كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي ثنا سفيان، ثنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب.
قال قال ابن الزبير للحسين: أين تذهب ؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟ فقال: لان أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي - يعني مكة - وقال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله أخبرني من سمع هشام بن يوسف يقول عن معمر قال: سمعت رجلا يحدث عن الحسين أنه قال لعبد الله بن الزبير: أتتني بيعة أربعين ألفا يحلفون بالطلاق والعتاق إنهم معي، فقال له ابن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك ؟ قال هشام: فسألت معمرا عن الرجل فقال: هو ثقة.
قال الزبير: وقال عمي: وزعم بعض الناس أن ابن عباس هو الذي قال هذا.
وقد ساق محمد بن سعد كاتب الواقدي هذا سياقا حسنا مبسوطا.
فقال: أنبأنا علي بن محمد، عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه، وعن لوط بن يحيى العامري، عن محمد بن بشير الهمداني وغيره، وعن محمد بن الحجاج عن عبد الملك بن عمير، عن هاورن بن عيسى عن يونس بن إسحاق، عن أبيه، وعن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي.
قال محمد بن سعد: وغير هؤلاء قد حدثني أيضا في هذا الحديث بطائفة فكتبت جوامع حديثهم في مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
قالوا: لما بايع الناس معاوية ليزيد كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم، فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا، فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم، مرة يريد أن يسير إليهم، ومرة يجمع الاقامة عنهم.
فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله ! إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم، وملوني وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قط، ومن فاز بهم فاز بالسهم الاخيب، والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف.
قال: وقدم المسيب بن عتبة الفزاري في عدة معه إلى الحسين بعد وفاة الحسن، فدعوه إلى خلع معاوية وقالوا: قد علمنا رأيك ورأي أخيك، فقال: إني لارجو أن يعطى الله أخي على نيته في حبه الكف، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين وكتب مروان إلى معاوية: إني لست آمن أن يكون حسين مرصدا للفتنة، وأظن يومكم من حسين طويلا.
فكتب معاوية إلى الحسين: إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتق الله واذكر الميثاق، فإنك متى تكدني أكدك.
فكتب إليه الحسين: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير، والحسنات لا يهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافا، وما أظن لي عند الله عذرا

في ترك جهادك، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الامة.
فقال معاوية: إن أثرنا بأبي عبد الله إلا شرا.
وكتب إليه معاوية أيضا في بعض ما بلغه عنه: إني لاظن أن في رأسك نزوة فوددت أني أدركها فأغفرها لك.
قالوا: فلما احتضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصأه به، وقال له: انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصل رحمه، وارفق به، يصلح لك أمره، فإن يكن منه شئ فإني أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه.
وتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، وبايع الناس يزيد، فكتب يزيد مع عبد الله بن عمرو بن أويس العامري عامر بن لؤي، إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة: أن ادع الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أول من تبدأ به الحسين بن علي، فإن أمير المؤمنين عهد إلي في أمرة الرفق به واستصلاحه.
فبعث الوليد من
ساعته نصف الليل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير فأخبرهما بوفاة معاوية، ودعاهما إلى البيعة ليزيد بن معاوية، فقالا: إلى أن نصبح وننظر ما يصنع الناس، ووثب الحسين فخرج وخرج معه ابن الزبير وقالا: هو يزيد الذي نعرف، والله ما حدث له عزم ولا مروءة.
وقد كان الوليد أغلظ للحسين فشتمه الحسين وأخذ بعمامته فنزعها من رأسه، فقال الوليد: إن هجنا بأبي عبد الله إلا شرا.
فقال له مروان - أو بعض جلسائه - اقتله، فقال: إن ذلك لدم مضنون به مصون في بني عبد مناف.
قالوا: وخرج الحسين وابن الزبير من ليلتهما إلى مكة، وأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا، فقال المسور بن مخرمة: عجل الحسين وابن الزبير يلفته ويرجيه ليخلو بمكة، فقدما مكة فنزل الحسين دار العباس، ولزم ابن الزبير الحجر، ولبس المعافري وجعل يحرض الناس على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين ويشير عليه أن يقدم العراق، ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك، وكان ابن عباس ينهاه عن ذلك، وقال له عبد الله بن مطيع: إني فداؤك وأبي وأمي، فامتعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذونا عبيدا وخولا.
قالوا: ولقيهما عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وابن أبي ربيعة بالابواء منصرفين من العمرة فقال لهما ابن عمر: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا فإن اجتمع الناس عليه فلم تشذا، وإن افترقوا عليه كان الذي تريدان.
وقال ابن عمر للحسين: لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها - يعني الدنيا - واعتنقه وبكى وودعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير.
وقال له ابن عباس: وأين تريد يا بن فاطمة ؟ فقال: العراق وشيعتي، فقال: إني لكاره لوجهك

هذا تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم ؟ أذكرك الله أن تغرر
بنفسك.
وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك ولا تخرج على إمامك.
وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين بن علي فأدركته بملل (1) فناشدته الله أن لا يخرج فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما خرج يقتل نفسه، فقال: لا أرجع.
وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني.
وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: وقد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجعه على ذلك ابن الزبير.
وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق وبقول ابن الزبير: الحق بهم فإنهم ناصروك.
وقال له ابن عباس: لا تبرح الحرم فإنهم إن كانت بهم إليك حاجة فسيضربون إليك أباط الابل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة.
فجزاه خيرا وقال: أستخير الله في ذلك.
وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن تعظم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إن لم يفعل إنما يساق إلى مصرعه.
وتقول: أشهد لسمعت عائشة تقول إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقتل الحسين بأرض بابل " فلما قرأ كتابها قال: فلابد لي إذا من مصرعي ومضى.
وأتاه بكر (2) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: يا بن عم قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا (3)، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فأذكرك الله في نفسك.
فقال.
جزاك الله يا بن عم خيرا، مهما يقضي الله من أمر يكن.
فقال أبو بكر: إنا لله وإنا إليه راجعون، نحتسب أبا عبد الله عند الله.
وكتب إليه عبد الله بن جعفر كتاب يحذره أهل العراق ويناشده الله إن شخص إليهم.
فكتب إليه الحسين: إني رأيت رؤيا، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بأمر وأنا ماض له، ولست بمخبر بها أحدا حتى ألاقي عملي (4).
وكتب إليه عمرو (5) بن سعيد بن العاص نائب الحرمين: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عما يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق، وإني أعيذك الله من الشقاق، فإنك إن كنت خائفا فاقبل إلي، فلك عندي الامان والبر والصلة.
فكتب إليه الحسين: إن كنت أردت
__________
(1) ملل: وهو اسم موضع في طريق مكة بين الحرمين.
(2) في الطبري 6 / 215، والكامل 4 / 37 وفتوح ابن الاعثم 5 / 110 عمر بن عبد الرحمن...وفي مروج الذهب 3 / 69: أبو بكر بن الحارث بن هشام، وفي المقتل لابي مخنف: عمر بن الحارث بن عبد الرحمن المخزومي.
(3) في الطبري وابن الاثير: عبيد لهذا الدرهم والدينار.
(4) نسخة كتاب عبد الله بن جعفر ورد الحسين عليه في فتوح ابن الاعثم 5 / 115 - 116 والطبري 6 / 219.
(5) في ابن الاعثم 5 / 116: سعيد بن العاص، وهو خطأ فقد تقدم أن سعيد مات سنة 58 ه في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال بالمدينة ودفن بالبقيع.
وانظر تهذيب التهذيب 4 / 49.

بكتابك بري وصلتي فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة، وإنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، وخير الامان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانا يوم القيامة عنده (1).
قالوا: وكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس (2) يخبره بخروج الحسين إلى مكة، وأحسبه قد جاءه رجال من أهل المشرق فمنوه الخلافة، وعندك منهم خبر وتجربة، فإن كان قد فعل فقد قطع راسخ القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة.
وكتب بهذه الابيات إليه وإلى من بمكة والمدينة من قريش: يا أيها الراكب العادي مطيته (3) * على غدافرة في سيرها فحم (4) أبلغ قريشا على نأي المزار بها * بيني وبين حسين الله والرحم وموقف بفناء البيت أنشده * عهد الاله وما توفي به الذمم عنيتم قومكم فخرا بأمكم * أم لعمري حصان برة كرم هي التي لا يداني فضلها أحد * بنت الرسول وخير الناس قد علموا وفضلها لكم فضل وغيركم * من قومكم (5) لهم في فضلها قسم إني لاعلم أو ظنا كعالمه (6) * والظن يصدق أحيانا فينتظم أن سوف يترككم ما تدعون بها * قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ مسكت * ومسكوا بحبال السلم (7) واعتصموا قد جرب الحرب من قد كان قبلكم * من القرون وقد بادت بها الامم فانصفوا قومكم لا تهلكوا برحا (8) * فرب ذي برح زلت به القدم قال: فكتب إليه ابن عباس: إني لارجو أن لا يكون خروج الحسين لامر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما تجتمع به الالفة وتطفي به الثائرة، ودخل ابن عباس على الحسين فكلمه طويلا وقال له: أنشدك أن تهلك غدا بحال مضيعة لا تأتي العراق، وإن كنت لابد فاعلا فأقم
__________
(1) في رواية أبي مخنف عن الحارث بن كعب الوالبي أن عمرو أرسل بكتابه مع عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد (الطبري 6 / 219).
(2) كذا بالاصل وابن عساكر 4 / 330 وفي ابن الاعثم: كتاب من يزيد إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم من بني هاشم.
(3) في ابن عساكر: الغادي لطيته.
(4) في ابن الاعثم وابن عساكر: عذافرة في سيرة قحم.
(5) في ابن الاعثم: من يومكم.
(6) في ابن الاعثم: إني لاعلم حقا غير ما كذب والظن...ويقتصم.
(7) في ابن الاعثم: تمسكوا بحبال الخير.
(8) في ابن الاعثم في الموضعين: بذخا.

