمنا على ذلك كله
في التفسير * ولنذكر ههنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات وما
يتعلق بها من الاحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم *
والله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم (اني جاعل في الارض خليفة) (1)
أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا كما قال (وهو
الذي جعلكم خلائف الارض) [ الانعام: 165 ] فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه
بخلق آدم وذريته كما يخبر بالامر العظيم قبل كونه فقالت الملائكة سائلين
على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على
__________
(1) سورة البقرة الآية 30 ومعنى الخلافة: انه أي آدم سيكون له سلطان عليها
متصرفا في موادها ليجعلها ملائمة لحاجاته.
وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم كما قد يتوهمه بعض
جهلة المفسرين (1) * قالوا (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (2)
قيل علموا ان ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن قاله قتادة.
وقال عبد الله بن عمر كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء فبعث
الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور * وعن ابن عباس
نحوه.
وعن الحسن ألهموا ذلك * وقيل لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ فقيل
أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له الشجل.
رواه بن أبي حاتم عن ابي جعفر الباقر * وقيل لانهم علموا أن الارض لا يخلق
منها إلا
من يكون بهذه المثابة غالبا (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (3) أي نعبدك
دائما لا يعصيك منا أحد * فان كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا
نفتر ليلا ولا نهارا (قال إني اعلم ما لا تعلمون) (4) أي أعلم من المصلحة
الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون أي سيوجد منهم الانبياء والمرسلون
والصديقون والشهداء ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال (وعلم آدم
الاسماء كلها) (5) * قال ابن عباس هي هذه الاسماء التي يتعارف بها الناس
إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وجمل وحمار وأشباه ذلك من الامم وغيرها *
وفي رواية علمه اسم الصحفة والقدر حتى الفسوة والفسية * وقال مجاهد علمه
اسم كل دابة وكل طير وكل شئ.
__________
(1) إن تساؤل الملائكة بعد أن آدهم أن يخلق الله خلقا غيرهم، مرده إلى
خوفهم من أن يكون ذلك لتقصير وقع منهم، أو لمخالفة كانت من أحدهم، فأسرعوا
بتساؤلهم لتبرئة أنفسهم وقالوا كيف تخلق غيرنا ؟ ونحن دائبون على التسبيح
بحمدك وتقديس اسمك ؟ (2) سورة البقرة الآية 30 قالوا ذلك رغبة منهم فيما
يزيل شبهتهم وينزع الوساوس من صدورهم، وامتد رجاؤهم إلى الله أن يستخلفهم
في الارض يقول صاحب الظلال: ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من
شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الارض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف
لهم عن شئ من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الارض، وما
يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الارض، وانه سيسفك الدماء، ثم هم -
بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق - يرون التسبيح
بحمد الله والتقديس له..وهو متحقق بوجودهم هم.
(3) سورة البقرة جزء من الآية 30.
(4) سورة البقرة جزء من الآية 30 وفيه جواب على تساؤلهم ورجائهم، وجواب
اطمأنت به قلوبهم وثلجت به صدورهم.
(5) سورة البقرة الآية 31 قال النجار في قصص الانبياء ص 6: "..وأن آدم سمى
كل شئ باسمه، وهذه مبالغة غير مقبولة لا أميل إليها، بل أميل إلى أنه سمى
الاشياء التي وقع عليها حسه ومنها الطيور والبهائم والطيور وكل أنواع
الحيوان الموجودة هناك ".
وقال صاحب الظلال: أعطاه سر القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات وهي قدرة
ذات قيمة كبرى في حياة الانسان على الارض ص 1 / 57.
وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد * وقال الربيع علمه
أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته والصحيح أنه
علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصعرها كما أشار إليه ابن عباس رضي
الله عنهما * وذكر البخاري هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن
قتادة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجتمع
المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون
أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك اسماء كل شئ " وذكر
تمام الحديث * (ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم
صادقين) قال الحسن البصري: " لما أراد الله خلق آدم قالت الملائكة لا يخلق
ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه فابتلوا بهذا " وذلك قوله (ان كنتم صادقين)
وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير قالوا (سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا انك أنت العليم الحكيم) أي سبحانك أن يحيط أحد بشئ من علمك من غير
تعليمك كما قال (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) (قال يا آدم أنبئهم
باسمائهم فلما أنبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات
والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) أي أعلم السر كما أعلم العلانية *
وقيل إن المراد بقوله واعلم ما تبدون ما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها
وبقوله وما كنتم تكتمون المراد بهذا الكلام ابليس حين أسر الكبر والتخيرة
على آدم عليه السلام قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري
واختاره ابن جرير * وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة (وما كنتم
تكتمون) قولهم لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه * قوله
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس أبى واستكبر) (1) هذا
إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه كما قال
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (2) فهذه أربع تشريفات:
خلقه له بيده الكريمة، ونفخه فيه من روحه، وأمره الملائكة بالسجود له،
وتعليمه أسماء الاشياء ولهذا قال
له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملا الاعلى وتناظرا كما سيأتي
(أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك
ملائكته وعلمك أسماء كل شئ.
وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله تعالى
وقال في الآية الاخرى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ان لا تسجد إذ
أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (3) قال
__________
(1) سورة البقرة الآية 34.
(2) سورة الحجر الآية 29.
قال صاحب الظلال: إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في
الارض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الاسرار ما يرفعه على الملائكة.
لقد وهب سر المعرفة، كما وهب سر الارادة المستقلة التي تختار الطريق..إن
ازدواج طبيعته، وقدرته على تحكيم ارادته، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى
الله.
إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.
(3) سورة الاعراف الآية 11.
الحسن البصري قاس إبليس وهو أول من قاس * وقال محمد بن سيرين أول
من قاس إبليس وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس * رواهما ابن جرير
ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم فرأى نفسه أشرف من
آدم فامتنع من السجود له مع وجود الامر له ولسائر الملائكة بالسجود.
والقياس إذا كان مقابلا بالنص كان فاسد الاعتبار * ثم هو فاسد في نفسه فإن
الطين أنفع وخير من النار فإن الطين فيه الرزانة والحلم والاناة والنمو،
والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والاحراق (1) * ثم آدم شرفه الله بخلقه
له بيده ونفخه فيه من روحه * ولهذا أمر الملائكة بالسجود له * كما قال (إذ
قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت
فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس مالك أن لا تكون مع
الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر
خلقته من صلصال من حمأ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وان عليك
اللعنة إلى يوم الدين) (2) استحق هذا من الله تعالى لانه استلزم تنقصه
لآدم وازدراؤه به وترفعه عليه مخالفة الامر الآلهي، ومعاندة الحق في النص
على آدم على التعيين وشرع في الاعتذار بما لا يجدي عنه شيئا - وكان
اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى في سورة سبحان (واذ قلنا للملائكة
اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا
الذي كرمت علي لئن اخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته الا قليلا * قال
اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم
بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما
يعدهم الشيطان الا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا)
(3) وقال في سورة الكهف (واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس
كان من الجن ففسق عن أمر ربه) (4) أي خرج عن طاعة الله عمدا وعنادا
واستكبارا عن امتثال أمره وما ذاك إلا لانه خانه طبعه ومادته الخبيثة أحوج
ما كان إليها فانه مخلوق من نار كما قال وكما قدرنا في صحيح مسلم عن عائشة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الملائكة من نور وخلقت الجان
من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم.
