كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
تنح عن القبيح ولا ترده * ومن أوليته حسنا فزده ستكفي من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده وقال القاضي يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق: ما مات وفيهم فقير.
ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين: الموت فيه جمع الخلق مشترك * لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ما ضر أهل قليل في تفاقرهم * وليس يغني عن الاملاك ما ملكوا ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالارض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه.
وقال بعضهم: لما احتضر الواثق ونحن حوله غشي عليه فقال بعضنا لبعض: انظروا هل قضى ؟ قال: فدنوت من بينهم إليه لانظر هل هدأ نفسه، فأفاق فلحظ إلي بعينه فرجعت القهقرى خوفا منه، فتعلقت قائمة سيفي بشئ فكدت أن أهلك، فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه وبقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لاخيه جعفر المتوكل، وجلست أنا أحرس
الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرذ قد أكل عينه التي لحظ إلي بها، وما كان حولها من الخدين.
وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني، في يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين - عن ست وثلاثين سنة، وقيل ثنتين وثلاثين سنة.
وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وقيل خمس سنين وشهران وأحد وعشرين يوما، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله.
والله أعلم.
خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق وقت الزوال من يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة.
وكانت الاتراك قد عزموا على تولية محمد بن الواثق فاستصغروه فتركوه وعدلوا إلى جعفر هذا، وكان عمره إذ ذاك ستا (1) وعشرين سنة، وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة أحمد بن أبي دؤاد القاضي، وكان هو أول من سلم عليه بالخلافة وبايعه الخاصة والعامة، وكانوا قد اتفقوا على تسميته بالمنتصر بالله، إلى صبيحة يوم الجمعة فقال ابن أبي دؤاد رأيت أن يلقب بالمتوكل على الله، فاتفقوا على ذلك، وكتب إلى الآفاق وأمر بإعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور، وللمغاربة أربعة شهور ولغيرهم ثلاثة شهور واستبشر الناس به.
وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئا نزل عليه من
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 98: سبعا وعشرين وأشهر.
السماء مكتوب فيه جعفر المتوكل على الله، فعبره فقيل له هي الخلافة، فبلغ ذلك أخاه الواثق فسجنه حينا ثم أرسله.
وفيها حج بالناس أمير الحجيج محمد بن داود.
وفيها توفي الحكم بن موسى (1)، وعمرو بن محمد (2) الناقد.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في يوم الاربعاء سابع صفر منها أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن
الزيات وزير الواثق، وكان المتوكل يبغضه لامور، منها أن أخاه الواثق غضب على المتوكل في بعض الاوقات وكان ابن الزيات يزيده غضبا عليه، فبقي ذلك في نفسه، ثم كان الذي استرضى الواثق عليه أحمد بن أبي دؤاد فحظي بذلك عنده في أيام ملكه، ومنها أن ابن الزيات كان قد أشار بخلافة محمد بن الواثق بعد أبيه، ولف عليه الناس، وجعفر المتوكل في جنب دار الخلافة لم يلتفت إليه ولم يتم الامر إلا لجعفر المتوكل على الله، رغم أنف ابن الزيات.
فلهذا أمر بالقبض عليه سريعا فطلبه فركب بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه، فانتهى به الرسول إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط به وقيد وبعثوا في الحال إلى داره فأخذ جميع ما فيها من الاموال واللآلئ والجواهر والحواصل والجواري والاثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشرب، وبعث المتوكل في الحال أيضا إلى حواصله بسامرا وضياعه وما فيها فاحتاط عليها، وأمر به أن يعذب ومنعوه من الكلام، وجعلوا يساهرونه كلما أراد الرقاد نخس بالحديد، ثم وضعه بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها ووكل به من يمنعه من القعود والرقاد، فمكث كذلك أياما حتى مات وهو كذلك.
ويقال إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب، ويقال إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت ما بقي من لحمه وجلده.
وكانت وفاته لاحدى عشرة من ربيع الاول منها.
وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحوا من تسعين ألف دينار وقد قدمنا أن المتوكل سأله عن قتل أحمد بن نصر الخزاعي فقال: يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله الواثق إلا كافرا.
قال المتوكل: فأنا أحرقته بالنار.
وفيها في جمادى الاولى منها بعد مهلك ابن الزيات فلج أحمد بن دؤاد القاضي المعتزلي.
فلم يزل مفلوجا حتى مات بعد أربع سنين وهو كذلك، كما دعا على نفسه حين سأله المتوكل عن قتل أحمد بن نصر كما تقدم.
ثم غضب المتوكل على جماعة من الدواوين والعمال، وأخذ منهم أموالا جزيلة جدا.
__________
(1) أبو صالح القنطري البغدادي الحافظ سمع اسماعيل بن عياش وطبقته مات في شوال وكان أحد العباد.
(2) أبو عثمان البغدادي نزيل الرقة وفقيهها ومحدثها سمع هشيما وطبقته توفي ببغداد في ذي الحجة.
وفيها ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان منها.
وفيها عمد ملك الروم ميخائيل بن توفيل إلى أمه تدورة فأقامها بالشمس وألزمها الدير وقتل الرجل الذي اتهمها به، وكان ملكها ست سنين.
وفيها حج بالناس محمد بن داود أمير مكة.
وفيها توفي إبراهيم بن الحجاج الشامي (1)، وحبان بن موسى العربي (2)، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي (3)، وسهل بن عثمان العسكري (4)، ومحمد بن سماعة القاضي (5)، ومحمد بن عائذ الدمشقي صاحب المغازي، ويحيى المقابري، ويحيى بن معين أحد أئمة الجرح والتعديل، وأستاذ أهل هذه الصناعة في زمانه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها خرج محمد بن البعيث بن حلبس عن الطاعة في بلاده أذربيجان، وأظهر أن المتوكل قد مات والتف عليه جماعة من أهل تلك الرساتيق، ولجأ إلى مدينة مرند فحصنها، وجاءته البعوث من كل جانب، وأرسل إليه المتوكل جيوشا يتبع بعضها بعضا، فنصبوا على بلده المجانيق من كل جانب، وحاصروه محاصرة عظيمة جدا، وقاتلهم مقاتلة هائلة، وصبر هو وأصحابه صبر بليغا، وقدم بغا الشرابي لمحاصرته، فلم يزل به حتى أسره واستباح أمواله وحريمه وقتل خلقا من رؤوس أصحابه، وأسر سائرهم وانحسمت مادة ابن البعيث.
وفي جمادى الاولى منها خرج المتوكل إلى المدائن.
وفيها حج إيتاخ أحد الامراء الكبار وهو والي مكة، ودعي له على المنابر، وقد كان ايتاخ هذا غلاما خزريا طباخا، وكان لرجل يقال له سلام الابرش، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، فرفع منزلته وحظي عنده، وكذلك الواثق من بعده، ضم إليه أعمالا كثيرة، وكذلك عامله المتوكل وذلك لفروسيته ورجلته وشهامته، ولما كان في هذه السنة شرب ليلة مع المتوكل فعربد عليه المتوكل فهم إيتاخ بقتله.
فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له: أنت أبي وأنت ربيتني، ثم دس إليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج فاستأذن فأذن له، وأمره على كل بلدة يحل بها، وخرج القواد في
__________
(1) المحدث بالبصرة روى عن الحمادين وخرج له النسائي.
(2) وهو حبان بن موسى بن سوار السلمي أبو محمد المروزي، وقيل أبو أحمزة السكري روى عن ابن المبارك وكان ثقة
مشهورا.
(3) أبو أيوب التميمي ابن بنت شرحبيل، الشامي الحافظ محدث دمشق مات في صفر وله 80 سنة.
(4) وهو سهل بن عثمان بن فارس الكندي، أبو مسعود العسكري نزيل الري أحد الحفاظ.
قال في تقريب التهذيب مات سنة 235.
(5) أبو عبد الله القاضي الفقيه مات وقد جاوز المئة تفقه على أبي يوسف وروى عن الليث بن سعد وله مصنفات.
خدمته إلى طريق الحج حين خرج، ووكل المتوكل الحجابة لوصيف الخادم عوضا عن ايتاخ.
وحج بالناس فيها محمد بن داود أمير مكة وهو أمير الحجيج من سنين متقدمة.
وفيها توفي أبو خيثمة زهير بن حرب.
وسليمان بن داود الشاركوني أحد الحفاظ.
وعبد الله بن محمد النفيلي.
وأبو ربيع الزهراني (1).
وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني شيخ البخاري في صناعة الحديث.
ومحمد بن عبد الله بن نمير (2).
ومحمد بن أبي بكر المقدمي.
والمعافا الرسيعني.
ويحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ عن مالك.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين في جمادى الآخرة منها كان هلاك إيتاخ في السجن، وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة، فلما اقترب يريد دخول سامرا التي فيها المتوكل بعث إليه إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ليتلقاه وجوه الناس وبني هاشم، فدخلها في أبهة عظيمة، فقبض عليه إسحاق بن إبراهيم وعلى ابنيه مظفر ومنصور وكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني فأسلم تحت العقوبة، وكان هلاك إيتاخ بالعطش، وذلك أنه أكل أكلا كثيرا بعد جوع شديد ثم استسقى الماء فلم يسق حتى مات ليلة الاربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة منها.
ومكث ولداه في السجن مدة خلافة المتوكل، فلما ولي المنتصر ولد المتوكل أخرجهما.
وفي شوال منها قدم بغا سامرا ومعه محمد بن البعيث وأخواه صقر وخالد، ونائبه العلاء ومعهم من رؤوس أصحابه نحو من مائة وثمانين إنسانا فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس، فلما أوقف ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه،
فأحضر السيف والنطع فجاء السيافون فوقفوا حوله، فقال له المتوكل: ويلك ما دعاك إلى ما فعلت ؟ فقال: الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو.
ثم اندفع يقول بديهة: أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي * إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل وهل أنا إلا جبلة من خطيئة * وعفوك من نور النبوة يجبل فإنك خير السابقين إلى العلى * ولا شك أن خير الفعالين تفعل فقال المتوكل: إن معه لادبا.
ثم عفا عنه.
ويقال بل شفع فيه المعتز بن المتوكل فشفعه، ويقال بل أودع في السجن في قيوده فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك، وقد قال حين هرب:
__________
(1) وهو سليمان بن داود العتكي، البصري نزيل بغداد ثقة لم يتكلم فيه أحد بحجة.
(2) أبو عبد الرحمن الهمذاني الكوفي أحد الائمة جمع العلم والسنة والزهد.
كم قد قضيت أمورا كان أهملها * غيري وقد أخذ الافلاس بالكظم لا تعذليني فيما ليس ينفعني * إليك عني جرى المقدور (1) بالقلم سأتلف المال في عسر وفي يسر * إن الجواد يعطي على العدم وفيها أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى وأن يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم، وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة، وأن لا يركبوا خيلا، ولتكن ركبهم من خشب، إلى غير ذلك من الامور المذلة لهم المهينة لنفوسهم، وأن لا يستعملوا في شئ من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة، وبتضييق منازلهم المتسعة، فيؤخذ منها العشر، وأن يعمل مما كان متسعا من منازلهم مسجد، وأمر بتسوية قبورهم بالارض، وكتب بذلك إلى سائر الاقاليم والآفاق، وإلى كل بلد ورستاق.
وفيها خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري، وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريبا منه، وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى، فادعى أنه نبي، وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون، وهم تسعة (2) وعشرون رجلا، وقد نظم لهم كلاما في مصحف له قبحه الله، زعم أن جبريل جاءه به من الله، فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط، فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه، وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه، فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات فعليه وعليهم لعنة رب الارض والسموات.
ثم اتفق موته في يوم الاربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة.
وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة أخذ المتوكل على الله العهد من بعده لاولاده الثلاثة وهم: محمد المنتصر، ثم أبو عبد الله المعتز، واسمه محمد، وقيل الزبير، ثم لابراهيم وسماه المؤيد بالله (3)، ولم يل الخلافة هذا.
وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائبا عليها ويستنيب فيها ويضرب له السكة بها، وقد عين ابن جرير ما لكل واحد منهم من البلدان والاقاليم، وعقد لكل واحد منهم لواءين لواء أسود للعهد، ولواء للعمالة، وكتب بينهم كتابا بالرضى منهم ومبايعته لاكثر الامراء على ذلك وكان يوما مشهودا.
وفيها في شهر ذي الحجة منها تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ثم
__________
(1) في الطبري 11 / 35 وابن الاثير 7 / 48: المقدار.
(2) في الطبري 11 / 38 وابن الاثير 7 / 50: سبعة.
(3) في مروج الذهب 4 / 100: المستعين بالله.
صار في لون ماء الدردي (1) ففزع الناس لذلك.
وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي، وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق.
وحج بالناس محمد بن داود.
قال ابن جرير: وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر - يعني نائب بغداد - يوم الثلاثاء
لسبع بقين من ذي الحجة وجعل ابنه محمد مكانه، وخلع عليه خمس خلع وقلده سيفا.
قلت: وقد كان نائبا في العراق من زمن المأمون، وهو من الدعاة تبعا لسادته وكبرائه إلى القول بخلق القرآن الذي قال الله تعالى فيهم (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل) [ الاحزاب: 67 ] الآية.
وهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون.
وفيها توفي: إسحاق بن [ إبراهيم بن ] (2) ماهان الموصلي النديم الاديب ابن الاديب النادر الشكل في وقته، المجموع من كل فن يعرفه أبناء عصره، في الفقه والحديث والجدل والكلام واللغة والشعر، ولكن اشتهر بالغناء لانه لم يكن له في الدنيا نظير فيه.
قال المعتصم: إن إسحاق إذا غنى يخيل لي أنه قد زيد في ملكي.
وقال المأمون: لولا اشتهاره بالغناء لوليته القضاء لما أعلمه من عفته ونزاهته وأمانته.
وله شعر حسن وديوان كبير، وكانت عنده كتب كثيرة من كل فن.
توفي في هذه السنة وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها.
وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة وذكر عنه أشياء حسنة وأشعارا رائقة وحكايات مدهشة يطول استقصاؤها.
فمن غريب ذلك أنه غنى يوما يحيى بن خالد بن برمك فوقع له بألف ألف ووقع له ابنه جعفر بمثلها، وابنه الفضل بمثلها، في حكايات طويلة.
وفيها توفي سريج (3) بن يونس.
وشيبان بن فروخ (4، وعبيد الله بن عمر القواريري (5).
وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الاعلام وائمة الاسلام وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده.
__________
(1) في الطبري 11 / 42 وابن الاثير 7 / 53: المدود.
(2) من وفيات الاعيان، وانظر ترجمته في الاغاني 17 / 62 تاريخ بغداد 6 / 338 أنباه الرواة 1 / 215 معجم الادباء 6 / 5 نور القبس (316) ونزهة الالباء ص 116 وتهذيب ابن عساكر 2 / 414.
(3) من تقريب التهذيب، وفي الاصل شريح.
وهو سريج بن يونس بن ابراهيم البغدادي، أبو الحارث مروزي الاصل.
أحد الائمة وصاحب حديث سمع اسماعيل بن جعفر وطبقته.
ثقة.
(4) الايلي وهو من كبار الشيوخ وثقاتهم.
قال عبدان: كان عنده (50) ألف حديث.
(5) البصري الحافظ أبو سعيد روى عن حماد بن زيد وطبقته فأكثر.
ثقة.
مات في ذي الحجة ببغداد.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق.
فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.
وفيها حج بالناس محمد بن المنتصر بن المتوكل.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن مصعب سمه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن إبراهيم هذا من الامراء الكبار.
وفيها توفي الحسن بن سهل الوزير والد بوران زوجة المأمون التي تقدم ذكرها، وكان من سادات الناس، ويقال إن إسحاق بن إبراهيم المغني توفي في هذه السنة فالله أعلم.
وفيها توفي أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة، فولى ابنه يوسف مكانه على نيابة أرمينية، وفيها توفي إبراهيم بن المنذر الحزامي (1).
ومصعب بن عبد الله الزبيري (2).
وهدبة بن خالد القيسي (3).
وأبو الصلت الهروي أحد الضعفاء.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين فيها قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير بها وبعثه إلى نائب الخليفة، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد، فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤوا فحاصروا البلد التي بها يوسف فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه وهلك كثير من الناس من شدة البرد، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الامر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير في جيش كثيف جدا فقتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحوا من ثلاثين ألفا وأسر منهم طائفة كبيرة، ثم سار إلى بلاد الباق من كور البسفرجان وسلك إلى مدن كثيرة كبار ومهد المماليك ووطد البلاد والنواحي.
وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن أبي دؤاد القاضي المعتزلي وكان على المظالم، فعزله عنها واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاء القضاة والمظالم أيضا (4).
وفي ربيع الاول أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد وأخذ ابنه أبا الوليد محمد فحبسه في يوم السبت
لثلاث خلون من ربيع الآخر (5)، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر
__________
(1) من تقريب التهذيب، وفي الاصل الحرابي.
والحزامي نسبة إلى جده الاعلى: حزام بن خويلد.
وهو أبو اسحاق المدني الحافظ محدث المدينة.
(2) وهو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، أبو عبد الله الزبيري، المدني نزيل بغداد النسابة الاخباري عاش ثمانين سنة وكان ثقة.
(3) البصري أبو خالد الحافظ سمع حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة والكبار فأكثر.
(4) في مروج الذهب 4 / 111: كان ذلك في سنة تسع وثلاثين (انظر المنهج الاحمد في تراجم أصحاب الامام أحمد 1 / 91).
(5) في الطبري 11 / 46: الاول.
النفيسة ما يقوم بعشرين (1) ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم.
كان ابن أبي دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا.
ثم نفي أهله من سامرا إلى بغداد مهانين، قال ابن جرير فقال في ذلك أبو العتاهية: لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق لكان في الفقه شغل لو قنعت به * عن أن تقول كتاب الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم * ما كان في الفرع لو لا الجهل والموق وفي عيد الفطر منها أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدا، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوما مشهودا.
ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت.
وأمر
الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الامام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى.
وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص ويظن أنه يأكل منه، وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الايام، لانه لم يتيسر له شئ يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشئ من ذلك، ولو لا أنهم أسرعوا الاوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا، وارتفعت السنة جدا في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الامام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة، وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الاثر، وكان قد ولى من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية، وسوار بن عبد الله قضاء الجانب الغربي، وكان كلاهما أعورا.
فقال في ذلك بعض أصحاب (2) ابن أبي دؤاد: رأيت من العجائب قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين هما اقتسما العمى نصفين قدا * كما اقتسما قضاء الجانبين ويحسب منهما من هز رأسا * لينظر في مواريث ودين
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 111: أربعين ألف دينار: ولم يذكر مصالحته له.
(2) وهو الجماز كما في الطبري وابن الاثير.
كأنك قد وضعت عليه دنا * فتحت بزاله من فرد عين هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذ افتتح القضاء بأعورين وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الارمني.
وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أمير الحجاز.
وفيها توفي حاتم الاصم (1).
وممن توفي فيها عبد الاعلى بن حماد (2).
وعبيد الله بن معاذ العنبري (3) وأبو كامل الفضيل بن الحسن (4) الجحدري.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين في ربيع الاول منها حاصر بغا مدينة تفليس وعلى مقدمته زيرك التركي، فخرج إليه صاحب تفليس إسحاق بن إسماعيل فقاتله فأسر بغا إسحاق فأمر بغا بضرب عنقه وصلبه، وأمر بإلقاء النار في النفط إلى نحو المدينة، وكان أكثر بنائها من خشب الصنوبر، فأحرق أكثرها وأحرق من أهلها نحوا من خمسين ألفا، وطفئت النار بعد يومين، لان نار الصنوبر لا بقاء لها.
ودخل الجند فأسروا من بقي من أهلها واستلبوهم حتى استلبوا المواشي.
ثم سار بغا إلى مدن أخرى ممن كان يمالئ أهلها مع من قتل نائب أرمينية يوسف بن محمد بن يوسف، فأخذ بثأره وعاقب من تجرأ عليه.
وفيها جاءت الفرنج في نحو من ثلثمائة مركب قاصدين مصر من جهة دمياط، فدخلوها فجأة فقتلوا من أهلها خلقا وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحوا من ستمائة امرأة، من المسلمات مائة وخسمة وعشرين امرأة، وسائرهن من النساء القبط، وأخذوا من الامتعة والمال والاسلحة شيئا كثيرا جدا، وفر الناس منهم في كل جهة، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه، ثم رجعوا على حمية ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا بلادهم لعنهم الله.
وفي هذه السنة غزا الصائفة علي بن يحيى الارمني.
وفيها حج بالناس الامير الذي حج بهم قبلها.
وفيها توفي إسحاق بن راهويه أحد الاعلام وعلماء الاسلام، والمجتهدين من الانام.
وبشر بن الوليد الفقيه الحنفي.
وطالوت بن عباد (5).
ومحمد بن بكار بن الريان (6).
ومحمد بن البرجاني (7).
__________
(1) أبو عبد الرحمن الزاهد صاحب المواعظ والحكم، لقب بلقمان الامة، قال السلمي في طبقاته: وهو حاتم بن عنوان ويقال حاتم بن يوسف وهو من قدماء مشايخ خراسان.
ولم يكن أصم إنما هو لقب غلب عليه.
(2) الحافظ روى عن حماد بن سلمة ومالك وخلق، وصله المتوكل بمال عندما قدم عليه.
(3) البصري.
قال أبو داود: كان فصيحا يحفظ نحو أربعة آلاف حديث.
(4) في تقريب التهذيب الحسين، سمع حماد بن سلمة والكبار.
ثقة حافظ.
مات وله أكثر من (80) سنة.
(5) أبو عثمان الصيرفي البصري.
ثقة ولم يخرجوا له شيئا.
(6) من تقريب التهذيب، وفي الاصل الزيات.
أبو عبد الله البغدادي الرصافي، الهاشمي مولاهم مات وله 93 سنة.
=
ومحمد بن أبي السري العسقلاني (8).
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين في المحرم منها زاد المتوكل في التغليظ على أهل الذمة في التميز في اللباس وأكد الامر بتخريب الكنائس المحدثة في الاسلام.
وفيها نفى المتوكل علي بن الجهم إلى خراسان.
وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز في يوم واحد وهو يوم الاحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، وزعمت النصارى أن هذا لم يتفق مثله في الاسلام إلا في هذا العام.
وغزا الصائفة علي بن يحيى المذكور.
وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود والي مكة.
قال ابن جرير: وفيها توفي أبو الوليد محمد بن القاضي أحمد بن أبي دؤاد الايادي المعتزلي.
قلت: وممن توفي فيها داود بن رشيد (2).
وصفوان بن صالح مؤذن أهل دمشق.
وعبد الملك بن حبيب الفقيه المالكي، أحد المشاهير.
وعثمان بن أبي شيبة صاحب التفسير والمسند المشهور.
ومحمد بن مهران الرازي (3).
ومحمود بن غيلان (4).
ووهب بن بقية (5).
وفيها توفي: أحمد بن عاصم الانطاكي أبو علي الواعظ الزاهد أحد العباد والزهاد، له كلام حسن في الزهد ومعاملات القلوب، قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان من طبقة الحارث المحاسبي، وبشر الحافي.
وكان أبو سليمان الداراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته.
روى عن أبي معاوية الضرير وطبقته، وعنه أحمد بن الحواري، ومحمود بن خالد، وأبو زرعة الدمشقي.
وغيرهم.
روى عنه أحمد بن الحواري، عن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال: مررت بالحسن البصري وهو جالس وقت السحر فقلت: يا أبا سعيد مثلك يجلس في هذا الوقت ؟ قال: إني توضأت وأردت نفسي على الصلاة فأبت علي، وأرادتني على أن تنام فأبيت عليها.
ومن مستجاد كلامه قوله: إذا أردت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ جوارحك.
وقال: من الغنيمة الباردة أن تصلح ما بقي من عمرك فيغفر لك ما مضى منه.
وقال: يسير
__________
(7) في معجم البلدان: البرجلاني مصنف الزهديات وشيخ ابن أبي الدنيا.
(1) سمع الفضيل بن عياض وطبقته مات في شعبان.
(2) أبو الفضل الخوارزمي سمع اسماعيل بن جعفر وطبقته وكان ثقة واسع الرواية مات ببغداد في شعبان.
(3) روى عن فضيل بن عياض وخلق كثير حدث عنه الشيخان وغيرهما وكان ثقة.
(4) أبو أحمد المروزي، وهو من مشايخ البخاري ومسلم والترمذي.
كان حافظا ثقة.
(5) الواسطي ويقال له وهبان روى عن هشيم وأقرانه.
اليقين يخرج الشك كله من قلبك، ويسير الشك يخرج اليقين كله منه.
وقال: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
وقال: خير صاحب لك في دنياك الهم، يقطعك عن الدنيا ويوصلك إلى الآخرة.
ومن شعره: هممت ولم أعزم ولو كنت صادقا * عزمت ولكن الفطام شديدا ولو كان لي عقل وإيقان موقن * لما كنت عن قصد الطريق أحيد ولو كان في غير السلوك مطامعي * ولكن عن الاقدار كيف أميد ومن شعره أيضا: قد بقينا مذبذبين حيارى * نطلب الصدق ما إليه سبيل فدواعي الهوى تخف علينا * وخلاف الهوى علينا ثقيل فقد الصدق في الاماكن حتى * وصفه اليوم ما عليه دليل لا نرى خائفا فيلزمنا الخوف * ولسنا نرى صادقا على ما يقول ومن شعره أيضا: هون عليك فكل الامر ينقطع * وخل عنك ضباب الهم يندفع فكل هم له من بعده فرج * وكل كرب إذا ما ضاق يتسع إن البلاء وإن طال الزمان به * الموت يقطعه أو سوف ينقطع وقد أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته ولم يؤرخ وفاته، وإنما ذكرته ههنا تقريبا والله أعلم.
ثم دخلت سنة أربعين ومائتين فيها عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث (1) موسى بن إبراهيم الرافقي (2) لانه قتل رجلا من أشرافهم فقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوه من بين أظهرهم، فبعث إليهم المتوكل أميرا عليهم وقال للسفير معه: إن قبلوه وإلا فأعلمني.
فقبلوه (3) فعمل فيهم الاعاجيب وأهانهم غاية الاهانة.
وفيها عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن قضاء القضاة وصادره بما مبلغه ثمانون ألف دينار، وأخذ منه أراضي كثيرة في أرض البصرة، وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة.
قال ابن جرير: وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوما.
__________
(1) في الطبري 11 / 49 وابن الاثير 7 / 73: أبي المغيث.
(2) في الطبري وابن الاثير: الرافعي.
(3) وهو محمد بن عبدويه كرداس الانباري (الطبري.
ابن الاثير).
وهذه ترجمته هو أحمد بن أبي دؤاد واسمه الفرج - وقيل دعمى، والصحيح أن اسمه كنيته - الايادي المعتزلي.
قال ابن خلكان في نسبه: هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام [ بن مالك ] بن عبد هند بن عبد نجم (1) بن مالك بن فيض بن منعة بن برجان بن دوس الهذلي بن أمية بن حذيفة بن زهير بن إياد بن أد بن معد بن عدنان.
قال الخطيب: ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق.
وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الادب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة.
قال الصولي: لم يكن بعد البرامكة أكرم منه، ولو لا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الانس.
قالوا: وكان مولده في سنة ستين ومائة، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة.
قال ابن خلكان: وأصله من بلاد قنسرين، وكان أبوه تاجرا يفد إلى الشام ثم وفد إلى العراق وأخذ ولده هذا معه إلى العراق، فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمي أحد
أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم.
ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال: رسول الله والخلفاء منا * ومنا أحمد بن أبي دؤاد (2) فرد عليه بعض الشعراء فقال (3): فقل للفاخرين على نزار * وهم في الارض سادات العباد رسول الله والخلفاء منا * ونبرأ من دعي بني إياد وما منا إياد إذا أقرت * بدعوة أحمد بن أبي دؤاد قال: فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال: لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد.
وعفا عنه.
قال الخطيب: حدثني الازهري: ثنا أحمد بن عمر الواعظ، حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك، حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال: كان أبي - يعني أحمد بن أبي دؤاد إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول: ما أنت بالسبب الضعيف وإنما * نجح الامور بقوة الاسباب
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 81: لخم بن مالك بن قنص.
(2) نسب البيت لمروان بن أبي الجنوب، ضمن أبيات قالها في مدح ابن أبي دؤاد (وفيات الاعيان 1 / 86 ومعجم المرزباني 321).
(3) وهو أبو هفان المهزمي كما في الوفيات.
واليوم حاجتنا إليك وإنما * يدعى الطبيب لساعة الاوصاب ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوما فقال له: أحسبك عاتبا، فقال: إنما يعتب على واحد وأنت الناس جميعا، فقال له: أنى لك هذا ؟ فقال: من قول أبي نواس: وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد (1) وامتدحه أبو تمام يوما فقال:
لقد أنست مساوي كل دهر * محاسن أحمد بن أبي دؤاد وما سافرت في الآفاق إلا * ومن جدواك (2) راحلتي وزادي نعم (3) الظن عندك والاماني * وإن قلقت ركابي في البلاد فقال له: هذا المعنى تفردت به أو أخذته من غيرك ؟ فقال: هو لي، غير أني ألمحت بقول أبي نواس: وإن جرت الالفاظ يوما بمدحة * لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني وقال محمد بن الصولي: ومن مختار مديح أبي تمام لاحمد بن أبي دؤاد قوله: أأحمد إن الحاسدين كثير * ومالك إن عد الكرام نظير حللت محلا فاضلا متقادما * من المجد والفخر القديم فخور فكل غني أو فقير فإنه * إليك وإن نال السماء فقير إليك تناهى المجد من كل وجهة * يصير فما يعدوك حيث يصير وبدر إياد أنت لا ينكرونه * كذاك إياد للانام بدور تجنبت أن تدعى الامير تواضعا * وأنت لمن يدعى الامير أمير فما من يد إلا إليك ممدة * وما رفعة إلا إليك تشير قلت: قد أخطأ الشاعر في هذه الابيات خطأ كبيرا، وأفحش في المبالغة فحشا كثيرا، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل، أن يكون له جهنم وساءت مصيرا.
