كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

حكما، واجعلوه لكم قائدا (1)، فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده.
اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس أدبار الليل إذا عسعس.
وقال يحيى بن معين عن حجاج بن محمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال: سمعت سليمان بن عبد الملك يقول في خطبته: فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
وقال حماد بن زيد عن يزيد بن حازم.
قال: كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة لا يدع أن يقول في خطبته: وإنما أهل الدنيا على رحيل، لم تمض لهم نية ولم تطمئن بهم حتى يأتي أمر الله ووعده وهم على ذلك، كذلك لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها ولا تبقي من شر أهلها ثم يتلو (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) [ العشراء: 205 ] وروى الاصمعي أن نقش خاتم سليمان [ كان ]: آمنت بالله مخلصا، وقال أبو مسهر عن أبي مسلم سلمة بن العيار الفزاري.
قال: كان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول: افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن
عبد العزيز.
قد أجمع علماء الناس والتواريخ أنه حج بالناس في سنة سبع وتسعين وهو خليفة، قال الهيثم ابن عدي قال الشعبي: حج سليمان بن عبد الملك فلما رأى الناس بالموسم قال لعمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره، فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاء شديدا ثم قال: بالله أستعين.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب.
قال: كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد الملك فأصابهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة، حتى فزعوا لذلك، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان: ما يضحكك يا عمر ؟ أما ترى ما نحن فيه ؟ فقال له: يا أمير المؤمنين هذه آثار رحمته فيها شدائد ما نرى، فكيف بآثار سخطه وغضبه ؟ ومن كلامه الحسن رحمه الله قوله: الصمت منام العقل والنطق يقظته، ولا يتم هذا إلا بهذا.
ودخل عليه رجل فكلمه فأعجبه منطقه ثم فتشه فلم يحمد عقله، فقال: فضل منطق الرجل على عقله خدعة، وفضل عقله على منطقه هجنة، وخير ذلك ما أشبه بعضه بعضا وقال: العاقل أحرص على إقامة لسانه منه على طلب معاشه، وقال أيضا: إن من تكلم فأحسن قادر على أن يسكت فيحسن، وليس كل من سكت فأحسن قادرا على أن يتكلم فيحسن.
ومن شعره يتسلى عن صديق له مات فقال:
__________
(1) في مروج الذهب: واجعلوا لكم هاديا ودليلا.

وهون وجدي في شراحيل أنني * متى شئت لاقيت امرءا مات صاحبه ومن شعره أيضا: ومن شيمي ألا أفارق صاحبي * وإن ملني إلا سألت له رشدا وإن دام لي بالود دمت ولم أكن * كآخر لا يرعى ذماما ولا عهدا
وسمع سليمان ليلة صوت غناء في معسكره فلم يزل يفحص حتى أتى بهم، فقال سليمان: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الجمل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخذى له العنز وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم أمر بهم فقال: اخصوهم، فيقال إن عمر بن عبد العزيز قال: يا أمير المؤمنين إنها مثلة، ولكن انفهم، فنفاهم.
وفي رواية أنه خصى أحدهم، ثم سأل عن أصل الغناء فقيل إنه بالمدينة، فكتب إلى عامله بها وهو أبو بكر بن محمد بن حزم يأمره أن يخصي من عنده من المغنين المخنثين.
وقال الشافعي: دخل أعرابي على سليمان فدعاه إلى أكل الفالوذج وقال له: إن أكلها يزيد في الدماغ فقال: لو كان هذا صحيحا لكان ينبغي أن يكون رأس أمير المؤمنين مثل [ رأس ] البغل.
وذكروا أن سليمان كان نهما في الاكل، وقد نقلوا عنه أشياء في ذلك غريبة، فمن ذلك أنه اصطبح في بعض الايام بأربعين دجاجة مشوية، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على العادة في السماط العام.
ودخل ذات يوم بستانا له وكان قد أمر قيمه أن يجني ثماره، فدخله ومعه أصحابه فأكل القوم حتى ملوا، واستمر هو يأكل أكلا ذريعا من تلك الفواكه، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها ثم أقبل على أكل الفاكهة، ثم أتي بدجاجتين فأكلهما، ثم عاد إلى الفاكهة فآكل منها، ثم أتي بقعب يقعد فيه الرجل مملوءا سويقا وسمنا وسكرا فأكله ثم عاد إلى دار الخلافة، وأتي بالسماط فما فقدوا من أكله شيئا (1)، وقد روي أنه عرضت له حمى عقب هذا الاكل أدته إلى الموت، وقد قيل إن سبب مرضه كان من أكل أربعمائة بيضة وسلتين تينا فالله أعلم.
وذكر الفضل بن أبي المهلب أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء واعتم بعمامة خضراء وجلس على فراش أخضر وقد بسط ما حوله بالخضرة، ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه، وشمر عن ذراعيه وقال: أنا الخليفة الشاب، وقيل إنه كان ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه ويقول: أنا الملك الشاب، وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول: كان محمد نبيا، وكان أبو بكر صديقا وكان عمر فاروقا، وكان عثمان حييا، وكان على شجاعا، وكان معاوية حليما، وكان يزيد
__________
(1) اتفقت الروايات على انه كان شرها نكاحا، وكان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، انظر العقد الفريد 2 / 277
مروج الذهب 3 / 214 ابن خلكان 2 / 422 وقد بالغت الروايات في مقادير الطعام والشواء والحلوى التي كان يتناولها في اليوم بشكل لا يقبله منطق أو يقر به عاقل.

صبورا، وكان عبد الملك سائسا، وكان الوليد جبارا، وأنا الملك الشاب.
قالوا: فما حال عليه بعد ذلك شهر، وفي رواية جمعة، حتى مات.
قالوا: ولما حم شرع يتوضأ فدعا بجارية فصبت عليه ماء الوضوء ثم أنشدته: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للانسان (1) أنت خلو من العيوب ومما * يكره الناس غير أنك فان (2) قالوا: صاح بها وقال: عزتني في نفسي، ثم أمر خاله الوليد بن العباس القعقاع العنسي (3) أن يصب عليه وقال: قرب وضوءك يا وليد فإنما * دنياك هذي بلغة ومتاع فاعمل لنفسك في حياتك صالحا * فالدهر فيه فرقة وجماع ويروى أن الجارية لما جاءته بالطست جعلت تضطرب من الحمى، فقال: أين فلانة ؟ فقالت: محمومة، قال: ففلانة ؟ قالت: محمومة، وكان بمرج دابق من أرض قنسرين، فأمر خاله فوضأه ثم خرج يصلي بالناس فأخذته بحة في الخطبة، ثم نزل وقد أصابته الحمى فمات في الجمعة المقبلة، ويقال: إنه أصابه ذات الجنب فمات بها رحمه الله.
وكان قد أقسم أنه لا يبرح بمرج دابق حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية، أو يموت قبل ذلك، فمات قبل ذلك رحمه الله وأكرم مثواه، قالوا: وجعل يلهج في مرضه ويقول: إن بني صغار * أفلح من كان له كبار فيقول له عمر بن عبد العزيز: قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين، ثم يقول: إن بني صبية صيفيون * قد أفلح من كان له ربعيون ويروى أن هذا آخر ما تكلم به، والصحيح أن آخر ما تكلم به أن قال: أسألك منقلبا كريما،
ثم قضى.
وروى ابن جرير عن رجاء بن حيوة - وكان وزير صدق لبني أمية - قال: استشارني
__________
(1) بعده في مروج الذهب 3 / 216.
أنت من لا يريبنا منك شي * علم الله غير أنك فان (2) البيت في ابن خلكان 2 / 421 ومروج الذهب.
ليس فيما بدا لنا منك عيب * عابه الناس غير أنك فان وفي مورج الذهب: يا سليمان غير أنك فان.
وفي الطبري 8 / 127 وفي ابن الاثر 5 / 37.
ليس فيما علمته فيك عيب * كان في الناس غير أنك فان (3) في نسخة: العبسي وهو أصوب، فأخواله بنو عبس.

سليمان بن عبد الملك وهو مريض أن يولي له ابنا صغيرا لم يبلغ الحلم، فقلت: إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولي على المسلمين الرجل الصالح، ثم شاورني في ولاية ابنه داود، فقلت: إنه غائب عنك بالقسطنطينية ولا تدري أحي هو أو ميت، فقال: من ترى ؟ فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين، قال: فكيف ترى في عمر بن عبد العزيز ؟ فقلت: أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما يحب الخير وأهله، ولكن أتخوف عليه إخوتك أن لا يرضوا بذلك، فقال: هو والله على ذلك وأشار رجال (1) أن يجعل يزيد بن عبد الملك ولي العهد من بعد عمر بن عبد العزيز ليرضى بذلك بنو مروان، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، وأتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم.
وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة، فقال له: اجمع أهل بيتي فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوما، فمن أبى منهم ضرب عنقه.
فاجتمعوا ودخل رجال منهم فسلموا على أمير المؤمنين، فقال لهم: هذا الكتاب عهدي إليكم، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا من وليت فيه، فبايعوا لذلك رجلا رجلا، قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان كتب لي ذلك حتى أستعفيه
الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة، فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا.
قال: ولقيه هشام بن عبد الملك فقال: يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة، فأخبرني هذا الامر إن كان إلى علمت، وإن كان لغيري فما مثلي قصر به عن هذا.
فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسره إلي أمير المؤمنين، قال رجاء: دخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت أحرفه إلى القبلة، فإذا أفاق يقول: لم يأن لذلك بعد يا رجاء، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فحرفته إلى القبلة فمات رحمه الله.
قال: فغطيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب عليه وأرسلت إلى كعب بن حامد فجمع الناس في مسجد دابق (2)، فقلت: بايعوا لمن في هذا الكتاب، فقالوا: قد بايعنا، فقلت: بايعوا ثانية، ففعلوا، ثم قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز تغيرت وجوه بني مروان، فلما قرأت وإن هشام (3) بن عبد الملك بعده، تراجعوا بعض الشئ.
ونادى هشام لا نبايعه أبدا، فقلت: أضرب عنقك والله، قم فبايع، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، فلما تحقق
__________
(1) كذا بالاصل، وفي نسخة وأشار سليمان بن رجاء.
وما نراه: وأشار رجاء وهو ما يقتضيه سياق رواية ابن الطبري.
وانظر العقد الفريد 3 / 276 ومروج الذهب.
(2) في الامامة والسياسة: بمسجد دمشق 2 / 115 والمشهور أنه مات بمرج دابق.
(3) كذا بالاصل، والصواب يزيد ولعله سهو من الناسخ.
وانظر في كتاب سليمان حاشية رقم 1 ص 199

ذلك قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم تحمله رجلاه حتى أخذوا بضبعيه فأصعدوه على المنبر، فسكت حينا، فقال رجاء بن حيوة: ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه، فنهض القوم فبايعوه، ثم أبى هشام فصعد المنبر ليبايع وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عمر: نعم ! إنا لله وإنا إليه راجعون الذي صرت أنا وأنت نتنازع هذا الامر.
ثم قام فخطب الناس خطبة بليغة وبايعوه، فكان مما قال في خطبته: أيها الناس، إني لست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الامصار والمدن
إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوال (1)، ثم نزل، فأخذوا في جهاز سليمان، قال الاوزاعي: فلم يفرغوا منه حتى دخل وقت المغرب، فصلى عمر بالناس صلاة المغرب، ثم صلى على سليمان ودفن بعد المغرب، فلما انصرف عمر أتي بمراكب الخلافة [ فأبي أن يركبها ] وركب دابته وانصرف مع الناس حتى أتوا دمشق، فمالوا به نحو دار الخلافة فقال: لا أنزل إلا في منزلي (2) حتى تفرغ دار أبي أيوب، فاستحسنوا ذلك منه، ثم استدعى بالكاتب فجعل يملي عليه نسخة الكتاب الذي يبايع عليه الامصار (3)، قال رجاء: فما رأيت أفصح منه.
قال محمد بن إسحاق: وكانت وفاة سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال خلت من صفر ستة تسع وتسعين، على رأس سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوما من متوفى الوليد، وكذا قال الجمهور في تاريخ وفاته، ومنهم من يقول: لعشر بقين من صفر، وقالوا: كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، زاد بعضهم إلا خمسة أيام والله أعلم.
وقول الحاكم أبي أحمد: إنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقين من رمضان سنة تسع وتسعين، حكاه ابن عساكر، وهو غريب جدا، وقد خالفه الجمهور في كل ما قاله، وعندهم أنه جاوز الاربعين فقيل بثلاث وقيل بخمس والله أعلم.
قالوا: وكان طويلا جميلا أبيض نحيفا، حسن الوجه، مقرون الحاجبين، وكان فصيحا بليغا، يحسن العربية ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، واتباع القرآن والسنة، وإظهار الشرائع الاسلامية رحمه الله، وقد كان رحمه الله إلى على نفسه حين خرج من دمشق إلى مرج دابق - ودابق قريبة من بلاد حلب - لما جهز الجيوش إلى مدينة الروم العظمى المسماة بالقسطنطينية، أن لا يرجع
__________
(1) قال في مروج الذهب 3 / 226: وخطب في بعض مقاماته فقال:...وذكر هذه الخطبة.
وذكر لعمر بن عبد العزيز خطبة أخرى قال: ولما أفضى الامر إليه كان أول خطبة خطب الناس بها أن قال: ج 3 / 225 - 226 وذكر صاحب العقد كلاما مختلفا انظر 3 / 143.
وانظر صفوة الصفوة 2 / 114.
(2) في هامش المطبوعة: كان منزله في موضع مدرسة السميساطية الآن مما يلي باب مسجد بني أمية الشمالي.
أما قصر الخلافة الذي يسمى (الدار الخضراء) فكان وراء الجدار القبلي من مسجد بني أمية.
ويسمى موضعه الآن
(المصبغة الخضراء).
(3) انظر نسخة الكتاب - وهي نسخة واحدة إلى عماله - في ابن الاثير 5 / 66.

إلى دمشق حتى تفتح أو يموت، فمات هنالك كما ذكرنا، فحصل له بهذه النية أجر الرباط في سبيل الله، فهو إن شاء الله ممن يجري له ثوابه إلى يوم القيامة رحمه الله.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة شراحيل بن عبيدة بن قيس العقيلي ما مضمونه: إن مسلمة بن عبد الملك لما ضيق بمحاصرته على أهل القسطنطينية، وتتبع المسالك واستحوذ على ما هنالك من الممالك، كتب إليون ملك الروم إلى ملك الرجان يستنصره على مسلمة، ويقول له: ليس لهم همة إلا في الدعوة إلى دينهم، الاقرب منهم فالاقرب، وإنهم متى فرغوا مني خلصوا إليك، فمهما كنت صانعا حينئذ فاصنعه الآن، فعند ذلك شرع لنعه الله في المكر والخديعة، فكتب إلى مسلمة يقول له: إن إليون كتب إلي يستنصرني عليك، وأنا معك فمرني لما شئت.
فكتب إليه مسلمة: إني لا أريد منك رجالا ولا عددا، ولكن أرسل إلينا بالميرة فقد قل ما عندنا من الازواد.
فكتب إليه: إني قد أرسلت إليك بسوق عظيمة إلى مكان كذا وكذا، فأرسل من يتسلمها ويشتري منها.
فأذن مسلمة لمن شاء من الجيش أن يذهب إلى هناك فيشتري له ما يحتاج إليه، فذهب خلق كثير فوجدوا هنالك سوقا هائلة، فيها من أنواع البضائع والامتعة والاطعمة، فأقبلوا يشترون، واشتغلوا بذلك، ولا يشعرون بما أرصد لهم الخبيث من الكمائن بين تلك الجبال التي هنالك، فخرجوا عليهم بغتة واحدة فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين وأسروا آخرين، وما رجع إلى مسلمة إلا القليل منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فكتب مسلمة بذلك إلى أخيه سليمان يخبره بما وقع من ذلك، فأرسل جيشا كثيفا صحبة شراحيل بن عبيدة هذا، وأمرهم أن يعبروا خليج القسطنطينية أولا فيقاتلوا ملك البرجان، ثم يعودوا إلى مسلمة، فذهبوا إلى بلاد البرجان وقطعوا إليهم تلك الخلجان، فاقتتلوا معهم قتالا شديدا، فهزمهم المسلمون باذن الله، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسبوا وأسروا خلقا كثيرا، وخلصوا أسرى المسلمين، ثم تحيزوا إلى مسلمة فكانوا عنده حتى استقدم الجميع عمر بن عبد العزيز
خوفا عليهم من غائلة الروم وبلادهم، ومن ضيق العيش، وقد كان لهم قبل ذلك مدة طويلة أثابهم الله.
خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد تقدم أنه بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر مضين، وقد قيل بقين من صفر من هذه السنة - أعني سنة تسع وتسعين - يوم مات سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه إليه من غير علم من عمر كما قدمنا، وقد ظهرت عليه مخايل الورع والدين والتقشف والصيانة والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيون الحسان الجياد المعدة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال إنه خطب الناس فقال في خطبته: أيها الناس، إن لي نفسا تواقة لا تعطى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة، فأعينوني عليها يرحمكم الله.
وستأتي ترجمته عند وفاته

إن شاء الله، وكان مما بادر إليه عمر في هذه السنة أن بعث (1) إلى مسلمة بن عبد الملك ومن معه من المسلمين وهم بأرض الروم محاصرو القسطنطينية، وقد اشتد عليهم الحال وضاق عليهم المجال، لانهم عسكر كثير، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى الشام إلى منازلهم.
وبعث إليهم بطعام كثير وخيول كثيرة عتاق، يقال خمسمائة فرس، ففرح الناس بذلك.
وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين، فوجه إليهم عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الاتراك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وبعث منهم أسارى (2) إلى عمر وهو بخناصرة.
وقد كان المؤذنون يذكرونه بعد أذانهم باقتراب الوقت وضيقه لئلا يؤخرها كما كان يؤخرها من قبله، لكثرة الاشتغال، وكان ذلك عن أمره لهم بذلك والله أعلم.
فروى ابن عساكر في ترجمة جرير بن عثمان الرحبي الحمصي قال: رأيت مؤذني عمر بن عبد العزيز يسلمون عليه في الصلاة: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة قد قاربت.
وفي هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن إمرة العراق وبعث عدي بن أرطاة الفزاري على إمرة البصرة، فاستقضى عليها الحسن البصري، ثم استعفاه فأعفاه، واستقضى مكانه إياس بن معاوية الذكي المشهور، وبعث على إمرة الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وضم إليه أبا الزناد كاتبا بين يديه، واستقضى عليها عامرا الشعبي.
قال الواقدي: فلم يزل قاضيا عليها مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، وجعل على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي، وكان نائب مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى إمرة المدينة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، وعزل عن إمرة مصر عبد الملك بن أبي وداعة وولى عليها أيوب بن شرحبيل، وجعل الفتيا إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، فهؤلاء الذين كانوا يفتون الناس، واستعمل على إفريقية وبلاد المغرب إسماعيل بن عبد الله المخزومي، وكان حسن السيرة، وأسلم في ولايته على بلاد المغرب خلق كثير من البرير والله سبحانه وتعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن محمد بن الحنفية تابعي جليل، يقال إنه أول من تكلم في الارجاء، وقد تقدم أن أبا عبيد قال: توفي في سنة خمس وتسعين.
وذكر خليفة أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وذكر شيخنا الذهبي في الاعلام أنه توفي هذا العام، والله أعلم.
__________
(1) انظر كتاب عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة في فتوح ابن الاعثم 7 / 308.
(2) في الطبري 8 / 130 وابن الاثير 5 / 43: خمسين أسيرا.

عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد القرشي الجمحي المكي، نزيل بيت المقدس، تابعي جليل، روى عن زوج أم أبي محذورة المؤذن، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، ومعاوية، وغيرهم، وعنه خالد بن معدان، ومكحول، وحسان بن عطية، والزهري، وآخرون.
وقد وثقه غير واحد، وأثنى عليه جماعة من
الائمة، حتى قال رجاء بن حيوة: إن يفخر علينا أهل المدينة بعبادهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا عبد الله بن محيريز.
وقال بعض ولده: كان يختم القرآن كل جمعة، وكان يفرش له الفراش فلا ينام عليه، قالوا: وكان صموتا معتزلا للفتن، وكان لا يترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يذكر شيئا من خصاله المحمودة، ورأى على بعض الامراء حلة من حرير فأنكر عليه، فقال: إنما البسها من أجل هؤلاء - وأشار إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين - فقال له ابن محيريز: لا تعدل بخوفك من الله خوف أحد من المخلوقين.
وقال الاوزاعي: من كان مقتديا فليقتد بمثله، فإن الله لا يضل أمة فيها مثله.
قال بعضهم: توفي أيام الوليد، وقال خليفة بن خياط: توفي أيام عمر بن عبد العزيز، وذكر الذهبي في الاعلام أنه توفي في هذا العام، والله سبحانه أعلم.
دخل ابن محيريز مرة حانوت بزاز ليشتري منه ثوبا فرفع في السوم، فقال له جاره: ويحك هذا ابن محيريز ضع له، فأخذ ابن محيريز بيد غلامه وقال: اذهب بنا، إنما جئت لنشتري بأموالنا لا بأدياننا، فذهب وتركه.
محمود بن لبيد بن عقبة أبو نعيم الانصاري الاشهلي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث لكن حكمها حكم الارسال.
وقال البخاري: له صحبة.
وقال ابن عبد البر: هو أحسن من محمود بن الربيع.
قيل إنه توفي سنة ست وقيل سبع وتسعين، وذكر الذهبي في الاعلام أنه توفي في هذا العام والله أعلم باليقين.
نافع بن جبير بن مطعم ابن عدي بن نوفل القرشي النوفلي المدني، روى عن أبيه وعثمان وعلي والعباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان ثقة عابدا يحج ماشيا ومركوبه يقاد معه، قال غير واحد: توفي سنة تسع وتسعين بالمدينة.
كريب بن مسلم مولى ابن عباس، روى عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان عنده حمل كتب، وكان من
الثقات المشهورين بالخير والديانة.

محمد بن جبير بن مطعم كان من علماء قريش وأشرافها، وله روايات كثيرة، وكان يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وعمره أربع سنين، توفي وعمره ثلاث وتسعون سنة بالمدينة.
مسلم بن يسار أبو عبد الله البصري، الفقيه الزاهد، له روايات كثيرة، كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وكان عابدا ورعا زاهدا كثير الصلاة كثير الخشوع، وقيل إنه وقع في داره حريق فأطفاؤه وهو في الصلاة لم يشعر به.
وله مناقب كثيرة رحمه الله.
قلت: وانهدمت مرة ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في صلاته فما التفت.
وقال ابنه: رأيته ساجدا وهو يقول: متى ألقاك وأنت عني راض، ثم يذهب في الدعاء، ثم يقول: متى ألقاك وأنت عني راض، وكان إذا كان في غير صلاة كأنه في الصلاة، وقد تقدمت ترجمته.
حنش بن عمرو الصنعاني كان والي إفريقية وبلاد المغرب، وبافريقية توفي غازيا، وله روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة.
خارجة بن زيد ابن الضحاك الانصاري المدني الفقيه، كان يفتي بالمدينة، وكان من فقهائها المعدوين، كان عالما بالفرائض وتقسيم المواريث، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين مدار الفتوى على قولهم.
سنة مائة من الهجرة النبوية قال الامام أحمد: حدثنا علي بن حفص، أنبأ ورقاء، عن منصور، عن المنهال بن عمرو، عن نعيم بن دجاجة قال: دخل ابن مسعود على علي فقال: أنت القائل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس مائة عام وعلى الارض نفس منفوسة " ؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس
مائة عام وعلى الارض نفس منفوسة ممن هو حي، وإن رخاء هذه الامة بعد المائة ".
تفرد به أحمد.
وفي رواية لابنه عبد الله أن عليا قال له: يا فروخ أنت القائل لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الارض عين تطرف ممن هو حي اليوم، وإنما رخاء هذه الامة وفرحها بعد المائة ؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الارض عين تطرف.
أخطأت أستك الحفرة، وإنما أراد ممن هو اليوم حي " تفرد به وهكذا جاء في الصحيحين عن ابن عمر.
فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، وإنما أراد انخرام قرنه.
وفيها خرجت خارجة من الحرورية بالعراق فبعث أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى

عبد الحميد نائب الكوفة، يأمره بأن يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى يفسدوا في الارض، فلما فعلوا ذلك بعث إليهم جيشا فكسرهم الحرورية، فبعث عمر إليه يلومه على جيشه، وأرسل عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك من الجزيرة إلى حربهم، فأظفره الله بهم، وقد أرسل عمر إلى كبير الخوارج - وكان يقال له بسطام - (1) يقول له: ما أخرجك علي ؟ فإن كنت خرجت غضبا لله فأنا أحق بذلك منك، ولست أولى بذلك مني، وهلم أناظرك، فإن رأيت حقا اتبعته، وإن أبديت حقا نظرنا فيه.
فبعث طائفة من أصحابه إليه فاختار منهم عمر رجلين (2) فسألهما: ماذا تنقمون ؟ فقالا: جعلك يزيد بن عبد الملك من بعدك، فقال: إني لم أجعله أبدا وإنما جعله غيري.
قالا: فكيف ترضى به أمينا للامة من بعدك ؟ فقال: أنظراني ثلاثة، فيقال إن بني أمية دست إليه سما فقتلوه خشية أن يخرج الامر من أيديهم ويمنعهم الاموال والله أعلم (3).
وفيها غزا عمر بن الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة وفيها ولى عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الجزيرة فسار إليها.
وفيها حمل يزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز من العراق، فأرسله عدي بن أرطاة نائب البصرة مع موسى بن وجيه، وكان عمر يبغض يزيد بن المهلب وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، فلما دخل على عمر طالبه بما قبله من الاموال التي كان قد كتب إلى سليمان أنها حاصلة عنده، فقال: إنما كتبت ذلك
لارهب الاعداء بذلك، ولم يكن بيني وبين سليمان شئ، وقد عرفت مكانتي عنده.
فقال له عمر: لا أسمع منك هذا، ولست أطلقك حتى تؤدي أموال المسلمين، وأمر بسجنه.
وكان عمر قد بعث على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي عوضه، وقدم ولد يزيد بن المهلب، مخلد بن يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله عزوجل قد من على هذه الامة ولايتك عليها، فلا نكونن نحن أشقى الناس بك فعلام تحبس هذا الشيخ وأنا أقوم له أتصالحني عنه ؟ فقال عمر: لا أصالحك عنه إلا أن تقوم بجميع ما يطلب منه، ولا آخذ منه إلا جميع ما عنده من مال المسلمين.
فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة عليه بما تقول وإلا فاقبل يمينه أو فصالحني عنه، فقال: لا آخذ منه إلا جميع ما عنده.
فخرج مخلد بن يزيد من عند عمر، فلم يلبث أن مات مخلد.
وكان عمر يقول: هو خير من أبيه.
ثم إن عمر أمر بأن يلبس يزيد بن المهلب جبة صوف ويركب على بعير إلى جزيرة دهلك التي كان ينفي إليها الفساق، فشفعوا فيه فرده إلى السجن، فلم يزل به حتى مرض عمر مرضه الذي
__________
(1) وهو شوذب الخارجي، من بني يشكر وخرج في جوخى في ثمانين رجلا.
(2) في الطبري 8 / 132 وابن الاثير 5 / 45 ومروج الذهب 3 / 233: ان بسطام بعث رجلين إلى عمر يدارسانه ويناظرنه.
في الطبري وهما: ممزوج مولى بني شيبان (وفي ابن الاثير: عاصم) والآخر من صليبة بني يشكر.
(3) كذا بالاصل والطبري 8 / 132 وانظر مناظرة طويلة بينه وبينهما في ابن الاثير 5 / 46 وما بعدها ومروج الذهب 3 / 233 وما بعدها.
والامامة والسياسة 2 / 118 - 120.

مات فيه، فهرب من السجن وهو مريض، وعلم أنه يموت في مرضه ذلك، وبذلك كتب إليه كما سيأتي، وأظنه كان عالما أن عمر قد سقي سما.
وفيها في رمضان منها عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان، بعد سنة وخمسة أشهر، وإنما عزله لانه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها (1).
فامتنعوا من الاسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا، ولم يبعثه جابيا.
وعزله وولى بدله عبد الرحمن بن نعيم القشيري على
الحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج.
وفيها كتب عمر إلى عماله (2) يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم الحق ويوضحه لهم ويعظمهم فيما بينه وبينهم، ويخوفهم بأس الله وانتقامه، وكان فيما كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم القشيري: أما بعد فكن عبد الله ناصحا لله في عباده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، ولا تولين شيئا من أمور المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم.
وأدى الامانة فيما استرعي، وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق، فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
وكتب مثل ذلك مواعظ كثيرة إلى العمال.
وقال البخاري في صحيحه: وكتب عمر إلى عدي بن عدي: إن للايمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، من استكملها استكمل الايمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الايمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وفيها كان بدو دعوة بني العباس وذلك أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وكان مقيما بأرض الشراة (3) - بعث من جهته رجلا يقال له ميسرة، إلى العراق، وأرسل طائفة أخرى: وهم محمد بن خنيس وأبو عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار - خال إبراهيم بن سلمة - إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي قبل أن يعزل في رمضان، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب منهم إلى ميسرة الذي بالعراق، فبعث بها إلى محمد بن
__________
(1) في الطبري 8 / 134 وابن الاثير 5 / 51: قيل للجراح إن الناس سارعوا إلى الاسلام نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان...فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا.
(2) انظر نسخ بعض هذه الكتب في ابن الاثير 5 / 60 - 61.
(3) الشراة: من أعمال البلقاء بالشام.
قاله ابن الاثير.
وفي معجم البلدان: صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في أيام بني مروان.