حتى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون، ثم ترى رأيك، وذلك في عشر ذي الحجة.
فأبى الحسين إلا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عباس: والله إني لاظنك ستقتل غدا بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان بين نسائه وبناته، والله إني لاخاف أن تكون أنت الذي يقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال له الحسين: أبا العباس إنك شيخ قد كبرت، فقال له ابن عباس: لولا أن يزري ذلك بي وبك لنشبت يدي في رأسك، ولو أعلم أنا إذا تباصينا أقمت
لفعلت، ولكن لا أخال ذلك مانعك.
فقال الحسين: لان أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتستحل بي، قال: فبكى ابن عباس وقال: أقررت عين ابن الزبير بذلك، وذلك الذي سلى نفسي عنه قال: ثم خرج ابن عباس عنه وهو مغضب وابن الزبير على الباب، فلما رآه قال: يا بن الزبير قد أتى ما أحببت، قرت عينك، هذا أبو عبد الله خارج ويتركك والحجاز، ثم قال: يا لك من قنبرة بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقرى ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فابشري قال: وبعث الحسين إلى المدينة يقدم عليه من خف من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلا ونساء وصبيان من إخوته وبناته ونسائه، وتبعهم محمد بن الحنفية، فأدرك حسينا بمكة.
فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث أحدا منهم حتى وجد الحسين في نفسه على محمد، وقال: ترغب بولدك عن موضع أصاب فيه ؟ فقال: وما حاجتي إلى أن تصاب ويصابون معك ؟ وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم ؟ قالوا: وبعث أهل العراق إلى الحسين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج متوجها إليهم في أهل بيته (1) وستين شخصا من أهل الكوفة صحبته، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجة، فكتب مروان إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة.
وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، فإياك أن تهيج على نفسك مالا يسده شئ، ولا تنساه العامة، ولا تدع ذكره آخر الدهر والسلام.
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص: أما بعد فقد توجه إليك الحسين، وفي مثلها تعتق أو تكون عبدا تسترق كما يسترق العبيد، وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه.
قال: كتب يزيد إلى ابن زياد: إنه قد بلغني أن حسينا قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الازمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت أنت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبدا كما ترق العبيد وتعبد، فقتله ابن زياد وبعث برأسه إليه.
قلت: والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام كما سيأتي، وفي رواية أن يزيد كتب
__________
(1) في ابن الاعثم 5 / 120: ومعه اثنان وثمانون رجلا من شيعته وأهل بيته.

إلى ابن زياد: قد بلغني أن الحسين قد توجه إلى نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس واحبس على الظنة وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من خير والسلام.
قال الزبير بن بكار: وحدثني محمد بن الضحاك قال: لما أراد الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة مر بباب المسجد الحرام وقال: لاذعرت السوام في فلق الصبح * مغيرا ولا دعيت يزيدا يوم أعطي مخافة الموت ضيما * والمنايا ترصدنني أن أحيدا وقال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي خيثمة عن عدي بن حرملة الاسدي عن عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الاسديين قالا: خرجنا حاجين من الكوفة فقدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين وابن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الامر فوازرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك ؟.
فقال الحسين: إن أبي حدثني أن لها كبشا يستحل حرمتها يقتل، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش.
فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وولني أنا الامر فتطاع ولا تعصى، فقال: وما أريد هذا أيضا، ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاة الناس متوجهين إلى منى عند الظهيرة، قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصر من شعره، وحل من عمرته، ثم توجه نحو الكوفة وتوجهنا نحن مع الناس إلى منى.
وقال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان.
قال: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل (1) عمرو بن سعيد - يعني نائب مكة - عليهم أخوه يحيى بن سعيد،
فقالوا له: انصرف أين تريد ؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط والعصي، ثم إن حسينا وأصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويا، ومضى الحسين على وجهه ذلك، فناداه: يا حسين ألا تتقي الله ؟ تخرج من الجماعة وتفرق بين الامة بعد اجتماع الكلمة ؟ قال: فتأول الحسين هذه الآية * (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل أنا برئ مما تعملون) * [ يونس: 41 ].
قال: ثم إن الحسين مر بالتنعيم (2) فلقي بها عيرا قد بعث بها بجير بن زياد (3) الحميري
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 244: صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص.
(2) التنعيم: مكان بين مكة والمدينة بالقرب من مكة.
(3) في الطبري 6 / 218 والكامل 4 / 40: ريسان الحميري.

نائب اليمن قد أرسلها من اليمن إلى يزيد بن معاوية، عليها ورس (1) وحلل كثيرة، فأخذها الحسين وانطلق بها، واستأجر أصحاب الجمال عليها إلى الكوفة، ودفع إليهم أجرتهم، ثم ساق أبو مخنف باسناده الاول أن الفرزدق لقي الحسين في الطريق (2) فسلم عليه وقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب.
فسأله الحسين عن أمر الناس وما وراءه فقال له: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.
فقال له: صدقت، لله الامر من قبل ومن بعد، يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه.
وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته، ثم حرك الحسين راحلته وقال: السلام عليكم ثم افترقا.
وقال هشام بن الكلبي عن عوانة بن الحكم عن ليطة بن غالب بن الفرزدق عن أبيه.
قال: حججت بأمي فبينما أنا أسوق بها بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج، وذلك في سنة ستين، إذ لقيت الحسين خرجا من مكة معه أسيافه وأتراسه، فقلت له: بأبي وأمي يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحج ؟ فقال: لو لم أعجل لاخذت، ثم سألني: ممن أنت ؟ فقلت: امرؤ من العراق،
فسألني عن الناس فقلت له: القلوب معك والسيوف مع بني أمية، وذكر نحو ما تقدم.
قال الفرزدق: وسألت الحسين عن أشياء وعن المناسك فأخبرني بها، قال: وإذا هو ثقيل اللسان من برسام (3) كان أصابه بمن بالعراق.
قال: ثم مضيت فإذا فسطاط مضروب في الحرم وهيئة حسنة، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني فأخبرته أني لقيت الحسين، قال: فهلا اتبعته ؟ فإن الحسين لا يحيك فيه السلاح ولا يجوز فيه وفي أصحابه.
فندم الفرزدق وهم أنه يلحق به، ووقع في قلبه مقالة ابن عمرو، ثم ذكرت الانبياء وقتلهم فصدني ذلك عن اللحاق به، فلما بلغه أنه قتل لعن ابن عمرو، وكان ابن عمرو يقول: والله لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يبلغ هذا الامر ويظهر، وإنما أراد ابن عمرو بقوله: لا يحيك فيه السلاح، أي السلاح الذي لم يقدر أن يقتل به، وقيل غير ذلك وقيل أراد الهزل بالفرزدق.
قالوا: ثم سار الحسين لا يلوي على شئ حتى نزل ذات عرق (4).
__________
(1) ورس: بنت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه، وفي الاخبار الطوال ص: 245: ورس وحناء.
(2) في الاخبار الطوال ص 245 والطبري 6 / 218 لقيه بالصفاح، وهو موضع بين حنين وأنصاب الحرم يسرة الداخل إلى مكة، وصفاح نعمان جبال بين مكة والطائف وفي ابن الاعثم 5 / 124 لقيه بالشقوق، وهو منزل بطريق مكة بعد واقصة من الكوفة (معجم البلدان) وقال الفرزدق: لقيت الحسين بأرض الصفاح * عليه اليلامق والدرق (3) البرسام: علة يهذي فيها.
(4) ذات عرق: مهل أهل العراق وهو الحد بين نجد وتهامة، وقيل عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق (معجم البلدان).

قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن علي بن الحسين بن علي.
قال: لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر إلى الحسين مع ابنه عون ومحمد: أما بعد فإني أسائلك بالله لما انصرفت حتى تنظر في كتابي هذا، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه
هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الاسلام (1)، فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي والسلام (2).
ثم نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد نائب مكة فقال له: اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الامان، وتمنيه في البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع.
فقال له عمرو: اكتب عني ما شئت وأتني به حتى أختمه.
فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد ما أراد عبد الله، ثم جاء بالكتاب إلى عمرو فختمه بخاتمه، وقال عبد الله لعمرو بن سعيد: ابعث معي أمانك، فبعث معه أخاه يحيى، فانصرفا حتى لحقا الحسين فقرآ عليه الكتاب فأبى أن يرجع وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أمرني فيها بأمر وأنا ماض له، فقالا: وما تلك الرؤيا ؟ فقال: لا أحدث بها أحدا حتى ألقى ربي عز وجل.
قال أبو مخنف: وحدثني محمد بن قيس أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن ذي الرمة (3)، بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الاجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا (4) أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال: وكان كتاب مسلم قد وصل إليه قبل أن يقتل سبع وعشرين ليلة، ومضمونه: أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي هذا والسلام عليكم.
قال: وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي بكتاب الحسين إلى الكوفة، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد فقال له ابن زياد: اصعد إلى أعلا القصر فسب الكذاب ابن الكذاب علي بن أبي طالب وابنه الحسين، فصعد فحمد الله وأثنى عليه
__________
(1) في الطبري 6 / 219 وابن الاعثم 5 / 115: نور الارض.
(2) في ابن الاعثم: فإني آخذ لك الآمان من يزيد وجميع بني أمية على نفسك ومالك وولدك وأهل بيتك والسلام.
(3) قاع عظيم بنجد تصب فيه جماعة أودية.
(4) في الطبري 6 / 225: فاكمشوا، وانظر نسخة أخرى للكتاب في الاخبار الطوال ص 245.

ثم قال: أيها الناس ! إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة، فأجيبوه واسمعوا له وأطيعوا.
ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي والحسين.
فأمر به ابن زياد فألقي من رأس القصر فتقطع، ويقال بل تكسرت عظامه وبقي فيه بقية رمق، فقام إليه عبد الملك بن عمير البجلي فذبحه، وقال: إنما أردت إراحته من الالم، وقيل إنه رجل يشبه عبد الملك بن عمير وليس به، وفي رواية أن الذي قدم بكتاب الحسين إنما هو عبد الله بن بقطر أخو الحسين من الرضاعة، فألقي من أعلى القصر.
والله أعلم.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشئ مما وقع من الاخبار.
قال أبو مخنف عن أبي علي الانصاري عن بكر بن مصعب المزني.
قال: وكان الحسين لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه، قال قال أبو مخنف عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمنذر (1) بن المشمعل الاسديين قالا: لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين، فأدركناه وقد مر برجل من بني أسد (2) فهم الحسين أن يكلمه ويسأله ثم ترك، فجئنا ذلك الرجل فسألناه عن أخبار الناس فقال: والله لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق.
قالا: فلحقنا الحسين فأخبرناه فجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون مرارا.
فقلنا له الله الله في نفسك.
فقال: لا خير في العيش بعدهما.
قلنا: خار الله لك.
وقال له بعض أصحابه: والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قد قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.
وقال غيرهما: لما سمع أصحاب الحسين بمقتل مسلم بن عقيل، وثب عند ذلك بنو
عقيل بن أبي طالب وقالوا: لا والله لا ترجع حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا.
فسار الحسين حتى إذا كان بزرود (3) بلغه أيضا مقتل الذي بعثه بكتابه إلى أهل الكوفة بعد أن خرج من مكة ووصل إلى حاجر، فقال: خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه، وليس عليه منا ذمام، قال: فتفرق الناس عنه أيادي سبأ يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لانه ظن أن من اتبعه من الاعراب إنما اتبعوه لانه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على م يقدمون، وقد علم أنه إذا بين لهم الامر لم يصحبه إلا من يريد مواساته في الموت معه.
قال: فلما كان السحر
__________
(1) في الطبري 6 / 224: المذرى.
(2) في الطبري: هو بكير بن المثعبة.
وذكر ابن الاعثم رواية لقائه برجل من بني أسد في ذات عرق واسمه بشر بن غالب، وهو غير معروف، وأخبر الحسين أخبار أهل العراق والكوفة ولم يأت على ذكر مقتل مسلم وهانئ.
(5 / 120) وفي الاخبار الطوال ص 247 أن الحسين لقي رجلا من بني أسد وأخبره بمقتل مسلم بعد رحيله من زرود.
(3) زرود: موضع بطريق مكة بعد الرمل.

أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه، ثم سار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها.
وقال محمد بن سعد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جعفر بن سليمان، عن يزيد الرشك قال: حدثني من شافه الحسين قال: رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الارض فقلت: لمن هذه ؟ قالوا: هذه لحسين قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته، قال قلت: بأبي وأمي يا بن بنت رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد ؟ فقال: هذه كتب أهل الكوفة إلي ولا أراهم إلا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الامة - يعني مقنعتها - وأخبرنا علي بن محمد عن الحسن بن دينار عن معاوية بن قرة.
قال: قال الحسين: والله لتعتدن علي كما اعتدت بنو
إسرائيل في السبت.
وحدثنا علي بن محمد عن جعفر بن سليمان الضبعي.
قال قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الامة.
فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا سفيان، ثنا شهاب بن حراش، عن رجل من قومه.
قال: كنت في الجيش الذى بعثهم ابن زياد إلى الحسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون قتال الديلم، فعينهم ابن زياد وصرفهم إلى قتال الحسين، فلقيت حسينا فرأيته أسود الرأس واللحية، فقلت له: السلام عليك أبا عبد الله، فقال: وعليك السلام - وكانت فيه غنة - فقال: لقد باتت فيكم سللة منذ الليلة - يعني سراقا - قال شهاب: فحدثت به زيد بن علي فأعجبه وكانت فيه غنة - قال سفيان بن عيينة: وهي في الحسينيين.
قال أبو مخنف عن أبي خالد الكاهلي.
قال: لما صبحت الخيل الحسين بن علي رفع يديه فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثقة وعدة، فكم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك، رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني حجاج بن محمد عن أبي معشر عن بعض مشيخته.
قال قال الحسين حين نزلوا كربلاء: ما اسم هذه الارض ؟ قالوا كربلاء، قال: كرب وبلاء.
وبعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم، فقال له الحسين: يا عمر اختبرني إحدى ثلاث خصال، إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم في ما رأى، فإن أبيت هذه فسيرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت.
فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهم أن يسيره إلى يزيد، فقال شمر بن ذي الجوشن: لا ! إلا أن ينزل على حكمك، فأرسل إلى الحسين بذلك فقال الحسين: والله لا أفعل، وأبطأ عمر عن قتاله فأرسل ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وقال له: إن تقدم عمر فقاتل

وإلا فاقتله وكن مكانه، فقد وليتك الامرة.
وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلا من أعيان أهل الكوفة، فقالوا له: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئا ؟ فتحولوا مع الحسين يقاتلوا معه.
وقال أبو زرعة: حدثنا سعيد بن سليمان ثنا عباد بن العوام عن حصين.
قال: أدركت من مقتل الحسين قال: فحدثني سعد بن عبيدة قال: فرأيت الحسين وعليه جبة برود ورماه رجل يقال له عمرو بن خالد الطهوي بسهم، فنظرت إلى السهم معلقا بجبته.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمار الرازي حدثني سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، ثنا حصين أن الحسين بعث إليه أهل الكوفة: إن معك مائة ألف.
فبعث إليهم مسلم بن عقيل فذكر قصة مقتل مسلم كما تقدم.
قال حصين: فحدثني هلال بن يساف أن ابن زياد أمر الناس أن يأخذوا ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة حفظا فلا يدعون أحدا يلج ولا أحدا يخرج، وأقبل الحسين ولا يشعر بشئ حتى أتى (1) الاعراب فسألهم عن الناس فقالوا: والله لا ندري، غير أنك لا تستطيع أن تلج ولا تخرج، قال: فانطلق يسير نحو يزيد بن معاوية، فتلقته الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والاسلام، قال: وكان بعث إليه ابن زياد عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحصين بن نمير، فناشدهم الله والاسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فقالوا له: لا ! إلا أن تنزل على حكم ابن زياد، وكان في جملة من معهم الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل، فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم: ألا تتقون الله ؟ ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم، والله لو سألتكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوهم فأبوا إلا حكم ابن زياد ؟ فضرب الحر وجه فرسه وانطلق إلى الحسين، فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم ثم كر على أصحاب ابن زياد فقتل منهم رجلين ثم قتل رحمه الله.
وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجا فأقبل معه (2)، وخرج إليه ابن أبي مخرمة (3) المرادي ورجلان آخران، وهما عمرو بن الحجاج ومعن السلمي، وأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد وعليه جبة من برود، فلما كلمهم انصرف فرماه رجل من بني تميم يقال له عمرو الطهوي
بسهم بين كتفيه، فإني لانظر إلى السهم بين كتفيه متعلقا بجبته، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافه وإني لانظر إليهم وهم قريب من مائة رجل، فيهم لصلب علي خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سليم حليف لهم، ورجل من بني كنانة حليف لهم، وابن عم ابن زياد.
__________
(1) في الطبري: 6 / 222: لقي.
(2) ذكر في الاخبار الطوال ص 246 أنه لقي الحسين في زرود وكان حاجا أقبل من مكة يريد الكوفة فطلق امرأته وألحقها بأهلها وتبع الحسين ووطن نفسه على الموت معه.
(3) في الطبري 6 / 222: ابن أبي بحرية.

وقال حصين، حدثني سعد بن عبيدة قال: إنا لمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فساره فقال له: قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك.
قال: فوثب إلى فرسه فركبها ثم دعا بسلاحه فلبسه وإنه لعلى فرسه، ونهض بالناس إليهم فقاتلوهم فجئ برأس الحسين إلى ابن زياد فوضع بين يديه فجعل يقول بقضيبه في أنفه ويقول: إن أبا عبد الله كان قد شمط.
قال: وجئ بنسائه وبناته وأهله قال: وكان أحسن شئ صنعه أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل وأجرى عليهم رزقا، وأمر لهم بنفقة وكسوة.
قال: وانطلق غلامان منهم من أولاد عبد الله بن جعفر - أو ابن أبي جعفر - فأتيا رجلا من طئ فلجآ إليه مستجيران به، فضرب أعناقهما وجاء برأسيهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد، قال: فهم ابن زياد بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت.
قال: وحدثني مولى لمعاوية بن أبي سفيان قال: لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه رأيته يبكي ويقول: لو كان بين ابن زياد وبينه رحم ما فعل هذا - يعني ابن زياد - قال الحصين: ولما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.
قال أبو مخنف: حدثني لوذان، حدثني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين: أين تريد ؟ فحدثه، فقال له: أنشدك الله لما انصرفت راجعا، فوالله ما بين يديك من القوم أحد يذب عنك
ولا يقاتل معك، وإنما والله أنت قادم على الاسنة والسيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الاشياء، ثم قدمت عليهم بعد ذلك كان ذلك رأيا، فأما على هذه الصفة فإني لا أرى لك أن تفعل.
فقال له الحسين: إنه ليس بخفي علي ما قلت وما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره، ثم ارتحل قاصدا الكوفة.
وقال خالد بن العاص (1): رب مستنصح يغش ويردي * وظنين بالغيب يلقى نصيحا وقد حج بالناس في هذه السنة عمرو بن سعيد بن العاص وكان عامل المدينة ومكة ليزيد، وقد عزل يزيد عن إمرة المدينة الوليد بن عتبة وولاها عمرو بن سعيد بن العاص في شهر رمضان منها والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وستين استهلت هذه السنة والحسين بن علي سائر إلى الكوفة فيما بين مكة والعراق ومعه أصحابه وقراباته، فقتل في يوم عاشوراء من شهر المحرم من هذه السنة على المشهور الذي صححه الواقدي وغير واحد، وزعم بعضهم أنه قتل في صفر منها والاول أصح.
__________
(1) في الطبري 6 / 216: الحارث بن خالد بن العاص بن هشام.

وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب قال أبو مخنف عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذرى بن المشمعل الاسديين قالا: أقبل الحسين فلما نزل شرف (1) قال لغلمانه وقت السحر: استقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا إلى صدر النهار فسمع الحسين رجلا يكبر فقال له: مم كبرت ؟ فقال: رأيت النخيلة، فقال له الاسديان: إن هذا المكان لم ير أحد منه نخيلة، فقال الحسين: فماذا تريانه رأى ؟ فقالا: هذه الخيل قد أقبلت، فقال الحسين: أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد ؟ فقالا: بلى: ذو حسم (2).
فأخذ ذات اليسار
إليها فنزل، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي، وهم مقدمة الجيش الذين بعثهم ابن زياد، حتى وقفوا في مقابلته في نحو (3) الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يترووا من الماء ويسقوا خيولهم، وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضا.
وروى هو وغيره قالوا: لما دخل وقت الظهر أمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي فأذن ثم خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم في مجيئه هذا إلى ههنا، بأنه قد كتب إليه أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، وإن أنت قدمت علينا بايعناك وقاتلنا معك، ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحر: تريد أن تصلي بأصحابك ؟ قال لا ! ولكن صل أنت ونحن نصلي وراءك.
فصلى بهم الحسين، ثم دخل إلى خيمته واجتمع به أصحابه، وانصرف الحر إلى جيشه وكل على أهبته، فلما كان وقت العصر صلى بهم الحسين ثم انصرف فخطبهم وحثهم على السمع والطاعة له وخلع من عاداهم من الادعياء السائرين فيكم بالجور.
فقال له الحر: إنا لا ندري ما هذه الكتب، ولا من كتبها، فأحضر الحسين خرجين مملوءين كتبا فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة، فقال الحر: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك في شئ، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك، ثم قال الحسين لاصحابه: اركبوا ! فركبوا وركب النساء، فلما أراد الانصراف حال القوم بينه وبين الانصراف، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمك، ماذا تريد ؟ فقال له الحر: أما والله لو غيرك يقولها لي من العرب وهو على مثل الحال التي أنت عليها لاقتصن منه، ولما تركت أمه، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمك إلا بأحسن ما نقدر عليه، وتقاول
__________
(1) في الطبري 6 / 226: شراف، بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الاحساء التي لبني وهب ومن شراف إلى واقصة ميلان.
(معجم البلدان).
(2) ذو جشم: في الاخبار الطوال ص 248.
(3) في الطبري: حر الظهيرة.

