كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

السلطان من تولية شرف الدين أبي سعيد عبد الله بن أبي عصرون الحلبي، وكان قد هاجر إلى السلطان إلى دمشق فوعده أن يوليه قضاءها، وأسر بذلك إلى القاضي الفاضل، فأشار الفاضل على
الضياء أن يستعفي من القضاء فاستعفي فأعفي، وترك له وكالة بيت المال، وولى السلطان ابن أبي عصرون على أن يستنيب القاضي محيي الدين أبي المعالي محمد بن زكي الدين، ففعل ذلك، ثم بعد استقل بالحكم محيي الدين أبو حامد بن أبي عصرون عوضا عن أبيه شرف الدين، بسبب ضعف بصره.
وفي صفر منها وقف السلطان الناصر قرية حزم على الزاوية الغزالية، ومن يشتغل بها بالعلوم الشرعية، وما يحتاج إليه الفقيه، وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري مدرسها.
وفي هذا الشهر تزوج السلطان الملك الناصر بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر، وكانت زوجة نور الدين محمود، وكانت مقيمة بالقلعة، وولي تزويجها منه أخوها الامير سعد الدين بن أنر، وحضر القاضي ابن عصرون العقد ومن معه من العدول، وبات الناصر عندها تلك الليلة والتي بعدها، ثم سافر إلى مصر بعد يومين، ركب يوم الجمعة قبل الصلاة فنزل مرج الصفر، ثم سافر فعشا قريبا من الصفين (1)، ثم سار فدخل مصر يوم السبت سادس عشر ربيع الاول من هذه السنة، وتلقاه أخوه ونائبه عليها الملك العادل سيف الدين أبو بكر إلى عند بحر القلزم، ومعه من الهدايا شئ كثير من المآكل المتنوعة وغيرها، وكان في صحبة السلطان العماد الكاتب، ولم يكن ورد الديار المصرية قبل ذلك، فجعل يذكر محاسنها وما اختصت به من بين البلدين، وذكر الاهرام وشبههما بأنواع من التشبيهات، وبالغ في ذلك حسب ما ذكر في الروضتين.
وفي شعبان منها ركب الناصر إلى الاسكندرية فأسمع ولديه الفاضل علي والعزيز عثمان على الحافظ السلفي (2)، وتردد بهما إليه ثلاثة أيام الخميس والجمعة والسبت رابع رمضان، وعز الناصر على تمام الصيام بها، وقد كمل عمارة السور على البلد، وأمر بتجديد الاسطول وإصلاح مراكبه وسفنه وشحنه بالمقاتلة وأمرهم بغزو جزائر البحر، وأقطعهم الاقطاعات الجزيلة على ذلك، وأرصد للاسطول من بيت المال ما يكفيه لجميع شؤونه، ثم عاد إلى القاهرة في أثناء رمضان فأكمل صومه.
وفيها أمر الناصر ببناء مدرسة للشافعية على قبر الشافعي، وجعل الشيخ نجم الدين الخبوشاني مدرسها وناظرها.
وفيها أمر ببناء المارستان بالقاهرة ووقف عليه وقوفا كثيرة.
وفيها بنى الامير مجاهد
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 679: الصنمتين.
(2) وهو عماد الدين أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، والسلفي نسبة إلى سلفة، وهو لفظ أعجمي معناه ثلاث شفاه، لان إحدى شفتيه كانت مشقوقة.
واستقر السلفي في الاسكندرية سنة 511 وتوفي سنة 576 (وفيات الاعيان - طبقات الشافعية - تذكرة الحافظ).

الدين قيماز نائب قلعة الموصل جامعا حسنا وربطا ومدرسة ومارستانا متجاورات بظاهر الموصل وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمس وتسعين وخمسمائة رحمه الله.
وله عدة مدارس وخوانقات وجوامع غير ما ذكرنا، وكان دينا خيرا فاضلا حنفي المذهب، يذاكر في الادب والاشعار والفقه، كثير الصيام وقيام الليل.
وفيها أمر الخليفة بإخراج المجذومين من بغداد لناحية منها ليتميزوا عن أهل العافية، نسأل الله العافية.
وذكر ابن الجوزي في المنتظم عن امرأة قالت: كنت أمشي في الطريق وكأن رجلا يعارضني كلما مررت به، فقلت له: إنه لا سبيل إلى هذا الذي ترومه مني إلا بكتاب وشهود، فتزوجني عند الحاكم، فمكثت معه مدة ثم اعتراه انتفاخ ببطنه فكنا نظن أنه استسقاء فنداويه لذلك فلما كان بعد مدة ولد ولدا كما تلد النساء، وإذا هو خنثى مشكل، وهذا من أغرب الاشياء.
وفيها توفي من الاعيان علي بن عساكر ابن المرحب بن العوام أبو الحسن البطائحي المقري اللغوي، سمع الحديث وأسمعه، وكان حسن المعرفة بالنحو واللغة، ووقف كتبه بمسجد ابن جرارة ببغداد، توفي في شعبان وقد نيف على الثمانين.
محمد بن عبد الله ابن القاسم أبو الفضل، قاضي القضاة بدمشق، كمال الدين الشهرزوري، الموصلي، وله بها مدرسة على الشافعية، وأخرى بنصيبين، وكان فاضلا دينا أمينا ثقة، ولي القضاء بدمشق لنور الدين الشهيد محمود بن زنكي، واستوزره أيضا فيما حكاه ابن الساعي.
قال وكان يبعثه في
الرسائل، كتب مرة على قصة إلى الخليفة المقتفي: محمد بن عبد الله الرسول، فكتب الخليفة تحت ذلك: صلى الله عليه وآله.
قلت: وقد فرض إليه نور الدين نظر الجامع ودار الضرب والاسوار، وعمر له المارستان والمدارس وغير ذلك وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة بدمشق.
الخطيب شمس الدين ابن الوزير أبو الضياء خطيب الديار المصرية، وابن وزيرها، كان أول من خطب بديار مصر للخليفة المستضئ بأمر الله العباسي، بأمر الملك صلاح الدين، ثم حظي عنده حتى جعله سفيرا بينه وبين الملوك والخلفاء، وكان رئيسا مطاعا كريما ممدحا، يقرأ عليه الشعراء والادباء.
ثم جعل الناصر مكانه الشهرزوري المتقدم (1) بمرسوم السلطان، وصارت وظيفة مقررة.
__________
(1) قال أبو شامة في الروضتين: ثم تعين ضياء الدين بن الشهرزوري - وهو ابن أخ كمال الدين بن الشهرزوري وكان =

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة فيها أمر الملك الناصر ببناء قلعة الجبل وإحاطة السور على القاهرة ومصر، فعمر قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها، وولى عمارة ذلك الامير بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
وفيها كانت وقعة الرملة على المسلمين، وفي جمادى الاولى منها سار السلطان الناصر صلاح الدين من مصر قاصدا غزو الفرنج، فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وغنم، ثم تشاغل جيشه بالغنائم وتفرقوا في القرى والمحال، وبقي هو في طائفة من الجيش منفردا فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة فما سلم إلا بعد جهدا جهيد، ثم تراجع الجيش إليه واجتمعوا عليه بعد أيام، ووقعت الاراجيف في الناس بسبب ذلك، وما صدق أهل مصر حتى نظروا إليه وصار الامر كما قيل * رضيت من الغنيمة بالاياب * ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحا بسلامة السلطان، ولم تجر هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين، وذلك يوم حطين، وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتا عظيما، وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر بن أخي السلطان ولده شاهنشاه، فبقي عندهم سبع سنين، وقتل ابنه الآخر، وكان شابا قد طر شاربه، فحزن على المقتول والمفقود، وصبر
تأسيا بأيوب، وناح كما ناح داود، وأسر الفقيهان الاخوان ضياء الدين عيسى وظهير الدين فافتداهما السلطان بعد سنتين بتسعين (1) ألف دينار.
وفيها تخبطت دولة حلب وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين، وألزمه بتسليم قلعة حارم، وكانت له، فأبى من ذلك فعلقه منكوسا ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته.
وفيها جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يورم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه ببلدانهم.
قال العماد الكاتب: ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه أنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه، فإذا انصرف عنهم عادت الهدنة كما كانت، فقصد هذا الملك وجملة الفرنج مدينة حماه وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض، ونائب دمشق ومن معه من الامراء مشغولون ببلدانهم، فكادوا يأخذون البلد ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام، فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب، وقد دفع إليهم من الاموال والاسرى ما طلبوه منه وتوفي صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان الناصر، وتوفي قبله ولده تتش بثلاثة أيام، ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من
__________
= قد أوصى بتعيينه عمه كمال الدين عند اشتداد مرضه عل القضاء وقد أمضى السلطان حكمه ثم طلب إعفاءه فأعفي - بعده للرسالة إلى الديوان، وصارت منصبا ينافس عليه، واستتبت له هذه السفارة إلى آخر العهد السلطاني.
(1) في الكامل والروضتين: بعد سنين بستين ألف دينار.

مصر قاصدا بلاد الشام، فدخل دمشق في رابع عشر (1) شوال، وصحبته العماد الكاتب، وتأخر القاضي الفاضل بمصر لاجل الحج.
وفيها جاء كتاب القاضي الفاضل الناصر يهنئه بوجود مولود وهو أبو سليمان داود (2)، وبه كمل له اثني عشر ذكرا، وقد ولد له بعده عدة أولاد ذكور، فإنه توفي عن سبعة عشر ذكرا وابنة صغيرة اسمها مؤنسة، التي تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيها جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد، بسبب أن مؤذنا أذن عند كنيسة فنال منه بعض اليهود بكلام أغلظ له فيه، فشتمه المسلم فاقتتلا، فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان، فتفاقم الحال، وكثرت العوام، وأكثروا الضجيج، فلما حان وقت الجمعة منعت العامة الخطباء في بعض الجوامع، وخرجوا من فورهم فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود، وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها، ولم يتمكن الشرط من ردهم، فأمر الخليفة بصلب بعض العامة، فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا، فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة، فسكن الناس.
وفيها خرج الوزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصدا الحج، وخرج الناس في خدمته ليودعوه فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص، فتقدم أحدهم ليناوله قصة فاعتنقه وضربه بالسكين ضربات، وهجم الثاني وكذلك الثالث عليه فهبروه وجرحوا جماعة حوله، وقتل الثلاثة من فورهم، ورجع الوزير إلى منزله محمولا فمات من يومه، وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما، فسلط الله عليه من قتله، وكما تدين تدان، جزاء وفاقا.
وممن توفي فيها من الاعيان..صدقة بن الحسين أبو الفرج الحداد، قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه وأفتى، وقال الشعر وقال في الكلام، وله تاريخ ذيل على شيخه ابن الزاغوني، وفيه غرائب وعجائب.
قال ابن الساعي: كان شيخا عالما فاضلا وكان فقيرا يأكل من أجرة النسخ، وكان يأوي إلى مسجد ببغداد عند البدرية يؤم فيه، وكان يعتب على الزمان وبنيه، ورأيت ابن الجوزي في المنتظم يذمه ويرميه بالعظائم، وأورد له من أشعاره
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 707: الرابع والعشرين.
(2) في كتاب الفاضل قال: إنه ولد لسبع بقين من ذي القعدة ; (الروضتين 1 / 2 / 709 وفي الحاشية (1) في الساعة الرابعة ليلة الاحد الثالث والعشرين من ذي القعدة، كما جاء في البرق..).

ما فيه مشابهة لابن الراوندي في الزندقة فالله أعلم.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وسبعين (1) سنة، ودفن بباب حرب، ورئيت له منامات غير صالحة، نسأل الله العافية في الدينا والآخرة.
محمد بن أسعد بن محمد أبو منصور العطار، المعروف بحفدة، سمع الكثير وتفقه وناظر وأفتى ودرس وقدم بغداد فمات بها.
محمود بن تتش شهاب الدين الحارمي خال السلطان صلاح الدين، كان من خيار الامراء وشجعانهم، أقطعه ابن أخته حماه، وقد حاصره الفرنج وهو مريض فأخذوا حماه وقتلوا بعض أهلها، ثم تناخى أهلها فردوهم خائبين.
فاطمة بنت نصر العطار كانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، كانت من العابدات المتورعات المخدرات، يقال إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره والله أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل من مصر إلى الناصر وهو بالشام يهنيه بسلامة أولاده الملوك الاثني عشر، يقول: وهم بحمد الله بهجة الحياة وزينتها، وريحانة القلوب والارواح وزهرتها، إن فؤادا وسع فراقهم لواسع، وإن قلبا قنع بأخبارهم لقانع، وإن طرفا نام عن العبد عنهم لهاجع، وإن ملكا ملك صبره عنهم لحازم، وإن نعمة الله بهم لنعمة بها العيش ناعم، أما يشتاق جيد المولى أن تطوق بدررهم ؟ أما تظمأ عينه أن تروى بنظرهم ؟ أما يحن قلبه للقيهم ؟ أما يلتقط هذا الطائر بفتيلهم ؟ وللمولى أبقاه الله أن يقول: وما مثل هذا الشوق يحمل بعضه * ولكن قلبي في الهوى يتقلب
__________
(1) في شذرات الذهب 4 / 244: ولد سنة 477 فيكون له من العمر على رواية الشذرات 96 سنة.

وفيها أسقط صلاح الدين المكوس والضرائب عن الحجاج بمكة، وقد كان يؤخذ من حجاج الغرب شئ كثير، ومن عجز عن أدائه حبس فربما فاته الوقوف بعرفة، وعوض أمير مكة بمال أقطعه إياه بمصر، وأن يحمل إليه في كل سنة ثمانية آلاف أردب إلى مكة، ليكون عونا له ولاتباعه، ورفقا بالمجاورين، وقررت للمجاورين أيضا غلات تحمل إليهم رحمه الله.
وفيها عصى الامير شمس الدين بن مقدم ببعلبك، ولم يجئ إلى خدمة السلطان، وهو نازل على حمص، وذلك أنه بلغه أن أخا السلطان توران شاه طلب بعلبك منه فأطلقها له، فامتنع ابن المقدم من الخروج منها حتى جاء السلطان بنفسه فحصره فيها من غير قتال، ثم عوض ابن المقدم عنها بتعويض كثير خير مما كان بيده، فخرج منها وتسلمها وسلمها توران شاه.
قال ابن الاثير: وكان في هذه السنة غلاء شديد بسبب قلة المطر، عم العراق والشام وديار مصر (1)، واستمر إلى سنة خمس وسبعين، فجاء المطر ورخصت الاسعار ثم عقب ذلك وباء شديد، وعم البلاد مرض آخر وهو السرسام (2)، فما ارتفع إلا في سنة ست وسبعين، فمات بسبب ذلك خلق كثير، وأمم لا يعلم عددهم إلا الله.
وفي رمضان منها وصلت خلع الخليفة إلى الملك صلاح الدين وهو بدمشق، وزيد في ألقابه معز أمير المؤمنين، وخلع على أخيه توران شاه بمصطفى أمير المؤمنين.
وفيها جهز الناصر ابن أخيه فروخ شاه بن شاهنشاه بين يديه لقتال الفرنج الذين عاثوا في نواحي دمشق، فنهبوا ما حولها، وأمره أن يداريهم حتى يتوسطوا البلاد ولا يقاتلهم حتى يقدم عليه، فلما رأوه عاجلوه بالقتال فكسرهم وقتل من ملوكهم صاحب الناصرة الهنفري، وكان من أكابر ملوكهم وشجعانهم، لا ينهنهه اللقاء، فكبته الله في هذه الغزوة، ثم ركب الناصر في إثر ابن أخيه فما وصل إلى الكسوة حتى تلقته الرؤوس على الرماح، والغنائم والاسارى.
وفيها بنت الفرنج قلعة عند بيت الاحزان (3) للداوية فجعلوها مرصدا لحرب المسلمين، وقطع طريقهم، ونقضت ملوكهم العهود التي كانت بينهم وبين صلاح الدين، وأغاروا على نواحي البلدان من كل جانب، ليشغلوا المسلمين عنهم، وتفرقت جيوشهم فلا تجتمع في بقعة واحدة، فرتب السلطان ابن أخيه عمر على
حماه ومعه ابن مقدم وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنواحي البقاع وغيرها، وبثغر حمص ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه، وبعث إلى أخيه الملك أبي بكر العادل نائبه بمصر أن يبعث
__________
(1) لم يأت ابن الاثير على ذكر مصر قال: انقطعت الامطار بالكلية في سائر البلاد الشامية والجزيرة والبلاد العراقية والديار بكرية والموصل وبلاد الجبل وخلاط (الكامل: 11 / 451).
(2) السرسام: ورم في حجاب الدماغ تحدث عنه حمى دائمة، وتتبعها أعراض رديئة كالسهر واختلاط الذهن (المعجم الوسيط).
(3) قال ابن الاثير: إن الفرنج بنوا حصنا يقارب بانياس، عند بيت يعقوب، بمكان يعرف بمخاضة الاحزان.
(11 / 455).

إليه ألفا وخمسمائة فارس يستعين بهم على قتال الفرنج، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بتخريب هذا الحصن الذي بنوه للداوية فامتنعوا إلا أن يبذل لهم ما غرموه عليه، فبذل لهم ستين ألف دينار فلم يقبلوا، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار، فقال له ابن أخيه تقي الدين عمر: ابذل هذا إلى أحناد المسلمين وسر إلى هذا الحصن فخربه، فأخذ بقوله في ذلك وخربه في السنة الآتية كما سنذكره.
وفيها أمر الخليفة المستضئ بكتابة لوح على قبر الامام أحمد بن حنبل، فيه آية الكرسي، وبعدها هذا قبر تاج السنة وحبر الامة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد، وذكروا تاريخ وفاته رحمه الله تعالى.
وفيها احتيط ببغداد على شاعر (1) ينشد للروافض أشعارا في ثلب الصحابة وسبهم، وتهجين من يحبهم، فعقد له مجلس بأمر الخليفة ثم اسنتطق فإذا هو رافضي خبيث داعية إليه، فأفتى الفقهاء بقطع لسانه ويديه، ففعل به ذلك، ثم اختطفته العامة فما زالوا يرمونه بالآجر حتى ألقى نفسه في دجلة فاستخرجوه منها فقتلوه حتى مات، فأخذوا شريطا وربطوه في رجله وجروه على رجله حتى طافوا به البلد وجميع الاسواق، ثم ألقوه في بعض الاتونة مع الآجر والكلس، وعجز الشرط عن تخليصه منهم.
وفيها توفي من الاعيان..أسعد بن بلدرك الجبريلي سمع الحديث وكان شيخا ظريف المذاكرة جيد المبادرة، توفي عن مائة سنة وأربع سنين.
الحيص بيص سعد بن محمد بن سعد [ الملقب ] شهاب الدين، أبو الفوارس المعروف بحيص بيص، له ديوان شعر مشهور، توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلي عليه بالنظامية، ودفن بباب التبن، ولم يعقب، ولم يكن له في المراسلات بديل، كان يتقعر فيها ويتفاصح جدا، فلا تواتيه إلا وهي معجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسئل أبوه عن ذلك فقال ما سمعته إلا منه، فقال بعض الشعراء (2) يهجوه فيما ادعاه من ذلك: كم تبادي وكم تطيل طرطو * رك وما فيك شعرة من تميم
__________
(1) وهو ابن قرايا.
(2) وهو أبو القاسم بن الفضل، وقيل الرئيس علي بن الاعرابي (الوافي).

فكل الضب وأقرط الحنظل اليا * يس (1) واشرب إن شئت بول الظليم فليس ذا وجه من يضيف ولا يق * ري ولا يدفع الاذى عن حريم ومن شعره الحيص بيص الجيد: سلامة المرء ساعة عجب * وكل شئ لحتفه سبب يفر والحادثات تطلبه * يفر منها ونحوها الهرب وكيف يبقى على تقلبه * مسلما من حياته العطب ومن شعره أيضا: لا تلبس الدهر على غرة * فما لموت الحي من بد ولا يخادعك طول البقا * فتحسب التطويل من خلد
يقرب ما كان آخرا * ما أقرب المهد من اللحد ويقرب من هذا ما ذكره صاحب العقد أحمد بن محمد بن عبد ربه الاندلسي في عقده: ألا إنما الدينا غضارة أيكة * إذا اخضر منها جانب جف جانب وما الدهر والآمال إلا فجائع * عليها وما اللذات إلا مصائب فلا تكتحل عيناك منها بعبرة * على ذاهب منها فإنك ذاهب وقد ذكر أبو سعد السمعاني حيص بيص هذا في ذيله وأثنى عليه، وسمع عليه ديوانه ورسائله، وأثنى على رسائله القاضي ابن خلكان، وقال: كان فيه تيه وتعاظم، ولا يتكلم إلا معربا، وكان فقيها شافعي المذهب، واشتغل بالخلاف وعلم النظر، ثم تشاغل عن ذلك كله بالشعر، وكان من أخبر الناس بأشعار العرب، واختلاف لغاتهم.
قال: وإنما قيل له الحيص بيص، لانه رأى الناس في حركة واختلاط، فقال: ما للناس في حيص بيص، أي في شر وهرج، فغلب عليه هذه الكلمة (2)، وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي طبيب العرب، ولم يترك عقبا.
كانت له حوالة بالحلة فذهب يتقاضاها فتوفي ببغداد في هذه السنة.
محمد بن نسيم أبو عبد الله الخياط، عتيق الرئيس أبي الفضل بن عبسون (3)، سمع الحديث وقارب
__________
(1) في الوافي: وأقرض الحنظل الاخضر...(2) انظر وفيات الاعيان 2 / 365 والوافي بالوفيات 15 / 167.
(3) في الوافي 5 / 110 والنجوم الزاهرة 6 / 84 وشذرات الذهب 4 / 249: عيشون.

الثمانين، سقط من درجة فمات.
قال أنشدني مولى الدين يعني ابن علام الحكيم بن عبسون (2): للقارئ المحزون أجدر بالتقى * من راهب في ديره متقوس ومراقب الافلاك كانت نفسه * بعبادة الرحمن أحرى الانفس والماسح الارضين وهي فسيحة * أولى بمسح في أكف اللمس
أولى بخشية ربه من جاهل * بمثلث ومربع ومخمس ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة وفيها كانت وقعة مرج عيون استهلت هذه السنة والسلطان صلاح الدين الناصر نازل بجيشه على تل القاضي ببانياس، ثم قصده الفرنج بجمعهم فنهض إليهم فما هو إلا أن التقى الفريقان واصطدم الجندان، فأنزل الله نصره وأعز جنده، فولت ألوية الصلبان ذاهبة وخيل الله لركابهم راكبة، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من ملوكهم جماعة، وأنابوا إلى السمع والطاعة، منهم مقدم الداوية ومقدم الابسباتارية وصاحب الرملة وصاحب طبرية وقسطلان يافا وآخرون من ملوكهم، وخلق من شجعانهم وأبطالهم، ومن فرسان القدس جماعة كثيرون تقريبا من ثلاثمائة أسير من أشرافهم، فصاروا يهانون في القيود.
قال العماد: فاستعرضهم السلطان في الليل حتى أضاء الفجر، وصلى يومئذ الصبح بوضوء العشاء، وكان جالسا ليلتئذ في نحو العشرين والفرنج كثير، فسلمه الله منهم، ثم أرسلهم إلى دمشق ليعتقلوا بقلعتها، فافتدى ابن البارزاني صاحب الرملة نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، وإطلاق ألف أسير من بلاده، فأجيب إلى ذلك، وافتدى جماعة منهم أنفسهم بأموال جزيلة، ومنهم من مات في السجن، واتفق أنه في اليوم الذي ظفر فيه السلطان بالفرنج بمرج عيون، ظهر أسطول المسلمين على بطشة للفرنج في البحر وأخرى معها فغنموا منها ألف رأس من السبي، وعاد إلى الساحل مؤيدا منصورا، وقد امتدح الشعراء السلطان في هذه الغزوة بمدائح كثيرة، وكتب بذلك إلى بغداد فدقت البشائر فرحا وشرورا، وكان الملك المظفر تقي الدين عمر غائبا عن هذه الوقعة مشتغلا بما هو أعظم منها، وذلك أن ملك الروم فرارسلان بعث يطلب حصن رعنان (1)، وزعم أن نور الدين اغتصبه منه، وأن ولده قد عصي، فلم يجبه إلى ذلك السلطان، فبعث صاحب الروم عشرين ألف مقاتل يحاصرونه، فأرسل السلطان تقي الدين عمر في ثمانمائة (2) فارس منهم سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، فالتقوا معهم فهزموهم بإذن الله،
__________
(1) في الكامل 11 / 458 وتاريخ أبي الفداء 3 / 61: رعبان.
قال ياقوت: مدينة بالثغور بين حلب وسميساط قرب الفرات: وهي قلعة تحت الجبل خربتها الزلزلة سنة 340 ه وأعاد عمارتها أبو فراس بن حمدان في 37 يوما (معجم
البلدان).
(2) في الكامل 11 / 458: ألف فارس.

واستقرت يد صلاح الدين على حصن رعنان، وقد كان مما عوض به ابن مقدم عن بعلبك، وكان تقي الدين عمر يفتخر بهذه الوقعة ويرى أنه قد هزم عشرين ألفا، وقيل ثلاثين ألفا بثمانمائة، وكان السبب في ذلك أنه بيتهم وأغار عليهم، فما لبثوا بل فروا منهزمين عن آخرهم، فأكثر فيهم القتل واستحوذ على جميع ما تركوه في خيامهم، ويقال إنه كسرهم يوم كسر السلطان الفرنج بمرج عيون والله أعلم.
ذكر تخريب حصن الاحزان وهو قريب من صفد.
ثم ركب السلطان إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في العام الماضي وحفروا فيه بئرا وجعلوه لهم عينا، وسلموه إلى الداوية، فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته، وألقى فيه النيران وخربه إلى الاساس، وغنم جميع ما فيه، فكان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ومن المأكل شئ كثير، وأخذ منه سبعمائة أسير فقتل بعضا وأرسل إلى دمشق الباقي، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، غير أنه مات من أمرائة عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار، وكانت أربعة عشر يوما، ثم إن الناس زاروا مشهد يعقوب على عادتهم، وقد امتدحه الشعراء فقال بعضهم (1): بحمدك أعطاف القنا قد تعطفت * وطرف الاعادي دون مجدك يطرف شهاب هدى في ظلمة الليل ثاقب * وسيف إذا ما هزه الله مرهف وقفت على حصن المحاض وإنه * لموقف حق لا يوازيه موقف فلم يبد وجه الارض بل حال دونه * رجال كآساد الثرى وهي ترجف وجرد سلهوب ودرع مضاعف * وأبيض هندي ولدن مهفهف وما رجعت أعلامك البيض ساعة * إلا غدت أكبادها السود ترجف
كنائس أغياد صليب وبيعة * وشاد به دين حنيف ومصحف صليب وعباد الصليب ومنزل * لنوال قد غادرته وهو صفصف أتسكن أوطان النبيين عصبة * تمين لدى أيمانها وهي تحلف نصحتكم والنصح في الدين واجب * ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف وقال آخر (2): هلاك الفرنج أتى عاجلا * وقد آن تكسير صلبانها
__________
(1) وهو علي بن محمد الساعاتي الدمشقي (ابن الاثير - تاريخ أبي الفداء).
(2) وهو النشو بن نفاذة (الكامل 11 / 457).

ولو لم يكن قد دنا حتفها * لما عمرت بيت أحزانها من كتاب كتبه القاضي الفاضل إلى بغداد في خراب هذا الحصن.
وقد قيس عرض حائطه فزاد على عشرة أذرع وقطعت له عظام الحجارة كل فص منها سبعة أذرع، إلى ما فوقها وما دونها، وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر، لا يستقر الحجر في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها، وفيما بين الحائطين حشو من الحجارة الضخمة الصم، أتوا بها من رؤوس الجبال الشم، وقد جعلت شعبيته بالكلس الذي إذا أحاطت بالحجر مازجه بمثل جسمه، ولا يستطيع الحديد أن يتعرض إلى هدمه.
وفيها أقطع صلاح الدين ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بعلبك.
وأغار فيها على صفت (1) وأعمالها، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها، وكان فروخ شاه من الصناديد الابطال.
وفيها حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر فقاسى في الطريق أهوالا، ولقي ترحا وتعبا وكلالا، وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام، وكان ذلك العام في حقه أسهل من هذا العام.
وفيها كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى، ومات خلق كثير فيها من الورى، وسقط من رؤوس الجبال صخور كبار، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار، مع بعد ما بين الجبال من الاقطار.
وفيها أصاب الناس غلاء شديد وفناء شريد وجهد جهيد، فمات خلق كثير
بهذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفاة المستضئ بأمر الله وشئ من ترجمته كان ابتداء مرضه أواخر شوال فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها، ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دورا كثيرة، وأموالا جزيلة، فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضئ، وهو الخليفة الناصر لدين الله، وكان يوما مشهودا نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين، ومن حضر ذلك، عند ذكر اسمه على المنبر.
وكان مرضه بالحمى ابتدأ فيها يوم عيد الفطر، ولم يزل الامر يتزايد به حتى استكمل في مرضه شهرا، ومات سلخ شوال (2)، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما (3)، وغسل وصلي عليه من الغد.
ودفن بدار النصر التي بناها، وذلك عن وصيته التي أوصاها، وترك ولدين أحدهما ولي عهده وهو عدة الدنيا والدين، أبو العباس أحمد الناصر لدين
__________
(1) في تاريخ ابن الاثير 11 / 461: صفد، وهي مطلة على طبرية.
(2) في الكامل 11 / 459: في ثاني ذي القعدة.
(انظر مرآة الزمان 8 / 356 والجوهر الثمين 1 / 213.
وتاريخ أبي الفداء 3 / 62.
وفي نهاية الارب 23 / 300: في التاسع من ربيع الآخر ; وفي مفرج الكروب 2 / 89 يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال).
(3) في ابن الاثير 11 / 459: نحو تسع سنين وسبع أشهر، وفي ابن خلدون 3 / 558: تسع سنين ونصف.