علي ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ أمر قد كتب الله إتمامه، وأول رأي قد أحكم الله إبرامه، أن دولة بني أمية قد بان عليها مخايل الوهن والضعف، ولا سيما بعد موت عمر بن عبد العزيز، كما سيأتي بيانه.
وقد اختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر نقيبا، وهم سليمان بن كثير الخزاعي، ولا هز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي، وعمران بن إسماعيل أبو النجم - مولى لآل أبي معيط - ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين أبو حمزة - مولى لخزاعة -، وشبل بن طهمان أبو علي الهروي - مولى لبني حنيفة - وعيسى بن أعين مولى لخزاعة أيضا.
واختار سبعين رجلا أيضا.
وكتب إليهم محمد بن علي كتابا يكون مثالا وسيرة يقتدون بها ويسيرون بها.
وقد حج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، نائب المدينة.
والنواب على الامصارهم المذكورون في التي قبلها، سوى من ذكرنا ممن عزل وتولى غيره والله أعلم.
ولم يحج عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته لشغله بالامور، ولكنه كان يبرد البريد إلى المدينة فيقول له: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وسيأتي إن شاء الله.
وممن توفي فيها من الاعيان (سالم بن أبي الجعد الاشجعي) مولاهم الكوفي.
أخو زياد وعبد الله وعبيد الله وعمران ومسلم، وهو تابعي جليل، روى عن ثوبان (1) وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير وغيرهم.
وعنه قتادة والاعمش وآخرون، وكان ثقة نبيلا جليلا.
أبو أمامة [ أسعد بن ] سهل بن حنيف الانصاري الاوسي المدني، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه وحدث عن أبيه وعمر وعثمان وزيد بن ثابت ومعاوية وابن عباس.
وعنه الزهري وأبو حازم وجماعة، قال الزهري: كان من علية الانصار وعلمائهم، ومن أبناء الذين شهدوا بدرا.
وقال يوسف بن الماجشون عن عتبة بن مسلم،
قال: آخر خرجة خرجها عثمان بن عفان إلى الجمعة حصبه الناس وحالوا بينه وبين الصلاة، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة [ أسعد بن ] (2) سهل بن حنيف.
قالوا: توفي سنة مائة والله أعلم.
أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي تابعي جليل، سمع أبا أمامة صدي بن عجلان، وعبد الله بن بسر، ويقال إنه أدرك أبا
__________
(1) في هامش المطبوعة: في خلاصة تذهيب الكمال: " قال أحمد: لم يلق ثوبان.
وقال البخاري: لم يسمع منه ".
(2) من ابن سعد 5 / 82 وابن الاثير 5 / 55.

الدرداء والصحيح أن روايته عنه وعن حذيفة مرسلة، وقد حدث عنه جماعة من أهل بلده، وقد وثقه ابن معين وغيره.
ومن أغرب ما روي عنه قول قتيبة: ثنا شهاب بن خراش، عن حميد، عن أبي الزاهرية قال: أغفيت في صخرة بيت المقدس فجاءت السدنة فأغلقوا علي الباب، فما انتبهت إلا بتسبيح الملائكة فوثبت مذعورا فإذا الملائكة صفوف، فدخلت معهم في الصف.
قال أبو عبيدة وغيره: مات سنة مائة.
أبو الطفيل عامر بن واثلة ابن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي، وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفاة بالاجماع قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه (1)، وذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود، وحدث عنه الزهري وقتادة وعمرو بن دينار وأبو الزبير وجماعة من التابعين، وكان من أنصار علي بن أبي طالب، شهد معه حروبه كلها، لكن نقم بعضهم عليه كونه كان مع المختار بن أبي عبيد، ويقال إنه كان حامل رايته، وقد روى أنه دخل على معاوية فقال: ما أبقى لك الدهر من ثكلك عليا ؟ فقال: ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب (2)، فقال: كيف حبك له ؟ قال حب أم موسى لموسى، وإلى الله أشكو التقصير.
قيل إنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ومات سنة مائة وقيل سنة سبع ومائة فالله أعلم.
قال مسلمة بن الحجاج: وهو آخر من مات من الصحابة مطلقا ومات سنة مائة.
أبو عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل البصري، أدرك الجاهلية وحج في زمن الجاهلية مرتين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأدى في زمانه الزكاة ثلاث سنين إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يسميه أئمة الحديث مخضرما، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر بن الخطاب، فسمع منه ومن علي وابن مسعود وخلق من الصحابة وصحب سلمان الفارسي ثنتي عشرة سنة حتى دفنه، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، منهم أيوب، وحميد الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقال عاصم الاحول: سمعته يقول: أدركت في الجاهلية يغوث صنما من رصاص يحمل على جمل أجرد، فإذا بلغ واديا برك فيه فيقولون: قد رضي ربكم لكم هذا الوادي فينزلون فيه، قال: وسمعته وقد قيل له أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: نعم ! أسلمت على عهده، وأديت إليه الزكاة ثلاث مرات، ولم ألقه، وشهدت اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند.
كان أبو عثمان صواما قواما، يسرد الصوم ويقوم الليل لا يتركه، وكان يصلي حتى يغشى عليه، وحج ستين مرة ما بين حجة وعمرة، قال سليمان التيمي: إني
__________
(1) المحجن: العصا المنعطفة الرأس، وقيل: كل معطوف الرأس على الاطلاق.
(2) الرقوب: الذي لا يستطيع الكسب ولا كسب له.

لاحسبه لا يصيب ذنبا، لانه ليله قائما ونهاره صائما، وقال بعضهم: سمعت أبا عثمان النهدي يقول: أتت علي ثلاثون ومائة سنة وما مني شئ إلا وقد أنكرته خلا أملي فإني أجده كما هو.
وقال ثابت البناني عن أبي عثمان.
قال: إني لا علم حين يذكرني ربي عزوجل، قال فيقول: من أين تعلم ذلك ؟ فيقول قال الله تعالى (فاذكروني أذكركم) [ البقرة: 152 ] فإذا ذكرت الله ذكرني.
قال: وكنا إذا دعونا الله قال: والله لقد استجاب الله لنا، قال الله تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) [ المؤمن: 60 ] قالوا: وعاش مائة وثلاثين سنة، قاله هشيم وغيره.
قال المدائني وغيره: توفي سنة مائة، وقال الفلاس: توفي سنة خمس وتسعين، والصحيح سنة مائة والله أعلم.
وفيها توفي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وكان يفضل على والده في العبادة والانقطاع عن
الناس، وله كلمات حسان مع أبيه ووعظه إياه.
ثم دخلت سنة إحدى ومائة فيها كان هرب يزيد بن المهلب من السجن حين بلغه مرض عمر بن عبد العزيز، فواعد غلمانه يلقونه بالخيل في بعض الاماكن، وقيل بابل له، ثم نزل من محبسه ومعه جماعة وامرأته عاتكة بنت الفرات العامرية، فلما جاء غلمانه ركب رواحله وسار، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني والله ما خرجت من سجنك إلا حين بلغني مرضك، ولو رجوت حياتك ما خرجت، ولكني خشيت من يزيد بن عبد الملك فإنه يتوعدني بالقتل (1)، وكان يزيد يقول: لئن وليت لاقطعن من يزيد بن المهلب طائفة، وذلك أنه لما ولي العراق عاقب أصهاره آل أبي عقيل، وهم بيت الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان يزيد بن عبد الملك مزوجا ببنت محمد بن يوسف (2)، وله ابنه الوليد بن يزيد الفاسق المقتول كما سيأتي.
ولما بلغ عمر بن عبد العزيز أن يزيد بن المهلب هرب من السجن قال: اللهم إن كان يريد بهذه الامة سوءا فاكفهم شره واردد كيده في نحره، ثم لم يزل المرض يتزايد بعمر بن عبد العزيز حتى مات وهو بخناصرة، من دير سمعان بين حماه وحلب، في يوم الجمعة، وقيل في يوم الاربعاء لخمس بقين من رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة - عن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل إنه جاوز الاربعين بأشهر فالله أعلم.
__________
(1) انظر نسخة كتابه في ابن الاعثم 7 / 322 والطبري 8 / 136 وابن الاثير 5 / 58.
(2) ذكر ابن الاعثم 7 / 321 سببا آخر قال: خرج يزيد يوما وعليه حلة يمانية - في أيام سليمان - وقد تضمخ بالغالية فقال يزيد - وعمر بن عبد العزيز إلى جانبه - قبح الله هذه الدنيا وما فيها لوددت أن مثقال غالية بألف دينار فلا ينالها إلا كل شريف فقال له يزيد بن المهلب: يا مؤنث ألي يقال هذا وأنا ابن المهلب إنما كان يجب عليك أن تقول: وددت أن الغالية لا توجد إلا في جبهة الاسد فلا ينالها إلا مثلي...فالتفت يزيد بن عبد الملك فقال: والله لئن وليت هذا الامر يوما - وكان وليا للعهد - لاقطعن خير طابق من يديك فقال له ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الامر وأنا حي لاضربن وجهك بخمسين ألف سيف.

وكانت خلافته فيما ذكر غير واحد سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكما مقسطا، وإماما عادلا وورعا دينا لا تأخذه في الله لومة لائم رحمه الله تعالى.
وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الامام المشهور رحمه الله هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو حفص القرشي الاموي المعروف أمير المؤمنين، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال له أشج بني مروان، وكان يقال: الاشج والناقص أعدلا بني مروان.
فهذا هو الاشج وسيأتي ذكر الناقص.
كان عمر تابعيا جليلا، روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام، ويوسف صحابي صغير.
وروى عن خلق من التابعين (1).
وعنه جماعة من التابعين وغيرهم.
قال الامام أحمد بن حنبل: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز.
بويع له بالخلافة بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه له بذلك كما تقدم، ويقال: كان مولده في سنة إحدى وستين (2)، وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي بمصر، قاله غير واحد.
وقال محمد بن سعد: ولد سنة ثلاث وستين، وقيل سنة تسع وخمسين، فالله أعلم.
وكان له جماعة من الاخوة ولكن الذين هم من أبويه: أبو بكر وعاصم ومحمد، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، عن يحيى بن بكير عن الليث.
قال: بلغني أن عمران بن عبد الرحمن ابن شرحبيل بن حسنة كان يحدث أن رجلا رأى في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز - أو ليلة ولي الخلافة شك أبو بكر - أن مناديا بين السماء والارض ينادي: أتاكم اللين والدين وإظهار العمل الصالح في المصلين، فقلت: ومن هو ؟ فنزل فكتب في الارض ع م ر.
وقال آدم بن إياس: ثنا أبو علي ثروان مولى عمر بن عبد العزيز.
قال: دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد.
رواه الحافظ ابن عساكر من طريق هارون بن معروف عن ضمرة، وقال نعيم بن حماد: ثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فبلغ أمه فأرسلت إليه فقالت: ما يبكيك ؟
قال: ذكرت الموت، فبكت أمه.
وكان قد جمع القرآن وهو صغير، وقال الضحاك بن عثمان الخزامي: كان أبوه قد جعله عند صالح بن كيسان يؤدبه، فلما حج أبوه اجتاز به في المدينة فسأله عنه فقال: ما خبرت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
وروى يعقوب بن سفيان أن عمر بن *
__________
(1) ذكر ابن الجوزي بعضهم: سعيد بن المسيب وعبد الله بن ابراهيم بن قارظ وسالم وأبي سلمة وعروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخارجة بن زيد وعامر بن سعد بن أبي وقاص وابي بردة بن أبي موسى والربيع بن سبرة وعراك بن مالك وابي حازم والزهري والقرظي.
صفة الصفوة 2 / 127 فوات الوفيات 3 / 133.
(2) في فوات الوفيات 3 / 133: سنة ستين.

عبد العزيز تأخر عن الصلاة مع الجماعة يوما فقال صالح بن كيسان: ما شغلك ؟ فقال: كانت مرجلي تسكن شعري، فقال له: قدمت ذلك على الصلاة ؟ وكتب إلى أبيه وهو على مصر يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه.
وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا، فلما أتاه عمر أعرض عبيد الله عنه وقام يصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل على عمر مغضبا وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ؟ قال ففهمها عمر وقال: معذرة إلى الله ثم إليك، والله لا أعود، قال: فما سمع بعد ذلك يذكر عليا إلا بخير.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا أبي، ثنا المفضل بن عبد الله، عن داود بن أبي هند.
قال: دخل علينا عمر بن عبد العزيز من هذا الباب - وأشار إلى باب من أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من القوم: بعث الفاسق لنا بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة، ويسير سيرة عمر بن الخطاب.
قال داود: والله ما مات حتى رأينا ذلك فيه.
وقال الزبير بن بكار: حدثني العتبي قال: إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الادب، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فقال: يا أبة أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك ؟ قال: وما
هو ؟ قال: ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم.
فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم، وما زال دأبه حتى اشتهر ذكره، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول الشاعر فيها: بنت الخليفة والخليفة جدها * أخت الخلائف والخليفة زوجها قال: ولا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها.
قال العتبي: ولم يكن حاسد عمر بن عبد العزيز ينقم عليه شيئا سوى متابعته في النعمة، والاختيال في المشية، وقد قال الاحنف بن قيس: الكامل من عدت هفواته ولا تعد إلا من قلة.
وقد ورث عمر من أبيه من الاموال والمتاع والدواب هو وإخوته ما لم يرثه غيره فيما نعلم، كما تقدم ذلك، ودخل يوما على عمه عبد الملك وهو يتجانف في مشيته فقال: يا عمر مالك تمشي غير مشيتك ؟ قال: إن في جرحا، فقال: وأين هو من جسدك ؟ قال: بين الرانقة والصفن - يعني بين طرف الالية وجلدة الخصية - فقال عبد الملك لروح بن زنباع: بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا ما أجاب بمثل هذا الجواب.
قالوا: ولما مات عمه عبد الملك حزن عليه ولبس المسوح تحت ثيابه سبعين يوما، ولما ولي الوليد عامله بما كان أبوه يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وأقام للناس الحج سنة تسع وثمانين، وسنة تسعين، وحج الوليد بالناس سنة

إحدى وتسعين، ثم حج بالناس عمر سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين.
وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه عن أمر الوليد له بذلك، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمرا بدونهم أو من حضر منهم، وهم عروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله،
وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت.
وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحدا من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، وقال إبراهيم بن عبلة: قدمت المدينة وبها ابن المسيب وغيره، وقد ندبهم عمر يوما إلى رأي.
وقال ابن وهب: حدثني الليث، حدثني قادم البريري أنه ذاكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوما شيئا من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال له الربيع: كأنك تقول: أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط.
وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك.
قال: ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة.
قالوا: وكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشرا عشرا، وقال ابن وهب: حدثني الليث عن أبي النضر المديني، قال: رأيت سليمان بن يسار خارجا من عند عمر بن عبد العزيز فقلت له: من عند عمر خرجت ؟ قال: نعم ! قلت: تعلمونه ؟ قال: نعم، فقلت: هو والله أعلمكم.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة، وفي رواية قال ميمون: كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء.
وقال الليث: حدثني رجل كان قد صحب ابن عمر وابن عباس، مكان عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة، قال: ما التمسنا علم شئ إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة.
وقال عبد الله بن طاووس: رأيت أبي تواقف هو وعمر بن عبد العزيز من بعد صلاة العشاء حتى أصبحنا، فلما افترقا قلت: يا أبة من هذا الرجل ؟ قال هذا عمر بن عبد العزيز، وهو من صالحي هذا البيت - يعني بني أمية - وقال عبد الله بن كثير قلت لعمر بن عبد العزيز ما كان بدء إنابتك ؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال لي: اذكر يوما صبيحتها يعني يوم القيامة (1).
وقال الامام مالك: لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني في سنة ثلاث وتسعين -
__________
(1) كذا بالاصل، والنص في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن جوزي ص 149: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة وهو أصوب.

وخرج منها التفت إليها وبكى وقال لمولاه: يا مزاحم، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة - يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد - وينصع طيبها.
قلت: خرج من المدينة فنزل بمكان قريب منها يقال له السويداء حينا (1)، ثم قدم دمشق على بني عمه.
قال محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم.
قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني، فلما قدمت الشام نسيت.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، عن معمر عن الزهري قال: سهرت مع عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فحدثته، فقال: كل ما حدثت فقد سمعته ولكن حفظت ونسيت.
وقال ابن وهب عن الليث، عن عقيل، عن الزهري قال قال عمر بن عبد العزيز: بعث إلي الوليد ذات ساعة من الظهيرة، فدخلت عليه فإذا هو عابس، فأشار إلي أن اجلس، فجلست فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل ؟ فسكت، ثم عاد فسكت، ثم عاد فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا، ولكن سب، فقلت: ينكل به، فغضب وانصرف إلى أهله، وقال لي ابن الريان السياف: اذهب، قال: فخرجت من عنده وما تهب ريح إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه.
وقال عثمان بن زبر: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والاثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا ؟ فقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضا وأنت المسؤول عن ذلك كله، فلما اقتربوا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبة، فقال له سليمان: ما هذا يا عمر ؟ فقال: لا أدري، فقال: ما ظنك أنه يقول ؟ قلت: كأنه يقول: من أين جاءت وأين يذهب بها ؟ فقال له سليمان: ما أعجبك ؟ فقال عمر: اعجب ممن عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها.
وتقدم أنه لما وقف سليمان وعمر بعرفة ورأى سليمان كثرة الناس فقال له عمر: هؤلاء رعيتك اليوم وأنت مسؤول عنهم غدا.
وفي رواية وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال: بالله نستعين.
وتقدم أنهم لما أصابهم ذلك المطر والرعد فزع سليمان وضحك عمر فقال له: أتضحك ؟
فقال: نعم هذه آثار رحمته ونحن في هذه الحال، فكيف بآثار غضبه وعقابه ونحن في تلك الحال ؟ وذكر الامام مالك أن سليمان وعمر تقاولا مرة فقال له سليمان في جملة الكلام: كذبت، فقال: تقول كذبت ؟ والله ما كذبت منذ عرفت أن الكذب يضر أهله، ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى مصر، فلم يمكنه سليمان، ثم بعث إليه فصالحه وقال له: ما عرض لي أمر يهمني إلا خطرت على
__________
(1) في هامش المطبوعة: السويداء أرض كان يملكها عمر بن عبد العزيز واستنبط فيها من عطائه عن ماء، وله فيها قصر مبني، ولما تنازل لبيت المال عن جميع ما ورثه عن آبائه أبقى السويداء وخيبر لانه اطمأن إلى انهما حلال خالص ليس في أية شبهة، وكان هو خليفة يأكل من غلتها وينفق ما يزيد عن الضرورة.

بالي.
وقد ذكرنا أنه لما حضرته الوفاة أوصى بالامر من بعده إلى عمر بن عبد العزيز فانتظم الامر على ذلك ولله الحمد.
فصل وقد كان منتظرا فيما يؤثر من الاخبار قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الله بن دينار قال: قال ابن عمر: يا عجبا ! ! يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر، قال: وكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر، فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمه ابنة عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقال البيهقي: أنبأ الحاكم، أنبأ أبو حامد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان، ثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بن أسماء عن نافع.
قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شجان يلي فيملا الارض عدلا.
قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
ورواه مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع.
وقال: كان ابن عمر يقول: ليت شعري من هذا الذي من لد عمر في وجهه علامة يملا الارض عدلا ؟ قال وهيب بن الورد: بينما أنا نائم رأيت كأن رجلا دخل من باب بني شيبة وهو يقول: يا أيها
الناس ! ولي عليكم كتاب الله.
فقلت: من ؟ فأشار إلى ظفره، فإذا مكتوب عليه ع م ر، قال فجاءت بيعة عمر بن عبد العزيز.
وقال بقية عن عيسى بن أبي رزين، حدثني الخزاعي، عن عمر بن عبد العزيز أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضة خضراء فقال له: " إنك ستلي أمر أمتي فزع عن الدم فزع عن الدم، فإن اسمك في الناس عمر بن عبد العزيز، واسمك عند الله جابر ".
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن مودود الحراني، ثنا أيوب بن محمد الوزان، ثنا ضمرة بن ربيعة، ثنا السري بن يحيى، عن رياح بن عبيدة.
قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا الشيخ جاف، فلما صلى ودخل لحقته فقلت: أصلح الله الامير، من هذا الشيخ الذي أتكأته يدك ؟ فقال: يا رياح رأيته ؟ قلت: نعم ! قال: ما أحسبك يا رياح إلا رجلا صالحا، ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الامة وأني سأعدل فيها.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو عمير، ثنا ضمره، عن علي بن خولة عن أبي عنبس.
قال: كنت جالسا مع خالد بن يزيد بن معاوية فجاء شاب عليه مقطعات فأخذ بيد خالد، فقال:

هل علينا من عين ؟ فقال أبو عنبس: فقلت عليكما من الله عين بصرة، وأذن سميعة، قال: فترقوقت عينا الفتى.
فأرسل يده من يد خالد وولى، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا عمر بن عبد العزيز ابن أخي أمير المؤمنين، ولئن طالت بك حياة لترينه إمام هدى.
قلت: قد كان عند خالد بن يزيد بن معاوية شئ جيد من أخبار الاوائل وأقوالهم، وكان ينظر في النجوم والطب.
وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك أنه لما حضرته الوفاة أراد أن يعهد إلى بعض أولاده، فصرفه وزيره الصالح رجاء بن حيوة عن ذلك، وما زال به حتى عهد إلى عمر بن عبد العزيز من بعده وصوب ذلك رجاء فكتب سليمان العهد في صحيفة وختمها ولم يشعر بذلك عمر ولا أحد من بني مروان سوى سليمان ورجاء، ثم أمر صاحب الشرطة باحضار الامراء ورؤوس الناس من بني مروان وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا، ثم لما مات الخليفة استدعاهم
رجاء بن حيوة فبايعوا ثانية قبل أن يعلموا موت الخليفة، ثم فتحها فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوه فأجلسوه على المنبر وبايعوه فانعقدت له البيعة.
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الصنيع في الرجل يوصي الوصية في كتاب ويشهد على ما فيه من غير أن يقرأ على الشهود.
ثم يشهدون على ما فيه فينفذ، فسوغ ذلك جماعات من أهل العلم، قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري: أجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم به جمهور أهل الحجاز، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله.
وهو مذهب مالك ومحمد بن مسلمة المخزومي ومكحول، ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم، والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهم من فقهاء الشام.
وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد فيمن وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم.
وروى عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبري فيمن سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد كثير من أصحاب الحديث، منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
قلت: وقد اعتنى به البخاري في صحيحه.
قال المعافى: وأبى ذلك جماعة من فقهاء العراق، منهم إبراهيم وحماد والحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، قال: وهو قول شيخنا أبي جعفر، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الاول، قال الجريري: وإلى القول الاول نذهب.
وتقدم أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أتي بمراكب الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول: - فلو لا التقى ثم النهى خشية الردى (1) * لعاصيت في حب الصباكل زاجر قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى * له صبوة أخرى الليالي الغوابر ثم قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
قدموا إلي بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 331: ولو لا التقى من خشية الموت والردى...

فيمن يزيد، وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال.
قالوا: ولما رجع
من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه: مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا ؟ فقال: ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الامة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب، طلبه مني أو لم يطلب.
قالوا: ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله.
وقال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول: قد جاء شغل شاغل * وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا * غ لنا إلى يوم القيامة وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا.
يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا أحدا، ولا يعرض فيما لا يعنيه.
فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله.
وقال سفيان بن عيينة: لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاء بن حيوة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترون ما ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم ؟ فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخ أبا، والشاب أخا، والصغير ولدا، وبر أباك وصل أخاك، وتعطف على ولدك.
وقال رجاء: ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت.
وقال سالم: اجعل الامر واحدا وصم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك فيه الموت.
فكأن قد.
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال غيره: خطب عمر بن عبد العزيز يوما الناس فقال - وقد خنقته العبرة - أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم (1) يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمعرق له في الموت.
وقال في بعض خطبه: كم من عامر
موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن.
فأحسنوا رحمكم الله من الدنيا الرحلة بأحسن ما يحضر بكم من النقلة، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس قرير العين فيها يانع، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بسهم حتفه، فسلبه اثارة دنياه، وصبر إلى قوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلا وتحزن طويلا.
وقال إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر قال: لما
__________
(1) في العقد الفريد 2 / 143: سرائركم.
وانظر صفة الصفوة 2 / 114 في خطبة أطول.

استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ! إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض ولكني منفذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الامام الظالم ليس بظالم (1) إلا أن الامام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزوجل.
وفي رواية أنه قال فيها: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني أثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت ؟ وقال أحمد بن مروان: ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا محمد بن عبيد، ثنا إسحاق بن سليمان، عن شعيب بن صفوان، حدثني ابن لسعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى (2)، وحرم جنة عرضها السموات والارض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم الآخر وخافه، وباع فانيا بباق، ونافدا بمالا نفاد له، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب (3) الهالكين، وسيكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الارض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الاحباب، وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا، ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
وفي رواية: وأيم الله إني لاقول قولي
هذا ولا أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة، أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، وأستغفر الله، ووضع كمه على وجهه فبكى حتى بل لحيته، فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا: عن عمر بن عبد العزيز أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: " ادن يا عمر، فدنوت حتى خشيت أن أصيبه، فقال: إذا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين، فإذا كهلان قد اكتنفاه، فقلت: ومن هذان ؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر ".
وروينا أنه قال: لسالم بن عبد الله بن عمر: اكتب لي سيرة عمر حتى أعمل بها، فقال له سالم: إنك لا تستطيع ذلك، قال: ولم ؟ إنك إن عملت بها كنت أفضل من عمر، لانه كان يجد على الخير أعوانا، وأنت لا تجد من يعينك على الخير.
وقد روى أنه كان نقش خاتمه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي رواية آمنت بالله، وفي رواية الوفاء عزيز.
وقد جمع يوما رؤوس الناس فخطبهم فقال: إن فدك كانت بيد
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 226: بعاص.
(2) زيد في العقد الفريد 2 / 144: التي وسعت كل شئ.
(3) في العقد: أصلاب.
وانظر الاغاني 9 / 266 - 267.
وصفة الصفوة 2 / 123 - 124.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك، قال الاصمعي: وما أدري ما قال في عثمان، قال: ثم إن مروان أقطعها فحصل لي منها نصيب، ووهبني الوليد وسليمان نصيبهما، ولم يكن من مالي شئ أرده أغلى منها، وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فيئس الناس عند ذلك من المظالم، ثم أمر بأموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس، وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجع فيه شئ، وقال لهم: لتدعني وإلا ذهبت إلى مكة فنزلت عن هذا الامر لاحق الناس به، وقال: والله لو أقمت فيكم خمسين عاما ما أقمت فيكم إلا ما أريد من العدل، وإني لاريد الامر فما أنفذه إلا من طمع من الدنيا حتى تسكن قلوبهم.
وقال الامام أحمد عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال: إن كان في هذه الامة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز، ونحو هذا قال قتادة وسعيد بن المسيب وغير واحد.
وقال طاووس: هو مهدي وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله، إذا كان المهدي ثبت على المسئ من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال شديد على العمال رحيم بالمساكين.
وقال مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال: الخلفاء أبو بكر والعمران، فقيل له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر الآخر ؟ قال: يوشك إن عشت أن تعرفه، يريد عمر بن عبد العزيز، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو أشج بني مروان.
وقال عباد السماك وكان يجالس سفيان الثوري: سمعت الثوري يقول: الخلفاء خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز.
وهكذا روي عن أبي بكر بن عياش والشافعي وغير واحد.
وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل وأحد الخلفاء الراشدين والائمة المهديين.
وذكره غير واحد في الائمة الاثني عشر، الذين جاء فيهم الحديث الصحيح: " لا يزال أمر هذه الامة مستقيما حتى يكون فيهم اثني عشر خليفة كلهم من قريش " (1).
وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي: أين الغارمون ؟ أين الناكحون ؟ أين المساكين ؟ أين اليتامى ؟ حتى أغنى كلا من هؤلاء.
وقد اختلف العلماء أيهم أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان ؟ ففضل بعضهم عمر لسيرته ومعدلته وزهده وعبادته، وفضل آخرون معاوية لسابقته وصحبته، حتى قال بعضهم: ليوم شهده معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأيامه وأهل بيته.
وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في أول كتاب المهدي.
والامام أحمد في مسنده (5 / 92).
والبخاري في (93) كتاب الاحكام.
(51) باب.
ومسلم في كتاب الامارة (1) باب.
ص (1452).

وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي ؟ فقال: والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها.
وقالت زوجته فاطمة: دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك ؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الامة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والارملة الوحيدة والمظلوم المقهور.
والغريب والاسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الارض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عزوجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
وقال ميمون بن مهران: ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة ثم قال لي: إذا جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الارض.
وكتب إلى بعض عماله: إذا دعتك قدرتك على الناس إلى مظلمة، فاذكر قدرة الله عليك ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للاسلام سننا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الايمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الايمان، فإن أعش أبينها لكم لتعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وذكره البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به.
وذكر الصولي: أن عمر كتب إلى بعض عماله: عليك بتقوى الله فإنها هي التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل.
وقال: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدنيا
باليسير.
وقال: من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
وكلمه رجل يوما حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا ؟ قم عافاك الله لا حاجة لنا في مقاولتك.
وكان يقول: إن أحب الامور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة.
وخرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاؤوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مريئة تقول: إنه ابني وإنه يتيم، فقال لها عمر: هوني عليك، ثم قال لها عمر: أله عطاء في الديوان ؟

قالت: لا ! قال: فاكتبوه في الذرية.
فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك ؟ فعل الله به وفعل، المرة الاخرى يشج ابنك ثانية.
فقال: ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه.
وقال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي ؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة.
قالوا: ولم يكن له سوى قميص واحد فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر: - تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد قال: وكان يعجبه ويكرره وعمل به حق العمل.
قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما أو فلوسا يشتري له بها عنبا، فلم يجد عندها شيئا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنبا ؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الاغلال والانكل غدا في نار جهنم.
قالوا: وكان سراج بيته على ثلاث قصبات في رأسهن طين، قالوا: وبعث يوما غلامه ليشوي له لحمة فجاءه بها سريعا مشوية، فقال: أين شويتها ؟ قال: في المطبخ، فقال: في مطبخ المسلمين ؟ قال: نعم.
فقال: كلها فإني لم أرزقها، هي رزقك.
وسخنوا له الماء في المطبخ العام فرد بدل ذلك بدرهم حطبا.
وقالت زوجته: ما جامع ولا احتلم وهو خليفة.
قالوا: وبلغ عمر بن عبد العزيز عن أبي سلام الاسود أنه يحدث عن ثوبان بحديث الحوض فبعث إليه فأحضره على البريد
وقال له، كالمتوجع له: يا أبا سلام ما أردنا المشقة عليه، ولكن أردت أن تشافهني بالحديث مشافهة، فقال: سمعت ثوبان يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوسا، الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد ".
فقال عمر: لكني نكحت المتنعمات، فاطمة بنت عبد الملك، فلا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ألقي ثوبي حتى يتسخ.
قالوا: وكان له سراج يكتب عليه حوائجه، وسراج لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين، لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفا.
وكان يقرأ في الصحف كل يوم أول النهار، ولا يطيل القراءة، وكان له ثلاثمائة شرطي، وثلاثمائة حرسي، وأهدى له رجل من أهل بيته تفاحا فاشتمه ثم رده مع الرسول، وقال له: قل له قد بلغت محلها، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وهذا رجل من أهل بيتك، فقال: إن الهدية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأما نحن فهي لنا رشوة.
قالوا: وكان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار، وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لاشغال المسلمين، فقالوا له: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك ؟ فقال: لا أمنعهم حقا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم.
وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم فاعتذر بأن معهم سلفا كثيرا من قبل ذلك، وقال يوما لرجل من ولد علي: إني

لاستحي من الله أن تقف ببابي ولا يؤذن لك، وقال لآخر منهم: إني لاستحي من الله وأرغب بك أن أدنسك بالدنيا لما أكرمك الله به.
وقال أيضا: كنا نحن وبنو عمنا بنو هاشم مرة لنا ومرة علينا، نلجأ إليهم ويلجئون إلينا، حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق، وأخرست كل منافق، وأسكتت كل ناطق.
وقال أحمد بن مروان: ثنا أبو بكر ابن أخي خطاب، ثنا خالد بن خداش، ثنا حماد بن زيد عن موسي بن أيمن الراعي - وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة - قال: كانت الاسد والغنم والوحش
ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب فقلت: إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك.
قال فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة.
ورواه غيره عن حماد فقال: كان يرعى الشاة بكرمان فذكر نحوه، وله شاهد من وجه آخر، ومن دعائه: اللهم إن رجالا أطاعوك فيما أمرتهم وانتهوا عما نهيتهم، اللهم وإن توفيقك إياهم كان قبل طاعتهم إياك، فوفقني.
ومنه: اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر.
وقال له رجل: أبقاك الله ما كان البقاء خيرا لك، فقال: هذا شئ قد فرغ منه، ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الابرار.
وقال له رجل: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أصبحت بطيئا بطينا، متلوثا بالخطايا، أتمنى على الله عزوجل.
ودخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زين، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر: وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا قال: فأعرض عنه عمر.
وقال رجاء بن حيوة: سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشى السراج فقلت: يا أمير المؤمنين: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه ؟ فقال: لا ! دعه ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين.
فقلت: أفلا أقوم أصلحه ؟ فقال: لا ! ليس من المروءة استخدام الضيف، ثم قام بنفسه فأصلحه وصب فيه زيتا ثم جاء وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، وقال: أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها.
وقال: إنه ليمنعني من كثرة ذكرها مخافة المباهاة، وبلغه أن رجلا من أصحابه توفي، فجاء إلى أهله ليعزيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبكاء عليه، فقال: مه، إن صاحبكم لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت، وإن صاحبكم هذا، لم يسد شيئا من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وإن لكل امرئ منكم حفرة لا بد والله أن يسدها، إن الله عزوجل لما خلق الدنيا حكم عليها بالخراب، وعلى أهلها بالفناء وما امتلات دار خبرة إلا امتلات عبرة، ولا اجتمعوا إلا تفرقوا، حتى يكون الله هو الذي يرث الارض ومن عليها، فمن كان منكم باكيا فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه
صاحبكم كل الناس يصيرون إليه غدا.

وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي: يا أبا أيوب ! هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلاث، واستحكم فيهم البلاء ؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله لا أعلم أحدا انعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله، ينتظر ثواب الله.
وقال غيره: خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لاصحابه: قفوا حتى آتي قبور الاحبة: فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذ هتف به التراب فقال: يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الاحبة ؟ قال قلت: وما فعلت بهم ؟ قال: مزقت الاكفان، وأكلت اللحوم، وشدخت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصلب.
فلما أراد أن يذهب قال له: يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال: وما هي ؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح.
وقال مرة لرجل من جلسائه: لقد أرقت الليلة مفكرا، قال: وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لاستوحشت من قربه بعد طول الانس منك بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجري فيه الصديد، مع تغير الريح، وبلى الاكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال: ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه.
وقال مقاتل بن حيان: صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ (وقفوهم إنهم مسؤلون) [ الصافات: 24 ] فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها.
وقالت امرأته فاطمة: ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشئ من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس
يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
وقال بعضهم: رأيته يبكي حتى بكى دما، قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ (إن ربكم الذي خلق السموات والارض في ستة أيام) الآية، ويقرأ (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون) [ الاعراف: 53 ] ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة، وقال أبو بكر الصولي: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر: فما تزود مما كان يجمعه * سوى حنوط غداة البين في خرق

وغير نفحة أعواد تشب له * وقل ذلك من زاد لمنطلق بأيما بلد كانت منيته * إن لا يسر طائعا في قصدها يسق ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس وانحازوا إلى الظل فبكى وأنشد: من كان حين تصيب (1) الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فسوف يسكن يوما راغما جدثا في قعر مظلمة غبراء موحشة * يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا (2) تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى (3) لم تخلقي عبثا هذه الابيات ذكرها الآجري في أدب النفوس بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر، أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القراطيسي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني محمد بن صالح القرشي، أخبرني عمر بن الخطاب الازدي، حدثني ابن لعبد الصمد بن عبد الاعلى بن أبي عمرة قال: أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولا إلى إليون طاغية الروم يدعوه إلى الاسلام، فقال له
عبد الاعلى: يا أمير المؤمنين ! إئذن لي في بعض بني يخرج معي - وكان عبد الاعلى له عشرة من الذكور - فقال له: انظر من يخرج معك من ولدك.
فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيت ابنك عبد الله يمشي مشية كرهتها منه ومقته عليها، وبلغني أنه يقول الشعر.
فقال عبد الاعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة ينوح بها على نفسه، فقال له: مر عبد الله يأتيني وخذ معك غيره، فراح عبد الاعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم: تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا ولا تكدي لمن يبقى وتفتقري * إن الردى وارث الباقي وما ورثا واخشي حوادث صرف الدهر في مهل * واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا عن مدية كان فيها قطع مدته * فوافت الحرث موفورا كما حرثا لا تأمني فجع دهر مترف ختل * قد استوى عنده من طاب أو خبثا يا رب ذي أمل فيه على وجل * أضحى به آمنا أمسى وقد حدثا من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 375: تمس.
والاشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن.
(2) في الكامل، ورد البيت: في بطن مظلمة غبراء مقفرة * كيما يطيل بها في بطنها اللبثا (3) في الكامل للمبرد: يا نفس واقتصدي...

ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فكيف يسكن يوما راغما جدثا قفراء موحشة غبراء مظلمة * يطيل تحت الثرى من قعرها اللبثا وقد ذكرها ابن أبي الدنيا فعمر أنشدها عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمر يتمثل بها كثيرا ويبكي.
وقال الفضل بن عباس الحلبي: كان عمر بن عبد العزيز لا يجف فوه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له * من الله في دار القرار نصيب وزاد غيره معه بيتا حسنا وهو قوله: فإن تعجب الدنيا أناسا فإنها * متاع قليل والزوال قريب ومن شعره الذي أنشده ابن الجوزي: أنا ميت وعز من لا يموت * قد تيقنت أنني سأموت ليس ملك يزيله الموت ملكا * إنما الملك ملك من لا يموت وقال عبد الله بن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: تسر بما يفنى وتفرح بالمنى * كما اغتر باللذات في النوم حالم (1) نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم وسعيك فيما سوف تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال محمد بن كثير: قال عمر بن عبد العزيز يلوم نفسه: أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم * وكيف يطبق النوم حيران هائم فلو كنت يقظان الغداة لحرقت * محاجر (2) عينيك الدموع السواجم اصبحت في النوم الطويل وقد دنت * إليك أمور مفظعات عظائم وتكدح (3) فيما سوف تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 331: نسر بما يبلى، ونشغل بالمنى * كما سر بالاحلام في النوم حالم وفي صفوة الصفوة.
يغرك ما يفني وتشغل بالمنى * كما غر باللذات في النوم حالم (2) في صفة الصفوة 2 / 124: مدامع.
(3) في الصفة: وتشعل.
وغبه: كذا بالاصل والصفوة ولعلها غيبه أو عينه.
وعين الشئ ذاته ونفسه.
والعين أيضا: العيب.

فلا أنت في النوام يوما بسالم * ولا أنت في الايقاظ يقظان حازم وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن فاطمة بنت عبد الملك قالت: انتبه عمر ذات ليلة وهو يقول: لقد رأيت الليلة رؤيا عجيبة، فقلت: أخبرني بها، فقال: حتى نصبح، فلما صلى بالمسلمين دخل فسألته فقال: رأيت كأني دفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر وإذا فيها قصر كأنه الفضة فخرج منه خارج فنادى أين محمد بن عبد الله، أين رسول الله ؟ إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين أبو بكر الصديق ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن الخطاب ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عثمان بن عفان ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين علي بن أبي طالب ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن عبد العزيز ؟ فقمت فدخلت فجلست إلى جانب عمر بن الخطاب، وهو عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقلت: لابي: من هذا ؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثم سمعت هاتفا يهتف بيني وبينه نور لا أراه، وهو يقول: يا عمر بن عبد العزيز تمسك بما أنت عليه، واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت، فالتفت فإذا عثمان بن عفان وهو خارج من القصر وهو يقول: الحمد لله الذي نصرني ربي، وإذا علي في إثره وهو يقول: الحمد لله الذي غفر لي ربي.
فصل وقد ذكرنا في دلائل لنبوة الحديث الذي رواه أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ".
فقال جماعة من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن الجوزي وغيره: إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الاولى، وإن كان هو أولى من دخل في ذلك وأحق، لامامته وعموم ولايته، وقيامه واجتهاده في تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيرا ما تشبه به.
وقد جمع الشيخ أبو الفرج بن الجوزي سيرة لعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقد أفادنا سيرة عمر بن الخطاب في مجلد على
حدة، ومسنده في مجلد ضخم، وأما سيرة عمر بن عبد العزيز فقد ذكرنا منها طرفا صالحا هنا، يستدل به على ما لم نذكره.
وقد كان عمر رحمه الله يعطي من انقطع إلى المسجد الجامع من بلده وغيرها، للفقه ونشر العلم وتلاوة القرآن، في كل عام من بيت المال مائة دينار، وكان يكتب إلى عماله أن يأخذوا بالسنة، ويقول: إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله، وكتب إلى سائر البلاد أن لا يركب ذمي من اليهود والنصارى وغيرهم على سرج، ولا يلبس قباء ولا طيلسانا ولا السراويل، ولا يمشين أحد منهم إلا بزنار من جلد، وهو مقرون الناصية، ومن وجد منهم في منزله سلاح أخذ منه.
وكتب أيضا أن لا

يستعمل على الاعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير.
وكان يكتب إلى عماله: اجتنبوا الاشغال عند حضور الصلاة، فإن من أضاعها فهو لما سواها من شرائع الاسلام أشد تضييعا.
وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الوعوظ.
وقد صرح كثير من الائمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل.
ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك، وكتب إلى بعض عماله: أذكر ليلة تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيالها من ليلة ويا له من صباح، وكان يوما على الكافرين عسيرا.
وكتب إلى آخر: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الابد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قالوا: فخلع هذا العامل نفسه من العمالة وقدم على عمر فقال له: مالك ؟ فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبدا.
فصل وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى إنه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى إنه ترك التمتع
بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال كانت من أحسن النساء، ويقال إنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم.
وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم، وكان له من الاولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال إنه كان خيرا من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه، وكان قبل الخلافة يؤتي بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: ما أحسنه لو لا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع ولا يغسله حتى يتسخ جدا، ويقول: ما أحسنه لولا لينه.
وكان يلبس الفروة الغليظة، وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئا في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما ترك شيئا من الدينا إلا عوضني الله ما هو خير منه، وكان يأكل الغليظ ولا يبالي بشئ من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده.
حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لان عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون ؟ ليس من جرب كمن لم يجرب.
وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز.
وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئا، وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ

المروحة من يدها وجعل يروحها ويقول: أصابك من الحر ما أصابني.
وقال له رجل: جزاك الله عن الاسلام خيرا.
فقال: بل جزى الله الاسلام عني خيرا.
ويقال إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحا غليظا من شعر، ويضع في رقبته غلا إذا قام يصلي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنونه مالا أو جوهرا من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غسل ومسخ.
وكان يبكي حتى يبكي الدم من الدموع، ويقال إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله،
وقرأ رجل عنده (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) الآية [ الفرقان: 13 ]، فبكى بكاء شديدا ثم قام فدخل منزله وتفرق الناس عنه، وكان يكثر أن يقول: اللهم سلم سلم، وكان يقول: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لامة محمد صلى الله عليه وسلم، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال: أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم.
وقال: لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة.
وقال: الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الاولياء فغمتهم وأحزنتهم، وأما الاعداء فغرتهم وشتتتهم وأبعدتهم عن الله.
وقال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع.
وقال لرجل: من سيد قومك ؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقله.
وقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطي أو منع.
وقال: قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل: علم ولدك الفقه الاكبر: القناعة وكف الاذى.
وتكلم رجل عنده فأحسن فقال: هذا هو السحر الحلال.
وقصته مع أبي حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير حاله، فقال له: ألم يكن ثوبك نقيا ؟ ووجهك وضيا ؟ وطعامك شهيا ؟ ومركبك وطيا ؟ فقال له: ألم تخبرني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من ورائكم عقبة كؤودا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول " ؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الاربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل، فمن أنت ؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قتلني ربي كل قتلة قتلة، ثم ها أنا أنتظر ما ينتظره الموحدون.
وفضائله ومآثره كثيرة جدا، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.
ذكر سبب وفاته رحمه الله كان سببها السل، وقيل سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطي على ذلك ألف

دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم (1)، فقال: لقد علمت يوم سقيت السم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك ! ! ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: ألف دينار أعطيتها.
فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك.
ثم قيل لعمر: تدارك نفسك، فقال: والله لو أن شفائي أن أمس شحمة أذني أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشئ فإنهم فقراء ؟ فقال: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) [ الاعراف: 195 ] والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لاعينه على فسقه.
وفي رواية فلا أبالي في أي واد هلك.
وفي رواية أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت ؟ ما كنت لافعل.
ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال: انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم (2).
قال: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الاموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لان عمر وكل ولده إلى الله عزوجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا دفنت في القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال: والله لان يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل.
قالوا: وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص وكانت مدة مرضه عشرين يوما، ولما احتضر قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاثا، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحد النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لارى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته.
وفي رواية أنه قال لاهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب
مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) [ القصص: 83 ] ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض.
__________
(1) وهو قول ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 / 280 وقال ان يزيد بن عبد الملك دس إليه السم مع خادم له.
وفوات الوفيات وفيه: سقاه بنو أمية السم لما شدد عليهم.
وفي الطبري 8 / 137 وابن الاثير 5 / 58 ان مرضا ألم به وكانت شكواه عشرين يوما.
ولم يذكرا أنه مات مسموما.
(2) انظر وصيته لابنه محمد لما حضرته الوفاة في ابن الاعثم 7 / 323.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
فأدخلوها بين أكفانه ودفنوها معه.
وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده عن عمير بن حبيب السلمي، قال: أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت: ما يمنعك من ذلك ؟ فقلت: يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشئ.
فقالت: تريد الذهاب إلى بلادك ؟ قلت: نعم، فقالت: سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال: فسرت كذلك، قال فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيل مقبلة فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عمير ؟ فقلت: عمير.
فقلت: لهم أو ليس قد قتلتم ؟ قالوا: بلى، ولكن الله
عزوجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال: ثم قال لي بعضهم: ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيرا ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر.
وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فادلى، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضا، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة.
وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن ماهك فذكره، وفيه غرابة شديدة والله أعلم.
وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير (1) عزة يرثي عمر: -
__________
(1) قال المبرد في الكامل 2 / 322: وقال رجل من خزاعة وينحله كثير يرثي عمر بن عبد العزيز بن مروان (قال أبو الحسن: الذي صح عندنا أن هذا الشعر لقطرب النحوي).

عمت صنائعه فعم هلاكه (1) * فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد * في كل دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله * خيرا لانك بالثناء جدير ردت صنائعه عليه (2) حياته * فكأنه من نشرها منشور وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله: - ينعي النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمرا عظيما فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا عمرا (1)
الشمس كاسفة ليست بطالعة (4) * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: - لو أعظم الموت خلقا أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر كم من شريعة عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف الواجدين معى * على العدول التي تغتالها الحفر ثلاثة ما رأت عيني لهم شبها * تضم أعظمهم في المسجد الحفر وأنت تتبعهم لم تأل مجتهدا * سقيا لها سنن بالحق تفتقر لو كنت أملك والاقدار غالبة * تأتي رواحا وتبيانا وتبتكر صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر قالوا: وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل الجمعة لخمس مضين، وقيل بقين من رجب، وقيل لعشر بقين منه، سنة إحدى وقيل ثنتين ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل صلى عليه يزيد بن عبد الملك، وقيل ابنه عبد العزيز بن عمر بن
__________
(1) في المبرد: جلت رزيئته فعم مصابه.
وقبله فيه: أما القبور فإنهن أوانس * بجوار قبرك والديار قبور (2) في المبرد: إليه.
(3) البيت في كامل المبرد 1 / 403.
حملت أمرا جسيما فاصطبرت له * وقمت فيه بحق الله يا عمرا وفي العقد الفريد 2 / 281.
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له * وسرت فينا بحكم الله يا عمرا (4) في الكامل للمبرد والعقد: الشمس طالعة ليست بكاسفة...

عبد العزيز، وكان عمره يوم مات تسعا وثلاثين سنة وأشهرا، وقيل إنه جاوز الاربعين بأشهر، وقيل بستة.
وقيل بأكثر، وقيل إنه عاش ثلاثا وستين سنة، وقيل ستا وثلاثين، وقيل سبعا وثلاثين، وقيل ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل ما بين الثلاثين إلى الاربعين ولم يبلغها.
وقال أحمد عن عبد الرزاق عن معمر: مات على رأس خمس وأربعين سنة.
قال ابن عساكر: وهذا وهم، والصحيح الاول تسعا وثلاثين سنة وأشهرا.
وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل أربعة عشر يوما، وقيل سنتان ونصف.
وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين، بجبهته أثر شجة وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
فصل لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: ما لي ولك ؟ تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين.
ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال: أيها الناس ! إني قد ابتليت بهذا الامر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لانفسكم ولامركم من تريدون.
فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لانفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك.
فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شئ، وليس من تقوى الله خلف (1)، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه الامة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا، ثم رفع صوته فقال: أيها الناس ! من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع ؟ قال: يا بني أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم
إلى أهلها ؟ فقال: إني سهرت البارحة في أمر سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم.
فقال له ابنه: ومن لك أن تعيش إلى الظهر ؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.
ثم قام وخرج وترك القائلة وأمر مناديه
__________
(1) زيد في صفة الصفوة 2 / 114: فاعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم...

فنادى: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص (1) فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: ما ذاك ؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي.
والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول ؟ قال: نعم ! أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي ؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى.
فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته، فردها عليه.
ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه.
فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها، سواء كانت في يده أو في يد غيره حتى أخذ أموال بني مروان وغيرهم، مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئا، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان - وكانت عمته - فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأسا، وكانت هذه المرأة لا تحجب عن الخلفاء، ولا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها، لانها أخت أبيه، وألقى لها وسادة، وشرع يحادثها، فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر: يا عمة مالك ؟ فقالت: بنو أخي عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك ؟ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر ؟ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجد، فقال: يا عمه ! اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك الناس على نهر مورود، فولى ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئا حتى
مات، ثم ولى ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئا حتى مات، ثم ولى ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقائي الله لاردنه إلى مجراه الاول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الاقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك، فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم ؟ فقالت: فلا يسبوا عندك ؟ قال: ومن يسبهم ؟ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها.
ذكر ذلك ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية.
وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة: ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين ؟ فقالت: والله ماله قميص غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: ما أبكاك
__________
(1) في هامش المطبوعة: " في الاصل من أهل خضر وصححناه من سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي " وانظر صفة الصفوة 2 / 115.

يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه.
وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحه ؟ ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكرا، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية.
وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بهذه الابيات: - يرى مستكينا وهو للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله وأزعجه علم عن الجهل كله * وما عالم شيئا كمن هو جاهله عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم خدين يهازله تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله
وروى ابن أبي الدنيا عن ميمون بن مهران قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري وهو ينشده شعرا، فانتهى في شعره إلى هذه الابيات: - فكم من صحيح بات للموت آمنا * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فرارا ولا منه بقوته امتنع فأصبح تبكيه النساء مقنعا * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع وقرب من لحد فصار مقيله * وفارق ما قد كان بالامس قد جمع فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدما في المال ذا حاجة يدع وقال رجا بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد يا أمير المؤمنين ! إن هذا المرائي - يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين، في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر.
فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلف جوهرا ودرا في بيتين مقفولين.
فأرسلت إليه: يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد، إلا ما في هذا المنديل.
وأرسلت إليه به، فحله فوجد فيه قميصا غليظا مرقوعا، ورداء قشبا، وجبة محشوة غليظة واهية البطانة.
فقال يزيد للرسول: قل لها: ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين.
فأرسلت تقول له: والذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك.
فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي، وقمقم.
فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجدا مفروشا بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق

بقدر ما يدخل الانسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، ووجدوا صندوقا مقفلا ففتح فوجدوا فيه
سفطا ففتحه فإذا فيه دراعة وتبان، كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن معه وقال: يرحمك الله يا أخي، إن كنت لنقي السريرة، نقي العلانية.
وخرج عمر بن الوليد وهو مخذول وهو يقول: أستغفر الله، إنما قلت ما قيل لي.
وقال رجاء: لما احتضر جعل يقول: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب لما عجلت تأخيرا، ولا لما أخرت تعجيلا.
فلا زال يقول ذلك حتى مات.
وكان يقول: لقد أصبحت ومالي في الامور هوى إلا في مواضع قضاء الله فيها.
وقال شعيب بن صفوان: كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة: أما بعد يا عمر فإنه قد ولي الخلافة والملك قبلك أقوام، فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، فأنفقأت عينهم التي كانت لاتفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الاموال والاطعمة، وصاروا جيفا بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا يحقرونه وهم أحياء لتأذى بهم، ولنفر منهم، بعد إنفاق الاموال على أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الاموال إسرافا في أغراضهم وأهوائهم، ويقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم، وأنت غير محبوس ولا مرتهن بشئ فافعل، واستعن بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه: وما ملك عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه ومواكبه (1) ومن كان ذا باب شديد وحاجب (2) * فعما قليل يهجر الباب حاجبه وما كان غير الموت حتى تفرقت * إلى غيره أعوانه وحبائبه (3) فأصبح مسرورا به كل حاسد (4) * وأسلمه أصحابه وحبائبه (5)
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 222: وما سالم...وكتائبه.
(2) في مروج الذهب، ومن يك ذا بأس شديد ومنعة.
(3) في مروج الذهب: فما كان إلا الدفن حتى تفرقت * إلى غيره أحراسه ومواكبه (4) في مروج الذهب: كاشح...* واسلمه أحبابه وأقاربه وبعده: فنفسك أكسبها السعادة جاهدا * فكل امرئ هن بما هو كاسبه

وقيل إن هذه الابيات لغيره.
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص: حدثنا عاصم بن عامر، حدثنا أبي، عن عبد ربه بن أبي هلال، عن ميمون بن مهران قال تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم وعنده رهط من إخوانه ففتح له منطق وموعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له: يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فإني أرجو أن يمن الله به على من سمعه أو بلغه، فقال إليك عني يا أبا أيوب، فإن في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمن من المقال.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: استعملنا أقواما كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله، أما كانوا يمشون على القبور ! وروى عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يذكر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وبلغه عنه بعض ما يكره -: أما بعد فإنه غرني بك مجالستك الفراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثير مما تعملون.
وروى الطبراني والدار قطني وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما
أحدث المحدثون بعده، ممن قد حارب سنته، وكفوا مؤنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها - أو قال دليل عليها - فعليك لزوم السنة، فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الامور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، وإنما كان عملهم على الاسد، ولو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لانهم السابقون إلى كل خير، فإن قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، ورغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز.
ما أحسن هذا القول الذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلا بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء وغيرهم ؟ فرحمه الله وعفا عنه.
وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ عن سعيد بن أبي مريم، عن رشيد بن سعيد قال: حدثني عقيل، عن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز.
قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سننا، الاخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأى من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدي، ومن استبصر

بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته: إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله والدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر.
ثم تلا قوله تعالى (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) [ فصلت: 54 ] وقوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [ يوسف: 106 ].
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب
إليه عمر: بئس ما علمت، إذ قدمت إمام المسلمين صبيا لم يعرف النية - أو لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء، عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بني ليس الخير أن يسمع لك وتطاع، وإنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عزوجل ثم أطعته، يا بني لا تأذن اليوم لاحد علي حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عني، فقال له مولاه: رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال فبكى ثم قال: يا بني إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عزوجل.
قال: ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال: فما رأيته بعد ذلك متبسما حتى مات.
وقرأ ذات يوم (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) [ يونس: 61 ] الآية، فبكى بكاءا شديدا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما يبكيك ؟ فقال: يا بني خير، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار.
وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الاعلى بن أبي عبد الله العنبري.
قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ (إذا الشمس كورت) [ التكوير: 1 ] فقال: وما شأن الشمس (وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت) [ التكوير: 12 - 13 ] فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت حيطان المسجد تبكي معه، ودخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بى إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عني.
فبكى عمر وقال له: كم أنتم ؟ فقال: أنا وثلاث بنات.
ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من ماله، وقال له: اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.

وجاءه رجل من أهل اذربيجان فقام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا بين يديك مقامك غدا بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يخاصم من الخلائق، من يوم تلقاه بلائقة من العمل، ولا براءة من الذنب، قال: فبكى عمر بكاءا شديدا ثم قال له: ما حاجتك ؟ فقال: إن عاملك بأذربيجان عدا علي فأخذ مني اثني عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال.
فقال عمر: اكتبوا له الساعة إلى عاملها، فليرد عليه، ثم أرسله مع البريد.
وعن زياد مولى ابن عياش قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردة شاتية، فجعلت أصطلي على كانون هناك، فجاء عمرو هو أمير المؤمنين فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قص علي، قلت ما أنا بقاص، فقال: تكلم، فقلت زياد، فقال: ما له ؟ فقلت: لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار إذا دخل الجنة، فقال: صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون.
وقال له زياد العبدي: يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف واعملها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد: يا أمير المؤمنين أخبرني عن رجل له خصم ألد ما حاله ؟ قال: سئ الحال، قال: فإن كانا خصمين الدين ؟ قال: فهو أسوأ حالا، قال: فإن كانوا ثلاثة ؟ قال: ذاك حيث لا يهنئه عيش.
قال: فوالله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وهو خصمك، قال: فبكى عمر حتى تمنيت أني لم أكن حدثته ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أمورا انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الادم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنا من وجدناه شرب شيئا مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه، جعلنا له عقوبة شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلا.
خلافة يزيد بن عبد الملك
بويع له بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك أن يكون ولي الامر من بعد عمر بن عبد العزيز، فلما توفي عمر في رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة - بايعه الناس البيعة العامة، وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة، فعزل في رمضان منها عن إمرة المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وولى عليها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، فجرت بينه وبين أبي بكر بن حزم منافسات وضغائن، حتى آل الامر إلى أن استدرك عليه حكومة فحده حدين فيها (1).
__________
(1) حده في خلاف سابق بينه وبين عثمان بن حيان دون أن يسأله عبد الرحمن شيئا.
(انظر الطبري 8 / 142 وابن الاثير 5 / 67).

وفيها كانت وقعة بين الخوارج، وهم أصحاب بسطام الخارجي، وبين جند الكوفة، وكانت الخوارج جماعة قليلة، وكان جيش الكوفة نحوا من عشرة آلاف فارس، وكادت الخوارج أن تكسرهم، فتذامروا بينهم فطحنوا الخوارج طحنا عظيما، وقتلوهم عن آخرهم، فلم يبقوا منهم ثائرة.
وفيها خرج يزيد بن المهلب فخلع يزيد بن عبد الملك واستحوذ على البصرة، وذلك بعد محاصرة طويلة، وقتال طويل، فلما ظهر عليها بسط العدل في أهلها، وبذل الاموال، وحبس عاملها عدي بن أرطاة، لانه كان قد حبس آل المهلب الذين كانوا بالبصرة (1)، حين هرب يزيد بن المهلب من محبس عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا، ولما ظهر على قصر الامارة أتي بعدي بن أرطاة فدخل عليه وهو يضحك، فقال يزيد بن المهلب: إني لاعجب من ضحكك، لانك هربت من القتال كما تهرب النساء، إنك جئتني وأنت تتل كما يتل العبد.
فقال عدي: إني لاضحك لان بقائي بقاء لك وأن من ورائي طالبا لا يتركني، قال: ومن هو ؟ قال: جنود بني أمية بالشام، ولا يتركونك، فدارك نفسك (2) قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فتطلب الاقالة فلا تقال (3).
فرد عليه يزيد جواب ما قال، ثم سجنه كما سجن أهله، واستقر أمر يزيد بن المهلب على البصرة، وبعث نوابه في النواحي والجهات، واستناب في الاهواز، وأرسل أخاه مدرك بن المهلب على نيابة خراسان، ومعه جماعة من المقاتلة، فلما بلغ خبره الخليفة يزيد بن عبد الملك جهز ابن أخيه
العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف (4)، مقدمة بين يدي عمه مسلمة بن عبد الملك، وهو في جنود الشام، قاصدين البصرة لقتاله، ولما بلغ يزيد بن المهلب مخرج الجيوش إليه خرج من البصرة واستناب عليها أخاه مروان بن المهلب، وجاء حتى نزل واسط، واستشار من معه من الامراء فيما ذا يعتمده ؟ فاختلفوا عليه في الرأي، فأشار عليه بعضهم بأن يسير إلى الاهواز ليتحصن في رؤوس الجبال، فقال: إنما تريدون أن تجعلوني طائرا في رأس جبل ؟ وأشار عليه رجل أهل العراق أن يسير إلى الجزيرة فينزلها بأحصن حصن فيها، ويجتمع عليه أهل الجزيرة فيقاتل بهم أهل الشام، وانسلخت هذه السنة وهو نازل بواسط وجيش الشام قاصده.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس أمير المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن
__________
(1) ومنهم: المفضل وحبيب ومروان وعبد الملك بنو المهلب.
وفي الفتوح لابن الاعثم 8 / 1: بعث المفضل وحبيب ومروان وحماد وجميع اخوة يزيد بن المهلب فحبسهم وحبس مواليهم وشيعتهم.
(2) في الطبري 8 / 101: فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة.
(3) زيد في الطبري: وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين وما لم يشخص القوم إليك لم يمنعوك شيئا طلبت فيه الامان على نفسك وأهلك ومالك.
(4) في ابن الاعثم 8 / 12: عشرين ألفا.