القوم وتراجعوا فقال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد، فإذا أبيت فخذ طريقا لا يقدمك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، واكتب أنت إلى يزيد، وأكتب أنا إلى ابن زياد إن شئت، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشئ من أمرك.
قال: فأخذ الحسين يسارا عن طريق العذيب والقادسية (1)، والحر بن يزيد يسايره وهو يقول له: يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى.
فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني ؟ ولكن أقول كما قال أخو الاوس لابن عمه وقد لقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين تذهب فإنك مقتول ؟ فقال: سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق خوفا أن يعيش ويرغما (2) ويروى على صفة أخرى: سأمضي وما بالموت عار على امرئ * إذا ما نوى حقا ولم يلف مجرما فإن مت أندم وإن عشت لم ألم * كفى بك موتا أن تذل وترغما فلما سمع ذلك الحر منه تنحى عنه وجعل يسير بأصحابه ناحية عنه، فانتهوا إلى عذيب الهجانات (3) وإذا سفر أربعة - أي أربعة نفر - قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يخبون ويجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل قد أقبلوا من الكوفة يقصدون الحسين ودليلهم رجل يقال له الطرماح بن عدي راكب على فرس (4) وهو يقول: يا ناقتي لا تذعري من زجري * وشمري قبل طلوع الفجر بخير ركبان وخير سفر * حتى تحلي بكريم النجر الماجد الحر رحيب الصدر * أتى به الله لخير أمر ثمت أبقاه بقاء الدهر
__________
(1) العذيب: ماء لبني تميم على مرحلة من الكوفة، سمي بذلك لانه طرف أرض العرب.
بينه وبين القادسية أربعة أميال منه إلى مفازة القرون في طريق مكة.
والقادسية: قرية قرب الكوفة من جهة البرية.
(2) في الطبري 6 / 229: وفارق مثبورا يفش ويرغما وفي الكامل ج 4 / 49: وخالف مثبورا وفارق مجرما.
وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 140: وفارق مذموما وخالف مجرما.
(3) عذيب الهجانات: هو من منازل حاج الكوفة وقيل هو حد السواد (معجم البلدان).
(4) في ابن الاعثم: أن الحسين سأل طريقا غير الجادة، فقال الطرماح أنا فقال الحسين: إذا سر بين أيدينا...

فأراد الحر أن يحول بينهم وبين الحسين فمنعه الحسين من ذلك، فلما خلصوا إليه قال لهم: أخبروني عن الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العامري أحد النفر الاربعة: أما أشراف الناس فهم إلب عليك، لانهم قد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستميل بذلك ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلب واحد عليك، وأما سائر الناس فأفئدتهم تهوى إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك.
قال: لهم: فهل لكم برسولي علم ؟ قالوا: ومن رسولك ؟ قال: قيس بن مسهر الصيداوي.
قالوا: نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك فأمر به فألقي من رأس القصر فمات، فترقرقت عينا الحسين، وقرأ قوله تعالى: * (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) * الآية [ الاحزاب: 23 ].
ثم قال: اللهم اجعل منازلهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مدخور ثوابك.
ثم إن الطرماح بن عدي قال للحسين: أنظر فما معك ؟ لا أرى معك أحدا إلا هذه الشرذمة اليسيرة، وإني لارى هؤلاء القوم الذين يسايرونك أكفاء لمن معك، فكيف وظاهر الكوفة مملوء بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدونك، فأنشدك الله، إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبرا فافعل، فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الاسود والاحمر (1)، والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال من بأجأ وسلمى من طئ، ثم أقم معنا ما بدا لك، فأنا زعيم بعشرة (2) آلاف
طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف.
فقال له الحسين: جزاك الله خيرا، فلم يرجع عما هو بصدده، فودعه الطرماح، ومضى الحسين، فلما كان من الليل أمر فتيانه أن يستقوا من الماء كفايتهم، ثم سرى فنعس في مسيره حتى خفق برأسه، واستيقظ وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.
ثم قال: رأيت فارسا على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، فلما طلع الفجر صلى بأصحابه وعجل الركوب ثم تياسر في مسيره حتى انتهى إلى نينوى (3)، فإذا راكب (4) متنكب قوسا قد قدم من الكوفة، فسلم على الحر بن يزيد ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحر كتابا من ابن زياد ومضمونه: أن يعدل بالحسين في السير إلى العراق في غير قرية ولا
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 4 / 50: الاحمر والابيض.
(2) في الطبري والكامل: عشرين ألف.
(3) نينوى: (قال ابن الاعثم أو الغاضرية، وهي قرية من نواحي الكوفة قريبة من كربلاء) ونينوى: من سواد الكوفة، ناحية يقال لها نينوى ومنها كربلاء (معجم البلدان).
(4) ذكره الطبري: مالك بن النسير البدي.

حصن، حتى تأتيه رسله وجنوده، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين، فلما كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبي قاص في أربعة آلاف، وكان قد جهزه ابن زياد في هؤلاء إلى الديلم، وخيم بظاهر الكوفة، فلما قدم عليهم أمر الحسين قال له: سر إليه، فإذا فرغت منه فسر إلى الديلم، فاستعفاه عمر بن سعد من ذلك.
فقال له ابن زياد: إن شئت عفيتك وعزلتك عن ولاية هذه البلاد التي قد استنبتك عليها، فقال: حتى أنظر في أمري، فجعل لا يستشير أحدا إلا نهاه عن المسير إلى الحسين، حتى قال له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة: إياك أن تسير إلى الحسين فتعصى ربك وتقطع رحمك، فوالله لان تخرج من سلطان الارض كلها أحب إليك من أن تلقى الله بدم الحسين، فقال: إني أفعل إن شاء الله تعالى.
ثم إن عبيد الله بن زياد تهدده وتوعده
بالعزل والقتل، فسار إلى الحسين فنازله في المكان الذي ذكرنا، ثم بعث إلى الحسين الرسل (1): ما الذي أقدمك ؟ فقال كتب إلي أهل الكوفة أن أقدم عليهم، فإذ قد كرهوني فأنا راجع إلى مكة وأذركم.
فلما بلغ عمر بن سعد هذا قال: أرجو أن يعافيني الله من حربه، وكتب إلى ابن زياد بذلك (2)، فرد عليه ابن زياد: أن حل بينهم وبين الماء كما فعل بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، واعرض على الحسين أن يبايع هو ومن معه لامير المؤمنين يزيد بن معاوية، فإذا فعلوا ذلك رأينا رأينا، وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من الماء، وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج، فدعا عليهم بالعطش فمات هذا الرجل من شدة العطش.
ثم إن الحسين طلب من عمر بن سعد أن يجتمع به بين العسكرين، فجاء كل واحد منهما في نحو من عشرين فارسا، فتكلما طويلا حتى ذهب هزيع من الليل، ولم يدر أحد ما قالا، ولكن ظن بعض الناس أنه سأله أن يذهب معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين، فقال عمر إذا يهدم ابن زياد داري، فقال الحسين: أنا أبنيها لك أحسن مما كانت، قال: إذا يأخذ ضياعي، قال أنا أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز، قال: فتكره عمر بن سعد من ذلك.
وقال بعضهم: بل سأل منه إما أن يذهبا إلى يزيد، أو يتركه يرجع إلى الحجاز أو يذهب إلى بعض الثغور فيقاتل الترك، فكتب عمر إلى عبيد الله بذلك، فقال: نعم ! قد قبلت، فقام الشمر بن ذي الجوشن فقال: لا والله حتى ينزل على حكمك هو وأصحابه، ثم قال: والله لقد بلغني أن حسينا وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل، فقال له ابن زياد: فنعم ما رأيت.
وقد روى أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان.
قال: لقد
__________
(1) في الطبري 6 / 235: عزرة بن قيس، وفي ابن الاعثم 5 / 155: عروة بن قيس، وفي الاخبار الطوال ص 253 قرة بن سفيان الحنظلي.
(2) نسخة كتاب عمر بن سعد في الطبري 6 / 234.

صحبت الحسين من مكة إلى حين قتل، والله ما من كلمة قالها في موطن إلا وقد سمعتها، وإنه لم يسأل أن يذهب إلى يزيد فيضع يده إلى يده، ولا أن يذهب إلى ثغر من الثغور، ولكن طلب منهم أحد أمرين، إما أن يرجع من حيث جاء، وإما أن يدعوه يذهب في الارض العريضة حتى ينظر ما يصير أمر الناس إليه.
ثم إن عبيد الله بعث شمر بن ذي الجوشن فقال: اذهب فإن جاء الحسين وأصحابه على حكمي وإلا فمر عمر بن سعد أن يقاتلهم، فإن تباطأ عن ذلك فاضرب عنقه ثم أنت الامير على الناس.
وكتب إلى عمر بن سعد يتهدده على توانيه في قتال الحسين، وأمره إن لم يجئ الحسين إليه أن يقاتله ومن معه، فإنهم مشاقون.
فاستأمن عبيد الله (1) بن أبي المحل لبني عمته أم البنين بنت حزام من علي: وهم العباس وعبد الله وجعفر وعثمان.
فكتب لهم ابن زياد كتاب أمان وبعثه عبيد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له كرمان، فلما بلغهم ذلك قالوا: أما أمان ابن سمية.
فلا نريده، وإنا لنرجو أمانا خيرا من أمان ابن سمية.
ولما قدم شمر بن ذي الجوشن على عمر بن سعد بكتاب عبيد الله بن زياد، قال عمر: أبعد الله دارك، وقبح ما جئت به، والله إني لاظنك الذي صرفته عن الذي عرضت عليه من الامور الثلاثة التي طلبها الحسين، فقال له شمر: فأخبرني ما أنت صانع ؟ أتقاتلهم أنت أو تاركي وإياهم ؟ فقال له عمر: لا ولا كرامة لك ! أنا أتولى ذلك، وجعله على الرجالة ونهضوا إليهم عشية يوم الخميس التاسع من المحرم، فقام شمر بن ذي الجوشن فقال: أين بنو أختنا ؟ فقام إليه العباس وعبد الله، وجعفر وعثمان بنو علي بن أبي طالب، فقال: أنتم آمنون.
فقالوا: إن أمنتنا وابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا حاجة لنا بأمانك.
قال: ثم نادى عمر بن سعد في الجيش: يا خيل الله اركبي وابشري، فركبوا وزحفوا إليهم بعد صلاة العصر من يومئذ، هذا وحسين جالس أمام خيمته محتبيا بسيفه، ونعس فخفق برأسه وسمعت أخته الضجة فدنت منه فأيقظته، فرجع برأسه كما هو، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: " إنك تروح إلينا " فلطمت وجهها وقالت: يا ويلتنا.
فقال: ليس لك الويل يا أخته: اسكتي رحمك الرحمن، وقال له أخوه العباس بن علي: يا أخي جاءك القوم، فقال: اذهب إليهم فسلهم ما بدا لهم، فذهب إليهم في نحو من عشرين (2) فارسا
فقال: مالكم ؟ فقالوا جاء أمر الامير إما أن تأتوا على حكمه وإما أن نقاتلكم.
فقال: مكانكم حتى أذهب إلى أبي عبد الله فأعلمه، فرجع ووقف أصحابه فجعلوا يتراجعون القول ويؤنب بعضهم بعضا، يقول أصحاب الحسين: بئس القوم، أنتم تريدون قتل ذرية نبيكم وخيار الناس في زمانهم ؟ ثم رجع العباس بن علي من عند الحسين إليهم فقال لهم: يقول لكم أبو عبد الله: انصرفوا عشيتكم هذه حتى ينظر في أمره الليلة، فقال عمر بن سعد لشمر بن ذي الجوشن: ما
__________
(1) في الطبري 6 / 236: عبد الله (وانظر فتوح ابن الاعثم 5 / 166 وابن الاثير في الكامل 4 / 56).
(2) في ابن الاعثم 5 / 176: ومعه عشرة فوارس.