وقال ابن أبي دؤاد يوما لبعضهم: لما لم لا تسألني ؟ فقال له: لاني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك.
فقال له: صدقت.
وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم.
__________
(1) قاله أبو نواس في مدح الفضل بن الربيع.
(2) في مروج الذهب 4 / 113: فما...ومن جدواه (ديوانه 1 / 378 وأخبار أبي تمام للصولي).
(3) في مروج الذهب: مقيم.
وقال ابن الاعرابي: سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير فقال: يا غلام اعطه عيرا وبغلا وبرذونا وفرسا وجارية.
وقال له: لو أعلم مركوبا غير هذا لاعطيتك.
ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات، وعظيم منزلته عند الخلفاء.
وذكر عن محمد المهدي بن الواثق أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم فلم يرد عليه الواثق بل قال: لا سلم الله عليك.
فقال: يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك.
قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [ النساء: 86 ] فلا حييتني بأحسن منها ولا رددتها.
فقال ابن أبي دؤاد يا أمير المؤمنين الرجل متكلم.
فقال: ناظره.
فقال ابن أبي دؤاد: ما تقول يا شيخ في القرآن أمخلوق هو ؟ فقال الشيخ: لم تنصفني، المسألة لي.
فقال: قل.
فقال: هذا الذي تقوله علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه ؟ فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه.
قال: فأنت علمت ما لم يعلموا، فخجل وسكت.
ثم قال أقلني بل علموه، قال: فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت، أما يسعك ما وسعهم ؟ فخجل وسكت وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها.
قال المهدي: فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ويقول: أما وسعك ما وسعهم ؟ ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا.
ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وساق قصته مطولة.
وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الاعرابي أنه قال في أبي دؤاد: نكست الدين يا بن أبي دؤاد * فأصبح من أطاعك في ارتداد زعمت كلام ربك كان خلقا * أما لك عند ربك من معاد كلام الله أنزله بعلم * على جبريل إلى خير العباد (1) ومن أمسى ببابك مستضيفا * كمن حل الفلاة بغير زاد لقد أطرفت يا بن أبي دؤاد * بقولك إنني رجل إيدي ثم قال الخطيب: أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد:
لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق وقد تقدمت هذه الابيات.
وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أو يحيى الجلاء أنه قال: ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره، فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا، فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الجامع وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، فجعل
__________
(1) كذا بالاصل والوزن غير مستقيم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية (فإن يكفر بها هؤلاء) [ الانعام: 89 ] ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) [ الانعام: 89 ] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه.
وقال بعضهم: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد.
فقلت له: وما سبب هلاكه ؟ فقال: إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات.
وقال غيره: رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت: ما هذا ؟ فقيل هذا أنجزت لابن أبي دؤاد.
وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئا من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك.
وقد دخل عليه بعضهم فقال: والله ما جئتك عائدا وإنما جئتك لاعزيك في نفسك وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن، ثم خرج عنه داعيا عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه، فازداد مرضا إلى مرضه.
وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جدا، ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل.
قال ابن خلكان: كان مولده في سنة ستين ومائة.
قلت: فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون، فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم، فولاه المعتصم القضاء والمظالم، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه، وجرت بينهما منافسات وهجو، وقد
كان لا يقطع أمرا بدونه.
وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه، وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن.
ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال، وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار (1)، وأنه مات قبل أبيه بشهر.
وأما ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا جيدا.
وقد كان الرجل أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا يؤثر العطاء على المنع، والتفرقة على الجمع وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه ليعجبني هذان البيتان: ولي نظرة لو كان يحبل ناظر * بنظرته أنثى لقد حبلت مني فإن ولدت بين تسعة أشهر * إلى نظر ابنا فإن ابنها مني وممن توفي فيها من الاعيان أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء المشاهير.
قال الامام أحمد: هو عندنا في مسلاخ (2) الثوري.
وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ وسويد بن سعيد (3)
__________
(1) انظر حاشية 1 صفحة 348.
(2) كذا بالاصل، ولعله " في صلاح " وهو أصوب.
الحدثاني وسويد بن نصر (1).
وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين.
وعبد الواحد بن غياث (2).
وقتيبة بن سعيد شيخ الائمة والسنة.
وأبو العميثل عبد الله بن خالد (3) كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، كان عالما باللغة وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة، ومن شعره يمدح عبد الله بن طاهر: يا من يحاول أن تكون صفاته * كصفات عبد الله أنصت واسمع فلانصحنك في خصال (4) والذي * حج الحجيج إليه فاسمع أودع أصدق وعف وبر واصبر واحتمل * واصفح وكافئ ودار واحلم واشجع والطف ولن وتأن وارفق واتئد * واحزم وجد وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك (5) إن قبلت نصيحتي * وهديت للنهج الاسد المهيع اما سحنون المالكي صاحب المدونة فهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن جندب (6) بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي، أصله من مدينة حمص، فدخل به أبوه مع جندها بلاد المغرب فأقام بها، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك هنالك، وكان قد تفقه على ابن القاسم، وسببه أنه قدم أسد بن الفرات صاحب الامام مالك من بلاد العرب إلى بلاد مصر فسأل عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك عن أسئلة كثيرة فأجابه عنها، فعقلها عنه ودخل بها بلاد المغرب فانتسخها منه سحنون، ثم قدم على ابن القاسم مصر فأعاد أسئلته عليه فزاد فيها ونقص، ورجع عن أشياء منها، فرتبها سحنون ورجع بها إلى بلاد المغرب، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن يعرض نسخته على نسخة سحنون ويصلحها بها فلم يقبل، فدعى عليه ابن القاسم فلم ينتفع به ولا بكتابه، وصارت الرحلة إلى سحنون، وانتشرت عنه المدونة، وساد أهل ذلك الزمان، وتولى القضاء بالقيروان (7) إلى أن توفي في هذه السنة
__________
(3) أبو محمد، ويقال له الانباري.
قال أبو حاتم: صدوق كثير التدليس.
وقال أحمد: متروك وقال النسائي: ليس بثقة.
وأفحش فيه القول ابن معين.
مات وله مئة سنة.
(1) المروزي رحل وكتب عن ابن المبارك وابن عيينة وعمره تسعون سنة.
(2) المرئدي البصري، أبو بحر الصيرفي، صدوق سمع حماد بن سلمة وطبقته.
(3) في ابن خلكان: خليد.
(4) في الوفيات 3 / 89: المشورة.
(5) في وفيات: محضتك.
(6) في الوفيات 3 / 180: حبيب (انظر البيان المغرب لابن عذارى 1 / 109).
(7) قال ابن عذارى 1 / 109: ولاه محمد بن الاغلب القضاء بافريقيا - بعد عزله عبد الله بن أبي الجواد عنه.
وذلك سنة 233.
عن ثمانين سنة رحمه الله وإيانا.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين في جمادى الاولى أو الآخرة من هذه السنة وثب أهل حمص أيضا على عاملهم محمد بن عبدويه فأرادوا قتله، وساعدهم نصارى أهلها أيضا عليه، فكتب إلى الخليفة يعلمه بذلك، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وكتب إلى متولي دمشق أن يمده بجيش من عنده ليساعده على أهل حمص، وكتب إليه أن يضرب ثلاثة منهم معروفين بالشر بالسياط حتى يموتوا، ثم يصلبهم على أبواب البلد، وأن يضرب عشرين آخرين منهم كل واحد ثلثمائة، وأن يرسلهم إلى سامرا مقيدين في الحديد، وأن يخرج كل نصراني بها ويهدم كنيستها العظمى التي إلى جانب المسجد الجامع، وأن يضيفها إليه، وأمر له بخمسين ألف درهم، وللامراء الذين ساعدوه بصلات سنية.
فامتثل ما أمره به الخليفة فيهم.
وفيها أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضربا شديدا مبرحا، يقال إنه ضرب ألف سوط حتى مات.
وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلا عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم.
فرفع أمره إلى الخليفة فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب (1)، ثم يضرب بالسياط حتى يموت ويلقى في دجلة ولا يصلى عليه، ليرتدع بذلك أهل الالحاد والمعاندة.
ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه.
ومثل هذا يكفر إن كان قد قذف عائشة بالاجماع، وفيمن قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان، والصحيح أنه يكفر أيضا، لانهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة.
قال: وفيها مطر الناس في آب مطرا شديدا جدا.
قال: وفيها مات من الدواب شئ كثير ولا سيما البقر.
قال: وفيها أغارت الروم على عين زربة فأسروا من بها من الزط وأخذوا نساءهم وذراريهم ودوابهم.
قال: وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم في بلاد طرسوس بحضرة قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد، عن إذن الخليفة له في ذلك، واستنابته ابن أبي
الشوارب.
وكانت عدة الاسرى من المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين رجلا، ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة، وقد كانت أم الملك تدورة لعنها الله عرضت النصرانية على من كان في يدها من الاسارى، وكانوا نحوا من عشرين ألفا فمن أجابها إلى النصرانية وإلا قتلته، فقتلت اثني عشر ألفا وتنصر بعضهم، وبقي منهم هؤلاء الذين فودوا وهم قريب من التسعمائة رجالا ونساء.
__________
(1) في الطبري 11 / 51: حد الشتم.
وفيها أغارت البجة (1) على جيش من أرض مصر، وقد كانت البجة لا يغزون المسلمين قبل ذلك، لهدنة كانت لهم من المسلمين، فنقضوا الهدنة وصرحوا بالخلاف.
والبجة طائفة من سودان بلاد المغرب، وكذا النوبة وشنون وزغرير ويكسوم وأمم كثيرة لا يعلمهم إلا الله.
وفي بلاد هؤلاء معادن الذهب والجوهر، وكان عليهم حمل في كل سنة إلى ديار مصر من هذه المعادن (2)، فلما كانت دولة المتوكل امتنعوا من أداء ما عليهم سنين متعددة، فكتب نائب مصر - وهو يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي وهو المعروف بقوصرة - بذلك كله إلى المتوكل، فغضب المتوكل من ذلك غضبا شديدا، وشاور في أمر البجة فقيل له: يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزودوا لمقامهم بها طعاما وماء، فصده ذلك عن البعث إليهم، ثم بلغه أنهم يغيرون على أطراف الصعيد، ويخشى أهل مصر على أولادهم منهم، فجهز لحربهم محمد بن عبد الله القمي، وجعل إليه نيابة تلك البلاد كلها المتاخمة لارضهم، وكتب إلى عمال مصر أن يعينوه بكل ما يحتاج إليه من الطعام وغير ذلك، فتخلص وتخلص معه من الجيوش الذين انضافوا إليه من تلك البلاد حتى دخل بلادهم في عشرين ألف فارس وراجل، وحمل معه الطعام الادام في مراكب سبعة، وأمر الذين هم بها أن يلجوا بها في البحر فيوافوه بها إذا توسط بلاد البجة، ثم سار حتى دخل بلادهم وجاوز معادنهم وأقبل إليه ملك البجة - واسمه علي بابا - في جمع عظيم أضعاف من مع محمد بن عبد الله القمي، وهم قوم مشركون يعبدون الاصنام، فجعل الملك يطاول المسلمين لعله تنفد أزوادهم فيأخذونهم بالايدي، فلما نفد ما عند المسلمين طمع فيهم السودان فيسر
الله وله الحمد بوصول تلك المراكب وفيها من الطعام والتمر والزيت وغير ذلك مما يحتاجون إليه شئ كثير جدا فقسمه الامير بين المسلمين بحسب حاجاتهم، فيئس السودان من هلاك المسلمين جوعا فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين، ومركبهم الابل شبيهة بالهجن زعرة جدا كثيرة النفار، لا تكاد ترى شيئا ولا تسمع شيئا إلا جفلت منه.
فلما كان يوم الحرب عمد أمير المسلمين إلى جميع الاجراس التي معهم في الجيش فجعلها في رقاب الخيول، فلما كانت الوقعة حمل المسلمون حملة رجل واحد، فنفرت بهم إبلهم من أصوات تلك الاجراس في كل وجه، وتفرقوا شذر مذر، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا، لا يمتنع منهم أحد، فلا يعلم عدد من قتلوا منهم إلا الله عزوجل.
ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة فكبسهم القمي من حيث لا يشعرون فقتل عامة من بقي منهم وأخذ ملكهم بالامان، وأدى ما كان عليه من الحمل، وأخذه معه أسيرا إلى الخليفة.
وكانت هذه الوقعة في أول يوم من هذه السنة، فولاه الخليفة على بلاده كما كان، وجعل إلى ابن القمي أمر تلك الناحية والنظر في أمرها ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 77: البجاة، في كل المواضع.
(2) في الطبري 11 / 52: أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى، وفي ابن الاثير 7 / 77: نحو الخمس.
قال ابن جرير: ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة.
قلت: وهذا الرجل كان نائبا على الديار المصرية من جهة المتوكل.
وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد ابن داود، وحج جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم، ولم يتعرض ابن جرير لوفاة أحد من المحدثين في هذه السنة، وقد توفي من الاعيان الامام أحمد بن حنبل.
وجبارة بن المغلس الحماني (1).
وأبو ثوبة الحلبي (2).
وعيسى بن حماد سجادة (3).
ويعقوب بن حميد بن كاسب (4).
ولنذكر شيئا من: الامام أحمد بن حنبل فنقول وبالله المستعان: هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن
حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام - أبو عبد الله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي، هكذا ساق نسبه الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي جمعه في مناقب أحمد عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، وروى عن صالح بن الامام أحمد قال: رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال: وما تصنع به ؟ ولم ينكر النسب.
قالوا: وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه ببغداد في ربيع الاول من سنة أربع وستين ومائة، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه.
قال صالح عن أبيه: فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين فلما كبرت دفعتهما إلي فبعتهما بثلاثين درهما.
وتوفي أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الاول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله من العمر سبع وسبعون سنة رحمه الله.
وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث، فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة سبع وثمانين ومائة، وقد بلغ من العمر ست عشرة سنة، وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة، ثم سنة إحدى وتسعين.
وفيها حج الوليد بن مسلم، ثم سنة ست وتسعين، وجاور في سنة سبع وتسعين، ثم حج في سنة ثمان
__________
(1) أبو محمد الكوفي.
قال في المغني: شيخ ابن ماجه واه، وقال ابن نمير: صدوق.
وقال فيه البخاري: مضطرب الحديث.
روى عن شبيب بن أبي شيبة.
قال في التقريب: ضعيف.
(2) واسمه الربيع بن نافع الحافظ روى عنه أحمد وغيره.
نزل طرسوس فكان شيخها وعالمها.
ثقة.
(3) سجادة لقبه: لعبادته (قاله في نزهة الالباب والنجوم الزاهرة).
وكان ثقة وصاحب سنة.
(4) المحدث مدني مشهور نزل مكة.
قواه البخاري ووثقه ابن معين وضعفه جماعة.
وتسعين، وجاور إلى سنة تسع وتسعين سافر إلى عند عبد الرزاق إلى اليمن، فكتب عنه هو ويحيى بن
معين وإسحاق بن راهويه.
قال الامام أحمد: حججت خمس حجج منها ثلاث راجلا، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهما.
قال: وقد ضللت في بعضها عن الطريق وأنا ماش فجعلت أقول: يا عباد الله دلوني على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق.
قال: وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، ولو كان عندي تسعون درهما كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لانه لم يمكن عندي شئ.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه عن حرملة: سمعت الشافعي قال: وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم على مصر فلم يقدم.
قال ابن أبي حاتم: يشبه أن تكون خفة ذات اليد منعته أن يفي بالعدة.
وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق، وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم، وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم، وكذلك الرواة عنه.
قال البيهقي بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الامام أحمد: وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش، وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة.
قلت: قد أفرد ما رواه عن الشافعي وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثا، ومن أحسن ما رويناه عن الامام أحمد عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم بعث " (1).
وقد قال الشافعي لاحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين (2) ومائة وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة.
قال له: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا - يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب - وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لاحمد وإجلال له وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه.
وقد كان الامام أحمد بهذه المثابة عند الائمة والعلماء كما سيأتي ثناء الائمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة في العلم والحديث، وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق.
ثم حكى البيهقي كلام أحمد في الايمان وأنه قول وعمل ويزيد وينقص، وكلامه في القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنكاره على من يقول: إن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن.
قال: وفيها حكى أبو عمارة وأبو جعفر أخبرنا أحمد شيخنا السراج عن أحمد بن حنبل أنه قال: اللفظ محدث.
واستدل بقوله
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 3 / 460.
(2) تقدم أنهما اجتمعا سنة 195 ه، انظر صفحة 275.
(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق: 18 ] قال: فاللفظ كلام الآدميين.
وروى غيرهما عن أحمد أنه قال: القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق، وأما أفعالنا فهي مخلوقة.
قلت: وقد قرر البخاري في هذا المعنى في أفعال العباد وذكره أيضا في الصحيح، واستدل بقوله عليه السلام: " زينوا القرآن بأصواتكم) (1).
ولهذا قال غير واحد من الائمة: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري.
وقد قرر البيهقي ذلك أيضا.
وروى البيهقي من طريق إسماعيل بن محمد بن إسماعيل السلمي عن أحمد أنه قال: من قال: القرآن محدث فهو كافر.
ومن طريق أبي الحسن الميموني عن أحمد أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [ الانبياء: 2 ].
قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث.
وعن حنبل عن أحمد أنه قال: يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وعظه إياهم.
ثم ذكر البيهقي كلام الامام أحمد في رؤية الله في الدار الآخرة، واحتج بحديث صهيب في الرؤية وهي زيادة، وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
وروى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: (وجاء ربك) [ الفجر: 22 ] أنه جاء ثوابه.
ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سئ.
وقد رأى
الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه إسناد صحيح.
قلت: وهذا الاثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق.
والامر كما قاله ابن مسعود، وقد نص على ذلك غير واحد من الائمة.
وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له: ما تقول في الخلافة ؟ فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى لانهم قدموا عثمان رضي الله عنه.
ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله روى البيهقي من طريق المزني عن الشافعي أنه قال للرشيد: إن اليمن يحتاج إلى قاض، فقال له: اختر رجلا نوله إياها.
فقال الشافعي لاحمد بن حنبل وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه: ألا تقبل قضاء اليمن ؟ فامتنع من ذلك امتناعا شديدا وقال للشافعي: إني إنما أختلف إليك لاجل العلم
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب (53) وأبو داود في الوتر باب (20) وابن ماجه في الاقامة باب (176) والدارمي في فضائل القرآن (34) والامام أحمد في المسند 4 / 283، 285، 296، 304.
المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء ؟ ولو لا العلم لما أكلمك بعد اليوم.
فاستحى الشافعي منه.
وروى أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه ولا يكلمهم أيضا، لانهم أخذوا جائزة السلطان.
ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال: ما هذه العجلة ! كيف خبزتم ؟ فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه.
فقال: ارفعوا، ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح.
قال البيهقي: لان صالحا أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله.
وقال عبد الله ابنه: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما لم يأكل فيها إلا ربع مد سويقا، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر.
وقد رأيت موقيه دخلا في حدقتيه.
قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الانواع وكان أحمد لا يتناول منها شيئا.
قال: وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث فما بقي منهم أحد
إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى.
وقال سليمان الشاذكوني: حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامي (1) باليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال: خذ متاعك منهما.
فاشتبه عليه أيهما له فقال: أنت في حل منه ومن الفكاك، وتركه وذهب.
وحكى ابنه عبد الله قال: كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فكتب رجل إلى أبي: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها.
فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي: لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا.
وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه.
ونفدت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير فقال: نحن في كفاية ولم يقبلها.
وسرقت ثيابه وهو باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب وفقده أصحابه فجاؤوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا ليكتب لهم به فكتب لهم بالاجر رحمه الله.
وقال أبو داود.
كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شئ من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط.
وروى البيهقي أن أحمد سئل عن التوكل فقال: هو قطع الاستشراف باليأس من الناس، فقيل له: هل من حجة على هذا ؟ قال: نعم ! إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال: هل لك من حاجة ؟ قال: أما إليك فلا، قال: فسل من لك إليه حاجة.
فقال: أحب الامرين إلي أحبهما إليه.
وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال: كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا: ادع الله لنا فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما.
ثم سكت.
فقلنا:
__________
(1) فامي: نسبة إلى فامية: بلدة في العراق.
زدنا فقال: اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والارض (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) [ فصلت: 11 ] اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ
بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى ولا تقل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا في دنيانا، وغنى من فضلك.
قال البيهقي: وفي حكاية أبي الفضل التميمي عن أحمد: وكان يدعو في السجود: اللهم من كان من هذه الامة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق.
وكان يقول: اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فداء فاجعلني فداء لهم.
وقال صالح بن أحمد: كان أبي لا يدع أحدا يستقي له الماء للوضوء، بل كان يلي ذلك بنفسه، فإذا خرج الدلو ملآن قال: الحمد لله.
فقلت: يا أبة ما الفائدة بذلك ؟ قال: يا بني أما سمعت قول الله عز وجل (أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) [ الملك: 30 ] والاخبار عنه في هذا الباب كثيرة جدا.
وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه.
والمظنون بل المقطوع به أنه إنما كان يأخذ بما أمكنه منه رحمه الله.
وقال إسماعيل بن إسحاق السراج: قال لي أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك ؟ فقلت: نعم ! وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك.
فقال: إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب.
فلما كان بين العشاءين جاؤوا وكان الامام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا، بل جاؤوا فجلسوا بين يدي الحارث سكوتا مطرقي الرؤوس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق، قال: فصعدت إلى الامام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ؟ فقال: ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم.
قال البيهقي: يحتمل أنه كره له صحبتهم لان الحارث بن أسد، وإن كان زاهدا، فإنه كان عنده شئ من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك، أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع.
قلت: بل إنما كره ذلك لان في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها
الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال: هذا بدعة.
ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب: عليك بما كان عليه مالك والثوري والاوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة.
وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب.
وقال: الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الاكابر.
وقال: الفقر أشرف من الغنى، فإن الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالا من الشكر.
وقال: لا أعدل بفضل الفقر شيئا.
وكان يقول: على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس،
ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف.
وكان يحب التقلل من الدنيا لاجل خفة الحساب.
وقال إبراهيم: قال رجل لاحمد: هذا العلم تعلمته لله ؟ فقال له أحمد: هذا شرط شديد ولكن حبب إلي شئ فجمعته.
وفي رواية أنه قال: أما لله فعزيز، ولكن حبب إلي شئ فجمعته.
وروى البيهقي أن رجلا جاء إلى الامام أحمد فقال: إن أمي زمنة مقعدة منذ عشرين سنة، وقد بعثتني إليك لتدعولها، فكأنه غضب من ذلك وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها.
ثم دعا الله عز وجل لها.
فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب فخرجت إليه على رجليها وقالت: قد وهبني الله العافية.
وروى أن سائلا سأل فأعطاه الامام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال: هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوي درهما.
فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال: إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها.
ثم قال البيهقي رحمه الله: ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة، والاخبار المأثورة، وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله
من أوليائه، وألحق به محبيه فيما نال من كرامة الله تعالى إن شاء الله من غير بلية وبالله التوفيق والعصمة.
قال الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذى صدقوا وليعلمن الكاذبين) [ العنكبوت: 1 - 3 ] وقال الله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور) [ لقمان: 17 ] في سواها في معنى ما كتبنا.
وقد روى الامام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عاصم بن بهدلة سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء ؟ فقال: " الانبياء، ثم الامثل فالامثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما يزال البلاء (1) بالرجل حتى يمشي على الارض وما عليه خطيئة ".
وقد روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة من كن فيه فقد وجد
__________
(1) في المسند 1 / 174: فما تزال البلايا.
وانظر 1 / 180 - 185.
حلاوة الايمان (1): من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " (2) أخرجاه في الصحيحين.
وقال أبو القاسم البغوي.
حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان بن عمرو السكسكي، ثنا عمرو بن قيس السكوني، ثنا عاصم بن حميد قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: " إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الامر إلا شدة، ولا الانفس إلا شحا ".
وبه قال معاذ: " لن تروا من الائمة إلا غلظة ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه ".
قال البغوي: سمعت أحمد يقول: اللهم رضنا.
وروى البيهقي: عن الربيع قال: بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب فقال: أقرأته ؟ فقلت: لا ! فأخذه فقرأه فدمعت عيناه، فقلت: يا أبا عبد الله وما فيه ؟ فقال: يذكر أنه رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأقرأ عليه مني السلام وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، يرفع الله لك علما إلى يوم القيامة.
قال الربيع: فقلت حلاوة البشارة، فخلع قميصه الذي يلي جلده فأعطانيه، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته قال: إني لست أفجعك فيه، ولكن بله بالماء وأعطينيه حتى أتبرك به.
ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عزوجل.
قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.
فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الارزاق فأجاب أكثرهم مكرهين: واستمر على الامتناع من ذلك الامام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجند يسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الاعراب من عبادهم يقال له جابر بن عامر، فسلم على الامام أحمد
__________
(1) حلاوة الايمان: معناه استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وإيثار ذلك على عرض الدنيا.
ومحبة العبد ربه سبحانه بفعل طاعته وترك مخالفته.
وكذلك محبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه - بألفاظ مختلفة - في كتاب الايمان (15) باب.
ح (67) ص 1 / 66 والبخاري في الايمان (9) باب ح 16 فتح الباري 1 / 60.
وقال له: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه،
فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدا.
قال أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه.
فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
قال: فجثى الامام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.
قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الاخير من الليل.
قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الامر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الاسارى، ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا، وقيل نيفا وثلاثين شهرا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم.
وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
ذكر ضربه رضي الله عنه بين يدي المعتصم لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد.
ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.
قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس (1) ثم
__________
(1) وفيه: ان وفد عبد القيس سألوه عن الايمان فقال (صلى الله عليه وسلم): أتدرون ما الايمان ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم.
(ابن الجوزي: مناقب الامام أحمد ص 321).
قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أحمد: فقلت، الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن، كلمه.
فقال لي عبد الرحمن [ بن إسحاق الشافعي ] (1): ما تقول في القرآن ؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه فقلت: ما تقول في العلم ؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت: كان الله ولا علم ؟ فسكت.
فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين اعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به، فقال: ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟ فقلت: وهل يقوم الاسلام إلا بهما.
وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) [ الانبياء: 2 ] وبقوله (الله خالق كل شئ) [ الرعد: 16 ] وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله (تدمر كل شئ بأمر ربها) [ الاحقاف: 25 ] فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون ؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم.
قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث (2) بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره
بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، ليس كمثله شئ، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كاملا يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من كان بعيد ؟ وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
فأقول: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها.
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى (يا أبة لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) [ مريم: 42 ] وبقوله: (وكلم الله موسى تكليما) [ النساء: 163 ] وبقوله (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) [ طه: 14 ] وبقوله: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [ النحل: 40 ] ونحو ذلك من الآيات.
فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير
__________
(1) من مناقب أحمد لابن الجوزي ص 322.
(2) في هامش الاصل: لعله ابن غياث وهو المريسي: وفي المنهج الاحمد 1 / 84: بشر المريسي.
المؤمنين هذا كافر ضال مضل.
وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شئ.
قال أحمد فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجئ بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث " (1) وتلوت الحديث، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم " (2): فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا ؟ يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين
إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين وجئ بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجئ بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك، ويجئ الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطا فأغمي علي وذهب عقلي مرارا، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي، وقام المعتصم إلي (3) يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك ! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الاقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل ثمانين سوطا، ولكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا (4).
وقد كان الامام أحمد رجلا رقيقا أسمر اللون كثير التواضع رحمه الله.
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي وصليت في دمك ! فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دما، فسكت.
ويروى أنه لما أقيم
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 1 / 61، 63، 70، 382، 444، 465، 6 / 58، 214.
(2) مسند الامام أحمد 1 / 11، 19، 35، 48، 2 / 377، 423، 475، 502، 527، 528، 3 / 300، 332، 339، 4 / 8.
(3) قام إليه المعتصم بعد ما ضرب تسعة عشر سوطا (ابن الجوزي المناقب ص 327).
(4) وقد ضربه شاباص الثابت قال: لقد ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته فيلا لهدته (ابن الجوزي - المناقب 333).
ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد
سراويله كما كان، ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتضم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى (وليعفوا وليصفحوا) الآية [ النور: 22 ].
ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ؟ وقد قال تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) [ الشورى: 40 ] وينادي المنادي يوم القيامة: " ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله) (1).
وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة (2): أحمد بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجند يسابوري، ومات في الطريق.
ونعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن.
وكان مثقلا بالحديد.
وأحمد بن نصر الخزاعي وقد ذكرنا كيفية مقتله.
ثناء الائمة على الامام أحمد بن حنبل قال البخاري: لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة.
وقال إسماعيل بن الخليل: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان نبيا.
وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
وقال شيخ أحمد يحيى بن سعيد القطان: ما قدم على بغداد أحد أحب إلي من أحمد بن حنبل.
وقال قتيبة: مات سفيان الثوري ومات الورع،
ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع.
وقال: إن أحمد بن حنبل قام في
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب البر والصلة (19) باب.
ح (2588) ص 4 / 2001 باختلاف ألفاظه.
قال العلماء: في الالفاظ الثلاثة أوجه موجودة في العادة معروفة، وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها: في الدنيا والآخرة.
(2) كذا بالاصل، وسيأتي انهم كانوا خمسة.
الامة مقام النبوة.
قال البيهقي - يعني في صبره على ما أصابه من الاذى في ذات الله - وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يوما - فقال رحمه الله: في الدين ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره، وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.
وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: أدخل أحمد الكير فخرج ذهبا أحمر.