الخطاب، وعلى قضائها عامر الشعبي، وعلى البصرة يزيد بن المهلب.
قد استحوذ عليها وخلع أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك.
وفيها توفي عمر بن عبد العزيز، وربعي بن حراش، وأبو صالح السمان وكان عابدا صادقا ثبتا، وقد ترجمناه في كتابنا التكميل والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين ومائة فيها كان اجتماع مسلمة بن عبد الملك مع يزيد بن المهلب، وذلك أن يزيد بن المهلب ركب من واسط واستخلف عليها ابنه معاوية، وسار هو في جيش، وبين يديه أخوه عبد الملك بن
المهلب، حتى بلغ مكانا يقال له العقر (1)، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنود لا قبل ليزيد بها، وقد التقت المقدمتان أولا فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم أهل البصرة أهل الشام، ثم تذامر أهل الشام فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة من الشجعان، منهم المنتوف، وكان شجاعا مشهورا، وكان من موالي بكر بن وائل، فقال في ذلك الفرزدق: تبكي على المنتوف بكر بن وائل * وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما فأجابه الجعد بن درهم مولى الثوريين من همدان، وهذا الرجل هو أول الجهمية، وهو الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الاضحى فقال الجعد: - نبكي على المنتوف في نصر قومه * وليتنا نبكي الشائدين أباهما أرادا فناء الحي بكر بن وائل * فعزتميم لو أصيب فناهما فلا لقيا روحا من الله ساعة * ولا رقأت عينا شجي بكاهما أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما * ولقد لقيا بالغش فينا رداهما ولما اقترب مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد من جيش يزيد بن المهلب، خطب يزيد بن المهلب الناس وحرضهم على القتال - يعني قتال أهل الشام - وكان مع يزيد نحو من مائة ألف، وعشرين ألفا (2)، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، ومن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن خالفنا قاتلناه.
وكان الحسن البصري في هذه الايام يحرض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة،
__________
(1) العقر: قال في معجم البلدان: العقر عدة مواضع، منها عقر بابل قرب كربلاء من الكوفة...قتل عنده يزيد بن المهلب في صفر سنة 102 وكان قد خلع طاعة بني مروان ودعا إلى نفسه.
(2) في ابن الاعثم 8 / 15: ويزيد في نيف من عشرين ألفا.

وينهاهم أشد النهي، وذلك لما وقع من القتال الطويل العريض في أيام ابن الاشعث، وما قتل بسبب
ذلك من النفوس العديدة، وجعل الحسن يخطب الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك (1) بن المهلب، فقام في الناس خطيبا فأمرهم بالجد والجهاد، والنفر إلى القتال، ثم قال: ولقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس، أما والله ليكفن عن ذلك أو لافعلن ولافعلن، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال: أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه حتى زالت دولتهم، وذلك أن الجيوش لما تواجهت تبارز الناس قليلا، ولم ينشب الحرب شديدا حتى فر أهل العراق سريعا، وبلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه حرق فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب: ما بال الناس ؟ ولم يكن من الامر ما يفر من مثله، فقيل له: إنه بلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه قد حرق.
فقال: قبحهم الله، ثم رام أن يرد المنهزمين فلم يمكنه، فثبت في عصابة من أصحابه وجعل بعضهم يتسللون منه حتى بقي في شرذمة قليلة، وهو مع ذلك يسير قدما لا يمر بخيل إلا هزمهم، وأهل الشام يتجاورون عنه يمينا وشمالا، وقد قتل أخوه حبيب بن المهلب، فازداد حنقا وغيظا، وهو على فرس له أشهب (2)، ثم قصد نحو مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره، فلما واجهه حملت عليه خيول الشام فقتلوه، وقتلوا معه أخاه محمد بن المهلب، وقتلوا السميذع، وكان من الشجعان، وكان الذي قتل يزيد بن المهلب رجل يقال له القجل بن عياش (3)، فقتل إلى جانب يزيد بن المهلب، وجاؤوا برأس يزيد إلى مسلمة بن عبد الملك، فأرسله مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى أخيه أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما في معسكر يزيد بن المهلب، وأسر منهم نحوا من ثلاثمائة (4)، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، فسار مسلمة فنزل الحيرة.
ولما انتهت هزيمة ابن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمد إلى نحو من ثلاثين (5) أسيرا في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عدي بن أرطاة رحمه الله وابنه، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع، وجماعة من الاشراف، ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه الخزائن من الاموال، وجاء معه عمه المفضل بن المهلب إليه، فاجتمع آل المهلب بالبصرة فأعدوا السفن وتجهزوا أتم الجهاز
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 80 وابن الاعثم 8 / 12 والطبري 8 / 153: مروان بن المهلب.
(2) في مروج الذهب 3 / 244: أبلق.
(3) في ابن الاعثم 8 / 17: عياش الفحل من بني كلب.
وفي رواية في ابن الاثير 5 / 83: وقيل بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي.
(4) في ابن الاعثم 8 / 20: نيف على أربعمائة رجل ضرب أعناقهم إلا ثلاثين من رؤسائهم ليحملهم إلى يزيد بن عبد الملك.
(5) في ابن الاثير 5 / 84 والطبري 8 / 157: اثنين وثلاثين.

واستعدوا للهرب، فساروا بعيالهم وأثقالهم حتى أتوا جبال كرمان فنزلوها، واجتمع عليهم جماعة ممن فل من الجيش الذي كان مع يزيد بن المهلب، وقد أمروا عليهم المفضل بن المهلب، فأرسل مسلمة جيشا عليهم هلال بن ماجور المحاربي في طلب آل المهلب، ويقال إنهم أمروا عليهم رجلا يقال له مدرك بن ضب الكلبي (1)، فلحقهم بجبال كرمان فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا، فقتل جماعة من أصحاب المفضل وأسر جماعة من أشرافهم وانهزم بقيتهم، ثم لحقوا المفضل فقتلوه وحمل رأسه إلى مسلمة بن عبد الملك، وأقبل جماعة من أصحاب يزيد بن المهلب فأخذوا لهم أمانا من أمير الشام منهم مالك بن إبراهيم بن الاشتر النخعي، ثم أرسلوا بالاثقال والاموال والنساء والذرية فوردت على مسلمة بن عبد الملك ومعهم رأس المفضل ورأس عبد الملك بن المهلب، فبعث مسلمة بالرؤوس وتسعة من الصبيان الحسان إلى أخيه يزيد، فأمر بضرب أعناق أولئك، ونصبت رؤوسهم بدمشق ثم أرسلها إلى حلب فنصبت بها، وحلف مسلمة بن عبد الملك ليبيعن ذراري آل المهلب، فاشتراهم بعض الامراء إبرارا لقسمه بمائة ألف، فأعتقهم وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة من ذلك الامير شيئا.
وقد رثا الشعراء يزيد بن المهلب بقصائد ذكرها ابن جرير.
ولاية مسلمة على بلاد العراق وخراسان وذلك أنه لما فرغ من حرب آل المهلب كتب إليه أخوه يزيد بن عبد الملك بولاية الكوفة والبصرة
وخراسان في هذه السنة.
فاستناب على الكوفة وعلى البصرة (2)، وبعث إلى خراسان ختنه - زوج ابنته - سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، الملقب بخذينة، فسار إليها فحرض أهلها على الصبر والشجاعة، وعاقب عمالا ممن كان ينوب لآل المهلب، وأخذ منهم أموالا جزيلة، ومات بعضهم تحت العقوبة.
ذكر وقعة جرت بين الترك والمسلمين وذلك أن خاقان الملك الاعظم ملك الترك، بعث جيشا إلى الصفد لقتال المسلمين، عليهم رجل منهم يقال له كورصول، فأقبل حتى نزل على قصر الباهلي، فحصره وفيه خلق من المسلمين
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 244: هلال بن أحوز المازني.
وفي ابن الاعثم 8 / 23: فوجه في طلبهم قائدين وذكرهما مدرك...وهلال بن أحوز التميمي.
وفي الطبري 8 / 158: رد مدرك وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي.
وانظر ابن الاثير 5 / 86.
(2) ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وبعث مسلمة إلى البصرة عبد الرحمن بن سليم الكلبي (وفي ابن الاثير: سليمان: وفي ابن الاعثم الكلابي) الطبري 8 / 160 ابن الاثير 5 / 89 ابن الاعثم 8 / 25.

فصالحهم نائب سمرقند - وهو عثمان بن عبد الله بن مطرف - على أربعين ألفا، ودفع إليهم سبعة عشر دهقانا رهائن عندهم، ثم ندب عثمان الناس فانتدب رجل يقال له المسيب بن بشر الرياحي في أربعة آلاف، فساروا نحو الترك، فلما كان في بعض الطريق [ خطبهم ] فحثهم على القتال وأخبرهم أنه ذاهب إلى الاعداء لطلب الشهادة، فرجع عنه أكثر من ألف، ثم لم يزل في كل منزل يخطبهم ويرجع عنه بعضهم، حتى بقي في سبعمائة مقاتل، فسار بهم حتى غالق جيش الاتراك، وهم محاصرو ذلك القصر، وقد عزم المسلمون الذين هم فيه على قتل نسائهم وذبح أولادهم أمامهم، ثم ينزلون فيقاتلون حتى يقتلوا عن آخرهم، فبعث إليهم المسيب يثبتهم يومهم ذلك، فثبتوا ومكث المسيب حتى إذا كان وقت السحر فكبر وكبر أصحابه، وقد جعلوا شعارهم يا محمد، ثم حملوا على
الترك حملة صادقة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعقروا دواب كثيرة، ونهض إليهم الترك فقاتلوهم قتالا شديدا، حتي فر أكثر المسلمين، وضربت دابة المسيب في عجزها فترجل وترجل معه الشجعان، فقاتلوا وهم كذلك قتالا عظيما، والتف الجماعة بالمسيب وصبروا حتى فتح الله عليهم، وفر المشركون بين أيديهم هاربين لا يلوون على شئ، وقد كان الاتراك في غاية الكثرة، فنادى منادي المسيب: أن لا تتبعوا أحدا، وعليكم بالقصر وأهله، فاحتملوهم وحازوا ما في معسكر أولئك الاتراك من الاموال والاشياء النفيسة وانصرفوا راجعين سالمين بمن معهم من المسلمين الذين كانوا محصورين، وجاءت الترك من الغد فلم يجدوا به داعيا ولا مجيبا، فقالوا في أنفسهم: هؤلاء الذين لقونا بالامس لم يكونوا إنسا، إنما كانوا جنا.
وممن توفي فيها من الاعيان والسادة: الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم، ويقال أبو محمد، الخراساني، كان يكون ببلخ وسمرقند ونيسابور، وهو تابعي جليل روى عن أنس وابن عمر وأبي هريرة، وجماعة من التابعين، وقيل إنه لم يصح له سماع من الصحابة حتى ولا من ابن عباس سماع، وإن كان قد روي أنه جاوره سبع سنين، وكان الضحاك إماما في التفسير، قال الثوري: خذوا التفسير عن أربعة، مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك، وقال الامام أحمد: هو ثقة، وأنكر شعبة سماعه من ابن عباس، وقال: إنما أخذ عن سعيد عنه، وقال ابن سعيد القطان: كان ضعيفا.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لم يشافه أحدا من الصحابة، ومن قال: إنه لقي ابن عباس فقدوهم، وحملت به أمه سنتين، ووضعته وله أسنان، وكان يعلم الصبيان حسبة، وقيل إنه مات سنة خمس وقيل سنة ست ومائة والله أعلم.
أبو المتوكل الناجي اسمه علي بن البصري، تابعي جليل، ثقة، رفيع القدر، مات وقد بلغ الثمانين رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثلاث ومائة
فيها عزل أمير العراق عمر بن هبيرة سعيد - الملقب خذينة عن نيابة خراسان (1)، وولى عليها سعيد بن عمرو الجريشي (2)، بإذن أمير المؤمنين، وكان سعيد هذا من الابطال المشهورين، انزعج له الترك وخافوه خوفا شديدا، وتقهقروا من بلاد الصفد إلى ما وراء ذلك، من بلاد الصين وغيرها، وفيها جمع يزيد بن عبد الملك لعبد الرحمن بن الضحاك بن قيس بين إمرة المدينة وإمرة مكة، وولى عبد الرحمن الواحد بن عبد الله النضري نيابة الطائف.
وحج بالناس فيها أمير الحرمين عبد الرحمن ابن الضحاك بن قيس والله سبحانه وتعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: يزيد بن أبي مسلم أبو العلاء المدني.
عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد القاص المدني، مولى ميمونة، وهو أخو سليمان، وعبد الله، وعبد الملك، وكلهم تابعي.
وروى هذا عن جماعة من الصحابة، ووثقه غير واحد من الائمة، وقيل إنه توفي سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقيل توفي قبل المائة بالاسكندرية، وقد جاوز الثمانين والله سبحانه أعلم.
مجاهد بن جبير المكي أبو الحجاج القرشي المخزومي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، أحد أئمة التابعين والمفسرين كان من أخصاء أصحاب ابن عباس، وكان أعلم أهل زمانه بالتفسير، حتى قيل إنه لم يكن أحد يريد بالعلم وجه الله إلا مجاهد وطاووس، وقال مجاهد: أخذ ابن عمر بركابي وقال: وددت أن ابني سالما وغلامي نافعا يحفظان حفظك.
وقيل إنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقيل مرتين، أقفه عند كل آية وأسأله عنها (3)، مات مجاهد وهو ساجد سنة مائة، وقيل إحدى وقيل ثنتين وقيل ثلاث ومائة، وقيل أربع ومائة، وقد جاوز الثمانين والله أعلم.
فصل أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمرو وأبي سعيد ورافع بن خديج.
وعنه خلق من التابعين (4) قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم،
__________
(1) وسبب عزله أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة فشكواه (الطبري -
ابن الاثير).
(2) في ابن الاثير 5 / 103: الحرشي من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (الطبري 8 / 168).
(3) في صفة الصفوة 2 / 209: ثلاث عرضات - وزاد - أسأله عن كل آية كيف أنزلت وكيف كانت.
(4) منهم: عطاء وطاووس وعكرمة وغيرهم.

ثنا عبد الرزاق، عن أبي بكر بن عياش قال: أخبرني أبويحيى أنه سمع مجاهدا يقول: قال لي ابن عباس: لا تنامن إلا على وضوء فإن الارواح تبعث على ما قبضت عليه.
وروى الطبراني عنه أنه قال في قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن) [ المؤمنون: 96 ] قال: يسلم عليه إذا لقيه وقيل هي المصافحة.
وروى عمرو بن مرة عنه أنه قال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: اتق لا يأخذك الله على ذنب لا ينظر فيه إليك فتلقاه حين تلقاه وليست لك حاجة.
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أمامة، عن الاعمش عن مجاهد.
قال: كان بالمدينة أهل بيت ذوي حاجة، عندهم رأس شاة فأصابوا شيئا، فقالوا: لو بعثنا بهذا الرأس إلى من هو أحوج إليه منا، فبعثوا به فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم أولا.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي الاحوص عن منصور عن مجاهد قال: ما من مؤمن يموت إلا بكى عليه السماء والارض أربعين صباحا.
وقال: فلانفسهم يمهدون.
قال: في القبر.
وروى الاوزاعي عن عبدة بن أبي لبانة عن مجاهد قال: كان يحج من بني إسرائيل مائة ألف، فإذا بلغوا أرصاف الحرم خلعوا نعالهم ثم دخلوا الحرم حفاة.
وقال يحيى بن سعيد القطان قال مجاهد في قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك) [ آل عمران: 43 ] قال: اطلبي الركود.
وفي قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) [ الاسراء: 64 ] قال المزامير.
وقال في قوله تعالى (أنكالا وجحيما) [ المزمل: 12 ] قال: قيود.
وقال في قوله: (لاحجة بيننا وبينكم) [ الشورى: 15 ] قال لا خصومة.
وقال: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) [ التكاثر: 8 ] قال: عن كل لذة في الدنيا.
وروى أبوالديبع عن جرير بن عبد الحسيب عن منصور عن مجاهد.
قال رن إبليس أربع رنات،
حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت (الحمد لله رب العالمين) [ الفاتحة: 2 ] وأنزلت بالمدينة.
وكان يقال: الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر.
وروى ابن أبي نجيح عنه في قوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) [ الشعراء: 128 ] قال: بروج الحمام.
وقال في قوله تعالى (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) [ البقرة: 267 ] قال: التجارة.
وروى ليث عن مجاهد قال (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [ فصلت: 30 ] قال: استقاموا فلم يشركوا حتى ماتوا.
وروى يحيى بن سعيد بن سفيان عن ابن أبجر عن طلحة بن مصرف عن مجاهد (ولم يكن له كفوا أحد) [ اخلاص: 4 ] قال: صاحبة.
وقال ليث عن مجاهد قال: النملة التي كلمت سليمان كانت مثل الذئب العظيم.
وروى الطبراني عن أبي نجيح عن مجاهد.
قال: كان الغلام من قوم عاد لا يحتلم حتى يبلغ مائتي سنة.
وقال: (سأل سائل) [ المعارج: 1 ] دعا داع.
وفي قوله (ماء غدقا لنفتنهم فيه) [ الجن: 16 - 17 ] حتى يرجعوا إلى علمي فيه (لا يشركون بي شيئا) [ النور: 55 ] قال لا يحبون غيري.
(الذين يمكرون السيئات) [ غافر: 10 ] قال هم المراؤن.
وفي قوله تعالى: (قل

للذين آمنوا يغفرون للذين لا يرجون أيام الله) [ الجاثية: 13 ] قال هم الذين لا يدرون أنعم الله عليهم أم لم ينعم.
ثم قرأ (وذكرهم بأيام الله) [ ابراهيم: 5 ] قال: أيامه نعمه ونقمه.
(فردوه إلى الله والرسول) [ النساء: 58 ] فردوه إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا، فإذا مات فإلى سنته.
(وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة) [ لقمان: 20 ] قال: أما الظاهرة فالاسلام والقرآن والرسول والرزق، وأما الباطنة فما ستر من العيوب والذنوب.
وروى الحكم عن مجاهد قال: لما قدمت مكة نساء على سليمان عليه السلام رأت حطبا جزلا فقالت لغلام سليمان: هل يعرف مولاك كم وزن دخان هذا الحطب ؟ فقال الغلام: دعي مولاي أنا أعرف كم وزن دخانه، فكيف مولاي ؟ قالت: فكم وزنه ؟ فقال الغلام: يوزن الحطب ثم يحرق الحطب ويوزن رماده فما نقص فهو دخانه.
وقال في قوله تعالى: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) [ الحجرات: 11 ] قال: من
لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى فهو من الظالمين.
وقال ما من يوم ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ثم يطوى عليه فيختم إلى يوم القيامة، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يفض خاتمه.
وقال في قوله تعالى: (يؤتى الحكمة من يشاء) [ البقرة: 269 ] قال: العلم والفقه، وقال إذا ولي الامر منكم الفقهاء.
وفي قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [ الانعام: 153 ] قال: البدع والشبهات.
وقال: أفضل العبادة الرأي الحسن - يعني اتباع السنة - وقال: ما أدري أي النعمتين أفضل، أن هداني للاسلام، أو عافاني من الاهواء ؟.
وقال في رواية: أولو الامر منكم، أصحاب محمد، وربما قال: أولو العقل والفضل في دين الله عزوجل (بما صنعوا قارعة) [ الرعد: 31 ] قال السرية.
(ويخلق ما لا تعلمون) [ النحل: 8 ].
قال: السوس في الثياب.
(وهن العظم مني) [ مريم: 3 ] قال: الاضراس.
(حفيا) قال رحيما.
وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت في كتاب محمد بن أبي حاتم بخط يده: حدثنا بشر بن الحارث حدثنا يحيى بن يمان عن عثمان بن الاسود عن مجاهد.
قال: لو أن رجلا أنفق مثل أحد في طاعة الله عزوجل لم يكن من المسرفين.
وفي قوله تعالى (وهو شديد المحال) [ الرعد: 14 ] قال: العداوة (بينهما برزخ لا يبغيان) [ الرحمن: 20 ] قال: بينهما حاجز من الله فلا يبغي الحلو على المالح ولا المالح على الحلو.
وقال ابن منده: ذكر محمد بن حميد: حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الاعمش قال: كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها، قال: وذهب إلى حضر موت إلى بئر برهوت قال: وذهب إلى بابل، قال: وعليها وال صديق لمجاهد: فقال مجاهد: تعرض على هاروت وماروت، قال: فدعا رجلا من السحرة فقال: اذهب بهذا فاعرض عليه هاروت وماروت.
فقال اليهودي: بشرط أن لا تدعو الله عندهما، قال مجاهد: فذهب بي إلى قلعة فقطع منها حجرا ثم قال: خذ برجلي، فهوى بي حتى انتهى إلى حوبة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين العظيمين، فلما رأيتهما

قلت: سبحان الله خالقكما، قال: فاضطربا فكأن جبال الدنيا قد تدكدت، قال: فغشي علي وعلى
اليهودي، ثم أفاق اليهودي قبلي، فقال: قم ! كدت أن تهلك نفسك وتهلكني.
وروى ابن فضيل عن ليث عن مجاهد قال: يؤتى يوم القيامة بثلاثة نفر، بالغني، والمريض، والعبد المملوك.
قال: فيقول الله عزوجل للغني: ما شغلك عن عبادتي التي إنما خلقتك لها ؟ فيقول يا رب أكثرت لي من المال فطغيت.
فيؤتى بسليمان عليه السلام في ملكه فيقول لذا: أنت كنت أكثر مالا وأشد شغلا أم هذا ؟ قال: فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله له: فإن هذا لم يمنعه ما أوتي من الملك والمال والشغل عن عبادتي.
قال: ويؤتى بالمريض فيقول: ما منعك عن عبادتي التي خلقتك لها ؟ فيقول: يا رب شغلني عن هذا مرض جسدي، فيؤتى بأيوب عليه السلام في ضره وبلائه، فيقول له: أأنت كنت أشد ضرا ومرضا أم هذا ؟ فيقول: بل هذا، فيقول: إن هذا لم يشغله ضره ومرضه عن عبادتي.
ثم يؤتى بالمملوك فيقول الله له: ما منعك من عبادتي التي خلقتك لها ؟ فيقول رب فضلت علي أربابا فملكوني وشغلوني عن عبادتك.
فيؤتى بيوسف عليه السلام في رقه وعبوديته فيقول الله له: أأنت كنت أشد في رقك وعبوديتك أم هذا ؟ فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله: فإن هذا لم يشغله ما كان فيه من الرق عن عبادتي.
وروى حميد عن الاعرج عن مجاهد.
قال: كنت أصحب ابن عمر في السفر فإذا أردت أن أركب مسك ركابي، فإذا ركبت سوى علي ثيابي فرآني مرة كأني كرهت ذلك في، فقال: يا مجاهد إنك لضيق الخلق، وفي رواية: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن رجل عن مجاهد.
قال: جعلت الارض لملك الموت مثل الطست يتناول منها حيث شاء، وجعل له أعوان يتوفون الانفس ثم يقبضها منهم.
وقال: لما هبط آدم إلى الارض قال له: ابن للخراب ولد للفناء.
وروى قتيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد.
(ويلعنهم اللاعنون) [ البقرة: 159 ] قال: تعلن عصاة بني آدم دواب الارض وما شاء الله حتى الحيات والعقارب،: يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم.
وقال غيره: تسلط الحشرات على العصاة في قبورهم، لما كان ينالهم من الشدة بسب ذنوبهم، فتلك الحشرات من العقارب والحيات هي السيئات التي كانوا يعملونها في الدنيا ويستلذونها، صارت عذابا
عليهم.
نسأل الله العافية.
وقال: (إن الانسان لربه لكنود) [ العاديات: 6 ] لكفور.
وقال الامام أحمد: حدثنا عمر بن سليمان، حدثني مسلم أبو عبد الله عن ليث عن مجاهد قال: من لم يستحي من الحلال خفت مؤنته وأراح نفسه.
وقال عمرو بن زروق حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد.
قال (فظن أن لن نقدر عليه) [ الانبياء: 87 ] أن لن نعاقبه بذنبه.
وبهذا الاسناد قال: لم أكن أحسن ما الزخرف حتى سمعتها في قراءة عبد الله بيتا من ذهب.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا خلف بن خليفة عن ليث عن مجاهد: إن الله عزوجل ليصلح بصلاح العبد ولده.
قال:

وبلغني أن عيسى عليه السلام كان يقول: طوبي للمؤمن كيف يخلفه الله فيمن ترك بخير.
وقال الفضيل بن عياض عن عبيد المكتب عن مجاهد في قوله تعالى (وتقطعت بهم الاسباب) [ البقرة 166 ] الاوصال التي كانت بينهم في الدنيا.
وروى سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) [ التوبة: 11 ] قال: الال الله عزوجل.
وقال في قوله تعالى (بقية الله خير لكم) [ هود: 85 ] طاعة الله عز وجل.
وفي قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) [ الرحمن: 46 ] قال: هو الذي يذكر الله عند الهم بالمعاصي.
وقال الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد: (سيماهم في وجوههم) [ الفتح: 29 ] الخشوع.
وفي قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) [ البقرة: 238 ] قال: القنوت الركود والخشوع وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله.
وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصا، أو يعبث بشئ أو يحدث نفسه بشئ من الدنيا.
إلا خاشعا ما دام في صلاته.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو عمرو، حدثنا إبن إدريس، حدثني عقبة بن إسحاق - وأثنى عليه خيرا حدثنا ليث عن مجاهد.
قال: كنت إذا رأيت العرب استخفيتها وجدتها من وراء دينها، فإذا دخلوا في الصلاة فكأنما أجساد ليست فيها أرواح.
وروى الاعمش عنه قال: إنما القلب منزلة الكف، فإذا أذنب الرجل ذنبا قبض هكذا - وضم الخنصر حتى ضم أصابعه كلها
اصبعا اصبعا - قال: ثم يطبع، فكانوا يرون ذلك الران: قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [ المطففين: 14 ] وروى قبيصة عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) [ البقرة: 81 ] قال الذنوب تحيط بالقلوب كالحائط المبني على الشئ المحيط، كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب حتى تكون هكذا - ثم قبض يده - ثم قال: هو الران.
وفي قوله (بما قدم وأخر) [ القيامة: 13 ] قال: أول عمل العبد وآخره (وإلى ربك فارغب) [ الانشراح: 8 ] قال: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فاجعل رغبتك إليه، ونيتك له.
وعن منصور عن مجاهد (النفس المطمئنة) [ الفجر: 27 ] قال: هي النفس التي قد أيقنت أن الله ربها وضربت حاشا لامره وطاعته.
وروى عبد الله بن المبارك عن ليث عن مجاهد: قال: ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه، إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر، وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو.
وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مجاهد، قال: قال إبليس: إن يعجزني ابن آدم فلن يعجزني من ثلاث خصال: آخذ مال بغير حق، وإنفاقه في غير حقه (1).
__________
(1) كذا بالاصل...

وقال أحمد: حدثنا ابن نمير قال: قال الاعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا ظننت أنه حر مندح (1) قد ضل حمارة فهو مهتم.
وعن ليث عن مجاهد قال: من أكرم نفسه وأعزها أذل دينه، ومن أذل نفسه أعز دينه.
وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد قال: قال لي: يا أبا الغازي كم لبث نوح في الأرض قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاما، قال: فإن الناس لم يزدادوا في أعمارهم وأجسادهم وأخلاقهم إلا نقصا.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي علية عن ليث عن مجاهد قال: ذهبت العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم.
وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لو لم يصب المسلم من أخيه إلا أن حياء منه يمنعه من المعاصي
لكان في ذلك خير.
وقال: الفقيه من يخاف الله وإن قل علمه، والجاهل من عصى الله وإن كثر علمه.
وقال: إن العبد إذا أقبل على الله بقلبه أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه في قوله تعالى: (وثيابك فطهر) [ المدثر: 4 ] قال: عملك فأصلح.
(واسألوا الله من فضله) [ النساء: 31 ] قال: ليس من عرض الدنيا (والذي جاء بالصدق وصدق به) [ الزمر: 33 ] قال هم الذين يجيئون بالقرآن قد اتبعوه وعملوا بما فيه.
وقال: يقول القرآن للعبد إني معك ما اتبعتني، فإذا لم تعمل بي اتبعتك.
(ولا تنس نصيبك من الدنيا) [ القصص: 77 ] قال: خذ من دنياك لآخرتك، وذلك أن تعمل فيها بطاعة الله عزوجل.
وقال داود بن المحبر، عن عباد بن كثير، عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه مجاهد بن جبير قال: قلت لابن عمر: أي حجاج بيت الله أفضل وأعظم أجرا ؟ قال: من جمع ثلاث خصال، نية صادقة، وعقلا وافرا، ونفقة من حلال، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: صدق فقلت: إذا صدقت نيته وكانت نفقته من حلال فماذا يضره قلة عقله ؟ فقال: يا أبا حجاج، سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " والذي نفسي بيده ما أطاع العبد الله بشئ أفضل من حسن العقل، ولا يقبل الله الصوم عبد ولا صلاته، ولا شيئا مما يكون من عمله من أنواع الخير إن لم يعمل بعقل.
ولو أن جاهلا فاق المجتهدين في العبادة، كان ما يفسد أكثر مما يصلح ".
قلت: ذكر العقل في هذا الحديث ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المنكرات والموضوعات، والثلاث الخصال موقوفة على ابن عمر، من قوله من جمع ثلاث خصال، إلى قوله: قال ابن عباس صدق، والباقي لا يصح رفعه ولا وقفه، وداود بن المحبر كنيته أبو سليمان، قال الحاكم: حدث ببغداد عن جماعة من الثقات بأحاديث موضوعة، حدث بها عنه الحارث بن أبي أسامة، وله كتاب العقل، وأكثر ما أودع ذلك الكتاب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر العقل مرفوعا في هذه الرواية لعله من جملتها، والله أعلم.
وقد كذبه أحمد بن حنبل.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 208: خر بندج: كلمة فارسية لم توردها المعاجم العربية ولفظها (خربنده) ومعناها: مؤجر الحمار أو حارس الحمار.