تقول ؟ فقال: أنت الامير والرأي رأيك، فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله ! والله لو سألكم ذلك رجل من الديلم لكان يبنغي إجباته.
وقال قيس بن الاشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، وهكذا جرى الامر، فإن الحسين لما رجع العباس قال له: ارجع فارددهم هذه العشية لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ونستغفره وندعوه، فقد علم الله مني أني أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، والاستغفار والدعاء.
وأوصى الحسين في هذه الليلة إلى أهله، وخطب أصحابه في أول الليل فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على رسوله بعبارة فصيحة بليغة، وقال لاصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له فإن القوم إنما يريدونني.
فقال مالك بن النضر: علي دين ولي عيال، فقال هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه حجلا، ليأخذ كل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم اذهبوا في بسيط الارض في سواد هذا الليل إلى بلادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يريدونني، فلو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري، فاذهبوا حتى يفرج الله عز وجل.
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا فيك ما نكره، فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: فما تقول الناس إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، رغبة في الحياة الدنيا، لا والله لا نفعل، ولكن
نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك.
فقبح الله العيش بعدك.
وقال نحو ذلك مسلم بن عوسجة الاسدي، وكذلك قال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، والله لو علمت أني أقاتل دونك ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك، لاحببت ذلك، وإنما هي قتلة واحدة.
وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا من وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، وأنفسنا الفداء لك، نقيك بنحورنا وجباهنا، وأيدينا وأبداننا، فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا.
وقال أخوه العباس: لا أرانا الله يوم فقدك ولا حاجة لنا في الحياة بعدك.
وتتابع أصحابه على ذلك.
وقال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب وأبو الضحاك عن علي بن الحسين زين العابدين.
قال: إني لجالس تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني إذا اعتزل أبي في خبائه ومعه أصحابه، وعنده حوي مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول: يا دهر أف لك من خليل * كم لك بالاشراق والاصيل من صاحب أو طالب قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الامر إلى الجليل * وكل حي سالك السبيل

فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى حفظتها وفهمت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل، وأما عمتي فقامت حاسرة حتى انتهت إليه فقالت: واثكلاه ! ! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة وعلي أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي فنظر إليها وقال: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان، فقالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، استقتلت ؟ ولطمت وجهها وشقت جيبها وخرت مغشيا عليها، فقام إليها فصب على وجهها الماء وقال يا أخية: اتق الله واصبري وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل
الارض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شئ هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويميتهم بقهره وعزته، ويعيدهم فيعبدونه وحده، وهو فرد وحده، واعلمي أن أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة حسنة، ثم حرج عليها أن لا تفعل شيئا من هذا بعد مهلكه، ثم أخذ بيدها فردها إلى عندي، ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يدنوا بيوتهم بعضا من بعض حتى تدخل الاطناب بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصا إليهم إلا من جهة واحدة، وتكون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن ورائهم، وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، عليها عزرة بن قيس (1) الاحمسي والحسين يقرأ * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين.
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * الآية [ آل عمران: 178 ] فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرس من أصحاب ابن زياد فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون ميزنا الله منكم.
قال فعرفته فقلت لزيد (2) بن حضير: أتدري من هذا ؟ قال: لا ! فقلت هذا أبو حرب السبيعي عبيد الله بن شمير (3) - وكان مضحاكا بطالا - وكان شريفا شجاعا فاتكا، وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في خبائه.
فقال له يزيد بن حصين (2): يا فاسق متى كنت من الطيبين ؟ فقال: من أنت ويلك ؟ قال: أنا يزيد (2) بن حصين.
قال: إنا لله ! هلكت والله عدو الله ! على م يريد قتلك ؟ قال فقلت له: يا أبا حرب هل لك أن تتوب من ذنوبك العظام ؟ فوالله إنا لنحن الطيبون وإنكم لانتم الخبيثون.
قال: نعم وأنا على ذلك من الشاهدين.
قال: ويحك أفلا ينفعك معرفتك ؟ قال فانتهره عزرة بن قيس أمير السرية التي تحرسنا فانصرف عنا، قالوا: فلما صلى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة وقيل يوم السبت - وكان يوم عاشوراء - انتصب للقتال، وصلى الحسين أيضا بأصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، ثم انصرف
__________
(1) في ابن الاعثم: عروة بن قيس.
(2) كذا بالاصل، وفي الطبري 6 / 240 بريد بن حضير.
(3) في الطبري: عبد الله بن شهر.

فصفهم فجعل على ميمنته زهير بن القين، وعلى الميسرة حبيب بن المطهر (1)، وأعطي رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم، وقد أمر الحسين من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقا وقذفوا فيه حطبا وخشبا وقصبا، ثم أضرمت فيه النار لئلا يخلص أحد إلى بيوتهم من ورائها.
وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن - واسم ذي الجوشن شرحبيل بن الاعور بن عمرو بن معاوية من بني الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الاحمسي، وعلى الرجالة شبيث (2) بن ربعي، وأعطى الراية لوردان (3) مولاه، وتواقف الناس في ذلك الموضع، فعدل الحسين إلى خيمة قد نصبت فاغتسل فيها وانطلى بالنورة وتطيب بمسك كثير، ودخل بعده بعض الامراء ففعلوا كما فعل، فقال بعضهم لبعض: ما هذا في هذه الساعة ؟ فقال بعضهم: دعنا منك، والله ما هذه بساعة باطل، فقال يزيد بن حصين (4): والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاحقون (5)، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا.
ثم ركب الحسين على فرسه وأخذ مصحفا فوضعه بين يديه، ثم استقبل القوم رافعا يديه يدعو بما تقدم ذكره: اللهم أنت ثقتي في كل كرب: ورجائي في كل شدة، إلى آخره.
وركب ابنه علي بن الحسين - وكان ضعيفا مريضا - فرسا يقال له الاحمق (6) ونادى الحسين أيها الناس: اسمعوا مني نصيحة أقولها لكم، فأنصت الناس كلهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن قبلتم مني وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني * (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون.
إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) * [ يونس: 71 ].
فلما سمع ذلك أخواته وبناته ارتفعت أصواتهن بالبكاء فقال عند ذلك: لا يبعد الله ابن عباس.
- يعني حين أشار عليه أن لا يخرج بالنساء معه ويدعهن بمكة إلى أن ينتظم الامر - ثم بعث
أخاه العباس فسكتهن، ثم شرع يذكر للناس فضله وعظمة نسبه وعلو قدره وشرفه، ويقول: راجعوا أنفسكم وحاسبوها.
هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نبيكم، وليس على وجه الارض ابن بنت نبي غيري ؟ وعلي أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي، وحمزة سيد الشهداء عم أبي ؟ وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاخي: " هذان سيدا شباب أهل الجنة " (7).
فإن صدقتموني بما
__________
(1) في الطبري: مظاهر، وفي الاخبار الطوال ص 256: مظهر.
(2) في الطبري: شبث بن ربعي.
(3) في الطبري: ذويد، وفي الاخبار الطوال: زيد.
(4) انظر هامش 2 ص 192.
(5) في الطبري: لاقون.
(6) في الطبري: لاحق.
(7) تقدم تخريجه.

أقول فهو الحق، فوالله ما تعمدت كذبة منذ علمت أن الله يمقت علي الكذب، وإلا فاسألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، جابر بن عبد الله، وأبا سعيد، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم بذلك، ويحكم ! أما تتقون الله ؟ أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟.
فقال عند ذلك شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف: إن كنت أدري ما يقول ؟ فقال له حبيب بن مطهر (1): والله يا شمر إنك لتعبد الله على سبعين حرفا، وأما نحن فوالله إنا لندري ما يقول: وإنه قد طبع على قلبك.
ثم قال: أيها الناس ذروني (2) أرجع إلى مأمني من الارض، فقالوا: وما يمنعك أن تنزل على حكم بني عمك ؟ فقال: معاذ الله * (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * [ غافر: 27 ] ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها ثم قال: أخبروني أتطلبوني بقتيل لكم قتلته ؟ أو مال لكم أكلته ؟ أو بقصاصة من جراحة ؟ قال: فأخذوا لا يكلمونه.
قال: فنادى يا شبيث (3) بن ربعي، يا حجار بن أبجر،
يا قيس بن الاشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أنه قد أينعت الثمار واخضر الجناب، فأقدم علينا فإنك إنما تقدم على جند مجندة ؟ فقالوا له: لم نفعل.
فقال: سبحان الله ! والله لقد فعلتم، ثم قال: يا أيها الناس ! إذ قد كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم، فقال له قيس بن الاشعث: ألا تنزل على حكم بني عمك فانهم لو يؤذوك، ولا ترى منهم إلا ما تحب ؟ فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن تطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لهم إقرار العبيد.
قال: وأقبلوا يزحفون نحوه وقد تحيز إلى جيش الحسين من أولئك طائفة قريب من ثلاثين فارسا فيما قيل، منهم الحر بن يزيد أمير مقدمة جيش ابن زياد، فاعتذر إلى الحسين مما كان منهم، قال: ولو أعلم أنهم على هذه النية لسرت معك إلى يزيد، فقبل منه الحسين، ثم تقدم بين يدي أصحاب الحسين فخاطب عمر بن سعد فقال: ويحكم ألا تقبلون من ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعرض عليكم من الخصال الثلاث واحدة منها ؟ فقال: لو كان ذلك إلي قبلت.
قال: وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية، عبيد الله بن زياد، فإنكم لم
__________
(1) كذا بالاصل، وفي الطبري مظاهر، وفي الكامل: مظهر.
(2) في الطبري: إذ كرهتموني فدعوني انصرف إلى...(3) في المراجع، وهو الصواب، شبث.

تدركوا منهما إلا سوء عموم سلطانهما، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.
قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد ودعوا له، وقالوا: لا ننزع حتى نقتل صاحبك ومن معه.
فقال لهم: إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن أنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، نذهب حيث شاء، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.
قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال له: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك، فقال له زهير: يا بن البوال على عقبيه، ما إياك أخاطب ؟ إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الاليم.
فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك بعد ساعة، فقال له زهير: أبالموت تخوفني ؟ فو الله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم.
ثم إن زهيرا أقبل على الناس رافعا صوته يقول: عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا ينال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم قوم أهرقوا دماء ذريته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم.
وقال الحر بن يزيد لعمر بن سعد: أصلحك الله ! أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الايدي، وكان الحر من أشجع أهل الكوفة، فلامه بعض أصحابه على الذهاب إلى الحسين، فقال له: والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرقت.
ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فاعتذر إليه بما تقدم، ثم قال: يا أهل الكوفة لامكم الهبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم العطش ؟ بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الاكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فحملت عليه رجالة لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين.
وقال لهم عمر بن سعد: لو كان الامر لي لاحببت الحسين إلى ما طلب ولكن أبى علي عبيد الله بن زياد، وقد خاطب أهل الكوفة وأنبهم ووبخهم وسبهم، فقال لهم الحر بن يزيد: ويحكم منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الذي
يشرب منه اليهود والنصارى ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهو كالاسير في أيديكم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
قال فتقدم عمر بن سعد وقال لمولاه: يا دريد (1) أدن رايتك، فأدناها ثم شمر عن ساعده ورمى بسهم وقال: أشهدوا أني أول من رمى القوم، قال: فترامى الناس بالنبال، وخرج يسار
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 256: زيد.
وفي الطبري: زويد.