__________
(1) قال القرطبي في أحكامه 7 / 171: فإن الطين أفضل من النار من وجوه
أربعة: - إن من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناه والحلم
والحياء والصبر ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع والاضطراب.
- إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة
نارا.
- إن النار سبب العذاب.
- إن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
(2) سورة الحجر الآيات 28 - 35.
(3) سورة الاسراء الآيات 61 - 65.
(4) سورة الكهف الآية 50.
قال الحسن البصري.
لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط.
وقال شهر بن حوشب.
كان من الجن فلما أفسدوا في الارض بعث الله إليهم جندا من الملائكة
فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى
السماء فكان هناك (1).
فلما أمرت اللملائكة بالسجود امتنع إبليس منه.
وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرون: كان
إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا.
قال ابن عباس وكان اسمه عزازيل (2).
وفي رواية عن الحارث قال النقاش وكنيته (أبو كردوس) قال ابن عباس: وكان من
حي من الملائكة يقال لهم الجن وكانوا خزان الجنان وكان من أشرفهم وأكثرهم
علما وعبادة وكان من أولي الاجنحة الاربعة فمسخه الله شيطانا رجيما.
وقال في سورة ص - (إذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين.
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فانك رجيم.
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين.
إلى يوم الوقت المعلوم.
قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين.
إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لاملئن جهنم منك وممن تبعك
منهم أجعين) (3) وقال في سورة الاعراف (قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك
المستقيم.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد
أكثرهم شاكرين) (4) أي بسبب اغوائك إياي لاقعدن لهم كل مرصد ولآتينهم من
كل جهة منهم فالسعيد من خالفه والشقي من اتبعه.
وقال الامام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل (هو عبد الله بن
عقيل الثقفي) حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي
الفاكه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: " ان الشيطان يقعد
لابن آدم بأطراقه " وذكر الحديث كما قدمناه في صفة إبليس.
وقد اختلف المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدم.
أهم جميع الملائكة كما دل عليه عموم الآيات وهو قول الجمهور.
أو المراد بهم ملائكة الارض.
كما رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وفيه انقطاع.
وفي السياق نكارة وان كان بعض المتأخرين قد رجحه
__________
(1) جاء في القرطبي 1 / 295: قال المهدوي: إن إبليس هو الذي قاتل الجن في
الارض مع جند من الملائكة.
وعن ابن عباس: انه كان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان
الارض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما وكان يسوس ما بين
السماء والارض فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة.
(2) كان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحارث.
(3) سورة ص الآيات 71 - 85.
(4) سورة الاعراف الآية 16.
ولكن الاظهر من السياقات الاول ويدل عليه الحديث وأسجد له
ملائكته وهذا عموم أيضا والله أعلم (1).
وقوله تعالى لابليس (اهبط منها) و (اخرج منها) دليل على أنه كان في السماء
فأمر بالهبوط منها والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته
وتشبهه بالملائكة في الطاعة والعبادة ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته
لربه فأهبط إلى الارض مذؤما مدحورا.
وأمر الله آدم عليه السلام أن يسكن هو وزوجته الجنة فقال (وقلنا يا آدم
أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة
فتكونا من الظالمين) (2).
وقال في الاعراف (قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لاملئن جهنم
منكم أجمعين.
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه
الشجرة فتكونا من الظالمين) (3) وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا
لادم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم ان هذا عدو لك ولزوجك فلا
يخرجنكما من الجنة فتشقى.
ان لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (4) وسياق
هذه الآيات يقتضي أن خلق حواء كان قبل دخول آدم الجنة لقوله (ويا آدم اسكن
أنت وزوجك الجنة) وهذا قد صرح به اسحاق ابن بشار وهو ظاهر هذه الآيات.
ولكن حكى السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود
وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا اخرج ابليس من الجنة واسكن آدم الجنة فكان
يمشي فيها وحشى ليس له فيها زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه
امرأة قاعدة.
خلقها الله من ضلعه.
فسألها من أنت قالت: امرأة.
قال: ولما خلقت ؟ قالت: لتسكن إلي ققالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من
علمه (ما اسمها يا آدم) قال: حواء قالوا: ولم كانت حواء ؟ قال لانها خلقت
من شئ حي.
وذكر محمد بن إسحاق عن ابن عباس أنها خلقت من ضلعه الاقصر الايسر وهو نائم
ولام مكانه لحما ومصداق هذا في قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (5)
الآية وفي قوله تعالى (هو الذي خلقكم من
__________
(1) قال الفخر الرازي في تفسيره ج 1 / 238: قال الاكثرون ان جميع الملائكة
مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين: إن لفظ الملائكة صيغة الجمع
وهي تفيد العموم.
الوجه الثاني: هو انه تعالى استثنى إبليس منهم.
ومنهم من قال أن ملائكة الارض.
أما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا يستحيل
أن تكون الارواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة
المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة.
(2) سورة البقرة الآية 35.
(3) سورة الاعراف الآية 118.
(4) سورة طه الآيات 117 - 119.
(5) سورة النساء الآية 1.
نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا
خفيفا فمرت به) (1) الآية وسنتكلم عليها فيما بعد ان شاء الله تعالى.
وفي الصحيحين من حديث زائدة عن ميسرة الاشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استوصوا بالنساء خيرا - فان المرأة
خلقت من ضلع وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته
لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا " لفظ البخاري.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى (ولا تقربا هذه الشجرة) فقيل هي الكرم
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس
والسدي في رواية عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال وتزعم يهود
أنها الحنطة.
وهذا مروي عن ابن عباس والحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبي مالك
ومحارب بن دثار و عبد الرحمن بن أبي ليلى * قال وهب والحبة منه ألين من
الزبد وأحلى من العسل * وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي مالك ولا تقربا
هذه الشجرة هي النخلة * وقال ابن جريج عن مجاهد هي التينة وبه قال قتادة
وابن حريج وقال أبو العالية (2) كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي في
الجنة حدث.