الله، والآخر أبو منصور هاشم وقد وزر له جماعة من الرؤساء، وكان من خيار الخلفاء آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مزيلا عن الناس المكوسات والضرائب، مبطلا للبدع والمعائب، وكان حليما وقورا كريما، وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر.
وفيها توفي من الاعيان..إبراهيم بن علي أبو إسحاق الفقيه الشافعي، المعروف بابن الفراء الاموي ثم البغدادي، كان فاضلا مناظرا
فصيحا بليغا شاعرا، توفي عن أربع وسبعين سنة، وصلى عليه أبو الحسن القزويني مدرس النظامية.
إسماعيل بن موهوب ابن محمد بن أحمد (1) الخضر أبو محمد الجواليقي، حجة الاسلام، أحد أئمة اللغة في زمانه والمشار إليه من بين أقرانه بحسن الدين وقوة اليقين، وعلم اللغة والنحو، وصدق اللهجة وخلوص النية، وحسن السيرة في مرباه ومنشاه ومنتهاه، سمع الحديث وسمع الاثر واتبع سبيله ومرماه، رحمه الله تعالى.
المبارك بن علي بن الحسن أبو محمد بن الطباخ البغدادي، نزيل مكة ومجاورها، وحافظ الحديث بها والمشار إليه بالعلم فيها.
كان يوم جنازته يوما مشهودا.
خلافة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضئ لما توفي أبوه في سلخ شوال (2) من سنة خمس وسبعين وخمسمائة، بايعه الامراء والوزراء والكبراء والخاصة والعامة، وكان قد خطب له على المنابر في حياة أبيه قبل موته بيسير، فقيل إنه إنما عهد له قبل موته بيوم، وقيل بأسبوع، ولكن قدر الله أنه لم يختلف عليه اثنان بعد وفاة أبيه، ولقب بالناصر، ولم يل الخلافة من بني العباس قبله أطول مدة منه، فإنه مكث خليفة إلى سنة وفاته في ثلاث
__________
(1) زاد في الارشاد 2 / 358 في عامود نسبه: أحمد بن محمد بن الخضر (انظر شذرات الذهب 4 / 249).
(2) انظر حاشية (2) صفحة 373.

وعشرين وستمائة ; وكان ذكيا شجاعا مهيبا كما سيأتي ذكر سيرته عند وفاته.
وفي سابع ذي القعدة من هذه السنة عزل صاحب المخزن ظهير الدين أبو بكر بن العطار، وأهين غاية الاهانة، هو وأصحابه وقتل خلق منهم، وشهر في البلد، وتمكن أمر الخليفة الناصر وعظمت هيبته في البلاد، وقام قائم الخلافة في جميع الامور.
ولما حضر عيد الاضحى أقيم على ما جرت به العادة والله أعلم.
ثم خلت سنة ست وسبعين وخمسمائة فيها هادن السلطان صلاح الدين الفرنج وسار إلى بلاد الروم فأصلح بين ملوكها، من بني أرتق وكر على بلاد الارمن فأقام عليها وفتح بعض حصونها، وأخذ منها غنائم كثيرة جدا، من أواني الفضة والذهب، لان ملكها كان قد غدر بقوم من التركمان، فرده إلى بلاده ثم صالحه على مال يحمله إليه وأسارى يطلقهم من أسره، وآخرين يستنقذهم من أيدي الفرنج، ثم عاد مؤيدا منصورا فدخل حماه في أواخر جمادى الآخرة، وامتدحه الشعراء على ذلك، ومات صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود، وكان شابا حسنا مليح الشكل تام القامة، مدور اللحية، مكث في الملك عشر سنين (1)، ومات عن ثلاثين سنة، وكان عفيفا في نفسه، مهيبا وقورا، لا يلتفت إذا ركب وإذا جلس، وكان غيروا لا يدع أحد من الخدم الكبار يدخل على النساء، وكان لا يقدم على سفك الدماء، وكان ينسب إلى شئ من البخل سامحه الله، توفي في ثالث صفر، وكان قد عزم على أن يجعل الملك من بعده لولده عز الدين سنجر شاه، فلم يوافقه الامراء خوفا من صلاح الدين لصغر سنه، فاتفقوا كلهم على أخيه فأجلس مكانه في المملكة، وكان يقال له عز الدين مسعود، وجعل مجاهد الدين قايماز نائبه ومدبر مملكته.
وجاءت رسل الخليفة يلتمسون من صلاح الدين أن يبقي سروج والرها والرقة، وحران والخابور ونصيبين في يده كما كانت في يد أخيه، فامتنع السلطان من ذلك، وقال: هذه البلاد هي حفظ ثغور المسلمين، وإنما تركتها في يده ليساعدنا على غزو الفرنج، فلم يفعل ذلك، وكتب إلى الخليفة يعرفه أن المصلحة في ترك ذلك عونا للمسلمين.
وفاة السلطان توران شاه فيها توفي السلطان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخي الملك صلاح الدين، وهو الذي افتتح بلاد اليمن عن أمر أخيه، فمكث فيها حينا واقتنى منها أموالا جزيلة، ثم استناب فيها وأقبل إلى الشام شوقا إلى أخيه، وقد كتب إليه في أثناء الطريق شعرا عمله له بعض الشعراء، يقال له ابن المنجم، وكانوا قد وصلوا إلى سما:
__________
(1) زاد ابن الاثير في تاريخه: وثلاثة أشهر (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 62).

هل لاخي بل مالكي علم بالذي * إليه وإن طال التردد راجع وإني بيوم واحد من لقائه * علي وإن عظم الموت بايع ولم يبق إلا دون عشرين ليلة * ويحيى اللقا أبصارنا والمسامع إلى ملك تعنو الملوك إذا بدا * وتخشع إعظاما له وهو خاشع كتبت وأشواقي إليك ببعضها * تعلمت النوح الحمام السواجع وما الملك إلا راحة أنت زندها * تضم على الدنيا ونحن الاصابع وكان قومه على أخيه سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فشهد معه مواقف مشهودة محمودة، واستنابه على دمشق مدة، ثم سار إلى مصر فاستنابه على الاسكندرية فلم توافقه، وكانت تعتريه القوالنج فمات في هذه السنة، ودفن بقصر الامارة فيها، ثم نقلته أخته ست الشام بنت أيوب فدفنته بتربتها التي بالشامية البرانية، فقبره القبلي، والوسطاني قبر زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، صاحب حماه والرحبة، والموخر قبرها، والتربة الحسامية منسوبة إلى ولدها حسام الدين عمر بن لاشين، وهي إلى جانب المدرسة من غربها، وقد كان توران شاه هذا كريما شجاعا عظيم الهيبة كبير النفس، واسع النفقة والعطاء، قال فيه ابن سعدان الحلبي: هو الملك إن تسمع بكسرى وقيصر * فإنهما في الجود والباس عبداه وما حاتم ممن يقاس بمثله * فخذ ما رأيناه ودع ما رويناه ولذ بعلاه مستجيرا فإنه * يجيرك من جور الزمان وعدواه ولا تحمل للسحائب منه إذا * هطلت جودا سحائب كفاه فترسل كفاه بما اشتق منهما * فلليمن يمناه وليسر يسراه ولما بلغ موته أخاه صلاح الدين بن أيوب وهو مخيم بظاهر حمص، حزن عليه حزنا شديدا، وجعل ينشد باب المراثي من الحماسة وكانت محفوظة.
وفي رجب منها قدمت رسل الخليفة الناصر وخلع وهدايا إلى الناصر صلاح الدين، فلبس
خلعة الخليفة بدمشق، وزينت له البلد، وكان يوما مشهودا.
وفي رجب (1) أيضا منها سار السلطان إلى مصر لينظر في أحوالها ويصوم بها رمضان، ومن عزمه أن يحج عامه ذلك، واستناب على الشام ابن أخيه عز الدين فروخ شاه، وكان عزيز المثل غزير الفضل، فكتب القاضي الفاضل عن الملك العادل أبي بكر إلى أهل اليمن والبقيع ومكة يعلمهم بعزم السلطان الناصر على الحج، ومعه صدر الدين أبو القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ ببغداد، الذي قدم من جهة الخليفة في الرسالة، وجاء
__________
(1) في الكامل 11 / 469: في شعبان.

بالخلع ليكون في خدمته إلى الديار المصرية، وفي صحبته إلى الحجاز، فدخل السلطان مصر وتلقاه الجيش، وأما شيخ الشيوخ فإنه لم يقم بها إلا قليلا حتى توجه إلى الحجاز في البحر، فأدرك الصيام في المسجد الحرام.
وفيها سار قراقوش التقوى إلى المغرب فحاصر بها فاس وقلاعا كثيرة حولها، واستحوذ على أكثرها، واتفق له أنه أسر من بعض الحصون غلاما أسود فأراد قتله فقال له أهل الحصن لا تقتله وخذ لك ديته عشرة آلاف دينار، فأبى فأوصله إلى مائة ألف، فأبى إلا قتله فقتله، فلما قتله نزل صاحب الحصن وهو شيخ كبير ومعه مفاتيح ذلك الحصن، فقال له خذ هذه فإني شيخ كبير، وإنما كنت أحفظه من أجل هذا الصبي الذي قتلته، ولي أولاد أخ أكره أن يملكوه بعدي، فأقره فيه وأخذ منه أموالا كثيرة.
وفيها توفي من الاعيان..الحافظ أبو طاهر السلفي أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الحافظ الكبير المعمر، أبو طاهر السلفي الاصبهاني، وإنما قيل له السلفي لحده إبراهيم سلفة، لانه كان مشقوق إحدى الشفتين، وكان له ثلاث شفاه فسمته الاعاجم لذلك، قال ابن خلكان: وكان يلقب بصدر الدين، وكان شافعي المذهب، ورد بغداد واشتغل بها على الكيا الهراسي، وأخذ اللغة عن الخطيب أبي زكريا.
يحيى بن علي التبريزي سمع
الحديث الكثير ورحل في طلبه إلى الآفاق ثم نزل ثغر الاسكندرية في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الخليفة الظافر مدرسة، وفوضها إليه، فهي معروفة به إلى الآن.
قال ابن خلكان: وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدا، وكان مولده فيما ذكر المصريون سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة، ونقل الحافظ عبد الغني عنه أنه قال: اذكر مقتل نظام الملك في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ببغداد، وأنا ابن عشر تقريبا، ونقل أبو القاسم الصفراوي أنه قال: مولدي بالتخمين لا باليقين سنة ثمان وسبعين، فيكون مبلغ عمره ثمانيا وتسعين سنة، لانه توفي ليلة الجمعة خامس ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بثغر الاسكندرية والله أعلم، ودفن بوعلة وفيها جماعة من الصالحين.
وقد رجح ابن خلكان قول الصفراوي، قال: ولم يبلغنا من ثلاثمائة أن أحدا جاوز المائة إلا القاضي أبا الطيب الطبري، وقد ترجمه ابن عساكر في تاريخه ترجمة حسنة، وإن كان قد مات قبله بخمس سنين، فذكر رحلته في طلب الحديث ودورانه في الاقاليم، وأنه كان يتصوف أولا ثم أقام بثغر الاسكندرية وتزوج بامرأة ذات يسار، فحسنت حاله، وبنت عليه مدرسة هناك، وذكر طرفا من أشعاره منها قوله: أتأمن إلمام المنية بغتة * وأمن الفتى جهل وقد خبر الدهرا

وليس يحابي الدهر في دورانه * أراذل أهليه ولا السادة الزهرا وكيف وقد مات النبي وصحبه * وأزواجه طرا وفاطمة الزهرا وله أيضا: يا قاصدا علم الحديث لدينه * إذ ضل عن طرق الهداية وهمه إن العلوم كما علمت كثيرة * وأجلها فقه الحديث وعلمه من كان طالبه وفيه تيقظ * فاتم سهم في المعالي سهمه لولا الحديث وأهله لم يستقم * دين النبي وشذ عنا حكمه وإذا استراب بقولنا متحذلق * ما كل فهم في البسيطة فهمه
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة استهلت وصلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الحديث، وجاءه كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخ شاه يخبره فيه بما من الله به على الناس من ولادة النساء بالتوأم جبرا لما كان أصابهم من الوباء بالعام الماضي والفناء، وبأن الشام مخصبة بإذن الله لما كان أصابهم من الغلاء.
وفي شوال توجه الملك صلاح الدين إلى الاسكندرية لينظر ما أمر به من تحصين سورها وعمارة أبراجها وقصورها، وسمع بها موطأ مالك على الشيخ أبي طاهر بن عوف، عن الطرطوشي، وسمع معه العماد الكاتب، وأرسل القاضي الفاضل رسالة إلى السلطان يهنئه بهذا السماع.
وفاة الملك الصالح بن نور الدين الشهيد صاحب حلب وما جرى بعده من الامور كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة (1) بقلعة حلب، ودفن بها، وكان سبب وفاته فيما قيل أن الامير علم الدين سليمان بن حيدر سقاه سما في عنقود عنب في الصيد، وقيل بل سقاه ياقوت الاسدي في شراب فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات وهو شاب حسن الصورة، بهي المنظر، ولم يبلغ عشرين سنة (2)، وكان من أعف الملوك ومن أشبه أباه فما ظلم، وصف له الاطباء في مرضه شرب الخمر فاستفتى الفقهاء في شربها تداويا فأفتوه بذلك، فقال: أيزيد شربها في أجلي أو ينقص منه تركها شيئا ؟ قالوا: لا.
قال: فوالله لا أشربها وألقى الله وقد شربت ما حرمه
__________
(1) قال ابن خلدون: في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته.
(5 / 258).
(2) في الكامل 11 / 472: نحو تسع عشرة سنة (انظر تاريخ أبي الفداء).

علي.
ولما يئس من نفسه استدعا الامراء فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، لقوة سلطانه وتمكنه، ليمنعها من صلاح الدين، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وهو زوج أخته وتربية والده، فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين فلما مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين، صاحب الموصل، فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة
عظيمة، وكان يوما مشهودا، وذلك في العشرين من شعبان، فتسلم خزائنها وحواصلها.
وما فيها من السلاح، وكان تقي الدين عمر (1) في مدينة منبج فهرب إلى حماه فوجد أهلها قد نادوا بشعار صاحب الموصل وأطمع الحلبيون مسعودا بأخذ دمشق لغيبة صلاح الدين عنها، وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الاتابكي نور الدين، فقال لهم: بيننا وبين صلاح الدين أيمان وعهود، وأنا لا أغدر به، فأقام بحلب شهورا وتزوج بأم الملك الصالح في شوال، ثم سار إلى الرقة فنزلها وجاءه رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب إلى سنجار، وألح عليه في ذلك، وتمنع أخوه ثم فعل على كره منه، فسلم إليه حلب وتسلم عز الدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج وغير ذلك من البلاد.
ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الامور ركب من الديار المصرية في عساكره فسار حتى أتى الفرات فعبرها، وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل، وتقهقر صاحب الموصل عن لقائه، واستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكمالها، وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق له ذلك، ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عماد الدين زنكي لضعفه عن ممانعتها، ولقلة ما ترك فيها عز الدين من الاسلحة وذلك في السنة الآتية.
وفيها عزم البرنس صاحب الكرك على قصد تيماء من أرض الحجاز، ليتوصل منها إلى المدينة النبوية، فجهز له صلاح الدين سرية من دمشق تكون حاجزة بينه وبين الحجاز، فصده ذلك عن قصده.
وفيها ولى السلطان صلاح الدين أخاه سيف الاسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب نيابة اليمن، وأرسله إليها (2)، وذلك لاختلاف نوابها واضطراب أصحابها، بعد وفاة المعظم أخي السلطان، فسار إليها طغتكين فوصلها في سنة ثمان وسبعين، فسار فيها أحسن سيرة، واحتاط على أموال حطان بن منقذ صاحب زبيد، وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر، وأما نائب عدن فخر
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: عمه وهو تحريف.
وتقي الدين عمر هو ابن أخي صلاح الدين.
(2) قال ابن الاثير في تاريخه أن صلاح الدين سير جماعة من أمرائه منهم صارم الدين قتلغ أبه والي مصر إلى اليمن للاختلاف الواقع بها بين نواب أخيه شمس الدولة - تورانشاه الذي توفي بالاسكندرية - (وانظر تاريخ أبي الفداء
3 / 62).
فسيطر قتلغ على الوضع في اليمن ثم توفي.
قال أبو الفداء وفي سنة 578 ولى السلطان أخاه طغتكين بلاد اليمن بعد عودة والييها حطان بن منقذ وعز الدين عثمان وعودتهما إلى الاختلاف وقامت الفتن بينهما.
(انظر الكامل 11 / 480).

الدين عثمان [ الزنجبيلي ] فإنه خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين فسكن الشام، وله أوقاف مشهورة باليمن ومكة، وإليه تنسب المدرسة الزنجبيلية، خارج باب توما، تجاه دار المطعم، وكان قد حصل من اليمن أموالا عظيمة جدا.
وفيها غدرت الفرنج ونقضت عهودها، وقطعوا السبل على المسلمين برا وبحرا وسرا وجهرا، فأمكن الله من لطيشة عظيمة فيها نحو من ألفين وخمسمائة من مقاتلتهم المعدودين، ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الاسر نحو ألف وسبعمائة.
وفيها سرا قراقوش إلى بلاد إفريقية ففتح بلادا كثيرة، وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن صاحب المغرب، واستفحل أمره هناك، وقراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين، ثم عاد إلى مصر فأمره صلاح الدين أن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله بعد أن أناله الله بلوغ مناه، ففتح عليه بيت المقدس وما حوله، ولما خيم بارزا، من مصر وأولاده حوله جعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم فأنشد بعضهم في ذلك: تمتع من شميم عرار نجد * فما بعد العشية من عرار وكان الامر كما قال، لم يعد إلى مصر بعد هذا العام، بل كان مقامه بالشام.
وفيها ولد للسلطان ولدان أحدهما المعظم توران شاه، والملك المحسن أحمد، وكان بين ولادتهما سبعة أيام، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوما.
وفيها توفي من الاعيان: الشيخ كمال الدين أبو البركات
عبد الرحمن بن محمد بن أبي السعادات، عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الانباري النحوي الفقيه العابد الزاهد، كان خشن العيش، ولا يقبل من أحد شيئا، ولا من الخليفة، وكان يحضر نوبة الصوفية بدار الخلافة، ولا يقبل من جوائز الخليفة ولا فلسا، وكان مثابرا على الاشتغال، وله تصانيف مفيدة، توفي في شعبان من هذه السنة.
قال ابن خلكان: له كتاب أسرار العربية مفيد جدا، وطبقات النحاة، مفيد جدا، وكتاب الميزان في النحو أيضا، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة في خامس محرمها كان بروز السلطان من مصر قاصدا دمشق لاجل الغزو والاحسان إلى الرعايا

وكان ذلك آخر عهده بمصر، وأغار بطريقه على بعض نواحي بلاد الافرنج، وقد جعل أخاه تاج الملوك بوري بن أيوب على الميمنة، فالتقوا على الازرق بعد سبعة أيام، وقد أغار عز الدين فروخ شاه على بلاد طبرية وافتتح حصونا جيدة، وأسر منهم خلقا، واغتنم عشرين ألفا رأس من الانعام، ودخل الناصر دمشق سابع (1) صفر ثم خرج منها في العشر الاول من ربيع الاول، فاقتتل مع الفرنج في نواحي طبرية وبيسان تحت حصن كوكب، فقتل خلق من الفريقين، وكانت النصرة للمسلمين على الفرنج، ثم رجع إلى دمشق مؤيدا منصورا، ثم ركب قاصدا حلب وبلاد الشرق ليأخذها وذلك أن المواصلة والحلبيين كاتبوا الفرنج على حرب المسلمين، فغارت الفرنج على بعض أطراف البلاد ليشغلوا الناصر عنهم بنفسه، فجاء إلى حلب فحاصرها ثلاثا، ثم رأى العدول عنها إلى غيرها أولى، فسار حتى بلغ الفرات، واستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصيبين، وخضعت له الملوك، ثم عاد إلى حلب فتسلمها من صاحبها عماد الدين زنكي، فاستوثقت له الممالك شرقا وغربا، وتمكن حينئذ من قتال الفرنج.
فصل ولما عجز ابرنس الكرك عن إيصال الاذى إلى المسلمين في البر، عمل مراكب في بحر القلزم ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، فوصلت أذيتهم إلى عيذاب، وخاف أهل المدينة النبوية من
شرهم، فأمر الملك العادل الامير حسام الدين لؤلؤ صاحب الاسطول أن يعمل مراكبه في بحر القلزم ليحارب أصحاب الابرنس، ففعل ذلك فظفر بهم في كل موطن، فقتلوا منهم وحرقوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة، ومواقف هائلة، وأمن البر والبحر بإذن الله تعالى، وأرسل الناصر إلى أخيه العادل ليشكر ذلك عن مساعيه، وأرسل إلى ديوان الخليفة يعرفهم بذلك.
فصل في وفاة المنصور عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك ونائب دمشق لعمه الناصر، وهو والد الامجد بهرام شاه صاحب بعلبك بعد أبيه، وإليه تنسب المدرسة الفروخ شاهية بالشرق الشمالي بدمشق، وإلى جانبها التربة الامجدية لولده، وهما وقف على الحنفية والشافعية، وقد كان فروخ شاه شجاعا شهما عاقلا ذكيا كريما ممدحا، امتدحه الشعراء لفضله وجوده، وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي، عرفه من مجلس القاضي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسن إليه، وله وللعماد الكاتب فيه مدائح، وكان ابنه الامجد شاعرا جيدا، ولاه عم أبيه صلاح الدين بعلبك بعد
__________
(1) وفي الكامل 11 / 479: حادي عشر.

أبيه، واستمر فيها مدة طويلة، ومن محاسن فروخ شاه صحبته لتاج الدين الكندي وله شعر رائق: أنا في أسر السقام * وهو في هذا المقام رشأ يرشق عينا * فؤادي بسهام كلما أرشفني فا * ه على حر الاوام ذقت منه الش * هد المصفى في المدام وقد دخل يوما الحمام فرأى رجلا كان يعرفه من أصحاب الاموال، وقد نزل به الحال حتى إنه كان يستتر ببعض ثيابه لئلا تبدو عورته، فرق له وأمر غلامه أن ينقل بقجة وبساطا إلى موضع الرجل، وأمره فأحضر ألف دينار وبغلة وتوقيعا له في كل شهر بعشرين ألف دينار، فدخل الرجل الحمام فقيرا وخرج منه غنيا، فرحمة الله على الاجواد الجياد.
وفيها توفي من الاعيان...الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن الرفاعي، شيخ الطائفة الاحمدية الرفاعية البطائحية، لسكناه أم عبيدة من قرى البطائح، وهي بين البصرة وواسط، كان أصله من العرب فسكن هذه البلاد، والتف عليه خلق كثير، ويقال: إنه حفظ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعي.
قال ابن خلكان: ولاتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات وهي حية، والدخول في النار ؟ ؟ التنانير وهي تضطرم، ويلعبون بها وهي تشتعل، ويقال إنهم في بلادهم يركبون الاسود.
وذكر ابن خلكان: أنه قال وليس للشيخ أحمد عقب، وإنما النسل لاخيه وذريته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد.
وقال: ومن شعره على ما قيل: إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم * أنوح كما ناح الحمام المطوق وفوقي سحاب يمطر الهم والاسى * وتحتي بحار بالاسى تتدفق سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها * تفك الاسارى دونه وهو موثق فلا هو مقتول ففي القتل راحة * ولا هو ممنون عليه فيطلق من شعره قوله: أغار عليها من أبيها وأمها * ومن كل من يدنو إليها وينظر وأحسد للمرآة أيضا بكفها * إذا نظرت مثل الذي أنا أنظر قال: ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الاولى من هذه السنة.

خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال أبو القاسم القرطبي الحافظ المحدث المؤرخ، صاحب التصانيف، له كتاب الصلة جعله ذيلا على تاريخ أبي الوليد بن الفرضي، وله كتاب المستغيثين بالله، وله مجلدة في تعيين الاسماء المبهمة على
طريق الخطيب، وله أسماء من روى الموطأ على حروف المعجم، بلغوا ثلاثة وسبعين رجلا، مات في رمضان عن أربع وثمانين سنة.
العلامة قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، تفقه على محمد بن يحيى صاحب الغزالي، قدم دمشق ودرس بالغزالية والمجاهدية، وبحلب بمدرسة نور الدين وأسد الدين، ثم بهمدان، ثم رجع إلى دمشق ودرس بالغزالية وانتهت إليه رياسة المذهب، ومات بها في سلخ رمضان يوم العيد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، عن ثلاث وسبعين (1) سنة، وعنه أخذ الفخر ابن عساكر وغيره، وهو الذي صلى على الحافظ ابن عساكر والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة في رابع عشر محرمها تسلم السلطان الناصر مدينة آمد صلحا بعد حصار طويل (2)، من يد صاحبها ابن بيسان (3)، بعد حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله مدة ثلاثة أيام، ولما تسلم البلد وجد فيه شيئا كثيرا من الحواصل وآلات الحرب، حتى إنه وجد برجا مملوءا بنصول النشاب، وبرجا آخر فيه مائة ألف شمعة، وأشياء يطول شرحها، ووجد فيها خزانة كتب ألف ألف مجلد، وأربعين ألف مجلد، فوهبها كلها للقاضي الفاضل، فانتخب منها حمل سبعين حمارة.
ثم وهب السلطان البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان - وكان قد وعده بها - فقيل له: إن الحواصل لم تدخل في الهبة، فقال: لا أبخل بها عليه، وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار، فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع.
ومن أحسن ذلك قول بعضهم:
__________
(1) من شذرات الذهب 4 / 263 وفي الاصل: وتسعين تحريف.
فقد كانت ولادته سنة 505 ه (انظر وفيات الاعيان 5 / 197).
(2) بدأ صلاح الدين حصاره لآمد في السابع عشر من ذي الحجة من سنة 578 حتى العشر الاول من المحرم من سنة 579 (الكامل 11 / 493).
(3) كذ ؟ بالاصل، وفي الكامل: بهاء الدين بن نيسان (وانظر تاريخ الزمان لابن العبري ص 199).

قل للملوك تنحوا عن ممالككم * فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها ثم سار السلطان في بقية المحرم (1) إلى حلب فحاصرها وقاتله أهلها قتالا شديدا، فجرح أخو السلطان تاج الملوك بوري بن أيوب جرحا بليغا، فمات منه بعد أيام، وكان أصغر أولاد أيوب، لم يبلغ عشرين سنة، وقيل إنه جاوزها بثنتين، وكان ذكيا فهما، له ديوان شعر لطيف، فحزن عليه أخوه صلاح الدين حزنا شديدا، ودفنه بحلب، ثم نقله إلى دمشق، ثم اتفق الحال بين الناصر وبين صاحب حلب عماد الدين زنكي بن آقسنقر على عوض أطلقه له الناصر، بأن يرد عليه سنجار ويسلمه حلب، فخرج عماد الدين من القلعة إلى خدمة الناصر وعزاه في أخيه ونزل عنده في المخيم، ونقل أثقاله إلى سنجار، وزاده السلطان الخابور والرقة ونصيبين وسروج واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة لاجل الغزاة في الفرنج، ثم سار وودعه السلطان ومكث السلطان في المخيم يرى حلب أياما غير مكترث بحلب ولا وقعت منه موقعا، ثم صعد إلى قلعتها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر، وعمل له الامير طهمان وليمة عظيمة، فتلا هذه الآية وهو داخل في بابها (قل اللهم مالك الملك) [ آل عمران: 26 ] الآية.
ولما دخل دار الملك تلا قوله تعالى (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) الآية [ الاحزاب: 27 ]، ولما دخل مقام إبراهيم صلى فيه ركعتين وأطال السجود به، والدعاء والتضرع إلى الله، ثم شرع في عمل وليمة، وضربت البشائر وخلع على الامراء، وأحسن إلى الرؤساء والفقراء، ووضعت الحرب أوزارها، وقد امتدحه الشعراء بمدائح حسان.
ثم إن القلعة وقعت منه بموقع عظيم، ثم قال: ما سررت بفتح قلعة أعظم سرورا من فتح مدينة حلب، وأسقطت عنها وعن سائر بلاد الجزيرة المكوس والضرائب، وكذلك عن بلاد الشام ومصر، وقد عاث الفرنج في غيبته في الارض فسادا، فأرسل إلى عساكره فاجتمعوا إليه، وكان قد بشر بفتح بيت المقدس حين فتح حلب، وذلك أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي رأى في تفسير أبي الحكم العربي عند قوله: (آلم غلبت الروم في أدنى الارض) الآية [ الروم: 1 - 2 ]، البشارة بفتح بين المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، واستدل على ذلك بأشياء، فكتب ذلك في ورقة
وأعطاها للفقيه عيسى الهكاري، ليبشر بها السلطان، فلم يتجاسر على ذلك خوفا من عدم المطابقة، فأعلم بذلك القاضي محيي الدين بن الزكي، فنظم معناه في قصيدة يقول فيها: وفتحكم حلب الشهباء في صفر * قضى لكم بافتتاح القدس في رجب (2) وقدمها إلى السلطان فتاقت نفسه إلى ذلك، فلما افتتحها كما سيأتي أمر ابن الزكي فخطب
__________
(1) كذا بالاصل وابن الاثير، وفي تاريخ ابن خلدون 5 / 261: في آخر سنة 579 ه.
(2) وفي الكامل 11 / 497: وفتحكم حلبا بالسيف في صفر * مبشر بفتوح القدس في رجب

يومئذ وكان يوم الجمعة، ثم بلغه بعد ذلك أن [ ابن ] جهبل هو الذي قال ذلك أولا، فأمره فدرس على نفس الصخرة درسا عظيما، فأجزل له العطاء، وأحسن عليه الثناء.
فصل ثم رحل من حلب في أواخر ربيع الآخر واستخلف على حلب ولده الظاهر غازي، وولى قضاءها لابن الزكي، فاستناب له فيها نائبا، وسار مع السلطان، فدخلوا دمشق في ثالث جمادى الاولى وكان ذلك يوما مشهودا، ثم برز منها خارجا إلى قتال الفرنج في أول جمادى الآخرة قاصدا نحو بيت المقدس، فانتهى إلى بيسان فنهبها، ونزل على عين جالوت، وأرسل بين يديه سرية هائلة فيها بردويل وطائفة من النورية، وجاء مملوك عمه أسد الدين فوجدوا جيش الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة، فالتقوا معهم فقتلوا من الفرنج خلقا وأسروا مائة أسير، ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد، ثم عاد في آخر ذلك اليوم، وبلغ السلطان أن الفرنج قد اجتمعوا لقتاله، فقصدهم وتصدى لهم لعلهم يصافونه، فالتقى مهعم فقتل منهم خلقا كثيرا، وجرح مثلهم فرجعوا ناكصين على أعقابهم خائفين منه غاية المخافة، ولا زال جيشه خلفهم يقتل ويأسر حتى غزوا في بلادهم فرجعوا عنهم، وكتب القاضي الفاضل إلى الخليفة يعلمه بما من الله عليه وعلى المسلمين من نصرة الدين، وكان لا يفعل شيئا ولا يريد أن يفعله إلا أطلع عليه الخليفة أدبا واحتراما وطاعة
واحتشاما.
فصل وفي رجب سار السلطان إلى الكرك (1) فحاصرها وفي صحبته تقي الدين عمر ابن أخيه، وقد كتب لاخيه العادل ليحضر عنده ليوليه حلب وأعمالها وفق ما كان طلب، واستمر الحصار على الكرك مدة شهر رجب، ولم يظفر منها بطلب، وبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا كلهم ليمنعوا منه الكرك فكر راجعا إلى دمشق - وذلك من أكبر همته - وأرسل ابن أخيه تقي الدين إلى مصر نائبا، وفي صحبته القاضي الفاضل، وبعث أخاه على مملكة حلب وأعمالها، واستقدم ولده الظاهر إليه، وكذلك نوابه ومن يعز عليه، وإنما أعطى أخاه حلب ليكون قريبا منه، فإنه كان لا يقطع أمرا دونه، واقترض السلطان من أخيه العادل مائة ألف دينار، وتألم الظاهر بن الناصر على مفارقة حلب، وكانت إقامته
__________
(1) قال رنسيمان في تاريخ الحروب الصليبية 2 / 711: وكان من أرفع المطامع التي يصبو صلاح الدين إلى تحقيقها، أن يدمر حصن الكرك وسيده الجاحد، فطالما بقي في يد رينالد شاتيون هذا الحصن الضخم، صار بوسعه أن يعترض الطريق الذي تسلكه القوافل التجارية من الشام إلى مصر.