مولى زياد (1) وسالم مولى عبيد الله، فقالا: من يبارز ؟ فبرز لهما عبيد الله بن عمر (2) الكلبي بعد استئذانه الحسين فقتل يسارا أولا ثم قتل سالما بعده، وقد ضربه سالم ضربة أطار أصابع يده اليسرى، وحمل رجل يقال له عبد الله بن حوزة حتى وقف بين يدي الحسين فقال له: يا حسين أبشر بالنار ! فقال له الحسين: كلا ويحك إني أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، بل أنت أولى بالنار.
قالوا: فانصرف فوقصته فرسه فسقط وتعلقت قدمه بالركاب، وكان الحسين قد سأل عنه فقال: أنا ابن حوزة، فرفع الحسين يده وقال: اللهم حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأراد أن يقحم عليه الفرس وبينه وبينه نهر، فحالت به الفرس فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب، وشد عليه مسلم بن عوسجة فضربه فأطار رجله اليمنى، وغارت به فرسه فلم يبق حجر يمر به إلا ضربه في رأسه حتى مات.
وروى أبو مخنف عن أبي جناب قال: كان منا رجل يدعى عبد الله بن نمير (2) من بني عليم، كان قد نزل الكوفة واتخذ دارا عند بئر الجعد من همدان، وكانت معه امرأة له من النمر بن قاسط، فرأى الناس يتهيئون للخروج إلى قتال الحسين، فقال: والله لقد كنت على قتال أهل الشرك حريصا، وإني لارجو أن يكون جهادي مع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء أفضل من جهاد المشركين، وأيسر ثوابا عند الله، فدخل إلى امرأته فإخبرها بما هو عازم عليه، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك.
قال: فخرج بها ليلا حتى أتى الحسين، ثم ذكر قصة رمي عمر بن سعد بالسهم، وقصة قتله يسار مولى زياد، وسالم مولى ابن زياد، وأن
عبد الله بن عمير استأذن الحسين في الخروج إليهما فنظر إليه الحسين، فرأى رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فقال الحسين: إني لاحسبه للاقران قتالا، اخرج إن شئت، فخرج فقالا له: من أنت ؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك إلا هو خير منكما، ثم شد على يسار فكان كأمس الذاهب، فإنه لمشتغل به إذ حمل عليه سالم مولى ابن زياد فصاح به صائح قد رهقك العبد، قال: فلم ينتبه حتى غشيته فضربه على يده اليسرى فأطار أصابعه، ثم مال على الكلبي فضربه حتى قتله وأقبل يرتجز ويقول: إن تنكراني فأنا ابن كلب * نسبي بيتي في عليم حسبي (3) إني امرؤ ذو مروءة وغضب * ولست بالخوار عند الكرب (4)
__________
(1) أي زياد بن أبي سفيان.
(2) في الطبري 6 / 445 والكامل 4 / 65: عمير من بني عليم، وفي ابن الاعثم 5 / 189: وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي.
(3) في الطبري: إن تنكروني فأنا ابن كلب حسبي...وفي المقتل لابي مخنف: إن تنكروني فأنا ابن الكلب * عبل الذراعين شديد الضرب.
(4) في الطبري: ذو مرة وعصب...عند النكب.

إني زعيم لك أم وهب * بالطعن فيهم مقدما والضرب * ضرب غلام مؤمن بالرب * فأخذت أم وهب عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فداؤك أبي وأمي، قاتل دون الطبين، ذرية محمد عليه السلام، فأقبل إليها يردها نحو النساء فأقبلت تجاذبه ثوبه، قالت: دعني أكون معك، فناداها الحسين: انصرفي إلى النساء فاجلسي معهن فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن.
قال: وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين والنصر في ذلك لاصحاب الحسين لقوة بأسهم،
وأنهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم، فأشار بعض الامراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة، وحمل عمرو بن الحجاج أمير ميمنة جيش ابن زياد.
وجعل يقول: قاتلوا من مرق من الدين وفارق الجماعة (1).
فقال له الحسين: ويحك يا حجاج أعلي تحرض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه ؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار.
وقد قتل في هذه الحملة مسلم بن عوسجة (2)، وكان أول من قتل من أصحاب الحسين فمشى إليه الحسين فترحم عليه، وهو على آخر رمق، وقال له حبيب بن مطهر: ابشر بالجنة، فقال له بصوت ضعيف: بشرك الله بالخير، ثم قال له حبيب: لولا أني أعلم أني على أثرك لاحقك لكنت أقضي ما توصي به، فقال له مسلم بن عوسجة: أوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين - إلى أن تموت دونه.
قالوا: ثم حمل شمر بن ذي الجوشن بالميسرة وقصدوا نحو الحسين فدافعت عنه الفرسان من أصحابه دفاعا عظيما، وكافحوا دونه مكافحة بليغة، فأرسلوا يطلبون من عمر بن سعد طائفة من الرماة الرجالة، فبعث إليهم نحوا من خمسمائة، فجعلوا يرمون خيول أصحاب الحسين فعقروها كلها حتى بقي جميعهم رجالة، ولما عقروا جواد الحر بن يزيد نزل عنه وفي يده السيف كأنه ليث وهو يقول: إن تعقروا بي فأنا ابن الحر (3) * أشجع من ذي لبد هزبر ويقال إن عمر بن سعد أمر بتقويض تلك الابنية التي تمنع من القتال من أتى ناحيتها، فجعل أصحاب الحسين يقتلون من يتعاطى ذلك، فأمر بتحريقها فقال الحسين: دعوهم يحرقونها فإنهم لا يستطيعون أن يجوزوا منها وقد أحرقت وجاء شمر بن ذي الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه - يعني الفسطاط - وقال: إيتوني بالنار لاحرقه على من فيه، فصاحت النسوة
__________
(1) في الطبري والكامل: الامام.
(2) قتله: مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي.
(3) في ابن الاعثم: إن تنكروني فأنا ابن الحر.
وفي المقتل: إن تعقروا مهري فإني الحر.

وخرجن منه، فقال له الحسين: أحرقك الله بالنار.
وجاء شبيث (1) بن ربعي إلى شمر قبحه الله فقال له: ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا، أتريد أن ترعب النساء ؟ فاستحيى وهم بالرجوع وقال حميد بن مسلم: قلت لشمر سبحان الله ! ! إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين ؟ تعذب بعذاب الله وتقتل الولدان والنساء ؟ والله إن في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك.
قال فقال لي: من أنت ؟ قلت: لا أخبرك من أنا - وخشيت أني إن أخبرته فعرفني أن يسوءني عند السلطان - وشهد زهير بن القين في رجال (2) من أصحاب الحسين على شمر بن ذي الجوشن فأزالوه عن موقفه، وقتلوا أبا عزة الضبابي - وكان من أصحاب شمر - وكان الرجل من أصحاب الحسين إذا قتل بان فيهم الخلل، وإذا قتل من أصحاب ابن زياد الجماعة الكثيرة لم يتبين ذلك فيهم لكثرتهم، ودخل عليهم وقت الظهر فقال الحسين: مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلي، فقال رجل من أهل الكوفة: إنها لا تقبل منكم، فقال له حبيب بن مطهر: ويحك ! ! أتقبل منكم ولا تقبل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وقاتل حبيب قتالا شديدا حتى قتل رجلا يقال له بديل بن صريم من بني عقفان وجعل يقول: أنا حبيب وأبي مطهر * فارس هيجاء وحرب مسعر (3) أنتم أوفر عدة وأكثر (4) * ونحن أوفى منكم وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر * حقا وأبقى منكم وأطهر (5) ثم حمل على حبيب هذا رجل من بني تميم فطعنه فوقع، ثم ذهب ليقوم فضربه الحصين بن ؟ ؟ ير على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه وحمله إلى ابن زياد، فرأى ابن حبيب رأس أبيه فعرفه فقال لحامله: اعطني رأس أبي حتى أدفنه، ثم بكى.
قال: فمكث الغلام إلى أن بلغ أشده ثم لم تكن له همة إلا قتل قاتل أبيه، قال: فلما كان زمن مصعب بن عمير دخل الغلام عسكر مصعب (6) فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فدخل عليه وهو قائل فضربه بسيفه حتى برد.
وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن قيس قال: لما قتل حبيب بن مطهر هد ذلك الحسين،
__________
(1) كذا بالاصل، وفي المراجع شبث.
(2) في الطبري 6 / 251: في عشرة من أصحابه.
(3) في الطبري: مظاهر بدل مطهر، وتسعر بدل مسعر.
وفي المقتل: وليث قسور.
(4) في الطبري: أعد عدة وأكثر.
(5) في الطبري: حقا وأتقى منكم واعذر.
(6) وكان ذلك عندما غزا مصعب باجميرا واسم ابن حبيب القاسم بن حبيب.

وقال عند ذلك: أحتسب نفسي، وأخذ الحر يرتجز ويقول للحسين: آليت لا تقتل حتى أقتلا * ولن أصاب اليوم إلا مقبلا أضربهم بالسيف ضربا مقصلا * لانا كلا عنهم ولا مهملا (1) ثم قاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا فكان إذا شد أحدهما حتى استلحم شد الآخر حتى يخلصه، فعلا ذلك ساعة، ثم إن رجالا شدوا على الحر بن يزيد فقتلوه، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوا له، ثم صلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالا شديدا ودافع عن الحسين صناديد أصحابه، وقاتل زهير بن القين بين يدي الحسين قتالا شديدا، ورمى بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين وجعل زهير يرتجز ويقول: أنا زهير وأنا ابن القين * أذودكم بالسيف عن الحسين قال: وأخذ يضرب على منكب الحسين ويقول: أقدم هديت هاديا مهديا * فاليوم تلقى جدك النبيا وحسنا والمرتضى عليا * وذا الجناحين الفتى الكميا * وأسد الله الشهيد الحيا * قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.
قال: وكان من أصحاب الحسين نافع (2) بن هلال الجملي، وكان قد كتب على فوق نبله
فجعل يرمي بها مسمومة وهو يقول: أرمي بها معلما أفواقها * والنفس لا ينفعها شقاقها (3) أنا الجملى أنا على دين علي (4) فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد، سوى من جرح، ثم ضرب حتى كسرت عضداه، ثم أسروه فأتوا به عمر بن سعد فقال له: ويحك يا نافع، ما حملك على ما صنعت
__________
(1) في الطبري: مهللا.
(2) كذا بالاصل والطبري والكامل، وفي ابن الاعثم هلال بن رافع البجلي (5 / 200).
(3) في ابن الاعثم: معلمة...أسواقها.
وبعده: مسمومة تجري لها أحقابها * لتملان أرضها رشاقها (4) في ابن الاعثم: أنا الغلام التميمي البجلي * ديني على دين حسين بن علي إن أقتل اليوم وهذا عملي * وذاك رأيي أو ألاقي أملي