وهذا الخلاف قريب * وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها * ولو كان في ذكرها
مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن.
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي دخلها آدم هل هي في السماء
أو في الارض هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه والجمهور على أنها هي
التي في السماء وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والاحاديث كقوله تعالى (وقلنا
يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) والالف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي
وإنما تعود على معهود ذهني وهو المستقر شرعا من جنة المأوى وكقول موسى
عليه السلام لآدم عليه السلام (علام أخرجتنا ونفسك من الجنة) الحديث كما
سيأتي الكلام عليه * وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الاشجعي واسمه
سعد بن طارق عن أبي حازم سلمة بن دينار عن أبي هريرة * وأبو مالك عن ربعي
عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله الناس فيقوم
المؤمن حين تزلف (3) لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا
الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم " وذكر الحديث بطوله *
وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة
__________
(1) سورة الاعراف الآية 189.
(2) في تفسير الرازي: قاله الربيع بن أنس.
قال صاحب الظلال: لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة..إلا شجرة..شجرة واحدة،
ربما كانت ترمز للمحظور الذي لابد منه في حياة الارض.
فبغير محظور لا تنبت الارادة.
1 / 58.
(3) عند مسلم (1) كتاب الايمان 329 (195) ص 1 / 187: حتى تزلف: أي تقرب
كما قال تعالى: وأزلفت الجنة للمتقين: أي قربت.
في الدلالة على أنها جنة المأوى وليست تخلو عن نظر.
وقال آخرون بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد لانه كلف فيها أن
لا يأكل من تلك الشجرة ولانه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها
وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى.
وهذا القول محكي عن أبي بن كعب و عبد الله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن
عيينة واختاره ابن قتيبة في " المعارف " والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في
تفسيره وأفرد له مصنفا على حدة.
وحكاه عن أبي حنيفة الامام وأصحابه رحمهم الله.
ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي بن خطيب الري في تفسيره عن أبي
القاسم البلخي وأبي مسلم الاصبهاني (1).
ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة والقدرية * وهذا القول هو نص التوراة
التي بأيدي أهل الكتاب * وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم
في الملل والنحل وأبو محمد بن عطية في تفسيره وأبو عيسى الرماني في تفسيره.
وحكى عن الجمهور الاول.
وأبو القاسم الراغب والقاضي الماوردي في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي
أسكناها يعني آدم وحواء على قولين * أحدهما أنها جنة الخلد * الثاني جنة
أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء.
ومن قال بهذا اختلفوا على قولين * أحدهما انها في السماء لانه أهبطهما
منها وهذا قول الحسن * والثاني أنها في الارض لانه متحنهما فيها بالنهي عن
الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار.
وهكذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم والله أعلم
بالصواب من ذلك.
هذا كلامه.
فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة واشعر كلامه أنه متوقف في المسألة.
ولقد
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال هذه
الثلاثة التي أوردها الماوردي.
ورابعها الوقف * وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي
الجبائي (2).
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا لا شك أن
الله سبحانه وتعالى طرد
__________
(1) في تفسير الفخر الرازي: قال أبو مسلم الاصفهاني وأبو القاسم البلخي:
هذه الجنة كانت في الارض.
وحملا الاهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة.
واحتجا عليه بوجوه..- لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد.
- من دخل هذه الجنة لا يخرج منها.
- إن إبليس لما امتنع عن السجود لآدم لعن فما كان يقدر على أن يصل إلى جنة
الخلد.
- إن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها.
انه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم فيها.
- لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم في الارض ولم يذكر..انه نقله إلى
السماء.
ج 3 / 3.
(2) قال الجبائي: ان تلك الجنة كانت في السماء السابعة وأن الاهباط الاول
كان منها إلى السماء الاولى والثاني من السماء إلى الارض.
تفسير الفخر الرازي ج 3 / 3.
إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الالهية وأمره بالخروج عنها
والهبوط منها وهذا الامر ليس من الاوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته وإنما
هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ولهذا قال (اخرج منها مذءوما مدحورا) (1)
وقال (اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) (2) وقال (اخرج منها فانك
رجيم) (3) والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة وأياما كان فمعلوم
أنه ليس له الكون قدرا في المكان الذي طرد عنه وأبعد منه لا على سبيل
الاستقرار ولا على سبيل المرور والاجتياز * قالوا ومعلوم من ظاهر سياقات
القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا
يبلى) (4) وبقوله (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين.
أو تكونا من الخالدين.
وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين.
فدلاهما بغرور) (5) الآية وهذا ظاهر في
اجتماعه معهما في جنتهما.
وقد اجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور
فيها لا على سبيل الاستقرار بها أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة أو من
تحت السماء.
وفي الثلاثة نظر.
والله أعلم.
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة ما رواه عبد الله بن الامام أحمد في
الزيادات عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن البصري عن
يحيى بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب قال: أن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من
عنب الجنة.
فانطلق بنوه ليطلبوه له.
فلقيتهم الملائكة فقالوا أين تريدون يا بني آدم فقالوا إن أبانا اشتهى
قطفا من عنب الجنة.
فقالوا لهم (ارجعوا فقد كفيتموه) فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه
وكفنوه وصلى عليه جبريل ومن خلفه من الملائكة ودفنوه.
وقالوا.
(هذه سنتكم في موتاكم) وسيأتي الحديث بسنده.
وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام.
قالوا فلولا انه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها
القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك فدل على أنها في الارض لا في السماء
والله تعالى أعلم.
قالوا: والاحتجاج بأن الالف واللام في قوله ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة
لم يتقدم عهد يعود عليه فهو المعهود الذهني مسلم ولكن هو ما دل عليه سياق
الكلام فإن آدم خلق من الارض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء وخلق ليكون في
الارض وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال (اني جاعل في الارض خليفة).
__________
(1) سورة الاعراف الآية 18.
(2) سورة الاعراف الآية 13.
(3) سورة الحجر الآية 34.
(4) سورة طه الآية 120.
(5) سورة الاعراف الآية 20.
قالوا: وهذا كقوله تعالى (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة)
(1) فالالف واللام ليس للعموم ولم يتقدم معهود لفظي وإنما هي للمعهود
الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان.
قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء قال الله تعالى: (قيل يا
نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) (2) الآية وإنما كان في
السفينة حين استقر على الجودي ونضب الماء عن وجه الارض أمر أن يهبط إليها
هو ومن معه مباركا عليه وعليهم.
وقال الله تعالى (اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم) (3) الآية وقال تعالى
(وإن منها لما يهبط من خشية الله) (4) الآية.
وفي الاحاديث واللغة من هذا كثير.