بها ستة أشهر، ولكن لا يقدر أن يظهر ما في نفسه لوالده، لكن ظهر ذلك على صفحات وجهه ولفظات لسانه.
ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة فيها أرسل الناصر إلى العساكر الحلبية والجزيرية والمصرية والشامية أن يقدموا عليه لقتال الفرج، فقدم عليه تقي الدين عمر من مصر ومعه الفاضل، ومن حلب العادل، وقدمت ملوك الجزيرة وسنجار وغيرها، فأخذ الجميع وسار نحو الكرك فأحدقوا بها في رابع عشر جمادى الاولى، وركب عليها المنجنيقات، وكانت تسعة، وأخذ في حصارها، وذلك أنه رأى أن فتحها أنفع للمسلمين من غيرها، فإن أهلها يقطعون الطريق على الحجاج، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الفرنج قد اجتمعوا له كلهم فارسهم وراجلهم، ليمنعوا منه الكرك، فانشمر عنها وقصدهم فنزل على حسان
تجاههم، ثم صار إلى ماعر، فانهزمت الفرنج قاصدين الكرك، فأرسل وراءهم من قتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر السلطان بالاغارة على السواحل لخلوها من المقاتلة، فنهبت نابلس وما حولها من القرى والرساتيق، ثم عاد السلطان إلى دمشق فأذن للعساكر في الانصراف إلى بلادهم، وأمر ابن أخيه عمر الملك المظفر أن يعود إلى مصر، وأقام هو بدمشق ليؤدي فرض الصيام، وليجل الخيل ويحد الحسام، وقدم على السلطان خلع الخليفة فلبسها، وألبس أخاه العادل، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم خلع خلعته على ناصر الدين بن قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا آمد التي أطلقها له السلطان.
وفيها مات صاحب المغرب يوسف بن عبد المؤمن بن علي وقام في الملك بعده ولده يعقوب.
وفي أواخرها بلغ صلاح الدين أن صاحب الموصل نازل أربل فبعث صاحبها يستصرخ، به فركب من فوره إليه، فسار إلى بعلبك ثم إلى حماه، فأقام بها أياما ينتظر وصول العماد إليه، وذلك لانه حصل له ضعف فأقام ببعلبك، وقد أرسل إليه الفاضل من دمشق طبيبا يقال له أسعد بن المطران، فعالجه مداواة من طب لمن حب...ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة استهلت والسلطان مخيم بظاهر حماه، ثم سار إلى حلب، ثم خرج منها في صفر قاصدا الموصل فجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين، وهو أخو زين الدين صاحب إربل، ثم رضي عنه وأعاده إلى مملكته حتى يتبين خبث طويته، ثم سار إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية وجاء إلى خدمته عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان، وسار السلطان فنزل على الاسماعيليات قريبا من الموصل، وجاءه صاحب إربل نور الدين الذي خضعت له ملوك تلك الناحية، ثم أرسل صلاح الدين ضياء الدين الشهرزوري إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل، وإنما مقصوده

ردهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الاسلام، فحاصرها مدة ثم رحل عنها ولم يفتحها، وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة، وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر، وجرت أمور استقصاها ابن الاثير في كامله، وصاحب الروضتين، ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة، على أن يكونوا من جنده
إذا ندبهم لقتال الفرنج، وعلى أن يخطب له وتضرب له السكة، ففعلوا ذلك في تلك البلاد كلها، وانقطعت خطبة السلاجقة والازيقية بتلك البلاد كلها، ثم اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضا شديدا، فكان يتجلد ولا يظهر شيئا من الالم حتى قوي عليه الامر وتزايد الحال، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه العادل من حلب بالاطباء والادوية، فوجده في غياة الضعف، وأشار عليه بأن يوصي، فقال: ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل وتقي الدين عمر صاحب حماه وهو إذ ذاك نائب مصر، وهو بها مقيم، وابنيه العزيز عثمان والافضل عليا - ثم نذر لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما، وليجعل أكبر همه فتح بيت المقدس، ولو صرف في سبيل الله جميع ما يملكه من الاموال والذخائر، وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده، لانه نقض العهد وتنقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول: أين محمدكم ؟ دعوه ينصركم، وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل، وهو أرشده إليه وحثه عليه، حتى عقده مع الله عزوجل، فعند ذلك شفاه الله وعافاه من ذلك المرض الذي كان فيه، كفارة لذنوبه، وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية، فدقت البشائر وزينت البلاد، وكتب الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر عمر أن العافية الناصرية قد استقامت واستفاضت أخبارها، وطلعت بعد الظلمة أنوارها، وظهرت بعد الاختفاء آثارها، وولت العلة ولله الحمد والمنة، وطفئت نارها، وانجلى غبارها، وخمد شرارها، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها وشنارها، وعظيمة كفى الله الاسلام عارها، وتوبة امتحن الله بها نفوسنا، فرأى أقل ما عندها صبرنا، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب، ولا تتوقف الاجابة وإن سدت طريقها الذنوب، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب: نعي زاد فيه الدهر ميما * فأصبح بعد بؤساه نعيما وما صدق النذير به لاني * رأيت الشمس تطلع والنجوما
وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر غضة جديدة، والعزمه ماضية حديدة والنشاط إلى الجهاد، والتوبة لرب العباد، والجنة مبسوطة البساط، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط، وعرضنا نحن على الاهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج بسم الخياط.
ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب، ثم ركب فدخل دمشق، وقد تكاملت عافيته، وقد كان يوما مشهودا.

وفيها توفي من الاعيان الفقيه مهذب الدين: عبد الله بن أسعد الموصلي مدرس حمص، وكان بارعا في فنون، ولا سيما في الشعر والادب، وقد أثنى عليه العماد، والشيخ شهاب الدين أبو شامة.
الامير ناصر الدين محمد بن شيركوه صاحب حمص والرحبة، وهو ابن عم صلاح الدين وزوج أخته ست الشام بنت أيوب، توفي بحمص فنقلته زوجته إلى تربتها بالشامية البرانية، وقبره الاوسط بينها وبين أخيها المعظم توران شاه صاحب اليمن، وقد خلف من الاموال والذخائر شيئا كثيرا، ينيف على ألف ألف دينار توفي يوم عرفة فجأة (1) فولي بعده مملكة حمص ولده أسد الدين شيركوه بأمر صلاح الدين.
المحمودي بن محمد بن علي بن إسماعيل ابن عبد الرحيم الشيخ جمال الدين أبو الثناء محمودي بن الصابوني، كان أحد الائمة المشهورين، وإنما يقال له المحمودي لصحبة جده السلطان محمود بن زنكي، فأكرمه ثم سار إلى مصر فنزلها، وكان صلاح الدين يكرمه، وأوقف عليه وعلى ذريته أرضا فهي لهم إلى الآن.
الامير سعد الدين مسعود ابن معين الدين، كان من كبار الامراء أيام نور الدين وصلاح الدين، وهو أخو الست خاتون وحين تزوجها صلاح الدين زوجه بأخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، التي تنسب إليها المدرسة الصاحبية بسفح قيسون على الحنابلة، وقد تأخرت مدتها فتوفيت في سنة ثلاث وأربعين وستمائة،
وكانت آخر من بقي من أولاد أيوب لصلبه، وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة من جرح أصابه وهو في حصار ميافارقين.
__________
(1) في وفاته قال ابن الاثير في تاريخه: إن ناصر الدين راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم تسليم البلد إليه إذا مات صلاح الدين وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها - وكان صلاح الدين في مرضه قد أشرف على الهلاك - ولما عوفي صلاح الدين علم بخبره فأرسل إليه ناصح بن العميد وهو دمشقي نادمه وسقاه سما.
(11 / 518 وانظر أبي الفداء 3 / 70).

الست خاتون عصمت الدين بنت معين الدين، نائب دمشق، وأتابك عساكرها قبل نور الدين كما تقدم، وقد كانت زوجة نور الدين ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكبرهن صدقة، وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب، وخانقات خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلي على بانياس، ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قربيا من قباب السركسية، وإلى جنبها دار الحديث الاشرفية والاتابكية، ولها أوقاف كثيرة غير ذلك، وأما الخاتونية البرانية التي على القنوات بمحلة صنعاء الشام، ويعرف ذلك المكان التي هي فيه بتل الثعالب، فهي من إنشاء الست زمرد خاتون بنت جاولي، وهي أخت الملك دقماق لامه، وكانت زوجة زنكي والد نور الدين محمود، صاحب حلب، وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدمت وفاتها.
الحافظ الكبير أبو موسى المديني محمد بن عمر بن محمد (1) الاصبهاني الحافظ الموسوي المديني، أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة رحمه الله.
السهيلي أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد بن عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح - هو الداخل إلى الاندلس - الخثعمي السهيلي،
حكى القاضي ابن خلكان: أنه أملى عليه نسبه كذلك، قال والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة اسمها سهيل، لانه لا يرى سهيل النجم في شئ من تلك البلاد إلا منها من رأس جبل شاهق عندها، وهي من قرى المغرب، ولد السهيلي سنة ثمان وخمسمائة، وقرأ القراءات واشتغل وحصل حتى برع وساد أهل زمانه بقوة القريحة وجودة الذهن وحسن التصنيف، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته، وكان ضريرا مع ذلك، له " الروض الانف " يذكر فيه نكتا حسنة على السيرة لم يسبق إلى شئ منها أو إلى أكثرها، وله كتاب " الاعلام فيما أبهم في القرآن من الاسماء الاعلام "، وكتاب " نتائج الفكر "، ومسألة في الفرائض بديعة، ومسألة في سركون الدجال أعور، وأشياء فريدة كثيرة بديعة مفيدة، وله أشعار حسنة، وكان عفيفا فقيرا، وقد حصل له مال كثير في آخر عمره من صاحب
__________
(1) في وفيات الاعيان 4 / 286 وتذكرة الحفاظ ص 1334 وشذرات الذهب 4 / 273 والوافي 4 / 246: أحمد.
والمديني: قال في الوافي: نسبة إلى مدينة أصبهان.

مراكش، مات يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان من هذه السنة، وله قصيدة كان يدعو الله بها ويرتجي الاجابة فيها وهي: يا من يرى ما في الضمير ويسمع * أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها * يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن * امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة * فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة * فلئن رددت فأي باب أقرع ؟ ومن الذي أرجو (1) وأهتف باسمه * إن كان فضلك عن فقيرك يمنع ؟ حاشا لمجدك أن تقنط عاصيا * الفضل أجزل والمواهب أوسع ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في ثاني ربيع الاول منها كان دخول الناصر دمشق بعد عافيته، وزار القاضي الفاضل،
واستشاره، وكان لا يقطع أمرا دونه، وقرر في نيابة دمشق ولده الافضل علي، ونزل أبو بكر العادل عن حلب لصهره زوج ابنته الملك الظاهر غازي بن الناصر، وأرسل السلطان أخاه العادل صحبة ولده عماد الدين عثمان الملك العزيز على ملك مصر، ويكون الملك العادل أتابكه، وله إقطاع كبيرة جدا، وعزل عن نيابتها تقي الدين عمر (2)، فعزم على الدخول إلى إفريقية، فلم يزل الناصر يتلطف به ويترفق له حتى أقبل بجنوده نحوه، فأكرمه واحترمه وأقطعه حماه وبلادا كثيرة معها، وقد كانت له قبل ذلك، وزاد له على ذلك مدينة ميافارقين، وامتدحه العماد بقصيدة ذكرها في الروضتين.
وفيها هادن قومس طرابلس السلطان وصالحه وصافاه، حتى كان يقاتل ملوك الفرنج أشد القتال وسبى منهم النساء والصبيان، وكاد أن يسلم (3) ولكن صده السلطان فمات على الكفر
__________
(1) في وفيات الاعيان: أدعو.
(2) قال ابن الاثير في تاريخه: إن تقي الدين عمر سعى لدى صلاح الدين إلى إخراج ولده الافضل علي وشكاه إليه لانه قد عجز عن جباية الخراج، فظن صلاح الدين أن تقي الدين يريد الانفراد بمصر يملكها إذا مات صلاح الدين (11 / 523 تاريخ أبي الفداء 3 / 70).
(3) مات الملك بلدوين الرابع وأوصى بالملك لابن أخت له، وكان صغيرا فكفله ريموند صاحب طرابلس وطمع في الملك بسبب هذا الصغير، بلدوين الخامس، لكنه مات ولما يبلغ التاسعة من عمره فانتقل الملك إلى أمه سبيللا، والتي تزوجت برجل من الافرنج اسمه كي، فأسقط في يد صاحب طرابلس وراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به

والطغيان، وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر على الفرنج، ومن أشد ما دخل عليهم في دينهم.
قال العماد الكاتب: وأجمع المنجمون على خراب العالم في شعبان، لان الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان، فيكون طوفان الريح في سائر البلدان، وذكر أن ناسا من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات في الجبار ومدخلات وأسراب في الارض خوفا من ذلك، قال: فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها وأجمعوا عليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها، وقد ذكر ذلك غير واحد
من الناس في سائر أقطار الارض، وقد نظم الشعراء في تكذيب المنجمين في هذه الواقعة وغريبها أشعارا كثيرة حسنة منها: مزق التقويم والزيج فقد بان الخطا * إنما التقويم والزيج هباء وهوا قلت للسبعة إبرام ومنع وعطا * ومتى ينزلن في الميزان يستولي الهوا ويثور الرمل حتى يمتلي منه الصفا * ويعم الارض رجف وخراب وبلى ويصير القاع كالقف وكالطود العدا * وحكمتم فأبى الحاكم إلا ما يشا ما أتى الشرع ولا جاءت بهذا الانبياء * فبقيتم ضحكة يضحك منها العلما حسبكم خزيا وعارا ما يقول الشعرا * ما أطمعكم في الحكم إلا الامرا ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغاما أسا * فعلى اصطرلاب بطليموس والزيج العفا وعليه الخزي ما جادت على الارض السما وممن توفي فيها من الاعيان: أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي ثم المصري، أحد أئمة اللغة والنحو في زمانه، وكان عليه تعرض الرسائل بعد أبن بابشاد، وكان كثير الاطلاع عالما بهذا الشأن، مطرحا للتكليف في كلامه، لا يلتفت ولا يعرج على الاعراب فيه إذا خاطب الناس، وله التصانيف المفيدة، توفي وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين رحمه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فيها كانت وقعة حطين التي كانت أمارة وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس، واستنقاذه من
__________
= وطلب منه المساعدة على بلوغ أغراضه من الفرنج وأبرزها أنه يعتبر نفسه الشخص الوحيد الجدير بالترشيح لعرش المملكة ; وقد أشار ابن جبير (ص 304) إلى أن طموحه يعود إلى زمن مبكر ; وقد روى أبو شامة عن عماد الدين الاصفهاني أن ريموند كان مستعدا لاعتناق الاسلام حتى يحقق رغبته، واعتبر أن تحقيق رغبته هذه لا يتم إلا بمساعدة صلاح الدين له.
(الروضتين 2 / 257 الكامل 11 / 526 - 527 وتاريخ الحروب الصليبية 2 / 725).

أيدي الكفرة.
قال ابن الاثير: كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز، وذلك أول سنة الفرس، واتفق أن ذلك كان أول سنة الروم، وهو اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا، وهذا شئ يبعد وقوع مثله، وبرز السلطان من دمشق يوم السبت مستهل محرم في جيشه، فسار إلى رأس الماء فنزل ولده الافضل هناك في طائفة من الجيش وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى فخيم على قصر أبي سلام، ينتظر قدوم الحجاج، وفيهم أخته ست الشام وابنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين (1)، ليسلموا من معرة برنس الكرك، فلما جاز الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الكرك وقطع ما حوله من الاشجار، ورعى الزرع وأكلوا الثمار، وجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية، فنزلوا عند ابن السلطان على رأس الماء، وبعث الافضل سرية نحو بلاد الفرنج فقتلت وغنمت وسلمت ورجعت، فبشر بمقدمات الفتح والنصر، وجاء السلطان بجحافله فالتفت عليه جميع العساكر، فرتب الجيوش وسار قاصدا بلا الساحل، وكان جملة من معه من المقاتلة اثني عشر ألفا غير المتطوعة، فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم، وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك الفاجر، وجاؤوا بحدهم وحديدهم واستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت، وضلال الناسوت، في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عزوجل، يقال كانوا خمسين ألفا وقيل ثلاثا وستين ألفا، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك فقال له لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم، وستري غب ما أقول لك، فتقدموا نحو المسلمين وأقبل السلطان ففتح طبرية وتقوى بما فيها من الاطعمة والامتعة وغير ذلك، وتحصنت منه القلعة فلم يعبأ بها، وحاز البحيرة في حوزته ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة، حتى صاروا من عطش عظيم، فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها حطين، التي يقال إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام، وجاء العدو المخذول، وكان فيهم صاحب عكا وكفرنكا وصاحب الناصرة وصاحب صور وغير ذلك من جميع ملوكهم، فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان، وأسفر وجه
الايمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناس على مصافهم وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوما عسيرا على أهل الاحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر، فطلعت الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيما، وكان ذلك عليهم مشؤوما، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط، فرموه فتأجج نارا تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عزوجل، فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم
__________
(1) في الكامل وابن خلدون: لاجين.

ثلاثون ألفا في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفا من شجعانهم وفرسانهم، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الاعظم، وهو الذين يزعمون أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، وليم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الاسلام وأهله، ودمغ الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الفرنج قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيرا بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا.
فلما تمت هذه الوقعة، وضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها، وجئ بالاسارى تتهادى بقيودها، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية - والاسارى بين يديه - صبرا، ولم يترك أحدا منهم ممن كان يذكر الناس عنه شرا، ثم جئ بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه، وأجلس أرياط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله، ثم جئ إلى السلطان بشراب من الجلاب مثلوجا، فشرب ثم ناول الملك فشرب، ثم ناول أرياط صاحب الكرك فغضب السلطان
وقال له: إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي، ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة واستدعى بأرياط صاحب الكرك، فلما أوقف بين يده قام إليه بالسيف ودعاه إلى الاسلام فامتنع، فقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لامته، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة، وقال: إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قتل السلطان جميع من كان من الاسارى من الداوية والاسبتارية صبرا وأراح المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين، ولم يسلم ممن عرض عليه الاسلام إلا القليل، فيقال إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفا، والاسارى كذلك كانوا ثلاثين ألفا، وكان جملة جيشهم ثلاثة وستين ألفا، وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى فماتوا ببلادهم، وممن مات كذلك قومس طرابلس، فإنه انهزم جريحا (1) فمات بها بعد مرجعه، ثم أرسل السلطان برؤس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من رؤوسهم، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها، فدخل بالصليب منكوسا وكان يوما مشهودا.
ثم سار السلطان إلى قلعة طبرية فأخذها، وقد كانت طبرية تقاسم بلاد حوران والبلقاء وما
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه: لم يلبث إلا أياما قلائل حتى مات غيظا وحنقا مما جرى على الفرنج خاصة وعلى دين النصرانية عامة.
11 / 538 وقال ابن خلدون: مات لايام قلائل أسفا.
وقال أبو الفداء: وبقي مدة يسيرة ومات غبنا.

حولها من الجولان وتلك الاراضي كلها بالنصف، فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة، ثم سار السلطان إلى حطين فزار قبر شعيب، ثم ارتفع منه إلى أقليم الاردن، فتسلم تلك البلاد كلها، وهي قرى كثيرة كبار وصغار، ثم سار إلى عكا فنزل عليها يوم الاربعاء سلخ ربيع الآخر، فافتتحها صلحا يوم الجمعة، وأخذ ما كان بها من حواصل الملوك وأموالهم وذخائرهم ومتاجر وغيرها، واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فوجد فيها أربعة آلاف أسير، ففرج الله عنهم، وأمر بإقامة الجمعة بها، وكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج، نحوا من سبعين سنة.
ثم سار منها إلى
صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بلدا بلدا، لخلوها من المقاتلة والملوك، ثم رجع سائرا نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله، واستناب على نابلس ابن أخيه حسام الدين عمر بن محمد بن لاشين (1)، وهو الذي افتتحها، وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدا كبارا كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة، وغنم الجيش والمسلمون من هذه الاماكن شيئا كثيرا، وسبوا خلقا.
ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتع في هذه الاماكن مدة شهور ليستريحوا وتحمو أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس، وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعا، وجاؤوا إليه، ووصل أخاه العادل بعد وقعة حطين وفتح عكا ففتح بنفسه حصونا كثيرة، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شئ كثير جدا، فعند ذلك قصد السلطان القدس بمن معه كما سيأتي.
وقد امتدحه الشعراء بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا، وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق - وهو مقيم بها لمرض اعتراه - " ليهن المولى أن الله أقام به الدين، وكتب المملوك هذه الخدمة والرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، وكلما ذكر المملوك أن البيع تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه إن الله ثالث ثلاثة يقال فيه اليوم إنه الواحد، جدد لله شكرا تارة يفيض من لسانه، وتارة يفيض من جفنه سرورا بتوحيد الله، تعالى الملك الحق المبين، وأن يقال محمد رسول الله الصادق الامين، وجزى الله يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه، والمماليك ينتظرون المولى وكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عزم على دخول حمام طبرية: تلك المكارم لا قعبان من لبن * وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن ثم قال: وللالسنة بعد في هذا الفتح تسبيح طويل وقول جميل جليل ".
فتح بيت المقدس في هذه السنة " واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة "
__________
(1) لاجين: كما في الكامل وابن خلدون.

لما افتتح السلطان تلك الاماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل غربي بيت المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل، دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلا يقال له بالبان بن بازران (1)، ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان، من الداوية والاسبتارية (2) أتباع الشيطان، وعبدة الصلبان، فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لانه رآها أوسع للمجال، والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالا هائلا، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين (3)، فحنق عند ذلك كثير من الامراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الايمان حنقا وشدة التشمير، وكان ذلك يوما عسيرا على الكافرين غير يسير، فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب، فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الامان، فامتنع من ذلك وقال: لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين، فطلب صاحبها بالبان بن بازران (1) الامان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلا عظيما، وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الامان لهم، فقالوا إن لم تعطنا الامان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا - وكانوا قريبا من أربعة آلاف (4) - وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا - وخربنا الدور والاماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع وأتلفنا ما بأيدينا من الاموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكنا في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعدادا منكم، فماذا
ترتجي بعد هذا من الخير ؟
__________
(1) في الكامل: باليان بن بيرزان، وفي تاريخ ابن خلدون وابن العبري: بليان بن نيرزان.
وفي تاريخ الحروب الصليبية: باليان ابلين.
وباليان: صاحب الرملة.
وقد تولى قيادة الفرنج وكان قد دخل القدس بعد شرط عليه صلاح ألا يقيم في بيت المقدس إلا ليلة واحدة، وبعد دخوله لم يسمح له بالخروج وأجبر على تولي قيادة جماعات الفرنج التي وجدت فيها، فكتب إلى صلاح الدين يشرح له إقدامه على انتهاك اليمين التي بذلها (انظر تاريخ الحروب الصليبية 2 / 748).
(2) من المراجع المذكورة سابقا ; وفي الاصل " الاستثارية ".
(3) ومنهم: الامير عز الدين عيسى بن مالك وهو من أكابر الامراء.
وكان أبوه صاحب قلعة جعبر.
(4) في الكامل وابن خلدون وابن العبري: خمسة آلاف.

فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين (1)، ومن عجز عن ذلك كان أسيرا للمسلمين، وأن تكون الغلات والاسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور.
فكتب الصلح بذلك، وأن من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوما فهو أسير، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير (2) من رجال ونساء وولدان، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين (3) من رجب.
قال العماد: وهي ليلة الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى.
قال أبو شامة: وهو أحد الاقوال في الاسراء، ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ خلافا لمن زعم أنها أقيمت يومئذ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي كما سيأتي قريبا.
ولكن نظفوا المسجد الاقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية
وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتا لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الايام الاسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها، وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعا فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهبا، فتعذر استعادة ما قطع منها.
ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الاموال، وأطلق السلطان خلقا منهم بنات الملوك بن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئا مما يقتنى ويدخر، وكان رحمه الله حليما كريما مقداما شجاعا رحيما.
أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الايمان، ونودي بالاذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من
__________
(1) في تاريخ الحروب الصليبة: 2 / 752: ودينار للطفل.
(2) كذا بالاصل، وابن الاثير وقال: هذا بالضبط واليقين.
وقال ابن العبري: خمسة آلاف.
(3) في تاريخ ابن خلدون 5 / 310: يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب.

شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فنصب المنبر (1) إلى جانب المحراب، وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل، وجاء الحق وبطلت الاباطيل، وصفت السجادات وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت النفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وعبد الله الاحد الصمد الذي (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) [ الاخلاص: 3 - 4 ]، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلا الجامع وسالت لرقة
القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما رود فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والامارات.
وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها وكان أول ما قال (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [ الانعام: 45 ].
ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال: " الحمد لله معز الاسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الامور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الايام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض (2) على العباد من طله وهطله، [ و ] (3) أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لاوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الاحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض (4) الافك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الاقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته الصديق السابق إلى الايمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن،
__________
(1) حمل المنبر من حلب، وكان نور الدين قد أمر الصناع ببنائه، فاستمروا في صناعته عدة سنين وكان بين الانتهاء من بنائه وحمله إلى بيت المقدس عشرون سنة.
(انظر الكامل 11 / 552 - وابن خلدون 5 / 310).
(2) في وفيات الاعيان 4 / 231: وأفاء على عباده من ظله.
(3) من وفيات الاعيان.
(4) في الوفيات: وراحض.

وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الاصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ".
ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، الذي من شأنه كذا وكذا، فذكر فضائله ومآثره، وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالانبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الانبياء ومقصد الاولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم.
قلت: ويقال إن أول من أسسه يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل المسجد الحرام بأربعين سنة، كما جاء في الصحيحين، ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام، كما ثبت فيه الحديث بالمسند والسنن، وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه من خلالا ثلاثا، حكما يصادف حكمه ; وملكا لا ينبغي لاحد من بعده، وأنه لا يأتي أحد هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين.
وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن بن علي نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس، واستمر القاضي ابن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات، ثم قرر السلطان للقدس خطيبا مستقرا، وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد استعمله لبيت المقدس، وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه صلاح الدين بعد وفاته.
نكتة غريبة
قال أبو شامة في الروضتين: وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الاول فقال: وقع في تفسير أبي الحكم الاندلسي - يعني ابن برجان - في أول سورة الروم أخبار عن فتح بيت المقدس، وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
قال السخاوي: ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله (آلم غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) [ الروم: 1 - 3 ] فبنى الامر على التاريخ كما يفعل المنجمون، فذكر أنهم يغلبون في سنة كذا وكذا، ويغلبون في سنة كذا وكذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير، ثم قال: وهذه نجابة وافقت إصابة، إن صح، قال ذلك قبل وقوعه، وكان في كتابه قبل حدوثه،

قال: وليس هذا من قبيل علم الحروف، ولا من بابا الكرامات والمكاشفات، ولا ينال في حساب، قال: وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه.
قلت: ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة، ويقال إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، لان مولده في سنة إحدى عشر وخمسمائة، فتهيأ لاسباب ذلك حتى إنه أعد منبرا عظيما لبيت المقدس إذا فتحه والله أعلم.
وأما الصخرة المعظمة فإن السلطان أزال ما حولها من المنكرات والصور والصلبان، وطهرها بعد ما كانت جيفة، وأظهرها بعد ما كانت خفية مستورة غير مرئية، وأمر الفقيه عيسى الهكاري أن يعمل حولها شبابيك من حديد، ورتب لها إماما راتبا، وقف عليه رزقا جيدا، وكذلك إمام الاقصى، وعمل للشافعية مدرسة يقال لها الصلاحية والناصرية أيضا، وكان موضعها كنيسة على قبر حنة أم مريم، ووقف على الصوفية رباطا كان للبترك إلى جنب القمامة، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجوامك، وأرصد الختم والربعات في أرجاء المسجد الاقصى والصخرة، ليقرأ فيها المقيمون والزائرون وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس وغيره من الخيرات إلى كل أحد، وعزم
السلطان على هدم القمامة وأن يجعلها دكا لتنحسم مادة النصارى من بيت المقدس، فقيل [ له ] إنهم لا يتركون الحج إلى هذه البقعة، ولو كانت قاعا صفصفا، وقد فتح هذه البلد قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة.
فأعرض عنها وتركها على حالتها تأسيا بعمر رضي الله عنه، ولم يترك من النصارى فيها سوى أربعة يخدمونها، وحال بين النصارى وبينها، وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة، وعفا آثارها، وهدم ما كان هناك من القباب.
وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم، وأحسن إليهم، وأطلق لهم إعطاءات سنية، وكساهم وانطلق كل منهم إلى وطنه: وعاد إلى أهله ومسكنه، فلله الحمد على نعمه ومننه.
فصل فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انفصل عنها في الخامس والعشرين (1) من شعبان قاصدا مدينة صور بالساحل، وكان فتحها قد تأخر، وقد استحوذ عليها بعد وقعة حطين
__________
(1) في ابن خلدون 5 / 311: آخر شعبان.
وقال أبو الفداء في تاريخه: ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها.