وقال الميموني: قال لي علي بن المديني بعد ما امتحن أحمد وقيل قبل أن يمتحن: يا ميمون ما قام أحد في الاسلام ما قام أحمد بن حنبل.
فعجبت من هذا عجبا شديدا وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له مقالة علي بن المديني فقال: صدق، إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصارا وأعوانا، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان.
ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول: لست أعلم في الاسلام مثله.
وقال إسحاق بن راهويه: أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه.
وقال علي بن المديني: إذا ابتليت بشئ فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان.
وقال أيضا: إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عزوجل، ثم قال: ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ؟ وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط: كان محدثا، وكان حافظا، وكان عالما، وكان ورعا، وكان زاهدا، وكان عاقلا.
وقال يحيى بن معين أيضا: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله ولا نطيق سلوك طريقه.
وقال الذهلي: اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله.
وقال هلال بن العلاء (1) الرقي: من الله على هذه الامة بأربعة: بالشافعي فهم الاحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام والناسخ والمنسوخ.
وبأبي عبيد
بين غريبها.
وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الاحاديث، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة لولا هؤلاء الاربعة لهلك الناس، وقال أبو بكر بن أبي داود: أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلما ومحبرة - يعني في عصره - وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ولا رأيت من رأى مثله.
وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه.
وروى البيهقي عن الحاكم عن يحيى بن محمد العنبري قال: أنشدنا أبو عبد الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله: إن ابن حنبل إن سألت إمامنا * وبه الائمة في الانام تمسكوا خلف النبي محمدا بعد الالى * خفلوا الخلائف بعده واستهلكوا حذو الشراك على الشراك وإنما * يحذو المثال مثاله المستمسك وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " (2).
وروى البيهقي عن أبي سعيد
__________
(1) تقدم، وفي الاصل المعلى.
(2) أخرجه مسلم عن أبي الربيع وقتيبة عن حماد بن زيد.
في الفتن (5) باب ح (19) ص 2215.
الماليني، عن ابن عدي، عن أبي القاسم البغوي، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ح.
قال البغوي: وحدثني زياد بن أيوب، حدثنا مبشر، عن معاذ عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ح.
قال البغوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين " وهذا الحديث مرسل وإسناده فيه ضعف.
والعجب أن ابن عبد البر صححه واحتج به على عدالة كل من حمل العلم، والامام أحمد من أئمة أهل العلم رحمه الله وأكرم مثواه.
ما كان من أمر الامام أحمد بعد المحنة حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووي حتى برأ ولله الحمد، ولزم منزله فلا يخرج منه
إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث، وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ويتقنع بذلك رحمه الله صابرا محتسبا.
ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق (1)، فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبا للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد - وهو إسحاق بن إبراهيم - أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالامام أحمد إليه فأكرمه وعظمه، لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن فقال له أحمد: سؤالك هذا سؤال تعنت أو استرشاد.
فقال: بل سؤال استرشاد.
فقال: هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة إلى سر من رأى ثم سبقه إليه.
وبلغه أن أحمد اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة فقال المتوكل: يرد وإن كان قد وطئ بساطي، فرجع إلامام أحمد من الطريق إلى بغداد.
وقد كان الامام أحمد كارها لمجيئه إليهم ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه.
ثم إن رجلا من المبتدعة يقال له ابن البلخي وشى إلى الخليفة شيئا فقال: إن رجلا من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن.
فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس منزل أحمد من الليل.
فلم يعشروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الاسطحة، فوجدوا الامام أحمد جالسا في داره مع عياله فسألوه عما ذكر عنه فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من
__________
(1) قال ابن الجوزي في مناقبه: ص 348: أرسل إلى أحمد: لا تساكني بأرض.
فاختفى أحمد بقية حياة الواثق.
فما زال ينتقل في الاماكن ثم عاد إلى منزله بعد أشهر فاختفى فيه إلى أن مات الواثق.
هذا شئ ولا هذا من نيتي، وإني لارى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري ومنشطي ومكرهي، وأثره علي، وإني لادعو الله بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، في كلام كثير.
ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والاسطحة وغيرها فلم يروا شيئا.
فلما بلغ
المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه علم أنهم يكذبون عليه كثيرا، فبعث إليه يقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة - وهو أحد الحجبة - بعشرة آلاف درهم من الخليفة، وقال: هو يقرأ عليك السلام ويقول: استنفق هذه، فامتنع من قبولها.
فقال: يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهما، وأعطى منها لابي أيوب وأبي سعيد الاشج، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه، ولم يعط منها لاهله شيئا وهم في غاية الفقر والجهد، وجاء بنو ابنه فقال: اعطني درهما.
فنظر أحمد إلى ابنه صالح فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي فسكت أحمد.
وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فقال علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك وتصدق بها عنك، وماذا يصنع أحمد بالمال ؟ إنما يكفيه رغيف.
فقال: صدقت.
فلما مات إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد ولم يكن بينهما إلا القريب، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق، كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الامام أحمد، فقال لاحمد في ذلك فقال: إني شيخ كبير وضعيف، فرد الجواب على الخليفة بذلك، فأرسل يعزم عليه لتأتيني، وكتب إلى أحمد: إني أحب أن آنس بقربك وبالنظر إليك، ويحصل لي بركة دعائك.
فسار إليه الامام أحمد - وهو عليل - في بنيه وبعض أهله، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم، فسلم وصيف على الامام أحمد فرد السلام وقال له وصيف: قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي دؤاد.
فلم يرد عليه جوابا، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف.
فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى، أنزل أحمد في دار إيتاخ، فلما علم بذلك ارتحل منها وأمر أن يستكري له دار غيرها.
وكان رؤوس الامراء في كل يوم يحضرون عنده ويبلغونه عن الخليفة السلام، ولا يدخلون عليه حتى يقلعون ما عليهم من الزينة والسلاح.
وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة، وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة، فاعتذر
إليه بأنه عليل وأسنانه تتحرك وهو ضعيف وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فهيا ألوان الاطعمة والفاكهة والثلج، مما يقاوم مائة وعشرين درهما في كل يوم، والخليفة يحسب أن يأكل من ذلك، ولم يكن أحمد يأكل شيئا من ذلك بالكلية، بل كان صائما يطوي، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام، ومع ذلك هو مريض، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلا من السويق بعد ثمانية أيام.
وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له فامتنع من قبوله، فألح عليه الامير فلم يقبل.
فأخذها الامير ففرقها على بنيه وأهله، وقال: إنه لا يمكن ردها على الخليفة.
وكتب الخليفة لاهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم، فمانع أبو عبد الله الخليفة، فقال الخليفة: لا بد من ذلك، وما هذا إلا لولدك.
فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته ثم أخذ يلوم أهله وعمه، وقال لهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا قد نزل بنا الموت، فإما إلى جنة وإما إلى نار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء.
في كلام طويل يعظهم به.
فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح " ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه ".
وأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان.
فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال.
ولما استمر ضعفه جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه، فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين إن أحمد ليس به علة في بدنه، وإنما علته من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة.
فسكت المتوكل ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الامام أحمد، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له، وليكن في حجره.
فتمنع من ذلك ثم أجاب إليه رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد.
وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكبه، فامتنع من ركوبه لانه عليه ميثرة نمور، فجئ ببغل لبعض التجار فركبه وجاء إلى مجلس المعتز، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس، من وراء ستر رقيق.
فلما جاء أحمد قال: سلام عليكم.
وجلس ولم يسلم عليه بالامرة، فقالت أم الخليفة: الله الله يا بني في هذا الرجل ترده إلى أهله، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه.
وحين رأى المتوكل أحمد قال لامه: يا أمه قد تأنست الدار.
وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب
وقلنسوة وطيلسان، فألبسها أحمد بيده، وأحمد لا يتحرك بالكلية.
قال الامام أحمد: ولما جلست إلى المعتز قال مؤدبه: أصلح الله الامير هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك.
فقال: إن علمني شيئا تعلمته، قال أحمد: فتعجبت من ذكائه في صغره لانه كان صغيرا جدا فخرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ويستعيذ بالله من مقته وغضبه.
ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف وهيأ له حزاقة فلم يقبل أن ينحدر فيها، بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفيا، وأمر أن تباع تلك الخلعة وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين.
وجعل أياما يتألم من اجتماعه بهم ويقول: سلمت منهم طول عمري ثم ابتليت بهم في آخره.
وكان قد جاع عندهم جوعا عظيما كثيرا حتى كاد أن يقتله الجوع.
وقد قال بعض الامراء للمتوكل: إن أحمد لا يأكل لك طعاما، ولا يشرب لك شرابا، ولا يجلس على فرشك، ويحرم ما تشربه.
فقال: والله لو نشر المعتصم وكلمني في أحمد ما قبلت منه.
وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم تستعلم أخباره وكيف حاله.
وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي دؤاد فلا يجيب بشئ، ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي دؤاد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها.
قال عبد الله بن أحمد: وحين رجع أبي من سامرا وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة
أشهر، وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هم فيه أو ينتفع بشئ مما هم فيه لاجل قبولهم أموال السلطان.
وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره في أشياء تقع له.
ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى، فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره فردها.
وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة.
فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.
ثم
أمر أن يضرب الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط.
فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال: مائتين لطاعتك ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل.
وقد كتب الخليفة إلى أحمد يسأله عن القول في القرآن سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد.
فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة فيها آثار عن الصحابة وغيرهم، وأحاديث مرفوعة.
وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها، وهي مروية عنه، وقد نقلها غير واحد من الحفاظ.
وفاة الامام أحمد بن حنبل قال ابنه صالح: كان مرضه في أول شهر ربيع الاول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودخلت عليه يوم الاربعاء ثاني ربيع الاول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف، فقلت: يا أبت ما كان غداؤك ؟ فقال: ماء الباقلا.
ثم إن صالحا ذكر كثرة مجئ الناس من الاكابر وعموم الناس لعيادته وكثرة حرج الناس عليه، وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها، وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين، فأخذ شيئا من الاجرة فاشترى تمرا وكفر عن أبيه، وفضل من ذلك ثلاثة دراهم.
وكتب الامام أحمد وصيته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين، وأوصي أني قد رضيت الله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا، وأوصي لعبد لله بن محمد المعروف ببوران (1) علي نحوا من خمسين دينارا وهو مصدق فيها فيقضي
__________
(1) في المنهج الاحمد 1 / 94: فوران.
ماله علي من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استوفى أعطى ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم (1).
ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما فسماه سعيدا، وكان له ولد آخر اسمه محمد قد مشى حين مرض فدعاه فالتزمه وقبله ثم قال: ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ؟ فقيل له: ذرية تكون بعدك يدعون لك.
قال وذاك إن حصل.
وجعل يحمد الله تعالى.
وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الانين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها أن، وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الاول من هذه السنة، فأن حين اشتد به الوجع.
وقد روي عن ابنه عبد الله ويروى عن صالح أيضا أنه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر أن يقول: لا بعد، لا بعد، فقلت: يا أبة ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة ؟ فقال: يا بني إن إبليس واقف في زاوية البيت وهو عاض على إصبعه وهو يقول: فتني يا أحمد ؟ فأقول لا بعد لا بعد - يعني لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد - كما جاء في بعض الاحاديث قال إبليس: يا رب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
فقال الله: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه.
وقد كانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين (2)، فاجتمع الناس في الشوارع وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان، وأرسل يقول: هذا نيابة عن الخليفة، فإنه لو كان حاضرا لبعث بهذا.
فأرسل أولاده يقولون: إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره وأبوا أن يكفنوه بتلك الاكفان، وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه واشتروا معه عوز لفافة وحنوطا، واشتروا له راوية ماء وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم، لانه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا، وكان لا يزال متغضبا عليهم لانهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء.
وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله.
وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد
الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزى أولاد الامام أحمد فيه، وكان هو الذي أم الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق.
__________
(1) نسخة الوصية في مناقب الامام أحمد لابن الجوزي ص 371.
والمنهج الاحمد 1 / 94.
(2) في مناقب ابن الجوزي ص 406: فلما كان صدر النهار قبض.
وفي الوفيات 1 / 64: توفي ضحوة نهار الجمعة.
وقد روى البيهقي وغير واحد أن الامير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الامام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي (1) ألف وخمسمائة ألف.
قال البيهقي عن الحاكم سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي يقول: سمعت محمد بن يحيى الزنجاني، سمعت عبد الوهاب الوراق يقول: ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الاسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل.
فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول حدثني محمد بن العباس (2) المكي سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس، وفي بعض النسخ أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا فالله أعلم.
وقال الدار قطني: سمعت أبا سهل بن زياد سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لاهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر.
وقد صدق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يتلفت إليه.
ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان.
وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس.
وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا، فلله الامر من قبل ومن بعد.
وقد روى البيهقي: عن حجاج بن محمد الشاعر أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الامام
أحمد.
وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد: دفن اليوم سادس خمسة، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وأحمد.
وكان عمره يوم مات سبعا وسبعين سنة وأياما أقل من شهر رحمه الله تعالى.
ذكر ما رئي له من المنامات وقد صح في الحديث: " لم يبق من النبوة إلا المبشرات) (3).
وفي رواية " إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ".
وروى البيهقي عن الحاكم سمعت علي بن حمشاد سمعت جعفر بن محمد بن الحسين، سمعت سلمة بن شبيب يقول: كنا عند أحمد بن حنبل وجاءه شيخ ومعه عكازة فسلم
__________
(1) في رواية ابن الجوزي: ألف (مناقب أحمد ص 416).
(2) في مناقب الامام أحمد لابن الجوزي ص 419: أبو بكر محمد بن عياش.
(3) أخرجه البخاري في التعبير باب (5) ومسلم في الصلاة ح (207) وأبو داود في الصلاة (143) والترمذي في الرؤيا (2) والنسائي في التطبيق (9، 62) وابن ماجه في الرؤيا (1) ومالك في الموطأ في الرؤيا (3) والدارمي في الصلاة والرؤيا.
والامام أحمد في المسند: 1 / 219، 3 / 267، 5 / 454، 6 / 129، 381.
وجلس فقال: من منكم أحمد بن حنبل ؟ فقال أحمد: أنا ما حاجتك ؟ فقال ضربت إليك من أربعمائة فرسخ، أريت الخضر في المنام فقال لي: سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه وقل له: إن ساكن العرش والملائكة راضون بما صبرت نفسك لله عز وجل.
وعن أبي عبد الله محمد بن خزيمة الاسكندراني.
قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غما شديدا فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت له: يا أبا عبد الله أي مشية هذه ؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام.
فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال لي: يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي، ثم قال لي: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري وكنت تدعو بهن في دار الدنيا، فقلت: يا رب كل شئ، بقدرتك على كل شئ اغفر لي كل شئ حتى لا تسألني عن شئ.
فقال لي: يا أحمد هذه الجنة قم فادخلها.
فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ومن
شجرة إلى شجرة، وهو يقول (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العالمين) [ الزمر: 74 ].
قال فقلت له: ما فعل بشر الحافي ؟ فقال بخ بخ، ومن مثل بشر ؟ تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم، أو كما قال.
وقال أبو محمد بن أبي حاتم، عن محمد بن مسلم بن وارة قال: لما مات أبو زرعة رأيته في المنام فقلت له: ما فعل الله بك ؟ فقال قال الجبار: ألحقوه بأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله، مالك والشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال أحمد بن خرزاد الانطاكي: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وقد برز الرب جل جلاله، لفصل القضاء، وكأن مناديا ينادي من تحت العرش: أدخلوا أبا عبد الله وأبا عبد الله وأبا عبد الله وأبا عبد الله الجنة.
قال فقلت لملك إلى جنبي: من هؤلاء ؟ فقال: مالك، والثوري، والشافعي وأحمد بن حنبل.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن أيوب المقدسي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو نائم وعليه ثوب مغطى به وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين يذبان عنه.
وقد تقدم في ترجمة أحمد بن أبي دؤاد عن يحيى الجلاء أنه رأى كأن أحمد بن حنبل في حلقة بالمسجد الجامع وأحمد بن أبي دؤاد في حلقة أخرى وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين الحلقتين وهو يتلو هذه الآية (فإن يكفر بها هؤلاء) [ الانعام: 89 ] ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) [ الانعام: 89 ] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه.
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائتين فيها كانت زلازل هائلة في البلاد، فمنها ما كان بمدينة قومس، تهدمت منها دور كثيرة، ومات من أهلها نحو من خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا.
وكانت باليمن وخراسان وفارس والشام وغيرها من البلاد زلازل منكرة.
وفيها أغارت الروم على بلاد الجزيرة فانتهبوا شيئا كثيرا وأسروا نحوا
من عشرة آلاف من الذراري.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها حج بالناس عبد الصمد بن موسى [ بن محمد ] بن إبراهيم الامام بن محمد بن علي نائب مكة.
وفيها توفي من الاعيان الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور.
وأبو حسان الزيادي قاضي الشرقية، واسمه الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن بن يزيد البغدادي، سمع الوليد بن مسلم، ووكيع بن الجراح، والواقدي، وخلقا سواهم.
وعنه أبو بكر بن أبي الدنيا وعلي بن عبد الله الفرغاني الحافظ المعروف بطفل، وجماعة.
ترجمه ابن عساكر في تاريخه.
قال: وليس هو من سلالة زياد بن أبيه، إنما تزوج بعض أجداده بأم ولد لزياد، فقيل له الزيادي.
ثم أورد من حديثه بسنده عن جابر " الحلال بين والحرام بين " (1) الحديث.
وروى عن الخطيب أنه قال: كان من العلماء الافاضل من أهل المعرفة والثقة والامانة، ولي قضاء الشرقية في خلافة المتوكل، وله تاريخ على السنين، وله حديث كثير.
وقال غيره: كان صالحا دينا قد عمل الكتب، وكانت له معرفة جيده بأيام الناس، وله تاريخ حسن، وكان كريما مفضالا.
وقد ذكر ابن عساكر عنه أشياء حسنة، منها أنه أنفذ إليه بعض أصحابه يذكر له أنه قد أصابته ضائفة في عيد من الاعياد، ولم يكن عنده غير مائة دينار، فأرسلها بصرتها إليه، ثم سأل ذلك الرجل صاحب له أيضا وشكا إليه مثلما شكا إلى الزيادي، فأرسل بها الآخر إلى ذلك الآخر.
وكتب أبو حسان إلى ذلك الرجل الاخير الذي وصلت إليه أخيرا يستقرض منه شيئا وهو لا يشعر بالامر، فأرسل إليه بالمائة في صرتها، فلما رآها تعجب من أمرها وركب إليه يسأله عن ذلك فذكر أن فلانا أرسلها إليه، فاجتمعوا الثلاثة واقتسموا المائة الدينار رحمهم الله وجزاهم عن مروءتهم خيرا.
وفيها توفي أبو مصعب الزهري أحد رواة الموطأ عن مالك، وعبد الله بن ذكوان أحد القراء المشاهير.
ومحمد بن أسلم الطوسي (2).
ومحمد بن رمح (3).
ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي أحد أئمة الجرح والتعديل.
والقاضي يحيى بن أكثم.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في الايمان 39 والبيوع (2) ومسلم في المساقاة ح (107 - 108) وأبو داود في البيوع باب (3)، والترمذي في البيوع (1) وابن ماجة في الفتن باب (14) والدارمي في البيوع.
والامام أحمد في المسند 4 / 267، 269، 271، 275.
(2) الزاهد صاحب المسند والاربعين سمع من يزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهما.
(3) أبو عبد الله التجيبي مولاهم المصري الحافظ.
قال ابن يونس: ثقة ثبت.
مات في شوال.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين في ذي القعدة منها توجه المتوكل على الله من العراق قاصدا مدينة دمشق ليجعلها له دار إقامة ومحلة إمامة فأدركه عيد الاضحى بها، وتأسف أهل العراق على ذهاب الخليفة من بين أظهرهم، فقال في ذلك يزيد بن محمد المهلبي: أظن الشام تشمت بالعراق * إذا عزم الامام على انطلاق فإن يدع العراق وساكنيها * فقد تبلى المليحة بالطلاق وحج بالناس فيها الذي حج بهم في التي قبلها وهو نائب مكة.
وفيها توفي من الاعيان كما قال ابن جرير: إبراهيم بن العباس متولي ديوان الضياع.
قلت: هو إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي (1) الشاعر الكاتب، وهو عم محمد بن يحيى الصولي، وكان جده صول بكر ملك جرجان وكان أصله منها، ثم تمجس ثم أسلم على يدي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، ولابراهيم هذا ديوان شعر ذكره ابن خلكان واستجاد من شعره أشياء منها قوله: ولرب نازلة يضيق بها الفتى * ذرعا وعند الله منها مخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكنت أظنها (2) لا تفرج ومنها قوله (3): كنت السواد لمقلتي * فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت * فعليك كنت أحاذر ومن ذلك ما كتب به إلى وزير المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات
__________
(1) أبو محمد المروزي ثم البغدادي أحد أعلام الدنيا.
ترجمته في: أخبار القضاة وكيع 2 / 161 طبقات الحنابلة 1 / 140 النجوم الزاهرة 2 / 217 - 308 عبر الذهبي 1 / 439 مرآة الجنان 2 / 135 ميزان الاعتدال 4 / 361 شذرات الذهب 2 / 101.
(2) في الوفيات 1 / 46 وكان يظنها.
(3) قال الابيات في رثاء ابن له اعتل ولم تطل علته فمات فجزع عليه جزعا شديدا ورثاه بمراث كثيرة منها هذين البيتين.
(الاغاني 10 / 49).
وكنت أخي بإخاء الزمان * فلما ثنى (1) صرت حربا عوانا وكنت أذم إليك الزمان * فأصبحت منك (2) أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات * فها أنا (3) أطلب منك الامانا وله أيضا: لا يمنعنك خفض العيش في دعة * نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد إن حللت بها * أهلا بأهل وأوطانا بأوطان (4) كانت وفاته بمنتصف شعبان من هذه السنة.
بسر من رأى.
والحسن بن مخلد بن الجراح خليفة إبراهيم في شعبان.
قال: ومات هاشم بن فيجور في ذي الحجة.
قلت: وفيها توفي أحمد بن سعيد الرباطي (5).
والحارث بن أسد المحاسبي.
أحد أئمة الصوفية.
وحرملة بن يحيى التجيبي صاحب الشافعي.
وعبد الله بن معاوية الجمحي (6).
ومحمد بن عمر العدني (7) وهارون بن عبد الله الحماني (8) وهناد بن السري (9).
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين في صفر منها دخل الخليفة المتوكل إلى مدينة دمشق في أبهة الخلافة وكان يوما مشهودا، وكان عازما على الاقامة بها، وأمر بنقل دواوين الملك إليها، وأمر ببناء القصور بها فبنيت بطريق داريا، فأقام بها مدة، ثم إنه استوخمها ورأى أن هواءها بارد ندي وماءها ثقيل بالنسبة إلى هواء العراق ومائة، ورأى
الهواء بها يتحرك من بعد الزوال في زمن الصيف، فلا يزال في اشتداد وغبار إلى قريب من ثلث الليل،
__________
(1) في الاغاني: 10 / 57 والوفيات 1 / 46: نبا.
(2) في الاغاني: فيك.
(3) في الاغاني: فأصبحت.
(4) في الوفيات 1 / 46: وجيرانا بجيران.
والبيتان في ديوانه ص 151.
وفي ديوان مسلم بن الوليد الانصاري، وهما في شرح التبريزي 3 / 115 دون عزو.
(5) الحافظ سمع وكيعا حدث عنه الائمة سوى ابن ماجه وكان علامة مفيدا متقنا.
(6) البصري روى عن القاسم بن الفضل الحداني والحمادين.
ثقة صاحب حديث.
(7) أبو عبد الله.
قال مسلم وغيره: هو حجة صدوق.
(8) أبو موسى البغدادي البزاز المعروف بالحمال سمع عبد الله بن نمير وابن أبي فديك وطبقتهما.
(9) الحافظ الزاهد القدوة.
أبو السري الدارمي الكوفي صاحب كتاب الزهد روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا البخاري.
ورأى كثرة البراغيث بها، ودخل عليه فصل الشتاء فرأى من كثرة الامطار والثلوج أمرا عجيبا، وغلت الاسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه، وانقطعت الاجلاب بسبب كثرة الامطار والثلوج، فضجر منها ثم جهز بغا إلى بلاد الروم، ثم رجع من آخر السنة إلى سامرا بعد ما أقام بدمشق شهرين وعشرة أيام، ففرح به أهل بغداد فرحا شديدا.
وفيها أتى المتوكل بالحربة التي كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بها فرحا شديدا، وقد كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد وغيره (1)، وقد كانت للنجاشي فوهبها للزبير بن العوام، فوهبها الزبير للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المتوكل أمر صاحب الشرطة أن يحملها بين يديه كما كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها غضب المتوكل على الطبيب بختيشوع ونفاه وأخذ ماله (2).
وحج بالناس فيها عبد الصمد المتقدم ذكره قبلها.
واتفق في هذه السنة يوم عيد الاضحى وخميس فطر اليهود وشعانين النصارى وهذا عجيب غريب.
وفيها توفي أحمد بن منيع (3).
وإسحاق بن موسى الخطمي (4).
وحميد بن مسعدة (5).
وعبد الحميد بن بيان (6).
وعلي بن حجر (7).
والوزير محمد بن عبد الملك الزيات.
ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين فيها أمر المتوكل ببناء مدينة الماحوزة وحفر نهرها، فيقال إنه أنفق على بنائها وبناء قصر الخلافة بها الذي يقال له " اللؤلؤة " ألفي ألف دينار.
وفيها وقعت زلازل كثيرة في بلاد شتى، فمن ذلك بمدينة إنطاكية سقط فيها ألف وخمسمائة دار، وانهدم من سورها نيف وتسعون برجا، وسمعت من كوى دورها أصوات مزعجة جدا فخرجوا من منازلهم سراعا يهرعون، وسقط الجبل الذي إلى جانبها الذي يقال له الاقرع فساخ في البحر، فهاج البحر عند ذلك وارتفع دخان أسود مظلم منتن، وغار نهر على فرسخ منها فلا يدرى أين ذهب.
ذكر أبو جعفر بن جرير قال: وسمع فيها أهل تنيس ضجة دائمة
__________
(1) وكانت تسمى العنزة (الطبري - ابن الاثير -).
(2) نفاه إلى البحرين.
وقال اعرابي في ذلك: (الطبري 11 / 56): رمى به في موحش القفار * بساحل البحرين للصغار (3) أبو جعفر البغوي الاصم الحافظ الكبير صاحب المسند.
أحد الثقات المشهورين مات ببغداد في شوال.
(4) أبو موسى قاضي نيسابور.
كان كثير الاسفار أثنى عليه أبو حاتم الرازي ومات بجوسية من أعمال حمص.
(5) المبارك السلمي البصري، حمدويه، روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا البخاري.
(6) أبو الحسن السكري الواسطي روى عن خالد الطحان وهشيم فأكثر.
وفي الاصل سنان، وما أثبتناه من تقريب التهذيب.
(7) أبو الحسن السعدى المروزي نزيل نيسابور مات وله تسعون سنة.
كان من الثقات الاحيار.
طويلة مات منها خلق كثير.
قال: وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وطرسوس والمصيصة، وأذنة وسواحل الشام، ورجفت اللاذقية بأهلها فما بقي منها منزل إلا انهدم،
وما بقي من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.
وفيها غازت مشاش - عين - مكة حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما.
ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالا جزيلا حتى خرجت.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل (1) وسوار بن عبد الله القاضي، وهلال الرازي.
وفيها هلك نجاح بن سلمة وقد كان على ديوان التوقيع.
وقد كان حظيا عند المتوكل، ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل أمواله وأملاكه وحواصله، وقد أورد قصته ابن جرير مطولة.
وفيها توفي أحمد بن عبدة الضبي (2)، وأبو الحيس القواس مقري مكة، وأحمد بن نصر النيسابوري.
وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى بن بنت السدي (3).
وذو النون المصري، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم (4)، ومحمد بن رافع (5)، وهشام بن عمار (6)، وأبو تراب النخشبي (7).
وابن الراوندي الزنديق، وهو أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين بن الراوندي، نسبة إلى قرية ببلاد قاشان ثم نشأ ببغداد، كان بها يصنف الكتب في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين ومائتين وإنما ذكرناه ههنا لان ابن خلكان ذكر أنه توفي في هذه السنة، وقد تلبس عليه ولم يجرحه بل مدحه فقال: هو أبو الحسين أحمد بن إسحاق الراوندي العالم المشهور، له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشرة كتابا، منها فضيحة المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب، وغير ذلك.
وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكلام
__________
(1) المروزي الحافظ كان من كبار المحدثين.
قال ابن ناصر الدين ثقة.
مات ببغداد في شوال.
(2) سمع حماد بن زياد والكبار وروى الكثير مات بالبصرة.
(3) الفزاري الكوفي المحدث روى عن مالك وطبقته خرج له أبو داود والترمذي وغيرهما.
(4) قاضي دمشق والاردن روى عنه البخاري وغيره.
قال أبو داود: لم يكن في زمانه مثله.
مات وله 75 سنة.
(5) أبو عبد الله القشيري مولاهم النيسابوري الحافظ روى عنه الشيخان وغيرهما وكان ثقة زاهدا صالحا.
(6) أبو الوليد السلمي خطيب دمشق وقارئها وفقيهها ومحدثها.
قال في المغني: ثقة مكثر له ما ينكر.
وقال أبو حاتم: صدوق.
مات في المحرم وله 92 سنة.
(7) واسمه عسكر بن الحصين من كبار المشايخ كتب الحديث الكثير.
واجتمع بالامام أحمد في بغداد.
توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل ببغداد.
نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهو غلط.
وإنما أرخ ابن الجوزي وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين كما سيأتي له هناك ترجمة مطولة.