قالوا: ولا مانع بل هو الواقع أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن
سائر بقاع الارض ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور كما قال تعالى
(إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى) (5) أي لا يذل باطنك بالجوع ولا ظاهرك
بالعرى.
(وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (6) أي لا يمس باطنك حر الظمأ ولا ظاهرك حر
الشمس.
ولهذا قرن بين هذا وهذا وبين هذا وهذا لما بينهما من الملايمة.
فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهي عنها اهبط إلى أرض الشقاء
والتعب والنصب والكدر والسعي والنكد والابتلاء والاختبار والامتحان
واختلاف السكان دينا واخلاقا واعمالا وقصودا وإرادات وأقوالا وأفعالا كما
قال تعالى (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) (7) ولا يلزم من هذا أنهم
كانوا في السماء كما قال تعالى (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض
فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) (6) ومعلوم انه كانوا فيها لم يكونوا
في السماء.
قالوا: وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ولا
تلازم بينهما فكل من حكي عنه هذا القول من السلف واكثر الخلف ممن يثبت
وجود الجنة والنار اليوم كما دلت عليه الآيات والاحاديث الصحاح كما سيأتي
إيرادها في موضعها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
(1) سورة القلم الآية 17.
(2) سورة هود الآية 48.
(3) سورة البقرة الآية 61.
(4) سورة البقرة الآية 74.
(5) سورة طه الآية 118.
(6) سورة طه الآية 119.
(7) سورة البقرة الآية 36.
(8) سوره الاسراء الآية 104.
وقوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها) أي عن (1) الجنة (فأخرجهما
مما كانا فيه) أي من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والنكد
وذلك بما وسوس لهما وزينه في صدورهما كما قال تعالى (فوسوس لهما الشيطان
ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من
الخالدين) (2) يقول ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو
تكونا من الخالدين أي ولو أكلتما منها لصرتما كذلك (وقاسمهما) أي حلف لهما
على ذلك (إني لكما لمن الناصحين) كما قال في الآية الاخرى (فوسوس إليه
الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) أي هل أدلك على
الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم واستمررت
في ملك لا يبيد ولا ينقضي وهذا من التغرير والتزوير والاخبار بخلاف الواقع.
والمقصود أن قوله شجرة الخلد التي إذا أكلت منها خلدت وقد تكون هي الشجرة
التي قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن أبي الضحاك
سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة
شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها شجرة الخلد " * وكذا رواه
أيضا عن غندر وحجاج عن شعبة، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة
أيضا به وقال غندر قلت لشعبة هي شجرة الخلد قال ليس فيها هي.
تفرد به الامام أحمد * وقوله (فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما
سوآتهما وطفقا
يخصفان عليهما من ورقة الجنة) (3) كما قال في " طه " (أكلا منها فبدت لهما
سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) (4) وكانت حواء أكلت من الشجرة
قبل آدم وهي التي حدته على أكلها والله أعلم.
وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري حدثنا بشر بن محمد حدثنا عبد الله
أنبأنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
نحوه لولا بنو اسرائيل لم يخنز (5) اللحم ولولا حواء لم تخن
__________
(1) قال القرطبي: أزلهما من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما واوقعهما فيها.
(على اعتبار لفظة عن في هذه الآية بمعنى في قال صاحب الكشاف).
قال ابن كيسان: فازالهما من الزوال: أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة
إلى المعصية.
ج 1 / 311 وقال القفال: هو من الزلل يكون الانسان ثابت القدم على الشئ
فينزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع.
التفسير الكبير 3 / 6.
(2) سورة الاعراف الآية 20.
(3) سورة الاعراف الآية 22.
(4) سورة طه الآية 121 جاء في تفسير القرطبي ج 7 / 180: أكلت حواء أولا
فلم يصبها شئ، فلما أكل آدم حلت العقوبة.
(5) يخنز: ينتن.
أنثى زوجها.
تفرد به من هذا الوجه وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن
همام عن أبي هريرة به ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف عن أبي وهب عن
عمرو بن حارث عن أبي يونس عن أبي هريرة به * وفي كتاب التوارة التي بين
أيدي أهل الكتاب أن الذي دل حواء على الاكل من الشجرة هي الحية وكانت من
أحسن الاشكال وأعظمها فأكلت حواء عن قولها وأطعمت آدم عليه السلام وليس
فيها ذكر لابليس فعند ذلك انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فوصلا من
ورق التين وعملا ميازر وفيها أنهما كان عريانين * وكذا قال وهب بن منبه
كان لباسهما
نورا على فرجه وفرجها.
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم وتحريف وخطأ في التعريب
فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكاد يتيسر لكل أحد ولا سيما ممن لا
يعرف كلام العرب جيدا ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضا فلهذا وقع في تعريبهم
لها خطأ كثير لفظا ومعنى * وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس
في قوله (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما) فهذا لا يرد لغيره من
الكلام والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن بن اسكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد
بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " ان الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق
فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر إلى عورته
جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن عزوجل يا آدم
مني تفر فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا ولكن استحياء * وقال الثوري عن
أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وطفقا يخصفان
عليهما من ورق الجنة) وورق التين (1) * وهذا إسناد صحيح إليه وكأنه مأخوذ
من أهل الكتاب وظاهر الآية يقتضي أعم من ذلك وبتقدير تسليمه فلا يضر والله
تعالى أعلم.
وروى الحافظ بن عساكر من طريق محمد بن اسحاق عن الحسن بن ذكوان عن الحسن
البصري عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان أباكم
آدم كان كالنخلة السحوق ستين ذراعا كثيرا لشعر مواري العورة فلما أصاب
الخطيئة في الجنة بدت له سوأته فخرج من الجنة فلقيته شجرة فأخذت بناصيته
فناداه ربه أفرارا مني يا آدم قال: بل حياء منك والله يا رب مما جئت به "
* ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن يحيى بن ضمرة
عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وهذا أصح فان الحسن لم يدرك أبيا * ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان
الاطرابلسى عن محمد بن عبد الوهاب أبي قرصافة العسقلاني عن آدم بن أبي
__________
(1) جاء في تفسير القرطبي ج 7 / 181 قال: ويروى أن آدم عليه السلام لما
بدت سوأته وظهرت عورته طاف على
أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته
شجرة التين فأعطته ورقة.