رجل من تجار الفرنج يقال له المركيس (1)، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقا من البحر إلى البحر، فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا بالاسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بها برا وبحرا، فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شواني من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون واجمين حزنا وتأسفا، وقد دخل عليهم فصل البرد وقلت الازواد، وكثرت الجراحات وكل الامراء من المحاصرات، فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين، فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دمشق واجتاز في طريقه على عكا، وتفرقت العساكر إلى بلادها.
وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الافضل برج الداوية، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب
مدينة عكا خوفا من عود الفرنج إليها، فكاد ولم يفعل وليته فعل، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي، ووقف دار الاسبتارية (2) بصفين على الفقهاء والفقراء، وجعل دار الاسقف مارستانا ووقف على ذلك كله أوقافا دارة، وولى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين بن الشيخ أبى النجيب.
ولما فرغ من هذه الاشياء عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، وأرسل إليه الملوك بالتهاني والتحف والهدايا من سائر الاقطار والامصار، وكتب الخليفة إلى السلطان يعتب عليه في أشياء، منها أنه بعث إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شابا بغداديا كان وضيعا عندهم، لا قدر له ولا قيمة، وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة.
فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع.
وقال: الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضئ، ومع هذا فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الادب مع غناه عنه.
وفيها كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وبين ملك الهند الكبير، فأقبلت الهنود في عدد كثير من الجنود، ومعهم أربعة عشر فيلا، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، وقيل للملك أنج بنفسك، فما زاده ذلك إلا إقداما، فحمل على الفيلة فجرح بعضها - وجرح الفيل لا يندمل - فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعا، فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف عنه أصحابه فاقتتلوا
__________
(1) في الكامل وابن خلدون: المركيش، وفي تاريخ الحروب الصليبية 2 / 762: كنراد بن ماركيز وكان يقيم بالقسطنطينية غير أنه تورط في جريمة قتل وقعت بها، فأبحر سرا للحج إلى الاماكن المقدسة، فاتخذ طريقه إلى عكا، ولم يكن يعلم شيئا عن الكوارث التي حلت بفلسطين، فأقلع نحو صور حيث لقي الترحيب.
فتولى تنظيم الدفاع عنها.
(2) تقدم الاشارة إليها، وفي الاصل الاستثارية.

عنده قتالا شديدا، وجرت حرب عظيمة لم يسمع بمثلها بموقف، فغلب المسلمون الهنود وخلصوا
صاحبهم وحملوه على كواهلهم في محفة عشرين (1) فرسخا، وقد نزفه الدم، لما تراجع إليه جيشه أخذ في تأنيب الامراء، وحلف ليأكلن كل أمير عليق فرسه، وما أدخلهم غزنة إلا مشاة.
وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتا لها أسنان.
وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل بن الصاحب، وكان قد استحوذ على الامور ولم يبق للخليفة معه كلمة تطاع، ومع هذا كان عفيفا عن الاموال، جيد السيره، فأخذ الخليفة منه شيئا كثيرا من الحواصل والاموال.
وفيها استوزر الخليفة أبا المظفر جلال الدين، ومشى أهل الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة ابن الدامغاني وقد كان ابن يونس هذا شاهدا عند القاضي، وكان يقول وهو يمشي في ركابه لعن الله طول العمر، فمات القاضي في آخر هذه السنة.
وفيها توفي من الاعيان..الشيخ عبد المغيث بن زهير الحربي (2) كان من صلحاء الحنابلة، وكان يزار، وله مصنف في فضل يزيد بن معاوية، أتى فيه بالغرائب والعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي فأجاد وأصاب، ومن أحسن ما اتفق لعبد المغيث هذا أن بعض الخلفاء - وأظنه الناصر - جاءه زائرا مستخفيا، فعرفه الشيخ عبد المغيث ولم يعلمه بأنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا ؟ فقال لا أسوغ لعنه لاني لو فتحت هذا الباب لافضي الناس إلى لعن خليفتنا.
فقال الخليفة: ولم ؟ قال: لانه يفعل أشياء منكرة كثيرة، منها كذا وكذا، ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به.
مات في المحرم من هذه السنة.
وفيها توفي الشيخ: علي بن خطاب بن خلف العابد الناسك، أحد الزهاد، ودوي الكرامات، وكان مقامه بجزيرة ابن عمر.
قال ابن الاثير في الكامل: ولم أر مثله في حسن خلقه وسمته وكراماته وعبادته.
__________
(1) في الكامل 11 / 561: أربعة وعشرين.
(2) في الكامل 11 / 562: الحري ; وفي طبقات ابن رجب: أبو العز بن أبي حرب.

الامير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن مقدم أحد نواب صلاح الدين، لما افتتح الناصر بيت المقدس أحرم جماعة في زمن الحج منه إلى المسجد الحرام، وكان ابن مقدم أمير الحاج في تلك السنة، فلما وقف بعرفة ضرب الدبادب ونشر الالوية، وأظهر عز السلطان صلاح الدين وعظمته، فغضب طاشتكين أمير الحاج من جهة الخليفة، فزجره عن ذلك فلم يسمع، فاقتتلا فجرح ابن مقدم ومات في اليوم الثاني بمنى، ودفن هنالك، وجرت خطوب كثيرة، وليم طاشتكين على ما فعل، وخاف معرة ذلك من جهة صلاح الدين والخليفة، وعزله الخليفة عن منصبه.
محمد بن عبيد الله ابن عبد الله سبط بن التعاويذي الشاعر، ثم أضر في آخر عمره وجاز الستين توفي في شوال.
نصر بن فتيان بن مطر الفقيه الحنبلي المعروف بابن المنى، كان زاهدا عابدا، مولده سنة إحدى وخمسمائة، وممن تفقه عليه من المشاهير الشيخ موفق الدين بن قدامة، والحافظ عبد الغني، ومحمد بن خلف بن راجح، والناصر عبد الرحمن بن المنجم بن عبد الوهاب، وعبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي وغيرهم توفي خامس رمضان.
وفيها توفي قاضي القضاة.
أبو الحسن الدامغاني وقد حكم في أيام المقتفي ثم المستنجد ثم عزل وأعيد في أيام المستضئ، وحكم للناصر حتى توفي في هذه السنة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة في محرمها حاصر السلطان صلاح الدين حصن كوكب فرآه منيعا صعبا، فوكل به الامير قايماز البجمي (1) في خمسمائة فارس يضيقون عليهم المسالك، وكذلك وكل لصفت (2) وكانت للداوية
خمسمائة فارس مع طغرلبك الجامدار يمنعون الميرة والتقاوى أن تصل إليهم، وبعث إلى الكرك
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: النجمي (انظر تاريخ ابن خلدون 5 / 312).
(2) كذا بالاصل، وهو تحريف والصواب: صفد كما في الكامل وابن خلدون وتاريخ أبي الفداء.

الشوبك يضيقون على أهلها ويحاصرونهم، ليفرغ من أموره لقتال هذه الاماكن، ولما رجع السلطان من هذه الغزوة إلى دمشق وجد الصفي بن الفايض وكيل الخزانة قد بنى له دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي، فغضب عليه وعزله وقال: إنا لم نخلق للمقام بدمشق ولا بغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله عزوجل والجهاد في سبيله، وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له.
وجلس السلطان بدار العدل فحضرت عنده القضاة وأهل الفضل، وزار القاضي الفاضل في بستانه على الشرف في جوسق ابن الفراش، وحكى له ما جرى من الامور، واستشاره فيما يفعل في المستقبل من المهمات والغزوات، ثم خرج من دمشق فسلك على بيوس وقصد البقاع، وسار إلى حمص وحماه وجاءت الجيوش من الجزيرة وهو على العاصي، فسار إلى السواحل الشمالية ففتح أنطرطوس وغيرها من الحصون، وجبلة واللاذقية، وكانتا من أحصن المدن عمارة ورخاما ومحالا، وفتح صهيون (1) وبكاس والشغر وهما قلعتان على العاصي حصينتان، فتحهما عنوة، وفتح حصن بدرية (2) وهي قلعة عظيمة على جبل شاهف منيع، تحتها أودية عميقة يضرب بها المثل في سائر بلاد الفرنج والمسلمين، فحاصرها أشد حصار وركب عليها المجانيق الكبار، وفرق الجيش ثلاث فرق، كل فريق يقاتل، فإذا كلوا وتعبوا خلفهم الفريق الآخر، حتى لا يزال القتال مستمرا ليلا ونهارا، فكان فتحها في نوبة السلطان أخذها عنوة في أيام معدودات، ونهب جميع ما فيها، واستولى على حواصلها وأموالها، وقتل حماتها ورجالها، واستخدم نساءها وأطفالها، ثم عدل عنها ففتح حصن دربساك وحصن بغراس، كل ذلك يفتحه عنوة فيغنم ويسلم، ثم سمت به همته العالية إلى فتح إنطاكية، وذلك لانه أخذ جميع ما حولها من القرى والمدن، واستظهر عليها بكثرة الجنود، فراسله صاحب إنطاكية يطلب منه الهدنة على أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين، فأجابه إلى ذلك لعلمه
بتضجر من معه من الجيش، فوقعت الهدنة على سبعة أشهر (3)، ومقصود السلطان أن يستريح من تعبها، وأرسل السلطان من تسلم منه الاسارى وقد ذلت دولة النصارى، ثم سار فسأله ولده الظاهر أن يجتاز بحلب فأجابه إلى ذلك، فنزل بقلعتها ثلاثة أيام، ثم استقدمه ابن أخيه تقي الدين إليه إلى حماه فنزل عنده ليلة واحدة، وأقطعه جبلة واللاذقية، ثم سار فنزل بقلعة بعلبك، ودخل حمامها، ثم عاد إلى دمشق في أوائل رمضان، وكان يوم مشهودا، وجاءته البشائر بفتح الكرك وإنقاذه من أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تلك الناحية، وسهل حزنها على السالكين من التجار والغزاة والحجاج (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [ الانعام: 45 ].
__________
(1) زاد ابن الاثير في تاريخه: ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي، فملكوا حصن بلاطنوس (في تاريخ أبي الفداء: بلادنوس)، وملك أيضا حصن العيدو (في تاريخ أبي الفداء: العبد) وحصن الجماهرتين (12 / 11).
(2) في الكامل 12 / 14 وابن خلدون 5 / 314 وتاريخ أبي الفداء 3 / 75: برزية.
(3) في ابن الاثير ثمانية أشهر: من أول تشرين الاول وآخرها: آخر أيام.

فصل في فتح صفد وحصن كوكب لم يقم السلطان بدمشق إلا أياما حتى خرج قاصدا صفد فنازلها في العشر الاوسط من رمضان، وحاصرها بالمجانيق، وكان البرد شديدا يصبح الماء فيه جليدا، فما زال حتى فتحها صلحا في ثامن شوال، ثم سار إلى صور فألقت إليه بقيادها، وتبرأت من أنصارها وأجنادها وقوادها، وتحققت لما فتحت صفد أنها مقرونة معها في أصفادها، ثم سار منها إلى حصن كوكب - وهي معقل الاسبتارية (1) كما أن صفد كانت معقل الداوية - كانوا أبغض أجناس الفرنج إلى السلطان، ولا يكاد يترك منهم أحدا إلا قتله إذا وقع في المأسورين، فحاصر قلعة كوكب حتى أخذها، وقتل من بها وأراح المارة من شر ساكنيها، وتمهدت تلك السواحل واستقر بها منازل قاطنيها.
هذا والسماء تصب، والرياح تهب، والسيول تعب، والارجل في الاوحال تخب، وهو في كل ذلك صابر مصابر، وكان القاضي الفاضل معه في هذه الغزوة، وكتب القاضي الفاضل إلى أخي السلطان صاحب اليمن يستدعيه إلى الشام
لنصرة الاسلام، وأنه قد عزم على حصار أنطاكية، ويكون تقي الدين عمر محاصرا طرابلس إذا انسلخ هذا العام، ثم عزم القاضي الفاضل على الدخول إلى مصر، فودعه السلطان فدخل القدس فصلى به الجمعة وعيد فيه عيد الاضحى، ثم سار ومعه أخوه السلطان العادل إلى عسقلان، ثم أقطع أخاه الكرك عوضا عن عسقلان، وأمره بالانصراف ليكون عونا لابنه العزيز على حوادث مصر، وعاد السلطان فأقام بمدينة عكا حتى انسلخت هذه السنة.
وفيها خرجت طائفة بمصر من الرافضة ليعيدوا دولة الفاطميين، واغتنموا غيبة العادل عن مصر، واستخفوا أمر العزيز عثمان بن صلاح الدين، فبعثوا اثني عشر رجلا ينادون في الليل يا آل علي، يا آل علي، بنياتهم على أن العامة تجيبهم فلم يجبهم أحد، ولا التفت إليهم، فلما رأوا ذلك انهزموا فأدركوا وأخذوا وقيدوا وحبسوا، ولما بلغ أمرهم السلطان صلاح الدين ساءه ذلك واهتم له، وكان القاضي الفاضل عنده بعد لم يفارقه، فقال له: أيها الملك ينبغي أن تفرح ولا تحزن، حيث لم يصغ إلى هؤلاء الجهلة أحد من رعيتك، ولو أنك بعثت جواسيس من قبلك يختبرون الناس لسرك ما بلغك عنهم، فسرى عنه ما كان يجد، ورجع إلى قوله وأرسله إلى مصر ليكون له عينا وعونا.
وفيها توفي من الاعيان..الامير الكبير سلالة الملوك والسلاطين الشيزري مؤيد الدولة أبو الحارث وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن [ مقلد بن نصر بن ]
__________
(1) في الاصل: الاستثارية.

منقذ أحد الشعراء المشهورين، المشكورين، بلغ من العمر ستا وتسعين سنة، وكان عمره تاريخا مستقلا وحده، وكانت داره بدمشق، مكان العزيزية، وكانت معقلا للفضلاء، ومنزلا للعلماء وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير، وعنده جود وفضل كثير، وكان من أولاد ملوك شيزر، ثم أقام بمصر مدة في أيام الفاطميين، ثم عاد إلى الشام فقدم على الملك صلاح الدين في سنة سبعين وأنشده:
حمدت على طول عمري المشيبا * وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا لاني حييت إلى أن لقيت * بعد العدو صديقا حبيبا وله في سن قلعها وفقد نفعها: وصاحب لا أمل الدهر صحبته * يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا * لناظري افترقنا فرقة الابد ولد ديوان شعر كبير، وكان صلاح الدين يفضله على سائر الدواوين، وقد كان مولده في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان في شبيبته شهما شجاعا، قتل الاسد وحده مواجهة، ثم عمر إلى أن توفي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان، ودفن شرقي جبل قاسيون.
قال وزرت قبره وأنشدت له: لا تستعر جلدا على هجرانهم * فقواك تضعف عن صدود دائم واعلم بأنك إن رجعت إليهم * طوعا وإلا عدت عودة نادم وله أيضا: وأعجب لضعف يدي عن حملها قلما * من بعد حطم القنا في لبة الاسد وقل لمن يتمنى طول مدته * هذي عواقب طول العمر والمدد قال ابن الاثير: وفيها توفي شيخه.
أبو محمد عبد الله بن علي ابن عبد الله بن سويد التكريتي، كان عالما بالحديث وله تصانيف حسنة.
الحازمي الحافظ قال أبو شامة: وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الهمداني

ببغداد، صاحب التصانيف، على صغر سنة، منها العجالة في النسب، والناسخ والمنسوخ وغيرها ومولده سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الاولى من هذه
السنة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة فيها قدم من جهة الخليفة رسل إلى السلطان يعلمونه بولاية العهد لابي نصر الملقب بالظاهر بن الخليفة الناصر، فأمر السلطان خطيب دمشق أبا القاسم عبد الملك بن زيد الدولعي أن يذكره على المنبر، ثم جهز السلطان مع الرسل تحفا كثيرة، وهدايا سنية، وأرسل بأسارى من الفرنج على هيئتهم في حال حربهم، وأرسل بصليب الصلبوت فدفن تحت عتبة باب النوى، من دار الخليفة، فكان بالاقدام يداس، بعد ما كان يعظم ويباس، والصحيح أن هذا الصليب كان منصوبا على الصخرة وكان من نحاس مطليا بالذهب، فحطه الله إلى أسفل العتب.
قصة عكا وما كان من أمرها لما كان شهر رجب اجتمع من كان بصور من الفرنج وساروا إلى مدينة عكا، فأحاطوا بها يحاصرونها فتحصن من فيها من المسلمين، وأعدوا للحصار ما يحتاجون إليه، وبلغ السلطان خبرهم فسار إليهم من دمشق مسرعا، فوجدهم قد أحاطوا بها إحاطة الخاتم بالخنصر، فلم يزل يدافعهم عنها ويمانعهم منها، حتى جعل طريقا إلى باب القلعة يصل إليه كل من أراده، من جندي وسوقي، وامرأة صبي، ثم أدخل إليها ما أراد من الآلات والامتعة، ودخل هو بنفسه فعلا على سورها ونظر إلى الفرنج وجيشهم وكثرة عددهم وعددهم، والميرة تفد إليهم في البحر، في كل وقت، وكل ما لهم في ازدياد، وفي كل حين تصل إليهم الامداد، ثم عاد إلى مخيمه والجنود تفد إليه، وتقدم عليه من كل جهة ومكان، منهم رجال وفرسان، فلما كان في العشر الاخير من شعبان برزت الفرنج من مراكبها إلى مواكبها، في نحو من ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، فبرز إليهم السلطان فيمن معه من الشجعان فاقتتلوا بمرج عكا قتالا عظيما، وهزم جماعة من المسلمين في أول النهار، ثم كانت الدائرة على الفرنج فكانت القتلى بينهم أزيد من سبعة آلاف (1) قتيل، ولما تناهت هذه الوقعة تحول السلطان عن مكانه الاول إلى موضع بعيد من رائحة القتلى، خوفا من الوخم والاذى، وليستريح الخيالة والخيل، ولم يعلم أن ذلك كان من أكبر مصالح العدو المخذول، فإنهم اغتنموا هذه الفرصة فحفروا
حول مخيمهم خندقا من البحر محدقا بجيشهم، واتخذوا من ترابه سورا شاهقا، وجعلوا له أبوابا
__________
(1) في الكامل 12 / 39: عشرة آلاف.
(انظر ابن خلدون 5 / 319).

يخرجون منها إذا أرادوا وتمكنوا في منزلهم ذلك الذي اختاروا وارتادوا، وتفارط الامر على المسلمين، وقوي الخطب وصار الداء عضالا، وازداد الحال وبالا، اختبارا من الله وامتحانا، وكان رأي السلطان أن يناجزوا بعد الكرة سريعا، ولا يتركوا حتى يطيب البحر فتأتيهم الامداد من كل صوب، فتعذر عليه الامر بإملال الجيش والضجر، وكل منهم لامر الفرنج قد احتقر، ولم يدر ما قد حتم في القدر، فأرسل السلطان إلى جميع الملوك يستنفر ويستنصر، وكتب إلى الخليفة بالبث، وبث الكتب بالتحضيض والحث السريع، فجاءته الامداد جماعات وآحادا، وأرسل إلى مصر يطلب أخاه العادل ويستعجل الاسطول، فقدم عليه فوصل إليه خمسون قطعة في البحر مع الامير حسام الدين لؤلؤ، وقدم العادل في عسكر المصريين، فلما وصل الاسطول حادت مراكب الفرنج عنه يمنة ويسرة، وخافوا منه، واتصل بالبلدة الميرة والعدد والعدد، وانشرحت الصدور بذلك، وانسلخت هذه السنة والحال ما حال بل هو على ما هو عليه ولا ملجأ من الله إلا إليه.
وفيها توفي من الاعيان..القاضي شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون أحد أئمة الشافعية، له كتاب الانتصاف، وقد ولي قضاء القضاة بدمشق، ثم أضر قبل موته بعشر سنين، فجعل ولده نجم الدين مكانه بطيب قلبه وقد بلغ من العمر ثلاثا وتسعين سنة ونصفا، ودفن بالمدرسة العصرونية، التي أنشأها عند سويقة باب البريد، قبالة داره، بينهما عرض الطريق، وكان من الصالحين والعلماء العاملين.
وقد ذكره ابن خلكان فقال: كان أصله من حديثة عانة الموصل، ورحل في طلب العلم إلى بلدان شتى، وأخذ عن أسعد الميهني وأبي علي الفارقي وجماعة، وولي قضاء سنجار وحران، وباشر في أيام نور الدين تدريس الغزالية، ثم انتقل إلى حلب فبنى له نور الدين بحلب مدرسة وبحمص أخرى، ثم قدم
دمشق في أيام صلاح الدين، فولي قضاءها في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة إلى أن توفي في هذه السنة، وقد جمع جزءا في قضاء الاعمى، وأنه جائز، وهو خلاف المذهب، وقد حكاه صاحب البيان وجها لبعض الاصحاب.
قال: ولم أره في غير، ولكن حبك الشئ يعمي ويصم، وقد صنف كتبا كثيرة، منها صفوة المذهب في نهاية المطلب، في سبع مجلدات، والانتصاف (1) في أربعة، والخلاف في أربعة، والذريعة [ في معرفة الشريعة ] (2) والمرشد وغير ذلك، و [ كتابا سماه مأخذ النظر، ومختصرا ] (2) في الفرائض، وقد ذكره ابن عساكر في تاريخه والعماد فأثنى عليه، وكذلك
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 54 وشذرات الذهب 4 / 283: الانتصار.
(2) ما بين معكوفتين من وفيات الاعيان.

القاضي الفاضل.
وأورد له العماد أشعارا كثيره وابن خلكان، منها: أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة * تمر بي الموتى يهز نعوشها وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي * بقايا ليال في الزمان أعيشها أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان أبو العباس المعروف بابن أفضل الزمان، قال ابن الاثير: كان عالما متبحرا في علوم كثيرة من الفقه، والاصول والحساب والفرائض والنجوم والهيئة والمنطق وغير ذلك، وقد جاور بمكة وأقام بها إلى أن مات بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقا.
الفقيه الامير ضياء الدين عيسى الهكاري كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، دخل معه إلى مصر، وحظي عنده، ثم كان ملازما للسلطان صلاح الدين حتى مات في ركابه بمنزلة الخروبة قريبا من عكا، فنقل إلى القدس فدفن به كان ممن تفقه على الشيخ أبي القاسم بن البرزي الجزري، وكان من الفضلاء والامراء الكبار.
المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية، تفقه بابن الخل [ وحظي ] بمكانه عند الخليفة والعامة، وكان يضرب بحسن
خطه المثل.
ذكرته في الطبقات.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة استهلت والسلطان محاصر لحصن عكا، وأمداد الفرنج تفد إليهم في البحر في كل وقت، حتى أن نساء الفرنج ليخرجن بنية القتال، ومنهن من تأتي بنية راحة الغرباء لينكحوها في الغربة، فيجدون راحة وخدمة وقضاء وطر، قدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة من أحسن النساء وأجملهن بهذه النية، فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب والغربة، حتى أن كثيرا من فسقة المسلمين تحيزوا إليهم من أجل هذه النسوة، واشتهر الخبر بذلك.
وشاع بين المسلمين والفرنج بأن ملك الالمان قد أقبل بثلاثمائة ألف مقاتل، من ناحية القسطنطينية، يريد أخذ الشام وقتل أهله، انتصارا لبيت المقدس فعند ذلك حمل السلطان والمسلمون هما عظيما، وخافوا غاية الخوف، مع ما هم فيه من الشغل والحصار الهائل، وقويت قلوب الفرنج بذلك، واشتدوا للحصار والقتال، ولكن لطف الله وأهلك

عامة جنده في الطرقات بالبرد والجوع والضلال في المهالك، على ما سيأتي بيانه.
وكان سبب قتال الفرنج وخروجهم من بلادهم ونفيرهم ما ذكره ابن الاثير في كامله أن جماعة من الرهبان والقسيسين الذين كانوا ببيت المقدس وغيره، ركبوا من صور في أربعة مراكب، وخرجوا يطوفون ببلدان النصارى البحرية، وما هو قاطع البحر من الناحية الاخرى، يحرضون الفرنج ويحثونهم على الانتصار لبيت المقدس، ويذكرون لهم ما جرى على أهل القدس، وأهل السواحل من القتل والسبي وخراب الديار، وقد صوروا صورة المسيح وصورة عربي آخر يضربه ويؤذيه، فإذا سألوهم من هذا الذي يضرب المسيح ؟ قالوا هذا نبي العرب يضربه وقد جرحه ومات، فينزعجون لذلك ويحمون ويبكون ويحزنون فعند ذلك خرجوا من بلادهم لنصرة دينهم ونبيهم، وموضع حجهم على الصعب والذلول، حتى النساء المخدرات والزواني والزانيات الذين هم عند أهليهم من أعز الثمرات.
وفي نصف ربيع الاول تسلم السلطان شعيف أربون (1) بالامان، وكان صاحبه مأسورا في الذل
والهوان، وكان من أدهى الفرنج وأخبرهم بأيام الناس، وربما قرأ في كتب الحديث وتفسير القرآن، وكان مع هذا غليظ الجلد قاسي القلب، كافر النفس.
ولما انفصل فصل الشتاء وأقبل الربيع جاءت ملوك الاسلام من بلدانها بخيولها وشجعانها، ورجالها وفرسانها، وأرسل الخليفة إلى الملك صلاح الدين أحمالا من النفط والرماح، ونفاطة ونقابين، كل منهم متقن في صنعته غاية الاتقان، ومرسوما بعشرين ألف دينار، وانفتح البحر وتواترت مراكب الفرنج من كل جزيرة، لاجل نصرة أصحابهم، يمدونهم بالقوة والميرة، وعملت الفرنج ثلاثة أبرجة من خشب وحديد، عليها جلود مسقاة بالخل، لئلا يعمل فيها النفط، يسع البرج منها خمسمائة مقاتل، وهي أعلا من أبرجة البلد، وهي مركبة على عجل بحيث يديرونها كيف شاؤوا، وعلى ظهر كل منها منجنيق كبير، فلما رأى المسلمون ذلك أهمهم أمرها وخافوا على البلد ومن فيه من المسلمين أن يؤخذوا، وحصل لهم ضيق منها، فأعمل السلطان فكره بإحراقها، وأحضر النفاطين ووعدهم بالاموال الجزيلة إن هم أحرقوها، فانتدب لذلك شاب نحاس من دمشق يعرف بعلي بن عريف النحاسين، والتزم بإحراقها، فأخذ النفط الابيض وخلطه بأدوية يعرفها، و ؟ لى ذلك في ثلاثة قدور من نحاس حتى صار نارا تأجج، ورمى كل برج منها بقدر من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا، فاحترقت الابرجة الثلاثة حتى صارت نارا بإذن الله، لها ألسنة في الجو متصاعدة، واحترق من كان فيها، فصرخ المسلمون صرخة واحدة بالتهليل، واحترق في كل برج منها سبعون كفورا، وكان يوما على الكافرين عسيرا، وذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الاول من هذه السنة، وكان الفرنج قد تعبوا في عملها سبعة أشهر، فاحترقت في يوم واحد (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)
__________
(1) كذا بالاصل ; وهو حصن شقيف أرنون، (الكامل - وابن خلدون).

[ الفرقان: 23 ] ثم أمر السلطان لذلك الشاب النحاس بعطية سنية، وأموال كثيرة فامتنع أن يقبل شيئا من ذلك، وقال: إنما عملت ذلك ابتغاء وجه الله، ورجاء ما عنده سبحانه، فلا أريد منكم جزاء ولا شكورا.
وأقبل الاسطول المصري وفيه الميرة الكثيرة لاهل البلد، فعبى الفرنج أسطولهم ليقاتلوا أسطول المسلمين، نهض السلطان بجيشه ليشغلهم عنهم، وقاتلهم أهل البلد أيضا واقتتل الاسطولان في البحر، وكان يوما عسيرا، وحربا في البر والبحر، فظفرت الفرنج بشبيني واحد من الاسطول الذي للمسلمين، وسلم الله الباقي فوصل إلى البلد بما فيه من الميرة، وكانت حاجتهم قد اشتدت إليها جدا، بل إلى بعضها.
وأما ملك الالمان المتقدم ذكره فإنه أقبل في عدد وعدد كثير جدا، قريب من ثلاثمائة ألف (1) مقاتل، من نيته خراب البلد وقتل أهلها من المسلمين، والانتصار لبيت المقدس، وأن يأخذ البلاد إقليما بعد إقليم، حتى مكة والمدينة، فما نال من ذلك شيئا بعون الله وقوته، بل أهلكهم الله عزوجل في كل مكان وزمان، فكانوا يتخطفون كما يتخطف الحيوان، حتى اجتاز ملكهم بنهر (2) شديد الجرية فدعته نفسه أن يسبح فيه، فلما صار فيه حمله الماء إلى شجرة فشجت رأسه، وأخمدت أنفاسه (3)، وأراح الله منه العباد والبلاد، فأقيم ولده الاصغر في الملك، وقد تمزق شملهم، وقلت منهم العدة، ثم أقبلوا لا يجتازون ببلد إلا قتلوا فيه، فما وصلوا إلى أصحابهم الذين على عكا إلا في ألف فارس، فلم يرفعوا بهم رأسا ولا لهم قدرا ولا قيمة بينهم، ولا عند أحد من أهل ملتهم ولا غيرهم، وهكذا شأن من أراد إطفاء نور الله وإذلال دين الاسلام.
وزعم العماد في سياقه أن الالمان وصلوا في خمسة آلاف، وأن ملوك الافرنج كلهم كرهوا قدومهم عليهم، لما يخافون من سطوة ملكهم، وزوال دولتهم بدولته، ولم يفرح به إلا المركيس صاحب صور، الذي أنشأ هذه الفتنة وأثار هذه المحنة، فإنه تقوى به وبكيده، فإنه كان خبيرا بالحروب، وقد قدم بأشياء كثيرة من آلات الحرب لم تخطر لاحد ببال.
نصب دبابات أمثال الجبال، تسير بعجل ولها زلوم من حديد، تنطح السور فتخرقه، وتثلم جوانبه، فمن الله العظيم بإحراقها، وأراح المسلمين منها، ونهض صاحب الالمان بالعسكر الفرنجي فصادم به جيش المسلمين فجاءت جيوش المسلمين برمتها إليه، فقتلوا من الكفرة خلقا
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: مائة ألف مقاتل.
(2) وهو نهر كاليكادنوس، في سهل سلوقية (تاريخ الحروب الصليبية 3 / 39).
(3) قال رنسيمان في الحروب الصليبية: ولما حدث عندئذ ليس معروفا على وجه التأكيد، فإما أن يكون الامبراطور قد وثب عن حصانه إلى الماء البارد ليستعيد نشاطه، ولكن تيار النهر فاق في القوة ما كان يعتقده وإما أن يكون جسمه الهرم لم يستطع أن يقاوم الصدمة المفاجئة، أو زلت قدما فرسه، فقذف به إلى الماء، فغرق بسبب ثقل أسلحته، فلما بلغ الجيش النهر، خلص جيفته وجعلها على شاطئ النهر (3 / 40).