ذو النون المصري ثوبان بن إبراهيم، وقيل ابن الفيض بن إبراهيم، أبو الفيض المصري أحد المشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات، وذكر شيئا من فضائله وأحواله، وأرخ وفاته في هذه السنة، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة ثمان وأربعين ومائتين فالله أعلم.
وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن مالك.
وذكره ابن يونس في تاريخ مصر، قال: كان أبوه نوبيا، وقيل إنه كان من أهل إخميم، وكان حكيما فصيحا، قيل وسئل عن سبب توبته فذكر أنه رأى قبرة عمياء نزلت من وكرها فانشقت لها الارض عن سكرجتين من ذهب وفضة في إحداهما سمسم وفي الاخرى ماء، فأكلت من هذه وشربت من هذه.
وقد شكى عليه مرة إلى المتوكل فأحضره من مصر إلى العراق، فلما دخل عليه وعظه فأبكاه، فرده مكرما.
فكان بعد ذلك إذا ذكر عند المتوكل يثني عليه.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين في يوم عاشوراء منها دخل المتوكل الماحوزة فنزل بقصر الخلافة فيها، واستدعى بالقراء ثم بالمطربين وأعطى وأطلق، وكان يوما مشهودا، وفي صفر منها وقع الفداء بين المسلمين والروم، ففدي من المسلمين نحو من أربعة آلاف أسير (1).
وفي شعبان منها أمطرت بغداد مطرا عظيما استمر نحوا من أحد وعشرين يوما، ووقع بأرض مطر ماؤه دم عبيط.
وفيها حج بالناس محمد بن سليمان
الزينبي، وحج فيها من الاعيان محمد بن عبد الله بن طاهر وولي أمر الموسم.
وممن توفي فيها من الاعيان أحمد بن إبراهيم الدورقي (2).
والحسين (3) بن أبي الحسن المروزي.
وأبو عمرو الدوري (4).
أحد القراء المشاهير.
ومحمد بن مصفى الحمصي (5).
__________
(1) في الطبري 11 / 60 وابن الاثير 7 / 93: فودي ألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفسا.
(2) أبو عبد الله العبدي البغدادي الحافظ الثقة سمع جرير بن عبد الحميد وطبقته وصنف التصانيف الحسنة المفيدة.
(3) في تقريب التهذيب: الحسين بن الحسن، أبو عبد الله المروزي نزيل مكة.
سمع من هشيم والكبار، صدوق.
(4) شيخ المقرئين في عصره واسمه حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان.
وكان صدوقا قرأ عليه خلق كثير (5) ابن بهلول، له أوهام وكان يدلس.
صدوق.
ودعبل بن علي ابن رزين بن سليمان الخزاعي، مولاهم الشاعر الماجن البليغ في المدح، وفي الهجاء أكثر.
حضر يوما عند سهل بن هارون الكاتب كان بخيلا، فاستدعى بغدائه فإذا ديك في قصعة، وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة، ولا يعمل فيه ضرس.
فلما حضر بين يديه فقد رأسه فقال للطباخ ويلك، ماذا صنعت ؟ أين رأسه، قال: ظننت أنك لا تأكله فألقيته، فقال: ويحك: والله إني لاعيب على من يلقي الرجلين فكيف بالرأس وفيه الحواس الاربع، ومنه يصوت وبه، فضل عينيه وبهما يضرب المثل، وعرفه وبه يتبرك، وعظمه أهني العظام، فإن كنت رغبت عن أكله فأحضره.
فقال: لا أدري أين هو ؟ فقال: بل أنا أدري، هو في بطنك قاتلك الله.
فهجاه بأبيات ذكر فيها بخله ومسكه.
أحمد بن أبي الحواري واسمه (1) عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث أبو الحسن التغلبي الغطفاني، أحد العلماء الزهاد المشهورين، والعباد المذكورين، والابرار المشكورين، ذوي الاحوال الصالحة، والكرامات الواضحة، أصله من الكوفة وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما الله.
وروى الحديث عن سفيان بن عيينة ووكيع وأبي أسامة وخلق.
وعنه أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم وأبو زرعة
الدمشقي، وأبو زرعة الرازي وخلق كثير.
وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه.
وقال يحيى بن معين: إني لاظن أن الله يسقي أهل الشام به.
وكان الجنيد بن محمد يقول: هو ريحانة الشام.
وروى ابن عساكر أن كان قد عاهد أبا سليمان الداراني ألا يغضبه ولا يخالفه، فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال: يا سيدي هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر ؟ فلم يرد عليه أبو سليمان، لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد ثانية، وقال له في الثالثة: اذهب فاقعد فيه.
ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره: إني قلت لاحمد: اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك، فقوموا بنا إليه.
فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور ولم يحترق منه شئ ولا شعرة واحدة.
وروي أيضا أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا يملك شيئا يصلح به الولد، فقال لخادمه: اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق، فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه، فدخل عليه رجل في تلك الساعة فقال: يا أحمد إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك شيئا، فرفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي هكذا بالعجلة.
ثم قال للرجل: خذ هذه الدراهم، فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئا، واستدان لاهله دقيقا.
وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لاجل الرباط
__________
(1) أي اسم أبي الحواري والد أحمد.
وفي صفة الصفوة اسم أبى الحواري: ميمون.
فما زالت الهدايا تفد إليه من بكرة النهار إلى الزوال، ثم فرقها كلها إلى وقت الغروب ثم قال لي: كن هكذا لا ترد على الله شيئا، ولا تدخر عنه شيئا.
ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عين فيها أحمد بن أبي الحواري وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة، ثم هدد فأجاب تورية مكرها، ثم أطلق رحمه الله.
وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الآية (إياك نعبد وإياك نستعين) [ الفاتحة: 5 ] حتى أصبح.
وقد ألقى كتبه في البحر وقال: نعم الدليل كنت لي على الله وإليه، ولكن الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال.
ومن كلامه لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة.
وقال: من عرف الدنيا زهد
فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه.
وقال: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه.
وقال: قلت لابي سليمان في ابتداء أمري: أوصني، فقال: اتستوص أنت ؟ فقلت نعم إن شاء الله تعالى.
فقال: خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الامارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك المسلمين، واجعل طاعة الله دثارا، والخوف منه شعارا، والاخلاص له زادا، والصدق حسنة، واقبل مني هذه الكلمة والواحدة ولا تفارقها ولا تغفل عنها: من استحيى من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله، بلغه الله إلى مقام الاولياء من عباده.
قال فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها.
والصحيح أنه توفي في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاثين ومائتين، وقيل غير ذلك فالله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين في شوال منها كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيما بليغا، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان.
فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره وحضرته وشربه، ثم تمالا ولده المنتصر وجماعة من الامراء على الفتك به فدخلوا عليه ليلة الاربعاء لاربع خلون من شوال، ويقال من شعبان من هذه السنة، وهو على السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه ثم ولوا بعده ولده المنتصر (1).
__________
(1) في رواية للمسعودي في مروج الذهب: أن المتوكل كان قد عزم على تفريق جمع الاتراك، فعملوا على قتله: شكا يوما حرارة فأراد الحجامة، فقصده الطيفوري الطبيب بمشراط مسموم.
(4 / 153).
ترجمة المتوكل على الله
جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أم ولد يقال لها شجاع، وكانت من سروات النساء سنحا وحزما.
كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين.
وقد روى الخطيب من طريقه عن يحيى بن أكثم، عن محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن الاعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حرم الرفق حرم الخير " (1).
ثم أنشأ المتوكل يقول: الرفق يمن والاناة سعادة * فاستأن في رفق تلاق نجاحا لا خير في حزم بغير روية * والشك وهن إن أردت سراحا وقال ابن عساكر في تاريخه: وحدث عن أبيه المعتصم ويحيى بن أكثم القاضي.
وروى عنه علي بن الجهم الشاعر، وهشام بن عمار الدمشقي، وقدم المتوكل دمشق في خلافته وبنى بها قصرا بأرض داريا.
وقال يوما لبعضهم: إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني.
وقال أحمد بن مروان المالكي: ثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل.
فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا ؟ فقال: يا أمير المؤمنين بلى ! ولكن في بصره سوء.
فقال أحمد بن المعذل: يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (2).
فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.
وروى الخطيب أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما فأنشده قصيدته التي يقول فيها: وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها فأعطاه التي في يمينه وكانت تساوي مائة ألف.
ثم أنشده: بسر من رأى أمير * تغرف من بحره البحار يرجى ويخشى لكل خطب * كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه * ما اختلف الليل والنهار
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة ح (74 - 76) وابن ماجه في الادب.
باب (9) والامام أحمد في المسند 4 / 362، 366.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الادب.
باب (13).
يداه في الجود ضرتان * عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئا * إلا أتت مثله اليسار قال: فأعطاه التي في يساره أيضا.
قال الخطيب: وقد رويت هذه الابيات لعلي بن هارون البحتري في المتوكل.
وروى ابن عساكر عن علي بن الجهم قال: وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك ثم أنشأ يقول: وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا * بنفسي تحط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطرا (1) من المسك خدها * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا فيا من مناها في السريرة جعفر * سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا (2) ويا من لمملوك بملك يمينه * مطيع له فيما أسر وأظهرا قال ثم أمر المتوكل عربا فغنت به.
وقال الفتح بن خاقان: دخلت يوما على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر فقلت: يا أمير المؤمنين ما لك مفكر ؟ فوالله ما على الارض أطيب منك عيشا، ولا أنعم منك بالا.
قال: بلى أطيب مني عيشا له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.
وكان المتوكل محببا إلى رعيته قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لانه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين.
وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية.
وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال فقلت: المتوكل ؟ قال: المتوكل.
قلت: فما فعل بك ربك ؟ قال: غفر لي.
قلت: بماذا ؟ قال: بقليل من السنة أحييتها.
وروى
الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء وقائلا يقول: ملك يقاد إلى مليك عادل * متفضل في العفو ليس بحائر وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال: رأيت ليلة المتوكل قائلا يقول: يا نائم العين في أوطان جثمان * أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 144: خطا...من الوجد أسطرا (2) البيتان في مروج الذهب: فيا من لمملوك يظل مليكه * مطيعا له فيما أسر وأجهرا ويا من لعيني من رأى مثل جعفر سقى الله صوب المستهلات جعفرا
أما ترى الفئة الارجاس ما فعلوا * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان وافى إلى الله مظلوما فضج له * أهل السموات من مثنى ووحدان وسوف يأتيكم من بعده فتن * توقعوها لها شأن من الشان فآبكوا على جعفر وابكوا خليفتكم * فقد بكاه جميع الانس والجان قال: فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل فقلت: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي.
قلت بماذا ؟ قال: بقليل من السنة أحييتها.
قلت فما تصنع ههنا ؟ قال: أنتظر ابني محمدا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم.
وذكرنا قريبا كيفية مقتله وأنه قتل في ليلة الاربعاء أول الليل لاربع خلت من شوال من هذه السنة - أعني سنة سبع وأربعين ومائتين - بالمتوكلية وهي الماحوزية (1)، وصلي عليه يوم الاربعاء (2)، ودفن بالجعفرية وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة
أيام (3)..وكان أسمر حسن العينين نحيف الجسم خفيف العارضين أقرب إلى القصر والله سبحانه أعلم.
خلافة محمد المنتصر بن المتوكل قد تقدم أنه تمالا هو وجماعة من الامراء على قتل أبيه، وحين قتل بويع له بالخلافة في الليل، فلما كان الصباح من يوم الاربعاء رابع شوال أخذت له البيعة من العامة وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز، وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه (4)، ولكنه أكرهه وخاف فسلم وبايع.
فلما أخذت البيعة له كان أول ما تكلم به أنه اتهم الفتح بن خاقان على قتل أبيه، وقتل الفتح أيضا، ثم بعث البيعة له إلى الآفاق (5).
وفي ثاني يوم من خلافته ولى المظالم لابي عمرة أحمد بن سعيد مولى بني هاشم فقال الشاعر:
__________
(1) في ابن الاثير ومروج الذهب: الماخورية.
(2) قال ابن خلكان 1 / 350 عن الدولابي: دفن هو والفتح بن خاقان ولم يصل عليهما.
(3) في مروج الذهب 4 / 98: قتل وهو ابن 41 سنة كانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسع ليال (الوفيات 1 / 350).
(4) أخذ المتوكل على الله البيعة لاولاده سنة 235: المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد (انظر الطبري وابن الاثير حوادث سنة 235 ومروج الذهب 4 / 100 و 155 وقد تقدم ذلك في كتابنا انظر حوادث 235 ه).
(5) نسخة كتاب البيعة في الطبري 11 / 71.
يا ضيعة الاسلام لما ولي * مظالم الناس أبو عمره صير مأمونا على أمة * وليس مأمونا على بعره وكانت البيعة له بالمتوكلية، وهي المأحوزة، فأقام بها عشرة (1) أيام ثم تحول هو وجميع قواده وحشمه منها إلى سامرا.
وفيها في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد ووكل به.
وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن سعيد
الجوهري (2).
وسفيان بن وكيع بن الجراح، وسلمة بن شبيب (3).
وأبو عثمان المازني النحوي واسمه بكر بن محمد بن عثمان البصري شيخ النحاة في زمانه، أخذه عن أبي عبيدة والاصمعي وأبي زيد الانصاري وغيرهم، وأخذ عنه أبو العباس المبرد وأكثر عنه، وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن.
وكان شبيها بالفقهاء ورعا زاهدا ثقة مأمونا.
روى عنه المبرد أن رجلا من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار فامتنع من ذلك.
فلامه بعض الناس في ذلك فقال: إنما تركت أخذ الاجرة عليه لما فيه من آيات الله تعالى.
فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق: أظلوم إن مصابكم رجلا * رد السلام تحية ظلم فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت، وهل يكون رجلا مرفوعا أو منصوبا، وبم نصب ؟ أهو اسم أو ماذا ؟ وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا.
قال فأرسل الخليفة إليه، فلما مثل بين يديه قال له: أنت المازني ؟ قال: نعم.
قال: من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس ؟ فقلت من مازن ربيعة.
فأخذ يكلمني بلغتي، فقال: باسمك ؟ وهو يقلبون الباء ميما والميم باء، فكرهت أن أقول مكر فقلت: بكر، فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر، وعرف ما أردت.
فقال: على م انتصب رجلا ؟ فقلت: لانه معمول المصدر بمصابكم فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة فأطلق له الخليفة ألف دينار ورده إلى أهله مكرما.
فعوضه الله عن المائة الدينار - لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب لاجل ما فيه من القرآن - ألف دينار عشرة أمثالها.
روى المبرد عنه قال: أقرأت رجلا كتاب سيبويه إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره قال لي: أما أنت أيها الشيخ جزاك الله خيرا، وأما أنا فوالله ما فهمت منه حرفا.
توفي المازني في هذه السنة وقيل في سنة ثمان وأربعين.
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 148: سبعة أيام.
(2) أبو اسحاق البغدادي الحافظ كان من أركان الحديث مات مرابطا بعين زربة.
(3) أبو عبد الرحمن النيسابوري الحافظ الموثق روى عنه من الكبار أحمد بن حنبل وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري
مات في رمضان.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين فيها أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفا وجهز معه نفقات وعددا كثيرة، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه (1).
وفي ليلة السبت لسبع (2) بقين من صفر خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أنفسهما من الخلافة، وأشهدا عليهما بذلك (3)، وأنهما عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حل من بيعتهما، وذلك بعد ما تهددهما أخوهما المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك، ومقصوده تولية ابنه عبد الوهاب بإشارة أمراء الاتراك بذلك.
وخطب بذلك على رؤوس الاشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق (4) ليعلموا بذلك ويخطبوا له بذلك على المنابر، ويتوالى على محال الكتابة، والله غالب على أمره، فأراد أن يسلبهما الملك ويجعله في ولده، والاقدار تكذبه وتخالفه، وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة كان فيها حتفه، وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلما فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة.
فقصها على بعض المعبرين فقال: تلي خمسا وعشرين سنة الخلافة، وإذا هي مدة عمره قد استكملها في هذه السنة.
وقال بعضهم: دخلنا عليه يوما فإذا هو يبكي وينتحب شديدا، فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال: رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول: ويلك يا محمد قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة ثم مصيرك إلى النار.
قال: فما أملك عيني ولا جزعي.
فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم: هذه رؤيا وهي تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك.
فأمر بالشراب فأحضر وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما زال كذلك مكسورا حتى مات.
وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل إلى
دماغه عوجل بالموت، وقيل بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات، وقيل بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات، وقيل بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه (5).
قال ابن جرير: أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم فدعا تلميذا له حتى يقصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به وهو لا يشعر وأنسى الله سبحانه الحجام فما ذكر حتى رآه قد قصده به
__________
(1) نسخة الكتاب في الطبري 11 / 74.
(2) في رواية ابن الاثير 7 / 112: بعد أربعين يوما من خلافته (أي المنتصر) وانظر الطبري 11 / 78.
(3) أنظر الطبري 11 / 79 والكامل لابن الاثير 7 / 114.
(4) في الكامل 7 / 114: أشهدا على أنفسهما القضاة وبني هاشم والقواد ووجوه الناس وغيرهم (أنظر الطبري الطبري 11 / 77).
وتحكم فيه السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه.
وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له: كيف حالك ؟ فقال: ذهبت مني الدنيا والآخرة، ويقال إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة: فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها (1) * ولكن إلى الرب الكريم أصير فمات يوم الاحد لخمس بقين (2) من ربيع الآخر من هذه السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل وستة أشهر.
ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها.
وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة وغيرهم حين ولي المنتصر - إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لاجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لاجل الملك.
وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن، وهو أول خليفة من بني العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية.
ومن جيد كلامه قوله: والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه، ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه.
(3) أنظر الطبري 11 / 79 والكامل لابن الاثير 7 / 114.
(4) في الكامل 7 / 114: أشهدا على أنفسهما القضاة وبني هاشم والقواد ووجوه الناس وغيرهم (أنظر الطبري الطبري 11 / 77).
وتحكم فيه السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه.
وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له: كيف حالك ؟ فقال: ذهبت مني الدنيا والآخرة، ويقال إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة: فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها (1) * ولكن إلى الرب الكريم أصير فمات يوم الاحد لخمس بقين (2) من ربيع الآخر من هذه السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل وستة أشهر.
ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها.
وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة وغيرهم حين ولي المنتصر - إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لاجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لاجل الملك.
وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن، وهو أول خليفة من بني العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية.
ومن جيد كلامه قوله: والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه، ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه.
بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر وأوله خلافة أحمد المستعين بالله.
والله نسأل المعونة والتوفيق.
__________
(5) راجع الاختلاف في كيفية وفاته في تجارب الامم 6 / 56 وما بعدها، العقد الفريد 5 / 123 خلاصة الذهب المسبوك ص 228 تاريخ بغداد 2 / 219 الوافي بالوفيات 2 / 289.
(1) في الطبري 11 / 81: أخذتها.
(2) انظر حاشية 5 الصفحة السابقة
البداية والنهاية - ابن كثير ج 11
البداية والنهاية
ابن كثير ج 11
البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الحادى عشر دار إحياء التراث العربي
طبعة جديدة محققة الطبعة الاولى 1408 ه.
1988 م
بسم الله الرحمن الرحيم خلافة المستعين بالله وهو أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم.
بويع له بالخلافة يوم مات المنتصر، بايعه عموم الناس، ثم خرجت عليه شرذمة من الاتراك يقولون: يا معتز يا منصور (1).
فالتف عليهم خلق، وقام بنصر المستعين جمهور الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما فقتل منهم خلق من الفريقين، وانتهبت أماكن كثيرة من بغداد، وجرت فتن منتشرة كثيرة جدا، ثم استقر الامر للمستعين فعزل وولى وقطع ووصل، وأمر ونهى أياما ومدة غير طويلة.
وفيها مات بغا الكبير في جمادى الآخرة منها، فولى الخليفة مكانه ولده موسى بن بغا (2).
وقد كانت له همم عالية وآثار سامية، وغزوات في المشارق والمغارب متوالية وكان له من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار.
وترك عشر حبات حوهر (3) قيمتها
ثلاثة آلاف ألف دينار، وثلاث حبات سلا ذهبا وورق.
وفيها عدا أهل حمص على عاملهم (4) فأخرجوه من بين أظهرهم، فأخذ منهم المستعين مائة رجل من سراتهم وأمر بهدم سورهم.
وفيها حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن صالح (5).
والحسين بن علي الكرابيسي (6).
وعبد الجبار بن العلاء (7).
وعبد
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 117: نفير، يا منصور.
(2) وزاده على أعمال أبيه: ديوان البريد (الطبري - ابن الاثير).
(3) في الطبري 11 / 84: لؤلؤ، في الموضعين.
(4) وهو كيدر بن عبد الله (انظر الطبري - وابن الاثير).
(5) الحافظ المصري سمع ابن عيينة وابن وهب وخلقا وكان ثقة.
(6) الفقيه المتكلم أبو علي، تفقه على الشافعي كان متضلعا في الفقه والحديث ومعرفة الرجال والاصول.
=
الملك بن شعيب.
وعيسى بن حماد (1).
ومحمد بن حميد الرازي (2).
ومحمد بن زنبور (3).
ومحمد بن العلاء أبو كريب.
ومحمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي (4).
وأبو حاتم السجستاني واسمه سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي أبو حاتم النحوي اللغوي صاحب المصنفات الكثيرة وكان بارعا في اللغة.
اشتغل فيها على أبي عبيد والاصمعي، وأكثر الرواية عن أبي زيد الانصاري.
وأخذ عنه المبرد وابن دريد وغيرهما.
وكان صالحا كثير الصدقة والتلاوة، كان يتصدق كل يوم بدينار ويقرأ في كل أسبوع بختمة، وله شعر كثير منه قوله: أبرزوا وجهه الجميل * ولاموا من افتتن لو أرادوا صيانتي * ستروا وجهه الحسن كانت وفاته في المحرم، وقيل في رجب من هذه السنة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
في يوم الجمعة للنصف من رجب التقى جمع من المسلمين وخلق من الروم بالقرب من ملطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، قتل من الفريقين خلق كثير، وقتل أمير المسلمين عمر بن عبيد (5) الله بن الاقطع، وقتل معه ألفا رجل من المسلمين، وكذلك قتل علي بن يحيى الارمني، وكان أميرا في طائفة من المسلمين أيضا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد كان هذان الاميران من أكبر أنصار الاسلام.
ووقعت فتنة عظيمة ببغداد في أول يوم من صفر منها، وذلك أن العامة كرهوا جماعة من الامراء الذين قد تغلبوا على أمر الخلافة وقتلوا المتوكل واستضعفوا المنتصر والمستعين بعده فنهضوا إلى السجن فأخرجوا من كان فيه، وجاؤا إلى أحد الجسرين فقطعوه وضربوا الآخر بالنار، وأحرقوا ونادوا بالنفير
__________
= والكرابيس: الثياب الغلاظ.
(7) أبو بكر المصري ثم المكي العطار.
ثقة وصاحب حديث.
(1) التجيبي مولاهم المصري راوية الليث بن سعد.
(2) أبو عبد الله.
قال ابن شيبة: كثير المناكير، وقال البخاري فيه نظر وقال النسائي: ليس ثقة وقال أبو زرعة: يكذب (هذا ما قاله في المغني).
(3) من تقريب التهذيب، وفي الاصل: زينور بن أبي الازهر أبو صالح المكي واسم زنبور جعفر، صدوق.
(4) الكوفي القاضي.
قال العجلي: لا بأس به.
قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه.
وقال غيره.
صدوق.
(5) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل عبد الله .
فاجتمع خلق كثير وجم غفير، ونهبوا أماكن متعددة، وذلك بالجانب الشرقي من بغداد.
ثم جمع أهل اليسار أموالا كثيرة من أهل بغداد لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين لقتال العدو عوضا عن من قتل من المسلمين هناك، فأقبل الناس من نواحي الجبال وأهواز وفارس وغيرها لغزو الروم، وذلك أن الخليفة والجيش لم ينهضوا إلى بلاد الروم وقتال أعداء الاسلام، وقد ضعف جانب الخلافة واشتغلوا بالقيان والملاهي، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك وفعلوا ما ذكرنا.
ولتسع بقين من ربيع الاول
نهض عامة أهل سامرا إلى السجن فأخرجوا من فيه أيضا كما فعل أهل بغداد وجاءهم قوم من الجيش يقال لهم الزرافة فهزمتهم العامة، فعند ذلك ركب وصيف وبغا الصغير وعامة الاتراك فقتلوا من العامة خلقا كثيرا، وجرت فتن طويلة ثم سكنت.
وفي منتصف ربيع الآخر وقعت فتنة بين الاتراك وذلك أن المستعين قد فوض أمر الخلافة والتصرف في أموال بيت المال إلى ثلاثة وهم أتامش التركي، وكان أخص من عند الخليفة وهو بمنزلة الوزير، وفي حجره العباس بن المستعين يربيه ويعلمه الفروسية.
وشاهك الخادم، وأم الخليفة (1).
وكان لا يمنعها شيئا تريده، وكان لها كاتب يقال له سلمة بن سعيد النصراني.
فأقبل أتامش فأسرف في أخذ الاموال حتى لم يبق بيت المال شيئا، فغضب الاتراك من ذلك وغاروا منه فاجتمعوا وركبوا عليه وأحاطوا بقصر الخلافة وهو عند المستعين، ولم يمكنه منعه منهم ولا دفعهم عنه، فأخذوه صاغرا فقتلوه وانتبهو أمواله وحواصله ودوره، واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وولى بغا الصغير فلسطين، وولى وصيفا الاهواز، وجرى خبط كثير وشر كثير، ووهن الخليفة وضعف.
وتحركت المغاربة بسامرا في يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الآخرة، فكانوا يجتمعون فيركبون ثم يتفرقون.
وفي يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الاولى، وهو اليوم السادس عشر من تموز، مطر أهل سامرا مطرا عظيما برعد شديد، وبرق متصل وغيم منعقد مطبق والمطر مستهل كثير من أول النهار إلى اصفرار الشمس، وفي ذي الحجة أصاب أهل الري زلزلة شديدة جدا، وتبعتها رجفة هائلة تهدمت منها الدور ومات منها خلق كثير، وخرج بقية أهلها إلى الصحراء.
وفيها حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الامام وهو والي مكة.
وفيها توفي من الاعيان أيوب بن محمد الوزان.
والحسن بن الصباح البزار صاحب كتاب السنن ورجاء بن مرجا الحافظ.
وعبد بن حميد صاحب التفسير الحافل.
وعمرو بن علي الفلاس.
وعلي بن الجهم ابن بدر بن مسعود بن أسد (2) القرشي السامي من ولد سامة بن لؤي الخراساني ثم البغدادي،
__________
(1) وهي أم ولد صقلبية يقال لها مخارق.
(2) في الاغاني 10 / 203 ووفيات الاعيان 3 / 355: أسيد .
أحد الشعراء المشهورين وأهل الديانة المعتبرين.
وله ديوان شعر فيه أشعار حسنة، وكان فيه تحامل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان له خصوصية بالمتوكل ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان وأمر نائبه بها أن يضربه مجردا ففعل به ذلك، ومن مستجاد شعره: بلاء ليس يعدله بلاء * عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضا لم يصنه * ويرتع منك في عرض مصون (1) قال ذلك في مروان بن أبي حفصة حين هجاه فقال في هجائه له: لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر * وهذا علي بعده يدعى الشعرا ولكن أبي قد كان جار لامه * فلما ادعى الاشعار أوهمني أمرا كان علي بن الجهم قد قدم الشام ثم عاد قاصدا العراق، فلما جاوز حلب (2) ثار عليه أناس من بني كلب فقاتلهم فجرح جرحا بليغا فكان فيه حتفه، فوجد في ثيابه رقعة مكتوب فيها: يارحمتا للغريب بالبلد النا * زح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا * بالعيش من بعده وما انتفعا (3) كانت وفاته لهذا السبب في هذه السنة.
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين من الهجرة فيما كان ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين (4) بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم الحسين فاطمة بنت الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وذلك أنه أصابته فاقة شديدة فدخل سامرا فسأل وصيفا أن يجري عليه رزقا فأغلظ له القول.
فرجع إلى أرض الكوفة فاجتمع عليه خلق من الاعراب، وخرج إليه خلق من أهل الكوفة، فنزل على الفلوجة وقد كثر الجمع معه، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق إلى عامله بالكوفة - وهو أبو أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان - يأمره بقتاله.
ودخل يحيى بن عمر قبل ذلك في طائفة من أصحابه إلى الكوفة فاحتوى على بيت مالها فلم يجد فيه سوى ألفي دينار وسبعين ألف درهم، وظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأطلق من فيهما، وأخرج نواب الخليفة منها وأخذ أموالهم واستحوذ عليها، واستحكم أمره بها، والتف عليه خلق
__________
(1) ديوان علي بن الجهم ص 187 (2) في الاغاني: على مرحلة من حلب، بموضع يقال له خساف (انظر الطبري 11 / 86).
(3) البيتان في ديوانه: 154.
(4) في مروج الذهب 4 / 169 حسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الطيار أبو الحسن.
وفيه أن خروجه كان سنة 248 ه .
من الزيدية وغيره، ثم خرج من الكوفة إلى سوادها ثم كر راجعا إليها، فتلقاه عبد الرحمن بن الخطاب الملقب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا فانهزم وجه الفلس ودخل يحيى بن عمر الكوفة ودعا إلى الرضى من آل محمد، وقوي أمره جدا، وصار إليه جماعة كثيرة من أهل الكوفة، وتولاه أهل بغداد من العامة وغيرهم ممن ينسب إلى التشيع، وأحبوه أكثر من كل من خرج قبله من أهل البيت، وشرع في تحصيل السلاح وإعداد آلات الحرب وجمع الرجال.