مصعب بن سعد بن أبي وقاص تابعي جليل القدر.
موسى بن طلحة بن عبيد الله التميمي، كان يلقب بالمهدي لصلاحه، كان تابعيا جليل القدر من سادات المسلمين رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع ومائة فيها قاتل سعيد بن عمرو الحرشي نائب خراسان أهل الصغد وحاصر أهل خجندة وقتل خلقا كثيرا، وأخذ أموالا جزيلة، وأسر رقيقا كثيرا جدا، وكتب بذلك إلى يزيد بن عبد الملك (1)، لانه هو الذي ولاه.
وفي ربيع الاول منها عزل يزيد بن عبد الملك عن إمرة الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان سببه أنه خطب فاطمة بنت الحسين فامتنعت من قبول ذلك، فألح عليها وتوعدها، فأرسلت إلى يزيد تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النضري نائب الطائف فولاه المدينة، وأن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صوته أمير المومنين وهو متكئ على فراشه بدمشق، وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار، فلما بلغ ذلك عبد الرحمن ركب إلى دمشق واستجار بمسلمة بن عبد الملك، فدخل على أخيه فقال: إن لي إليك حاجة، فقال: كل حاجة تقولها فهي لك إلا أن تكون ابن الضحاك، فقال: هو والله حاجتي، فقال: والله لا أقبلها ولا أعفو عنه، فرده إلى المدينة فتسلمه عبد الواحد فضربه وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوف، فسأل الناس بالمدينة، وكان قد باشر نيابة المدينة ثلاث سنين وأشهرا، وكان الزهري قد أشار عليه برأي سديد، وهو أن يسأل العلماء إذا أشكل عليه أمر فلم يقبل، ولم يفعل، فأبغضه الناس وذمه الشعراء ثم كان هذا آخر أمره.
وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي، وذلك أنه كان يستخف بأمر ابن هبيرة، فلما عزله أحضره بين يديه وعاقبه وأخذ منه أموالا كثيرة، وأمر بقتله ثم عفا عنه، وولى على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فسار إليها فاستخلص أموالا كانت منكسرة في أيام سعيد بن عمرو الحرشي.
وفيه غزا الجراح بن عبد الله الحكمي نائب أرمينية وأذربيجان، أرض الترك، ففتح بلنجر (2) وهزم الترك وغرقهم وذراريهم في الماء، وسبى منهم خلقا كثيرا، وافتتح عامة
الحصون التي تلي بلنجر (3)، وأجلى عامة أهلها، والتقى هو والخاقان الملك فجرت بينهم وقعة هائلة
__________
(1) كتابه مباشرة إلى يزيد بن عبد الملك متجاوزا عمر بن هبيرة كان سببا في غضب عمر عليه ومما أوغر صدره عليه وكان ذلك أحد الاسباب التي حملت عمر على عزله عن خراسان كما سيأتي.
(2) بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف باب الابواب (معجم البلدان).
وفي هذه الغزوة تفاصيل ذكرها ابن الاثير 5 / 111 - 112 وابن الاعثم 8 / 31 - 32.
(3) منها: الوبندر وشكى (في ابن الاثير: ملى)

آل الامر فيها إلى أن انهزم خاقان، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، قتل فيها خلق كثير لا يحصون.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري أمير الحرمين والطائف، وعلى نيابة العراق وخراسان عمر، ونائبه على خراسان مسلم بن سعيد يومئذ.
وفي هذه السنة ولد السفاح وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الملقب بالسفاح، أول خلفاء بني العباس وقد بايع أباه في الباطن جماعة من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان: خالد بن سعدان الكلاعي له روايات عن جماعة من الصحابة، وكان تابعيا جليلا، وكان من العلماء وأئمة الدين المعدودين المشهورين، وكان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة وهو صائم، وكان إمام أهل حمص، وكان يصلي التراويح في شهر رمضان، فكان يقرأ فيها في كل ليلة ثلث القرآن، وروى الجوزجاني عنه أنه قال: من اجترأ على الملاوم في مراد الحق، قلب الله تلك المحامد عليه ذما.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: ما من عبد إلا وله أربعة أعين.
عينان في وجهه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بالعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما أمر آخرته وهما غيب، فأمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بالعبد خلاف ذلك ترك العبد القلب على ما هو عليه، فتراه ينظر فلا ينتفع، فإذا نظر بقلبه نفع، وقال: بصر القلب من الآخرة، وبصر العينين من الدنيا وله فضائل كثيرة رحمه الله تعالى.
عامر بن سعد بن أبي وقاص الليثي له روايات كثيرة عن أبيه وغيره، وهو تابعي جليل، ثقة مشهور.
عامر بن شراحيل الشعبي توفي فيها في قول: كان الشعبي من شعب همدان، كنيته أبو عمرو، وكان علامة أهل الكوفة، كان إماما حافظا، ذا فنون، وقد أدرك خلقا من الصحابة (1) وروى عنهم وعن جماعة من التابعين، وعنه أيضا روى جماعة من التابعين، قال أبو مجلز: ما رأيت أفقه من الشعبي.
وقال مكحول: ما رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية منه.
وقال داود الاودي: قال لي الشعبي: قم معي ها هنا حتى أفيدك علما، بل هو رأس العلم.
قلت: أي شئ تفيدني ؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، فإنه عالم حسن.
وقال: لو أن رجلا سافر من أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره ما رأيت سفره ضائعا، ولو سافر في طلب الدنيا أو الشهوات إلى خارج هذا المسجد، لرأيت سفره عقوبة وضياعا وقال: العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كل شئ أحسنه.
__________
(1) عن منصور بن عبد الرحمن سمعت الشعبي يقول: أدركت خمسمائة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال ابراهيم الحربي: لقي الشعبي أربعة وثلاثين رجلا من الصحابة - صفوة الصفوة 3 / 76.

أبو بردة (1) بن أبي موسى الاشعري تولى قضاء الكوفة قبل الشعبي، فإن الشعبي تولى في خلافة عمر بن عبد العزيز، واستمر إلى أن مات، وأما أبو بردة فإنه كان قاضيا في زمن الحجاج، ثم عزله الحجاج وولى أخاه أبا بكر، وكان أبو بردة فقيها حافظا عالما، له روايات كثيرة.
أبو قلابة الجرمي عبد الله بن يزيد البصري، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان من كبار الائمة والفقهاء، وطلب للقضاء فهرب منه وتغرب، قدم الشام فنزل داريا وبها مات رحمه الله.
قال أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولم يكن همك ما تحدث به الناس، فلعل غيرك
ينتفع ويستغني وأنت في الظلمة تتعثر، وإني لارى هذه المجالس إنما هي مناخ البطالين.
وقال: إذا بلغك عن أخيك شئ تكرهه فالتمس له عذرا جهدك، فإن لم تجد له عذرا فقل: لعل لاخي عذرا لا أعلمه.
ثم دخلت سنة خمس ومائة فيها غزا الجراح بن عبد الله الحكمي بلاد اللان، وفتح حصونا كثيرة، وبلادا متسعة الاكناف من وراء بلنجر، وأصاب غنائم جمة، وسبى خلقا من أولاد الاتراك.
وفيها غزا مسلم بن سعيد بلاد الترك وحاصر مدينة عظيمة من بلاد الصغد، فصالحه ملكها على مال كثير يحمله إليه.
وفيها غزا سعيد بن عبد الملك بن مروان بلاد الروم، فبعث بين يديه سرية ألف فارس، فأصيبوا جميعا.
وفيها لخمس بقين من شعبان منها توفي أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بن مروان بأربد من أرض البلقاء، يوم الجمعة، وعمره ما بين الثلاثين والاربعين (2)، وهذه ترجمته: هو يزيد بن عبد الملك بن مروان أبو خالد القرشي الاموي، أمير المؤمنين، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، قيل إنها دفنت بقبر عاتكة فنسبت المحلة إليها.
والله أعلم.
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومائة بعهد من أخيه سليمان، أن يكون الخليفة بعد عمر ابن عبد العزيز، لخمس بقين من رجب، قال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا كثير بن هشام ثنا
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 247: اسمه عامر.
(2) تقدم أن عمره يوم بويع تسع وعشرون سنة فإن صح تصح رواية الطبري عن علي المديني والعقد الفريد: أنه توفي ابن أربع وثلاثين، وفي ابن الاثير: له اربعون سنة وفي مروج الذهب 3 / 239 سبع وثلاثون.
وقال الواقدي: ثمان وثلاثين.
وفي ابن الاعثم: أربعين سنة.
وفي الاخبار الطوال ثمان وثلاثين.

جعفر بن برقان حدثني الزهري قال: كان لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما ولي الخلافة معاوية ورث المسلم من الكافر.
ولم يورث الكافر من المسلم، وأخذ بذلك الخلفاء من بعده، فلما قام عمر بن عبد العزيز راجع السنة
الاولى، وتبعه في ذلك يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام أخذ بسنة الخلفاء - يعني أنه ورث المسلم من الكافر - وقال الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال: بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن نوسع له، فقال مكحول: دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس، يتعلم التواضع.
وقد كان يزيد هذا يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، فلما ولي عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسنوا له الظلم، قال حرملة عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: لما ولي يزيد بن عبد الملك قال سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتي بأربعين شيخا فهشدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب، وقد اتهمه بعضهم في الدين، وليس بصحيح، إنما ذاك ولده الوليد بن يزيد كما سيأتي، أما هذا فما كان به بأس، وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإني لا أراني إلا ملمابي، وما أرى الامر إلا سيفضي إليك، فالله الله في أمة محمد، فإنك عما قليل ميت فتدع الدنيا إلى من لا يعذرك، والسلام.
وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته وتمنيت وفاته ورمت الخلافة، وكتب في آخره: تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد وقد علموا لو ينفع العلم عندهم * متى مت ما الباغي علي بمخلد منيته تجري لوقت وحتفه * يصادفه يوما على غير موعد فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لاخرى مثلها وكأن قد فكتب إليه هشام: جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل ولدك، فلا خير في العيش بعدك (1).
وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبابة - بتشديد الباء الاولى - والصحيح تخفيفها - واسمها العالية، وكانت جميلة جدا، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أحجر على يديك، فباعها، فلما أفضت إليه الخلافة قالت له امرأته سعدة يوما: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا
شئ ؟ قال: نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء
__________
(1) انظر نسخة كتاب يزيد إلى هشام ورد هشام عليه في مروج الذهب 3 / 246.
والعقد الفريد 2 / 282.

الستارة، وقالت له أيضا: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شئ ؟ قال: أو ما أخبرتك ؟ فقالت: هذه حبابة - وأبرزتها له وأخلته بها وتركته وإياها - فحظيت الجارية عنده، وكذلك زوجته أيضا، فقال يوما أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة فبينما هو معها في ذلك القصر على أسر حال وأنعم بال، وبين يديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك فشرقت بها فماتت (1)، فمكث أياما يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أيام عندها على قبرها هائما، ثم رجع إلى المنزل ثم عاد إلى قبرها فوقف عليه وهو يقول: فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا (2) * فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قاتل * من أجلك هذا هامة (3) اليوم أو غد ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه وكان مرضه بالسل (4).
وذلك بالسواد سواد الاردن يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة - وكانت خلافته أربع سنين وشهرا على المشهور، وقيل أقل من ذلك، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة، وقيل خمسا وقيل ستا وقيل ثمانيا وقيل تسعا وثلاثين، وقيل إنه بلغ الاربعين فالله أعلم.
وكان طويلا جسيما أبيض مدور الوجه أفقم الفم لم يشب، وقيل إنه مات بالجولان، وقيل بحوران وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وعمره خمس عشرة سنة، وقيل بل صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك، وهو الخليفة بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دفن بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد عهد بالامر من بعده لاخيه هشام، ومن بعده لولده الوليد بن يزيد، فبايع الناس من بعده هشاما.
__________
(1) في فوات الوفيات 4 / 323: تناولت حبة رمانة فشرقت بها فماتت.
وفي مروج الذهب 3 / 242: اعتلت حبابة فبقيت أياما ثم ماتت.
وفي الطبري 8 / 179: مرضت وثقلت وماتت.
(2) في مروج الذهب: أو تدع الهوى...* تسلو النفس...والبيت في الطبري 8 / 179: لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى * فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد وهو لكثير عزة في ديوانه ص 435.
(3) في العقد الفريد 2 / 283: ميت.
(4) في العقد: طعن ومات بعد خمسة عشر يوما، وفي مروج الذهب 3 / 242: أمام بعدها أياما قلائل ومات.

خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة - وله من العمر أربع وثلاثون سنة وأشهر، لانه ولد لما قتل أبوه عبد الملك مصعب بن الزبير في سنة ثنتين وسبعين، فسماه منصورا تفاؤلا، ثم قدم فوجد أمه قد أسمته باسم أبيها هشام، فأقره.
قال الواقدي: أتته الخلافة وهو بالديثونة (1) في منزل له، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، فسلم عليه بالخلافة فركب من الرصافة حتى أتى دمشق، فقام بأمر الخلافة أتم القيام، فعزل في شوال منها عن إمرة العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وولى عليها خالد بن عبد الله القسري، وقيل إنه استعمله على العراق في سنة ست ومائة، والمشهور الاول.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال أمير المؤمنين، أخو أمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل، ولم تلد من عبد الملك سواه حتى طلقها، لانها كانت حمقاء.
وفيها قوي أمر دعوة بني العباس في السر بأرض العراق، وحصل لدعاتهم أموال جزيلة يستعينون بها على أمرهم، وما هم بصدده.
وفيها توفي من الاعيان:
أبان بن عثمان بن عفان تقدم ذكر وفاته سنة خمس وثمانين، كان من فقهاء التابعين وعلمائهم، قال عمرو بن شعيب ما رأيت أعلم منه بالحديث والفقه، وقال يحيى بن سعيد القطان: فقهاء المدينة عشرة، فذكر أبان بن عثمان أحدهم، وخارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة، والقاسم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
قال محمد بن سعد: كان به صمم ووضح.
وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة، وتوفي سنة خمس ومائة.
أبو رجاء العطاردي.
عامر الشعبي.
في قول وقد تقدم، وكثير عزة في قول.
وقيل في التي بعدها كما سيأتي: ثم دخلت سنة ست ومائة ففيها عزل هشام بن عبد الملك عن إمرة المدينة ومكة والطائف، عبد الواحد بن عبد الله النضري، وولى على ذلك كله ابن خاله إبراهيم (2) بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة، وفيها غزا مسلم بن سعيد مدينة فرغانة ومعاملتها، فلقيه عندها الترك، وكانت بينهم وقعة هائلة، قتل فيها الخاقان وطائفة كبيرة من الترك، وفيها أوغل الجراح
__________
(1) في الطبري 8 / 105، بالزيتونة.
وفي ابن الاثير 5 / 124 بالرصافة.
(2) في الطبري 8 / 182 وابن الاثير 5 / 133: خاله ابراهيم.

الحكمي في أرض الخزر، فصالحوه وأعطوه الجزية والخراج.
وفيها غزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فقتل خلقا كثيرا وغنم وسلم.
وفيها عزل خالد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان مسلم بن سعيد، وولى عليها أخاه أسد بن عبد الله القسري.
وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ويكتب له مناسك الحج، ففعل، فتلقاه الناس من المدينة إلى أثناء الطريق، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أمر به، وتلقاه فيمن تلقاه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، فقال له: يا أمير المؤمنين إن أهل بيتك في مثل
هذه المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب، فالعنه أنت أيضا، قال أبو الزناد: فشق ذلك على هشام واستثقله، وقال: ما قدمت لشتم أحد، ولا لعنة أحد، إنما قدمنا حجاجا.
ثم أعرض عنه وقطع كلامه وأقبل على أبي الزناد يحادثه ولما انتهى إلى مكة عرض له إبراهيم بن طلحة فتظلم إليه في أرض، فقال له: أين كنت عن عبد الملك ؟ قال: ظلمني، قال: فالوليد ؟ قال: ظلمني، قال: فسليمان ؟ قال: ظلمني، قال فعمر بن عبد العزيز ؟ قال ردها علي، قال: فيزيد ؟ قال: انتزعها من يدي، وهي الآن في يدك، فقال له هشام: أما لو كان فيك مضرب لضربتك، فقال: بل في مضرب بالسوط والسيف، فانصرف عنه هشام وهو يقول لمن معه: ما رأيت أفصح من هذا.
وفيها كان العامل على مكة والمدينة والطائف، إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وعلى العراق وخراسان خالد القسري والله سبحانه أعلم.
وممن توفي فيها: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عمرو الفقيه، أحد الفقهاء وأحد العلماء.
وله روايات عن أبيه وغيره، وكان من العباد الزهاد، ولما حج هشام بن عبد الملك دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: سالم ؟ (1) سلني حاجة، فقال: إني لاستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج سالم خرج هشام في أثره فقال له: الآن قد خرجت من بيت الله فسلني حاجة، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ قال: من حوائح الدنيا، فقال سالم: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها ؟ وكان سالم خشن العيش، يلبس الصوف الخشن، وكان يعالج بيده أرضا له وغيرها من الاعمال، ولا يقبل من الخلفاء، وكان متواضعا وكان شديد الادمة وله من الزهد والورع شئ كثير.
وطاوس بن كيسان اليماني من أكبر أصحاب ابن عباس وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد انتهى وقد زدنا هنا في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب زيادة حسنة.
فأما طاوس فهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني (2)، فهو أول طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن.
__________
(1) في هامش المطبوعة: كذا بالاصل ولعل المراد يا سالم.
(2) في الالقاب لابن الجوزي: اسمه ذكوان وطاوس لقبه.
والمشهور أنه اسمه

أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وكان أحد الائمة الاعلام، قد جمع العبادة والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وقد أدرك خمسين من الصحابة، وأكثر روايته عن ابن عباس، وروى عنه خلق من التابعين وأعلامهم، منهم مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، وإبراهيم ابن ميسرة، وأبو الزبير ومحمد بن المنكدر، والزهري وحبيب بن أبي ثابت، وليث بن أبي سليم، والضحاك بن مزاحم.
وعبد الملك بن ميسرة، وعبد الكريم بن المخارق ووهب بن منبه، والمغيرة ابن حكيم الصنعاني، وعبد الله بن طاوس، وغير هؤلاء.
توفى طاوس بمكة حاجا، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ودفن بها رحمه الله تعالى.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قال أبي: مات طاوس بمكة فلم يصلوا عليه حتى بعث هشام ابنه بالحرس، قال فلقد رأيت عبد الله بن الحسن واضعا السرير على كاهله، قال: ولقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومزق رداؤه من خلفه - يعني من كثرة الزحام - فكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الايمان يمان " وقد خرج من اليمن خلق من هؤلاء المشار إليهم في هذا وغيره، منهم أبو مسلم، وأبو إدريس، ووهب وكعب وطاوس وغير هؤلاء كثير.
وروى ضمرة عن ابن شوذب قال: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة خمس (1) ومائة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة.
وقال عبد الرزاق: حدثنا أبي قال: توفي طاوس بالمزدلفة - أو بمنى - حاجا، فلما حمل أخذ عبد الله بن الحسن بن علي بقائمة سريره.
فما زايله حتى بلغ القبر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قدم طاوس بمكة، فقدم أمير المؤمنين، فقيل لطاوس: إن من فضله ومن، ومن، فلو أتيته قال: مالي إليه حاجة، فقالوا: إنا نخاف عليك، قال: فما هو إذا كما تقولون: وقال ابن جرير (1): قال لي عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من
أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه.
وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الاجابة.
وقال ابن جريج عن مجاهد عن طاوس (أولئك ينادون من مكان بعيد) [ فصلت: 44 ] قال: بعيد من قلوبهم، وروى الا حجري عن سفيان، عن ليث قال: قال لي طاوس: ما تعلمت من العلم فتعلمه لنفسك، فإن الامانة والصدق قد ذهبا من الناس.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن الصلت بن راشد.
قال: كنا عند طاوس فجاءه مسلم (2) بن قتيبة بن مسلم، صاحب خراسان، فسأله عن شئ فانتهره طاوس، فقلت: هذا مسلم (3) بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، قال: ذاك أهون له علي.
وقال لطاوس: إن منزلك قد استرم، فقال: أمسينا.
__________
(1) في رواية صفة الصفوة عن ضمرة 2 / 290: ست.
(2) في رواية صفة الصفوة 2 / 288: ابن جريج.
(3) في صفة الصفوة 2 / 287: سلم.

وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس في قوله تعالى (وخلق الانسان ضعيفا) [ النساء: 27 ] قال: في أمور النساء، ليس يكون في شئ أضعف منه في النساء.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن طاوس عن أبيه قال: لقي عيسى بن مريم عليه السلام إبليس فقال إبليس لعيسى: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك ؟ قال: نعم، قال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل فترد منه.
فانظر أتعيش أم لا، قال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي، فإني أفعل ما شئت.
وفي رواية عن الزهري عنه قال: قال عيسى: إن العبد لا يختبر ربه، ولكن الرب يختبر عبده، وفي رواية أخرى: إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الرب يبتلي عبده.
قال: فخصمه عيسى عليه السلام.
وقال فضيل بن عياض عن ليث عن طاوس قال: حج الابرار على الرحال، رواه عبد الله بن أحمد عنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو ثميلة عن ابن أبي داود: قال: رأيت طاوسا وأصحابا له إذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا أحدا، وابتهلوا إلى الله تعالى في الدعاء.
وقال: من لم يبخل
ولم يل مال يتيم لم ينله جهد البلاء.
روى عنه أبو داود الطيالسي، وقد رواه الطبراني: عن محمد بن يحيى بن المنذر، عن موسى بن إسماعيل، عن أبي داود فذكره.
وقال لابنه: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شئ غاية، وغاية المرء حسن عقله.
وسأله رجل عن مسألة فانتهره، فقال: - يا أبا عبد الرحمن إني أخوك، قال: أخي من دون الناس ؟.
وفي رواية أن رجلا من الخوارج سأله فانتهره، فقال: إني أخوك، قال: أمن بين المسلمين كلهم ؟.
وقال عفان عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: سأل رجل طاوسا عن شئ فانتهره، ثم قال: تريد أن تجعل في عنقي حبلا ثم يطاف بي ؟ ورأى طاوس رجلا مسكينا في عينه عمش وفي ثوبه وسخ، فقال له: عد ! إن الفقر من الله، فأين أنت من الماء ؟ وروى الطبراني عنه قال: إقرار ببعض الظلم خير من القيام فيه، وعن عبد الرزاق عن داود ابن إبراهيم أن الاسد حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضا، فلما كان السحر ذهب عنهم الاسد، فنزل الناس يمينا وشمالا فألقوا أنفسهم، وقام طاووس يصلي، فقال له رجل - وفي رواية فقال ابنه -: ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت هذه الليلة ؟ فقال: وهل ينام السحر أحد ؟ وفي رواية: ما كنت أظن أحدا ينام السحر.
وروى الطبراني من طريق عبد الرزاق عن أبي جريج وابن عيينة.
قالا: حدثنا ابن طاوس قال: قلت لابي: ما أفضل ما يقال على الميت ؟ قال الاستغفار.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الرزاق، قال: سمعت النعمان بن الزبير الصنعاني يحدث أن محمد بن يوسف - أو أيوب بن يحيى - بعث إلى طاوس بسبعمائة (1) دينار وقال للرسول: إن أخذها
__________
(1) في رواية ابن الجوزي 2 / 286 الصفة وتذكرة الحفاظ 1 / 90 خمسمائة.

منك فإن الامير سيكسوك ويحسن إليك.
قال: فخرج بها حتى قدم على طاوس الجند، فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها الامير إليك، فقال: ما لي بها من حاجة، فأراده على أخذها بكل طريق فأبى أن يقبلها، فغفل طاوس فرمى بها الرجل من كوة في البيت ثم ذهب راجعا إلى الامير، وقال:
قد أخذها، فمكثوا حينا ثم بلغهم عن طاوس ما يكرهون - أو شئ يكرهونه - فقالوا: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعثه إليك الامير رده إلينا، فقال: ما قبضت منه شيئا، فرجع الرسول إليهم فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقالوا: انظروا الذي ذهب بها إليه، فأرسلوه إليه، فجاءه فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال: هل قبضت منك شيئا ؟ قال: لا ! قال: فقام إلى المكان الذي رمى به فيه فوجدها كما هي، وقد بنت عليها العنكبوت، فأخذها فذهب بها إليهم.
ولما حج سليمان بن عبد الملك قال: انظروا إلي فقيها أسأله عن بعض المناسك، قال: فخرج الحاجب يلتمس له، فمر طاوس فقالوا: هذا طاوس اليماني، فأخذه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: اعفني، فأبى، فأدخله عليه، قال طاوس: فلما وقفت بين يديه قلت: إن هذا المقام يسألني الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جهنم هوت فيها سبعين خريفا حتى استقرت في قرارها، أتدري لمن أعدها الله ؟ قال: لا ! ! ويلك لمن أعدها الله ؟ قال: لمن أشركه الله في حكمه فجار.
وفي رواية ذكرها الزهري أن سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري ؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان فأتاه فقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهون الخلق على الله عز وجل من ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم ".
فتغير وجه سليمان فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب: ظننت أنه أراد عليا - قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: " إن لكم على قريش حقا، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ".
قال: فتغير وجه سليمان وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب الله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) [ البقرة: 281 ].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال عمر بن عبد العزيز لطاوس: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين - يعني سليمان - فقال طاوس مالي إليه من حاجة، فكأنه عجب من ذلك، قال سفيان وحلف لنا إبراهيم وهو مستقبل الكعبة: ورب هذا البيت ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاوس.
قال: وجاء ابن

لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك [ ابن ] (1) أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ؟ قال: أردت أن يعلم هو وأبوه أن لله عبادا يزهدون فيهم وفيما في أيديهم.
وقد روى عبد الله بن أحمد عن ابن طاوس قال: خرجنا حجاجا فنزلنا في بعض القرى، وكنت أخاف أبي من الحكام لشدته وغلظه عليهم، قال: وكان في تلك القرية عامل لمحمد بن يوسف - أخي الحجاج بن يوسف - يقال له أيوب بن يحيى، وقيل يقال له ابن نجيح، وكان من أخبث عمالهم كبرا وتجبرا، قال: فشهدنا صلاة الصبح في المسجد، فإذا ابن نجيح قد أخبر بطاوس فجاء فقعد بين يدي طاوس، فسلم عليه فلم يجبه، ثم كلمه فأعرض عنه، ثم عدل إلى الشق الآخر فأعرض عنه، فلما رأيت ما به قمت إليه وأخذت بيده ثم قلت له: إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك، فقال طاوس: بلى ! إني به لعارف، فقال الامير: إنه بي لعارف، ومعرفته بي فعلت بي ما رأيت.
ثم مضى وهو ساكت لا يقول شيئا، فلما دخلت المنزل قال لي أبي: يا لكع، بينما أنت تقول أريد أخرج عليهم بالسيف لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك.
وقال أبو عبد الله الشامي: أتيت طاوسا فاستأذنت عليه فخرج إلي ابنه شيخ كبير، فقلت: أنت طاوس ؟ فقال: لا ! أنا ابنه، فقلت: إن كنت أنت ابنه فإن الشيخ قد خرف، فقال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه فقال طاوس: سل فأوجز، فقلت: إن أوجزت أوجزت لك، فقال تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا التوراة والانجيل والفرقان ؟ قال: قلت: نعم ! قال: خف الله مخافة لا يكون عندك شئ أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لنفسك.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان، فيقول صاحب المال للمال: جمعتك في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، فيقول المال: ألم أقض لك الحوائج ؟ أنا الذي حلت بينك وبين أن تصنع فيما أمرك الله عزوجل من حبك إياي، فيقول صاحب المال إن هذا الذي نفد على حبال أوثق بها وأقيد، وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن الضريس، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم قط، عطاء وطاووس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة.
وقال سفيان: قلت لعبيد الله بن أبي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس ؟ قال: مع عطاء والعامة، وكان طاوس يدخل مع الخاصة، وقال حبيب: قال لي طاوس إذا حدثتك حديثا قد أثبته فلا تسأل عنه أحدا - وفي رواية فلا تسأل عنه غيري.
وقال أبو أسامة، حدثنا الاعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس قال: أدركت
__________
(1) من صفة الصفوة 2 / 287.

خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني ابن طاوس قال: قلت لابي: أريد أن أتزوج فلانة، قال: اذهب فانظر إليها، قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي، وادهنت، فلما رآني في تلك الحال قال: اجلس فلا تذهب.
وقال عبد الله بن طاوس: كان أبي إذا سار إلى مكة سار شهرا، وإذا رجع رجع في شهر، فقلت له في ذلك، فقال: بلغني أن الرجل إذا خرج في طاعة لا يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله.
وقال حمزة عن هلال بن كعب.
قال: كان طاوس إذا خرج من اليمن لم يشرب إلا من تلك المياه القديمة الجاهلية، وقال له رجل: ادع الله لي، فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن ابراهيم حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل فيما خلا من الزمان، وكان عاقلا لبيبا، فكبر فقعد في البيت، فقال لابنه
يوما: إني قد اغتممت في البيت، فلو أدخلت علي رجالا يكلموني ؟ فذهب ابنه فجمع نفرا فقال: ادخلوا على أبي فحدثوه، فإن سمعتم منه منكرا فاعذروه فإنه قد كبر، وإن سمعتم منه خيرا فاقبلوه.
قال: فدخلوا عليه فكان أول ما تكلم به أن قال: إن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإذا تزوج الرجل فليتزوج من معدن صالح، فإذا اطلعتم على فجرة رجل فاحذروه فإن لها أخوات.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدثنا عبد الله بن عمر بن مسلم الجيري، عن أبيه قال: قال طاوس لابنه: إذا قبرتني فانظر في قبري، فإن لم تجدني فاحمد الله تعالى، وإن وجدتني فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال عبد الله: فأخبرني بعض ولده أنه نظر فلم يره ولم يجد في قبره شيئا، ورؤي في وجهه السرور، وقال قبيصة: حدثنا سفيان عن سعيد بن محمد قال: كان من دعاء طاوس يدعو: اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الايمان والعمل.
وقال سفيان عنر معمر حدثنا الزهري قال: لو رأيت طاوس بن كيسان علمت أنه لا يكذب.
وقال عون بن سلام: حدثنا جابر بن منصور - أخو إسحاق بن منصور - السلولي عن عمران ابن خالد الخزاعي.
قال: كنت جالسا عند عطاء فجاء رجل فقال أبا محمد: إن طاوسا يزعم أن من صلى العشاء ثم صلى بعدها ركعتين يقرأ في الاولى: آلم تنزيل السجدة، وفي الثانية تبارك الذي بيده الملك كتب له مثل وقوف عرفة وليلة القدر.
فقال عطاء: صدق طاوس ما تركتهما.
وقال ابن أبي السري: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجئ بها إليه، فنزلت عنده فأعجبته، فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال: إن علم بها افتضحت، فأقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه عنها، قال: ماتت، فلم يتهموه لصلاحه ومنزلته،

فجاءهم الشيطان فقال: إنها لم تمت، ولكن قد وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها في بيته، في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها فقالوا: ما نتهمك ولكن أخبرنا أين دفنتها، ومن كان معك ؟ فنبشوا بيته
فوجدوها حيث دفنها، فأخذوه فحبسوه وسجنوه، فجاءه الشيطان فقال: أنا صاحبك، فإن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فاكفر بالله فأطاع الشيطان فكفر بالله عزوجل، فقتل فتبرأ منه الشيطان حينئذ.
وقال طاوس: ولا أعلم أن هذه الآية نزلت إلا فيه وفي مثله (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر، فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) [ الحشر: 16 ].
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل من بني إسرائيل له أربعة بنين، فمرض، فقال أحدهم: إما أن تمرضوا أبانا وليس لكم من ميراثه شئ، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شئ، فمرضه حتى مات ودفنه ولم يأخذ من ميراثه شيئا، وكان فقيرا وله عيال، فأتي في النوم فيل له: إيت مكان كذا وكذا فاحفره تجد فيه مائة دينار فخذها، فقال للآتي في المنام: ببركة أو بلا بركة ؟ فقال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت: اذهب فخذها فإن من بركتها أن تكسوني منها ونعيش منها.
فأبى وقال: لا آخذ شيئا ليس فيه بركة.
فلما أمسى أتي في منامه فقيل له: إيت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير، فقال: ببركة أو بلا بركة ؟ قال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت له مثل ذلك فأبى أن يأخذها، ثم أتي في الليلة الثالثة فقيل له: إيت مكان كذا وكذا فخذ منه دينارا، فقال: ببركة أو بلا بركة ؟ قال: ببركة، قال، نعم إذا، فلما أصبح ذهب إلى ذلك المكان الذي أشير إليه في المنام فوجد الدينار فأخذه، فوجد صيادا يحمل حوتين فقال: بكم هما ؟ قال: بدينار، فأخذهما منه بذلك الدينار ثم انطلق بهما إلى امرأته فقامت تصلحهما، فشقت بطن أحدهما فوجدت فيه درة لا يقوم بها شئ، ولم ير الناس مثلها، ثم شقت بطن الآخر فإذا فيه درة مثلها، قال: فاحتاج ملك ذلك الزمان درة فبعث يطلبها حيث كانت ليشتريها، فلم توجد إلا عنده، فقال الملك: إيت بها، فأتاه بها، فلما رآها حلاها الله عزوجل في عينيه، فقال: بعنيها، فقال: لا أنقصها عن وقر ثلاثين بغلا ذهبا، فقال الملك ؟ ارضوه، فخرجوا به فوقروا له ثلاثين بغلا ذهبا، ثم نظر إليها الملك فأعجبته إعجابا عظيما، فقال: ما تصلح هذه إلا بأختها، اطلبوا لي أختها، قال: فأتوه فقالوا له: هل عندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك ؟ قال وتفعلون ؟ قالوا: نعم.
فأتى الملك بها، فلما رآها أخذت بقلبه فقال أرضوه، فأضعفوا له ضعف أختها، والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا وهيب بن الورد حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: حدثني داود ابن سابور قال قلنا لطاوس: أدع بدعوات، فقال: لا أجد لذلك حسبة.
وقال ابن جرير عن ابن طاوس عن أبيه قال: البخل أن يبخل الانسان بما في يده، والشح أن يحب أن له ما في أيدي الناس بالحرام لا يقنع: وقيل الشح هو ترك القناعة، وقيل: هو أن يشح بما في يد غيره، وهو مرض من

أمراض القلب ينبغي للعبد أن يعزله عن نفسه وينفيه ما استطاع، وهو يأمرنا بالبخل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم [ أمرهم ] بالبخل فبخلوا وبالقطيعة فقطعوا وهذا هو الحرص على الدنيا وحبها " وقال ابن أبي شيبة: حدثنا المحاربي عن ليث عن طاوس قال: ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل فيصبح قد كتب له مائة حسنة أو أكثر من ذلك، ومن زاد زيد في ثوبه، وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس.
قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج.
وعن سفيان عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لاقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لابي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.
وقال طاوس: لا يحرز دين المؤمن إلا حفرته.
وقال عبد الرزاق، عن معمر بن طاوس وغيره أن رجلا كان يسير مع طاوس، فسمع الرجل غرابا ينعب، فقال: خير: فقال طاوس: أي خير عند هذا أو شر لا تصحبني ولا تمش معي.
وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: إذا غدا الانسان اتبعه الشيطان، فإذا أتى المنزل فسلم نكص الشيطان وقال: لا مقيل، فإذا أتي بغدائه فذكر اسم الله قال: ولا غداء ولا مقيل، فإذا دخل ولم يسلم قال الشيطان: أدركنا المقيل، فإذا أتي بغدائه ولم يذكر اسم الله عليه قال الشيطان: مقيل وغداء، وفي العشاء مثل ذلك.
وقال: إن الملائكة ليكتبون صلاة بني آدم: فلان زاد فيها كذا وكذا، وفلان نقص فيها كذا وكذا وذلك في الركوع والخشوع والسجود.
وقال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم سكنت، وكان إذا سمع صوت
الرعد يقول: سبحان من سبحت له.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد لطاوس: يا أبا عبد الرحمن ! رأيتك تصلي في الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم على بابها يقول لك: اكشف قناعك، وبين قراءتك.
فقال له: اسكت لا يسمع هذا منك أحد.
ثم تخيل إلى أن انبسط في الحديث.
وقال أحمد أيضا بهذا الاسناد: إن طاوسا قال لابي نجيح: يا أبا نجيح ! ! من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى.
وقال مسعر عن رجل إن طاوسا أتى رجلا في السحر فقالوا: هو نائم، فقال: ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا ابن يمان عن مسعود، فذكره.
قال الثوري: كان طاوس يجلس في بيته، فقيل له في ذلك فقال: حيف الائمة وفساد الناس.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرني أبي قال: كان طاوس يصلي في غداة باردة معتمة، فمر به محمد بن يوسف صاحب اليمن وحاجبها - وهو أخو الحجاج بن يوسف - وطاوس ساجد، والامير راكب في مركبه، فأمر بساج أو طيلسان مرتفع القيمة فطرح على طاوس وهو ساجد، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض فألقاه عنه، ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله وتركه ملقى على الارض.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا حماد بن عيينة عن

ابن جريج عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس: ما من شئ يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الامام أحمد أن فقيل له: إن طاوسا كان يكره أنين المرض فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان، عن أبيه، عن داود بن شابور.
قال: قال رجل لطاوس: ادع الله لنا، فقال: ما أجد بقلبي خشية فأدعو لك.
وقال ابن طالوت: حدثنا عبد السلام بن هاشم، عن الحسن بن أبي الحصين العنبري.
قال: مر طاوس برواس قد أخرج رؤوسا فغشي عليه.
وفي رواية كان إذا رأى الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الاشجعي عن سفيان الثوري.
قال: قال طاوس: إن الموتى يفتنون في قبورهم (1) سغبا، وكانوا يستحيون أن يطعم عنهم تلك الايام.
وقال ابن إدريس: سمعت ليثا يذكر عن طاوس وذكر النساء فقال: فيهن كفر من مضى وكفر من بقي.
وقال أبو عاصم عن بقية عن سلمة بن وهرام، عن طاوس قال: كان يقال: اسجد للقرد في زمانه، أي أطعه في المعروف.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أسامة، حدثنا نافع بن عمر، عن بشر بن عاصم.
قال: قال طاوس: ما رأيت مثل (2) أحد آمن على نفسه، ولقد رأيت رجلا لو قيل لي: من أفضل من تعرف ؟ لقلت: فلان ذلك الرجل، فمكثت على ذلك حينا ثم أخذه وجع في بطنه، فأصاب منه شيئا استنضح بطنه عليه، فاشتهاه، فرأيته في نطع ما أدري أي طرفيه أسرع حتى مات عرقا.
وروى أحمد: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن طاوس: أنه رأى فتية من قريش يرفلون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون أن يمشوها.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أن طاوسا قام على رفيق له مرض حتى فاته الحج - لعله هو الرجل المتقدم قبل هذا استنضح بطنه - وقال مسعر بن كدام عن عبد الكبير المعلم قال طاوس قال ابن عباس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن قراءة ؟ قال: " من إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله عزوجل ".
وقد روي هذا أيضا من طريق ابن لهيعة، من عمرو بن دينار، عن طاوس قال: قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به ".
وعنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبان معصفران فقال: " أمك أمرتك بهذا ؟ قلت: أغسلهما ؟ قال: بل أحدهما " رواه مسلم في صحيحه عن داود بن راشد عن عمر بن أيوب، عن إبراهيم بن نافع عن سليمان الاحول عن طاوس به.
وروى محمد بن مسلمة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عمر وقال: قال
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 289: سبعا.
(2) كذا بالاصل، ولعلها: ما رأيت مثلي أحدا آمنا.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجلاوذة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار ".
انفرد به محمد بن مسلم
الطالقي.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحسن الانماطي البغدادي، حدثنا عبد المنعم بن إدريس، حدثنا أبي عن وهب بن منبه عن طاوس عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب: " يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة ".
فمضى علي فأقام حينا لا يلقى أحدا إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعلت فيما أمرتك به ؟ قال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذهب فابل أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فابل أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم تبسم [ فقال ]: ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة ؟ فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم) [ الزخرف: 67 - 68 ] يا علي ! أقبل على شأنك واملك لسانك، وأغفل من تعاشر من أهل زمانك تكن سالما غانما " لم يرو إلا من هذا الوجه فيما نعلم والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع ومائة فيها خرج باليمن رجل يقال له عباد الرعيني فدعا إلى مذهب الخوارج واتبعه فرقة من الناس وحلموا فقاتلهم يوسف بن عمر فقتله وقتل أصحابه، وكانوا ثلاثمائة.
وفيها وقع بالشام طاعون شديد، وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة وعلى جيش أهل الشام ميمون بن مهران، فقطعوا البحر إلى قبرص وغزا مسلمة في البر في جيش آخر (1).
وفيها ظفر أسد بن عبد الله القسري بجماعة من دعاة بني العباس بخراسان فصلبهم وأشهرهم (2).
وفيها غزا أسد القسري جبال نمروذ (3)، ملك القرقيسيان، مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمروذ وأسلم على يديه.
وفيها غزا أسد الغور - وهي جبال هراة - فعمد أهلها إلى حواصلهم وأموالهم وأثقالهم فجعلوا ذلك كله في كهف منيع، لا سبيل لاحد عليه، وهو مستعل جدا، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع ما هنالك في التوابيت ورفعوهم فسلموا وغنموا، وهذا رأي سديد.
وفيها أمر أسد بجمع ما حول بلخ
إليها.
واستناب عليها برمك والد خالد بن برمك وبناها بناء جيدا جديدا محكما وحصنها وجعلها معقدا للمسلمين.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 141: أورد الخبرين في حوادث سنة 108 ه.
(2) في الطبري 8 / 188 ومنهم: أبو عكرمة ومحمد بن خنيس.
وانظر ابن الاثير 5 / 136 وفي الاخبار الطوال ص 334: أبو عكرمة وحيان العطار ضرب أعناقهما وصلبهما أسد بن عبد الله في أيام يزيد بن عبد الملك.
(3) في الطبري 8 / 188 وابن الاثير 5 / 137: جبال نمرون ملك الغرشستان.

سليمان بن يسار أحد التابعين وهو أخو عطاء بن يسار، له روايات كثيرة، وكان من المجتهدين في العبادة، وكان من أحسن الناس وجها، توفي بالمدينة وعمره ثلاث وسبعون سنة، دخلت عليه امرأة من أحسن الناس وجها فأرادته على نفسها فأبى وتركها في منزله وخرج هاربا منها، فرأى يوسف عليه السلام في المنام.
فقال له: أنت يوسف ؟ فقال: نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم.
وقيل إن هذه الحكاية إنما وقعت في بعض منازل الحجاج، وكان معه صاحب له، فبعثه إلى سوق الحجاج ليشتري شيئا فانحطت على سليمان امرأة من الجبل حسناء فقالت له: هيت لك، فبكى واشتد بكاؤه فلما رأت ذلك منه ارتفعت في الجبل، وجاء صديقه فوجده يبكي فقال له: مالك تبكي ؟ فقال خير، فقال: لعلك ذكرت بعض ولدك أو بعض أهلك ؟ فقال: لا ! فقال: والله لتخبرني ما أبكاك أنت.
قال: أبكاني حزني على نفسي، لو كنت مكانك لم أصبر عنها، ثم ذكر أنه نام فرأى يوسف في منامه كما تقدم والله أعلم.
عكرمة مولى ابن عباس أحد التابعين، والمفسرين المكثرين والعلماء الربانيين، والرحالين الجوالين.
وهو أبو عبد الله، وقد روى عن خلق كثير من الصحابة، وكان أحد أوعية العلم، وقد أفتى في حياة مولاه ابن عباس، قال عكرمة: طلبت العلم أربعين سنة، وقد طاف عكرمة البلاد، ودخل إفريقية
واليمن والشام والعراق وخراسان، وبث علمه هنالك، وأخذ الصلات وجوائز الامراء وقد روى ابن أبي شيبة عنه قال: كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل (1) يعلمني القرآن والسنن، وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا، عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد فأقبل سعيد ومجاهد يلقيان على عكرمة التفسير فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، قال: ثم دخلوا الحمام ليلا.
قال جابر بن زيد: عكرمة أعلم الناس.
وقال الشعبي: ما بقى أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.
وروى الامام أحمد عن عبد الصمد عن سلام بن مسكين، سمعت قتادة يقول: أعلمهم بالتفسير عكرمة.
وقال سعيد بن جبير نحوه، وقال عكرمة: لقد فسرت ما بين اللوحتين.
وقال ابن علية عن أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل - وأشار إلى سلع - وقال عبد الرزاق عن أبيه: لما قدم عكرمة الجند حمله طاوس على نجيب فقال: ابتعت علم هذا الرجل (2)، وفي رواية أن طاوسا حمله على نجيب ثمنه ستون دينارا وقال: ألا نشتري علم هذا العبد بستين دينارا !.
__________
(1) الكبل: القيد.
(2) زيد في طبقات ابن سعد 5 / 289: بهذا الجمل.

ومات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فأخرجت جنازتهم فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وقال عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلق فأفت الناس فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عني ثلثي مؤنة الناس.
وقال سفيان عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصنعون ويقتتلون.
وقال الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يقول: سمعت أيوب يقول: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة إلى أفق من الآفاق، فال فإني لفي سوق البصرة، فإذا رجل على حمار، فقيل: هذا عكرمة، قال: واجتمع الناس إليه فما قدرت أنا على شئ أسأله عنه، ذهبت مني المسائل،
وشردت عني فقمت إلى جنب حماره فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه (1).
وقال شعبة عن خالد الحذاء قال: قال عكرمة لرجل وهو يسأله: مالك أخبلت ؟ أي فتنت.
وقال زياد بن أبي أيوب: حدثنا أبو ثميلة، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد قال: قلت لعكرمة بنيسابور: الرجل يريد الخلاء في إصبعه خاتم فيه اسم الله، قال: يجعل فصه في بطان يده ثم يقبض عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خالد قال: سمعت شعبة يقول: قال خالد الحذاء: كل شئ قال فيه محمد بن سيرين: ثبت عن ابن عباس، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة.
وقال سفيان الثوري: خذوا المناسك عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة.
وقال أيضا: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.
وقال عكرمة: أدركت مئتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد.
وقال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: قال: كانت الخيل التي شغلت سليمان بن داود عليه السلام عشرين ألفا فعقرها، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن عكرمة: (الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) [ النساء: 17 ] قال: الدنيا كلها قريب وكلها جهالة.
وفي قوله (الذين لا يريدون علوا في الارض) [ القصص: 83 ] قال: عند سلاطينها وملوكها.
(ولا فسادا) لا يعلمون بمعاصي الله عز وجل.
(والعاقبة) هي الجنة.
وقال في قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) [ الاعراف: 164 ] أي تركوا ما وعظوا (بعذاب بئيس) أي شديد (فلما عتوا عما نهوا عنه) أي تمادوا وأصروا.
(خاسئين) صاغرين.
(فجعلناها نكالا لما بين يديها) [ البقرة: 166 ] أي من الامم الماضية (وما خلفها) [ البقرة: 66 ] من الامم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم (وموعظة) تقي من اتعظ بها الشرك والمعاصي.
وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة بعث الله الذين اعتدوا ويحاسب الذين تركوا الامر والنهي كان المسخ لهم عقوبة في الدنيا حين تركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال
__________
(1) انظر ابن سعد 5 / 289.

عكرمة: قال ابن عباس: هلك والله القوم جميعا، قال ابن عباس فالذين أمروا ونهوا نجوا، والذين لم يأمروا ولم ينهوا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي.
قال: وذلك أهل إيلة - وهي قرية على شاطئ البحر - وكان الله قد أمر بني إسرائيل إن يتفرغوا ليوم الجمعة فقالوا: بل نتفرغ ليوم السبت، لان الله فرغ من الخلق يوم السبت، فأصبحت الاشياء مسبوتة.
وذكروا قصة أصحاب السبت، وتحريم الصيد عليهم، وأن الحيتان كانت تأتيهم يوم السبت ولا تأتيهم في غيره من الايام، وذكروا احتيالهم على صيدها في يوم السبت فقال قوم: لا ندعكم تصيدون في يوم السبت ووعظوهم، فجاء قوم آخرون مداهنون فقالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ؟) [ الاعراف: 163 ] قال الناهون (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) [ الاعراف: 163 ] أي ينتهون عن الصيد في يوم السبت.
وقد ذكر عكرمة أنه لما قال لابن عباس إن المداهنين هلكوا مع الغافلين، كساه ثوبين.
وقال حوثرة عن مغيرة عن عكرمة قال: كانت القضاة ثلاثة - يعني في بني إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكا على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال: يا عبد الله ! عجلي وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال: القاضي بيني وبينك، قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة فتكلم صاحب العجل فقال له: مربي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال: ومع الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة وقال: اقض لي، فقال: كيف يسوغ هذا ؟ فقال: نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له.
فقال صاحب العجل: لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال لا أقضي بينكما اليوم، فقالا: ولم لا تقضي بيننا ؟ فقال: لاني حائض، فقال الملك: سبحان الله ! رجل يحيض ! ؟.
فقال القاضي: سبحان الله ! وهل تنتج الفرس عجلا ؟ فقضى
لصاحب البقرة.
فقال الملك: إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.
وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة أن ملكا من الملوك نادى في مملكته: إني إن وجدت أحدا يتصدق بصدقة قطعت يده، فجاء سائل إلى امرأة فقال: تصدقي علي بشئ فقالت: كيف أتصدق عليك والملك يقطع يد من يتصدق ؟ قال: أسألك بوجه الله إلا تصدقت علي بشئ، فتصدقت عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك فأرسل إليها فقطع يديها، ثم إن الملك قال لامه: دليني على امرأة جميلة لا تزوجها، فقالت: إن ههنا امرأة ما رأيت مثلها، لو لا عيب بها، قال: أي عيب هو ؟ قالت: مقطوعة اليدين، قال: فأرسلي إليها، فلما رآها أعجبته - وكان لها جمال - فقالت: إن الملك يريد أن يتزوجك: قالت: نعم إن شاء الله، فتزوجها

وأكرمها، فنهد إلى الملك عدو فخرج إليهم، ثم كتب إلى أمه: انظري فلانة فاستوصي بها خيرا وافعلي وافعلي معها، فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه: انظري فلانة فقد بلغني أن رجالا يأتونها فأخرجيها من البيت وافعلي وافعلي، فكتبت إليه الام إنك قد كذبت، وإنها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن فنزل بهن فأخذن الكتاب فغيرنه فكتبن إليه: إنها فاجرة وقد ولدت غلاما من الزنا، فكتب إلى أمه: انظري فلانة فاجعلي ولدها على رقبتها واضربي على جيبها واخرجيها.
قال: فلما جاءها الكتاب قرأته عليها وقالت لها: اخرجي، فجعلت الصبي على رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة فنزلت لتشرب والصبي على رقبتها فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكي على شاطئ النهز، فمر بها رجلان فقالا: ما يبكيك ؟ فقالت: ابني كان على رقبتي وليس لي يدان فسقط في الماء فغرق.
فقالا لها: أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا ؟ قالت: نعم ! فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها: أتدرين من نحن ؟ قالت: لا قالا: نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما.
وقال في قوله: (طيرا أبابيل) [ الفيل: 3 ] قال: طير خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع فلم تزل ترميهم حتى جدرت جلودهم، وما رؤي الجدري قبل يومئذ وما رؤي الطير قبل
يومئذ ولا بعد.
وفي قوله تعالى: (ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) [ فصلت: 6 - 7 ] قال: لا يقولون لا إله إلا الله، وفي قوله (قد أفلح من تزكى) [ الاعلى: 14 ] قال: من يقول لا إله إلا الله، وفي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) [ النازعات: 18 ] إلى أن تقول لا إله إلا الله، وفي قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [ فصلت: 30 ] على شهادة أن لا إله إلا الله.
وفي قوله: (أليس منكم رجل رشيد) [ هود: 78 ] أليس منكم من يقول: لا إله إلا الله، وفي قوله: (وقال صوابا) [ النبأ: 38 ] قال: لا إله إلا الله.
وفي قوله: (إنك لا تخلف الميعاد) [ آل عمران: 194 ] لمن قال: لا إله إلا الله.
وفي قوله (لا عدوان إلا على الظالمين) [ البقرة: 193 ] على من لا يقول: لا إله إلا الله.
وفي قوله: (واذكر ربك إذا نسيت) [ الكهف: 24 ] قال: إذا غضبت (سيماهم في وجوههم) [ الفتح: 29 ] قال: السهو.
وقال: إن الشيطان ليزين للعبد الذنب، فإذا عمله تبرأ منه، فلا يزال يتضرع إلى ربه ويتمسكن له ويبكي حتى يغفر الله له ذلك وما قبله.
وقال: قال جبريل عليه السلام: إن ربي ليبعثني إلى الشئ لامضيه فأجد الكون قد سبقني إليه.
وسئل عن الماعون قال: العارية.
قلت: فإن منع الرجل غربالا أو قدرا أو قصعة أو شيئا من متاع البيت فله الويل ؟ قال: لا ! ولكن إذا نهي عن الصلاة ومنع الماعون فله الويل.
وقال: البضاعة المزجاة التي فيها تجوز.
وقال: السائحون، هم طلبة العلم وقال: (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) [ الممتحنة: 13 ] قال: إذا دخل الكفار القبور وعاينوا ما أعد الله لهم من الخزي، يئسوا من نعمة الله.
وقال

غيره: [ يئس الكفار من أصحاب القبور) أي من حياتهم وبعثهم بعد موتهم.
وقال: كان إبراهيم عليه السلام يدعى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد، وقال: أنكالا، أي قيودا.
وقال في كاهن سبأ: إنه قال لقومه لما دنا منهم العذاب: من أراد سفرا بعيدا وحملا شديدا، فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا والعصير، فعليه ببصرى
- يعني الشام - ومن أراد الراسخات في الوحل، والمقيمات في المحل فعليه بيثرب ذات النخل.
فخرج قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، وهم غسان، وخرج الاوس والخزرج - وهم بنو كعب بن عمرو - وخزاعة حتى نزلوا يثرب، ذات النخل، فلما كانوا ببطن مر قالت خزاعة: هذا موضع صالح لا نريد به بدلا، فنزلوا، فمن ثم سميت خزاعة، لانهم تخزعوا من أصحابهم.
وتقدمت الاوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب، فقال الله عزوجل ليوسف عليه السلام يا يوسف ! بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك مع الذاكرين.
وقال: قال لقمان لابنه: قد ذقت المرار فلم أذق شيئا أمر من الفقر.
وحملت كل حمل ثقيل فلم يحمل أثقل من جار السوء.
ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب.
رواه وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبيه عن عكرمة: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [ الانفال: 17 ] قال: ما وقع شئ منها إلا في عين رجل منهم.
وقال: في قوله تعالى (زنيم) [ القلم: 13 ] هو اللئيم الذي يعرف اللؤمة كما يعرف الشاة بذنمتها.
وقال في قوله تعالى (الذين يؤذون الله ورسوله) [ الاحزاب: 53 ] قال: هم أصحاب التصاوير، (وبلغت القلوب الحناجر) [ الاحزاب: 100 ] قال: لو أن القلوب تحركت أو زالت لخرجت نفسه، وإنما هو الخوف والفزع.
(فتنتم أنفسكم) [ الحديد: 14 ] أي بالشهوات (وتربصتم) [ الحديد: 14 ] بالتوبة (وغرتكم الاماني) [ الحديد: 14 ] أي التسويف (حتى جاء أمر الله) الموت (وغركم بالله الغرور) الشيطان.
وقال: من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزل ذلك اليوم في سرور حتى يمسي.
قال سلمة بن شعيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم عن أبان عن أبيه.
قال: كنت جالسا مع عكرمة عند البحر فذكروا الذين يغرقون في البحر فقال عكرمة: الذين يغرقون في البحار تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقي منها شئ إلا العظام، حتى تصير حائلا نخرة فتمر بها الابل فتأكلها، ثم تسير الابل فتبعرها، ثم يجئ بعدهم قوم فينزلون ذلك المنزل فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم يصير رمادا فتجئ الريح فتأخذه فتذريه في كل مكان من الارض حيث يشاء الله من بره وبحره، فإذا جاءت النفخة - نفخة المبعث - فيخرج أولئك وأهل القبور المجموعين سواء.
وبهذا الاسناد
عنه قال: إن الله أخرج رجلين، رجلا من الجنة ورجلا من النار، فقال لصاحب الجنة: عبدي ! كيف وجدت مقيلك ؟ قال خير مقيل.
ثم قال لصاحب النار: عبدي كيف وجدت مقيلك ؟ فقال: شر مقيل قاله القائلون، ثم ذكر من عقاربها وحياتها وزنابيرها، ومن أنواع ما

فيها من العذاب وألوانه، فيقول الله تعالى لصاحب النار: عبدي ! ماذا تعطيني إن أنا أعفيتك من النار ؟ فيقول العبد: إلهي وماذا عندي ما أعطيك، فقال له الرب تعالى: لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني فأعفيك من النار ؟ فقال نعم، فقال له الرب: كذبت لقد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك ! تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرني فأغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكتب تتولى ذاهبا.
وبهذا الاسناد قال: ما من عبد يقربه الله عزوجل يوم القيامة للحساب إلا قام من عند الله بعفوه، وبه عنه: لكل شئ أساس، وأساس الاسلام الخلق الحسن.
وبه عنه قال: شكا نبي من الانبياء إلى ربه عزوجل الجوع والعري، فأوحى الله إليه: أما ترضى أني سددت عنك باب الشر الناشئ عنها ؟.
وبه عنه قال: إن في السماء ملكا يقال له إسماعيل لو أذن الله له بفتح أذن من آذانه يسبح الرحمن عز وجل لمات من في السموات والارض.
وبه عنه قال: سعة الشمس سعة الارض وزيادة ثلاث مرات، وسعة القمر سعة الارض مرة، وإن الشمس إذا غربت دخلت بحرا تحت العرش تسبح الله حتى إذا أصبحت استعفت ربها تعالى من الطلوع فيقول لها: ولم ذاك - وهو أعلم - فتقول: لئلا أعبد من دونك، فيقول لها: اطلعي فليس عليك شئ من ذلك، حسبهم جهنم أبعثها إليهم مع ثلاث عشرة ألف ملك تقودها حتى يدخلوهم: وهذا خلاف ما ثبت في الحديث الصحيح " إن جهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك ".
وقال مندل عن أسد بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه.
ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا
عنه ".
لم يرفعه إلا مندل هذا.
وروى شعبة عن عمارة بن حفصة عن عكرمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بثوبه، ووضع يديه على حاجبيه "، هذا حديث عال من حديث شعبة.
وروى بقية عن إسحاق بن مالك الخضري عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على أحد يمينا، وهو يرى أن سيبره فلم يفعل، فإنما إثمه على الذي لم يبره ".
تفرد به الوليد مرفوعا.
وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه: حدثنا عبيد بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن ربيع، حدثنا عمارة بن أبي حفصة، حدثنا عكرمة، حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه بردان قطريان خشنان غليظان، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح فيهما فيثقلان عليك، فأرسل إلى فلان فقد أتاه برد من الشام فاشتر منه ثوبان إلى ميسرة.
فقال: قد علمت والله، ما يريد مني الله إلا أن يذهب بثوبي ويمطلني بثمنهما، فرجع الرسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: كذب ! قد علموا أني أتقاهم لله وآداهم للامانة ".
وفي هذا اليوم قال

النبي صلى الله عليه وسلم: " لان يلبس أحدكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين مالي عنده " والله سبحانه أعلم.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق كان أحد الفقهاء المشهورين، له روايات كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضل أهل المدينة، وأعلم أهل زمانه، قتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذته خالته فنشأ عندها، وساد وله مناقب كثيرة.
أبو رجاء العطاردي.
وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور وهو كثير بن عبد الرحمن بن الاسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثير، لانه كان دميم الخلق
قصيرا، طوله ثلاثة أشبار.
قال ابن خلكان: كان يقال له رب الدبان (1)، وكان إذا مشى يظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك (2) بن مروان يقول له: طأطئ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان يقال إنه أشعر الاسلاميين، على أنه كان فيه تشيع، وربما نسبه بعضهم إلى مذهب التناسخية (3)، وكان يحتج على ذلك من جهله وقلة عقله إن صح النقل عنه، في قوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) [ الانفطار: 8 ] وقد استأذن يوما على عبد الملك فلما دخل عليه قال عبد الملك: لان تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: حيهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول: وجربت الامور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الامور وما تخفى الرجال علي أني * بهم لاخو مثاقفة خبير
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 113: زب الذباب (2) في ابن خلكان: عبد العزيز.
(3) التناسخية: قالوا بتناسخ الارواح في الاجساد والانتقال من شخص إلى شخص، وما يلقى الانسان من الراحة والتعب والدعة والنصب فمرتب على ما أسلفه من قبل وهو في بدن آخر جزاء على ذلك.
والانسان أبدا في أحد أمرين: إما في فعل وإما في جزاء.
(الملل والنحل ص 119) قال الاسفرايني في الفرق ص 203: القائلون بالتناسخ أصناف: صنف من الفلاسفة وصنف من السمنية (قالت بقدم العالم) وهذان كانا قبل دولة الاسلام.
وصنفان آخران ظهرا في دولة الاسلام.

ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير ويعجبك الطرير فتختبره * فيخلف ظنك الرجل الطرير وما هام الرجال لها بزين * ولكن زينها دين وخير بغاث الطير أطولها جسوما * ولم تطل البزاة ولا الصقور
وقد عظم البعير بغير لب * فلم يستغن بالعظم البعير فيركب ثم يضرب بالهراوي * ولا عرف لديه ولا نكير وعود النبع ينبت مستمرا * وليس يطول والعضباء حور وقد تكلم أبو الفرج بن طرار على غريب هذه الحكاية وشعرها بكلام طويل، قالوا: ودخل كثير عزة يوما على عبد الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها: - على ابن أبي العاصي دروع حصينة * أجاد المسدى سردها وأدالها قال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الاعشى لقيس بن معد يكرب: - وإذا تجئ كتيبة ملمومة * شهبا يخشى الذائدون صيالها كنت المقدم غير لابس جبة * بالسيف يضرب معلما أبطالها فقال: يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم.
ودخل يوما على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال: ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال: يا أمير المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها فذكرت قولي: إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم (1) دريزينها نهته فلما لم تر النهي عافه * بكت فبكى مما عراها (2) قطينها قال: أصبت فاحتكم، قال: مائة ناقة من نوقك المختارة، قال: هي لك، فلما سار عبد الملك إلى العراق نظر يوما إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره فقال: علي به، فلما جئ به قال له: أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي ؟ قال: نعم، قال: والله ؟ قال: والله، قال له عبد الملك إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي، فان أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة، فقال: أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم، قال أحتكم حكمي أن أردك إلى أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالا
__________
(1) في الاغاني 9 / 21: عقد.
(2) في الاغاني، وابن خلكان 4 / 108: شجاها.
والقطين: الخدم والاتباع والحشم

وأذن له بالانصراف وقال حماد الراوية عن كثير عزة: وفدت أنا والاحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة.
فنحن نسير ونختال في رحالنا، فلما انتهينا إلى خناصرة ولاحت لنا أعلامها، تلقانا مسلمة بن عبد الملك فقال: ما أقدمكم ؟ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا الشعراء ؟ قال: فوجمنا لذلك، فأنزلنا مسلمة عنده وأجرى علينا النفقات وعلف دوابنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر لا يمكنه أن يستأذن لنا على عمر، فلما كان في بعض الجمع دنوت منه لاسمع خطبته فأسلم عليه بعد الصلاة، فسمعته يقول في خطبته: لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه وثوابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الامد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم.
فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يطمئن، أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه، وارتج المسجد وما حول بالبكاء والعويل: قال: فانصرفت إلى صاحبي فقلت: خد سرحا من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإنه رجل أخرى ليس برجل دنيا.
قال: ثم استأذن لنا مسلمة عليه يوم الجمعة فلما دخلنا عليه سلمت عليه ثم قلت: يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا وفود العرب.
فقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [ التوبة: 61 ] وقرأ الآية، فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم وإلا فلا حق لكم فيها، فقلت: يا أمير المؤمنين إني مسكين وعابر سبيل ومنقطع به، فقال: ألستم عند أبي سعيد ؟ - يعني مسلمة بن عبد الملك - فقلنا: بلى ! فقال: إنه لا ثواب على من هو عند أبي سعيد، فقلت: ائذن لي يا أمير المؤمنين بالانشاد، قال: نعم ولا تقل إلا حقا،
فأنشدته قصيدة فيه: وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريئا ولم تقبل إشارة مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي * أتيت فأمسى راضيا كل مسلم ألا إنما يكفي الفتى بعد ريعه * من الاود النادي ثقاف المقوم وقد لبست تسعى إليك ثيابها * تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحيانا بعين مريضة * وتبسم عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزا كأنما * سقتك مذوقا من سمام وعلقم وقد كنت من أحبالها في ممنع * ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما زلت تواقا إلى كل غاية * بلغت بها أعلى البناء المقدم فلما أتاك الملك عفوا ولم تكن * لطالب دنيا بعده في تكلم

تركت الذي يفنى وإن كان مونقا * وآثرت ما يبقى برأى مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي * أمامك في يوم من الشر مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع * سوى الله من مال رعيت ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق * بلغت به أعلى المعالي بسلم فما بين شرق الارض والغرب كلها * مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول أمير المؤمنين ظلمتني * بأخذك ديناري وأخذك درهمي ولا بسط كف لامرئ غير مجرم * ولا السفك منه ظالما ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا * لك الشطر من أعمارهم غير ندم فعشت بها ما حج لله راكب * ملب مطيف بالمقام وزمزم فاربخ بها من صفقة لمبايع * وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال: فأقبل علي عمر بن عبد العزيز وقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة، ثم استأذنه
الاحوص فأنشده قصيدة أخرى فقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة.
ثم استأذنه نصيب فلم يأذن له وأمر لكل واحد منهم بمائة وخمسين درهما، وأغزى نصيبا إلى مرج دابق.
وقد وفد كثير عزة بعد ذلك على يزيد بن عبد الملك فامتدحه بقصائد فأعطاه سبعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: كان كثير عزة شيعيا خبيثا يرى الرجعة، وكان يرى التناسخ ويحتج بقوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) [ الانفطار: 8 ] وقال موسى بن عقبة هول كثير عزة ليلة في منامه فأصبح يمتدح آل الزبير ويرثي عبد الله بن الزبير، وكان يسئ الرأي فيه: بمفتضح البطحا تأول أنه * أقام بها ما لم ترمها الاخاشب سرحنا سروبا آمنين ومن يخف * بوائق ما يخشى تنبه النوائب تبرأت من عيب ابن أسماء إنني * إلى الله من عيب ابن أسماء تائب هو المرء لا ترزى به أمهاته * وآباؤه فينا الكرام الاطايب وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قالت عائشة بنت طلحة لكثير عزة: ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على نصف من الحسن والجمال ؟ فلو قلت ذلك في وفي أمثالي فأنا أشرف وأفضل وأحسن منها - وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسنا وجمالا وأصالة - وإنما قالت له ذلك لتختبره وتبلوه فقال: ضحى قلبه يا عز أو كاد يذهل * وأضحى يريد الصوم أو يتبدل وكيف يريد الصوم من هو وامق * لعزة لا قال ولا متبذل إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول سنوليك عرفا إن أردت وصالنا * ونحن لتيك الحاجبية أوصل

وحدثها الواشون أني هجرتها * فحملها غيظا علي المحمل فقالت له عائشة: قد جعلتني خلة ولست لك بخلة، وهلا قلت كما قال جميل فهو والله أشعر منك حيث يقول:
يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل فأجبتها بالقول بعد تستر * حبي بثينة عن وصالك شاغلي لو كان في قلبي بقدر قلامة * فضل وصلتك أو أتتك رسائلي فقال: والله ما أنكر فضل جميل، وما أنا إلا حسنة من حسناته، واستحيا.
ومما أنشده ابن الانباري لكثير عزة: بأبي وأمي أنت من معشوقة * طبن العدو لها فغير حالها ومشى إلي بعيب عزة نسوة * جعل الآله خدودهن نعالها الله يعلم لو جمعن ومثلت * لاخذت قبل تأمل تمثالها ولو ان عزة خاصمت شمس الضحى * في الحسن عند موفق لقضى لها وأنشد غيره لكثير عزة: فما أحدث النأي الذي كان بيننا * سلوا ولا طول اجتماع تقاليا وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا غيره له: فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت وقال كثير عزة أيضا وفيه حكمة أيضا: ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا كل عثرة * يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب وذكروا أن عزة بنت جميل بن حفص أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار أم عمرو الضمرية وفدت على عبد الملك بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال: لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئا من شعره، فقالت: لا أحفظ لكثير شعرا، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال في هذه الابيات: قضى كل ذي دين علمت غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
فقال: ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله: وقد زعمت أني تغيرت بعدها * ومن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي والمحبة كالذي * عهدت ولم يخبر بذاك مخبر

قال فاستحيت وقالت: أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكونه عنه، ولكن أحفظ له قوله: كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الظلم لو تمشي بها العصم زلت صفوح فما تلقاك إلا بخيلة * ومن مل منها ذلك الوصل ملت قال فقضى لها حاجتها وردها ورد عليها ظلامتها وقال: أدخلوها الحرم ليتعلموا من أدبها.
وروى عن بعض نساء العرب قالت: اجتازت بنا عزة فاجتمع نساء الحاضر إليها لينظرن حسنها، فإذا هي حميراء حلوة لطيفة، فلم تقع من النساء بذاك الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حديثا، فما بقي في أعيننا امرأة تفوقها حسنا وجمالا وحلاوة.
وذكر الاصمعي: عن سفيان بن عيينة قال: دخلت عزة على سكينة بنت الحسين فقالت لها: إني أسألك عن شئ فاصدقيني، ما الذي أراد كثير في قوله لك: قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها فقالت: كنت وعدته قبلة فمطلته بها، فقالت: أنجزيها له وإثمها علي، وقد كانت سكينة بنت الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل.
وروى أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيرا من عزة فأبت عليه وقالت: يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ؟ وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر.
وروى أنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر ما عنده، فتعرض لها فقالت: فأين حبك عزة ؟ فقال: أنا لك الفداء لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت، ويحك لا تفعل ألست القائل: إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول ؟
فقال: بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها واسمعي ما أقول: هل وصل عزة إلا وصل غانية * في وصل غانية من وصلها بدل قالت: فهل لك في المجالسة ؟ قال: ومن لي بذلك ؟ قال: فكيف بما قلت في عزة ؟ قال: أقلبه فيتحول لك، قال فسفرت عن وجهها وقالت: أغدرا وتناكثا يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت: قاتل الله جميلا حيث يقول: - محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متين ومن هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافا بكل يمين ثم شرع كثير يعتذر ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الاشعار ذاكرا وآثرا.
وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل: ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه ؟ فقال: ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات

عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال.
وكانت وفاته وفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على المشهور.
وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة - أعني سنة سبع ومائة - والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان ومائة ففيها افتتح مسلمة بن عبد الملك قيسارية من بلاد الروم، وفتح إبراهيم بن عبد الملك حصنا من حصون الروم أيضا، وفيها غزا أسيد بن عبد الله القسري أمير خراسان فكسر الاتراك كسرة فاضحة.
وفيها زحف خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان (1) ورماها بالمناجيق، فسار إليه أمير تلك الناحية الحارث بن عمرو نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملك الترك فهزمه وقتل من جيشه خلق كثير، وهرب الخاقان بعد أن كان قتل في جملة من قتل من جيشه، وقتل الحارث بن عمرو شهيدا، وذلك بعد أن قتلوا من الاتراك خلقا كثيرا.
وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف فافتتح جنجرة وغنم منها شيئا كثيرا.
وفيها توفي من الاعيان بكر بن عبد الله المزني البصري.
كان عالما عابدا زاهدا متواضعا قليل الكلام، وله روايات كثيرة عن خلق من الصحابة والتابعين.
قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك من المسلمين فقل: سبقته إلى المعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا من فضل ربي، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: هذا بذنب أحدثته.
وقال: من مثلك يابن آدم ؟ خلي بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عزوجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب.
وقال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب.
وقل: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.
وقال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ الصالح من العمل فمشى في الناس تظلله غمامة، قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه مما آتاه الله، فاحتقره صاحب الغمامة فأمرها الله أن تتحول عن رأسه إلى رأس الذي احتقره، وهو الذي عظم أمر الله عزوجل.
وقال: ما سبقهم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشئ قر في صدره.
وله كلام حسن كثير يطول ذكره.
راشد بن سعد المقراني الحمصي عمر دهرا، وروى عن جماعة من الصحابة، وقد كان عابدا صالحا زاهدا.
رحمه الله تعالى، وله ترجمة طويلة.
محمد بن كعب القرظي توفي فيها في قول وهو أبو حمزة، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان عالما بتفسير القرآن، صالحا عابدا، قال الاصمعي: حدثنا أبو المقدام - هشام بن زياد - عن محمد بن كعب
__________
(1) ورثان: بلد هو آخر حدود أذربيجان بينه وبين وادي الرس فرسخان.
وقال ابن الكلبي: ورثان هي اذربيجان.
(معجم البلدان.
ج 5).

القرظي أنه سئل: ما علامة الخذلان ؟ قل: أن يقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن، ما كان قبيحا.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب قال: سمعت ابن كعب يقول: لان أقرأ في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأردد فيهما الفكر، أحب إلي
من أن أهد القرآن هدا - أو قال أنثره نثرا -.
وقال: لو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام، قال تعالى: (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) [ آل عمران: 41 ] فلو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص له، ولرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [ الانفال: 46 ] وقال في قوله تعالى: (اصبروا وصابروا ورابطوا) [ آل عمران: 200 ] قال: اصبروا على دينكم وصابروا لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني.
وقال في قوله تعالى: (لو لا أن رأى برهان ربه) [ يوسف: 24 ]: علم ما أحل القرآن مما حرم (منها قائم وحصيد) [ هود: 101 ] قال: القائم ما كان من بنائهم قائما، والحصيد ما حصد فهدم.
(إن عذابها كان غراما) [ الفرقان: 65 ] قال: غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا، وفي رواية سألهم ثمن نعمة فلم يقدروا عليها ولم يؤدوها، فأغرمهم ثمنها.
فأدخلهم النار.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد بن كعب في هذه الآية (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) [ الروم: 39 ] قال: هو الرجل يعطي الآخر من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الذي لا يربو عند الله، والمضعفون هم الذين يعطون لوجه الله لا يبتغي مكافأة أحد.
وفي قوله تعالى: (أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) [ الاسراء: 80 ] قال: اجعل سريرتي وعلانيتي حسنة.
وقيل: أدخلني مدخل صدق في العمل الصالح، أي الاخلاص، وأخرجني مخرج صدق أي سالما.
(أو ألقى السمع وهو شهيد) [ ق: 37 ] أي يسمع القرآن وقلبه معه في مكان آخر.
(فاسعوا إلى ذكر الله) [ الجمعة: 9 ] قال: السعي العمل ليس بالشد.
وقال: الكبائر ثلاثة، أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله، وأن تيأس من روح الله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة بن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال، فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرا بعيوب نفسه.
وقال: الدنيا
دار قلق، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الاشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي الغاوية لمن أضاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول.
وروى ابن المبارك عن داود بن قيس قال: سمعت محمد بن كعب يقول: إن الارض لتبكي من رجل، وتبكي على

رجل، تبكي على من كان يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكي ممن كان يعمل على ظهرها بمعصية الله، قد أثقلها.
ثم قرأ (فما بكت عليهم السماء والارض) [ الدخان: 29 ] وقال في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [ الزلزلة: 7 - 8 ] من يعمل مثقال ذرة خيرا من كافر يرى ثوابها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له خير.
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له شر.
وقال: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض (1) ما يكره فمقتني، وقال: اذهب لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى أنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسأله أن يبيعه غلامه سالما - وكان عابدا خيرا زاهدا - فكتب إليه: إني قد دبرته، قال: فازدد فيه، فأتاه سالم فقال له عمر: إني قد ابتليت بما ترى، وأنا والله أتخوف أن لا أنجو، فقال له سالم: إن كنت كما تقول فهذا نجاته، وإلا فهو الامر الذي يخاف.
قال: يا سالم عظني، قال: آدم عليه السلام أخطأ خطيئة واحدة خرج بها من الجنة، وأنتم مع عمل الخطايا ترجون دخول الجنة، ثم سكت.
قلت: والامر كما قيل في بعض كتب الله: تزرعون السيئات وترجون الحسنات، لا يجتنى من الشوك العنب.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى * درج الجنان وطيب عيش العابد ونسيت أن الله أخرج آدما * منها إلى الدنيا بذنب واحد وقال: من قرأ القرآن متع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة.
وقال له رجل: ما تقول في التوبة ؟ قال: لا أحسنها، قال: أفرأيت إن أعطيت الله عهدا أن لا تعصيه أبدا ؟ قال: فمن أعظم
جرما منك، تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره.
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني: حدثنا ابن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن زياد أبي المقدام.
قالوا كلهم: حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: حدثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده، ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنبا، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل خطيبا فقال: يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها - وقال مرة فتظلموهم - ولا تظلموا ظالما، ولا تطاولوا ظالما فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 133: بعض ذنوبي فمقتني.

الامور ثلاثة، أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله ".
وهذه الالفاظ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، وقد روي أول الحديث إلى ذكر عيسى من طريقه، وسيأتي أن هذا الحديث تفرد به الطبراني بطوله والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها توفي أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.
ثم دخلت سنة تسع ومائة ففيها عزل هشام بن عبد الملك أسد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان (1) وأمره أن يقدم إلى الحج (2) فأقبل منها في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، واستناب هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسري، وكان أشرس فاضلا خيرا، وكان سمي الكامل لذلك، وكان أول من اتخذ المرابطة بخراسان، واستعمل
المرابطة عبد الملك بن زياد (3) الباهلي، وتولى هو الامور بنفسه كبيرها وصغيرها، ففرح بها أهلها.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين.
سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية فيها قاتل مسلمة بن عبد الملك ملك الترك الاعظم خاقان، فزحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتواقفوا نحوا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالما غانما، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزاة غزاة الطين، وذلك أنهم سلكوا على مغارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما، وفيها دعا أشرس بن عبد الله السلمي نائب خراسان أهل الذمة بسمرقند ومن وراء النهر إلى الدخول في الاسلام، ويضع عنهم الجزية فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم بالجزية فنصبوا له الحرب وقاتلوه، ثم كانت بينه وبين الترك حروب كثيرة، أطال ابن جرير بسطها وشرحها فوق الحاجة (4).
وفيها أرسل أمير المؤمنين هشام بن عبيدة إلى إفريقية متوليا عليها، فلما وصل جهز ابنه وأخاه في جيش فالتقوا مع المشركين فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا بطريقهم وانهزم باقيهم، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا.
وفيها افتتح معاوية بن هشام حصنين من بلاد الروم،
__________
(1) في سبب عزله أن أسدا بالغ في العصبية فأفسد الناس بها، وضرب نصر بن سيار ونفرا معه بالسياط وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد.
وخطب الناس في بلخ يوما فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد.
(الطبري 8 / 193 - ابن الاثير 5 / 142 - 143).
(2) في الطبري: استأذن خالد لاخيه فأذن له.
(3) في الطبري 8 / 195: دثار (انظر بن الاثير 5 / 150).
(4) انظر الطبري 8 / 196 وما بعدها وابن الاثري 5 / 151.

وغنم غنائم جمة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام، وعلى العراق خالد القسري، وعلى خراسان أشرس السلمي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان: جرير الشاعر وهو جرير بن الخطفي (1) ويقال ابن عطية بن الخطفي واسم الخطفي حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر (2) بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار، أبو حزرة الشاعر البصري، قدم دمشق مرارا، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنونه الفرزدق الاخطل، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم، قال غير واحد: هو أشعر الثلاثة، قال ابن دريد ثنا الاشنانداني ثنا الثوري عن أبي عبيدة عن عثمان البني قال: رأيت جريرا وما تضم شفتاه من التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا ؟ فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات، وعد من الله حق.
وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده الشعراء الثلاثة، جرير والفرزدق والاخطل، فلم يعرفهم الاعرابي، فقال عبد الملك للاعرابي: هل تعرف اهجى بيت قالته العرب في الاسلام ؟ قال: نعم ! قول جرير: فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا (3) فقال: أحسنت، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الاسلام ؟ قال نعم ! قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح فقال: أصبت واحسنت، فهل تعرف أرق بيت قيل في الاسلام ؟ قال: نعم ! قول جرير: إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 321 والاغاني 8 / 3: الخطفي لقب، قال أبو الفرج لقب به لقوله: يرفعن لليل إذا ما اسدفا * اعناق جنان وهاما رجفا وعنقا بعد الكلال خيطفا (2) في عامود النسب في الاغاني: مر بن أد بن طابخة.
(3) قاله في ابن جندل شيخ مضر وشاعرها.
وهو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل، يلقب براعي الابل وكان يفضل الفرزدق على جرير مما أغضب جرير عليه وقال فيه ما قال.

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به * وهن أضعف خلق الله أركانا فقال: أحسنت، فهل تعرف جريرا ؟ قال: لا والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق، قال: فهذا جرير وهذا الفرزدق وهذا الاخطل، فأنشأ الاعرابي يقول.
- فحيا إلاله أبا حرزة * وأرغم أنفك يا أخطل وجد الفرزدق أتعس به * ورق خياشيمه الجندل فأنشأ الفرزدق يقول: يا أرغم الله أنفا أنت حامله * يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل ما أنت بالحكم الترضى حكومته * ولا الاصيل ولا ذي الرأي والجدل ثم أنشأ الاخطل يقول: - يا شر من حملت ساق على قدم * ما مثل قولك في الاقوام يحتمل إن الحكومة ليست في أبيك ولا * في معشر أنت منهم انهم سفل فقام جرير مغضبا وقال: - أتشتمان سفاها خيركم حسبا (1) * ففيكما - وإلهي - الزور والخطل شتمتاه على رفعي ووضعكما * لا زلتما في سفال أيها السفل ثم وثب جرير فقبل رأس الاعرابي وقال: يا أمير المؤمنين جائزتي له، وكانت خمسة آلاف (2)، فقال عبد الملك: وله مثلها من مالي، فقبض الاعرابي ذلك كله وخرج.
وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاء أربعة من النوبة وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد قال جرير: وبين يدي عبد الملك جامان من فضة قد أهديت له، وهو لا يعبأ بها شيئا، فهو يقرعها بقضيب في يده، فقلت: يا أمير المؤمنين المحلب، فألقى إلي واحدا من تلك الجامات، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج له خمسين ناقة تحمل طعاما لاهله.
__________
(1) كان الاعرابي من بني عذرة، وهم أخوال عبد الملك.
(2) في الاغاني 8 / 42: أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة.

وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الاخطل، فقال بشر لجرير: أتعرف هذا ؟ قال: لا، ومن هذا أيها الامير ؟ فقال: هذا الاخطل، فقال الاخطل، أنا الذي قذفت عرضك، وأسهرت ليلك، وآذيت قومك، فقال جرير: أما قولك شتمت عرضك فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه، وأما قولك وأسهرت ليلك، فلو تركتني أنام لكان خيرا لك، وأما قولك وآذيت قومك فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟ وكان الاخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا.
فإنه إنما يقال استوى على الشئ إذ كان ذلك الشئ عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الافلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم.
وقال الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه
الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير: - يا أيها الرجل المرخي عمامته * هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا فدخل ولم يذكر لعمر بن أمرهم شيئا، فمر بهم عدي بن أرطأة فقال له جرير منشدا: يا أيها الراكب المرخي مطيته * هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن لا تنس حاجتنا لا قيت مغفرة * قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، فقال: ويحك يا عدي، مالي وللشعراء، فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه فأعطاه حلة، فقال له عمر: أتروي منها شيئا ؟ قال: نعم فأنشده: - رأيتك يا خير البرية كلها * نشرت كتابا جاء بالحق معلما

شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا * عن الحق لما أصبح الحق مظلما ونورت بالبرهان أمرا مدلسا * وأطفأت بالقرآن نارا تضرما فمن مبلغ عني النبي محمدا * وكل امرئ يجزي بما كان قدما أقمت سبيل الحق بعد أعوجاجه * وكان قديما ركنه قد تهدما تعالى علوا فوق عرش إلهنا * وكان مكان الله أعلا وأعظما فقال عمر: من بالباب منهم ؟ فقال: عمر بن أبي ربيعة، فقال أليس هو الذي يقول: ثم نبهتها فهبت كعابا * طفلة ما تبين رجع الكلام ساعة ثم إنها بعد قالت * ويلنا قد عجلت يا بن الكرام أعلى غير موعد جئت تسري * تتخطى إلى رؤوس النيام
ما تجشمت ما تريد من الامر * ولا حيت طارقا لخصام فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه، لا يدخل والله أبدا، فمن بالباب سواه ؟ قال: همام بن غالب - يعني الفرزدق - فقال عمر: أو ليس هو الذي يقول في شعره: هما دلياني من ثمانين قامة * كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي بالارض قالتا * أحي يرجي أم قتيل نحاذره لا يطأ والله بساطي وهو كاذب، فمن سواه بالباب ؟ قال: الاخطل، قال: أو ليس هو الذي يقول: ولست بصائم رمضان طوعا * ولست بآكل لحم الاضاحي ولست بزاجر عيسا بكور * إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بزائر بيتا بعيدا * بمكة أبتغي فيه صلاحي ولست بقائم كالعير أدعو * قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولا * وأسجد عند منبلج الصباح والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا، فهل بالباب سوى من ذكرت ؟ قال: نعم الاحوص، قال: أليس هو الذي يقول: الله بيني وبين سيدها * يفر مني بها وأتبعه فما هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره ؟ قال جميل بن معمر، قال: الذي يقول: - ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت * يوافق في الموتى خريجي خريجها فما أنا في طول الحياة براغب * إذا قيل قد سوى عليها صفيحها

فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ويتوب، والله لا يدخل علي أبدا، فهل بالباب أحد سوى ذلك ؟ قلت: جرير، قال أما إنه الذي يقول: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فأذن لجرير، فأذن له فدخل على عمر وهو يقول: إن الذي بعث النبي محمدا * جعل الخلافة للامام العادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه * حتى ارعوى وأقام ميل المائل إني لارجو منك خيرا عاجلا * والنفس مولعة بحب العاجل فقال له: ويحك يا جرير، اتق الله فيما تقول، ثم إن جريرا استأذن عمر في الانشاد فلم يأذن له ولم ينهه، فأنشده قصيدة طويلة يمحده بها، فقال له: ويحك يا جرير لا أرى لك فيما ههنا حقا، فقال: إني مسكين وابن سبيل، قال: إنا ولينا هذا الامر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبد الله مائة وابنها مائة وقد بقيت مائة، فأمر له بها، فخرج على الشعراء فقالوا: ما وراءك يا جرير ؟ فقال: ما يسؤوكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزه * وقد كان شيطاني من الجن راقيا وقال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري قالت جارية للحجاج بن يوسف: إنك تدخل هذا علينا، فقال: إنه ما علمت عفيفا، فقالت: أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع، فأمر باخلائها مع جرير في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، ولا يشعر جرير بشئ من ذلك، فقالت له: يا جرير، فأطرق رأسه، وقال، هأنذا، فقالت: أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعر فيه رقة - فقال: لست أحفظه ولكن أحفظ كذا وكذا - ويعرض عن ذاك وينشدها شعرا في مدح الحجاج - فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد كذا وكذا - فيعرض عن ذاك وينشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس فقال الحجاج: لله درك، أبيت إلا كرما وتكرما.
وقال عكرمة أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفي: أبدل الليل لا تجري كواكبه * أو طال حتى حسبت النجم حيرانا فقال الاعرابي: إن هذا حسن في معناه وأعوذ بالله من مثله، ولكني أنشدك في ضده من قولي:
وليل لم يقصره رقاد * وقصره لنا وصل الحبيب نعيم الحب أورق فيه * حتى تناولنا جناه من قريب

بمجلس لذة لم نقف فيه * على شكوى ولا عيب الذنوب فخشينا أن نقطعه بلفظ * فترجمت العيون عن القلوب قلت له: زدني، قال، أما من هذا فحسبك ولكن أنشدك غيره فأنشدني: وكنت إذا عقدت حبال قوم * صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم * وأجتنب الاساءة إن أساؤوا أشاء سوى مشيئتهم فآتي * مشيئتهم وأترك ما أشاء قال ابن خلكان: كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم * حسبت الناس كلهم غضابا قال وقد سأله رجل: من أشعر الناس ؟ فأخذ بيده وأدخله على ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته، فقال جرير للذي سأله: أتبصر هذا ؟ قال: نعم، قال: أتعرفه ؟ قال: لا، قال: هذا أبي، وإنما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم، وقد كان بين جرير والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها، وقد مات في سنة عشر ومائة، قاله خليفة بن خياط وغير واحد، قال خليفة: مات الفرزدق وجرير بعده بأشهر، وقال الصولي: ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما، وقال الكريمي عن الاصمعي عن أبيه قال: رأى رجل جريرا في المنام بعد موته فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا ؟ قال بتكبيرة كبرتها بالبادية، قيل له: فما فعل الفرزدق ؟ قال أيهات أهلكه قذف المحصنات.
قال الاصمعي لم يدعه في الحياة ولا في الممات.
وأما الفرزدق
واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (1) بن حنظلة بن زيد بن مناة بن مر بن أد بن طابخة أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق، وجده صعصعة بن ناجية صحابي، وفد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان يحيي الموؤودة في الجاهلية، حدث الفرزدق عن علي أنه ورد مع أبيه عليه، فقال من هذا ؟ قال ابني وهو شاعر، قال علمه القراءة فهو خير له من الشعر.
وسمع الفرزدق الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وعرفجة بن أسعد، وزرارة بن كرب، والطرماح بن عدي الشاعر، وروى عنه خالد الحذاء ومروان الاصغر وحجاج بن حجاج الاحول، وجماعة، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحباب، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه، ولم يصح ذلك،
__________
(1) في الاغاني 21 / 276: ابن دارم بن مالك بن حنظلة.
وانظر ابن خلكان 6 / 86.