كثيرا وجما غفيرا، وهجموا مرة على مخيم السلطان بغتة فنهبوا بعض الامتعة، فنهض الملك العادل أبو بكر - وكان رأس الميمنة - فركب، في أصحابه وأمهل الفرنج حتى توغلوا بين الخيام، ثم حمل عليهم بالرماح والحسام، فهربوا بين يديه فما زال يقتل منهم جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، حتى كسوا وجه الارض منهم حللا أزهى من الرياض الباسمة، وأحب إلى النفوس من الخدود الناعمة، وأقل ما قيل إنه قتل منهم خمسة آلاف، وزعم العماد أنه قتل منهم فيما بين الظهر إلى العصر عشرة آلاف والله أعلم.
هذا وطرف الميسرة لم يشعر بما جرى ولا درى، بل نائمون وقت القائلة في خيامهم، وكان الذين ساقوا وراءهم أقل من ألف، وإنما قتل من المسلمين عشرة أو دونهم، وهذه نعمة عظيمة، وقد أوهن هذا جيش الفرنج وأضعفهم، وكادوا يطلبون الصلح وينصرفون عن البلد، فاتفق قدوم مدد عظيم إليهم في البحر من ملك يقال له كيد هري (1)، ومعه أموال كثيرة فأنفق فيهم وغرم عليهم وأمرهم أن يبرزوا معه لقتال المسلمين، ونصب على عكا منجنيقين، غرم على كل واحد منهما ألفا وخمسمائة دينار، فأحرقهما المسلمون من داخل البلد، وجاءت كتب صاحب الروم من القسطنطينية يعتذر لصلاح الدين من جهة ملك الالمان، وأنه لم يتجاوز بلده باختياره، وأنه تجاوزه لكثرة جنوده، ولكن ليبشر السلطان بأن الله سيهلكهم في كل مكان، وكذلك وقع، وأرسل إلى السلطان يخبره بأنه يقيم للمسلمين عنده جمعة وخطبا، فأرسل السلطان مع رسله خطيبا ومنبرا، وكان يوم دخولهم إليه يوما مشهودا، ومشهدا محمودا، فأقيمت الخطبة بالقسطنطينية، ودعا للخليفة العباسي، واجتمع فيها من هناك من المسلمين من التجار والمسلمين الاسرى والمسافرين إليها والحمد لله رب العالمين
فصل وكتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين وهو الامير بهاء الدين قراقوش، في العشر الاول من شعبان إلى السطان: إنه لم يبق عندهم في المدينة من الاقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان، فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، خوفا من إشاعة ذلك فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين، وتضعف القلوب، وكان قد كتب إلى أمير الاسطول بالديار المصرية أن يقدم بالميرة إلى عكا، فتأخر سيره، ثم وصلت ثلاث بطش (2) ليلة النصف، فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء، وهي صحبة الحاجب لؤلؤ، فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول الفرنج ليحول بينها وبين البلد، ويتلف ما فيها، فاقتتلوا في البحر قتالا شديدا، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عزوجل في سلامتها، والفرنج أيضا تصرخ برا وبحرا، وقد ارتفع
__________
(1) في الكامل وابن خلدون: كندهري ; وهو ابن أخي افرنسيس لابيه، وابن أخي ملك انكلتار لامه.
(2) في الكامل: بطس جمع بطسة.
وهي المركب، والسفينة.

الضجيج، فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش فسارت فأحرقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء، ودخلت البلد سالمة ففرح بها أهل البلد والجيش فرحا شديدا، وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت، فيها أربعمائة غرارة (1)، وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شئ كثير، وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة، وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم، وشدوا الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شيئا من الخنازير، وقدموا بها على مراكب الفرنج فاعتقدوا أنهم منهم وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد القوس، فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد، فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها، ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة، فعبرت الميناء فامتلا الثغر بها خيرا، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية.
وكانت البلد يكتنفها برجان يقال لاحدهما برج
الديان، فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شئ من الاسوار والابرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا، فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل الله عليها شواظا من نار فأحرقها وأغرقها، وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا، وأخرى خلفها فيها حطب محض، فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين، واحترقت الاخرى، وكان في بطشة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو قد أحكموه فيها، فلما أرسلوا النفط على برج الديان انعكس الامر عليهم بقدرة الله تعالى، وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت، وتعدى الحريق إلى الاخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فأشبهوا من سلف من أهل الكتاب من الكافرين، في قوله تعالى (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) [ الحشر: 2 ].
فصل وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وتمكنوا من حريق الكيس والاسوار، وسرى حريقه إلى السقوف، وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء، ثم اجتذبه المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل، فحصل عندهم وألقوا عليه الماء البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) الغرارة مفرد الغرائر، وهي الاكياس الكبيرة من صوف أو شعر توضع فيها الحبوب وغيرها.

وفي الثامن والعشرين من رمضان (1) توفي الملك زين الدين صاحب إربل في حصار عكا مع السلطان، فتأسف الناس عليه لشبابه وغربته وجودته، وعزي أخاه مظفر الدين فيه، وقام بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور وحران والرها وسميساط وغيرها، وتحمل مع ذلك خمسين ألف دينار نقدا، فأجيب إلى ذلك، وكتب له تقليدا، وعقد له لواء، وأضيف ما
تركه إلى الملك المظفر تقي الدين ابن أخي السلطان صلاح الدين.
فصل وكان القاضي الفاضل بمصر يدبر الممالك بها، ويجهز إلى السلطان ما يحتاج إليه من الاموال، وعمل الاسطول والكتب السلطانية، فمنها كتاب يذكر فيه أن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة الذنوب، وارتكاب المحارم بين الناس، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية، وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الاستعاذة منه، وفيه أنه قد بلغه أن بيت المقدس قد ظهر فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده ما لا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة.
ومنها كتاب يقول فيه إنما أتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله، ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والاعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل ولا فلان، فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمل أن يكلنا الله إليها، والنصر به واللطف منه، ونستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق.
ومن كتاب آخر يتألم فيه لما عند السلطان من الضعف في جسمه بسبب ما حمل على قلبه مما هو فيه من الشدائد، أثابه الله بقوله: وما في نفس المملوك شائنة إلا بقية هذا الضعف الذي في جسم مولانا فإنه بقلوبنا، ونفديه بأسماعنا وأبصارنا ثم قال: بنا معشر الخدام ما بك من أذى * وإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي وقد أورد الشيخ شهاب الدين صاحب الروضتين ها هنا كتبا عدة من الفاضل إلى السلطان، فيها فصاحة وبلاغة ومواعظ وتحضيض على الجهاد، فرحمه الله من إنسان ما أفصحه، ومن وزير ما كان أنصحه، ومن عقل ما كان أرجحه.
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: ثامن شوال.

فصل وكتب الفاضل كتابا على لسان السلطان إلى ملك المغرب أمير المسلمين، وسلطان جيش الموحدين، يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، يستنجده في إرسال مراكب في البحر تكون عونا للمسلمين على المراكب الفرنجية في عبارة طويلة فصيحة بليغة مليحة، حكاها أبو شامة بطولها.
وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والالطاف، صحبة الامير الكبير شمس الدين أبي الحزم عبد الرحمن بن منقذ، وسار في البحر في ثامن ذي القعدة، فدخل على سلطان المغرب في العشرين من ذي الحجة، فأقام عنده إلى عاشوراء من المحرم من سنة ثمان وثمانين، ولم يفد هذا الارسال شيئا، لانه تغضب إذ لم يلقب بأمير المؤمنين، وكان إشارة الفاضل إلى عدم الارسال إليه، ولكن وقع ما وقع بمشيئة الله.
فصل وفيها حصل للناصر صلاح الدين سوء مزاج (1) من كثرة ما يكابده من الامور، فطمع العدو المخذول في حوزة الاسلام، فتجرد جماعة منهم للقتال، وثبت آخرون على الحصار، فأقبلوا في عدد كثير وعدد، فرتب السلطان الجيوش يمنة ويسرة، وقلبا وجناحين، فلما رأى العدو الجيش الكثيف فروا فقتلوا منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا.
فصل ولما دخل فصل الشتاء وانشمرت مراكب الفرنج عن البلد خوفا من الهلاك بسبب اغتلام البحر، سأل من بالبلد من المسلمين من السلطان أن يريحهم مما هم فيه من الحصر العظيم، والقتال ليلا ونهارا، وأن يرسل إلى البلد بدلهم، فرق لهم السلطان وعزم على ذلك، وكانوا قريبا من عشرين ألف مسلم ما بين أمير ومأمور، فجهز جيشا آخر غيرهم، ولم يكن ذلك برأي جيد، ولكن ما قصد السلطان إلا خيرا، وأن هؤلاء يدخلون البلد بهمم حدة شديدة، ولهم عزم قوي، وهم في
__________
(1) تقدم في معركة حصار عكا أن المسلمين قتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة، كانت عدة قتلى الفرنج نحو عشرة آلاف أمر
بهم فألقوا في النهر الذي يشرب منه الافرنج، فجافت الارض من نتن ريحهم وفسد الهواء والجو وحدث للامزجة فساد.
وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده فحضر عنده الامراء وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، ووافقهم الاطباء على ذلك فأجبابهم إلى ذلك ورحلوا إلى الخروبة، فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الارض وعادوا فحصروا عكا (راجع ابن الاثير - ابن خلدون).
وقال أبو الفداء في تاريخه: وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة.

راحة بالنسبة إلى ما أولئك ولكن أولئك الذين كانوا بالبلد وخرجوا منه كانت لهم خبرة بالبلد بالقتال وكان لهم صبر، وجلد وقد تمونوا فيها مؤنة تكفيهم سنة، فانمحقت بسبب ذلك، وقدم بطش من مصر فيه ميرة تكفي أهل البلد سنة كاملة، فقدر الله العظيم - وله الامر من قبل ومن بعد - أنها لما توسطت البحر واقتربت من المينا هاجت عليها ريح عظيمة فانقلبت تلك البطش وتغلبت على عظمها فاختبطت واضطربت وتصادمت فتكسرت وغرقت، وغرق ما كان فيها من الميرة والبحارة، فدخل بسبب ذلك وهن عظيم على المسلمين، واشتد الامر جدا، ومرض السلطان وازداد مرضا إلى مرضه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان ذلك عونا للعدو المخذول على أخذ البلد، ولا قوة إلا بالله، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، وكان المقدم على الداخلين إلى عكا الامير سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب.
وفي اليوم السابع من ذي الحجة سقطت ثلمة عظيمة من سور عكا، فبادر الفرنج إليها فسبقهم المسلمون إلى سدها بصدورهم، وقاتلوا دونها بنحورهم، وما زالوا يمانعون عنها حتى بنوها أشد مما كانت، وأقوى وأحسن.
ووقع في هذه السنة وباء عظيم في المسلمين والكافرين، فكان السلطان يقول في ذلك: اقتلوني ومالكا * واقتلوا مالكا معي (1) واتفق موت ابن ملك الالمان لعنه الله في ثاني ذي الحجه، وجماعة من كبراء الكندهرية (2)، وسادات الفرنج لعنهم الله، فحزن الفرنج على ابن ملك الالمان وأوقدوا نارا عظيمة في كل خيمة،
وصار كل يوم يهلك من الفرنج المائة والمائتان، واستأمن السلطان جماعة منهم من شدة ما هم فيه من الجوع والضيق والحصر، وأسلم خلق كثير منهم.
وفيها قدم القاضي الفاضل من مصر على السلطان، وكان قد طال شوق كل منهما إلى صاحبه، فأفضى كل منهما إلى صاحبه ما كان يسره ويكتمه من الآراء التي فيها مصالح المسلمين.
وفيها توفي من الاعيان...
__________
(1) هذا ما أنشده عبد الله بن الزبير، يوم تواقع هو ومالك بن الحارث المعروف بالاشتر في يوم من أيام الجمل.
وكان مالكا من أصحاب علي، فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وركب صدره، وفعلا ذلك مرارا...وابن الزبير ينشد: اقتلاني ومالكا * واقتلا مالكا معي والقصة تقدمت، وهي مبسوطة في التواريخ.
(2) ذكر رنسيمان في تاريخ الحروب الصليبية 3 / 68: ومن السادة الذين هلكوا بسبب المرض الناشب في المعسكر، ثيبالد كونت بلوا (وقد أشار إليه ابن شداد ص 236) وشقيقه ستي ؟ ن كونت سانكير.
ومات فردريك دوق سوابيا (ابن ملك الالمان) وأضحى الجند الالمان محرومين من قائدهم.

ملك الالمان وقد تقدم أنه قدم في ثلاثمائة ألف مقاتل ; فهلكوا في الطرقات، فلم يصل إلى الفرنج إلا في خمسة آلاف وقيل في ألفي مقاتل، وكان قد عزم على دمار الاسلام، واستنقاذ البلاد بكمالها من أيدي المسلمين، انتصارا في زعمه إلى بيت المقدس، فأهلكه الله بالغرق كما أهلك فرعون، ثم ملك بعده ولده الاصغر فأقبل بمن بقي معه من الجيش إلى الفرنج، وهم في حصار عكا، ثم مات في هذه السنة فلله الحمد والمنة.
محمد بن محمد بن عبد الله أبو حامد قاضي القضاة بالموصل (1)، كمال الدين الشهرزوري الشافعي، أثنى عليه العماد
وأنشد له من شعره قوله: قامت بإثبات الصفات أدلة * قصمت ظهور أئمة التعطيل وطلائع التنزيه لما أقبلت * هزمت ذوي التشبيه والتمثيل فالحق ما صرنا إليه جميعنا * بأدلة الاخبار والتنزيل من لم يكن بالشرع مقتديا فقد * ألقاه فرط الجهل في التضليل ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة فيها قدم ملك الفرنسيس وملك إنكلترا وغيرهما من ملوك البحر الفرنج، على أصحابهم الفرنج إلى عكا، وتمالؤا على أخذ عكا في هذه السنة كما سيأتي تفصيله، وقد استهلت هذه السنة والحصار الشديد على عكا من الجانبين، وقد استكمل دخول العدو إلى البلد والملك العادل مخيم إلى جانب البحر، ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم، وفي ليلة مستهل ربيع الاول منها خرج المسلمون من عكا فهجموا على مخيم الفرنج فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وسبوا وغنموا شيئا كثيرا، سبوا اثني عشر امرأة، وانكسر مركب عظيم للفرنج فغرق ما فيه منهم وأسر باقيهم، وأغار صاحب حمص أسد الدين بن شيركوه على سرح الفرنج بأراضي طرابلس، فاستاق منهم شيئا كثيرا من الخيول والابقار والاغنام، وظفر الترك بخلق كثير من الفرنج فقتلوهم، ولم يقتل من المسلمين سوى طواش صغير عثر به فرسه.
وفي ثاني عشر ربيع الاول وصل إلى الفرنج ملك الفرنسيين في قريب من ستين (2) بطش
__________
(1) كذا بالاصل والكامل وشذرات الذهب ووفيات الاعيان ; وذكر وفاته في الوافي 1 / 210: سنة 584 في جمادى الآخرة.
(1) في الكامل 12 / 64: ست (وانظر ابن خلدون 5 / 325 لكنه ذكر أن وصوله كانت سنة 584 ه وهو تحريف)

ملعونة مشحونة بعبدة الصليب، فحين وصل إليهم وقدم عليهم لم يبق لاحد من ملوكهم معه كلام ولا حكم، لعظمته عندهم، وقدم معه باز عظيم أبيض وهو الاشهب، هائل، فطار من يده فوقع على سور عكا فأخذه أهلها وبعثوه إلى السلطان صلاح الدين، فبذل الفرنجي فيه ألف دينار فلم يجبه
إلى ذلك، وقدم بعده كيدفرير وهو من أكابر ملوكهم أيضا، ووصلت سفن ملك الانكليز، ولم يجئ ملكهم لاشتغاله بجزية قبرص وأخذها من يد صاحبها، وتواصلت ملوك الاسلام أيضا من بلدانها في أول فصل الربيع، لخدمة الملك الناصر.
قال العماد: وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، حتى أنهم كانوا يسرقون الرجال، فاتفق أن بعضهم أخذ صبيا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجدا شديدا، واشتكت إلى ملوكهم فقالوا لها: إن سلطان المسلمين رحيم القلب، وقد أذنا لك أن تذهبي إليه فتشتكي أمرك إليه، قال العماد: فجاءت إلى السلطان فأنهت إليه حالها، فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه.
ثم أمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري، ولم يزل واقفا حتى جئ بالغلام فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكي من شدة فرحها وشوقها إليه، ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة رحمه الله تعالى وعفا عنه.
فصل في كيفية أخذ العدو عكا من يدي السلطان لما كان شهر جمادى الاولى اشتد حصار الفرنج لعنهم الله لمدينة عكا، وتمالؤا عليها من كل فج عميق، وقدم عليهم ملك الانكليز في جم غفير، وجمع كثير، في خمسة وعشرين قطعة مشحونة بالمقاتلة وابتلى أهل الثغر منهم ببلاء لا يشبه ما قبله، فعنذ ذلك حركت الكؤسات في البلد، وكانت علامة ما بينهم وبين السلطان، فحرك السلطان كؤساته فاقترب من البلد وتحول إلى قريب منه، ليشغلهم عن البلد، وقد أحاطوا به من كل جانب، ونصبوا عليه سبعة منجانيق، وهي تضرب في البلد ليلا ونهارا، ولا سيما على برج عين البقر، حتى أثرت به أثرا بينا، وشرعوا في ردم الخندق بما أمكنهم من دواب ميتة، ومن قتل منهم، ومن مات أيضا ردموا به، وكان أهل البلد يلقون ما ألقوه فيه إلى البحر.
وتلقى ملك الانكليز بطشة عظيمة للمسلمين قد أقبلت من بيروت مشحونة بالامتعة والاسلحة فأخذها، وكان واقفا في البحر في أربعين مركبا لا يترك شيئا يصل إلى البلد بالكلية، وكان بالبطشة ستمائة (1) من المقاتلين الصناديد الابطال، فهلكوا عن آخرهم رحمهم الله.
فإنه لما أحيط بهم
__________
(1) في الكامل: سبعمائة ; ومقدم المقاتلين يعقوب الحلبي مقدم الجندارية ويعرف بغلام ابن شقتين (وفي ابن خلدون: يعقوب الحلي غلام ابن شغنين).

وتحققوا إما الغرق أو القتل، خرقوا جوانبها كلها فغرقت، ولم يقدر الفرنج على أخذ شئ منها لا من الميرة ولا من الاسلحة، وحزن المسلمون على هذا المصاب حزنا عظيما، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن جبر الله سبحانه هذا البلاء بأن أحرق المسلمون في هذا اليوم دبابة كانت أربع طبقات، الاولى من الخشب، والثانية من رصاص، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، وهي مشرفة على السور والمقاتلة فيها، وقد قلق أهل البلد منها بحيث حدثتهم أنفسهم من خوفهم من شرها بأن يطلبوا الامان من الفرنج، ويسلموا البلد، ففرج الله عن المسلمين وأمكنهم من حريقها، واتفق لهم ذلك في هذا اليوم الذي غرقت فيه البطشة المذكورة، فأرسل أهل البلد يشكون إلى السلطان شدة الحصار وقوته عليهم، منذ قام ملك الانكليز لعنه الله، ومع هذا قد مرض هو وجرح ملك الافرنسيين أيضا ولا يزيدهم ذلك إلا شدة وغلظة، وعتوا وبغيا، وفارقهم المركيس وسار إلى بلده صور خوفا منهم أن يخرجوا ملكها من يده.
وبعث ملك الانكليز إلى السلطان صلاح الدين يذكر له أن عنده جوارح قد جاء بها من البحر، وهو على نية إرسالها إليه، ولكنها قد ضعفت وهو يطلب دجاجا وطيرا لتقوى به، فعرف أنه إنما يطلب ذلك لنفسه يلطفها به، فأرسل إليه شيئا كثيرا من ذلك كرما، ثم أرسل يطلب منه فاكهة وثلجا فأرسل إليه أيضا، فلم يفد معه الاحسان، بل لما عوفي عاد إلى شر مما كان، واشتد الحصار ليلا ونهارا، فأرسل أهل البلد يقولون للسلطان إما أن تعملوا معنا شيئا غدا وإلا طلبنا من الفرنج الصلح والامان، فشق ذلك على السلطان، وذلك لانه كان قد بعث إليها أسلحة الشام والديار المصرية وسائر السواحل، وما كان غنمه من وقعة حطين ومن القدس، فهي مشحونة بذلك، فعند ذلك عزم السلطان على الهجوم على العدو، فما أصبح ركب في جيشه فرأى الفرنج قد ركبوا من وراء خندقهم، والرجالة منهم قد ضربوا سورا حول الفرسان، وهم قطعة من حديد صماء لا ينفذ فيهم شئ، فأحجم عنهم لما يعلم من نكول جيشه عما يريده، وتحدوه عليه شجاعته رحمه
الله.
هذا وقد اشتد الحصار على البلد ودخلت الرجالة منهم إلى الخندق وعلقوا بدنة في السور وحشوها وأحرقوها، فسقطت ودخلت الفرنج إلى البلد، فمانعهم المسلمون وقاتلوهم أشد القتال، وقتلوا من رؤسهم ستة أنفس، فاشتد حنق الفرنج على المسلمين جدا بسبب ذلك، وجاء الليل فحال بين الفريقين، فلما أصبح الصباح خرج أمير المسلمين بالبلد أحمد (1) بن المشطوب فاجتمع بملك الافرنسيين وطلب منهم الامان على أنفسهم، ويتسلمون منه البلد، فلم يجبهم إلى ذلك، وقال له: بعد ما سقط السور جئت تطلب الامان ؟ فأغلظ له ابن المشطوب في الكلام، ورجع إلى البلد في حالة الله بها عليم، فلما أخبر أهل البلد بما وقع خافوا خوفا شديدا، وأرسلوا إلى السلطان
__________
(1) في الكامل وابن خلدون وابن العبري وأبي الفداء: سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب.

يعلمونه بما وقع، فأرسل إليهم أن يسرعوا الخروج من البلد في البحر ولا يتأخروا عن هذه الليلة، ولا يبقى بها مسلم، فتشاغل كثير ممن كان بها لجمع الامتعة والاسلحة، وتأخروا عن الخروج تلك الليلة، فما أصبح الخبر إلا عند الفرنج من مملوكين صغيرين سمعا بما رسم به السلطان، فهربا إلى قومهما فأخبروهم بذلك، فاحتفظوا على البحر احتفاظا عظيما، فلم يتمكن أحد من أهل البلد أن يتحرك بحركة، ولا خرج منها شئ بالكلية، وهذا المملوكان كانا أسيرين قد أسرهما السلطان من أولاد الفرنج، وعز السلطان على كبس العدو في هذه الليلة، فلم يوافقه الجيش على ذلك، وقالوا لا نخاطر بعسكر المسلمين، فلما أصبح بعث إلى ملوك الفرنج يطلب منهم الامان لاهل البلد على أن يطلق عدتهم من الاسرى الذين تحت يده من الفرنج، ويزيدهم صليب الصلبوت، فأبوا إلا أن يطلق لهم كل أسير تحت يده، ويطلق لهم جيمع البلاد الساحلية التي أخذت منهم، وبيت المقدس، فأبى ذلك، وتردد المراسلات في ذلك، والحصار يتزايد على أسوار البلد.
وقد تهدمت منه ثلم كثيرة، وأعاد المسلمون كثيرا منها، وسدوا ثغر تلك الاماكن بنحورهم رحمهم الله، وصبروا صبرا عظيما، وصابروا العدو، ثم كان آخر الامر وصولهم إلى درجة الشهادة، وقد كتبوا إلى السلطان في
آخر أمرهم يقولون له: يا مولانا لا تخضع لهؤلاء الملاعين، الذين قد أبوا عليك الاجابة إلى ما دعوتهم فينا، فإنا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا، وبالله المستعان.
فلما كان وقت الظهر في اليوم السابع (1) من جمادى الآخرة من هذه السنة، ما شعر الناس إلا وأعلام الكفار قد ارتفعت، وصلبانهم ونارهم على أسوار البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، فعظمت عند ذلك المصيبة على المسلمين، واشتد حزن الموحدين، وانحصر كلام الناس في إنا لله وإنا إليه راجعون، وغشى الناس بهتة عظيمة، وحيرة شديدة، ووقع في عسكر السلطان الصياح والعويل، ودخل المركيس لعنه الله وقد عاد إليهم في صور بهدايا فأهداها إلى الملوك، فدخل في هذا اليوم عكا بأربعة أعلام الملوك فنصبها في البلد، واحدا على المأذنة يوم الجمعة، وآخر على القلعة، وآخر على برج الداوية، وآخر على برج القتال، عوضا عن أعلام السلطان، وتحيز المسلمون الذين بها إلى ناحية من البلد معتقلين، محتاط بهم مضيق عليهم، وقد أسروا النساء والابناء، وغنمت أموالهم، وقيدت الابطال وأهين الرجال، والحرب سجال، والحمد لله على كل حال (2).
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: سابع عشر جمادى الآخرة ظهر يوم الجمعة (انظر الكامل 12 / 66).
(2) قال ابن الاثير في تاريخه أنه: لما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضرا خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس (في ابن خلدون: المركيش) صاحب صور فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه وأن تكون مدة تحصيل المال والاسرى إلى شهرين (12 / 67 ابن خلدون 5 / 325 ابن العبري في مختصر الدول ص 222).

فعند ذلك أمر السلطان الناس بالتأخر عن هذه المنزلة، وثبت هو مكانه لينظر ماذا يصنعون وما عليه يعولون، والفرنج في البلد مشغولون مدهوشون، ثم سار السلطان إلى العسكر وعنده من الهم ما لا يعلمه إلا الله، وجاءت الملوك الاسلامية، والامراء وكبراء الدولة يعزونه فيما وقع، ويسلونه على ذلك، ثم راسل ملوك الفرنج في خلاص من بأيديهم من الاسارى فطلبوا منه عدتهم من أسراهم
ومائة ألف دينار، وصليب الصلبوت إن كان باقيا، فأرسل فأحضر المال والصليب، ولم يتهيأ له من الاسارى إلا ستمائة أسير، فطلب الفرنج منه أن يريهم الصليب من بعيد، فلما رفع سجدوا له وألقوا أنفسهم إلى الارض، وبعثوا يطلبون منه ما أحضره من المال والاسارى، فامتنع إلا أن يرسلوا إليه الاسارى أو يبعثوا له برهائن على ذلك، فقالوا: لا ولكن أرسل لنا ذلك وارض بأمانتنا، فعرف أنهم يريدون الغدر والمكر، فلم يرسل إليهم شيئا من ذلك، وأمر برد الاسارى إلى أهليهم بدمشق، ورد الصليب إلى دمشق مهانا، وأبرزت الفرنج خيامهم إلى ظاهر البلد وأحضروا ثلاثة آلاف من المسلمين فأوقفوهم بعد العصر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم في صعيد واحد، رحمهم الله وأكرم مثواهم، ولم يستبقوا بأيديهم من المسلمين إلا أميرا أو صبيا، أو من يرونه في عملهم قويا أو امرأة.
وجرى الذي كان، وقضي الامر الذي فيه تستفتيان.
وكان مدة إقامة صلاح الدين على عكا صابرا مصابرا مرابطا سبعة وثلاثين شهرا، وجملة من قتل من الفرنج خمسين ألفا.
فصل فيما حدث بعد أخذ الفرنج عكا ساروا برمتهم قاصدين عسقلان، والسلطان بجيشه يسايرهم ويعارضهم منزلة منزلة والمسلمون يتخطفونهم ويسلبونهم في كل مكان، وكل أسير أتي به إلى السلطان يأمر بقتله في مكانه، وجرت خطوب بين الجيشين، ووقعات متعددات، ثم طلب ملك الانكليز، يجتمع بالملك العادل أخي السلطان يطلب منه الصلح والامان، على أن يعاد لاهلها بلاد السواحل، فقال له العادل: إن دون ذلك قتل كل فارس منكم وراجل، فغضب اللعين ونهض من عنده غضبان، ثم اجتمعت الفرنج على حرب السلطان عند غابة أرسوف، فكانت النصرة للمسلمين، فقتل من الفرنج عند غابة أرسوف ألوف بعد ألوف، وقتل من المسلمين خلق كثير أيضا، وقد كان الجيش فر عن السلطان في أول الوقعة، ولم يبق معه سوى سبعة عشر مقاتلا، وهو ثابت صابر، والكؤسات لا تفتر، والاعلام منشورة، ثم تراجع الناس فكانت النصرة للمسلمين، ثم تقدم السلطان بعساكره فنزل ظاهر عسقلان، فأشار ذوو الرأي على السلطان بتخريب عسقلان خشية أن يتملكها الكفار،
ويجعلونها وسيلة إلى أخذ بيت المقدس، أو يجري عندها من الحرب والقتال نظير ما كان عند عكا، أو أشد، فبات السلطان ليلته مفكرا في ذلك، فلما أصبح وقد أوقع الله في قلبه أن خرابها هو المصلحة،

فذكر ذلك لمن حضره، وقال لهم والله لموت جميع أولادي أهون علي من تخريب حجر واحد منها، ولكن إذا كان خرابها فيه مصلحة للمسلمين فلا بأس به، ثم طلب الولاة وأمرهم بتخريب البلد سريعا، قبل وصول العدو إليها، فشرع الناس في خرابه، وأهله ومن حضره يتباكون على حسنه وطيب مقيله، وكثرة زروعه وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره، وكثرة رخامه وحسن بنائه.
وألقيت النار في سقوفه وأتلف ما فيه من الغلات التي لا يمكن تحويلها، ولا نقلها، ولم يزل الخراب والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سلخ شعبان من هذه السنة.
ثم رحل السلطان منها في ثاني رمضان وقد تركها قاعا صفصفا ليس فيها معلمة لاحد، ثم اجتاز بالرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد، وزار بيت المقدس وعاد إلى المخيم سريعا، وبعث ملك الانكليز إلى السلطان إن الامر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها: رد الصليب وبلاد الساحل وبيت المقدس، لا نرجع عن هذه الثلاثة ومنا عين تطرف، فأرسل إليه السلطان أشد جواب، وأسد مقال (1)، فعزمت الفرنج على قصد بيت المقدس، فتقدم السلطان بجيشه إلى القدس وسكن في دار القساقس قريبا من قمامة، في ذي القعدة، وشرع في تحصين البلد، وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه وأولاده، وعمل فيه الامراء والقضاة والعلماء والصالحون، وكان وقتا مشهودا، واليزك حول البلد من ناحية الفرنج وفي كل وقت يستظهرون على الفرنج ويقتلون ويأسرون ويغنمون، ولله الحمد والمنة.
وانقضت هذه السنة والامر على ذلك.
وفيها على ما ذكره العماد تولى القضاء محيي الدين محمد بن الزكي بدمشق.
وفيها عدى أمير مكة داود بن عيسى بن فليتة بن هاشم بن محمد بن أبي هاشم الحسني، فأخذ أموال الكعبة حتى انتزع طوقا من فضة كان على دائرة الحجر الاسود، كان قد لم شعثه حين ضربه ذلك القرمطي بالدبوس، فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج عزله وولى أخاه بكيرا، ونقض القلعة التي كان بناها أخوه على أبي
قبيس، وأقام داود بنخلة حتى توفي بها سنة سبع وثمانين.
وفيها توفي من الاعيان...
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه: أن ريتشارد راسل العادل أخي صلاح الدين على أن يزوج الملك أخته جوانا من العادل ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لاخت ملك انكلتار ; وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، قال رنسيمان: أن ريتشارد قدم عروضه الجديدة بعد بضعة أيام من تقديم مقترحاته الاولى ورفض صلاح الدين لها ; وزاد عما أورده ابن الاثير: وأن يتيسر للمسيحيين التردد إلى بيت المقدس ; وإعادة صليب الصلبوت، وإطلاق سراح الاسرى من الجانبين.
فوافق صلاح الدين وأبدى سروره (الكامل 12 / 72 تاريخ أبي الفداء 3 / 80 تاريخ الحروب الصليبية 3 / 115 - 116) انظر الروضتين 2 / 45 - 50.

الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كان عزيزا على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماه ومدنا كثيرة حولها في بلاد الجزيرة، وكان مع عمه السلطان على عكا، ثم استأذنه أن يذهب ليشرف على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات، فلما صار إليها اشتغل بها وامتدت عينه إلى أخذ غيرها من أيدي الملوك المجاورين له، فقاتلهم فاتفق موته وهو كذلك، والسلطان عمه غضبان عليه بسبب اشتغاله بذلك عنه، وحملت جنازته حتى دفنت بحماه، وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، وقد أقام بالملك بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد، فأقره صلاح الدين على ذلك بعد جهد جهيد، ووعد ووعيد، ولولا السلطان العادل أخو صلاح الدين تشفع فيه لما أقره في مكان أبيه، ولكن سلم الله، توفي يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة، وكان شجاعا فاتكا.
الامير حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين (1) أمه ست الشام بنت أيوب، وافقة الشاميتين بدمشق، توفي ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان أيضا ففجع السلطان بابن أخيه وابن أخته في ليلة واحدة، وقد كانا من أكبر أعوانه، ودفن بالتربة
الحسامية، وهي التي أنشأتها أمه بمحلة العونية، وهي الشامية البرانية.
الامير علم الدين سليمان بن حيدر الحلبي كان من أكابر الدولة الصلاحية، وفي خدمة السلطان حيث كان، وهو الذي أشار على السلطان بتخريب عسقلان، واتفق مرضه بالقدس فاستأذن في أن يمرض بدمشق، فأذن له، فسار منها فلما وصل إلى غباغب مات بها في أواخر ذي الحجه.
وفي رجب منها توفي الامير الكبير نائب دمشق: الصفي بن الفائض (2) وكان من أكبر أصحاب السلطان قبل الملك، ثم استنابه على دمشق حتى توفي بها في هذه السنة.
وفي ربيع الاول توفي...
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: لاجين.
(2) في الكامل 12 / 77: القابض.

الطبيب الماهر أسعد بن المطران وقد شرف بالاسلام، وشكره على طبه الخاص والعام.
الجيوشاتي الشيخ نجم الدين الذي بنى تربة الشافعي بمصر بأمر السلطان صلاح الدين، ووقف عليها أوقافا سنية، وولاه تدريسها ونظرها، وقد كان السلطان يحترمه ويكرمه، وقد ذكرته في طبقات الشافعية، وما صنفه في المذهب من شرح الوسيط وغيره، ولما توفي الجيوشاتي طلب التدريس جماعة فشفع الملك العادل عند أخيه في شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد بن حمويه، فولاه إياه، ثم عزله عنها بعد موته السلطان، واستمرت عليه أيدي بني السلطان واحدا بعد واحد، ثم عادت إليها الفقهاء والمدرسون بعد ذلك.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة استهلت والسلطان صلاح الدين مخيم بالقدس، وقد قسم السور بين أولاده وأمرائه، وهو
يعمل فيه بنفسه، ويحمل الحجر بين القربوسيين وبينه، والناس يقتدون بهم، والفقهاء والقراء يعملون، والفرنج لعنهم الله حول البلد من ناحية عسقلان وما والاها، لا يتجاسرون أن يقربوا البلد من الحرس واليزك الذين حول القدس، إلا أنهم على نية محاصرة القدس مصممون، ولكيد الاسلام مجمعون، وهم والحرس تارة يغلبون وتارة يغلبون، وتارة ينهبون وتارة ينهبون.
وفي ربيع الآخر وصل إلى السلطان الامير سيف الدين المشطوب من الاسر، وكان نائبا على عكا حين أخذت، فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار، فأعطاه السلطان شيئا كثيرا منها، واستنابه على مدينة نابلس، فتوفي بها في شوال من هذه السنة.
وفي ربيع الآخر قتل المركيس صاحب صور لعنه الله، أرسل إليه ملك الانكليز اثنين من الفداوية فقتلوه: أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقتلا أيضا، فاستناب ملك الانكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر، وهو ابن أخت ملك الافرنسيين لابيه، فهما خالاه، ولما صار إلى صور بنى بزوجة المركيس بعد موته بليلة واحدة، وهي حبلى أيضا، وذلك لشدة العداوة التي كانت بين الانكليز وبينه، وقد كان السلطان صلاح الدين يبغضهما، ولكن المركيس كان قد صانعه بعض الشئ فلم يهن عليه قتله.
وفي تاسع جمادى الاولى استولى الفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وأسروا طائفة من الذرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب الايمان، فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين، فرارا من القتال والنزال، وعاد السلطان إلى القدس.
(وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا،

وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) [ الاحزاب: 25 ].
ثم إن ملك الانكليز لعنه الله - وهو أكبر ملوك الفرنج ذلك الحين - ظفر ببعض فلول المسلمين فكبسهم ليلا فقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر منهم خمسمائة أسير، وغنم منهم شيئا كثيرا من الاموال والجمال، والخيل والبغال، وكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير (1)، فتقوى الفرنج بذلك، وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جدا، وخاف من غائلة ذلك، واستخدم الانكليز الجمالة على
الجمال، والخربندية على البغال، والسياس على الخيل، وأقبل وقد قويت نفسه جدا، وصمم على محاصرة القدس، وأرسل إلى ملوك الفرنج الذين بالساحل، فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة، فتعبأ السلطان لهم وتهيأ، وأكمل السور وعمر الخنادق، ونصب المنجانيق، وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه، وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة: أبا الهيجاء، المبسمين (2)، والمشطوب، والاسدية، فاستشارهم فيما قد دهمه من هذا الامر الفظيع، الموجع المؤلم، فأفاضوا في ذلك، وأشاروا كل برأيه، وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة، كما كان الصحابة يفعلون، فأجابوا إلى ذلك.
هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر، فسكت القوم كأنما على رؤوسهم الطير، ثم قال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله: اعلموا أنكم جند الاسلام اليوم ومنعته، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة، والله عزوجل سائلكم يوم القيامة عنهم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم، فإن وليتم والعياذ بالله طوى البلاد وأهلك العباد، وأخذ الاموال والاطفال والنساء، وعبد الصليب في المساجد، وعزل القرآن منها والصلاة، وكان ذلك كله في ذممكم، فإنكم أنتم الذين تصديتهم لهذا كله، وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم عدوهم، وتنصروا ضعيفهم، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام.
فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال: يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك، وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا، وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك، والله ما يرجع أحد منا عن نصرك حتى يموت.
فقال الجماعة مثل ما قال، ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه، ومد لهم سماطا حافلا، وانصرفوا من بين يديه على ذلك.
ثم بلغه بعد ذلك أن بعض الامراء قال: إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد مثل ما جرى على أهل عكا، ثم يأخذون بلاد الاسلام بلدا بلدا، والمصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد، فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم، وإن تكن الاخرى سلم العسكر ومضى بحاله، ويأخذون القدس ونحفظ بقيه بلاد الاسلام بدون القدس مدة طويلة، وبعثوا إلى السلطان يقولون
__________
(1) قال رنسيمان في الحروب الصليبية أن ذلك وقع على القافلة - القادمة من الجنوب تتخذ طريقها نحو بيت المقدس -
عند آبار الخويلفة، الواقعة في إقليم جدب على مسافة عشرين ميلا إلى الجنوب الغربي من حبرون.
(2) في ابن خلدون 5 / 327: السمين.

له: إن كنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصار الفرنج، فكن أنت معنا أو بعض أهلك، حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن الاكراد لا تطيع الترك، والترك لا تطيع الاكراد.
فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة، وبات ليلته أجمع مهموما كئيبا يفكر فيما قالوا، ثم انجلى الامر واتفق الحال على أن يكون الملك الامجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس، وكان ذلك نهار الجمعة، فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الاذانين، وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالا عظيما، وتضرع إلى ربه، وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة.
فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس الذين حول البلد بأن الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم، فقال ملك الافرنسيين إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الاموال العديدة في تخليص بين المقدس ورده إلينا، وقد بقي بيننا وبينه مرحلة، فقال الانكليز إن هذا البلد شق علينا حصاره، لان المياه حوله قد عدمت، وإلى أن يأتينا الماء من المشقة البعية يعطل الحصار، ويتلف الجيش، ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا منهم عليهم ثلاثمائة منهم، فردوا أمرهم إلى أنثي عشر منهم، فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم، فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل، فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين لعنهم الله أجمعين، فساروا حتى نزلوا على الرملة وقد طالت عليهم الغربة والزملة، وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس، وسار نحوهم خوفا أن يسيروا إلى مصر، لكثرة ما معهم من الظهر والاموال، وكان الانكليز يلهج بذلك كثيرا، فخذلهم الله عن ذلك، وترددت الرسل من الانكليز إلى السلطان في طلب الامان ووضع الحرب بينه وبينهم ثلاث سنين، وعلى أن يعيد لهم عسقلان ويهب له كنيسة بيت المقدس وهي القمامة، وأن يمكن النصارى من زيارتها وحجها بلا شئ، فامتنع السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم قمامة، وفرض على الزوار مالا يؤخذ من كل منهم، فامتنع الانكليز إلا أن
تعادلهم عسقلان، ويعمر سورها كما كانت، فصمم السلطان على عدم الاجابة.
ثم ركب السلطان حتى وافى يافا فحاصرها حصارا شديدا، فافتتحها وأخذوا الامان لكبيرها وصغيرها، فبينما هم كذلك إذ أشرفت عليهم مراكب الانكليز على وجه البحر، فقويت رؤوسهم واستعصت نفوسهم فهجم اللعين فاستعاد البلد وقتل من تأخر بها من المسلمين صبرا بين يديه، وتقهقر السلطان عن منزلة الحصار إلى ما وراءها خوفا على الجيش من معرة الفرنج، فجعل ملك الانكليز يتعجب من شدة سطوة السلطان، وكيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين، وغيره لا يمكنه فتحه في عامين، ولكن ما ظننت أنه مع شهامته وصرامته يتأخر من منزلته بمجرد قدومي، وأنا ومن معي لم نخرج من البحر إلا جرائد بلا سلاح، ثم ألح في طلب الصلح وأن تكون عسقلان داخلة في صلحهم، فامتنع السلطان، ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الانكليز وهو في سبعة عشر مقاتلا، وحوله قليل من الرجالة فأكب بجيشه حوله وحصره حصرا لم يبق معه نجاة، لو صمم معه الجيش، ولكنهم نكلوا

كلهم عن الحملة، فلا قوة إلا بالله، وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض، فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء.
هذا وملك الانكليز قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله، وأهبة نزاله، واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة، يعني ميمنة المسلمين وميسرتهم، فلم يتقدم إليه أحد من الفرسان، ولا نهره بطل من الشجعان، فعند ذلك كر السلطان راجعا، وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولو أن له بهم قوة لما ترك أحدا منهم يتناول من بيت المال فلسا.
ثم حصل لملك الانكليز بعد ذلك مرض شديد، فبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده بذلك من باب الكرم، ثم عوفي لعنه الله وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده (1)، وطاوع السلطان على ما يقول وترك طلب عسقلان، ورضي بما رسم به السلطان، وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عشر شعبان، وأكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم، وحلف الامراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم، واكتفى من السلطان بالقول المجرد كما جرت به عادة
السلاطين، وفرح كل من الفريقين فرحا شديدا، وأظهروا سرورا كثيرا، ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاث (2) سنين وستة أشهر، وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية، وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية، وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة، وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة أمير لتخريب سور عسقلان وإخراج من بها من الفرنج.
وعاد السلطان إلى القدس فرتب أحواله ووطدها، وسدد أموره وأكدها، وزاد وقف المدرسة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها، وزاد وقف الصوفية، وعزم على الحج عامه ذلك، فكتب إلى الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك، ويتأهبوا له، فكتب إليه القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفا على البلاد من استيلاء الفرنج عليها، ومن كثرة المظالم بها، وفساد الناس والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك عامك هذا، والعدو مخيم بعد بالشام، وأنت تعلم أنهم يهادنون ليتقووا ويكثروا، ثم يمكروا ويغدروا، فسمع السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر الممالك، واستمر مقيما بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن،
__________
(1) وقد ذكر رنسيمان أسبابا أخر هامة عجلت في تسريع المفاوضات ومنعت ريتشارد من كثرة المساومة: - مرضه الخطير، - ما ارتكبه أخوه من أعمال سيئة في انكلترا تتطلب عودته العاجلة، يضاف إلى ذلك ما حل بسائر الصلبيين من الارهاق ; وما أظهره كل من ابن أخته هنري والطوائف الدينية من أنهم لم يثقوا في سياسته (تاريخ الحروب الصليبية 3 / 139).
(2) في الكامل 12 / 84: ثلاث سنين وثمانية أشهر.
وفي ابن خلدون 5 / 328: أربعة وأربعين شهرا.
وفژ تاريخ الحروب الصليبية 3 / 39: خمس سنين.
وفي أبي الفداء: ثلاث سنين وثلاثة أشهر وقد جرى التوقيع على الهدنة أول أيلول - عشرين شعبان، قال أبو الفداء في تاريخه: يوم الاربعاء 22 شعبان.

وكلما وفد أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الاكرام، تأليفا لقلوبهم، ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكرا، ويحضر سماط السلطان فيمن حضر من جمهورهم، بحيث لا يرى.
والسلطان لا يعلم ذلك جملة ولا تفصيلا، ولهذا كان يعاملهم بالاكرام، ويريهم صفحا
جميلا، وبرأ جزيلا.
فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصدا دمشق، واستناب على القدس عز الدين جورديك، وعلى قضائها بهاء الدين بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعي، فاجتاز على وادي الجيب وبات على بركة الداوية، ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها، ثم ترحل عنها، فجعل يمر بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها، وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بيمند صاحب إنطاكية فأكرمه وأحسن إليه، وأطلق له أموالا جزيلة وخلعا، وكان العماد الكاتب في صحبته، فأخبر عن منازله منزلة منزلة إلى أن قال: وعبر يوم الاثنين عين الحر إلى مرج بيوس، وقد زال البوس، وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها، ونزل يوم الثلاثاء على العرادة، وجاءه هناك التحف والمتلقون على العادة، وأصبحنا يوم الاربعاء سادس عشر (1) شوال بكرة بجنة دمشق داخلين، بسلام آمنين، وكانت غيبة السلطان عنها أربع سنين، فأخرجت دمشق أثقالها، وأبرزت نساءها وأطفالها ورجالها، وكان يوم الزينة، وخرج أكثر أهل المدينة، واجتمع أولاده الكبار والصغار، وقدم عليه رسل الملوك من سائر الامصار، وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل، والعمل بالاحسان والفضل.
ولما كان عيد الاضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها: وأبيها لولا تغزل عينها * لما قلت في التغزل شعرا ولكانت مدائح الملك النا * صر وإلى ما فيه أعمل فكرا ملك طبق الممالك بالعد * ل مثلما أوسع البرية برا فيحل الاعياد صوما وفطرا * ويلقى الهنا برا وبحرا يأمر بالطاعات لله إن * أضحى مليك على المناهي مصرا نلت ما تسعى من الدين والدنيا * فتيها على الملوك وفخرا قد جمعت المجدين أصلا وفرعا * وملكت الدارين دنيا وأخرى ومما وقع في هذه السنة من الحوادث غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها
السبكتكيني وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة ثلاث وثمانين، فأظفره الله بهم
__________
(1) كذا بالاصل وابن شداد في سيرته ص 239 وفي الكامل 1 / 87 وتاريخ أبن خلدون 5 / 330: خامس وعشرين.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 83: لخمس بقين من شوال يوم الاربعاء.

هذه السنة، فكسرهم وقتل خلقا منهم وأسر خلقا، وكان من جملة من أسره ملكهم الاعظم، وثمانية عشر فيلا، من جملتها الذي كان جرحه، ثم أحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه، واستحوذ على حصنه وأخبر بما فيه من كل جليل وحقير، ثم قتله بعد ذلك، وعاد إلى غزنة مؤيدا منصورا، مسرورا محبورا.
وفيها اتهم أمير الحج ببغداد وهو طاشتكين، وقد كان على إمرة الحج من مدة عشرين سنة، وكان في غاية حسن السيرة، واتهم بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب في أخذ بغداد، فإنه ليس بينه وبينها أحد يمانعه عنها، وقد كان مكذوبا عليه، ومع هذا أهين وحبس وصودر.
فصل وممن توفي فيها من الاعيان القاضي شمس الدين.
محمد بن محمد بن موسى المعروب بابن الفراش، كان قاضي العساكر بدمشق، ويرسله السلطان إلى ملوك الآفاق، ومات بملطية.
سيد الدين علي بن أحمد المشطوب كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، حضر معه الوقعات الثلاث بمصر، ثم صار من كبراء أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائبا على عكا لما أخذوها الفرنج، فأسروه في جملة من أسروا فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار، وجاء إلى السلطان وهو بالقدس فأعطاه أكثرها، وولاه نابلس.
توفي يوم الاحد (1) ثالث وعشرين شوال بالقدس، ودفن في داره.
صاحب بلاد الروم عز الدين قلج أرسلان بن مسعود
أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائبا على عكا لما أخذوها الفرنج، فأسروه في جملة من أسروا فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار، وجاء إلى السلطان وهو بالقدس فأعطاه أكثرها، وولاه نابلس.
توفي يوم الاحد (1) ثالث وعشرين شوال بالقدس، ودفن في داره.
صاحب بلاد الروم عز الدين قلج أرسلان بن مسعود ابن قلج أرسلان، وكان قد قسم جميع بلاده بين أولاده، طمعا في طاعتهم له، فخالفوه وتجبروا وعتوا عليه، وخفضوا قدره وارتفعوا، ولم يزل كذلك حتى توفي في عامه هذا.
وفي ربيع الآخر توفي الشاعر أبو المرهف.
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 3 / 83: يوم الخميس السادس والعشرين من شوال.

نصر بن منصور النميري سمع الحديث واشتغل بالادب، أصابه جدري وهو ابن اربع عشرة سنة (1) فنقص بصره جدا، وكان لا يبصر الاشياء البعيدة، ويرى القريب منه، ولكن كان لا يحتاج إلى قائد، فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه فآيسته الاطباء من ذلك، فاشتغل بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين فأفلح، وله ديوان شعر كبير حسن، وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول: أحب عليا والبتول وولدها * ولا أجحد الشيخين فضل التقدم وأبرأ ممن نال عثمان بالاذى * كما أتبرا من ولاء ابن ملجم ويعجبني أهل الحديث لصدقهم * فلست إلى قوم سواهم بمنتمي توفي ببغداد ودفن بمقابر الشهداء بباب حرب رحمه الله تعالى.
بحمد الله تعالى قد تم الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية للعلامة ابن كثير ويليه الجزء الثالث عشر وأوله سنة تسع وثمانين وخمسمائة هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية
__________
(1) في الاصول: أربعة عشرة.
خطأ.

البداية والنهاية - ابن كثير ج 13
البداية والنهاية
ابن كثير ج 13

البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه.
حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء الثالث عشر دار إحياء التراث العربي

طبعة جديدة محققة الطبعة الاولى 1408 ه.
1988 م

بسم الله الرحمن الرحيم ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة فيها كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى.
استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعا إلى بلاد آذربيجان، بلاد العجم، فإنه ليس دونها أحد يمانع عنها، فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادي عشر صفر خرج السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الاسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا، ثم إنه اعتراه حمى
صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الافضل، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة، وطاب له الحديث، وطال مجلسهم عنده، ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الاطباء في اليوم الرابع، ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الارض، ثم قوي اليبس فأحضر الامراء الاكابر فبويع لولده الافضل نور الدين علي، وكان نائبا على دمشق، وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد، وغيبوبة الذهن في بعض الاوقات، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل وابن شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتد به الحال ليلة الاربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الامر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ (هو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) [ الحشر: 22 ] فقال: وهو كذلك صحيح.
فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ (لا إله إلا هو عليه توكلت) [ التوبة: 129 ] تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه

سبحانه، ومات رحمه الله، واكرم مثواه، وجعل جنات الفردوس مأواه، وكان له من العمر سبع وخمسون سنه، لانه ولد بتكريت في شهور سنة، سنه ثنتين وثلاثين وخمسمائه، رحمه الله، فقد كان ردءا للاسلام وحرزا وكهفا من كيد الكفرة اللئام، وذلك بتوفيق الله له، وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبائه وأصحابه، وقد غلقت الاسواق واحتفظ على الحواصل، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي (1)، وكان الذي أحضر الكفن ومؤنه التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، هذا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر، وأم الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم، لوصيته بذلك قديما، فلم يكمل بناؤها، وذلك حين قدم
ولده العزيز وكان محاصرا لاخيه الافضل كما سيأتي بيانه، في سنة تسعين وخمسمائة، ثم اشترى له الافضل دارا شمالي الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربة، هطلت سحائب الرحمة عليها، ووصلت ألطاف الرأفة إليها.
وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الافضل، ودخل في لحده ولده الافضل فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطان الشام، ويقال إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله.
ثم عمل عزاؤه بالجامع الاموي ثلاثة أيام، يحضره الخاص والعام، والرعية والحكام، وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، منها قوله: شمل الهدى والملك عم شتاته * والدهر ساء واقلعت حسناته اين الذى مذ لم يزل مخشية * مرجوة رهباته وهباته ؟ اين الذي كانت له طاعاتنا * مبذولة ولربه طاعاته ؟ بالله اين الناصر الملك الذي * لله خالصة صفت نياته ؟ اين الذي ما زال سلطانا لنا * يرجى نداه وتتقى سطواته ؟ اين الذي شرف الزمان بفضله * وسمت على الفضلاء تشريفاته ؟ اين الذي عنت الفرنج لبأسه * ذلا، ومنها أدركت ثاراته ؟ أغلال أعناق العدا أسيافه * أطواق أجياد الورى مناته
__________
(1) الدولعي هو ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قائد بن جميل الارقمي الدولعي الشافعي، خطيب دمشق توفي في ربيع الاول سنة 598 ه وله إحدى وتسعين سنة.

من للعلى من للذري من للهدى * يحميه ؟ من للبأس من للنائل ؟
طلب البقاء لملكه في آجل * إذ لم يثق ببقاء ملك عاجل بحر أعاد البر بحرا بره * وبسيفه فتحت بلاد الساحل من كان أهل الحق في أيامه * وبعزه يردون أهل الباطل وفتوحه والقدس من أبكارها * أبقت له فضلا بغير مساجل ما كنت أستسقي لقبرك وابلا * ورأيت جودك مخجلا للوابل فسقاك رضوان الاله لانني * لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل تركته وشئ من ترجمته قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد - أي دينار واحد - صوريا وستة وثلاثين درهما.
وقال غيره: سبعة وأربعين درهما (1)، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا، ولا شيئا من أنواع الاملاك.
هذا وله من الاولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة، وتوفي له في حياته غيرهم، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا أكبرهم الملك الافضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر، ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادى الاولى سنة سبع وستين، ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين، وهو شقيق الافضل، ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين، ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق، ولد بدمشق في ربيع الاول سنة سبعين.
ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق العزيز، ثم الاغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين، وهو شقيق العزيز أيضا، ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر، ثم أبو الفضل قطب الدين موسى، وهو شقيق الافضل، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا، ثم لقب بالمظفر أيضا، ثم الاشرف معز الدين أبو عبد الله محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين، ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين، وهو شقيق الذي قبله، ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه ولد بمصر في ربيع الاول سنة سبع وسبعين،
وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق للمعز، ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملك شاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم، ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لابويه، ولد بحران بعد وفاة
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 96 أربعين درهما ناصرية.

السلطان، ثم عماد الدين شادي لام ولد، ونصير الدين مروان لام ولد أيضا.
وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب رحمهم الله تعالى.
وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللا في ملبسه، ومأكله ومركبه، وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الاكبر ومقصده الاعظم نصرة الاسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلا ونهارا، وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل، والفوائد الفرائد، في اللغة والادب وأيام الناس، حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها، وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الامام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه، وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده، وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبجح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب.
وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين.
كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والابواب
النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره، ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، مع ما كان يعتري جسمه من الامراض والاسقام، ولا سيما في حصار عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائه ألف مقاتل، ويقال ستمائة ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل.
ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم، ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه، ودخلوا عليه في الصلح، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذى أراده، لا على ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين، فإنه ما انقضت تلك السنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به الكافرون، وكان سخيا جبيا ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير

يفعله، شديد المصابرة على الخيرات والطاعات، فرحمه الله وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفا صالحا من سيرته وأيامه، وعدله في سريرته وعلانيته، وأحكامه.
فصل وكان قد قسم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الافضل نور الدين علي، وهم أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولاخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات، وحماه ومعاملة أخرى (1) معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لاسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير،
نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب.
واليمن بمعاقله ومخاليفه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الاسلام طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للامجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر.
ثم شرعت الامور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك، حتى آل الامر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.
وفيها جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفا من الكتب الحسنة المثمنة وفي المحرم منها جرت ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام أبيها فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات ليلة أن يأتيها فجاء إليها مختفيا فتركته في بعض الدار، فلما جاء أبوها في أثناء الليل أمرته فنزل فقلته، وأمرته بقتل أمها وهي حبلى، وأعطته الجارية حليا بقيمة ألفي دينار، فأصبح أمره عند الشرطة فمسك وقتل قبحه الله، وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبرا، وكان شابا وضئ الوجه رحمه الله.
وفيها درس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي التويابي وحضر عنده القضاة والاعيان، وعمل بها دعوة حافلة.
وممن توفي فيها من الاعيان...السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ابن شاذي، وقد تقدمت وفاته مبسوطة.
__________
(1) قال في تاريخ أبي الفداء 3 / 87: حماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم.

الامير بكتمر صاحب خلاط قتل في هذه السنة (1)، وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأحسنهم سيرة رحمه الله.
الاتابك عز الدين مسعود
ابن مودود بن زنكي، صاحب الموصل نحوا من ثلاث عشرة سنة، من خيار الملوك، كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل أثابه الله.
جعفر بن محمد بن فطيرا أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق، كان ينسب إلى التشيع، وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم، جاءه رجل ذات يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين عليا في المنام، فقال لي: اذهب إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشر دنانير، فقال له ابن فطيرا.
متى رأيته ؟ قال: أول الليل، فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال لي: إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئا فلا تعطه، فأدبر الرجل موليا فاستدعاه ووهبه شيئا، ومن شعره فيما أورده ابن الساعي وقد تقدم ذلك لغيره: ولما سبرت الناس أطلب منهم * أخا ثقة عند اعتراض الشدائد وفكرت في يومي سروري وشدتي * وناديت في الاحياء هل من مساعد ؟ فلم أر فيما ساءني غير شامت * ولم أر فيما سرني غير حاسد يحيي بن سعيد بن غازي أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات، كان شاعرا أديبا فاضلا بليغا، له اليد الطولى في اللغة والنظم، ومن شعره قوله: غناء خود ينساب لطفا * بلا عناء في كل أذن ما رده قط باب سمع * ولا أتى زائرا بإذن السيدة زبيدة بنت الامام المقتفي لامر الله، أخت المستنجد وعمة المستضئ، كانت قد عمرت طويلا
__________
(1) قتل في أول جمادى الاولى، وكان سبب قتله أن هزار ديناري وهو من مماليك شاه أرمن ظهير الدين تزوج بابنة بكتمر وقوي أمره واشتد، فمطع في الملك، فعمل على قتل بكتمر وملك بلاد خلاط وأعمالها وبقي في ملكها إلى وفاته سنة 594 ه.
(الكامل 12 / 103 تاريخ أبي الفداء 3 / 89) وقال الذهبي في العبر: قتله بعض الاسماعيلية.

ولها صدقات كثيرة دارة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار، فتوفي قبل أن يدخل بها، وقد كانت كارهة لذلك، فحصل مقصودها وطلبتها.
الشيخة الصالحة فاطمة خاتون بنت محمد بن الحسن العميد، كانت عابدة زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، كان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش مطر وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده، بل اشتغلت بذكر الله عزوجل والعبادة، رحمها الله.
وفيها أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب منه أن يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر، ولو بلغ ذلك عشر مجلدات، وهي هذه الابيات: أيها الشامت المعير بالده * ر أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من ال * أيام، بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلدت أم من * ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسر الملوك أبو * ساسان أم أين قبله سابور ؟ وبنو الاصفر الملوك ملوك الر * وم لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذ * دجلة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور لم تهبه ريب المنون فزا * ل الملك عنه فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوما وللهندي (1) تكفير سره حاله وكثرة ما * يملك والبحر معرضا والسدير فارعوى قلبه وقال وما * غبطة حي إلى الممات يصير ثم بعد النعيم والملك والنهي وال * أمر وارتهم هناك قبور
ثم أضحوا كأنهم أورق (2) جف * ت فألوت بها الصبا والدبور غير أن الايام تختص بالمرء * وفيها لعمري العظات والتفكير
__________
(1) في معجم البلدان (خورنق): وتبين..وللهدى تفكير.
قيل والخورنق قصر بناه النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن مرة كان من أشد الملوك بأسا، أشرف يوما على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان فقال لوزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه.
فقال: لو كان يدوم.
فقال: ما الذي يدوم.
قال: ما عند الله في الآخرة وينال ذلك بترك الدنيا وعبادة الله.
فترك ملكه في ليلته واختفى هاربا...فقال عدي بن زيد هذه الابيات.
(2) في معجم البلدان: ثم صاروا كأنهم ورق..

ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة لما استقر الملك الافضل بن صلاح الدين مكان أبيه بدمشق، بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر، من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات، ومنها صليب الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين، وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلا مرصعا بالجواهر النفيسة، وأربع جواري من بنات ملوك الفرنج، وأنشأ له العماد الكاتب كتابا حافلا يذكر فيه التعزية بأبيه، والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده، فأجيب إلى ذلك.
ولما كان شهر جمادى الاولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من أخيه الافضل فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى، وحاصر البلد، فمانعه أخوه ودافعه عنها، فقطع الانهار ونهبت الثمار، واشتد الحال، ولم يزل الامر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما، ورد الامر للالفة بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضا، وعلى أن يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وأن يكون لعمهما العادل أقطاعه الاول ببلاد مصر مضافا إلى ما بيده من الشام والجزيرة كحران والرها وجعبر وما جاور ذلك، فاتفقوا على
ذلك، وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج الصفر، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كر راجعا إلى مصر لطول شوقه إلى أهله وأولاده، وكان الافضل بعد موت أبيه قد أساء التدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الاجانب وأقبل على شرب المسكر واللهو واللعب، واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين بن الاثير الجزري، وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك، فتلف وأتلفه، وأضل وأضله، وزالت النعمة عنهما كما سيأتي.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند، أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل، ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير مثله، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا لم ير مثله، فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له الملاحون (1)، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى، فحمل من خزانته ذهبا وغيره على ألف وأربعمائة جمل، ثم عاد إلى بلاده سالما منصورا.
وفيها ملك السلطان خوارزم شاه تكش - يقال له ابن الاصباعي - بلاد الري وغيرها، واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شأنه، ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في ربيع الاول من هذه السنة.
فقتل
__________
(1) في الكامل 12 / 105: ماجون، وهو نهر كبير يقارب دجلة بالموصل.
وفي معجم البلدان: ماجان: نهر يشق مدينة مرو.

السلطان طغرلبك، وأرسل رأسه إلى الخليفة، فعلق على باب النوبة عدة أيام، وأرسل الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه، وملك همدان وغيرها من البلاد المتسعة.
وفيها نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه، ونفاه إلى واسط، فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاما، وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقي لنفسه الماء، وكان شيخا كبيرا قد بلغ ثمانين سنة، وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمة.
قال: ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف، إلى أن فرج الله كما سيأتي إن شاء الله.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن إسماعيل بن يوسف أبو الخير القزويني الشافعي المفسر، قد بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قول الاشعري في الاصول، وجلس في يوم عاشوراء فقيل له: العن يزيد بن معاوية، فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين.
ابن الشاطبي ناظم لشاطبية أبو [ محمد ] (1) القاسم بن فيرة (2) بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وبلده شاطبة - قرية شرقي الاندلس - كان فقيرا، وقد أريد إن يلي خطابة بلدة فامتنع من ذلك لاجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك، خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الاسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع على السلفي وولاة القاضي الفاضل مشيخة الاقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاته بها في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية، وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان يتمثل كثيرا بهذه الابيات، وهي لغز في النعش، وهي لغيره: (3).
أتعرف شيئا في السماء يطير * إذا سار هاج الناس حيث يسير فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا * وكل أمير يعتليه أسير
__________
(1) من وفيات الاعيان 4 / 71.
وغاية النهاية 2 / 20.
(2) من غاية النهاية، وفي الاصل: قسيرة، والفيرة بكسر الفاء ومعناه بلغة عجم الاندلس: الحديد.
(3) وهو لابي زكريا يحيى بن سلامة الحصكفي.

يحث على التقوى ويكره قربه * وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يستزر عن رغبة في زيارة * ولكن على رغم المزور يزور ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فيها كانت وقعة الزلاقة ببلاد الاندلس شمالى قرطبة، بمرج الحديد، كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الاسلام وخذل فيها عبدة الصلبان، وذل ك أن القيش (1) ملك الفرنج ببلاد الاندلس، ومقر ملكه بمدينة طليطلة، كتب إلى الامير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله، في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد، فكتب السلطان يعقوب بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) [ النمل: 37 ] ثم نهض من فوره في جنوده وعساكره، حتى قطع الزقاق إلى الاندلس، فالتقوا في المحل المذكور، فكانت الدائرة أولا على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفا، ثم كانت أخيرا على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة، وشر هزيمة وأشنعها، فقتل منهم مائة ألف وثلاثة (2) وأربعون ألفا، وأسر منهم ثلاثة عشر ألفا، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا، من ذلك مائة ألف خيمة وثلاث (3) وأربعون خيمة، ومن الخيل ستة وأربعون ألف فرس، ومن البغال مائة ألف بغل، ومن الحمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفا، ومن العدد شئ كثير، وملك عليهم من حصونهم شيئا كثيرا، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم لم يفتحها فانفصل عنها راجعا إلى بلاده.
ولما حصل للقيش (1) ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حمارا وحلف لا يركب فرسا ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امرأة حتى تنصره النصرانية، ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عزوجل، فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الاولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم أو أكثر، واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم، ولله الحمد والمنة، حتى قيل إنه بيع الاسير بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، والخيمة بدرهم، والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي، فاستغنى المجاهدون إلى الابد، ثم طلبت الفرنج من السلطان الامان
فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلا يقال له علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم، ظهر ببلاد إفريقية فأحدث أمورا فظيعة في غيبة السلطان واشرف به بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين، فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الارض
__________
(1) في الكامل 12 / 113 ألفنش.
(2) في الكامل: وستة.
(3) في الاصل وثلاثة وهو خطأ.

فسادا، وقتل خلقا كثيرا، وتملك بلادا.
وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الري وأصبهان وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد، وقوي جانب الخلافة على الملوك والممالك.
وفيها خرج العزيز من مصر قاصدا دمشق ليأخذها من يد أخيه الافضل، وكان الافضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب، وأقبل على الصيام والصلاة، وشرع بكتابة مصحف بيده، وحسنت طريقته، غير أن وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته، ويكدر عليه صفوته، فلما بلغ الافضل إقبال أخيه نحوه سار سريعا إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الافضل أيضا إلى أخيه الظاهر بحلب، فسارا جميعا نحو دمشق، فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كر راجعا سريعا إلى مصر، وركب وراءه العادل والافضل ليأخذا منه مصر، وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للافضل، ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الافضل يثبطه، وأقاما على بلبيس أياما حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن يرجع القدس ومعاملتها للافضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم، فأقام العادل بها طمعا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعد ما خرج العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن.
وفيها توفي من الاعيان:
علي بن حسان بن سافر أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديبا شاعرا.
من شعره قوله: نفى رقادي ومضى * برق بسلع ومضا لاح كما سلت يد ال * أسود عضبا أبيضا كأنه الاشهب في * النقع إذا ما ركضا يبدو كما تختلف الر * يح على جمر الغضا فتحسب الريح أب * دا نظرا وغمضا (1) أو شعلة النار علا * لهيبها وانخفضا آه له من بارق * ضاء على ذات الاضا أذكرني عهدا مضى * على الغوير وانقضى فقال لى قلبي أتو * صي حاجة وأعرضا يطلب من أمرضه * فديت ذاك الممرضا
__________
(1) كذا بالاصل، وفي البيت اضطراب واضح.

يا غرض القلب لقد * غادرت قلبي غرضا لاسهم كأنما * يرسلها صرف القضا فبت لا أرتاب في * أن رقادي قد قضى حتى قفا الليل وكاد * الليل أن ينقرضا وأقبل الصبح لاط * راف الدجا مبيضا وسل في الشرق على الغ * رب ضياء وانقضى ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وخمسمائة في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه العادل في عساكر، ودخلا دمشق قهرا،
وأخرجا منها الافضل ووزيره الذي أساء تدبيره، وصلى العزيز عند تربة والده صلاح، وخطب له بدمشق، ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار العدل للحكم والفصل، وكل هذا وأخوه الافضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه وكانت دارا للامير عز الدين شامة، ثم استناب على دمشق عمه الملك العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنين تاسع شوال، والسكة والخطبة بدمشق له، وصولح الافضل على صرخد، وهرب وزيره ابن الاثير الجزري إلى جزيرته، وقد أتلف نفسه وملكه، وملكه بجريرته، وانتقل الافضل إلى صرخد بأهله وأولاده، وأخيه قطب الدين.
وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر، حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار.
وفيها ولى قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد (1) بن زيادة كتاب الانشاء ببغداد، وكان بليغا، وليس هو كالفاضل.
وفيها درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية، وكان فاضلا مناظرا.
وفيها قتل رئيس الشافعية بأصبهان محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي قتله ملك الدين سنقر الطويل، وكان ذلك سبب زوال ملك أصبهان عن الديوان.
وفيها مات الوزير وزير الخلافة: مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب، وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد.
فتقدم ابنه وساد أهل زمانه.
توفي بهمدان وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها، إلى ديوان الخلافة، وكان ناهضا ذا همة وله صرامة وشعر جيد.
وفيها توفي:
__________
(1) في ابن الاثير: سعيد.

الفخر محمود بن علي التوقاني (1) الشافعي، عائدا من الحج.
والشاعر:
أبو الغنائم محمد بن علي ابن المعلم الهرثي من قرى واسط، عن إحدى وتسعين سنة، وكان شاعرا فصيحا، وكان ابن الجوزي في مجالسه يستشهد بشئ من لطائف أشعاره، وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح.
وفيها توفي: الفقيه أبو الحسن علي بن سعيد ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد، كان حنبليا ثم اشتغل شافعيا على أبي القاسم بن فضلان، وهو الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية، ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الامامية فالله أعلم.
وفيها توفي: الشيخ أبو شجاع محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي الحاسب المؤرخ البغدادي، قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن فقال: يا زيد زادك ربي من مواهبه * نعما يقصر عن إدراكها الامل لا بدل الله حالا قد حباك بها * ما دار بين النحاة الحال والبدل النحو أنت أحق العالمين به * أليس باسمك فيه يضرب المثل ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه " أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والارض عجاجا، حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد، وعدا منها عاد، وزاد عصف الريح
__________
(1) في ابن الاثير 12 / 124: القوفاني.

إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) [ البقرة: 19 ] ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الابصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار.
وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافا وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الاهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي، ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود، فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كان يأخذه على غرة، ووردت الاخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والاشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فر فلا ينفعه الفرار.
إلى أن قال " ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا، فالامر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا، إلا أهل بلدنا فما قص الاولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات، والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور ".
وفيها كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الاسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب " هذه الاوقات التي أنتم فيها عرائس الاعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف،
فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات ".
وكتب أيضا " أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدنيا وما فيها من الاجساد والنفوس، وعرف المملوك من الامر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله: ألم تر أن المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمدا ليسلم سائره ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الاصبع ظفرا فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعا، ودفع عنه ضررا، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سببا إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها، فهو إذا صرف

وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين الله) [ العنكبوت: 69 ].
وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج (1) فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة.
وقد كانوا كتبوا إلى ملك الالمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعا، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة (2) من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الامير شامة (1): سلم الحصن ما عليك ملامة * ما يلام الذي يروم السلامة فتعطى الحصون من غير حرب * سنة سنها ببيروت شامة ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راع، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس (3) وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل، ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقا من مقاتلتهم، ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية.
وفيها توفي ملك اليمن:
سيف الاسلام طغتكين أخو السلطان صلاح الدين، وكان قد جمع أموالا جزيلة جدا، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك، وقام في الملك بعده ولده إسماعيل، وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أن ادعى أنه قرشي أموي، وتلقب بالهادي، فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفت إليه، بل تمادى وأساء التدبير إلى الامراء والرعية، فقتل وتولى بعده مملوك من مماليك أبيه.
وفيها توفي:
__________
(1) كذا بالاصل، والواقع أن هدنة صلاح الدين على ما ذكرنا ثلاث سنين وثمانية أشهر على ما ذكره بعضهم اعتبارا من أواخر شعبان 588 ه.
وبعد وفاته جدد العزيز الهدنة مع كندهري ملك الفرنج وزاد في مدة الهدنة فبقي ذلك إلى الآن.
(انظر الكامل 12 / 126، ابن خلدون 5 / 333) (2) في الكامل وابن خلدون وتاريخ الحروب الصليبية: أسامة.
(3) صاحب قبرص واسمه املريك وقد تزوج بإيزابيللا أرملة هنري كونت شامبانيا وقد مات بسقوطه من نافذة قصره وهو يستعرض عساكره بعكا (الكامل 12 / 130 - الروضتين 2 / 116 - تاريخ الحروب الصليبية 3 / 172).

الامير الكبير أبو الهيجاء السمين الكردي كان من أكابر أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائبا على عكا، وخرج منها قبل أخذ الافرنج، ثم دخلها بعد المشطوب، فأخذت منه، واستنابه صلاح الدين على القدس، ثم لما أخذها العزيز عزل عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراما زائدا، وأرسله الخليفة مقدما على العساكر إلى همدان، فمات هناك.
وفيها توفي: قاضي بغداد أبو طالب علي بن علي بن هبة الله بن محمد البخاري، سمع الحديث على أبي الوقت وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن فضلان، وتولى نيابة الحكم ببغداد، ثم استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء
ثم أعيد ومات وهو حاكم، نسأل الله العافية، وكان فاضلا بارعا من بيت فقه وعدالة وله شعر: تنح عن القبيح ولا ترده * ومن أوليته حسنا فزده كفا بك من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده وفيها توفي: السيد الشريف نقيب الطالبيين ببغداد أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي ابن يحيى بن الحسين بن زيد (1) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن الاقساسي، الكوفي مولدا ومنشأ، كان شاعرا مطبقا، امتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالادب والرياسة والمروءة، قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضئ وابنه الناصر، فولاه النقابة كان شيخا مهيبا، جاوز الثمانين (2)، وقد أورد له ابن الساعي قصائد كثيرة منها: اصبر على كيد الزما * ن فما يدوم على طريقة سبق القضاء فكن به * راض ولا تطلب حقيقة كم قد تغلب مرة * وأراك من سعة وضيقة ما زال في أولاده * يجري على هذي الطريقة
__________
(1) في الاصل يزيد تحريف.
انظر الوافي 12 / 128.
(2) في المختصر المحتاج إليه 2 / 19: وهو في عشر السبعين.

وفيها توفيت: الست عذراء بنت شاهنشاه ابن أيوب، ودفنت بمدرستها داخل باب النصر، والست خاتون والدة الملك العادل، ودفنت بدارها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة فيها جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تبنين، فاستدعى العادل بني أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر، والافضل من صرخند (1)، فأقلعت الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الالمان فطلبوا من العادل الهدنة والامان، فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها، وقد عظم المعظم عيسى بن العادل في هذه المرة، واستنابه أبوه على دمشق، وسار إلى ملكه بالجزيرة، فأحسن فيهم السيرة، وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار وغيرها من المدائن الكبار، وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي الاتابكي، كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلا وسيرة، وأجودهم طوية وسريرة، غير أنه كان يبخل، وكان شديد المحبة للعلماء، ولا سيما الحنفية، وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار، وشرط لهم طعاما يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم، وهذا نظر حسن، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير، لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته، فعدى على أولاده ابن عمه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل، فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم، واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين محمد، ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان، فاستولى على ريفها ومعاملتها، وأعجزته قلعتها، فطاف عليها ومشى، وما ظن أحد أنه تملكها، لان ذلك لم يكن مثبوتا ولا مقدارا.
وفيها ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم، وأرسل الخليفة إليهم أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق، فإنه كان يروم أن يخطب له ببغداد.
وفيها حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة، وقد كانت امتنعت عليه دهرا ونصرهم الخطا، فقهرهم جميعا وأخذها عنوة، وعفا عن أهلها وصفح، وقد كانوا ألبسوا كلبا أعور قباء وسموه خوارزم شاه، ورموه في المنجنيق إلى الخوارزمية، وقالوا هذا مالكم، وكان خوارزم شاه أعور، فلما قدر عليهم عفا عنهم، جزاه الله خيرا.
__________
(1) في ابن الاثير، وابن خلدون 5 / 330: صرخد، وفي تاريخ الحروب الصليبية: صلخد.

المكروه أليمة، وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن، وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الاحد والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والاسى عليه في كل يوم جديد ".
ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمدا، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الامراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الافضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعا، فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الامراء الناصرية (1)، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر (2)، لكن استفاد الافضل في سفرته هذه أن أخذ جيشا كثيفا من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه.
وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الاسد الكاسر وجيش حماه، فكثر جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الافضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها، وقد استناب على ماردين ولده محمدا الكامل.
ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الامراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر الافضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي.
وفيها شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الامراء وكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور قبل ذلك.
وفيها توفي:
السلطان أبو محمد (3) يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب والاندلس بمدينته (4)، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة
__________
(1) وكان مقدم الامراء الناصرية فخر الدين إياس جهاركس مولى صلاح الدين (انظر ابن الاثير 12 / 140 وابن خلدون 5 / 335 تاريخ أبي الفداء 3 / 95).
(2) يذكر ابن الاثير أن سبب إقرار العادل لابن أخيه الافضل بالسلطنة على مصر قال: فلم يسر إليهم لانه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين، وقد عجز من بها عن حفظها فظن أنه يأخذها (انظر ابن خلدون 5 / 335).
(3) في ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء: أبو يوسف.
(4) وهي مدينة سلا.

سماها المهدية، وقد كان دينا حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهريا حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله.
وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الاهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب.
وفيها ادعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الامير صارم الدين برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها.
وفيها وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية
كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقا من الشافعية، وحضر ابن القدوة (1) وكان شيخا معظما في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم، فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته: أيها الناس، إنا لا نقول إلا ماصح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم ارسطا طاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبس به الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله، ولاي شئ يشتم بالامس شيخ من شيوخ الاسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله، على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل.
قال فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان.
وفيها رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف [ الكرخي ]، فكثر الجمع جدا وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة:
__________
(1) وهو القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر، المعروف بابن القدوة، وكان من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته.
وقد تقدم الكلام على مذهب الكرامية القائم على التجسيم والتشبيه.

وفيها توفي من الاعيان: العوام (1) بن زيادة كاتب الانشاء بباب الخلافة، وهو أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة، انتهت إليه رياسة الرسائل والانشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق، وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي، أخذه عن ابن فضلان، وله معرفة جيدة بالاصلين الحساب
واللغة، وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكورا في جميعها، ومن مستجاد شعره قوله: لا تحقرن عدوا تزدريه فكم * قد أتعس الدهر جد الجد باللعب فهذه الشمس يعروها الكسوف لها * على جلالتها بالرأس والذنب وله: باضطراب الزمان ترتفع الان * ذال فيه حتى يعم البلاء وكذا الماء راكد فإذا * حرك ثارت من قعره الاقذاء وله أيضا: قد سلوت الدنيا ولم يسلها * من علقت في آماله والاراجي فإذا ما صرفت وجهي عنها * (قذفتني في بحرها العجاج يستضيئون بي وأهلك وحدي * فكأني ذبالة في سراج توفي في ذي الحجة وله ثنتان وسبعون سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند موسى بن جعفر.
القاضي أبو الحسن علي بن رجاء بن زهير ابن علي البطائحي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد الله بن النبيه الفرضي، ثم ولي قضاء العراق مدة، وكان أديبا، وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضا للحريري في بيتيه اللذين زعم أنهم لا يعزوان ثالثا لهما، وهما قوله: سم ممة يحمد آثارها * واشكر لمن أعطا ولو سمسمة والمكر مهما اسطعت لا تأته * لتقتني السؤدد والمكرمة
__________
(1) في شذرات الذهب 4 / 218: قوام الدين.

فقال ابن النبيه:
ما الامة الوكساء بين الورى * أحسن من حر أتى ملامه فمه إذا استجديت عن قول لا * فالحر لا يملا منها فمه الامير عز الدين جرديك (1) كان من أكابر الامراء في أيام نور الدين، وكان ممن شرك في قتل شاور، وحظي عند صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات الكبار فيسدها بنفسه وشجاعته، ولما ولي الافضل عزله عن القدس فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر وذلك أنه خرج إلى الصيد فكانت ليلة الاحد العشرين (2) من المحرم، ساق خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره، ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال: إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد، وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا، وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام.
وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعا، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب " أدام الله سلطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الاسلام بنصره، وفدت الانفس نفسه الكريمة وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه الله حياة طيبة هو والاسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة وينقلب عنها بالامور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالا ولا أعدمه نفسا ولا ولدا، ولا قصر له ذيلا ولا يدا، ولا
أسخن له عينا ولا كبدا، ولا كدر له خاطرا ولا موردا، ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: حرديل وهو تحريف، وفي ابن الاثير: جورديك.
(2) في تاريخ ابن خلدون 5 / 335: آخر المحرم.
وفي بدائع الزهور لابن إياس 1 / 1 / 252: يوم الخميس حادي عشرين محرم.

لا تعطش الروض الذي بنيته * بصوب إنعامك قد روضا لا تبر عودا أنت قد رشته * حاشى لباني المجد أن ينقضا إن كان لي ذنب قد جنيته * فأستأنف العفو وهب لي الرضا قد كنت أرجوك لنيل المنى * فاليوم لا أطلب إلا الرضا ومما أنشده يومئذ: شقينا بالنوى زمنا فلما * تلاقينا كأنا ما شقينا سخطنا عند ما جنت الليالي * وما زالت بنا حتى رضينا ومن لم يحيى بعد الموت يوما * فإنا بعد ما متنا حيينا وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهرزوري فولاه قضاء قضاة بغداد.
وفيها وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الاموي، فذكر يوما شيئا من العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والامير صارم الدين برغش، فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الامير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق ؟ قال: نعم، فغضب الامير وأمر بنفيه من البلد، فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الاسارى من
القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير مجاهد الدين قيماز الرومي نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلا ذكيا فقيها حنفيا، وقيل شافعيا، يحفظ شيئا كثيرا من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الاثير: وقد كان من محاسن الدنيا.
أبو الحسن محمد بن جعفر ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن

النجاري، كان شافعيا تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا، وآل به الامر إلى ما آل، ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزورا عليه.
فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات.
الشيخ جمال الدين أبو القاسم يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولا على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية، ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والاصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه، وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخا حسنا لطيفا ظريفا، ومن شعره:
وإذا أردت منازل الاشراف * فعليك بالاسعاف والانصاف وإذا بغا باغ عليك فخله * والدهر فهو له مكاف كاف ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة استهلت هذه السنة والملك الافضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل، وقد قطع عنها الانهار والميرة، فلا خبز ولا ماء إلا قليلا، وقد تطاول الخال، وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقا لئلا يصل إليهم جيش دمشق، وجاء فصل الشتاء وكثرت الامطار والاوحال.
فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل على أبيه بخلق من التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرها وحران، فعند ذلك انصرف العساكر المصرية، وتفرقوا أيادي سبا، فرجع الظاهر إلى حلب والاسد إلى حمص، والافضل إلى مصر، وسلم العادل من كيد الاعادي، بعدما كان قد عزم على تسليم البلد.
وسارت الامراء الناصرية خلف الافضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة، وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم، فنهض إليهم سريعا فدخل الافضل مصر وتحصن بقلعة الجبل، وقد اعتراه الضعف والفشل، ونزل العادل على البركة وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الافضل خاضعا ذليلا، فأقطعه بلادا من الجزيرة (1)، ونفاه من الشام لسوء السيرة، ودخل العادل القلعة وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الكردي، وأبقى
__________
(1) أقطعه ميافارقين وجاني وجبل جور، وخرج الافضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر (انظر ابن الاثير) وقال أبو الفداء في تاريخه أن العادل لم يف لابن أخيه الافضل بوعده فيما أقطعه (انظر ابن خلدون 5 / 337 وابن الاثير 12 / 156).

الخطبة والسكة باسم أخيه المنصور، والعادل مستقل بالامور، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه، وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز، وكان ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته
لا تصح لانه متولي عليه، فعند ذلك طلب الامراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم، وقال فيما قال: قد سمعتم ما أفتى به العلماء، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الاطفال الصغار، وإنما يحفظها الملوك الكبار، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه، ثم من بعده لولده الكامل، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما، وضربت السكة باسمهما، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل، ومصر باسم الكامل.
وفي شوال رجع إلى دمشق الامير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن جلدك، وهو أخو الملك العادل لامه، وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس، وبها قبره، فأقام بها محترما معظما إلى أن توفي في هذه السنة.
وفيها وفي التي بعدها كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغني والفقير، وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الاقوات، وأما بلاد العراق فإنه كان مرخصا.
قال ابن الساعي: وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به.
وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان علاء الدين خوارزم شاه تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين، وهو صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الاقاليم المتسعة، وهو الذي قطع دولة السلاجقة، كان عادلا حسن السيرة له معرفة جيدة بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيها على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الاصول، وبنى للحنفية مدرسة عظيمة، ودفن بتربة بناها بخوارزم، وقام في الملك من بعده ولده علاء الدين محمد، وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين.
وفيها قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور: نظام الدين مسعود بن علي وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل، وبنى
بمرو جامعا عظيما للشافعية، فحسدتهم الحنابلة (1) وشيخهم بها يقال له شيخ الاسلام، فيقال إنهم
__________
(1) كذا بالاصل وابن الاثير، وفي هامش المطبوعة: لعله الحنفية فإنه ليس بمرو حنابلة والله سبحانه أعلم.

أحرقوه وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل، فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه.
وفيها توفي الشيخ المسند المعمر رحلة الوقت: أبو الفرج بن عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني الاصل البغدادي المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ (1)، وكان من أعيان التجار وذوي الثروة.
الفقيه مجد الدين أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل (2)، مدرس القدس أول من درس بالصلاحية، وهو والد الفقهاء بني جميل الدين، كانوا بالمدرسة الجاروخية، ثم صاروا إلى العمادية والدماعية في أيامنا هذه، ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم.
الامير صارم الدين قايماز ابن عبد الله النجي، كان من أكابر الدولة الصلاحية، كان عند صلاح الدين بمنزلة الاستاذ، وهو الذي تسلم القصر حين مات العاضد.
فحصل له أموال جزيلة جدا، وكان كثير الصدقات والاوقاف، تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عينا، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة، وقد كانت دار الحديث الاشرفية دارا لهذا الامير، وله بها حمام، فاشترى ذلك الملك الاشرف فيما بعد وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناه مسكنا للشيخ المدرس بها.
ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهما بمال جزيل، فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك، وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقراياه، سامحه الله.
الامير لؤلؤ أحد الحجاب بالديار المصرية، كان من أكابر الامراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الاسطول في البحر، فكم من شجاع قد أسر، وكم من مركب قد كسر، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات، كثير النفقات في كل يوم، وقع غلاء بمصر فتصدق بإثني عشر ألف رغيف، لاثني عشر ألف نفس.
__________
(1) سمع ابن بيان وابن نبهان وابن زيدان الحلواني (انظر العبر للذهبي وشذرات الذهب).
(2) في شذرات الذهب: جهبل، قال: وهو والد بني جهبل الفقهاء الدمشقيون (4 / 324).

الشيخ شهاب الدين الطوسي (1) أحد مشايخ الشافعية بديار مصر، شيخ المدرسة المنسوبة إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب، التي يقال لها منازل العز (2)، وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، توفي في هذه السنة، فازدحم الناس على جنازته، وتأسفوا عليه.
الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي شيخ الشافعية بحلب، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وتتلمذ للرازي، ورحل إلى مصر وعرض عليه أن يدرس بتربة الشافعي فلم يقبل، فرجع إلى حلب فأقام بها إلى أن مات.
الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر رئيس الحنفية بدمشق، قال أبو شامة: ويعرف بابن العقادة.
الشاعر أبو الحسن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي، قدم دمشق في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان، وقد تصدى لمدح الملك الامجد صاحب بعلبك وله:
وما الناس إلا كامل الحظ ناقص * وآخر منهم ناقص الحظ كامل وإني لمثر من خيار أعفة * وإن لم يكن عندي من المال كامل وفيها توفي القاضي الفاضل، الامام العلامة شيخ الفصحاء والبلغاء: أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الاشرف أبي المجد علي بن الحسن بن البيساني المولى الاجل القاضي الفاضل، كان أبوه قاضيا بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة الانشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، ولم يكن له في زمانه نظير، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل، ولما استقر الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه،
__________
(1) وهو أبو الفتح، محمد بن محمود بن محمد بن شهاب الدين توفي بمصر في ذي القعدة وله 74 سنة وقد وقع بينه وبين الحنابلة أمور، لانه أظهر في مصر مذهب الاشعري.
(2) منازل العز بمصربنتها السيدة تغريد أم العزيز بالله نزار الفاطمي ثم اشتراها سنة 566 ه نقي الدين عمر بن شاهنشاه وعملها مدرسة للشافعية (النجوم الزاهرة 5 / 386).

وكان أعز عليه من أهله وأولاده، وتساعدا حتى فتح الاقاليم والبلاد، هذا بحسامه وسنانه، وهذا بقلمه ولسانه وبيانه وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة، وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر القلب والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية، وأوقاف على تخليص الاسارى من يدي النصارى، وقد اقتنى من الكتب نحوا من مائة ألف كتاب، وهذا شئ لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولد في سنة ثنتين (1) وخمسمائة، توفي يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة يوم الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل، وتأسف عليه، ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر، فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله أن لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما من المنافسة، فمات ولم ينله أحد بضيم
ولا أذى، ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه، وقد رثاه الشعراء بأشعار حسنة، منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك: عبد الرحيم على البرية رحمة * أمنت بصحبتها حلول عقابها يا سائلي عنه وعن أسبابه * نال السماء فسله عن أسبابها وأتته خاطبة إليه وزارة * ولطال ما أعيت على خطابها وأتت سعادته إلى أبوابه * لا كالذي يسعى إلى أبوابها تعنو الملوك لوجهه بوجوهها * لا بل تساق لبابه برقابها شغل الملوك بما يزول ونفسه * مشغولة بالذكر في محرابها في الصوم والصلوات أتعب نفسه * وضمان راحته على إتعابها وتعجل الاقلاع عن لذاته * ثقة بحسن مآلها ومآبها فلتفخر الدنيا بسائس ملكها * منه ودارس علمها وكتابها صوامها قوامها علامها * عمالها بذالها وهابها والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة، وإنما له ما بين البيت والبيتين في أثناء رسائله وغيرها شئ كثير جدا، فمن ذلك قوله: سبقتم بإسداء الجميل تكرما * وما مثلكم فيمن يحدث أو يحكى وكان ظني أن أسابقكم به * ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا وله: ولي صاحب ما خفت من جور حادث * من الدهر إلا كان لي من ورائه
__________
(1) في وفيات الاعيان وشذرات الذهب: ولد في 15 جمادى الآخرة سنة 529 ه بمدينة عسقلان.
ولقب بالبيساني لان أباه تولى القضاء بمدينة بيسان فلهذا نسبوا إليها.
(انظر بدائع الزهور لابن إياس 1 / 1 / 253).