وقد هرب نائب الكوفة منها إلى ظاهرها، واجتمع إليه أمداد كثيرة من جهة الخليفة مع محمد بن عبد الله بن طاهر، واستراحوا وجمعوا خيولهم، فلما كان اليوم الثاني عشر من رجب أشار من أشار على حيى بن عمر ممن لا رأي له، أن يركب ويناجز الحسين بن إسماعيل ويكبس جيشه، فركب في جيش كثير من خلق من الفرسان والمشاة أيضا من عامة أهل الكوفة بغير أسلحة، فساروا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا في ظلمة آخر الليل، فما طلع الفجر إلا وقد انكشف أصحاب يحييب بن عمر، وقد تقنطر به فرسه ثم طعن في ظهره فخر أيضا، فأخذوه وحزوا رأسه وحملوه إلى الامير فبعثوه إلى ابن طاهر فأرسله إلى الخليفة من الغد مع رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب، فنصب بسامرا ساعة من النهار ثم بعث به إلى بغداد فنصب عند الجسر، ولم يمكن نصبه من كثرة
العامة فجعل في خزائن السلاح.
ولما جئ برأس يحيى بن عمر إلى محم بن عبد الله بن طاهر دخل الناس يهنونه بالفتح والظفر، فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فقال له: أيها الامير ! إنك لتهنى بقتل رجل لو كان رسول الله حيا لعزي به، لما رد عليه شيئا ثم خرج أبو هشام الجعفري وهو يقول: يا بني طاهر كلوه وبيا * إن لحم النبي غير مري إن وترا يكون طالبه الل * ه لوتر نجاحه (1) بالحري وكان الخليفة قد وجه أميرا إلى الحسين بن إسماعيل نائب الكوفة، فلما قتل يحيى بن عمر دخلوا الكوفة فأراد ذلك الامير أن يضع في أهلها السيف فمنعه الحسين وأمن الاسود والابيض، وأطفأ الله هذه الفتنة.
فلما كان رمضان من هده السنة خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن (2) بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان، وكان سبب خروجه أنه لما قتل يحيى بن عمر أقطع المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر طائفة من أرض تلك الناحية، فبعث كاتبا له يقال له جابر بن هارون، وكان نصرانيا، ليتسلم تلك الاراضي، فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جدا وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا فجاء إليهم فبايعوه والتف عليه جملة الديلم وجماعة الامراء في تلك النواحي،
__________
* (1) في مروج الذهب: لوتر بالفوت غير حري (2) من الطبري ومروج الذهب وابن الاثير، وفي الاصل الحسين
فركب فيهم ودخل آمل طبرستان وأخذها قهرا، وجبى خراجها، واستفحل أمره جدا، ثم خرج منها طالبا لقتال سليمان بن عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروب ثم انهزم سليمان هزيمة منكرة، وترك أهله وماله ولم يرجع دون جرجان فدخل الحسن بن زيد سارية فأخذ ما فيها من الاموال والحواصل، وسير أهل سليمان إليه مكرمين على مراكب، واجتمع للحسن بن زيد إمرة طبرستان بكمالها.
ثم بعث إلى الري فأخذها أيضا وأخرج منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان ولما
بلغ خبره المستعين - وكان مدير ملكه يومئذ وصيف التركي - اغتم لذلك جدا واجتهد في بعض الجيوش والامداد لقتال الحسن بن زيد هذا.
وفي يوم عرفة منها ظهر بالري أحمد بن عيسى بن حسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى (1) بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فصلى بالناس يوم العيد أحمد بن عيسى هذا ودعا إلى الرضى من آل محمد، فحاربه محمد بن علي بن طاهر فهزمه أحمد بن عيسى هذا واستفحل أمره.
وفيها وثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه في رجب، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير فاقتتلوا بأرض الرستن فهزمهم وقتل جماعة من أهلها وأحرق أماكن كثيرة منها، وأسر أشراف أهلها.
وفيها وثبت الشاكرية والجند في أرض فارس على عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فهرب منهم فانتهبوا داره وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن.
وفيها غضب الخليفة على جعفر بن عبد الواحد ونفاه إلى البصرة.
وفيها أسقطت مرتبة جماعة من الامويين في دار الخلافة.
وفيها حج بالناس جعفر بن الفضل أمير مكة.
وفيها توفي من الاعيان أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح (2)، والبزي (3) أحد القراء المشاهير.
الحارث بن مسكين (4).
وأبو حاتم السجستاني.
وقد تقدم ذكره في التي قبلها وعياد بن يعقوب الرواجني (5) وعمرو بن بحر الجاحظ صاحب الكلام والمصنفات.
وكثير ين عبيد الحمصي (6).
ونصر بن علي الجهضمي (7).
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: موسى بن عبد الله بن حسن.
(2) في النجوم الزاهرة المطبوع " السراج " خطأ، وهو مولى بني أميه، الفقيه روى عنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه (3) واسمه أحمد بن محمد، أبو الحسن، مؤذن المسجد الحرام وشيخ الاقراء.
قال الذهبي في المغني: ثقة في القراءة.
قال العقيلى: منكر الحديث.
(4) أبو عمرو قاضي الديار المصرية فقيها على مذهب مالك ثقة ثبتا في الحديث مات وله 96 سنة.
(5) الكوفي الحافظ الحجة سمع من شريك والوليد بن أبي ثور والكبار، صدوق قاله ابن خزيمة.
(6) المذحجي إمام جامع حمص كان عبدا صالحا حدث عن ابن عيينة وبقية.
(7) أبو عمر البصري الحافظ الثقة أحد أوعية العلم روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم .
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين فيها اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي، وكان من قواد الامراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل، وقد اتسع إقطاعه وكثر عماله، فقتل ونهبت دار كتابه دليل بن يعقوب النصراني، ونهبت أمواله وحواصله، وركب الخليفة في حراقة من سامرا إلى بغداد فاضطربت الامور بسبب خروجه، وذلك في المحرم.
فنزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر.
وفيها وقعت فتنة شنعاء بين جند بغداد وجند سامرا، ودعا أهل سامرا إلى بيعة المعتز، واستقر أمر أهل بغداد على المستعين، وأخرج المعتز وأخوه المؤيد من السجن فبايع أهل سامرا المعتز واستحوذ على حواصل بيت المال بها فإذا بها خمسمائة ألف دينار، وفي خزانة أم المستعين ألف ألف دينار، وفي حواصل العباس بن المستعين ستمائة ألف دينار، واستفحل أمر المعتز بسامرا.
وأمر المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد ويعمل في السورين والخندق، وغرم على ذلك ثلثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، ووكل بكل باب أميرا يحفظه، ونصب على السور خمسة مناجيق (1)، منها واحد كبير جدا، يقال له الغضبان، وست عرادات وأعدوا آلات الحرب والحصار والعدد، وقطعت القناطر من كل ناحية لئلا يصل الجيش إليهم.
وكتب المعتز إلى محمد بن علي بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه في أمره، ويذكره ما كان أخذه عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق، من أنه ولي العهد بعده (2)، فلم يلتفت إليه بل رد عليه واحتج بحجج يطول ذكرها.
وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا الكبير وهو مقيم بأطراف الشام لحرب أهل.
حمص يدعوه إلى نفسه وبعث إليه بألوية يعقدها لمن اختار من أصحابه، وكتب إليه المستعين يأمره بالمسير إليه إلى بغداد ويأمره أن يستنيب في عمله، فركب مسرعا فسار إلى سامرا فكان مع المعتز على المستعين.
وكذلك هرب عبد الله بن بغا الصغير من عند أبيه من بغداد إلى المعتز، وكذلك غيره من الامراء والاتراك.
وعقد المعتز لاخيه أبي أحمد بن المتوكل على حرب المستعين
وجهز معه جيشا لذلك، فسار في خمسة آلاف من الاتراك وغيرهم نحو بغداد، وصلى بعكبرا يوم الجمعة، ودعا لاخيه المعتز.
ثم وصل إلى بغداد ليلة الاحد لسبع لخون من صفر فاجتمعت العساكر هنالك، وقد قال رجل يقال له باذنجانة كان في عسكر أبي أحمد: يا بني طاهر جنود الل * ه والموت بينها منثور (3) وجيوش أمامهن (4) أبو أحم * د نعم المولى ونعم النصير
__________
(1) في الطبري: مجانيق، وفي ابن الاثير: منجنيقات.
(2) تقدم أن المتوكل أخذ البيعة لاولاده: المنتصر وبعده المعتز ثم المؤيد (انظر الطبري - ابن الاثير ومروج الذهب).
(3) البيت في ابن الاثير 7 / 145 والطبري 11 / 103: يا بني طاهر أتتكم.
في ابن الاثير: مشهور.
(4) في ابن الاثير: إمامهم .
ثم جرت بينهما حروب طويلة وفتن مهولة جدا قد ذكرها ابن جرير مطولة، ثم بعث المعتز مع موسى بن ارشناس ثلاثة آلاف مددا لاخيه أبي أحمد فوصلوا لليلة بقيت من ربيع الاول فوقفوا في الجانب الغربي عند باب قطر بل، وأبو أحمد وأصحابه على باب الشماسية، والحرب مستعرة والقتال كثير جدا، والقتل واقع.
قال ابن جرير.
وذكر أن المعتز كتب إلى أخيه أبي أحمد يلومه على التقصير في قتال أهل بغداد فكتب إليه أبو أحمد: لامر المنايا علينا طريق * وللدهر فينا اتساع وضيق وأيامنا عبر للانام * فمنها البكور ومنها الطروق ومنها هنات تشيب الوليد * ويخذل فيها الصديق الصديق (1) وسور عريض له (2) ذروة * تفوت العيون وبحر عميق قتال مبيد وسيف عتيد * وخوف شديد وحصن وثيق
وطول صياح لداعي الصباح ال * سلاح السلاح فما يستفيق فهذا طريح (3) وهذا جريح * وهذا حريق وهذا غريق وهذا قتيل وهذا تليل * وآخر يشدخه المنجنيق هناك اغتصاب وثم انتهاب * ودور خراب وكانت تروق إذا ما سمونا إلى مسلك * وجدناه قد سد عنا الطريق فبالله نبلغ ما نرتجيه * وبالله ندفع ما لانطيق قال ابن جرير: هذا الشعر ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، وقد استمرت الفتنة والقتال ببغداد بين أبي أحمد أخي المعتز وبين محمد بن عبد الله بن طاهر نائب المستعين، والبلد محصور وأهله في ضيق شديد جدا، بقية شهور هذه السنة، وقتل من الفريقين خلق كثير في وقعات متعددات، وأيام نحسات، فتارة يظهر أصحاب أبي أحمد ويأخذون بعض الابواب فتحمل عليهم الطاهرية فيزيحونهم عنها، ويقتلون منهم خلقا ثم يتراجعون إلى مواقفهم ويصابرونهم مصابرة عظيمة.
لكن أهل بغداد كلما هم إلى ضعف بسبب قلة الميرة والجلب إلى داخل البلد، ثم شاع بين العامة أن محمد بن عبد الله بن طاهر يريد أن يخلع المستعين ويبايع للمعتز، وذلك في أواخر السنة، فتنصل من ذلك واعتذر إلى الخليفة وإلى العامة.
وحلف بالايمان الغليظة فلم تبرأ ساحته من ذلك حق البراءة عند العامة، واجتمعت العامة والغوغاء إلى دار ابن طاهر والخليفة نازل بها، فسألوا أن يبرز لهم الخليفة ليروه ويسألوه عن ابن طاهر أهو راض عنه أم لا.
وما زالت الضجة والاصوات مرتفعة حتى برز لهم الخليفة من فوق المكان الذي هم فيه وعليه السواد ومن فوقه البردة النبوية وبيده القضيب
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 152: الصدوق.
والقافية فيه وفي الطبري " بالرفع ".
(2) في ابن الاثير.
وفتنة دين لها..(3) في الطبري: قتيل
وقال لهم فيما خاطبهم به: أقسمت عليكم بحق صاحب هذه البردة والقضيب لما رجعتم إلى منازلكم
ورضيتم عن ابن طاهر فإنه غير متهم لدي.
فسكت الغوغاء ورجعوا إلى منازلهم، ثم انتقل الخليفة من دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم (1)، وذلك في أوائل ذي الحجة، وصلى بهم العيد يوم الاضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وبرز الخليفة يومئذ للناس وبين يديه الحربة وعليه البردة وبيده القضيب وكان يوما مشهودا ببغداد على ما بأهلها من الحصار والغلاء بالاسعار، وقد اجتمع على الناس الخوف والجوع المترجمان لباس الخوع والخوف، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
ولما تفاقم الامر واشتد الحال وضاق المجال وجاع العيال وجهد الرجال، جعل ابن طاهر يظهر ما كان كامنا في نفسه من خلق المستعين، فجعل يعرض له في ذلك ولا يصرح، ثم كاشفه به وأظهره له وناظره فيه وقال له: إن المصلحة تقتضي أن تصالح عن الخلافة على مال تأخذه سلفا وتعجيلا، وأن يكون لك من الخراج في كل عام ما تختاره وتحتاجه، ولم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجاب إلى ذلك وأناب.
فكتب فيما اشترطه المستعين في خلعه نفسه من الخلافة كتابا، فلما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة ركب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى الرصافة وجمع القضاة والفقهاء وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا يشهدون عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وكذلك جماعة الحجاب والخدم، ثم تسلم منه جوهر الخلافة، وأقام عند المستعين إلى هوي من الليل.
وأصبح الناس يذكرون ويتنوعون فيما يقولون من الاراجيف.
وأما ابن طاهر فإنه أرسل بالكتاب مع جماعة من الامراء إلى المعتز بسامرا، فلما قدموا عليه بذلك أكرمهم وخلع عليهم وأجازهم فأسنى جوائزهم.
وسيأتي ما كان من أمره أول السنة الداخلة.
وفيها كان ظهور رجل من أهل البيت أيضا بأرض قزوين وزنجان في ربيع الاول منها، وهو الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الارقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ويعرف بالكوكبي (2).
وسيأتي ما كان من أمره هناك.
وفيها خرج إسماعيل بن يوسف العلوي، وهو ابن أخت موسى بن عبيد الله الحسني، وسيأتي ما كان من أمره أيضا.
وفيها خرج بالكوفة ايضا رجل من الطالبيين وهو الحسين بن محمد (3) بن حمزة بن عبد الله بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان فاقتتلا فهزم العلوي وقتل من
أصحابه بشر كثير.
ولما دخل مزاحم الكوفة حرق بها ألف دار ونهب أموال الذين خرجوا معه، وباع بعض جواري الحسين بن محمد هذا، وكانت معتقة.
__________
(1) وكانت دار ابن رزق بالرصافة (ابن الاثير 7 / 159 الطبري 11 / 133).
(2) في ابن الاثير 7 / 165 ومروج الذهب 4 / 176: الكركي، وذكره صاحب المروج: الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو من ولد الارقط.
(3) في ابن الاثير: أحمد .
وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (1) بن علي بن أبي طالب بمكة فهرب منه نائبها جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى، فانتهب منزله ومنازل أصحابه وقتل جماعة من الجند وغيرهم من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار، ثم خرج إلى المدينة النبوية فهرب منه نائبها أيضا علي بن الحسين بن علي بن إسماعيل، ثم رجع إسماعيل بن يوسف إلى مكة في رجب فحصر أهلها حتى هلكوا جوعا وعطشا فبيع الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم الرطل بأربعة، وشربة الماء بثلاثة دراهم، ولقي منه أهل مكة كل بلاء، فترحل عنهم إلى جدة - بعد مقامه عليهم سبعة وخمسين يوما - فانتهب أموال التجار هنالك وأخذ المراكب وقطع الميرة عن أهل مكة ثم عاد إلى مكة لا جزاه الله خيرا عن المسلمين.
فلما كان يوم عرفة لم يمكن الناس من الوقوف نهارا ولا ليلا، وقتل من الحجيج ألفا ومائة، وسلبهم أموالهم ولم يقف بعرفة عامئذ سواه ومن معه من الحرامية، لا تقبل الله منهم صرفا ولا عدلا.
وفيها وهن أمر الخلافة جدا.
وفيها توفي من الاعيان إسحاق بن منصور الكوننج (2) وحميد بن زنجويه (3).
وعمرو بن عثمان بن كثير بن دينار الحمصي (4).
وأبو البقى (5) هشام بن عبد الملك اليزني.
سنة ثنتين وخمسين ومائتين " ذكر خلافة المعتز بالله بن المتوكل على الله بعد خلع المستعين نفسه "
استهلت هذه السنة وقد استقرت الخلافة باسم أبي عبد الله محمد المعتز بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وقيل إن اسم المعتز أحمد، وقيل الزبير، وهو الذي عول عليه ابن عساكر وترجمه في تاريخه.
فلما خلع المستعين نفسه من الخلافة وبايع للمعتز دعا الخطباء يوم الجمعة رابع المحرم من هذه السنة بجوامع بغداد على المنابر للخليفة المعتز بالله، وانتقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل هو وعياله وولده وجواريه، ووكل بهم سعيد بن رجاء في جماعة معه، وأخذ من المستعين البردة والقضيب والخاتم، وبعث بذلك إلى المعتز ثم أرسل إليه المعتز يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين عنده يقال لاحدهما برج وللآخر جبل.
فأرسلهما.
وطلب المستعين أن يسير إلى مكة فلم يمكن، فطلب البصرة فقيل له إنها وبيئة.
فقال إن ترك الخلافة أوبأ منها.
ثم أذن له في المسير إلى
__________
(1) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: الحسين.
(2) في ابن الاثير 7 / 166: الكوشج.
وفي تقريب التهذيب: 1 / 61: الكوسج.
وهو أبو يعقوب المروزي سمع ابن عيينة وتفقه على أحمد وإسحاق وكان ثقة نبيلا.
(3) أبو أحمد النسائي الحافظ من الثقات روى عن النضر بن شميل وخلق بعده.
(4) محدث حمص كان ثقة عدلا.
روى عن إسماعيل بن عياش وبقية وابن عيينة (5) في تقريب التهذيب: أبو تقي، الحمصي الحافظ الثقة المتقن روى عن إسماعيل بن عياش وبقية بن الوليد .
واسط فخرج ومعه حرس يوصلونه إليها نحو من أربعمائة.
واستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل وخلع عليه وألبسه تاجا على رأسه.
ولما تمهد أمر بغداد واستقرت البيعة للمعتز بها ودان لهو أهلها وقدمتها الميرة من كل جانب، واتسع الناس في الارزاق والاطعمة، ركب أبو أحمد منها في يوم السبت لثنتي عشرة ليلة من المحرم إلى سامرا وشيعه ابن طاهر في وجوه الامراء، فخلع أبو أحمد على ابن طاهر خمس خلع وسيفا ورده من الطريق إلى بغداد.
وقد ذكر ابن جرير مدائح الشعراء في المعتز وتشفيهم بخلع المستعين، فأكثر من ذلك جدا، فمن ذلك قول محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان في مدح
المعتز وذم المستعين كما جرت به عادة الشعراء: إن الامور إلى المعتز قد رجعت * والمستعين إلى حالاته رجعا وكان يعلم أن الملك ليس له * وأنه لك لكن نفسه خدعا ومالك الملك مؤتيه ونازعه * آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا إن الخلافة كانت لا تلائمه * كانت كذات حليل زوجت متعا ما كان أقبح عند الناس بيعته * وكان أحسن قول الناس قد خلعا ليت السفين إلى قاف دفعن به * نفسي الفداء لملاح به دفعا كم ساس قبلك أمر الناس من ملك * لو كان حمل ما حملته ظلعا أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة * والله يجعل بعد الضيق متسعا والله يدفع عنك السوء من ملك * فإنه بك عنا السوء قد دفعا وكتب المعتز من سامرا إلى نائب بغداد محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسقط اسم وصيف وبغا ومن كان في رسمهما في الدواوين عزم على قتلهما، ثم استرضي عنهما فرضي عنهما.
وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه إبراهيم الملقب بالمؤيد من ولاية العهد وحبسه، وأخاه أبا أحمد، بعدما ضرب المؤيد أربعين مقرعة.
ولما كان يوم الجمعة خطب بخلعه وأمره أن يكتب كتابا على نفسه بذلك، وكانت وفاته بعد ذلك بخمسة عشر يوما، فقيل إنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات غما، وقيل بل ضرب بحجارة من ثلج حتى مات بردا وبعد ذلك أخرج من السجن ولا أثر به فأحضر القضاة والاعيان فشهدوا على موته من غير سبب ولا أثر، حمل على حمار ومعه كفنه إلى أمه فدفنته.
ذكر مقتل المستعين في شوال منها كتب المعتز إلى نائبه محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بتجهيز جيش نحو المستعين فجهز أحمد بن طولون التركي فوافاه فأخرجه لست بقين من رمضان فقدم به القاطول لثلاث مضين من شوال ثم قتل، فقيل ضرب حتى مات، وقيل بل غرق في دجيل، وقيل بل ضربت عنقه.
وقد ذكر ابن جرير: أن المستعين سأل من سعيد بن صالح التركي حين أراد قتله أن يمهله حتى يصلي ركعتين
فأمهله، فلما كان في السجدة الاخيرة قتله وهو ساجد، ودفن جثته في مكان صلاته، وخفى أثره وحمل
رأسه إلى المعتز فدخل به عليه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل هذا رأس المخلوع.
فقال: ضعوه حتى أفرغ من الدست.
فلما فرغ نظر إليه وأمر بدفنه، ثم أمر لسعيد بن صالح الذي قتله بخمسين ألف درهم، وولاه معونة البصرة وفيها مات إسماعيل بن يوسف العلوي الذي فعل بمكة ما فعل كما تقدم من إلحاده في الحرم، فأهلكه الله في هذه السنة عاجلا ولم ينظره.
وفيها مات أحمد بن محمد المعتصم وهو المستعين بالله كما تقدم.
وإسحاق بن بهلول (1)، وزياد بن أيوب (2)، ومحمد بن بشار بندار (3).
وموسى بن المثنى الزمن (4).
ويعقوب بن إبراهيم الدورقي (5).
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين في رجب منها عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير على جيش قريب من أربعة آلاف ليذهبوا إلى قتال عبد العزيز بن أبي دلف بناحية همذان، لانه خرج عن الطاعة وهو في نحو من عشرين ألفا بناحية همذان، فهزموا عبد العزيز في أواخر هذه السنة هزيمة فظيعة، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في رمضان عند الكرج فهزم عبد العزيز أيضا وقتل من أصحابه بشر كثير، وأسروا ذراري كثيرة حتى أسروا أم عبد العزيز أيضا، وبعثوا إلى المعتز سبعين حملا من الرؤوس وأعلاما كثيرة، وأخذ من عبد العزيز ما كان استحوذ عليه من البلاد.
وفي رمضان منها خلع على بغا الشرابي وألبسه التاج والوشاحين.
وفي يوم عيد الفطر كانت وقعة هائله عند مكان يقال له البوازيج، وذلك أن رجلا يقال له مساور بن عبد الحميد حكم فيها والتف عليه نحو من سبعمائة من الخوارج، فقصد له رجل يقال له بندار الطبري في ثلاثمائة من أصحابه، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الخوارج نحو من خمسين رجلا.
وقتل أصحاب بندار مائتان وقيل وخمسون رجلا.
وقتل بندار فيمن قتل رحمه الله.
ثم صمد مساور إلى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خراسان فقتل مساور منهم نحوا من أربعمائة قبحه الله.
وقتل من جماعته كثيرون أيضا.
ولثلاث بقين من شوال قتل وصيف التركي وأرادت العامة نهب داره في سامرا ودور أولاده فلم يمكنهم ذلك، وجعل الخليفة ما كان إليه إلى بغا الشرابي.
وفي ليلة أربع
عشرة من ذي القعدة من هذه السنة خسف القمر حتى غاب أكثره وغرق نوره، وعند انتهاء خسوفه
__________
(1) أبو يعقوب التنوخي الانباري الحافظ، من كبار الائمة صنف في القراءات وفي الحديث والفقه عاش 88 سنة.
(2) أبو هاشم الطوسي ثم البغدادي دلويه.
وكان ثقة ثبتا حدث عنه البخاري وأحمد وغيرهما.
(3) أبو بكر العبدي البصري الحافظ الثقة، وما أثبتناه من ابن الاثير، وفي الاصل: محمد بن بشار وغندر وانظر تقريب التهذيب.
(4) أبو موسى العتري البصري، روى عنه الائمة الستة وابن خزيمة وغيرهم وكان حجة حافظا.
(5) أبو يوسف العبدي النكري الدورقي البغدادي الحافظ الثقة الحجة روى عنه الستة وغيرهم وسمع هشيما وإبراهيم بن سعد وطبقتهما .
مات محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق ببغداد.
وكانت علته قورحا في رأسه وحلقه فذبحته، ولما أتي به ليصلى عليه اختلف أخوه عبيد الله وابنه طاهر وتنازعا الصلاة عليه حتى جذبت السيوف وترامى الناس بالحجارة، وصاحت الغوغاء يا طاهر يا منصور: فمال عبيد الله إلى الشرقية ومعه القواد وأكابر الناس، فدخل داره وصلى عليه ابنه وكان أبوه قد أوصلى إليه.
وحين بلغ المعتز ما وقع بعث بالخلع والولاية إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فأطلق عبيد الله للذي قدم بالخلع خمسين ألف درهم.
وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سر من رأى إلى واسط، ثم إلى البصرة.
ثم رد إلى بغداد أيضا.
وفي يوم الاثنين منها سلخ ذي القعدة التقي موسى بن بغا الكبير والحسين بن أحمد الكوكبي الطالبي الذي خرج في سنة إحدى وخمسين عند قزوين فاقتتلا قتالا شديد، ثم هزم الكوكبي وأخذ موسى قزوين وهرب الكوكبي إلى الديلم.
وذكر أبن جرير عن بعض من حضر هذه الوقعة أن الكوكبي حين التقى أمر أصحابه أن يتترسوا بالحجف - وكانت السهم لا تعمل فيهم - فأمر موسى بن بغا أصحابه عند ذلك أين يطرحوا ما معهم من النفط ثم حاولوهم وأروهم أنهم قد انهزموا منهم، فتبعهم أصحاب الكوكبي، فلما توسطوا الارض التي فيها النفط أمر عند ذلك بإلقاء النار فيه فجعل
النفط يحرق أصحاب الكوكبي ففروا سراعا هاربين، وكر عليهم موسى وأصحابه فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الكوكبي إلى الديلم، وتسلم موسى قزوين.
وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها توفي من الاعيان أبو الاشعث (1).
وأحمد بن سعيد الدارمي (2).
و سري السقطي أحد كبار مشايخ الصوفية.
تلميذ معروف الكرخي.
حدث عن هشيم وأبي بكر بن عياش وعلي بن عراب ويحيى بن يمان ويزيد بن هارون وغيرهم.
وعنه ابن أخته الجنيد بن محمد.
وأبو الحسن النوري ومحمد بن الفضل بن جابر السقطي وجماعة.
وكانت له دكان يتجر فيها فمرت به جارية قد انكسر إناء كان معها تشتري فيه شيئا لسادتها، فجعلت تبكي فأعطاها سري شيئا تشتري بدله، فنظر معروف إليه وما صنع بتلك الجارية فقال له: بغض الله إليك الدنيا فوجد الزهد من يومه.
وقال سري: مررت في يوم عيد فإذا معروف ومعه صغير شعث الحال فقلت: ما هذا ؟ فقال: هذا كان واقفا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر، فقلت له: ما لك لا تلعب كما يلعبون ؟ فقال: أنا يتيم ولا شئ معي أشتري به جوزا ألعب به.
فأخذته لاجمع له نوى يشتري به جوزا يفرح به.
فقلت ألا أكسوه وأعطيه شيئا يشتري به جوزا ؟ فقال أو تفعل ؟ فقلت: نعم فقال خذه أغنى الله قلبك.
قال سري:
__________
(1) أبو الاشعث: واسمه أحمد بن المقدام البصري العجلي المحدث.
قال في المغني: ثقة ثبت وقال النسائي: ليس به بأس.
سمع حماد بن زيد وطائفة (2) أبو جعفر السرخسي، الحافظ أحد الفقهاء والائمة سمع النظر بن شميل وطبقته وكان ثقة .
فصغرت عندي الدنيا حتى لهي أقل شئ.
وكان عنده مرة لوز فساومه رجل على الكر (1) بثلاثة وستين دينارا، ثم ذهب الرجل فإذا اللوز يساوي الكر تسعين دينارا فقال له: إني أشتري منك الكر بتسعين دينارا.
فقال له إني إنما ساومتك بثلاثة وستين دينارا وإني لا أبيعه إلا بذلك، فقال الرجل: أنا أشري منك بتسعين دينارا.
فقال لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه.
فقال له الرجل: إن من النصح أن لا
أشتري منك إلا بتسعين دينارا.
وذهب فلم يشتر منه.
وجاءت امرأة يوما إلى سري فقالت: إن ابني قد أخذه الحرسي وإني أحب أن تبعث إلى صاحب الشرطة لئلا يضرب، فقام فصلى فطول الصلاة وجعلت المرأة تحترق في نفسها، فلما انصرف من الصلاة قالت المرأة: الله الله في ولدي.
فقال لها: إني إنما كنت في حاجتك.
فما رام مجلسه الذي صلى فيه حتى جاءت امرأة إلى تلك المرأة فقالت لها: ابشري فقد أطلق ولدك وها هو في المنزل.
فانصرفت إليه.
وقال سري: أشتهي أن آكل أكلة ليس لله فيها علي تبعة، ولا لاحد علي فيها منة.
فما أجد إلى ذلك سبيلا.
وفي رواية عنه أنه قال: إني لاشتهي البقل من ثلاثين سنة فما أقدر عليه.
وقال: احترق سوقنا فقصدت المكان الذي فيه دكاني فتلقاني رجل فقال أبشر فإن دكانك قد سلمت.
فقلت: الحمد لله.
ثم ذكرت ذلك التحميد إذ حمدت الله على سلامة دنياي وإني لم أواس الناس فيما هم فيه، فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة.
رواها الخطيب عنه.
وقال: صليت وردي ذات ليلة ثم مددت رجلي في المحراب فنوديت: ياسري هكذا تجالس الملوك ؟ قال فضممت رجلي وقلت: وعزتك لا مددت رجلي أبدا.
وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من سري السقطي.
أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رئي مضطجعا إلا في علة الموت.
وروى الخطيب عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي عن الجنيد قال: دخلت عليه أعوده فقلت: كيف تجدك ؟ فقال: كيف أشكو إلى طبيبي ما بي * والذي (2) أصابني من طبيبي قال: فأخذت المروحة لاروح عليه فقال: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل ؟ ثم أنشأ يقول: القلب محترق والدمع مستبق * والكرب مجتمع والصبر مفترق كيف القرار على من لا قرار له * مما جناه الهوى والشوق والقلق يا رب إن كان شئ لي به فرج (3) * فامنن علي به ما دام بي رمق قال فقلت له: أوصني، قال: لا تصحب الاشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الابرار الاخيار.
وقد ذكر الخطيب وفاته يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بعد أذان الفجر، ودفن بعد العصر بمقبرة الشوينزي، وقبره ظاهر معروف، وإلى جنبه قبر الجنيد.
وروي
__________
(1) الكر: مكيال للعراق، وهو ستون قفيزا أو أربعون أردبا (القاموس).
(2) في صفوة الصفوة 2 / 384: والذي بي.
(3) في صفة الصفوة: كان شئ فيه لي فرج
عن أبي عبيدة بن حربويه قال: رأيت سريا في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال غفر لي ولكل من شهد جنازتي.
قلت: فإني ممن حضر جنازتك وصلى عليك.
قال: فأخرج درجا فنظر فيه فلم ير فيه اسمي، فقلت: بلى ! قد حضرت فإذا اسمي في الحاشية.
وحكى ابن خلكان قولا أن سريا توفي سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ست وخمسين فالله أعلم.
قال ابن خلكان: وكان السري ينشد كثيرا: ولما ادعيت الحب (1) قالت كذبتني * فما لي أرى الاعضاء منك كواسيا فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشى * وتذهل حتى لاتجيب المناديا (2) ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين فيها أمر الخليفة المعتز بقتل بغا الشرابي ونصب رأسه بسامرا ثم ببغداد وحرقت جثته وأخذت أمواله وحواصله.
وفيها ولى الخليفة أحمد بن طولون الديار المصرية، وهو باني الجامع المشهور بها.
وحج بالناس فيها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.
وتوفي فيها من الاعيان زياد بن أيوب الحسياني (3).
وعلي بن محمد بن موسى الرضى، يوم الاثنين لاربع بقين من جمادى الآخرة ببغداد.
وصلى عليه أبو أحمد المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد.
ودفن بداره ببغداد.
ومحمد بن عبد الله المخرمي (4).
وموهل بن إهاب (5).
وأما أبو الحسن علي الهادي [ فهو ] ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أحد الائمة الاثني عشرية، وهو والد الحسن بن علي العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الكاذبة الخاطئة.
وقد كان عابدا زاهدا نقله المتوكل إلى سامرا فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر.
ومات بها في هذه السنة.
وقد ذكر
للمتوكل أن بمنزله سلاحا وكتبا كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالسا مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف وهو على التراب ليس دونه حائل، فأخذوه كذلك فحملوه إلى المتوكل وهو على
__________
(1) في الوفيات المطبوع 2 / 359: إذا ما شكوت الحب.
(2) وبعده في شذرات الذهب 2 / 127.
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى * سوى مقلة تبكي بها وتناجيا (3) أبو هاشم، الطوسي الاصل يلقب دلويه، ثقة حافظ لقبه أحمد: شعبة الصغير.
قال في تقريب التهذيب مات سنة 252 (وانظر شذرات الذهب 2 / 126).
(4) أبو جعفر، الحافظ روى عن وكيع وطبقته روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم، ثقة مات ببغداد.
(5) أبو عبد الرحمن، الحافظ روى عن ضمرة بن ربيعة وحيي بن آدم.
مات بالرملة في رجب .
شرابه، فلما مثل بين يديه أجله وأعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس الذي في يده فقال: يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يخالط لحمي ودمي قط، فاعفني منه.
فأعفاه ثم قال له: أنشدني شعرا فأنشده: باتوا على قلل الاجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا نادى بهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الاسرة والتيجان والحلل ؟ أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الاستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طال ما أكلوا دهرا وما لبسوا (1) * فأصبحوا بعد طول الاكل قد أكلوا قال: فبكى المتوكل حتى بل الثرى، وبكى من حوله بحضرته، وأمر برفع الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
فيها كانت وقعة بين مفلح وبين الحسن بن زيد الطالبي فهزمه مفلح ودخل آمل طبرستان وحرق منازل الحسن بن زيد ثم سار وارءه إلى الديلم.
وفيها كانت محاربة شديدة بين يعقوب بن الليث وبين علي بن الحسين بن قريش بن شبل، فبعث علي بن الحسين رجلا من جهته يقال له طوق بن المغلس، فصابره أكثر من شهر ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار إلى علي بن الحسين هذا فأسره وأخذ بلاده - وهي كرمان - فأضافها إلى ما بيده من مملكة خراسان سجستان (2): ثم بعث يعقوب بن الليث بهدية سنية إلى المعتز: دواب وبازات وثياب فاخرة.
وفيها ولى الخليفة سليمان بن عبد الله بن طاهر نيابة بغداد والسواد في ربيع الاول (3) منها.
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز والحسن بن مخلد كاتب قبيحة أم المعتز وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وكانوا قد تمالؤا على أكل بيت المال، وكانوا دواوين وغيرهم، فضربهم وأخذ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها، وذلك بغير رضى من المعتز في الباطن واحتيط على أموالهم حواصلهم وضياعهم وسموا الكتاب الخونة وولى الخليفة عن قهر غيرهم.
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 108 وفي وفيات الاعيان 3 / 272: شربوا.
وبعده في مروج الذهب ثلاثة أبيات.
(2) في الفخري ص 243: استولى يعقوب بن الليث على فارس وجمع جموعا كثيرة، وقد خرج على المعتز، فلم يقدر المعتز على مقاومته.
وفي ابن الاثير 7 / 191: أنه كان يظهر طاعة لا حقيقة لها فالتمس المعتز اقتتاله مع علي بن الحسين بن شبل ليسقط مؤونة الهالك عنه منهما وينفرد بالآخر.
(3) في الطبري 11 / 160 ربيع الآخر .
وفي رجب منها ظهر عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان بالكوفة وقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى واستفحل أمرهما بها.
موت الخليفة المعتز بن المتوكل ولثلاث بقين من رجب من هذه السنة خلع الخليفة المعتز بالله، والليلتين مضتا من شعبان أظهر موته.
وكان سبب خلعه أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم، فسأل من
أمه أن تقرضه مالا يدفعهم عنه به فلم تعطه.
وأظهرت أنه لا شئ عندها، فاجتمع الاتراك على خلعه (1) فأرسلوا إليه ليخرج إليهم فاعتذر بأنه قد شرب دواء وأن عنده ضعفا، ولكن ليدخل إلى بعضكم.
فدخل إليه بعض الامراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه وجروا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرق ملطخ بالدم (2)، فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر، وجعل بعضهم بلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب اخلعها والناس مجتمعون ثم أدخلوه حجرة مضيقا عليها فيها.
وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولى بعده المهتدي بالله كما سيأتي.
ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام حتى جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق، ثم أدخلواه سربا فيه جص جير فدسوه فيه فأصبح ميتا، فاستلوه من الجص سليم الجسد واشهدوا عليه جماعة من الاعيان أنه مات وليس به أثر، وكان ذلك في اليوم الثاني من شعبان من هذه السنة، وكان يوم السبت، وصلى عليه المهتدي بالله، ودفن مع أخيه المنتصر إلى جانب قصر الصوامع، عن أربع وعشرين سنة.
وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان طويلا جسيما وسيما أقنى الانف مدور الوجه حسن الضحك أبيض أسود الشعر مجعده، كثيف اللحية حسن العينين ضيق الحاجبين أحمر الوجه وقد أثنى عليه الامام أحمد في جودة ذهنه وحسن فهمه وأدبه حين دخل عليه في حياة أبيه المتوكل، كما قدمنا في ترجمة أحمد.
وروى الخطيب عن علي بن حرب قال: دخلت على المعتز فما رأيت خليفة أحسن وجها منه، فلما رأيته سجدت فقال: يا شيخ تسجد لغير الله ؟ فقلت: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، ثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يفرح به أو بشر بما يسره سجد شكرا لله عز وجل ".
وقال الزبير بن بكار: سرت إلى المعتز وهو أمير فلما سمع بقدومي خرج مستعجلا إلى فعثر فأنشأ يقول:
__________
(1) ذكر المسعودي في خلع المعتز أنه: لما رأى الاتراك إقدام المعتز على قتل رؤسائهم وإعمال الحيلة في فنائهم، وأنه قد اصطنع المغاربة والفراغنة دونهم صاروا إليه بأجمعهم وجعلوا يقرعونه بذنوبه ويوبخونه على أفعاله وطالبوه بالاموال..ثم خلعوه 4 / 202.
(2) في مروج الذهب: وعليه قميص مدنس وعلى رأسه منديل .
يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه * وعثرته في الرجل تبرأ على مهل وذكر ابن عساكر أن المعتز لما حذق القرآن في حياة أبيه المتوكل اجتمع أبوه والامراء لذلك وكذلك الكبراء والرؤساء بسر من رأى، واختلفوا لذلك أياما عديدة، وجرت أحوال عظيمة.
ولما جلس وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة وخطب الناس نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار، ومثلها ذهبا، وألف ألف درهم غير ماكان من خلغ وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر، وكان وقتا مشهودا لم يكن سرورا بدار الخلافة أبهج منه ولا أحسن.
وخلع الخليفة على أم ولده المعتز قبيحة خلعا سنية، وأعطاها وأجزل لها العطاء، وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران، أعطاه من الجوهر والذهب والفضة والقماش شيئا كثيرا جدا والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلافة المهتدي بالله أبي محمد عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بيعته يوم الاربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده عليه بأنه عاجز عن القيام بها، وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها.
وهو محمد بن الواثق بالله، ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم، ثم بايعه الخاصة ثم كانت بيعة العامة على المنبر، وكتب على المعتز كتابا (1) أشهد فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي.
وفي آخر رجب وقعت في بغداد فتنة هائلة، وثبت فيها العامة على نائبها سليمان بن عبد الله بن طاهر ودعوا إلى بيعة أبي أحمد بن المتوكل أخي المعتز، وذلك لعدم علم أهل بغداد بما وقع بسامرا من بيعة المهتدي، وقتل من أهل بغداد وغرق منهم خلق كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا، - وإنما بلغتهم في سابع شعبان - فاستقرت الامور واستقر المهتدي في الخلافة.
وفي رمضان من هذه السنة ظهر عند قبيحة أم المعتز أموال عظيمة، وجواهر نفيسة.
كان من جملة ذلك ما يقارب ألفي
ألف دينار، ومن الزمرد الذي لم ير مثله مقدار مكوك، ومن الحب الكبار مكوك (2)، وكيلجة ياقوت أحمر مما لم ير مثله أيضا.
وقد كان الامراء طلبوا من ابنها المعتز خمسين ألف دينار تصرف في أرزاقهم وضمنوا له أن يقتلوا صالح بن وصيف فلم يكن عنده من ذلك شئ، فطلب من أمه قبيحة هذه قبحها الله فامتنعت أن تقرضه ذلك، فأظهرت الفقر والشح، وأنه لا شئ عندها.
ثم لما قتل ابنها وكان ما كان، ظهر عندها من الاموال ما ذكرنا، وكان عندها من الذهب والفضة والآنية شئ كثير، وقد كان لها من الغلات في كل سنة ما يعدل عشرة آلاف ألف دينار، وقد كانت قبل ذلك مختفية عند صالح بن وصيف عدو ولدها، ثم تزوجت به وكانت تدعو عليه تقول: اللهم اخز صالح بن وصيف
__________
(1) نسخة الكتاب في الطبري 11 / 162.
(2) في الطبري: نصف مكوك .
كما هتك ستري وقتل ولدي وبدد شملي وأخذ مالي وغربني عن بلدي وركب الفاحشة مني.
ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي بالله.
وكانت بحمد الله خلافة صالحة.
قال يوما للامراء: إني ليست لي أم (1) لها من الغلات ما يقاوم عشرة آلاف ألف دينار، ولست أريد إلا القوت فقط لا أريد فضلا على ذلك إلا لاخوتي، فإنهم مستهم الحاجة.
وفي يوم الخمسين لثلاث بقين من رمضان أمر صالح بن وصيف بضرب أحمد بن إسرائيل الذي كان وزيرا، وأبي نوح عيسى بن إبراهيم الذي كان نصرانيا فأظهر الاسلام، وكان كاتب قبيحة، فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط بعد استخلاص أموالهما ثم طيف بهما على بغلين منكسينن فماتا وهما كذلك، ولم يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لا يقدر على الانكار على صالح بن وصيف في بادئ الامر (2).
وفي رمضان في هذه السنة وقعت فتنة بغداد أيضا بين محمد بن أوس ومن تبعه من الشاكرية والجند وغيرهم، وبين العامة والرعاع، فاجتمع من العامة نحو من مائة ألف وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط، فقتل خلق كثير ثم انهزم محمد بن أوس وأصحابه فنهبت العامة ما وجدوا من أمواله، وهو ما يعادل ألفي ألف أو نحو ذلك.
ثم اتفق الحال على إخراج محمد بن
أوس من بغداد إلى أين أراد.
فخرج منها خائفا طريدا، وذلك لانه لم يكن عند الناس مرضى السيرة بل كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا وفاسقا شديدا، وأمر الخليفة بأن ينفى القيان والمغنون من سامرا، وأمر بقتل السباع والنمور التي في دار السلطان، وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضا.
وأمر بإبطال الملاهي ورد المظالم وأن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وجلس للعامة (3).
وكانت ولايته في الدنيا كلها من أرض الشام وغيرها مفترقة.
ثم استدعى الخليفة موسى بن بغا الكبير إلى حضرته ليتقوى به على من عنده من الاتراك ولتجتمع كلمة الخلافة، فاعتذر إليه من استدعائه بما هو فيه من الجهاد في تلك البلاد.
خارجي اخر ادعى أنه من أهل البيت بالبصرة في النصف من شوال ظهر رجل بظاهر البصرة زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقا وإنما كان عسيفا - يعني أجيرا - من عبد القيس، واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمه قرة بنت علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من
__________
(1) كانت أمه قد ماتت قبل استخلافه، وقد كانت تحت المستعين ولما قتل جعلها المعتز في قصر الرصافة، فماتت.
(2) في مروج الذهب 4 / 212: قتلهما المهدي لامور كانت منهما استحقا عند المهدي فيما يجب في حكم الشريعة أن يفعل بهما ذلك.
(3) قال المسعودي في مروجه: فثقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريق الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه .
بني أسد بن خزيمة، وأصله من قرية من قرى الري (1) قاله ابن جرير.
قال: وقد خرج أيضا في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين فادعى أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن (2) بن عبيد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب، فدعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر، ووقع بسببه قتال كثير وفتن كبار، وحروب كثيرة، ولما خرج خرجته هذه الثانية بظاهر البصرة التف عليه خلق من
الزنج الذين يكسحون السباخ، فعبر بهم دجلة فنزل الديناري، وكان يزعم لبعض من معه أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، وكان يدعي أنه يحفظ سورا من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لسانه لا يحفظها غيره في مدة دهر طويل، وهن سبحان والكهف وص وعم.
وزعم أنه فكر يوما وهو في البادية إلى أي بلد يسير فخوطب من سحابة أن يقصد البصرة فقصدها، فلما اقترب منها وجد أهلها متفرقين على شعبتين، سعدية وبلالية، فطمع أن ينضم إلى أحداهما فيستعين بها على الاخرى فلم يقدر على ذلك، فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنة وانتسب بها إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم بها أنه يعلم ما في ضمائر أصحابه، وأن الله يعلمه بذلك، فتبعه على ذلك جهلة من الطغام، وطائفة من الرعاع العوام.
ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشر كثير ولكن لم يكن معهم عدد يقاتلون بها فأتاهم جيش من ناحية البصرة فاقتتلوا جميعا، ولم يكن في جيش هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف، وأولئك الجيش معهم عدد وعدد ولبوس، ومع هذا هزم أصحاب هذا الخارجي ذلك الجيش، وكانوا أربعة آلاف مقاتل، ثم مضى نحو البصرة بمن معه فأهدى له رجل من أهل جبى فرسا فلم يجد لها سرجا ولا لجاما، وإنما ألقى عليها حبلا وركبها وسنف حنكها بليف، ثم صادر رجلا وتهدده بالقتل فأخذ منه مائة وخمسين دينارا وألف درهم، وكان هذا أول مال نهبه من هذه البلاد، وأخذ من آخر ثلاثة براذين، ومن موضع آخر شيئا من الاسلحة والامتعة، ثم سار في جيش قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نائب البصرة وقعات متعددة يهزمهم فيها وكل ما لامره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جيشه، وهو مع ذلك لا يتعرض لاموال الناس ولا يؤذي أحدا، وإنما يريد أخذ أموال السلطان.
وقد انهزم أصحابه في بعض حروبه هزيمة عظيمة ثم تراجعوا إليه واجتمعوا حوله، ثم كروا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله ثم قوي أمره وخافه أهل البصرة، وبعث الخليفة إليها مددا ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج قبحه الله، ثم أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على البصرة فيدخلونها عنوة فهجن آراءهم وقال: بل نكون منا قريبا حتى يكونوا هم الذين يطلبوننا إليها ويخطبوننا عليها وسيأتي ما كان من أمره وأمر أهل البصرة في السنة المستقبلة أن شاء الله.
وفيها حج بالناس علي بن
الحسين (3) بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن عباس.
__________
(1) في الطبري ومروج الذهب والطبري: وهي: ورزنين، وقال ياقوت: هي من أعيان قرى الري كالمدينة.
(2) من الطبري 11 / 174 وفي الاصل: الحسين بن عبد الله.
(3) في الطبري 11 / 191 ومروج الذهب 4 / 458: الحسن.
وفيها توفي: الجاحظ المتكلم المعتزلي وإليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه، ويقال له الحدقي وكان شنيع المنظر سيئ المخبر ردئ الاعتقاد، ينسب إلى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل في المثل يا ويح من كفره الجاحظ.
وكان بارعا فاضلا قد أتقن علوم كثيرة وصنف كتبا جمة تدل على قوة ذهنه وجودة تصرفه.
ومن أجل كتبه كتاب الحيوان، وكتاب البيان والتبيين.
قال ابن خلكان: وهما أحسن مصنفاته وقد أطال ترجمته بحكايات ذكرها عنه.
وذكر أنه أصابه الفالج في آخر عمره وحكى أنه قال: أنا من جانبي الايسر مفلوج لو قرض بالمقاريض ما علمت، وجانبي الايمن منقرس لو مرت به ذبابة لآلمتني، وبي حصاة، وأشد ما علي ست وتسعون (1) سنة.
وكان ينشد: أترجو أن تكون وأنت شيخ * كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك نفسك ليس ثوب * دريس كالجديد من الثياب وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي (2)، وعبد الله بن هاشم الطوسي (3)، والخليفة أبو عبد الله المعتز بن المتوكل، ومحمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة (4).
محمد بن كرام الذي تنسب إليه الفرقة الكرامية (5).
وقد نسب إليه جواز وضع الاحاديث على الرسول وأصحابه وغيرهم وهو محمد بن كرام - بفتح الكاف وتشديد الراء، على وزن جمال - بن عراف بن حزامة بن البراء، أبو عبد الله السجستاني العابد، يقال إنه من بني تراب، ومنهم من يقول محمد بن
__________
(1) كذا بالاصل وابن خلكان، وفي مروج الذهب 4 / 223: نيف وسبعون سنة، يعني عمره.
(2) السمرقندي الحافظ الثقة صاحب المسند المشهور.
قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه.
سمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وطبقتهما.
قال ابن الاثير: توفي في ذي الحجة وعمره (75) سنة.
(3) أبو عبد الرحمن، سكن نيسابور، صاحب حديث، وثقه ابن حجر في التقريب وقال: مات سنة بضع وخمسين ومائتين.
(4) أبو يحيى البغدادي البزاز كان احد الثقات الاثبات المجودين سمع عبد الوهاب بن عطاء الخفاف وطبقته مات وله (70) سنة.
(5) قال في الفرق بين الفرق: قالت بتجسيم المعبود، وزعمت أنه جسم له حد ونهاية من تحته والجهة التي منها يلاقي عرشه.
ووصف ابن كرام معبوده: أنه جوهر، قال: إن الله تعالى أحدي الذات أحدي الجوهر.
ويقول: إن الله لم يزل خالقا رازقا على الاطلاق، وإن الله تعالى لم يزل معبودا ولم يكن في الازل معبود العابدين.
ص (161 وما بعدها) .
كرام بكسر الكاف وتشديد الراء وهو الذي سكن بيت المقدس إلى أن مات، وجعل الآخر شيخا من أهل نيسابور والصحيح الذي يظهر من كلام أبي عبد الله الحاكم وابن عساكر أنهما واحد، وقد روى ابن كرام عن علي بن حجرد وعلي بن إسحاق الحنظلي السمرقندي، سمع منه التفسير عن محمد بن مروان عن الكلبي، وإبراهيم بن يوسف الماكناني، وملك بن سليمان الهروي، وأحمد بن حرب، وعتيق بن محمد الجسري، وأحمد بن الازهر النيسابوري، وأحمد بن عبد الله الجوبياري، ومحمد بن تميم القارياني، وكانا كذابين وضاعين - وغيرهم.
وعنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق وأبو إسحاق بن سفيان وعبد الله بن محمد القيراطي، وإبراهيم بن الحجاج النيسابوري.
وذكر الحاكم أنه حبس في حبس طاهر بن عبد الله فلما أطلقه ذهب إلى ثغور الشام ثم عاد إلى نيسابور فحبسه محمد بن طاهر بن عبد الله وأطال حبسه وكان يتأهب لصلاة الجمعة ويأتي إلى السجان فيقول: دعني أخرج إلى الجمعة، فيمنعه السجان فيقول: اللهم إنك تعلم أن المنع من غيري.
وقال غيره: أقام ببيت
المقدس أربع سنين، وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى عليه السلام واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول: إن الايمان قول بلا عمل فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غورزغر فمات بها، ونقل إلى بيت المقدس.
مات في صفر من هذه السنة.
وقال الحاكم: توفي ببيت المقدس ليلا ودفن بباب أريحا عند قبور الانبياء عليهم السلام، وله بيت المقدس من الاصحاب نحو من عشرين ألفا والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين في صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من المحرم قدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا فدخلها في جيش هائل قد عباه ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فأستأذنوا عليه فأبطأ الاذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه هجما فجعلوا يراطنونهم بالتركي ثم عزموا فأقاموه من مجلسه وانتبهوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهانا إلى دار أخرى فجعل يقول لموسى بن بغا: ما لك ويحك ؟ إني إنما أرسلت إليك لا تقوى بك على صالح بن وصيف.
فقال له موسى: لا بأس عليك احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت.
فحلف له المهتدي، فطابت الانفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن لا يمالئ صالحا عليهم، واصطلحوا على ذلك.
ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضرهم للمناظرة في أمر المعتز ومن قتله صالح بن وصيف من الكتاب وغيرهم، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من الامراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر على ما سنذكر، ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى نيابة بغداد، وسلم الوزير عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن بن مخلد الذي كان أراد صالح بن وصيف قتله مع ذينك الرجلين، فبقي في السجن حتى رجع إلى الوزارة
ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه قال بعظهم لبعض: اخلعوا هذا
الرجل - يعني الخليفة - فقال بعضهم: أتقتلون رجلا صواما قواما لا يشرب الخمر ولا يأتي الفواحش ؟ والله إن هذا ليس كغيره من الخلفاء ولا تطاوعكم الناس عليه.
وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه فقال: قد بلغني ما تمالاتم عليه من أمري، وإني والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لاضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن بدلها منكم، أو ليذهبن بها أكثركم، أما دين ؟ أما حياء ؟ أما تستحيون ؟ كم يكون هذا الاقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل وأنتم لا تبصرون ؟ سواء عليكم من قصد الابقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالاموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك ؟ وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس، ويقولون إني أعلم علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم ؟ فاذهبوا فاعلموا علمه فابلغوا شفاء نفوسكم فيه وأما أنا فلست أعلم علمه.
قالوا: فاحلف لنا على ذلك، قال أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكن أدخرها لكم حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب في غد إذا صليت صلاة الجمعة.
قال: فكأنهم لانوا لذلك قليلا.
فلما كان يوم الاحد لثمان بقين من صفر ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجئ برأسه إلى المهتي بالله وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال: واروه.
ثم أخذ في تسبيحه وذكره.
ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين رفع الرأس على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد.
هذا جزاء من قتل مولاه.
وما زال الامر مضطربا متفاقما وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله رحمه الله.
خلع المهتدي بالله وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فساد ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك (1) التركي فاقتتلواهم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم، وكان قد فعل قبل مجيئهم الافاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه.
ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين
كلمة الاتراك فكتب إلى بايكباك (2) أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الامير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل إليه الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد عضبه على المهتدي واتفقا
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 228 ومروج الذهب 4 / 210: بابكيال.
(2) في ابن الاثير ومروج الذهب: كتب إليه أن يتسلم العسكر ويقوم بحرب مساور ويقتل موسى بن بغا ومفلح.
(انظر الطبري 11 / 203).
زاد في مروج الذهب: أنه كتب أيضا كتاب إلى موسى بن بغا يطلب فيه منه قتل بابكيال .
عليه وقصدا إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه.
فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة والاشروسية والارز كشبية والاتراك أيضا، وركب في جيش كثيف فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة (1)، فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا، فلما أوقف بين يديه وحوله الامراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة ما بلغت، وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا وأكثر جندا، ولما قتله المنصور سكنت الفنتة وخمد صوت أصحابه.
فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الاتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرت الاتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة فقتل منهم نحو من أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة وبيده السيف صلتا وهو ينادي: يا أيها الناس انصروا خليفتكم.
فدخل دار أحمد بن جميل (2) صاحب المعونة، فوضع فيها سلاحه ولبس البياض وأراد أن يذهب فيختفي، فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب، ورماه بسهم وطعن في خاصرته به وحمل على دابة وخلفه سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وأخذ خطه بستمائة ألف دينار وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات رحمه الله.
وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة
ليلة بقيت من رجب (3).
وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام (4)، وكان مولده في سنة تسع عشرة، وقيل خمس عشرة ومائتين، وكان أسمرا رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد الله.
وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل.
قال الخطيب: وكان من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة.
قال: وروى حديثا واحدا قال: حدثني علي بن هشام بن طراح، عن محمد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى - وهو داود بن علي - عن أبيه عن ابن عباس قال: قال العباس: يا رسول الله ما لنا في هذا الامر ؟ قال: " لي النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الامر وبكم يختم " وقال للعباس: " من أحبك نالته شفاعتي، ومن أبغضك لا نالته شفاعتي ".
وروى الخطيب أن رجلا استعان المهتدي على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ الرجل يقول:
__________
(1) كذا بالاصل والطبري وابن الاثير، وفي مروج الذهب: جرت بين المهتدي وبابكيال حرب عظيمة واستظهر فيها المهتدي عليه.
(2) في الطبري: دخل دار ابي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وفيها أحمد بن جميل.
(وهو صاحب الشرطة كما في ابن الاثير).
(3) في ابن الاثير: مات يوم الاربعاء، وفي مروج الذهب: يوم الثلاثاء لاربع عشرة بقيت من رجب.
(4) في مروج الذهب: أحد عشر شهرا، وفي ابن الاثير: أحد عشر شهر وخمس عشرة ليلة .
حكمتموه فقضى بينكم * أبلج مثل القمر الزاهر لا يقبل الرشوة في حكمه * ولا يبالي غبن الخاسر (1) فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، ولست أغتر بما قلت.
وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [ الانبياء: 47 ] قال: فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم.
وقال بعضهم: سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل رحمه الله.
وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الاموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الاتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة.
وقال أحمد بن سعيد الاموي: كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول: أما تستحيون الله ما معدن النحو * شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل إمامكم أضحى قتيلا مجندلا * وقد أصبح الاسلام مفترق الشمل وأنتم على الاشعار والنحو عكفا * تصيحون بالاصوات في أحسن السبل قال فنظر وأرخنا ذلك اليوم فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم، وهو يوم الاثنين لاربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
خلافة المعتمد على الله وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرب بابن فتيان (2)، بويع بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث (3) عشرة ليلة خلت من رجب في هذه السنة في دار الامير يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام (4)، ثم كانت بيعة العامة يوم الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا ومفلح إلى سر من رأى فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك، وأما صاحب الزنج المدعي أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب من الاطعمة وغيرها، ثم استحوذ بعد ذلك على الابلة وعبادان وغيرهما من البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفا شديدا، وكلما لامره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.
__________
(1) البيتان للاعشى، في ديوانه.
(2) في ابن الاثير: قتيان، وهي أمه أم ولد كوفية.
(3) في الطبري ومروج الذهب: لاربع عشرة.
(4) في ابن الاثير: يومين .
وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له علي بن زيد الطالبي، وجاء جيش من جهة الخليفة فكسره الطالبي واستفحل أمره بالكوفة وقويت شوكته، وتفاقم أمره.
وفيها وثب محمد بن واصل التميمي على نائب الاهواز الحارث بن سيما الشرابي فقتله واستحوذ على بلاد الاهواز (1).
وفي رمضان منها تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه.
وفيها كانت وقعة عظيمة على باب دمشق بين أما جور نائب دمشق - ولم يكن معه إلا قريب من أربعمائة فارس - وبين ابن (2) عيسى بن الشيخ، وهو في قريب من عشرين ألفا، فهزمه أما جور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ على بلاد أرمينية على أن يترك أهل الشام، فقبل ذلك وانصرف عنهم.
وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج أبو أحمد بن المتوكل.
فتعجل وعجل السير إلى سامرا فدخلها ليلة الاربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة.
وفيها توفي المهتدي بالله الخليفة كما تقدم رحمه الله تعالى.
والزبير بن بكار ابن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري قاضي مكة.
قدم بغداد وحدث بها، وله كتاب أنساب قريش، وكان من أهل العلم بذلك، وكتابه في ذلك حافل جدا.
وقد روى عنه ابن ماجه وغيره، ووثقه الدار قطني والخطيب وأثنى عليه وعلى كتابه وتوفي بمكة عن أربع وثمانين سنة في ذي القعدة من هذه السنة.
الامام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح، وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر هاهنا نبذة يسيرة من ذلك فنقول: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن يزدزبه (3) الجعفي مولاهم أبو عبد الله البخاري الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الاسلام، ولد البخاري رحمه الله في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة،
ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة.
فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في
__________
(1) في الطبري 11 / 214 وابن الاثير 7 / 240: على بلاد فارس.
(2) وهو منصور بن عيسى بن الشيخ - ذكره ابن الاثير.
(3) قال ابن ماكولا في الاكمال: هو يزدزبه، وفي وفيات الاعيان: يزذبه.
وقال عبد الغني صاحب الكمال.
بردزبة مجوسي مات عليها.
أما المغيرة فقد أسلم على يد والي بخارى .
البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ (1).
وروى عنه خلائق وأمم.
وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال: سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفا لم يبق منهم أحد غيري.
وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم من طريقه، وحماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل وطاهر بن مخلد.
وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي، وقد توفي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ووثقه الامير أبو نصر بن ماكولا.
وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وكان مسلم يتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم.
وقد دخل بغداد ثمان مرات، وفي كل منها يجتمع بالامام أحمد فيحثه أحمد على المقام بغداد ويلومه على الاقامة بخراسان.
وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة.
وقد كان أصيب بصره وهو صغير فرأت أمه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال: يا هذه قد رد الله على ولدك بصره بكثرة دعائك، أو قال بكائك، فأصبح وهو بصير.
وقال البخاري: فكرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحوا من مائتي ألف حديث مسندة.
وكان يحفظها كلها.
ودخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا أسانيد وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق،
وخلطوا الرجال في الاسانيد وجعلو متون الاحاديث على غير أسانيدها، ثم قرأوها على البخاري فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الاحاديث والاسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلفوا عليه سقطة في إسناد ولا متن.
وكذلك صنع في بغداد وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة.
والاخبار عنه في ذلك كثيرة.
وقد اثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه.
فقال الامام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله.
وقال علي بن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه.
وقال إسحاق بن راهويه: لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير: ما رأينا مثله.
وقال علي بن حجر: لا أعلم مثله.
وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي.
دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم.
وقال أبو العباس الدعولي: كتب أهل بغداد إلى البخاري: المسلمون بخير ما حييت لهم * وليس بعدك خير حين تفتقد وقال الفلاس: كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث.
وقال أبو نعيم أحمد بن حماد: هو فقيه هذه الامة.
وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي.
ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الامام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وقال قتيبة بن سعيد: رحل إلى من شرق الارض وغربها
__________
(1) قال في صفة الصفوة عن البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم من اهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر .
خلق فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال مرجى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء - يعني في زمانه - وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا.
وقال هو آية من آيات الله تمشي على الارض.
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبا.
وقال إسحاق بن راهويه: هو أبصر مني.
وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق.
وقال عبد الله
العجلي: رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يجلسان إليه يسمعان ما يقول، ولم يكن مسلم يبلغه، وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا، وكان حييا فاضلا يحسن كل شئ.
وقال غيره: رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الاسامي والكنى والعلل، وهو يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
وقال أحمد بن حمدون القصار: رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري فقبل بين عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الاستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته فلما فرغ قال مسلم لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.
وقال الترمذي: لم أر بالعراق ولا في خراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الاسانيد أعلم من البخاري، وكنا يوما عند عبد الله بن منير فقال للبخاري: جعلك الله زين هذه الامة.
قال الترمذي: فاستجيب له فيه.
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري، ولو استقصينا ثناء العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته لطال علينا، ونحن على عجل من أجل الحوادث والله سبحانه المستعان.
وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الاخرة دار البقاء.
وقال البخاري: إني لارجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني أني اغتبته.
فذكر له التاريخ وما ذكر فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك.
فقال: ليس هذا من هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إيذنوا له فلبئس أخو العشيرة " (1) ونحن إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا.
وقد كان رحمه الله يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يختم القرآن في كل ليلة من رمضان ختمة، وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا، وكان يكثر لصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف النفس، بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حيت يسمع أولاده عليه فأرسل إليه: في بيته العلم والحلم يؤتى - يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلى - وأبى أن يذهب إليهم.
والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى، فبقي في نفس الامير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق - وكان قد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد - فأراد أن يصرف
الناس عن السماع من البخاري، وقد كان الناس يعظمنونه جدا، وحين رجع إليهم نثروا على رأسه
__________
(1) أخرجه البخاري في الادب باب (38) و (48).
ومسلم في كتاب البر والصلة (73) وأبو داود في الادب باب (5) ومالك في الموطأ في حسن الخلق باب (4) وأحمد في المسند 6 / 28، 80، 158، 273 .
الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للاملاء بجامعها فلم يقبلوا من الامير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد فخرج منها ودعا خالد بن أحمد فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلى ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها (1) وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث: " وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين " (2).
ثم اتفق مرضه على إثر ذلك.
فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء، وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعني سنة ست وخمسين ومائتين - وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميس ولا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك ثم دام ذلك أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره.
وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة.
وقد ترك رحمه الله بعده علما نافعا لجيمع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع علمه إلا من ثلاث، علم ينتفع به " (3) الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب صنف في الصحيح، لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره.
وما أحسن ما قاله بعض الفصحاء من الشعراء: صحيح البخاري لو أنصفوه * لما خط إلا بماء الذهب هو الفرق بين الهدى والعمى * هو السد بين الفتى والعطب أسانيد مثل نجوم السماء * أمام متون لها كالشهب
بها قام ميزان دين الرسول * ودان به العجم بعد العرب حجاب من النار لاشك فيه * يميز بين الرضى والغضب وستر رقيق إلى المصطفى * ونص مبين لكشف الريب فيا علما أجمع العالمو * ن على فضل رتبته في الرتب سبقت الائمة فيما جمعت * وفزت على زعمهم بالقصب نفيت الضعيف من الناقل * ين ومن كان متهما بالكذب وأبرزت في حسن ترتيبه * وتبويبه عجبا للعجب فأعطاك مولاك ما تشتهيه * وأجزل حظك فيما وهب
__________
(1) نزل في دار أبي منصور غالب بن جبرائيل الخرتنكي، ومات في داره (معجم البلدان خرتنك).
(2) أخرجه مالك في الموطأ - في القرآن باب (40) وأحمد في المسند 3 / 424.
(3) أخرجه مسلم في الوصية (3) باب.
ح (1631) ص 3 / 1255.
وأبو داود في الوصايا.
باب (14) والترمذي في الاحكام (36) والنسائي في الوصايا باب (8).
والامام أحمد المسند 2 / 372.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين فيها ولى الخليفة المعتمد ليعقوب بن الليث بلخ وطخارستان وما يلي ذلك من كرمان وسجستان السند وغيرها.
وفي صفر منها عقد المعتمد لاخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن أضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والاهواز وفارس، وأذن له أن يسيب في ذلك كله.
وفيها تواقع سعيد الحاجب وصاحب الزنج في أراضي البصرة فهزمه سعيد الحاجب واستنقذ من يده خلقا من النساء والذرية، واسترجع منه أموالا جزيلة.
وأهان الزنج غاية الاهانة.
ثم إن الزنج بيتوا سعيدا وجيشه فقتلوا منهم خلقا كثيرا ويقال إن سعيد بن صالح قتل أيضا.
ثم إن الزنج التقواهم ومنصور بن جعفر الخياط في جيش كثيف فهزمهم صاحب الزنج المدعي أنه طالبي، وهو كاذب.
قال ابن جرير: وفيها ظفر ببغداد بموضع يقال له بركة زلزل برجل خناق قد قتل
خلقا من النساء كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فحمل إلى المعتمد فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الجلادون على أنثييه بخشب العقابين فمات، ورد إلى بغداد وصلب هناك، ثم أحرقت جثته.
وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة كسف القمر وغاب أكثره.
وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وهرب نائبها بغراج ومن معه، وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا كثيرة، وانتهبوها ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الامان فليحضر.
فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا الشاذ: كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا - وهي الاشارة بينهم إلى القتل - فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل - أي صراخ الزنج وضحكهم - فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وهرب الناس منهم كل مهرب، وحرقوا الكلا من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شئ من إنسان أو بهيمة أو اتار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الاعيان والادباء والفضلاء والمحدثين والعلماء.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان هذا الخبيث قد أوقع في أهل فارس وقعة عظيمة، ثم بلغه أن أهل البصرة قد جاءهم من الميرة شئ كثير وقد اتسعوا بعد الضيق فحسدهم على ذلك، فروى ابن جرير عن من سمعه يقول: دعوت الله على أهل البصرة فخوطبت فقيل: إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وقد كان هذا شائعا في أصحابه حتى وقع الامر طبق ما أخبر به.
ولا شك أن هذا كان معه شيطان يخاطبه، كما كان يأتي الشيطان مسيلمة وغيره.
قال: ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه: إني صبيحة ذلك دعوت الله على أهل البصرة فرفعت لي البصرة بين السماء والارض ورأيت أهلها يقتلون ورأيت الملائكة تقاتل مع أصحابي وإني لمنصور على الناس والملائكة تقاتل معي، وتثبت
جيوشي، ويؤيدوني في حروبي.
ولما صار إليه العلوية الذي كانوا بالبصرة انتسب هو حينئذ إلى يحيى بن زيد، وهو كاذب في ذلك بالاجماع، لان يحيى بن زيد لم يعقب إلا بنتا ماتت وهي ترضع، فقبح الله هذا اللعين ما أكذبه وأفجره وأغدره.
وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جيشا كثيفا مع الامير محمد - المعروف بالمولد - لقتال صاحب الزنج، فقبض في طريقه على سعد بن أحمد الباهلي الذي كان قد تغلب على أرض البطائح وأخاف السبيل.
وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بأرض فارس وتغلب عليها.
وفيها وثب رجل من الروم يقال له بسيل الصقلبي على ملك الروم ميخائيل بن توفيل فقتله واستحوذ على مملكة الروم، وقد كان لميخائيل في الملك على الروم أربع وعشرون سنة.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي.
وفيها توفي من الاعيان: الحسن بن عرفة بن يزيد صاحب الجزء المشهور المروي، وقد جاوز المائة بعشر سنين، وقيل بسبع، وكان له عشرة من الولد سماهم بأسماء العشرة.
وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وكان يتردد إلى الامام أحمد بن حنبل.
ولد في سنة خمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين.
وأبو سعيد الاشج (1).
وزيد بن أخزم الطائي (2).
والرياشي (3) ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة.
وعلي بن خشرم، أحد مشايخ مسلم الذي يكثر عنهم الرواية.
والعباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي النحوي اللغوي، كان عالما بأيام العرب والسير وكان كثير الاطلاع ثقة عالما، روى عن الاصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، وعنه إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما.
قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج.
ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الاصمعي أنه قال: مر بنا أعرابي ينشد ابنه فقلنا له صفه لنا.
فقال: كأنه دنينير.
فقلنا: لم نره، فلم نلبث أن جاء يحمله على عنقه أسيود كأنه سفل قدر.
فقلت: لو سألتنا عن هذا لارشدناك، إنه منذ اليوم يلعب ههنا مع لغلمان.
ثم أنشد الاصمعي:
__________
(1) وهو عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي الحافظ صاحب التصانيف.
قال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه وكان
ثقة حجة روى عن هشيم وعبد الله بن إدريس وخلق.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: بريد بن أخرم تحريف.
وهو أبو طالب البصري النبهاني، قتلته الزنج حدث عنه أصحاب الكتب إلا مسلما.
(3) من تقريب التهذيب، وفي الاصل: الرواسي وهو تحريف.
والرياشي اسمه العباس بن الفرج سيرد بعد قليل.
ولعل اقحام اسم الرواسي سهو في الناسخ .
نعم ضجيع الفتى إذا برد * الليل سحرا وقرقف العرد (1) زينها الله في الفؤاد كما * زين في عين والد ولد ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين في يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الاول عقد الخليفة لاخيه أبي أحمد على ديار مصر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس في مستهل ربيع الآخر (2) فخلع على أخيه وعلى مفلح وركبا نحو البصرة في جيش كثيف في عدد وعدد، فاقتتلوا هم والزنج قتالا شديد فقتل مفلح للنصف من جمادى الاولى، أصابه بسهم بلا نصل في صدره فأصبح ميتا، وحملت جثته إلى سامرا فدفن بها.
وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني أحد أمراء صاحب الزنج الكبار، وحمل إلى سامرا فضرب بين يدي المعتمد مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم أخذ بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق، وكان الذين سروه جيش أبي أحمد في وقعة هائلة مع الزنج قبحهم الله.
ولما بلغ خبره صاحب الزنج أسف على ذلك ثم قال: لقد خوطبت فيه فقيل لي: قتله كان خيرا لك.
لانه كان شرها يخفي من المغانم خيارها وقد كان صاحب الزنج يقول لاصحابه: لقد عرضت علي النبوة فخفت أن لا أقوم بأعبائها فلم أقبلها.
وفي ربيع الآخر منها وصل سعيد بن أحمد الباهلي إلى باب الخليفة فضرب سبعمائة سوط حتى مات ثم صلب.
وفيها قتل قاض واربعة وعشرون (3) رجلا من أصحاب صاحب الزنج عند باب العامة بسامرا.
وفيها رجع محمد بن واصل إلى طاعة السلطان وحمل خراج فارس وتمهدت الامور هناك.
وفيها
في أواخر رجب كان بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة هائلة فقتل منها خلق من الفريقين.
ثم استوخم أبو أحمد منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان، فلما نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة، ومات من الناس نحو من عشرين ألفا.
وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامرا وواسط وغيرها من البلاد، وحصل للناس ببغداد داء يقال له القفاع (4).
وفي يوم الخميس لسبع خلون من رمضان، أخذ رجل (5) من باب العامة بسامرا ذكر عنه أنه يسب السلف فضرب ألف سوط حتى مات.
وفي يوم الجمعة ثامنه توفي الامير يارجوخ فصلى عليه أخوه الخليفة أبو عيسى وحضره جعفر بن المعتمد على الله.
وفيها كانت وقعة هائلة بين موسى بن بغا وبين أصحاب الحسن بن زيد ببلاد خراسان فهزمهم هزيمة فظيعة.
وفيها كانت وقعة بين مسرور
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 27: الليل سحيرا وقرقف الصرد.
(2) في مروج الذهب 4 / 226: الاول.
(3) في الطبري 11 / 223: أربعة عشر: وفي ابن الاثير: جماعة من الزنج كان فيهم قاض.
(4) القفاع: داء يصيب الشاة في قوائمها فيعوجها (قاموس محيط).
(5) ذكره الطبري: أبو فقعس .
لبلخي وبين مساور الخارجي فكسره مسرور وأسر من أصحابه جماعة كثيرة.
وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق المتقدم ذكره.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن بديل (1) وأحمد بن حفص (2).
وأحمد بن سنان القطان (3).
ومحمد بن يحيى الذهلي (4).
ويحيى بن معاذ الرازي (5).
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين في يوم الجمعة لاربع بقين من ربيع الآخر رجع أبو أحمد بن المتوكل من واسط إلى سامرا وقد استخلف على حرب الزنج محمد الملقب بالمولد، وكان شجاعا شهما.
وفيها بعث الخليفة إلى نائب الكوفة جماعة من القواد فذبحوه وأخذوا ما كان معه من المال فإذا هو أربعون ألف دينار.
وفيها تغلب رجل جمال يقال له شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها وتفاقم أمره وأمر أتباعه هناك ولثلاث
عشر بقيت من ذي القعدة توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج، وخرج المعتمد لتوديعه وخلع عليه عند مفارقته له، وخرج عبد الرحمن بن مفلح إلى بلاد الاهواز نائبا عليها، وليكون عونا لموسى بن بغا على حرب صاحب الزنج الخبيث، فهزم عبد الرحمن بن مفلح جيش الخبيث وقتل من الزنج خلقا كثيرا وأسر طائفة كبيرة منهم وأرعبهم رعبا كثيرا بحيث لم يتجاسروا على مواقفته مرة ثانية، وقد حرضهم الخبيث كل التحريض فلم ينجع ذلك فيهم، ثم تواقع عبد الرحمن بن مفلح وعلي بن أبان المهلبي وهو مقدم جيوش صاحب الزنج فجرت بينهما حروب يطول شرحها، ثم كانت الدائرة على الزنج ولله الحمد.
فرجع علي بن أبان إلى الخبيث مغلوبا مقهورا، وبعث عبد الرحمن بالاسارى إلى سامرا فبادر إليهم العامة فقتلوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى الخليفة.
وفيها دنا ملك الروح لعنه الله إلى بلاد سميساط ثم إلى ملطية فقالته أهلها فهزموه وقتلوا بطريق البطارقة من أصحابه، ورجع إلى بلاده خاسئا وهو حسير.
وفيها دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بالخارجي (6) الذي كان بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة فقتله وحمل رأسه على رمح وطيف به في الآفاق.
ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل (7) بن
__________
(1) أبو جعفر اليامي الكوفي قاضي الكوفة ثم همذان قال الدار قطني: فيه لين.
قال في المغني: غير متهم.
وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه وقال النسائي: لا بأس به (2) السلمي النيسابوري قاضي نيسابور روى عن أبيه وجماعة.
(3) أبو جعفر الواسطي الحافظ روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
قيل: هو إمام أهل زمانه (4) أبو عبد الله الذهلي أحد الائمة الاعلام الثقات.
كان الامام أحمد يجله ويعظمه قال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه.
(5) الزاهد حكيم زمانه وواعظ عصره توفي في جمادى الاولى بنيسابور.
(6) هو عبد الرحمن الخارجي.
(7) في الطبري ومروج الذهب: إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي.
، وفي ابن الاثير: العباس بن إبراهيم بن محمد..وذكر بقية النسب كما في الطبري .
إبراهيم بن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني خطيب دمشق وإمامها وعالمها وله المصنفات المشهورة المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة.
ثم دخلت سنة ستين ومائتين وفيها وقع غلاء شديد ببلاد الاسلام كلها حتى أجلي أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها.
وبلغ كر الشعير ببغداد مائة وعشرين دينارا، واستمر ذلك شهورا.
وفيها قتل صاحب الزنج علي بن زيد صاحب الكوفة، وفيها أخذ الروم من المسلمين حصن لؤلؤة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المذكور قبلها.
وفيها توفي من الاعيان الحسن بن محمد الزعفراني (1)، وعبد الرحمن بن شرف ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه، وهو مالك بن طوق، وقال للرحبة رحبة مالك بن طوق، وحنين بن إسحاق العبادي الذي عرب كتاب اقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة.
وعرب حنين أيضا كتاب المجسطي وغير ذلك من كتب الطب من لغة اليونان إلى لغة العرب، وكان المأمون شديد الاعتناء بذلك جدا، وكذلك جعفر البرمكي قبله ولحنين مصنفات كثيرة في الطب، وإليه تنسب مسائل حنين، وكان بارعا في فنه جدا، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من صفر من هذه السنة.
قاله ابن خلكان.
سنة إحدى وستين ومائتين فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس لممالاتهم يعقوب بن الليث عليه.
وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة فشخص إليه مسرور البلخي ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق.
وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وبين عبد الرحمن بن مفلح فكسره ابن واصل
وأسره (2) وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم سار ابن
__________
(1) أبو علي الفقيه الحافظ صاحب الشافعي.
والزعفراني: نسبة إلى زعفرانة قرية قرب بغداد.
روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.
(2) قال ابن الاثير ان ابن واصل قتله.
وأظهر أنه مات بعد ان سعى الخليفة إلى اطلاق سراحه 7 / 275 .
واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد.
وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالا شديدا وغلبتهم الزنج ودخلوا الاهواز فقتلوا خلقا من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثم صرف أبو الساج عن نيابة الاهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما.
وفيها تجهز مسرور البلخي في جيش لقتال الزنج.
وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان.
وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم.
وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد.
وأصلح الله به تلك الناحية.
ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الامر من بعد ولده لابي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والاهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن سليمان الرهاوي (1).
وأحمد بن عبد الله العجلي (2).
والحسن بن أبي الشوارب بمكة (3).
وداود بن سليمان الجعفري.
وشعيب بن أيوب (4).
وعبد الله بن الواثق أخو المهتدي بالله.
وأبو شعيب السوسي (5).
وأبو زيد البسطامي أحد أئمة الصوفية.
علي بن
إشكاب وأخوه أبو محمد ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح.
ذكر شئ من ترجته بلاختصار هو مسلم أبو الحسن القشيري النيسابوري أحد الائمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس في شئ من
__________
(1) الحافظ أحد الائمة سمع زيد بن الحباب وأقرانه وهو ثقة ثبت.
(2) أبو الحسن العجلي الكوفي نزيل طرابلس المغرب وقد نزح إليها أيام محنة القرآن.
صاحب التاريخ والجرح والتعديل.
قال ابن ناصر الدين: كان إماما حافظا قدوة من المتقنين.
(3) قاضي القضاة، مات في رمضان وكان أحد الاجواد الممدحين.
(4) أبو بكر الصيرفي مقرئ واسط وعالمها.
ثقة.
(5) صالح بن زياد مقرئ أهل الرقة.
قال أبو حاتم: صدوق (تقريب التهذيب 1 / 360) .
التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الاحاديث بتمامها في موضع واحد ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الابواب فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه وفي الجملة فإن مسلما لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري.
والمقصود أن مسلما دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم.
وروى عنه جماعة كثيرون منهم الترمذي في جامعه حديثا واحدا وهو حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " احصوا هلال شعبان لرمضان " (1).
وصالح بن محمد حرره.
وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو عوانة الاسفراييني.
وقال الخطيب: أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان
مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
وأخبرني ابن يعقوب، أنا محمد بن نعيم، سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت مسلما بن الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح ثلثمائة ألف حديث مسموعة.
وروى الخطيب قائلا: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي السودرجاني - بأصبهان - سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث.
وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه فقال بالعجمية ما معناه: أي رجل كان هذا ؟ وقال إسحاق بن منصور لمسلم: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
وقد أثنى عليه جمعاة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الاخرم: قل ما يفوت البخاري ومسلما ما يثبت في الحديث.
وروى الخطيب عن أبي عمر ومحمد بن حمدان الحيري قال: سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم ؟ فقال: كان البخاري عالما ومسلم عالما، فكررت ذلك عليه مرارا وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان، وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لانه كتب المقاطيع والمراسيل.
قال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه.
ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه.
وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال سمعت أبا الحسن الداقطني يقول: لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء.
قال الخطيب: وأخبرني أبو بكر المنكدر ثنا محمد بن عبد الله الحافظ حدثني أبو نصر بن محمد الزراد، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار، سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه
__________
(6) أخرجه الترمذي في الصوم (4) باب.
ح 687 ص 3 / 71.
والحديث لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الاستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك
محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس فما علته ؟ فقال البخاري: هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن سهيل، عن عوز بن عبد الله قوله.
قال البخاري: وهذا أولى فإنه لايعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل.
قلت: وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله.
قال الخطيب وقد كان مسلم يناضل عن البخاري.
ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور، وكيف نودي على البخاري بسبب ذلك بنيسابور، وأن الذهلي قال يوما لاهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج: ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا.
فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعهه من الذهلي جميعه وأرسله إليه وترك الرواية عن الذهلي بالكلية فلم يرو عنه شيئا لا في صحيحه ولا في غيره، واستحكمت الوحشة بينهما.
هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله.
وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله أنه عقد مجلس للمذاكرة فسئل يوما عن حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لاهله: لا يدحل أحد الليلة علي، وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح وقد أكل تلك السلة وهو لايشعر.
فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشبة يوم الاحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور (1)، وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، فكان عمره سبعا (2) وخمسين سنة رحمه الله تعالى.
أبو زيد البسطامي اسمه طيفور بن عيسى (3) بن علي، أحد مشايخ الصوفية، وكان جده مجوسيا فأسلم، وكان لابي يزيد أخوات صالحات عابدات، وهو أجلهم، وقيل لابي يزيد: بأي شئ وصلت إلى المعرفة ؟
فقال ببطن جائع وبدن عار.
وكان يقول: دعوت نفسي إلى طاعة الله فلم تجبني فمنعتها الماء سنة، وقال إذا رأيت الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف
__________
(1) في وفيات الاعيان 5 / 195: بنصر أباذ ظاهر نيسابور.
(2) في وفيات الاعيان: خمس وخمسون.
وقال في العبر، مات وله ستون سنة (3) في ابن خلكان 2 / 531 ومعجم البلدان " بسطام ": عيسى بن آدم بن عيسى بن علي.
والبسطامي نسبة إلى بسطام وهي بلدة مشهورة من أعمال قومس .
تجدونه عند الامر والنهي وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة.
قال ابن خلكان: وله مقامات ومجاهدات مشهورة وكرامات ظاهرة.
توفي سنة إحدى وستين ومائتين.
قلت: وقد حكي عنه شحطات ناقصات، وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة، وقد قال بعضهم: إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة.
ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين فيها قدم يعقوب بن الليث في جحافل فدخل واسط قهرا فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله فتوسط بين بغداد وواسط فانتدب له أبو أحمد الموفق بالله أخو الخليفة، في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسرور البلخي، فاقتتلوا في رجب من هذه السنة أياما قتالا عظيما، ثم كانت الغلبة على يعقوب وأصحابه، وذلك يوم عيد الشعانين.
فقتل منهم خلق كثير وغنم منهم أبو أحمد شيئا كثيرا من الذهب والفضة والمسك والدواب: ويقال إنهم وجدوا في جيش يعقوب هذا رايات عليها صلبان.
ثم انصرف المعتمد إلى المدائن ورد محمد بن طاهر إلى نيابة بغداد وأمر له بخمسمائة ألف درهم.
وفيها غلب يعقوب بن الليث على بلاد فارس وهرب ابن واصل منها.
وفيها كانت حروب كثيرة بين صاحب الزنج وجيش الخليفة.
وفيها ولى القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.
وفيها جمع للقاضي إسماعيل بن إسحاق قضاء جانبي بغداد.
وفيها حج بالناس
الفضل بن إسحاق العباسي.
قال ابن جرير: وفيها وقع بين الخياطين والخرازين (1) بمكة فاقتتلوا يوم التروية أو قبله بيوم.
فقتل منهم سبعة عشر نفسا وخاف الناس أن يفوتهم الحج بسببهم، ثم توادعوا إلى ما بعد الحج.
وفيها توفي من الاعيان صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها.
وعمر بن شبة النميري (2).
ومحمد بن عاصم (3).
ويعقوب بن شيبة صاحب المسند الحافل المشهور والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين فيها جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شتى فمن ذلك مقتلة عظيمة في الزنج لعنهم الله، حصرهم في بعض المواقف بعض الامراء من جهة الخليفة فقتل الموجودين عنده من آخرهم.
وفيها سلمت الصقالبة حصن لؤلؤة إلى طاغية الروم.
وفيها تغلب أخو شركب الجمال على نيسابور وأخرج
__________
(1) في ابن الاثير: الخياطين والجزارين، وفي الطبري: الحناطين والجزارين.
(2) الحافظ العلامة الاخباري الثقة صاحب التصانيف حدث عن عبد الوهاب الثقفي وغندر وطبقتهما وكان ثقة.
(3) أبو جعفر الاصبهاني الحافظ أحد الاعلام قال في العبر: صدوق .
منها عاملها الحسين بن طاهر وأخذ من أهلها ثلث أموالهم مصادرة قبحه الله.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي.
وفيها توفي من الاعيان مساور بن عبد الحميد الشاري الخارجي، وقد كان من الابطال والشجعان المشهورين، والتف عليه خلق من الاعراب وغيرهم، وطالت مدته حتى قصمه الله.
ووزير الخلافة عبيد الله بن يحيى بن خاقان صدمه في الميدان خادم يقال له ريشق فسقط عن دابته على أم رأسه فخرج دماغه من أذنيه وأنفه فمات بعد ثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن المتوكل، ومشى في جنازته، وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فلما قدم موسى بن بغا سامرا عزله واستوزر مكانه سليمان بن وهب، وسلمت دار عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى الامير المعروف بكيطلغ (1).
وفيها توفي أحمد بن
الازهر (2).
والحسن بن أبي الربيع (3).
ومعاوية بن صالح الاشعري (4).
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين في المحرم منها عسكر أبو أحمد وموسى بن بغا بسامرا وخرجا منها لليلتين مضتا من صفر، وخرج المعتمد لتوديعهما، وسار إلى بغداد.
فلما وصلا إلى بغداد توفي الامير موسى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها.
وفيها ولى محمد بن المولد واسطا لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صاحب الزنج، فهزمه ابن المولد بعد حروب طويلة.
وفيها سار ابن الديراني إلى مدينة الدينور واجتمع عليه دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف وابن عياض فهزماه ونهبا أمواله ورجع مفلولا.
ولما توفي موسى بن بغا عزل الخليفة الوزير الذي كان من جهته وهو سليمان بن حرب وحبسه مقيدا وأمر بنهب دوره ودور أقربائه ورد الحسن بن مخلد إلى الوزارة، فبلغ ذلك أبا أحمد وهو ببغداد فسار بمن معه إلى سامرا فتحصن منه أخوه المعتمد بجانبها الغربي، فلما كان يوم التروية عبر جيش أبي أحمد إلى الجانب الذي فيه المعتمد فلم يكن بينهم قتال بل اصطلحوا على رد سليمان بن وهب إلى الوزارة وهرب الحسن بن مخلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن المتوكل ثم ظهر، وهرب جماعة من الامراء إلى الموصل خوفا من أبي أحمد، وفيها حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي.