أياس عن شيبان عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه * (وناداهما ربهما
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (1) وهذا
اعتراف ورجوع إلى الانابة وتذلل وخضوع واستكانة وافتقار إليه تعالى في
الساعة الراهنة وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير
في دنياه وأخراه (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع
إلى حين) (2) وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس قيل والحية معهم أمروا أن
يهبطوا من الجنة في حال كونهم متعادين متحاربين * وقد يستشهد لذكر الحية
معهما بما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر يقتل
الحيات وقال ما سالمناهن منذ حاربناهن وقوله في سورة طة (قال اهبطا منها
جميعا بعضكم لبعض عدو) (3) هو أمر لآدم وإبليس واستتبع آدم حواء وإبليس
الحية * وقيل هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى (وداود وسليمان
إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) (4)
والصحيح ان هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين أثنين مدع ومدعى عليه قال
وكنا لحكمهم شاهدين وأما تكريره الاهباط في سورة البقرة في قوله (وقلنا
اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون.
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (5) فقال
بعض المفسرين (6) المراد بالاهباط الاول الهبوط من الجنة إلى السماء
الدنيا وبالثاني من السماء الدنيا إلى الارض.
وهذا ضعيف لقوله في الاول (قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم في
الارض مستقر ومتاع إلى حين) فدل على أنهم أهبطوا إلى الارض بالاهباط الاول
والله أعلم.
والصحيح أنه كرره لفظا وإن كان واحدا وناط مع كل مرة حكما فناط بالاول
عداوتهم فيما بينهم وبالثاني الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله
عليهم بعد ذلك فهو السعيد ومن خالفه
__________
(1) سورة الاعراف الآيات 22 - 23.
(2) سورة الاعراف الآية 24.
(3) سورة طه الآية 123.
قال الرازي في اهبطا وجوه: - قال أبو مسلم الخطاب: لآدم ومعه ذريته
ولابليس ومعه ذريته فلكونهما جنسين صح قوله اهبطا.
ولاجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله (فإما يأتينكم).
- قال صاحب الكشاف: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلا للبشر جعلا
كأنهما البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم (اهبطا).
ج 22 / 129.
(4) سورة الانبياء الآية 78.
(5) سورة البقرة الآيات 36 - 39.
(6) أبو علي الجبائي، كما تقدم عند الرازي.
فهو الشقي وهذا الاسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروى الحافظ بن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من
جواره فنزع جبريل الناج عن رأسه وحل ميكائيل الاكليل عن جبينه وتعلق به
غصن فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة فنكس رأسه يقول العفو العفو فقال الله
فرارا مني قال بل حياء منك يا سيدي وقال الاوزاعي عن حسان هو بن عطية مكث
آدم في الجنة مائة عام وفي رواية ستين عاما وبكى على الجنة سبعين عاما
وعلى خطيئته سبعين عاما وعلى ولده حين قتل أربعين عاما * رواه بن عساكر.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
سعيد عن ابن عباس قال أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال له دحنا بين مكة
والطائف * وعن الحسن قال اهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بدستميسان من
البصرة على أميال واهبطت الحية بأصبهان رواه ابن أبي حاتم أيضا * وقال
السدي نزل آدم بالهند ونزل معه بالحجر الاسود وبقبضة من ورق الجنة فبثه في
الهند فنبتت شجرة الطيب هناك (1) * وعن ابن عمر قال اهبط آدم بالصفا وحواء
بالمروة.
رواه ابن أبي حاتم أيضا وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن
زهير عن أبي موسى الاشعري قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الارض
علمه صنعة كل شئ وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن
هذه تتغير وتلك لا تتغير * وقال الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو بكر بن
بالوية عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمر عن زائدة عن عمار بن
أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما اسكن آدم الجنة إلا
ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي صحيح مسلم من حديث الزهري عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم
وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها " وفي الصحيح من وجه آخر " وفيه تقوم
الساعة " وقال أحمد حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الاوزاعي عن أبي عمار عن عبد
الله بن فروخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير يوم
طلعت فيه الشمس
__________
(1) قال القرطبي ج 1 / 319: اهبط آدم بسرنديب في الهند بجنبل يقال له بوذ
/ وفي المسعودي ومعجم البلدان: الراهون / ومعه الورق الذي خصفه من ورق
الجنة فيبس فذرته الرياح فانتثر في بلاد الهند.
واهبط إبليس ببيسان / بلدة بمرو وبالشام وموضع باليمامة.
وفي المسعودي بالابلة (قرب البصرة من جانبها البحري) والحية وببيسان وقيل
بسجستان (إحدى مدن خراسان) وفي المسعودي: بأصبهان راجع مروج الذهب ج 1 /
29.
يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه
تقوم الساعة " على شرط مسلم (1).
فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي حدثنا محمد بن
جعفر الوركاني حدثنا سعيد بن ميسرة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " هبط آدم وحواء عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصابه الحر
حتى قعد يبكي يقول لها يا حواء قد أذاني الحر قال فجاءه جبريل
بقطن وأمرها أن تغزل وعلمها وأمر آدم بالحياكة وعلمه أن ينسج وقال كان آدم
لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من
الشجرة قال وكان كل واحد منهما ينام على حدة ينام أحدهما في البطحاء
والآخر من ناحية أخرى حتى أتاه جبريل فأمره أن يأتي أهله قال وعلمه كيف
يأتيها فلما أتاها جاءه جبريل فقال كيف وجدت امرأتك قال صالحة " فإنه حديث
غريب ورفعه منكر جدا * وقد يكون من كلام بعض السلف وسعيد بن ميسرة هذا هو
أبوعمران البكري البصري.
قال فيه البخاري منكر الحديث.
وقال بن حبان يروي الموضوعات وقال بن عدي مظلم الامر وقوله (فتلقى آدم من
ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) (2) قيل هي قوله (ربنا ظلمنا
أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (3) * روي هذا عن
مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن
كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراساني و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " قال آدم عليه السلام أرأيت يا رب إن تبت ورجعت
أعائدي إلى الجنة، قال: نعم " فذلك قوله.
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الكلمات (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك
وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين.
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير
الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك
أنت التواب الرحيم) * وروى الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن جبير عن ابن
عباس (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه * قال قال آدم يا رب ألم تخلقني
بيدك.
قيل له بلى.
ونفخت في من روحك قيل له بلى وعطست فقلت يرحمك الله وسبقت رحتمك غضبك قيل
له بلى وكتبت علي أن أعمل هذا - قيل له بلى.
قال أفرأيت إن تبت هل أنت
__________
(1) في مروج الذهب 1 / 29: اسكنا الجنة لثلاث ساعات مضت منه (أي يوم خلقت
حواء من آدم) فمكثا ثلاث
ساعات وهو ربع يوم بمائتي سنة وخمسين سنة من أعوام الدنيا.
(2) سورة البقرة الآية 37.
(3) سورة الاعراف الآية 23.
راجعي إلى الجنة.