بنفسك ؟ فقال: إن ربي يعلم ما أردت، والدماء تسيل عليه وعلى لحيته، ثم قال: والله لقد قتلت من جندكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني.
فقال شمر لعمر: اقتله، قال: أنت جئت به، فإن شئت اقتله.
فقام شمر فأنضى سيفه فقال له نافع: أما والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه.
ثم قتله، ثم أقبل شمر فحمل على أصحاب الحسين وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين، فلما رأى الحسين أنهم قد كثروا عليهم، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاء عبد الرحمن وعبد الله ابنا عزرة (1) الغفاري، فقالا: أبا عبد الله عليك السلام، حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك وندفع عنك.
فقال: مرحبا بكما، ادنوا مني، فدنوا منه
فجعلا يقاتلان قريبا منه وهما يقولان: قد علمت حقا بنو غفار * وخندف بعد بني نزار لنضربن معشر الفجار * بكل عضب قاطع بتار يا قوم ذودوا عن بني الاخيار (2) * بالمشرفي والقنا الخطار ثم أتاه أصحابه مثنى وفرادى يقاتلون بين يديه وهو يدعو لهم ويقول: جزاكم الله أحسن جزاء المتقين، فجعلوا يسلمون على الحسين ويقاتلون حتى يقتلوا، ثم جاء عابس بن أبي شبيب فقال: يا أبا عبد الله ! أما والله ما أمسى على ظهر الارض قريب ولا بعيد أعز علي منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشئ أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله،: اشهد لي أني على هديك.
ثم مشى بسيفه صلتا وبه ضربة على جبينه - وكان أشجع الناس - فنادى: ألا رجل لرجل ؟ ألا ابرزوا إلي.
فعرفواه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، والله لقد رأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس بين يديه، ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدد، كل يدعي قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا فيه، فإنه لم يقتله إنسان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو بن أبي مطاع الخثعمي (3)، وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بني أبي طالب علي الاكبر بن
__________
(1) في الكامل 4 / 72: عزودة.
وفي ابن الاعثم 5 / 194: قرة بن أبي قرة الغفاري وفي نور العين: مرة بن مرة.
(2) في الطبري: الاحرار.
و.
(3) زيد في الطبري 6 / 255: وبشير بن عمرو الحضرمي.
وفي الكامل 4 / 73: الضحاك بن عبد الله المشرفي.

الحسين بن علي، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدي فقتله، لانه جعل يقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال علي بن الحسين:
أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت (1) الله أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي * كيف ترون اليوم ستري عن أبي (2) فلما طعنه مرة احتوشته الرجال فقطعوه بأسيافهم، فقال الحسين: قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه ؟ ! فعلى الدنيا بعدك العفاء.
قال: وخرجت جارية كأنها الشمس حسنا فقالت: يا أخياه ويا بن أخاه، فإذا هي زينب بنت علي من فاطمة، فأكبت عليه وهو صريع.
قال: فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط، وأمر به الحسين فحول من هناك إلى بين يديه عند فسطاطه، ثم قتل (3) عبد الله بن مسلم بن عقيل.
ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن يزيد بن زياد، وكان راميا، وهو أبو الشعثاء الكناني (4) من بني بهدلة.
جثى على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها على الارض خمسة أسهم، فلما فرغ من الرمي قال: قد تبين لي أني قتلت خمسة نفر: أنا يزيد وأنا المهاجر * أشجع من ليث قوي حادر (5) برب إني للحسين ناصر * ولابن سعد تارك وهاجر
__________
= وقالا: جاء إلى الحسين وقال: فإذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف ؟ فقال له الحسين: صدقت...قال: فاستويت على فرسي وحملت على عرض القوم...وسلمت.
(1) في الطبري 6 / 256 والكامل 4 / 74 نحن ورب البيت.
(2) سقط الشطر من الطبري والكامل ومروج الذهب، وفي ابن الاعثم 5 / 209: والله لا يحكم فينا ابن الدعي * أطعنكم بالرمح حتى ينثني أضربكم بالسيف أحمي عن أبي * ضرب غلام علوي قرشي (3) وقال ابن الاعثم: أن أول من خرج من ولد الحسين وإخوانه: عبد الله بن مسلم بن عقيل ثم جعفر بن عقيل ثم أخوه عبد الرحمن بن عقيل ثم محمد بن عبد الله بن جعفر ثم عون بن عبد الله بن جعفر ثم عبد الله بن
الحسن بن علي بن أبي طالب.
ثم تقدم أبو بكر بن علي - أخو الحسين - وامه ليلى بنت مسعود بن خالد الربعي التميمية ثم أخوه عمر بن علي - وأمه الصهباء بنت ربيعة بن بجير التغلبية (جمهرة أنساب العرب ص 33) ثم عثمان بن علي، ثم جعفر بن أبي طالب ثم العباس بن علي ثم تقدم من بعده علي بن الحسين.
(الفتوح 5 / 202 وما بعدها).
(4) في الطبري 6 / 232 و 255 والكامل 4 / 73: الكندي.
(5) في الطبري:...وأبي المهاصر أشجع من ليث بغيل خادر.

قالوا: ومكث الحسين نهارا طويلا وحده لا يأتي أحد إليه إلا رجع عنه، لا يحب أن يلي قتله، حتى جاءه رجل من بني بداء، يقال له مالك بن البشير (1)، فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلا البرنس دما، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين.
ثم ألقى الحسين ذلك البرنس ودعا بعمامة فلبسها.
وقال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد.
قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه فلقة قمر في يده السيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى، فقال لنا عمر (2) بن سعد بن نفيل الازدي: والله لاشدن عليه.
فقلت له: سبحان الله ! ! وما تريد إلى ذلك ؟ يكفيك.
قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم.
فقال: والله لاشدن عليه، فشد عليه عمر بن سعد أمير الجيش (3)، فضربه وصاح الغلام: يا عماه، قال: فشد الحسين على عمر بن سعد شدة ليث أعضب، فضرب عمر بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين، فاستقبلت عمر بصدورها وحركت حوافرها، وجالت فرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك.
ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك،
صوت والله كثر واتره وقل ناصره.
ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الارض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الاكبر ومع من قتل من أهل بيته، فسألت عن الغلام فقيل لي هو القاسم بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وقال هانئ بن ثبيت الحضرمي: إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الابنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض فرسه حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف.
قال هشام السكوني: هانئ بن ثبيت هو الذي قتل الغلام، خاف أن يعاب ذلك عليه فكنى عن نفسه.
قال: ثم إن الحسين أعيا فقعد على باب فسطاطه وأتي بصبي صغير من أولاده اسمه
__________
(1) في الطبري والكامل النسير وهو رجل من كندة.
(2) في الطبري والكامل: عمرو بن سعد، وهو غير عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش.
(3) في الطبري والكامل أن الذي شد على القاسم عمرو بن سعد بن نفيل، وليس عمر بن سعد أمير الجيش كما ورد في سياق رواية ابن كثير في مقتل القاسم.

عبد الله (1)، فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له " ابن موقد النار " بسهم فذبح ذلك الغلام، فتلقى حسين دمه في يده وألقاه نحو السماء وقال: رب إن تك قد حبست عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من الظالمين.
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله أيضا، ثم قتل عبد الله والعباس وعثمان وجعفر ومحمد بنو علي بن أبي طالب، إخوة الحسين.
وقد اشتد عطش الحسين فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه، فخلص إلى شربة منه، فرماه رجل يقال له حصين بن تميم بسهم في حنكه (2) فأثبته، فانتزعه الحسين من حنكه ففار الدم فتلقاه بيديه ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دما، ثم رمى به إلى السماء وقال: اللهم احصهم
عددا واقتلهم بددا، ولا تذر على الارض منهم أحدا.
ودعا عليهم دعاء بليغا.
قال: فوالله إن مكث الرجل الرامي له إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ، فجعل لا يروى ويسقى الماء مبردا، وتارة يبرد له اللبن والماء جميعا، ويسقى فلا يروى، بل يقول: ويلكم اسقوني قتلني الظمأ.
قال: فوالله ما لبث إلا يسيرا حتى انفد بطنه انفداد (3) بطن البعير.
ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نحو من عشرة من رجالة الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فقال لهم الحسين: ويلكم ! ! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في دنياكم أحرارا وذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم (4) وجهالكم، فقال ابن ذي الجوشن ذلك لك يا بن فاطمة، ثم أحاطوا به فجعل شمر يحرضهم على قتله، فقال له أبو الجنوب: وما يمنعك أنت من قتله ؟ فقال له شمر: ألي تقول ذا ؟ فقال أبو الجنوب: ألي تقول ذا ؟ فاستبا ساعة، فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعا -: والله لقد هممت أن أخضخض هذا السنان في عينك، فانصرف عنه شمر.
ثم جاء شمر ومعه جماعة من الشجعان حتى أحاطوا بالحسين وهو عند فسطاطه ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، فجاء غلام يشتد من الخيام كأنه البدر، وفي أذنيه درتان، فخرجت زينب بنت علي لترده فامتنع عليها، وجاء يحاجف عن عمه فضربه رجل (5) منهم بالسيف فاتقاه بيده فأطنها سوى جلده، فقال: يا أبتاه، فقال له الحسين: يا بني احتسب أجرك عند الله، فإنك تلحق بآبائك الصالحين.
ثم حمل على الحسين الرجال من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يمينا
__________
(1) في ابن الاعثم: علي في الرضاع.
(2) في الطبري: في فمه، وفي الكامل 4 / 76 رماه حصين بن نمير، وقيل أن الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم، وفي ابن الاعثم 5 / 215 أن الذي رماه أبو الجنوب وأصابه في جبهته.
(3) في الطبري والكامل: انقدت بطنه انقداد.
(4) في الطبري: طغامكم.
(5) وهو: بحر بن كعب بن عبيد الله من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة (أنظر الطبري - الكامل).