وفيها
__________
(1) في الطبري 11 / 246 وابن الاثير 7 / 310: كيغلغ.
(2) ابن منيع بن سليط أبو الازهر النيسابوري الحافظ.
قال النسائي: لا بأس به.
وقال ابن ناصر الدين كان حافظا صدوقا.
قال في التقريب 1 / 10: لما كبر صار كتابه أثبت من حفظه.
(3) أبو علي، قال في التقريب في نسبة: الحسن بن يحيى بن الجعد العبدي.
نزيل بغداد صدوق (4) ابن أبي عبيد الله الاشعري، أبو عبد الله الدمشقي روى عن عبيد الله بن موسى وأبي مسهر، صدوق.
(تقريب التهذيب - شذرات الذهب) .
توفي من الاعيان أحمد بن عبد الرحمن بن وهب (1).
وإسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين.
أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي أحد الحفاظ المشهورين قيل إنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان فقيها ورعا زاهدا عابدا متواضعا خاشعا أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه، وكان في حال شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات ولا يفعل المندوبات اكتفاء بمذاكرته.
توفي يوم الاثنين سلخ ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده سنة مائتين، وقيل سنة تسعين ومائة، وقد ذكرنا ترجمته مبسوطة في التكميل.
ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق.
ويونس بن عبد الاعلى الصدفي المصري وهو ممن روى عن الشافعي.
وقد ذكرناه في التكميل وفي الطبقات.
وقبيحة أم المعتز إحدى حظايا المتوكل على الله، وقد جمعت من الجواهر واللآلئ والذهب والمصاغ ما لم يعهد لمثلها.
ثم سلبت ذلك كله وقتل ولدها المعتز لاجل نفقات الجند، وشحت عليه بخمسين ألف دينار تداري بها عنه.
كانت وفاتها في ربيع الاول من هذه السنة.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين فيها كانت وقعة بين ابن ليثويه عامل أبي أحمد وبين سليمان بن جامع فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج، فقتل خلقا من أصحابه وأسر (2) منهم سبعة وأربعين أسيرا، وحرق له مراكب كثيرة، وغنم منهم أموالا جزيلة.
وفي المحرم من هذه السنة حاصر أحمد بن طولون نائب الديار المصرية مدينة إنطاكية وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هدايا ملك الروم، وفي جملتها أسارى من أسارى المسلمين، ومع كل أسير مصحف، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فاجتمع لاحمد بن طولون ملك الشام بكماله مع الديار المصرية، لانه لما مات نائب دمشق أماخور ركب ابن طولون من مصر فتلقاه ابن أماخور إلى الرملة فأقره عليها، وسار إلى دمشق فدخلها ثم إلى حمص فتسلمها ثم إلى حلب فأخذها ثم ركب إلى إنطاكية فكان من أمره ما تقدم.
وكان قد استخلف على مصر ابنه العباس فلما بلغه قدوم أبيه عليه من الشام أخذ ما كان في بيت المال من الحواصل ووازره جماعة على ذلك، ثم ساروا إلى برقة خارجا عن طاعة أبيه، فبعث إليه من أخذه ذليلا
__________
(1) لقبه بحشل، ويكنى أبا عبيد الله صدوق تغير بآخره (تقريب التهذيب).
(2) في الطبري 11 / 265: وقتل سبعة وأربعين قائدا، وفي ابن الاثير 1 / 322: قتل من الزنوج نيفا وأربعين قائدا .
حقيرا، وردوه إلى مصر فحبسه وقتل جماعة من أصحابه.
وفيها خرج رجل يقال له القاسم بن مهاة على دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي فقتله واستحوذ على أصبهان فانتصر أصحاب دلف له فقتلوا القاسم ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
وفيها لحق محمد المولود بيعقوب بن الليث فسار إليه في المحرم فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه.
وفيها دخل صاحب الزنج إلى النعمانية فقتل وحرق ثم سار إلى جرجرايا فانزعج الناس منه ودخل أهل السواد إلى بغداد.
وفيها ولى أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، ووجهه إليها بذلك وبالخلع والتحف.
وفيها حاصرت الزنج تستر حتى كادوا يأخذونها.
فوافاهم تكين البخاري فلم يضع ثياب سفره حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقا وهزمهم هزيمة فظيعة جدا، وهرب أميرهم علي بن أبان المهلبي مخذولا.
قال ابن جرير: وهذه وقعة باب كودك (1) المشهورة، ثم إن علي بن أبان المهلبي أخذ في مكاتبة تكين واستمالته إليه وإلى صاحب الزنج فسارع تكين في إجابته إلى ذلك فبلغ خبره مسرورا البلخي فسار نحوه وأظهر له الامان حتى أخذه فقيده وتفرق جيشه عنه ففرقة صارت إلى الزنج وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وفرقة انضافت إلى مسرور بعد إعطائه إياهم الامان، وولى مكانه على عمالته أميرا آخر يقال له اغرتمش.
وفيها حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى العباسي.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن منصور الرمادي رواية عبد الرزاق وقد صحب الامام أحمد وكان يعد من الابدال توفي عن ثلاث وستين سنة.
وسعدان بن نصر (2).
وعبد الله بن محمد المخزومي وعلي بن حرب الطائي الموصلي (3).
وأبو حفص النيسابوري علي بن موفق الزاهد.
ومحمد بن سحنون (4) قال ابن الاثير في كامله: وفيها قتل أبو الفضل العباس بن الفرج الرياضي صاحب أبي
عبيدة والاصمعي قتلته الزنج بالبصرة.
يعقوب بن الليث الصفار أحد الملوك العقلاء الابطال.
فتح بلادا كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج وكان يحمل في سرير من ذهب على رؤوس اثني عشر رجلا، وكان له بيت في رأس جبل عال سماه مكة، فما زال حتى قتل وأخذ بلده واستسلم أهلها فأسلموا على يديه، ولكن كان قد خرج عن طاعة الخليفة وقاتله أبو أحمد الموفق كما تقدم.
ولما مات ولوا أخاه عمرو بن الليث ما كان يليه أخوه يعقوب مع شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي.
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 322: باب كورك.
(2) أبو عثمان الثقفي البغدادي البزاز سمع من ابن عيينة وأبي معاوية والكبار.
ووثقه الدار قطني.
(3) أبو الحسن المحدث الاخباري صاحب المسند سمع من أبن عيينة والمحاربي عاش (90) سنة.
(4) المغربي المالكي مفتي القيروان تفقه على أبيه كثير التصانيف .
ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين في صفر منها تغلب إساتكين على بلد الري وأخرج عاملها منها ثم مضى إلى قزوين فصالحه أهلها فدخلها وأخذ منها أموالا جزيلة، ثم عاد إلى الري فمانعه أهلها عن الدخول إليها فقهرهم ودخلها.
وفيها غارت سرية من الروم على ناحية ديار ربيعة فقتلوا وسبوا ومثلوا وأخذوا نحوا من مائتين وخمسين أسيرا، فنفر إليهم أهل نصيبين (1) وأهل الموصل فهربت منهم الروم ورجعوا إلى بلادهم.
وفيها ولى عمرو بن الليث شرطة بغداد وسامرا لعبيد الله بن طاهر، وبعث إليه أبو أحمد بالخلعة وخلع عليه عمرو بن الليث أيضا وأهدى إليه عمودين (2) من ذهب، وذلك مضافا إلى ما كان يليه أخوه من البلدان.
وفيها سار اغرتمش إلى قتال علي بن أبان المهلبي بتستر فأخذ من كان في السجن من أصحاب علي بن أبان المهلبي من الامراء فقتلهم عن آخرهم، ثم سار إلى علي بن أبان فاقتتلا قتالا شديدا في
مرات عديدة، كان آخرها لعلي بن أبان المهلبي، قتل خلقا كثيرا من أصحاب اغرتمش وأسر بعضهم فقتلهم أيضا، وبعث برؤوسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رؤوسهم على باب مدينته قبحه الله.
وفيها وثب أهل حمص على عاملهم عيسى الكرخي فقتلوه في شوال منها، وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الاصغر العقيلي (3) أهل طبرستان إلى نفسه وأظهر لهم أن الحسن بن زيد أسر ولم يبق من يقوم بهذا الامر غيره، فبايعوه.
فلما بلغ ذلك الحسن بن زيد قصده فقاتله فقتله ونهب أمواله وأموال من أتبعه وأحرق دورهم.
وفيها وقعت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية وتغلب عليها رجل من أهل البيت من سلالة الحسن بن زيد الذي تغلب على طبرستان، وجرت شرور كثيرة هنالك بسبب قتل الجعفرية والعلوية يطول ذكرها.
وفيها وثبت طائفة من الاعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة.
وفيها أغارت الروم أيضا على ديار ربيعة.
وفيها دخل أصحاب صاحب الزنج إلى رامهرمز فافتتحوها بعد قتال طويل.
وفيها دخل ابن أبي الساج مكة فقاتله المخزومي فقهره ابن أبي الساج وحرق داره واستباح ماله، وذلك يوم التروية في هذه السنة.
ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبي الساج من جهة الخليفة.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد المتقد ذكره قبلها.
وفيها عمل محمد بن عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب - وهو خليفة بلاد الاندلس وبلاد المغرب - مراكب في نهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد ليقاتلوهم، فلما دخلت المراكب البحر المحيط تكسرت وتقطعت ولم ينج من أهلها إلا اليسير بل غرق
__________
(1) من الطبري 11 / 255 وابن الاثير 7 / 333، وفي الاصل: الصين وهو تحريف.
(2) في الطبري 11 / 255: عمود.
(3) في الطبري: العقيقي.
(انظر ابن الاثير 7 / 335) .
أكثرهم.
وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم ببلاد صقلية فاقتتلوا فقتل من المسلمين خلق كثير إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها حارب لؤلؤ غلام ابن طولون لموسى بن أتامش فكسره لؤلؤ وأسره
وبعث به إلى مولاه أحمد بن طولون، وهو إذ ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة، ثم اقتتل لؤلؤ هذا وطائفة من الروم فقتل من الروم خلقا كثيرا.
قال ابن الاثير: وفيها اشتد الحال وضاق الناس ذرعا بكثرة الهياج والفتن وتغلب القواد والاجناد على كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة واشتغال أخيه أبي أحمد بقتال الزنج.
وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني جدا ثم قوي به البرد حتى جمد الماء.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن رومة (1).
وصالح بن الامام أحمد بن حنبل قاضي أصبهان.
ومحمد بن شجاع البلخي أحد عباد الجهمية.
ومحمد بن عبد الملك الدقيقي (2).
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة وأكمل تجمل لقتال الزنج، فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه، وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطا مطولا.
وحاصل ذلك أنه آل الحال أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب، ولكن سلمه الله وغنمه وأعلى كلمته وسدد رميته وأجاب دعوته وفتح على يديه وأسبغ نعمه عليه، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه المعتمد كما سيأتي، ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوش كثيفة فدخل واسط في ربيع الاول منها، فتلقاه ابنه وأخبره عن الجيوش الذين معه، وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد، فخلع على الامراء كلهم خلعا سنية، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها المنيعة، فقاتل الزنج دونها قتالا شديدا فقهرهم ودخلها عنوة وهربوا منها، فبعث في آثارهم جيشا فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون، وغنم أبو أحمد من المنيعة شيئا كثيرا واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعا بعد ما كان للشر مجمعا.
ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة وبها سليمان بن جامع،
فحاصروها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين، ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن
__________
(1) في شذرات الذهب 2 / 151: أورمة، أبو اسحاق الاصبهاني الحافظ أحد الاذكياء المحدثين.
قال ابن ناصر الدين: فاق أهل عصره في الذكاء والحفظ.
مات في ذي الحجة ببغداد.
(2) أبو جعفر الواسطي روى عن يزيد بن هارون وطبقته وكان إماما ثقة صاحب حديث مات في شوال .
هندي (1) أحد أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغه فقتله، وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج، فشق ذلك على الزنج جدا وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب، فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات وابتهل إلى الله في الدعاء واجتهد في حصارها فهزم الله مقاتلتها وانتهى إلى خندقها فإذا هو قد حصن غاية التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار، فجعل كلما جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم وأسر من نساء الزنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبيانا، واستنقذ من أيديهم النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة نحوا من عشرة آلاف (2) نسمة فسيرهم إلى أهليهم، جزاه الله خيرا.
ثم أمر بهدم فنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها، وأقام بها سبعة عشر يوما، بعث في آثار من انهزم منهم، فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح، فمن أجابه أضافه إلى بعض الامراء - وكان مقصوده رجوعهم إلى الدين والحق - ومن لم يجبه قتله وحبسه.
ثم ركب إلى الاهواز فأجلاهم عنها وطردهم منها وقتل خلقا كثيرا من أشرافهم، منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري وكان رئيسا فيهم مطاعا، وغنم شيئا كثيرا من أموالهم، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج قبحه الله كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام.
ونبذ له الامان إن هو رجع إلى الحق، فلم يرد عليه صاحب الزنج جوابا.
مسير أبي أحمد الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وحصار المختارة
لما كتب أبو أحمد إلى صاحب الزنج يدعوه إلى الحق فلم يجبه، استهانة به، ركب من فوره في جيوش عظيمة قريب من خمسين ألف مقاتل، قاصدا إلى المختارة مدينة صاحب الزنج، فلما انتهى إليها وجدها في غاية الاحكام، وقد حوط عليها من آلات الحصار شيئا كثيرا، وقد التف على صاحب الزنج نحو من ثلثمائة ألف مقاتل بسيف ورمح ومقلاع، ومن يكثر سوادهم، فقدم الموفق ولده أبا العباس بين يديه فتقدم حتى وقف تحت قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة، وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته، ثم تراكمت الزنج عليه من كل مكان فهزمهم وأثبت بهبوذ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعا سنية ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق، ثم ركب أبو أحمد الموفق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناس كلهم بالامان إلى صاحب الزنج فتحول خلق كثير من جيش صاحب الزنج إلى
__________
(1) في الطبري 11 / 270: أحمد بن مهدي الجبائي.
وفي ابن الاثير 7 / 346: أحمد بن هندي الحيامي.
(2) في ابن الاثير 7 / 347: عشرين ألفا .
الموفق، وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سماها الموفقية، وأمر بحمل الامتعة والتجارات إليها، فاجتمع بها من أنواع الاشياء وصنوفها ما لم يجتمع في بلد قبلها، وعظم شأنها وامتلات من المعايش والارزاق وصنوف التجارات والسكان والدواب وغيرهم، وإنما بناها ليستعين بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروب عظيمة، وما زالت الحرب ناشبة حتى أنسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج، وقد تحول منهم خلق كثير فصاروا على صاحب الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عدد من تحول قريبا من خمسين ألفا من الامراء الخواص والاجناد، والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر.
وفيها حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي.
وفيها توفي من الاعيان إسماعيل بن سيبويه (1).
وإسحاق بن إبراهيم بن شاذان (2)، ويحيى بن نصر الخولاني (3)، وعباس البرقفي (4)، ومحمد بن حماد بن بكر بن حماد أبو بكر المقري صاحب خلف بن هشام البزار ببغداد في ربيع الاول ومحمد بن عزيز الايلي (5)، ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي
حبكان (6)، ويونس بن حبيب راوي مسند أبي داود الطيالسي عنه.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين في المحرم منها استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان - وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم في أنفسهم - الموفق فأمنه وفرح به وخلع عليه وأمره فركب في سمرته فوقف تجاه قصر الملك فنادى في الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره، وأنه في غرور هو ومن اتبعه، فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم، وبرد قتال الزنج عند ذلك إلى ربيع الآخر.
فعند ذلك أمر الموفق أصحابه بمحاصرة السور، وأمرهم إذا دخلوه أن لا يدخلوا البلد حتى يأمرهم، فنقبوا السور حتى انثلم ثم عجلوا الدخول فدخلوا فقاتلهم الزنج فهزمهم المسلمون وتقدموا إلى وسط المدينة، فجاءتهم الزنج من كل جانب وخرجت عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا واستلبوهم وفر الباقون فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الارزاق على ذرية من قتل
__________
(1) في شذرات الذهب 2 / 152: سموية، وهو أبو بشر العبدي الاصبهاني الحافظ، سمع بكر بن بكار أبا مسهر وخلقا.
قال ابن ناصر الدين: ثقة.
(2) قاضي شيراز روى عن جده سعد بن الصلت وطائفة.
وثقه بن حبان مات في جمادى الاخرة (شذرات 2 / 152).
(3) سمع ابن وهب.
أحد الثقات الاثبات.
(4) من تذكرة الحفاظ، وفي الاصل الترقفي.
أحد الثقات مات ببغداد.
(1) روى عن سلامة بن روح وغيره.
قال في المغني: " قال النسائي: صويلح، وقال أبو أحمد الحاكم: فيه نظر ".
(6) من تقريب التهذيب، وفي الاصل حنكان، أبو عبد الله الذهلي شيخ نيسابور.
ثقة مات شهيدا .
منهم، فحسن ذلك عند الناس جدا، وظفر أبو العباس بن الموفق بجماعة من الاعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم، وظفر ببهبوذ بن عبد الله بن عبد الوهاب فقتله، وكان ذلك من أكبر الفتح
عند المسلمين، وأعظم الرزايا عند الزنج.
وبعث عمرو بن الليث إلى أبي أحمد الموفق ثلثمائة ألف دينار وخمسين منا من مسك، وخمسين منا من عنبر، ومائتي من من عود، وفضة بقيمة ألف وثيابا من وشي وغلمانا كثيرة جدا.
وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية فحاصر أهل ملطية فأعانهم أهل مرعش ففر الخبيث خاسئا.
وغزا الصائفة من ناحية الثغور عامل ابن طولون فقتل من الروم سبعة (1) عشر ألفا.
وحج بالناس فيها هارون المتقدم: وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني.
وفيها توفي من الاعيان أحمد بن سيار (2).
وأحمد بن شيبان (3).
وأحمد بن يونس الضبي (4).
وعيسى بن أحمد البلخي (5) ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري الفقيه المالكي.
وقد صحب الشافعي وروى عنه.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين فيها اجتهد الموفق بالله في تخريب مدينة صاحب الزنج فخرب منه شيئا كثيرا، وتمكن الجيوش من العبور إلى البلد، ولكن جاءه في أثناء هذه الحالة سهم في صدره من يد رجل رومي يقال له قرطاس فكاد يقتله، فاضطرب الحال لذلك وهو يتجلد ويحض على القتال مع ذلك، ثم أقام ببلده الموفقية أياما يتداوى فاضطرب الاحوال وخاف الناس من صاحب الزنج، وأشاروا على الموفق بالمسير إلى بغداد فلم يقبل فقويت علته ثم من الله عليه بالعافية في شعبان، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، فنهض مسرعا إلى الحصار فوجد الخبيث قد رمم كثيرا مما كان الموفق قد خربه وهدمه فأمر بتخريبه وما حوله وما قرب منه، ثم لازم الحصار فما زال حتى فتح المدينة الغربية وخرب قصور صاحب الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئا كثيرا مما لا يحد ولا يوصف كثرة، وأسر من نساء الزنج واستنقذ من نساء المسلمين وصبيانهم خلقا كثيرا، فأمر بردهم إلى أهاليهم مكرمين وقد تحول صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصل السمريات إليه، فأمر الموفق بتخريبها وقطع الجسور، واستمر الحصار باقي هذه السنة وما برح حتى تسلم الجانب الشرقي أيضا واستحوذ على حواصله وأمواله، وفر الخبيث هاربا غير آيب، وخرج منها هاربا وترك حلائله وأولاده وحواصله، فأخذها الموفق وشرح ذلك يطول جدا.
وقد حرره مبسوطا ابن جرير ولخصه ابن الاثير واختصره ابن
__________
(1) في الطبري 11 / 295 وابن الاثير 7 / 373: بضعة.
(2) محدث مرو، ومصنف تاريخ مرو.
وكان يشبه ابن المبارك علما وزهدا (3) الرملي، وثقه الحاكم، وقال ابن حبان: يخطئ.
(4) كان ثقة محتشما مات بأصبهان.
(5) نزل عسقلان محلة ببلخ وهو بغدادي الاصل .
كثير والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.
ولما رأى الخليفة المعتمد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمور الخلافة وصار هو الحاكم الآمر الناهي، وإليه تجلب التقادم وتحمل الاموال والخراج، وهو الذي يولي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مصر ووعده النصر والقيام معه، فاستغنم غيبة أخيه الموفق وركب في جمادى الاولى ومعه جماعة من القواد وقد أرصد له ابن طولون جيشا بالرقة يتلقونه، فلما اجتاز الخليفة بإسحاق بن كنداج (1) نائب الموصل وعامة الجزيرة اعتقله عنده عن الميسر إلى ابن طولون، وفند أعيان الامراء الذين معه، وعاتب الخليفة ولامه على هذا الصنع أشد اللوم، ثم ألزمه العود إلى سامرا ومن معه من الامراء فرجعوا إليها في غاية الذل والاهانة.
ولما بلغ الموفق ذلك شكر سعي إسحاق وولاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقية، وكتب إلى أخيه أن يأمن ابن طولون في دار العامة، فلم يمكن المعتمد إلا إجابته إلى ذلك، وهو كاره، وكان ابن طولون قد قطع ذكر الموفق في الخطب وأسقط اسمه عن الطرازات.
وفيها في ذي القعدة وقعت فتنة بمكة بين أصحاب الموفق وأصحاب ابن طولون، فقتل من أصحاب ابن طولون مائتان وهرب بقيتهم، واستلبهم أصحاب الموفق شيئا كثيرا.
وفيها قطع الاعراب على الحجيج الطريق وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها.
وفيها توفي إبراهيم بن منقذ الكناني (2).
وأحمد بن خلاد (3) مولى المعتصم - وكان من دعاة المعتزلة أخذ الكلام عن جعفر بن معشر المعتزلي - وسليمان بن حفص المعتزلي صاحب بشر المريسي،
وأبي الهذيل العلاف.
وعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني نائب أرمينية وديار بكر.
وأبو فروة يزيد بن محمد الرهاوي أحد الضعفاء.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين فيها كان مقتل صاحب الزنج قبحه الله: وذلك أن الموفق لما فرغ من شأن مدينة صاحب الزنج وهي المختارة واحتاز ما كان بها من الاموال وقتل من كان بها من الرجال، وسبى من وجد فيها من النساء والاطفال، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وسار إلى بعض البلاد طريدا شريدا بشر حال، عاد الموفق إلى مدينته الموفقية مؤيد منصورا، وقدم عليه لؤلؤة غلام أحمد بن طولون منابذا لسيده سميعا مطيعا للموفق، وكان وروده عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعظمه وأعطاه وخلع عليه وأحسن إليه، وبعثه طليعة بين يديه لقتال صاحب الزنج، وركب الموفق في
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 394 والطبري 11 / 304: كندا جيق.
(2) في شذرات الذهب 2 / 155: الخولاني المصري.
صاحب ابن وهب.
ثقة.
(3) في ابن الاثير 7 / 398: مخالد .
الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه فقصدوا الخبيث وقد تحصن ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصرا له حتى أخرجه منها ذليلا، واستحوذ على ما كان بها من الاموال والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج فأسروا عامة من كان معه من خاصته وجماعته، منهم سليمان بن جامع فاستبشر الناس بأسره وكبروا الله وحمدوه فرحا بالنصر والفتح، وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل، وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج في المعركة، وأتي برأسه مع غلام لؤلؤة الطولوني، فلما تحقق الموقف أنه رأسه بعد شهادة الامراء الذين كانوا معه من أصحابه بذلك خر ساجدا لله، ثم انكفأ راجعا إلى الموفقية ورأس الخبيث يحمل بين يديه، وسليمان معه أسير، فدخل البلد وهو كذلك، وكان يوما مشهودا وفرح المسلمون بذلك في المغارب والشارق، ثم جئ بأنكلاني ولد صاحب الزنج وأبان بن علي المهلبي مسعر حربهم مأسورين ومعهم قريب من خمسة آلاف
أسير، فتم السرور وهرب قرطاس الذي رمى الموفق بصدره بذلك السهم إلى رامهرمز فأخذ وبعث به إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق.
واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج وأمنهم الموفق ونادى في الناس بالامان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الاولى من هذه السنة وكان يوما مشهودا، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله.
وقد كان ظهوره في يوم الاربعاء لاربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين.
وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام ولله الحمد والمنة.
وقد قيل في انقضاء دولة الزنج وما كان من النصر عليهم أشعار كثيرة، من ذلك قول يحيى بن محمد الاسلمي: أقول وقد جاء البشير بوقعة * أعزت من الاسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعدما * أبيح حماهم خير ما كان جازيا تفرد إذ لم ينصر الله ناصر * بتجديد دين كان أصبح باليا وتشديد (1) ملك قد وهى عبد عزه * وأخذ بثأرات (2) تبير الاعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت * ليرجع فئ قد تخرم وافيا وترجع أمصار أبيحت وأحرقت * مرارا وقد أمست قواء عوافيا ويشفى صدور المسلمين (3) بوقعة * تقربها منا العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجد * ويلقى دعاء الطالبين خاسيا
__________
(1) في ابن الاثير 7 / 406: وتجديد.
(2) في الطبري 11 / 327: وادراك ثارات.
(3) في الطبري: المؤمنين .
فأعرض عن أحبابه ونعيمه * وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا (1) وفي هذه السنة أقبلت الروم في مائة الف مقاتل فنزلوا قريبا (2) من طرسوس فخرج إليهم المسلمون فبيتوهم فقتلوا منهم في ليلة واحدة حتى الصباح نحوا من سبعين ألفا ولله الحمد.
وقتل المقدم الذي عليهم وهو بطريق البطارقة، وجرح أكثر الباقين، وغنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة، ومن ذلك سبع صلبان من ذهب وفضة، وصليبهم الاعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر وأربع كراسي من ذهب ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، وعشرة آلاف علم من ديباج، وغنموا حرير كثيرا وأموالا جزيلة، وخمسة عشر ألف دابة وسروجا وسلاحا وسيوفا محلاة وغير ذلك ولله الحمد.
وفيها توفي من الاعيان.
أحمد بن طولون أبو العباس أمير الديار المصرية وباني الجامع بها المنسوب إلى طولون، وإنما بناه أحمد ابنه (3)، وقد ملك دمشق والعواصم والثغور مدة طويلة، وقد كان أبوه طولون من الاتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في سنة مائتين، ويقال إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة.
ولد أحمد هذا في سنة أربع عشرة ومائتين، ومات طولون أبوه في سنة ثلاثين، وقيل في سنة أربعين ومائتين.
وحكى ابن خلكان: أنه لم يكن أباه وإنما تبناه والله أعلم.
وحكى ابن عساكر أنه من جارية تركية اسمها هاشم.
ونشأ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم، مع حسن الصوت به، وكان يعيب على أولاد الترك ما يرتكبونه من المحرمات والمنكرات، وكانت أمه جارية اسمها هاشم.
وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته وحسن صوته بالقرآن وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الامارة فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون فقالت: إن أحمد
جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الامراء ولم يواجه أحمد بشئ مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وأبعث برأسه سريعا إلي.
فذهب
__________
(1) في ابن الاثير: عاريا.
(2) نزلوا بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس (الطبري - ابن الاثير).
(3) قال القضاعي في الخطط: شرع أحمد في بنائه سنة 264 وفرغ منه في سنة 266 (ابن خلكان 1 / 173 - ولاة مصر للكندي - ص 245) .
بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها فقال: إني مشغول بهذا الكتاب لاوصله إلى بعض الامراء.
قالت: هلم فلي إليه حاجة - وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه فحبسته عندها ليكتب لها كتابا، ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الامير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الامير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون.
فتعجب الملك من ذلك وقال: أين أحمد ؟ فطلب له فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي ؟ فأخبره بما جرى من الامر.
ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يديها وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر وتستغفر مما وقع منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده.
ثم ولي نيابة الديار المصرية للمعتز فدخلها يوم الاربعاء لسبع بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات، واستغل الديار المصرية في بعض السنين أربعة آلاف ألف دينار، وبنى بها الجامع، غرم عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وفرغ منه في سنة سبع وخمسين، وقيل في سنة ست وستين ومائتين، وكانت له مائدة في كل يوم
يحضرها الخاص والعام، وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار.
وقد قال له وكيله يوما: إنه تأتيني المرأة وعليها الازار والبدلة ولها الهيئة الحسنة تسألني فأعطيها ؟ فقال: من مد يده إليك فأعطه، وكان من أحفظ الناس للقرآن، ومن أطيبهم به صوتا.
وقد حكى ابن خلكان عنه أنه قتل صبرا نحوا من ثمانية عشر ألف نفس، فالله أعلم.
وبنى المارستان غرم عليه ستين ألف دينار، وعلى الميدان مائة وخمسين ألفا، وكانت له صدقات كثيرة جدا، وإحسان زائد ثم ملك دمشق بعد أميرها ماخور (1) في سنة أربع وستين ومائتين، فأحسن إلى أهلها أيضا إحسانا بالغا، واتفق أنه وقع بها حريق عند كنيسة مريم فنهض بنفسه إليه ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الحافظ الدمشقي، وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي، فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والاموال التي أحرقت.
فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك، فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم، ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها، فأقل ما حصل للفقير دينار.
رحمه الله.
ثم خرج إلى إنطاكية فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله (2) وأخذ البلد كما ذكرنا.
توفي بمصر في أوائل ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته من أكل لبن الجواميس كان يحبه
__________
(1) في الكندي الولاة ص 245 وابن الاثير ومروج الذهب 4 / 239: ماجور.
(2) في مروج الذهب 4 / 240 وولاة الكندي ص 246: محرم سنة 265 .