قال نعم * ثم قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه * وروى الحاكم أيضا
والبيهقي وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن
عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما اقترف آدم
الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد أن غفرت لي فقال الله فكيف عرفت محمدا
ولم أخلقه بعد ؟ فقال: يا رب لانك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت
رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت
أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لاحب
الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك * قال البيهقي
تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف (1) والله أعلم
وهذه الآية كقوله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى.
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (2).
احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا أيوب بن
النجار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " حاج موسى آدم (3) عليهما السلام فقال له: أنت الذي أخرجت
الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم.
قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر
قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره علي قبل أن يخلقني.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى " * وقد رواه مسلم عن
عمرو الناقد والنسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن أيوب بن النجار به *
قال أبو مسعود الدمشقي ولم يخرجاه عنه في الصحيحين سواه * وقد رواه أحمد
عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة * ورواه مسلم عن محمد بن رافع
عن عبد الرزاق به.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا أبو شهاب عن حميد بن
عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج
آدم موسى فقال له موسى أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة فقال له آدم
وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه تلومني على أمر قدر علي قبل
أن أخلق * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى فحج آدم موسى
" مرتين * قلت وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث الزهري عن حميد
بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
__________
(1) ضعفه ابن معين والامام أحمد والنسائي: الميزان (2 / 564) وذكره
العقيلي في الضعفاء الكبير (2 / 331).
(2) سورة طه الآية 122.
(3) قال أبو الحسن القابسي: معناه التقت أرواحهما في السماء فوقع الحجاج
بينهما.
قال القاضي عياض: يحتمل انه على ظاهره وانهما اجتمعا بشخصيهما.
وقال الامام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الاعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " احتج آدم وموسى
فقال موسى يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه أغويت الناس
واخرجتهم من الجنة قال فقال آدم وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه تلومني
على عمل أعمله كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والارض قال: فحج آدم
موسى " * وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن يحيى بن حبيب بن عدي عن معمر
بن سليمان عن أبيه عن الاعمش به * قال الترمذي وهو غريب من حديث سليمان
التيمي عن الاعمش قال وقد رواه بعضهم عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد
قلت هكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن مثنى عن معاذ بن
أسد عن الفضل بن موسى عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد.
ورواه البزار أيضا حدثنا عمرو بن علي الفلاس حدثنا أبو معاوية حدثنا
الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم
فذكر نحوه، وقال أحمد حدثنا سفيان عن عمرو سمع طاووسا سمع أبا هريرة يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى فقال موسى
يا آدم أنت أبونا خيبتنا (1) وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم يا موسى أنت
الذي اصطفاك الله بكلامه وقال مرة برسالته وخط لك بيده (2) أتلومني على
أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال: حج آدم موسى حج آدم
موسى حج آدم موسى " وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني حدثنا عن سفيان
قال حفظناه من عمرو عن طاووس قال سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خببتنا وأخرجتنا
من الجنة فقال له آدم يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على
أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم (3)
موسى " هكذا ثلاثا.
قال سفيان حدثنا ابو الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم مثله * وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجة من عشر طرق عن سفيان بن
عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه * وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا حماد
عن عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقى آدم موسى فقال
أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته واسكنك الجنة ثم فعلت.
فقال أنت موسى الذي كلمك الله واصطفاك برسالته وأنزل عليك التوراة أنا
أقدم أم الذكر قال لا بل الذكر فحج آدم موسى.
قال أحمد وحدثنا عفان حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم وحميد
__________
(1) خيبتنا: أوقعتنا في الخيبة ; الحرمان والخسران، ومعناه كن سبب خيبتنا
وإغوائنا بالخطيئة التي ترتب عليها إخراجك من الجنة.
(2) بيده: المراد وجهان: الايمان بها ولا يتعرض لتأويلها.
والثاني تأويلها بالقدرة.
(3) حج آدم: برفع آدم، وهو فاعل، باتفاق الجميع، أي غلبه بالحجة وظهر على
موسى بها.
عن الحسن عن رجل قال حماد أظنه جندب بن عبد الله البجلي عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " لقى آدم موسى فذكر معناه.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد حدثنا الحسن حدثنا جرير هو ابن حازم عن محمد هو ابن سيرين عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقى آدم موسى فقال أنت
آدم الذي خلقك الله بيده واسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ثم صنعت ما صنعت *
قال آدم يا موسى أنت الذي كلمه الله وأنزل عليه التوراة * قال: نعم * قال
فهل تجده مكتوبا علي قبل أن أخلق * قال نعم * قال: (فحج آدم موسى فحج آدم
موسى، وكذا رواه حماد بن زيد عن أيوب وهشام (1) عن محمد بن سيرين عن أبي
هريرة رفعه.
وكذا رواه علي بن عاصم عن خالد وهشام عن محمد بن سيرين * وهذا على شرطهما
من هذه الوجوه * وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الاعلى أنبأنا ابن
وهب أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذباب عن يزيد بن هرمز سمعت أبا
هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى عند
ربهما فحج آدم موسى.
قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته
وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس إلى الارض بخطيئتك * قال آدم: أنت موسى الذي
اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الالواح فيها تبيان كل شئ وقربك نجيا
فبكم وجدت الله كتب التوراة * قال موسى بأربعين عاما * قال آدم فهل وجدت
فيها (وعصى آدم ربه فغوى) (2) قال: نعم * قال أفتلومني على أن عملت عملا
كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فحج آدم موسى ".
قال الحارث وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد رواه مسلم عن اسحق بن موسى الانصاري عن أنس بن عياض عن
الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن يزيد بن هرمز والاعرج كلاهما عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق
أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " احتج آدم وموسى فقال موسى لآدم يا آدم أنت الذي أدخلت
ذريتك النار.
فقال آدم يا موسى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأنزل عليك التوراة فهل
وجدت أن أهبط.
قال نعم.
قال فحجه آدم " وهذا على شرطهما ولم يخرجاه من هذا الوجه * وفي قوله أدخلت
ذريتك النار نكارة.
فهذه طرق هذا الحديث عن أبي هريرة رواه عنه حميد بن عبد الرحمن وذكوان أبو
صالح السمان وطاووس ابن كيسان وعبد الرحمن بن هرمز الاعرج وعمار بن أبي
عمار ومحمد بن سيرين
وهمام بن منبه ويزيد بن هرمز وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي
__________
(1) هو هشام بن حسان.
(2) سورة طه الآية 121.