وقال أشعث بن عبد الله عن الفرزدق قال نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال: يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرين فاطلب لهما موضعا في الجنة، فقلت: إن ذنوبي كثيرة، فقال: لا بأس فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ".
وقال معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجله قيد، فقلت: ما هذا ؟ فقال: حلفت أن لا أنزعه حتى أحفظ القرآن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج والفرزدق فإنهما زادا على طول الاقامة جدة وحدة، وقال راويته أبوشفقل طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثا ثم جاء فأشهد على ذلك الحسن البصري، ثم ندم على طلاقها وإشهاده الحسن على ذلك فأنشأ يقول: - فلو أني ملكت يدي وقلبي (1) * لكان علي للقدر الخيار ندمت ندامة الكسعي لما * غدت مني مطلقة نوار (2) وكانت جنتي فخرجت منها * كآدم حين أخرجه الضرار (3) وقال الاصمعي وغير واحد: لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق -
- وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري - فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس ؟ قال: يقولون شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس - يعنونك - وشر الناس - يعنوني - فقال له: يا أبا فراس لست أنا بخير الناس ولست أنت بشر الناس، ثم قال له الحسن: ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها فأنشأ الفرزدق يقول (4): أخاف وراء القبر إن لم يعافني * أشد من القبر التهابا وأضيقا إذا جاءني (5) يوم القيامة قائد * عنيف وسواق يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد دارم (6) من مشى * إلى النار مغلول القلادة أزرقا (7) يساق إلى نار الجحيم مسربلا * سرابيل قطران لباسا مخرقا
__________
(1) في المبرد 1 / 72: نفسي.
(2) الكسعي: رجل يضرب المثل به في الندامة على كسره قوسه، وكان جربها في عدة ظباء، فظن انها لم تصبهن، ثم اتضح أنها أقصدتهن جميعا.
(3) بعده في الاغاني 21 / 290 والكامل للمبرد 1 / 72: وكنت كفاقئ عينيه عمدا * فأصبح ما يضئ له النهار (4) في الكامل للمبرد 1 / 71: وقال الفرزدق في أيام نسكه.
(5) في الكامل للمبرد: قادني.
(6) في الاغاني 21 / 391 والكامل للمبرد: آدم.
(7) في الكامل: موثقا.
ويراد بالقلادة الطوق.
والغل هنا: اطباق القلادة.
وأزرقا: يراد به ما ورد في التنزيل =

إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم * يذوبون من حر الصديد (1) تمزقا قال: فبكى الحسن حتى بل الثرى ثم التزم الفرزدق، وقال: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي.
وقال له بعض الناس: ألا تخاف من الله في قذف
المحصنات، فقال: والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما، فكيف يعذبني ؟ وقد قدمنا أنه مات سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوما (8)، وقيل بأشهر فالله أعلم.
وأما الحسن وابن سيرين فقد ذكرنا ترجمة كل منهما في كتابنا التكميل مبسوطة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فأما الحسن بن أبي الحسن فاسم أبيه يسار وأبرد هو أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت، ويقال مولى جابر بن عبد الله وقيل غير ذلك، وأمه خيرة مولاة لام سلمة كانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرتضع منهما، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب، قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس.
وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا عنها مولانا الحسن، فإنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا، وقال أنس مرة: إني لاغبط أهل البصرة بهذين الشيخين - الحسن وابن سيرين - وقال قتادة: ما جالست رجلا فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه، وقال أيضا: ما رأت عيناي أفقه من الحسن، وقال أيوب: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة هيبة له، وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن، فأقرأه مني السلام.
وقال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه، وقال الاعمش: ما زال الحسن
__________
= العزيز من أن المجرمين يحشرون إلى جهنم زرقا.
(1) في الكامل: الحميم بدل الصديد في الموضعين.
(2) قال البلاذري: أسن الفرزدق حتى قارب المئة ومات بالدبيلة (مرض يصيب الجوف).
وعن ابن عائشة ان الفرزدق مات قبل جرير بستة أشهر.
وقال جرير لما بلغه موته: قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به.
وقال:
فمات الفرذدق بعد ما جرعته * ليت الفرزدق كان عاش قليلا فقيل له أتهجوه وقد مات، فقال يرثيه: فلا وضعت بعد الفرزدق حامل * ولا ذات بعل من نفاس تعلت هو الوافد الميمون والراتق الثأى * إذا النعل يوما بالعشيرة زلت

يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الانبياء.
وقال محمد بن سعد: قالوا كان الحسن جامعا للعلم والعمل، عالما رفيعا فقيها مأمونا عابدا زاهدا ناسكا كثير العلم والعمل فصيحا جميلا وسيما، وقدم مكة فأجلس على سرير، وجلس العلماء حوله، واجتمع الناس إليه فحدثهم.
قال أهل التاريخ: مات الحسن عن ثمان وثمانين سنة، عام عشر ومائة في رجب منها، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم.
وأما ابن سيرين فهو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الانصاري مولى أنس بن مالك النضري، كان أبو محمد من سبي عين التمر (1)، أسره خالد بن الوليد في جملة السبي، فاشتراه أنس ثم كاتبه، ثم ولد له من الاولاد الاخيار جماعة، محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء رحمهم الله.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر، وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأمونا عالما رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا.
وكان به صمم، وقال مؤرق العجلي: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه، وأورع في فقهه منه، قال ابن عون: كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الامة، وأشد الناس إزارا على نفسه، وأشدهم خوفا عليها.
قال ابن عون: ما بكى في الدنيا مثل ثلاثة، محمد بن سيرين في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.
وكانوا يأتون بالحديث على حروفه، وكان الشعبي يقول: عليكم بذاك الاصم - يعني محمد بن سيرين - وقال ابن شوذب: ما رأيت أحدا أجرأ على تعبير الرؤيا منه.
وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه.
قالوا: ومات في تاسع شوال من هذه السنة بعد الحسن بمائة يوم.
فصل كان اللائق، بالمؤلف أن يذكر تراجم هؤلاء العلماء الاخيار قبل تراجم الشعراء المتقدم ذكرهم فيبدأ بهم ثم يأتي بتراجم الشعراء، وأيضا فإنه أطال القول في تراجم الشعراء واختصر تراجم العلماء، ولو كان فيها حسن وحكم جمة ينتفع بها من وقف عليها، ولعلها أفيد من مدحهم والثناء عليهم، ولا سيما كلام الحسن وابن سيرين ووهب بن منبه - كما ذكره بعد وكما سيأتي ذكر ترجمته في هذه الزيادة - فإنه قد اختصرها جدا وإن المؤلف أقدر وأوسع علما، فما ينبغي أن يخل ببعض كلامهم وحكمهم، فإن النفوس مستشرفة إلى معرفة ذلك والنظر فيه، فإن أقوال السلف لها موقع من
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 241 وتذكره الحفاظ 1 / 77: من أهل جرجرايا.
(وهي بلد من أعمال النهروان بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي وقد خرج منها جماعة من العلماء والشعراء).
وقد جاء يعمل في عين التمر فسباه خالد بن الوليد.

القلوب، والمؤلف غالبا في التراجم يحيل على ما ذكره في التكميل الذي صنفه في أسماء الرجال، وهذا الكتاب لم نقف عليه نحن ولا من سألناه عنه من العلماء، فإنا قد سألنا عنه جماعة من أهل الفن فلم يذكر غير واحد أنه اطلع عليه.
فكيف حل غيرهم ؟ وقد ذكرت في غالب التراجم زيادات على ما ذكره المؤلف مما وصلت إليه معرفتي واطلعنا عليه، ولو كان عندي كتب لاشبعت القول في ذلك، إذ الحكمة هي ضالة المؤمن.
ولعل أن يقف على هذا راغب في الآخرة، طالب ما عند الله عزوجل فينتفع به أعظم مما ينتفع به من تراجم الخلف والملوك والامراء، وإن كانت تلك أيضا نافعة لمعتير ومزدجر، فإن ذكر أئمة العدل والجور بعد موتهم فيها فضل أولئك، وغم هؤلاء، ليعلم الظالم أنه وإن مات لم يمت ما كان متلبسا به من الفساد والظلم، بل هو مدون في الكتب عند العلماء.
وكذلك أهل العدل والصلاح والخير، فإن الله قد قص في القرآن أخبار الملوك والفراعنة والكفار والمفسدين، تحذيرا من أحوالهم وما كانوا يعملون، وقص أيضا أخبار الاتقياء والمحسنين والابرار والاخيار
والمؤمنين، للاقتداء والتأسي بهم والله سبحانه أعلم.
فنقول وبالله التوفيق: أما الحسن فهو أبو سعيد البصري الامام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الاجلاء علما وعملا وإخلاصا فروى ابن أبي الدنيا عنه قال: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون فتجئ الرجل عبرته فيردها ما استطاع، فإن غلب قام عنهم.
وقال الحسن: تنفس رجل عند عمر بن عبد العزيز فلكزه عمر - أو قال: لكمه - وقال: إن في هذا لفتنة.
وقد ذكره ابن أبي الدنيا عن الحسن عن عمر بن الخطاب.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوما ألهتهم أماني المغفرة ورجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله، وأرجو رحمة الله، وكذب، لو أحسن الظن بالله لاحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالاعمال الصالحة يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقذعوا هذه الانفس فإنها تنزع إلى شر غاية.
وقال مالك بن دينار: قلت للحسن: ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا ؟ قال: موت القلب، فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة، فعند ذلك ترحل عنه بركات العلم ويبقى عليه رسمه.
وروى الفتني عن أبيه قال: عاد الحسن عليلا فوجده قد شفي من علته، فقال: أيها الرجل إن الله قد ذكرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال الحسن: إنما المرض ضربة سوط من ملك كريم، فأما أن يكون العليل بعد المرض فرسا جوادا، وإما أن يكون عثورا معقورا.
وروى العتبي عن أبيه أيضا قال: كتب الحسن إلى فرقد: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله، والاستعداد لما وعد الله، مما لا

حيلة لاحد في دفعه، ولا ينفع الندم عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الجاهلين، وشمر الساق، فإن الدنيا ميدان مسابقة، والغاية الجنة أو النار، فإن لي ولك من الله
مقاما يسألني وإياك فيه عن الحقير والدقيق، والجليل والخافي، ولا آمن أن يكون فيما يسألني وإياك عنه وساوس الصدور، ولحظ العيون، وإصغاء الاسماع.
وما أعجز عنه.
وروى ابن قتيبة عنه أنه مر على باب ابن هبيرة فرأى القراء - وكانوا هم الفقهاء - جلوسا على باب ابن هبيرة فقال: طفحتم نعالكم، وبيضتم ثيابكم.
ثم أتيتم إلى أبوابهم تسعون ؟ ثم قال لاصحابه: ما ظنكم بهؤلاء الحذاء ؟ ليست مجالسهم من مجالس الاتقياء، وإنما مجالسهم مجالس الشرط.
وروى الخرائطي عن الحسن أنه كان إذا اشترى شيئا وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه.
ومر الحسن بقوم يقولون: نقص دانق أي عن الدرهم الكامل والدينار الكامل - إما أن يكون درهما ينقص نصفا أو ربعا، والعشرة تسعة ونصف، وقس على هذا، فكان الحسن يستحب جبران هذه الاشياء، وإن كان اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقا كمله درهما، أو بتسعة ونصف كملها عشرة، مروءة وكرما.
وقال عبد الاعلى السمسار، قال الحسن: يا عبد الاعلى ! أما يبيع أحدكم الثوب لاخيه فينقص درهمين أو ثلاثة ؟ قلت لا والله ولا دانق واحد، فقال الحسن: إن هذه الاخلاق فما بقي من المرؤة إذا ؟.
قال: وكان الحسن يقول: لا دين إلا بمروءة.
وباع بغلة له فقال له المشتري.
أما تحط لي شيئا يا أبا سعيد ؟ قال لك خمسون درهما، أزيدك ؟ قال: لا ! رضيت، قال: بارك الله لك.
وروى ابن أبي الدنيا عن حمزة الاعمى قال: ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد: ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه، فقال لي يوما: يا بني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين، قال: وكنت أدخل على الحسن منزلة وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوما: إنك تكثر البكاء فقال يا بني ! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبك ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار، وقال: ما هو إلا حلول الدار إما الجنة وإما النار، ما هناك منزل ثالث.
وقال: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر من دموعه قطرة حتى
تعتق رقبته من النار.
وقال: لو أن باكيا بكى في ملا من خشية الله لرحموا جميعا، وليس شئ من الاعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيئا.
وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
وروى ابن أبي الدنيا عنه في كتاب اليقين قال: من علامات المسلم قوة دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحبس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة

وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة، لا ترديه رغبته، ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته.
كذا ذكر هذه الالفاظ عنه (1).
قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح عن الحكم بن ظهير عن يحيى بن المختار عن الحسن فذكره، وقال فيه أيضا عنه: يا بنى آدم إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يدي الله عزوجل.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا علي بن إبراهيم اليشكري، حدثنا موسى بن إسماعيل الجيلي، حدثنا حفص بن سليمان أبو مقاتل عن عون بن أبي شداد، عن الحسن قال: قال لقمان لانبه: يا بني ! ! العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله.
وقال: يا بني إذا جاءك الشيطان من قبل الشك والريب فاغلبه باليقين والنصيحة، وإذا جاءك من قبل الكسل والسآمة فاغلبه بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قبل الرغبة والرهبة فاخبره أن الدنيا مفارقة متروكة.
وقال الحسن: ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع وذبل واستقام واقتصد حتى يأتيه الموت.
وقال: باليقين طلبت الجنة، وباليقين هربت من النار، وباليقين أديت الفرائض على أكمل وجهها، وباليقين أصبر على الحق وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتعاونون في العافية، فإذا نزل البلاء تفارقوا.
وقال: الناس في العافية سواء، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال.
وفي رواية: فإذا نزل البلاء تبين من يعبد الله وغيره، وفي رواية فإذا نزل البلاء سكن المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه.
وقال الفريابي في فضائل القرآن: حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، لم يأتوا الامر من قبل أوله، قال الله عزوجل: (كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الالباب) [ ص: 29 ] وما تدبر آياته إلا أتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفا واحدا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: والله إني لاقرأ السورة في نفس، لا والله ما هؤلاء بالقراء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراءة هكذا أو يقول مثل هذا، لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء.
ثم روى الحسن عن جندب قال: قال لنا حذيفة: هل تخافون من شئ ؟ قال: قلت والله إنك وأصحابك لاهون الناس عندنا، فقال: أما والذي نفسي بيده لا تؤتون إلا من قبلنا، ومع ذلك نشء آخر يقرأون القرآن يكونون في آخر هذه الامة ينثرونه نثر الدقل، لا يجاوز تراقيهم، تسبق قراءتهم إيمانهم.
__________
(1) كذا بالاصل ولم يعين اسم من ذكر عنه.

وروى ابن أبي الدنيا عنه في ذم الغيبة له قال: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الاكلة في جسده.
وكان يقول.
ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الايمان حتى لا تصيب (1) الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان ذلك شغلك في طاعة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا.
وقال الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حرمة.
وقال: ليس لمبتدع غيبة.
وقال أصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكرى له بما فيه غيبة ؟ قال: لا ولا كرامة.
وقال: إذا ظهر فجوره فلا غيبة له.
وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: المجاهر بالفسق، والامام الجائر، والمبتدع.
وقال له رجل: إن قوما يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلا، فقال: هون عليك يا هذا فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد
إلى ذلك سبيلا، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم ؟ وقال: كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يصيب ذلك الذنب.
وقال الحسن: قال لقمان لابنه: يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه.
وقال الحسن: اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله عزوجل لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإن سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه، فإن وافق قول عملا فنعم ونعمت عين أخته وأخيه، وإذا خالف قول عملا فماذا يشبه عليك منه، أم ماذا يخفى عليك منه ؟ وإياك وإياه لا يخدعنك كما خدع ابن آدم، إن لك قولا وعملا، فعملك أحق بك من قولك، وإن لك سريرة وعلانية، فسريرتك أحق بك من علانيتك، وإن لك عاجلة وعاقبة، فعاقبتك أحق بك من عاجلتك.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا حمزة بن العباس، أنبأ عبدان بن عثمان، أنبأ معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إذا شبت لقيت الرجل أبيض حديد اللسان، حديد النظر، ميت القلب والعمل، أنت أبصر به من نفسه، ترى أبدانا ولا قلوبا، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة وأجدب قلوبا، يأكل أحدهم من غير ماله ويبكي على عماله، فإذا كهضته البطنة قال: يا جارية أو يا غلام ايتني بهاضم، وهل هضمت يا مسكين إلا دينك ؟ وقال: من رق ثوبه رق دينه، ومن سمن جسده هزل دينه، ومن طاب طعامه أنتن كسبه.
وقال فيما رواه عنه الآجري: رأس مال المؤمن دين حيث ما زال زال معه، لا يخلفه في الرحال، ولا يأتمن عليه الرجال.
وقال في قوله تعالى: (فلا أقسم بالنفس اللوامة) [ القيامة: 2 ] قال: لا تلقى المؤمن إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمة كذا، ما أردت بأكله كذا، ما أردت بمجلس كذا، وأما الفاجر فيمضي قدما قدما لا يلوم نفسه.
وقال: تصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 234: لا تعيب.

أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم
وبين شهواتهم، وإنما يصبر على هذا الحق من عرف فضله وعاقبته.
وقال: لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.
وقال ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس: حدثنا عبد الله، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثنا عبد الله ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عزوجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على أقوام أخذوا هذا الامر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشئ ويعجبه فيقول: والله إنك لمن حاجتي وإني لاشتهيك، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشئ فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا أبدا إن شاء الله: إن المؤمنين قوم قد أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عزوجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه، وفي جوارحه كلها.
وقال: الرضا صعب شديد، وإنما معول المؤمن الصبر.
وقال: ابن آدم عن نفسك فكايس، فإنك إن دخلت النار لم تجبر بعدها أبدا.
وقال ابن أبي الدنيا: أنبأ إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت حماد بن زيد يذكر عن الحسن قال: المؤمن في الدنيا كالغريب لا ينافس في غيرها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه راحة، ونفسه منه في شغل.
وقال: لولا البلاء ما كان في أيام قلائل ما يهلك المرء نفسه.
وقال: أدركت صدر هذه الامة وخيارها وطال عمري فيهم، فوالله إنهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، أدركتهم عاملين بكتاب ربهم، متبعين سنة نبيهم، ما طوى أحدهم ثوبا، ولا جعل بينه وبين الارض شيئا، ولا أمر أهله بصنع طعام، كان أحدهم يدخل منزله فإن قرب إليه شئ أكل وإلا سكت فلا يتكلم في ذلك.
وقال: إن المنافق إذا صلى صلى رياء أو حياء من الناس أو خوفا، وإذا صلى صلى فقرأهم الدنيا، وإن فاتته الصلاة لم يندم عليها ولم يحزنه فواتها.
وقال الحسن فيما رواه عنه صاحب كتاب النكت: من جعل الحمد لله على النعم حصنا وحابسا وجعل أداء الزكاة على المال سياجا وحارسا، وجعل العلم له دليلا وسائسا، أمن العطب، وبلغ
أعلى الرتب.
ومن كان للمال قانصا، وله عن الحقوق حابسا، وشغله وألهاه عن طاعة الله كان لنفسه ظالما ولقلبه بما جنت يداه كالما، وسلطه الله على ماله سالبا وخالسا، ولم يأمل العطب في سائر وجوه الطلب وقيل: إن هذا لغيره، والله أعلم.
وقال الحسن: أربع من كن فيه ألقى الله عليه محبته.
ونشر عليه رحمته: من رق لوالديه، ورق لمملوكه، وكفل اليتيم، وأعان الضعيف.
وسئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج، وقال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق - يعني النفاق - وحلف

الحسن: ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وفي رواية: إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: كيف حبك الدينار والدرهم ؟ قال: لا أحبهما، فكتب إليه: تول فإنك تعدل.
وقال إبراهيم بن عيسى: ما رأيت أطول حزنا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وقال مسمع: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق.
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وقال ابن أسباط: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح.
وقال: ما سمع الخلائق بعورة بادية، وعين باكية مثل يوم القيامة.
وقال: ابن آدم ! إنك ناظر غدا إلى عملك يوزن خيره وشره (1)، فلا تحقرن شيئا من الشر أن تتقيه، فإنك إذا رأيته غدا في ميزانك سرك مكانه.
وقال: ذهبت الدنيا وبقيت أعمالكم قلائد في أعناقكم وقال: ابن آدم ! بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، وهذا مأثور عن لقمان أنه قال لولده.
وقال الحسن: تجد الرجل قد لبس الاحمر والابيض وقال: هلموا فانظروا إلي، قال الحسن: قد رأيناك يا أفسق الفاسقين فلا أهلا بك ولا سهلا، فأما أهل الدنيا فقد اكتسبوا بنظرهم إليك مزيد حرص على دنياهم، وجرأة على شهوات الغنى في بطونهم وظهورهم.
وأما أهل الآخرة فقد كرهوك ومقتوك.
وقال: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وزفرت بهم البغال، وطئت أعقابهم الرجال،
إن ذل المعاصي لا يفارق رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد: ألا يعجبك من محمد بن الاهتم ؟ فقال: ماله ؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفا وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق - وأومأ إلى صندوق في جانب بيته - فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار - أو قال: درهم - لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحما، ولم يأكل منها [ محتاج ].
فقلنا: يا أبا عبد الله، فلمن كنت تجمعها ؟ قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الاقران، وجفوة السلطان.
فقال: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه ؟ ثم قال: أيها الوارث: لا تخدعن كما خدع صويحبك بالامس، جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والانفاق في وجوه البر، فيجد ماله في ميزان غيره.
وكان الحسن يتمثل بهذا البيت في أول النهار يقول:
__________
(1) كذا بالاصل، والعبارة مشوشة وفيه نقص ظاهر.
والعبارة في صفة الصفوة 3 / 235: فلا تحقرن من الخير شيئا وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئا فإنك إذا رأيته ساءك مكانه.

وما الدنيا بباقية لحي * ولا حي على الدنيا بباق وبهذا البيت في آخر النهار: يسر الفتى ما كان قدم من تقى * إذا عرف الداء الذي هو قاتله ولد الحسن في خلافة عمر بن الخطاب وأتى به إليه فدعا له وحنكه.
ومات بالبصرة في سنة عشر ومائة والله سبحانه وتعالى أعلم.
محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الانصاري، مولى أنس بن مالك النضري، كان أبوه من سبي عين التمر أسره في جملة السبي خالد بن الوليد فاشتراه أنس ثم كاتبه.
وقد ولد له من الاخيار جماعة، محمد،
هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء، رحمهم الله تعالى.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر.
وقد تقدم هذا كله فيما ذكره المؤلف.
كان ابن سيرين إذا ذكر عنده رجل بسوء ذكره بأحسن ما يعلم.
وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطى هديا وسمتا وخشوعا، وكان الناس إذا رأوه ذكروا الله.
ولما مات أنس بن مالك أوصى أن يغسله محمد بن سيرين - وكان محمد محبوسا - فقالوا له في ذلك، فقال: أنا محبوس فقالوا: قد استأذنا الامير في إخراجك، قال: إن الامير لم يحبسني، إنما حبسني من له الحق، فأذن له صاحب الحق فغسله.
وقال يونس: ما عرض لمحمد بن سيرين أمران إلا أخذ بأوثقهما في دينه، وقال: إني لاعلم الذنب الذي حملت بسببه، إني قلت يوما لرجل: يا مفلس، فذكر هذا لابي سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا.
ومثلنا قد كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتي، ولا بأي ذنب نؤخذ.
وكان إذا دعي إلى وليمة يدخل منزله فيقول: ايتوني بشربة سويق فيشربها ويقول: إني أكره أن أحمل جوعي إلى موائدهم وطعامهم: وكان يدخل السوق نصف النهار فيكبر الله ويسبحه ويذكره ويقول: إنها ساعة غفلة الناس، وقال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه.
وقال: ظلم لاخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم منه وتكتم خيره.
وقال: العزلة عبادة، وكان إذا ذكر الموت مات منه كل عضو على حدته.
وفي رواية كان يتغير لونه وينكر حاله، حتى كأنه ليس بالذي كان، وكان إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتق الله في اليقظة ولا يغرك ما رأيت في المنام.
وقال له رجل: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال: فتش على امرأتك فإنها أمك، ففتش فإذا هي أمه.
وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم

مكث في بلاد الاسلام إلى أن كبر، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين فأمره أن يفتش على ذلك، ففتش فوجد الامر على ما ذكره.
وقال له آخر:
رأيت كأني دست - أو قال وطئت - تمرة فخرجت منها فأرة، فقال له: تتزوج امرأة - أو قال: تطأ امرأة - صالحة تلد بنتا فاسقة، فكان كما قال.
وقال له آخر: رأيت كأن على سطح بيتي حبات شعير فجاء ديك فلقطها، فقال له: إن سرق لك شئ في هذه الايام فأتني.
فوضعوا بساطا على سطحهم فسرق، فجاء إليه فأخبره، فقال: اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه، فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه.
وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين.
فقال: مات علماء البصرة.
وأتاه رجل فقال: رأيت رجلا عريانا واقفا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرين: لا تصلح هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري، فقال: الحسن هو والله الذي رأيت.
فقال: نعم، لان المزبلة الدنيا وقد جعلها تحت رجليه، وعريه تجرده عنها، والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
وقال له آخر: رأيت كأني أستاك والدم يسيل.
فقال له: أنت رجل تقع في أعراض الناس وتأكل لحومهم وتخرج في بابه وتأتيه (1).
وقال له آخر: رأيت كأني أرى اللؤلؤ في الحمأة، فقال له: أنت رجل تضع القرآن والعلم عند غير أهله ومن لا ينتفع به.
وجاءته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها ابن سيرين: سرق لزوجك ثلاثمائة درهم، وستة عشر درهما، فقالت: صدقت من أين أخذته ؟ فقال: من هجاء حروفه وهي حساب الجمل، فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة والراء مائتان، وذلك ثلاثمائة وستة عشر، وذكرت السنور أسود فقال: هو عبد في جواركم، فالزموا عبدا أسود كان في جوارهم وضرب فأقر بالمال المذكور.
وقال له رجل: رأيت لحيتي قد طالت وأنا أنظر إليها.
فقال له أمؤذن أنت ؟ قال: نعم ! قال له: اتق الله ولا تنظر إلى دور الجيران.
وقال له آخر: رأيت كأن لحيتي قد طالت حتى جززتها ونسجتها كساء وبعته في السوق.
فقال له: اتق الله فإنك شاهد زور.
وقال له آخر: رأيت كأني آكل أصابعي، فقال له تأكل من عمل يدك.
وقال لرجل انظر هل ترى في المسجد أحدا ؟ فذهب فنظر ثم رجع إليه فقال: ليس في المسجد أحد، فقال: أليس أمرتك أن تنظر هل ترى أحدا قد يكون في المسجد من الامراء (2) ؟.
وقال عن رجل ذكر له: ذلك الاسود ؟ ثم قال: أستغفر الله ! ما أراني إلا قد اغتبت الرجل - وكان
الرجل أسود.
وقال: اشترك سبعة في قتل امرأة فقتلهم عمر، فقال لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتلها لابدت خضراءهم.
__________
(1) كذا بالاصل، وفيه تحريف.
(2) كذا بالاصل وفيه تحريف.

وهيب بن منبه اليماني تابعي جليل، وله معرفة بكتب الاوائل، وهو يشبه كعب الاحبار، وله صلاح وعبادة، ويروى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ، وقد بسطنا ترجمته في كتابنا التكميل ولله الحمد.
قال الواقدي: توفي بصنعاء سنة عشر ومائة، وقال غيره: بعدها بسنة، وقيل بأكثر، والله أعلم.
ويزعم بعض الناس أن قبره غربي بصرى بقرية يقال لها عصم (1)، ولم أجد لذلك أصلا، والله أعلم انتهى ما ذكره المؤلف.
فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن ابن عباس وجابر والنعمان بن بشير.
وروى عن معاذ بن جبل وأبي هريرة، وعن طاوس.
وعنه من التابعين عدة (2).
وقال وهب: مثل من تعلم علما لا يعمل به كمثل طبيب معه شفاء لا يتداوى به.
وعن منير مولى الفضل بن أبي عياش قال: كنت جالسا مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال له: إني مررت بفلان وهو يشتمك، فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك ؟ فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه السلام، ومد يده إليه وصافحه وأجلسه إلى جنبه.
وقال ابن طاوس: سمعت وهبا يقول: ابن آدم احتل لدينك فإن رزقك سيأتيك.
وقال وهب: كسي أهل النار والعرى كان خيرا لهم، وطعموا والجوع كان خيرا لهم، وأعطوا الحياة والموت كان خيرا لهم.
وقال داود عليه السلام: اللهم أيما فقير سأل غنيا فتصام عنه، فأسألك إذا دعاك فلا تجبه، وإذا سألك فلا تعطه.
وقال: قرأت في بعض كتب الله: ابن آدم، لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت،
فإن مثلك كمثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة فذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إذا أردت أن تعمل بطاعة الله عزوجل فاجتهد في نصحك وعملك لله، فإن العمل لا يقبل ممن ليس بناصح، والنصح لله لا يكمل إلا بطاعة الله، كمثل الثمرة الطيبة ريحها وطعمها، كذلك مثل طاعة الله، النصح ريحها، والعمل طعمها، ثم زين طاعتك بالحلم والعقل، والفقه والعمل، ثم أكبر نفسك عن أخلاق السفهاء وعبيد الدنيا، وعبدها على أخلاق الانبياء والعلماء العاملين، وعودها فعل الحكماء، وامنعها عمل الاشقياء، وألزمها سيرة
__________
(1) في طبقات ابن سعد 5 / 543: مات بصنعاء.
وانظر صفة الصفوة 2 / 296.
وابن خلكان 6 / 36.
(2) منهم: عمرو بن دينار وأبان بن أبي عياش وموسى بن عقبة ووهب ابن اخيه عبد الصمد واسراءيل أبو موسى والسماك بن فضل وعوف الاعرابي.
(تذكرة الحفاظ 1 / 101.
صفة الصفوة 2 / 296).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55