إذا عضني صرف الزمان فإنني * براياته أسطو عليه ورائه
وله في بدو أمره: أرى الكتاب كلهم جميعا * بأرزاق تعمهم سنينا وما لي بينهم رزق كأني * خلقت من الكرام الكاتبينا وله في النحلة والزلقطة: ومغردين تجاوبا في مجلس * منعاهما لاذاهما الاقوام هذا يجود بعكس ما يأتي به * هذا فيحمد ذا وذاك يلام وله: بتنا على حال تسر الهوى * لكنه لا يمكن الشرح (1) بوابنا الليل، وقلنا له: * إن غبت عنا هجم الصبح وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زرا من ذهب مغلف بعنبر أسود، فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشأ يقول: أهدت لك العنبر في وسطه * زر من التبر رقيق (2) اللحام فالزر في العنبر معناهما * زر هكذا مختفيا في الظلام قال ابن خلكان: وقد اختلف في لقبه فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين، وحكي عن عمارة اليمني: أنه كان يذكر جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الاسكندرية، وقد كان معدودا في حسناته.
وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا، وفي هذه زيادة كثيرة والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة فيها اشتد الغلاء بأرض مصر جدا، فهلك خلق كثير جدا من الفقراء والاغنياء، ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل: أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف، وعشرين ألف ميت، وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر، وأكل من الصغار والاطفال خلق كثير، يشوي الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس جدا حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الاطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله، وكان الرجل
يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئا، ثم يذبحه ويأكله، وكان أحدهم يذبح امرأته
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 160: بتنا على حال يسر الهوى * وربما لا يمكن الشرح (2) في الوفيات: دقيق اللحام.

ويأكلها وشاع هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى، بل يعذر بعضهم بعضا، ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الاطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فكانوا يذبحون ويؤكلون، كان الرجل يستدعي الطبيب ثم يذبحه ويأكله، وقد استدعى رجل طبيبا حاذقا وكان الرجل موسرا من أهل المال، فذهب الطبيب معه على وجل وخوف، فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه، ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيل منه، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه حتى دخل داره، فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضا فخرج صاحبه فقال له: ومع هذا البطء جئت لنا بصيد، فلما سمعها الطبيب هرب فخرجا خلفه سراعا فما خلص إلا بعد جهد وشر.
وفيها وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية، فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شئ من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس الله وعذابه، وغضبه وعقابه، أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم.
واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جدا، وهي أن رجلا يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد اليمن، وجمع نحوا من اثني عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعا كثيرا، وخافه ملك اليمن إسماعيل بن طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال
ملكه على يدي هذا الرجل، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته، واختلاف أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم سوى طائفة من الخيالة والرجالة، فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل منهم ستة آلاف، واستقر في ملكه آمنا.
وفيها تكاتب الاخوان الافضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل، وتكون للافضل، ثم يسيرا إلى مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة المنصور، ونكثا المواثيق، فإذا أخذا مصر كانت للافضل وتصير دمشق مضافة إلى الظاهر مع حلب، فلما بلغ العادل ما تمالا عليه أرسل جيشا مددا لابنه المعظم عيسى إلى دمشق، فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه إليها، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك، فنزلا على مسجد القدم واشتد الحصار للبلد، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان القدم، ولم يبق إلا فتح البلد، لولا هجوم الليل، ثم إن الظاهر بدا له في كون دمشق للافضل فرأى أن تكون له أولا، ثم إذا فتحت مصر تسلمها الافضل، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الافضل، فاختلفا وتفرقت كلمتهما، وتنازعا الملك بدمشق، فتفرقت الامراء

عنهما، وكوتب العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئا من بلاد الجزيزة (1)، وبعض معاملة المعرة.
وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين، وسار كل منهما إلى ما تسلم من البلاد التي أقطعها، وجرت خطوب يطول شرحها، وقد كان الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الاتابكي أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما العادل، فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة، فقصدت العساكر حران، وبها الفائز بن العادل، فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة، وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الامور واستقرت على ما كانت عليه.
وفيها ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك خوارزم شاه من
البلدان والحواصل والاموال، وجرت لهم خطوب طويلة جدا.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شئ كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس، ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة ومات بها وبقراها ثلاثون ألفا تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، وأربع عشرة شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري، وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقة بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب مرآة الزمان: إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو من ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها، وقيل إن أحدا لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم.
وفيها توفي من الاعيان: عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن علي [ بن عبيد الله ] (2) بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي - نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن
__________
(1) استقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وقرى معينة من المعرة، ويكون للافضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين (ابن الاثير 12 / 163 ابن خلدون 5 / 338).
(2) سقط من عمود نسبه في الاصل، وأثبت في تذكرة الحفاظ ص 1342 ووفيات الاعيان 3 / 140.

عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي، أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة
مصنف، وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة (1)، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الاشياء الغريبة فيما يشاهد من الامور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والادراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة، هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها، وحصر أفرادها، منها كتابه في التفسير المشهور بزاد المسير، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله جامع المسانيد استوعب به غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب المنتظم في تواريخ الامم من العرب والعجم في عشرين مجلدا، قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخا، وما أحقه بقول الشاعر: ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا وله مقامات وخطب، وله الاحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الاحاديث الواهية، وغير ذلك.
ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين، وكان أهله تجارا في النحاس، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي، وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان، وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والامراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره، وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله:
ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا * وأكابد النهج العسير الاطولا تجري بي الآمال في حلباته * جري السعيد مدى ما أملا أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي * أعيا سواي توصلا وتغلغلا
__________
(1) انظر تذكرة الحفاظ ص 1343 فقد ذكر فيها تصانيف أبي الفرج بن الجوزي.

لو كان هذا العلم شخصا ناطقا * وسألته هل زار مثلي ؟ قال: لا ومن شعره وقيل هو لغيره: إذا قنعت بميسور من القوت * بقيت في الناس حرا غير ممقوت ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي * فلست آسي على در وياقوت وله من النظم والنثر شئ كثيرا جدا، وله كتاب سماه لقط الجمان في كان وكان، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث: " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " (1) إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الاقامة قيل لهم حثوا المطي، وقال له رجل أيما أفضل ؟ أجلس أسبح أو أستغفر ؟ فقال الثوب الوسخ أحوج إلى البخور.
وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال: هذا طين سطحه في كانون.
والتفت إلى ناحية الخليفة المستضئ وهو في الوعظ فقال: يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين.
وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس.
قال فبكى المستضئ وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء.
ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الامام أحمد، وكان يوما
مشهودا، حتى قيل: إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الابيات: يا كثير العفو يا من * كثرت ذنبي لديه جاءك المذنب يرجو الص * فح عن جرم يديه أنا ضيف وجزاء ال * ضيف إحسان إليه وقد كان له من الاولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن، ثم محيي الدين يوسف، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين [ وخمسمائة ] ووعظ بعد أبيه، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام، وقد
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات باب (1) وابن ماجه في الزهد باب (27).

حصل منهم من الاموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق، وما أوقف عليها، ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان (1)، وكان لابي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي (2) صاحب مرآة الزمان، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه.
العماد الكاتب الاصبهاني محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها -، المعروف بالعماد الكاتب الاصبهاني، صاحب المصنفات والرسائل، وهو قرين القاضي الفاضل، واشتهر في زمنه، ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل، ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرس
النظامية، وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين محمود بن زنكي، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية، نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها، وتدريسه بها، لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود، ولم يكن هو أول من درس بها، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد، كما تقدم في ترجمة نور الدين، ثم صار العماد كاتبا في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني عليه ويشكره، قالوا: وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة، وقريحته في غاية الجودة والحدة، وقد قال القاضي الفاضل لاصحابه يوما: قولوا فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي، وقال: هو كالزناد ظاهره بارد وداخله نار، وله من المصنفات الجريدة جريدة النصر (3) في شعراء العصر، والفتح القدسي، والبرق الشامي وغير ذلك من المصنفات المسجعة، والعبارات المتنوعة والقصائد المطولة.
توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بمقابر الصوفية.
الامير بهاء الدين قراقوش (4) الفحل الخصي، أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهما شجاعا فاتكا، تسلم
__________
(1) وكان ذلك سنة 653 ه على ما سيرد (وفيات الاعيان 3 / 142).
(2) من وفيات الاعيان، وفي الاصل: مزعلي وهو تحريف.
وكان مولده سنة 581 ببغداد وكانت وفاته في ذي الحجة سنة 654 بدمشق.
ودفن بجبل قاسيون.
(3) كذا بالاصل، والمعروف: خريدة القصر وجريدة العصر.
(4) وهو أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الاسدي، الملقب بهاء الدين، وهو غير شرف الدين قراقوش التقوي المظفري الذي قام بمغامرات كثيرة في طرابلس الغرب وأفريقيا.

القصر لما مات العاضد وعمر سور القاهرة محيطا على مصر أيضا، وانتهى إلى المقسم وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية، وبنى قلعة الجبل، وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار وهو بها، فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من
خرج، ثم دخلها ابن المشطوب.
وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار (1)، وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحا شديدا، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل.
قال ابن خلكان: وقد نسب إليه أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم (2) جزءا لطيفا سماه كتاب " الفاشوش في أحكام قراقوش "، فذكر أشياء كثيرة جدا، وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد على من بهذه المثابة والله أعلم.
مكلبة بن عبد الله المستنجدي كان تركيا عابدا زاهدا، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة: يا رجال الليل جدوا * رب صوت لا يرد ما يقوم الليل إلا * من له عزم وجد فبكى مكلبة وقال للمؤذن يا مؤذن زدني، فقال: قد مضى الليل وولى * وحبيبي قد تخلا فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى نعشه رحمه الله تعالى.
أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع المركلسي ببغداد، ويعرف بابن نقطة، كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا، ويسحر الناس في ليالي رمضان، وكان مطبوعا ظريفا خليعا، وكان أخوه الشيخ عبد الغني الزاهد من أكابر الصالحين (3)، له زاوية ببغداد يزار فيها، وكان له أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئا يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئا لعشائهم، وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول
__________
(1) قال ابن شداد في سيرة صلاح الدين ص 239: أنه انفك من الاسر يوم الثلاثاء 11 شوال سنة 588 ه.
(2) وهو الاسعد بن مماتي (انظر وفيات الاعيان 4 / 92).
(3) توفي ببغداد في 4 جمادى الآخرة سنة 583 ودفن في موضع مجاور لمسجده (الوفيات 4 / 393).

وعندهم من ذلك شئ سوى هاون، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال: خذ هذا وكل به ثلاثين يوما، ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عزوجل.
هذا الرجل من خيار الصالحين، و المقصود أنه قال لاخيه أبي منصور: ويحك أنت تدور في الاسواق وتنشد الاشعار وأخوك من قد عرفت ؟ فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة: قد خاب من شبه الجزعة إلى درة * وقاس قحبة إلى مستحيية حره أنا مغني وأخي زاهد إلى مرة * في الدر ببرى ذي حلوة وذي مره وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلي حاضر، فأنشأ يقول كان وكان، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر، يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد، فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمته أبو منصور هذا من الطريق، فأرسل إليه مائة دينار، ورسم بحمايته من الروافض، إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله.
وفيها توفي مسند الشام: أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي، شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الاحفاد بالاجداد (1).
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فيها شرع الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قايسون (2)، في بناء المسجد الجامع بالسفح، فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي، حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده، وما كان معه من المال، فأرسل الملك المظفر كوكري بن زين الدين صاحب إربل مالا جزيلا ليتمه به، فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى، فلم يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين، فصنع له بئر
وبغل يدور، ووقف عليه وقفا لذلك.
وفيها كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد المشرق بسطها ابن الاثير (3) واختصرها ابن كثير.
وفيها درس بالنظامية مجد الدين
__________
(1) كذا ذكر المؤلف وفاته في هذه السنة ووافقه أبو شامة في (الذيل 28).
وفي وفيات الاعيان: 1 / 269 ذكر وفاته في 27 صفر سنة 598 وكذا ذكره الذهبي في العبر قال: توفي في سابع صفر (4 / 302).
(2) كذا بالاصل والمشهور: قاسيون.
(3) انظر الكامل 12 / 173 وما بعدها: في أحداث سنة 598 ه.

يحيى بن الربيع وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلي، وحضر عنده العلماء والاعيان.
وفيها تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه أيضا.
وفيها توفي من الاعيان: القاضي ابن الزكي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي، محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لامه، وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على القرشي.
قال الشيخ أبو شامة: ولو كان أمويا عثمانيا كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر، إذ كان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، فلو كان ذلك صحيخا لما خفي على ابن عساكر، اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وناب عنه في الحكم، وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم، ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضا، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور، ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا، وقد كان ابن الزكي ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، ويمزق كتب من كان عنده شئ من ذلك بالمدرسة النورية، وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا، وكان له درس في التفسير يذكره
بالكلاسة، تجاه تربة صلاح الدين، ووقع بينه وبين الاسماعيلية فأرادوا قتله فاتخذ له بابا من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة، ثم إنه خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون (1) ويقال إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغني فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة لغيرهما.
الخطيب الدولعي ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين التغلبي (2) الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل، يقال لها الدولعية، ولد بها في سنة ثمان عشرة (3) وخمسمائة، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروخي (4)، والنسائي على أبي الحسن
__________
(1) في الاصل قايسون.
(2) في الاصل: الثعلبي تحريف.
(3) في معجم البلدان ووفيات الاعيان 7 / 203: سنة 507 ه.
(4) في الاصل: الكروجي وهو خطأ.

علي بن أحمد البردي ثم قدم دمشق فولي بها الخطابة وتدريس الغزالية، وكان زاهدا متورعا حسن الطريقة مهيبا في الحق، توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الاول، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعا وثلاثين سنة، وقيل ولده جمال الدين محمد.
وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكي فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين بالامير علم الدين أخي العادل، فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة.
الشيخ علي بن علي بن عليش اليمني العابد الزاهد، كان مقيما شرقي الكلاسة، وكانت له أحوال وكرامات، نقلها
الشيخ علم الدين السخاوي عنه، ساقها أبو شامة عنه.
الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله ابن حماد الحراني، التاجر، ولد سنة إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من البلاد، وتوفي في ذي الحجة، ومن شعره قوله: تنقل المرء في الآفاق يكسبه * محاسنا لم يكن منها ببلدته أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه * حسن التنقل حسنا فوق زينته الست الجليلة ينفشا بنت عبد الله عتيقة المستضئ، كانت من أكبر حظاياه، ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبرا وإحسانا إلى العلماء والفقراء، لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي صدقات وبر.
ابن المحتسب الشاعر أبو السكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم معه، فلما ولي قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية، وكان يقول الشعر، وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك، وتقذرا لها.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال سبط ابن الجوزي في مرآته: في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء وماجت شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، قال: ولم ير مثل هذا إلا في عام

المبعث، وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين.
وفيها شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية المجاور لباب النصر.
وفيها أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل وبينه.
وفيها بعث العادل ولده موسى الاشرف لمحاصرة ماردين، وساعده جيش سنجار والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر، على أن يحمل صاحب ماردين في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وأن تكون السكة والخطبة للعادل، وأنه متى طلبه بجيشه يحضر إليه.
وفيها كمل بناء رباط الموريانية، ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد الشهرزوري، ومعه جماعة من الصوفية، ورتب لهم من المعلوم والجراية ما ينبغي لمثلهم.
وفيها احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وإخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من آفاتهم بمصر.
وفيها استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها، وهي من بلاد آذربيجان، لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله، فتحكمت الكفرة في رقاب المسلمين بسببه، وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة.
وفيها توفي: الملك غياث الدين الغوري أخو شهاب الدين فقام بالملك بعده ولده محمود، وتلقب بلقب أبيه، وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة.
وفيها توفي من الاعيان: الامير علم الدين أبو منصور سليمان بن شيروة بن جندر أخو الملك العادل لابيه، في تاسع عشر من المحرم، ودفن بداره التي خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس، ووقف عليها الحمام بكمالها تقبل الله منه.
القاضي الضياء الشهرزوري أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي، قاضي قضاة بغداد، وهو ابن أخي قاضي قضاة دمشق كمال الدين الشهرزوري، أيام نور الدين.
ولما توفي سنة ست وسبعين في أيام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا بالقضاء فوليه، ثم عزل عنه بابن أبي عصرون، وعوض بالسفارة إلى الملوك، ثم تولى قضاء بلدة الموصل، ثم استدعي إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة أشهر، ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده، فاستشفع في زوجته ست الملوك على أم الخليفة، وكان لها مكانة عندها، فأجيب إلى ذلك فصار إلى قضاء حماه لمحبته إياها،
وكان يعاب عليه ذلك، وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة، توفي في حماه في نصف رجب منها.

عبد الله بن علي بن نصر بن حمزة (1) أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية، أحد الفضلاء المشهورين.
سمع الحديث وجمعه، وكان طبيبا منجما يعرف علوم الاوائل وأيام الناس، وصنف ديوان الاسلام في تاريخ دار السلام، ورتبه على ثلاثمائة وستين كتابا إلا أنه لم يشتهر، وجمع سيرة ابن هبيرة، وقد كان يزعم أنه من سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك.
وأنشد بعضهم: دع الانساب لا تعرض لتيم * فإن الهجن من ولد الصميم لقد أصبحت من تيم دعيا * كدعوى حيص بيص إلى تميم ابن النجا الواعظ علي بن إبراهيم بن نجا زين الدين أبو الحسن الدمشقي، الواعظ الحنبلي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق، ثم عاد إليها رسولا من جهة نور الدين في سنة أربع وستين، وحدث بها، ثم كانت له حظوة عند صلاح الدين، وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا، وكانت له مكانة بمصر، وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من الجمعة، وكان وقتا مشهودا، وكان يعيش عيشا أطيب من عيش الملوك في الاطعمة والملابس، وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء، كل واحدة بألف دينار، فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيرا لم يخلف كفنا، وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن رزيك: مشيبك قد قضى شرخ الشباب * وحل الباز في وكر الغراب تنام ومقلة الحدثان يقظى * وما ناب النوائب عنك ناب فكيف بقاء عمرك وهو كنز * وقد أنفقت منه بلا حساب ؟ الشيخ أبو البركات (محمد بن أحمد بن سعيد التكريتي) يعرف بالمؤيد، كان أديبا شاعرا.
ومما
نظمه في الوجيه النحوي (2) حين كان حنبليا فانتقل حنفيا، ثم صار شافعيا، نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال: ألا مبلغا عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي لديه الرسائل تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل
__________
(1) في شذرات الذهب 4 / 339: حمرة.
وفي هامشه قال: على الحاء ضمة كما في النسخ وتاريخ الاسلام.
(2) وهو أبو بكر المبارك بن أبي طالب المبارك بن أبي الازهر، الملقب بالوجيه، المعروف بابن الدهان له ترجمة في وفيات الاعيان 4 / 152 ومرآة الزمان 2 / 573 وانباه الرواة 3 / 354.

وما اخترت قول الشافعي ديانة (1) * ولكنما تهوى الذي هو حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالك فانظر (2) إلى ما أنت قائل ؟ الست الجليلة زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضئ، كانت صالحة عابدة كثيرة البر والاحسان والصلات والاوقاف، وقد بنت لها تربة إلى جانب قبر معروف، وكانت جنازتها مشهورة جدا، واستمر العزاء بسببها شهرا، عاشت في خلافة ولدها أربعا وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الاوامر.
وفيها كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ترجم نفسه عند ذكر مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة، فينقل إلى سنة وفاته، وذكر بدو أمره، واشتغاله ومصنفاته وشيئا كثيرا من شعاره، وما رئي له من المنامات المبشرة.
وفيها كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار، عليه من الله ما يستحقه، وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها - يعني التتار ومن معهم من أمراء - الترك ممن يبتغي حكم الجاهلية وهو والد تولى، وجد هو لاكو بن تولى - الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
سنة ستمائة من الهجرة في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسرا، وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الايام الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالاناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شئ من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين.
وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلى والاذهاب والاموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخا أعمى يقاد فرسه، ومركيس الافرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عددا وعددا.
فخرجت
__________
(1) في الوافي بالوفيات 2 / 116: وما اخترت رأى الشافعي تدينا.
(2) في الوافي: فافطن لما أنت، وفي وفيات الاعيان: لما أنا.

القرعة له ثلاث مرات، فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد (1)، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هنالك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى (2)، ولم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي.
ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الاسلام من ناحية الغور وتلك الاراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئا من البلاد (3) فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها.
وفيها تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الاشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الاشرف أخت نور الدين، وهي الاتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الاتابكية التي بالسفح، وبها تربتها.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد.
قاله ابن الاثير في كامله.
وفيها تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها.
وفي جمادى الاولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر.
وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان، كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضا أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الاقوات بها فسلمها إليه قسرا، على أن يعطيه بعض البلاد.
فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات (فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) [ الدخان: 29 ] وقام بالملك من بعده ولده
__________
(1) أخذ دون البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة اقريطش ورودس وغيرهما.
ويكون لمركيس الافرنسيين البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق.
(الكامل 12 / 192).
(2) في ابن الاثير: لشكري.
(3) نزل لهم العادل عن جميع المناصفات في الصيدا والرملة، وأعطاهم ناصرة وغيرها.
(الكامل 12 / 195 وابن خلدون 5 / 340).

أفلح (1) أرسلان، وكان صغيرا فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسرو.
وفيها قتل خلق كثير من الباطنية بواسط.
قال ابن الاثير: في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي: أعاذلتي أقصري * كفى بمشيبي عذل شباب كأن لم يكن * وشيب كأن لم يزل وبثي (2) ليال الوصا * ل أواخرها والاول وصفرة لون المحب * ب عند استماع الغزل لئن عاد عتبي لكم (3) * حلا لي العيش واتصل فلست أبالي بما نالني * ولست أبالي بأهل ومل قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو ميت.
قال: وكان رجلا صالحا، وقال ابن الساعي كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز.
وفيها توفي من الاعيان: أبو القاسم بهاء الدين الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر، كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتبا عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الاموي، ودار الحديث النورية.
مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة.
الحافظ عبد الغني المقدسي ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والاحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في
ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الامام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر، وكان قدومهما مع أهلهما من بيت
__________
(1) في الكامل: قلج.
وفي تاريخ أبي الفداء: قليج.
(2) في الكامل: وحق.
(3) في الكامل 12 / 198: لئن عاد عيشي بكم.

المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولا، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية، فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحدا ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما، ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح بن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر واسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، قلت: وهو عندي بخط أبي نعيم.
فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيا في إزار.
ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفا يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جدا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه، فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر فذكر يوما عقيدته على الكرسي فثار
عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين.
وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة الحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق ؟ [ قال: نعم ]، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد، فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الاول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله.
قال السبط: كان عبد الغني ورعا زاهدا عابدا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الامام أحمد، ويقول الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريما جوادا لا يدخر شيئا، ويتصدق على الارامل والايتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.
قلت: وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوا من ألف موضع، وذلك الامام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله،

ولا يلحق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظا وإتقانا وسماعا وإسماعا وسردا للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا طائلا.
قال ابن الاثير: وفيها توفي: أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الاصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لابي سعد الهروي، كان زاهدا عابدا، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة.
البناني الشاعر أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني، مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال: ظلما ترى مغرما في الحب تزجره * وغيره بالهوى أمسيت تنكره يا عاذل الصب لو عانيت قاتله * لو جنة وعذار كنت تعذره أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني * إذا تصدى لقتلي كيف أسحره يستمتع الليل في نوم وأسهره * إلى الصباح وينساني وأذكره أبو سعيد الحسن بن خلد ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم الاوائل وأتقنه وكانت له يد طولي في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله: أتاني كتاب أنشأته أنامل * حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر فوا عجبا أني التوت فوق طرسه * وما عودت بالقبض أنمله العشر وله أيضا: لقد أثرت صدغاه في لون خده * ولاحا كفئ من وراء زجاج ترى عسكرا للروم في الريح مذ بدت * كطائفة تسعى ليوم هياج أم الصبح بالليل البهيم موشح * حكى آبنوسا في صحيفة عاج لقد غار صدغاه على ورد خده * فسيجه من شعره بسياج الطاووسي صاحب الطريقة.

العراقي محمد بن العراقي ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي، كان بارعا في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك
ثلاث تعاليق قال ابن خلكان: أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وستمائة فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبع (1) عشرة سنة، وولى العهد ولده الآخر عليا، فمات علي عن قريب فعاد الامر إلى الظاهر، فبويع له بالخلافة بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
وفيها وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح، فاحترق من ذلك شئ كثير من السلاح والامتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وشاع خبر هذا الحريق في الناس، فأرسلت الملوك من سائر الاقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضا عن ذلك وفوقه من ذلك شيئا كثيرا.
وفيها عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقا، وأسروا آخرين.
وفيها وقعت الحرب بين أمير مكة قتادة الحسيني، وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني، وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالما فيها، فركب إليه سالم بعد ما صلى عند الحجرة فاستنصر الله عليه، ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها، ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فأفسدهم عليه فكر سالم راجعا إلى المدينة سالما.
وفيها ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن أخيه، واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته، وكثرت عساكره وأطاعه الامراء وأصحاب الاطراف، وخطب له الافضل بن صلاح الدين بسميساط، وسار إلى خدمته.
واتفق في هذه السنة أن رجلا ببغدا نزل إلى دجلة يسبح فيها وأعطى ثيابه لغلامه فغرق في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الابيات: يا أيها الناس كان لي أمل * قصر بي عن بلوغه الاجل فليتق الله ربه رجل * أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي بفناء بيت * يرى كل إلى مثله سينتقل
__________
(1) في الاصل: سبعة.

وفيها توفي من الاعيان: أبو الحسن علي (1) بن عنتر بن ثابت الحلي المعروف بشميم، كان شيخا أديبا لغويا شاعرا جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام، وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لابي نواس.
قال أبو شامة في الذيل: كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة، وله حماسة ورسائل.
قال ابن الساعي: قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب، حصل منه طرفا صالحا، ومن اللغة وأشعار العرب، ثم أقام بالموصل حتى توفي بها.
ومن شعره: لا تسرحن الطرف في مقل المها * فمصارع الآجال في الآمال كم نظرة أردت وما أخرت * وكم يد قبلت أوان قتال سنحت وما سمحت بتسليمة * وأغلال التحية فعلة المحتال وله في التجنيس: ليت من طول بالش * أم ثواه وثوا به جعل العود إلى الزو * راء من بعض ثوابه أترى يوطئني الده * ر ثرى مسك ترابه وأراني نور عيني * موطئا لي وثرى به وله أيضا في الخمر وغيره: أبو نصر محمد بن سعد الله (2) ابن نصر بن سعيد الارتاحي، كان سخيا بهيا واعظا حنبليا فاضلا شاعرا مجيدا وله: نفس الفتى إن أصلحت أحوالها * كان إلى نيل المنى أحوى لها
وإن تراها سددت أقوالها * كان على حمل العلى أقوى لها فإن تبدت حال من لها لها * في قبره عند البلى لها لها
__________
(1) في الوفيات 3 / 339 ومعجم الادباء 13 / 50 وغيرهما: علي بن الحسن بن عنتر.
(2) في النجوم الزاهرة: محمد بن أحمد بن حامد أبو عبد الله.
وفي شذرات الذهب: أبو محمد محمد بن حمد بن حامد بن مفرج بن غياث الانصاري المصري.

أبو العباس أحمد بن مسعود ابن محمد القرطبي الخزرجي، كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تصانيف حسان، وشعر رائق منه قوله: وفي الوجنات ما في الروض لكن * لرونق زهرها معنى عجيب وأعجب ما التعجب منه * أنى لتيار تحمله عصيب (1) أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري مولى صاحبها عماد الدين زنكي بن مودود، وكان جنديا حسن الصورة مليح النظم كثير الادب ومن شعره ما كتب به إلى الاشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف: دموع المعالي والمكارم أذرفت * وربع العلى قاع لفقدك صفصف غدا الجود والمعروف في اللحد ثاويا * غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف متى خطفت يد المنية روحه * وقد كان للارواح بالبيض يخطف سقته ليالي الدهر كأس حمامها * وكان بسقي الموت في الحرب يعرف فوا حسرتا لو ينفع الموت حسرة * ووا أسفا لو كان يجدي التأسف وكان على الارزاء نفسي قوية * ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف أبو الفضل بن الياس بن جامع الاربلي تفقه بالنظامية وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله
فضل ونظم، فمن شعره: أممرض قلبي، ما لهجرك آخر ؟ * ومسهر طرفي، هل خيالك زائر ؟ ومستعذب التعذيب جورا بصده * أما لك في شرع المحبة زاجر ؟ هنيئا لك القلب الذي قد وقفته * على ذكر أيامي وأنت مسافر فلا فارق الحزن المبرح خاطري * لبعدك حتى يجمع الشمل قادر فإن مت فالتسليم مني عليكم * يعاودكم ما كبر الله ذاكر أبو السعادات الحلي التاجر البغدادي الرافضي، كان في كل جمعة يلبس لامة الحرب ويقف خلف باب داره،
__________
(1) كذا بالاصل، والبيت مضطرب.

والباب مجاف عليه، والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا - يعني محمد بن الحسن العسكري - ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي.
أبو غالب بن كمنونة اليهودي الكاتب، كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله بمطمورة واسط، ذكره ابن الساعي: في تاريخه.
ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر (1) أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الاسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء، وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعا إلى الله، وحين
قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر (2)، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الاثير وابن الساعي.
وفيها أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة.
وفيها سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري (3) وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذبيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلا ونهارا، فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه.
قال ابن الاثير: وكان كما يقال: أغمد سيفه وسل أيره.
وفيها استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات.
وفيها أغار صاحب بلاد الارمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب، فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء: كوكر.
(2) في ابن الاثير: تاج الدين الدز.
وفي تاريخ أبي الفداء: تاج الدين يلدز.
(3) في تاريخ ابن الاثير: كوكبري.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55