الله عنه فقال: حدثنا الحارث بن مسكين المصري حدثنا عبد الله بن
وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " قال موسى عليه السلام يا رب أرنا آدم الذي
أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه آدم عليه السلام * فقال أنت آدم * فقال له
آدم نعم قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك
الاسماء كلها * قال: نعم * قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة
فقال له آدم: من أنت قال: أنا موسى * قال: أنت موسى نبي بني إسرائيل أنت
الذي كلمك الله من وراء الحجاب فلم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه * قال:
نعم * قال تلومني على أمر قد سبق من الله عزوجل القضاء به قبل قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى فحج آدم موسى " ورواه أبو داود
عن أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب به.
قال أبو يعلى، وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي
حدثنا عمران عن الرديني عن أبي مجلز عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر
قال أبو محمد أكبر ظني أنه رفعه * قال: " التقى آدم وموسى فقال موسى لآدم:
أنت أبو البشر أسكنك الله جنته وأسجد لك ملائكته.
قال آدم: يا موسى أما تجده علي مكتوبا * قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى "
وهذا الاسناد أيضا لا بأس به والله أعلم.
وقد تقدم رواية الفضل بن موسى لهذا الحديث عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي
سعيد * ورواية الامام أحمد له عن عفان عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن
عن رجل * قال حماد أظنه جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه
وسلم: " لقى آدم موسى " فذكر معناه.
وقد اختلف مسالك الناس في هذا الحديث فرده قوم من القدرية لما تضمن من
إثبات القدر
السابق * واحتج به قوم من الجبرية وهو ظاهر لهم بادئ الرأي حيث قال " فحج
آدم موسى " لما احتج عليه بتقديم كتابه وسيأتي الجواب عن هذا، وقال آخرون
إنما حجه لانه لامه على ذنب قد تاب منه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له *
وقيل إنما حجه لانه أكبر منه وأقدم * وقيل لانه أبوه * وقيل لانهما في
شريعتين متغايرتين * وقيل لانهما في دار البرزخ وقد انقطع التكليف فيما
يزعمونه.
والتحقيق أن هذا الحديث روي بألفاظ كثيرة بعضها مروي بالمعنى.
وفيه نظر.
ومدار معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنه لامه على إخراجه نفسه وذريته من
الجنة فقال له آدم أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الاخراج على أكلي
من الشجرة والذي رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق هو الله عزوجل فأنت
تلومني على أمر ليس له نسبة إلى أكثر ما أني نهيت عن الاكل من الشجرة
فأكلت منها وكون الاخراج مترتبا على ذلك ليس من فعلي فأنا لم أخرجكم ولا
نفسي من الجنة وإنما كان هذا من قدرة الله وصنعه وله الحكمة في ذلك فلهذا
حج آدم موسى.
ومن كذب بهذا الحديث فمعاند لانه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه وناهيك
به عدالة
وحفظا وإتقانا * ثم هو مروي عن غيره من الصحابة كما ذكرنا.
ومن تأوله بتلك التأويلات المذكورة آنفا فهو بعيد من اللفظ والمعنى.
وما فيهم من هو أقوى مسلكا من الجبرية.
وفيما قالوه نظر من وجوه * (أحدها) أن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر
قد تاب منه فاعله (الثاني) أنه قد قتل نفسا لم يؤمر بقتلها وقد سأل الله
في ذلك بقوله: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له) (1) الآية (الثالث)
أنه لو كان الجواب عن اللوم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد لا
نفتح هذا لكل من ليم على أمر قد فعله فيحتج بالقدر السابق فينسد باب
القصاص والحدود ولو كان القدر حجة لاحتج به كل أحد على الامر الذي ارتكبه
في الامور الكبار والصغار وهذا يفضي إلى لوازم فظيعة.
فلهذا قال من قال من العلماء بأن جواب آدم إنما كان احتجاجا بالقدر على
المصيبة لا المعصية والله تعالى أعلم.
الاحاديث الواردة في خلق آدم قال الامام أحمد (2) حدثنا يحيى [ بن سعيد ]
ومحمد بن جعفر حدثنا عوف حدثني قسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء
بنو آدم على قدر الارض فجاء منهم الابيض والاحمر والاسود وبين ذلك.
والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك ".
ورواه أيضا عن هوذة عن عوف عن قسامة بن زهير سمعت الاشعري قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض
فجاء بنو آدم على قدر الارض فجاء (3) منهم الابيض والاحمر والاسود وبين
ذلك.
والسهل والحزن وبين ذلك.
والخبيث والطيب وبين ذلك ".
وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عوف بن أبي جميلة
الاعرابي عن قسامة بن زهير المازني البصري عن أبي موسى عبد الله بن قيس
الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقد ذكر السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود
وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (فبعث الله عزوجل
جبريل في الارض ليأتيه بطين منها فقالت الارض أعوذ بالله منك أن تنقص مني
أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال رب: إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل
فعاذت منه فأعاذها فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال
وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الارض وخلطه ولم يأخذ
من مكان واحد
__________
(1) سورة القصص الآية 16.
(2) مسند أحمد ج 4 / 400، 406.
(3) في المسند ج 4 / 406: جعل منهم.
الحزن: ما غلظ من الارض.
وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين
فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا) واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض *
ثم قال للملائكة (إني خالق بشرا من طين.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [ الحجر: 28 ] فخلقه الله
بيده لئلا يتكبر إبليس عنه فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من
مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه
فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة
فذلك حين يقول (من صلصال كالفخار) ويقول لامر ما خلقت ودخل من فيه وخرج من
دبره وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت
عليه لاهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله عزوجل أن ينفخ فيه الروح قال
للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح
في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال له الله
رحمك ربك فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت الروح في
جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة
وذلك حين يقول الله تعالى (خلق الانسان من عجل) [ الانبياء: 37 ] (فسجد
الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) [ الحجر: 30 ]
وذكر تمام القصة.
ولبعض هذا السياق شاهد من الاحاديث وإن كان كثير منه متلقى من
الاسرائيليات فقال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه
فجعل إبليس يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك " وقال ابن حبان
في صحيحه حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن
ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما نفخ في
آدم فبلغ الروح رأسه عطس فقال الحمد لله رب العالمين فقال له تبارك وتعالى
يرحمك الله ".
وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا حبان بن
هلال حدثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن حبيب عن حفص هو ابن عاصم بن
عبيد الله بن عمر بن الخطاب عن أبي هريرة رفعه قال: " لما خلق الله آدم
عطس فقال الحمد لله فقال ربه رحمك ربك يا آدم " وهذا الاسناد لا بأس به
ولم يخرجوه.
وقال عمر بن عبد العزيز " لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم
اسرافيل فآتاه الله أن كتب القرآن في جبهته " رواه ابن عساكر وقال الحافظ
أبو يعلى حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا عمرو بن محمد عن اسمعيل بن رافع عن
المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق
آدم من تراب ثم جعله طينا ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه وصوره ثم
تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار قال فكان إبليس يمر به فيقول لقد خلقت
لامر عظيم.
ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس
فلقاه الله رحمة ربه فقال الله: يرحمك ربك.
ثم قال الله يا آدم اذهب إلى هؤلاء النفر فقل
لهم (1) فانظر ماذا يقولون ؟ فجاء فسلم عليهم فقالوا وعليك
السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال يا آدم هذا تحيتك وتحية ذريتك.
قال يا رب وما ذريتي قال اختر يدي يا آدم قال اختار يمين ربي وكلتا يدي
ربي يمين وبسط كفه فإذا من هو كائن من ذريته في كف الرحمن فإذا رجال منهم
أفواههم النور فإذا رجل يعجب آدم نوره قال يا رب من هذا قال ابنك داود قال
يا رب فكم جعلت له من العمر قال جعلت له ستين قال يا رب فأتم له من عمري
حتى يكون له من العمر مائة سنة ففعل الله ذلك وأشهد على ذلك فلما نفذ عمر
آدم بعث الله ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال له
الملك: أو لم تعطها ابنك داود فجحد ذلك فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته *
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار والترمذي والنسائي في اليوم والليلة من
حديث صفوان بن عيسى عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن سعيد المقبري
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقال النسائي هذا حديث منكر وقد رواه محمد بن عجلان (2) عن سعيد المقبري
عن أبيه عن عبد الله بن سلام * وقال الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو
نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل
نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم
وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى
رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا قال: هذا رجل من
آخر الامم من ذريتك يقال له داود: قال رب وكم جعلت عمره
قال ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم،
جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة، قال: أو لم تعطها
ابنك داود.
قال فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته " ثم قال
الترمذي حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين وقال صحيح
على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن
يسار عن أبي هريرة مرفوعا " فذكره وفيه: " ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم
هؤلاء ذريتك وإذا فيهم الاجذم والابرص والاعمى وأنواع الاسقام فقال آدم:
يا رب لم فعلت هذا بذريتي قال: كي تشكر نعمتي ".
ثم ذكر قصة داود.
وستأتي من رواية ابن عباس أيضا * وقال الامام أحمد في مسنده حدثنا الهيثم
ابن خارجة حدثنا أبو الربيع عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه
اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدر وضرب كتفه اليسرى فأخرج
__________
(1) بياض بالاصل.
(2) في هامش المطبوعة: قوله عن سعيد المقبري.
صوابه عن أبيه عن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن سلام...
ذرية سوداء كأنهم الحمم.
فقال للذي في يمينه.
إلى الجنة ولا أبالي.
وقال للذي في كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي.
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا خلف بن هشام حدثنا الحكم بن سنان عن حوشب عن
الحسن قال: " خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى
وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى فألقوا على وجه الارض منهم الاعمى والاصم
والمبتلى * فقال آدم يا رب ألا سويت بين ولدي * قال يا آدم أني أردت أن
أشكر " وهكذا روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن بنحوه * وقد رواه
أبو حاتم وابن حبان في صحيحه فقال حدثنا محمد بن اسحاق بن خزيمة حدثنا
محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب
عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق
الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله باذن الله فقال له
ربه يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى اولئك الملائكة إلى ملا منهم جلوس فسلم
عليهم فقال السلام عليكم فقالوا وعليكم السلام ورحمة الله.
ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم وقال الله ويداه مقبوضتان
أختر أيهما شئت فقال اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطهما
فإذا فيهما آدم وذريته فقال أي رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك وإذا كل إنسان
منهم مكتوب عمره بين عينيه وإذا فيهم رجل أضوؤهم " أو " من أضوئهم لم يكتب
له إلا أربعون سنة قال يا رب ما هذا ؟ قال: هذا ابنك داود وقد كتب الله
عمره أربعين سنة * قال: أي رب زد في عمره فقال ذاك الذي كتب له قال: فإني
قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك * أسكن الجنة.
فسكن الجنة ما شاء الله ثم هبط منها وكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت
فقال له آدم قد عجلت قد كتب لي ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود
منها ستين سنة فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته فيومئذ أمر بالكتاب
والشهود " هذا لفظه.
وقد قال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن
همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خلق الله
آدم وطوله ستون ذراعا.
ثم قال اذهب فسلم على أولئك من الملائكة واستمع ما يجيبونك فانها تحيتك
وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه
ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
وهكذا رواه البخاري في كتاب الاستئذان عن يحيى بن جعفر ومسلم عن محمد بن
رافع كلاهما عن عبد الرزاق به، وقال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضا.
انفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن
مهران عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " إن أول من جحد آدم إن أول من
جحد آدم إن أول من جحد آدم ان الله لما خلق آدم ومسح ظهره فأخرج
منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر
قال أي رب من هذا قال هذا ابنك داود قال أي رب كم عمره قال ستون عاما قال
أي رب زد في عمره قال لا إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف عام فزاده
أربعين عاما.
فكتب الله عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما احتضر آدم اتته
الملائكة لقبضه قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما.
فقيل له إنك قد وهبتها لابنك داود.
قال ما فعلت وأبرز الله عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة " وقال أحمد
حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم
قالها ثلاث مرات إن الله عزوجل لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه
فرأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب زد في عمره قال لا إلا أن تزيده أنت من
عمرك فزاده أربعين سنة من عمره.
فكتب الله تعالى عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما أراد أن يقبض روحه
قال إنه بقي من أجلي أربعون سنة فقيل له: إنك قد جعلتها لابنك داود قال
فجحد، قال: فأخرج الله الكتاب وأقام عليه البينة فأتمها لداود مائة سنة
وأتم لآدم عمره ألف سنة * تفرد به أحمد وعلي بن زيد في حديثه نكارة *
ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن
علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس وغير واحد عن الحسن قال: لما
نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم "
ثلاثا ; وذكره * وقال الامام مالك بن أنس في موطئه عن زيد بن الخطاب أخبره
عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية (وإذ أخذ ربك
من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى)
(1) الآية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل
عنها فقال: " ان الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه
ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج
منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول
الله ففيم العمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلق الله العبد
للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من
أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بعمل
أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار ".
وهكذا رواه الامام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي
حاتم وأبو حاتم بن حبان في صحيحه من طرق عن الامام مالك به * وقال الترمذي
هذا حديث حسن * ومسلم بن يسار لم يسمع عمر * وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة
زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة * وقد رواه أبو داود عن محمد بن مصفى
عن بقية عن عمر بن جثعم عن زيد بن أبي أنيسة عن
__________
(1) سورة الاعراف الآية 172.