وشمالا، فيتنافرون عنه كتنافر المعزى عن السبع (1)، وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول: ليت السماء تقع على الارض، وجاءت عمر بن سعد فقالت: يا عمر أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر ؟ فتحادرت الدموع على لحيته وصرف وجهه عنها، ثم جعل لا يقدم أحد على قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل ؟ فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.
فحملت الرجال من كل جانب على الحسين وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي (2) فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه، وحز رأسه (2)، ثم دفع رأسه إلى خولى بن يزيد.
وقيل: إن الذي قتله شمر بن ذي الجوشن، وقيل رجل من مذحج، وقيل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشئ، وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط.
والاول أشهر.
وقال عبد الله بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى انذغروا عنه، فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشا منه ولا أمضى جنانا منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله.
وقال: ودنا عمر بن سعد من الحسين فقالت له زينب: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر ؟ فبكى وصرف وجهه عنها.
وقال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن حميد بن مسلم قال: جعل الحسين يشد على الرجال وهو يقول: أعلى قتلي تحابون (4) ؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم بقتله مني، وأيم الله إني أرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الاليم.
قال: ولقد مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكن كان يتقي بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن ماذا تنتظرون بقتله ؟ فتقدم إليه زرعة بن شريك التميمي فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتز
رأسه ودفعه إلى خولى.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وذو الجوشن صحابي جليل، قيل اسمه شرحبيل، وقيل عثمان بن نوفل، ويقال ابن أوس بن الاعور العامري الضبابي، بطن من كلاب، ويكنى شمر بأبي السابغة.
ثم روى من طريق عمر بن شبة: ثنا أبو
__________
(1) في الطبري والكامل: إذا شد فيها الذئب.
(2) في الطبري 6 / 260: سنان بن أنس بن عمرو، وفي ابن الاعثم سنان بن أنس النخعي رماه بسهم في نحره وطعنه صالح بن وهب اليزني في خاصرته فسقط إلى الارض.
(3) في ابن الاعثم 5 / 218: احتز رأسه خولى بن يزيد الاصبحي: وفي الطبري والكامل ومروج الذهب فكالاصل.
وفي الاخبار الطوال ص 258.
احتز رأسه شبل بن يزيد أخو حولي.
(4) في الطبري: تحاثون.

أحمد حدثني عمي فضيل بن الزبير، عن عبد الرحيم بن ميمون، عن محمد بن عمرو بن حسن.
قال: كنا مع الحسين بنهري كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي " وكان شمر قبحه الله أبرص.
وأخذ سنان وغيره سلبه (1)، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله، وما في خبائه حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.
وقال أبو مخنف عن جعفر بن محمد.
قال: وجدنا بالحسين حين قتل ثلاثة وثلاثين طعنة.
وأربعة وثلاثين ضربة، وهم شمر بن ذي الجوشن بقتل علي بن الحسين الاصغر " زين العابدين " وهو صغير مريض حتى صرفه عن ذلك حميد بن مسلم أحد أصحابه.
وجاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد، ولا يقتل هذا الغلام أحد، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم، قال: فوالله ما رد أحد شيئا.
فقال له علي بن الحسين: جزيت خيرا فقد دفع الله عني بمقالتك شرا، قالوا: ثم جاء سنان بن أنس إلى باب فسطاط عمر بن سعد فنادى بأعلا صوته: أوقر ركابي فضة وذهبا * أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا فقال عمر بن سعد: أدخلوه علي، فلما دخل رماه بالسوط وقال: ويحك أنت مجنون، والله لو سمعك ابن زياد تقول هذا لضرب عنقك (2).
ومن عمر بن سعد على عقبة بن سمعان حين أخبره أنه مولى، فلم ينج منهم غيره.
والمرقع بن يمانة (3) أسر فمن عليه ابن زياد، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفسا، فدفنهم أهل الغاضرية من بني أسد بعدما قتلوا بيوم واحد، قال: ثم أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل، ولا يصح ذلك والله أعلم.
وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفسا.
وروي عن محمد بن الحنفية أنه قتل: قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من أولاد فاطمة، وعن الحسن البصري أنه قال: قتل مع الحسين ستة عشر رجلا كلهم من أهل بيته، ما على وجه الارض يومئذ لهم شبه.
وقال غيره: قتل معه من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلا، فمن أولاد علي رضي الله عنه جعفر، والحسين،
__________
(1) في الكامل 4 / 78 والطبري 6 / 260: أخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم، وفي ابن الاعثم 5 / 219: أخذ سيفه رجل من بني تميم يقال له الاسود بن حنظلة.
وأخذ نعليه الاسود الاودي وأخذ سراويله بحر بن كعب (الطبري - الكامل) وفي ابن الاعثم أخذ سراويله يحيى بن عمرو الحرمي، وأخذ عمامته جابر بن زيد الازدي، ودرعه مالك بن بشر الكندي.
(2) في تهذيب ابن عساكر 3 / 342 ومروج الذهب 3 / 75 وسمط النجوم العوالي 3 / 76: أنشدها بين يدي ابن زياد، وفي ابن الاعثم 5 / 221 أنشدها بشر بن مالك بين يدي ابن زياد، فقدمه وضرب عنقه.
(3) في الطبري والاخبار الطوال ص 259 والكامل: المرقع بن ثمامة الاسدي.

والعباس، ومحمد، وعثمان، وأبو بكر.
ومن أولاد الحسين علي الاكبر وعبد الله.
ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة، عبد الله، والقاسم، وأبو بكر بنو الحسن بن علي بن أبي طالب.
ومن أولاد عبد الله بن جعفر اثنان، عون ومحمد.
ومن أولاد عقيل، جعفر، وعبد الله وعبد الرحمن، ومسلم قتل قبل ذلك كما قدمنا.
فهؤلاء أربعة لصلبه، واثنان آخران هما عبد الله بن مسلم بن عقيل
ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، فكملوا ستة من ولد عقيل، وفيهم يقول الشاعر (1): واندبي تسعة لصلب علي * قد أصيبوا وستة لعقيل (2) وسمي النبي غودر فيهم * قد علوه بصارم مصقول وممن قتل مع الحسين بكربلاء أخوه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وقد قيل إنه قتل قبل ذلك حيث بعث معه كتابا إلى أهل الكوفة فحمل إلى ابن زياد فقتله.
وقتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم.
ويقال إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالارض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولى بن يزيد الاصبحي، فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقا فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة وقال لامرأته نوار بنت مالك: جئتك بعز الدهر، فقالت: وما هو ؟ فقال: برأس الحسين.
فقالت: جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله لا يجمعني وإياك فراش أبدا، ثم نهضت عنه من الفراش، واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد فنامت عنده قالت المرأة الثانية الاسدية: والله ما زلت أرى النور ساطعا من تلك الاجانة إلى السماء، وطيورا بيضا ترفرف حولها، فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه، ويقال إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه، وهو المشهور.
ومجموعهما اثنان وسبعون رأسا، وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام.
قال الامام أحمد: حدثنا حسين، ثنا جرير، عن محمد، عن أنس.
قال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت عليه وقال في حسنه شيئا، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوبا بالوشمة (3).
ورواه البخاري في المناقب عن محمد بن الحسن بن إبراهيم - هو ابن إشكاب - عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس فذكره.
وقد رواه الترمذي من حديث حفصة بنت سيرين عن أنس.
وقال:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 77 مسلم بن قتيبة مولى بني هاشم - الابيات من الخفيف.
(2) في مروج الذهب: وخمسة لعقيل.
(3) أخرجه الترمذي في المناقب، (31) باب.
ح 3778 ص 5 / 659 وأخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة (22) باب.
ح (3748) فتح الباري (7 / 94).

حسن صحيح.
وفيه " فجعل ينكت بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسنا ".
وقال البزار: حدثنا مفرج بن شجاع بن عبيد الله الموصلي ثنا غسان بن الربيع ثنا يونس بن عبيدة عن ثابت وحميد عن أنس.
قال: لما أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه ويقول: لقد كان - أحسبه قال جميلا - فقلت: والله لاسوءنك " إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث يقع قضيبك ".
قال فانقبض.
تفرد به البزار من هذا الوجه وقال: لا نعلم رواه عن حميد غير يونس بن عبدة وهو رجل من أهل البصرة مشهور وليس به بأس.
ورواه أبو يعلى الموصلي، عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أنس فذكره.
ورواه قرة بن خالد عن الحسن عن أنس فذكره.
وقال أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم.
قال: دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لابشرهم بما فتح الله عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وقد دخل عليه الوفد الذين قدموا عليه، فدخلت فيمن دخل.
فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين يقبلهما " ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قال: فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم كلاما لو سمعه ابن زياد لقتله، قال: فقلت ما قال ؟ قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبيدا * فاتخذهم تليد
أنت يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فبعدا لمن رضي بالذل.
وقد روي من طريق أبي داود باسناده عن زيد بن أرقم بنحوه.
ورواه الطبراني من طريق ثابت عن زيد.
وقد قال الترمذي: حدثنا واصل بن عبد الاعلى، ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن عمارة بن عمير.
قال: لما جئ برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه فنصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت، فذهبت حتى تغيب ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.
ثم قال الترمذي: حسن صحيح (1).
وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب - (31) باب ح (3780) ص (5 / 660).

قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبد الله بن عفيف الازدي، فقال: ويحك يا بن زياد ! ! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين ! فأمر به ابن زياد فقتل وصلب.
ثم أمر برأس الحسين فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها، ثم سيره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام، وكان من زحر جماعة من الفرسان، منهم أبو بردة بن عوف الازدي: وطارق بن أبي ظيبان الازدي، فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلها على يزيد بن معاوية.
قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير.
قال: والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك ؟ فقال أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلا من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الامير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا
القتال، فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمام من صقر، فوالله ما كانوا إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، وازرهم (1) العقبان والرخم.
قال: فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، ورحم الله الحسين.
ولم يصل الذي جاء برأسه بشئ.
ولما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد قال: أما والله لو أني صاحبك ما قتلتك، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر: يفلقن هاما من رجال أعزة (2) * علينا وهم كانوا أعق وأظلما قال أبو مخنف: فحدثني أبو جعفر العبسي قال: وقام يحيى بن الحكم (3) - أخو مروان بن الحكم - فقال:
__________
(1) في الطبري 6 / 264 والكامل 4 / 84 زوارهم، والعقبان: عتاق الطير وسباعه التي لا تصيد الخشاش، والرخم: نوع من الطير موصوف بالغدر.
(2) في مروج الذهب 3 / 75: نفلق هاما من رجال أحبة.
وفي الاخبار الطوال ص 261: نفلق وفي سمط النجوم العوالي: تفلقن.
وقبله في ابن الاثير 4 / 85 وسمط النجوم 3 / 73 وهما للحصين: أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت * قواضب في أيماننا تقطر الدما (3) في ابن الاعثم 5 / 238.
عبد الله بن الحكم، وفي سمط النجوم 3 / 78: عبد الرحمن بن الحكم.

لهام بجنب الطف أدنى قرابة * من ابن زياد العبد في الحسب الوغل سمية أضحى (1) نسلها عدد الحصى * وليس لآل المصطفى اليوم من نسل قال: فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال له: اسكت، وقال محمد بن حميد الرازي
- وهو شيعي -: ثنا محمد بن يحيى الاحمري ثنا ليث عن مجاهد قال، لما جئ برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد تمثل بهذه الابيات: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج في وقع الاسل فأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا لي هنيا لا تسل حين حكت بفناء بركها * واستحر القتل في عبد الاسل قد قتلنا الضعف من أشرافكم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل (2) قال مجاهد: نافق فيها، والله ثم والله ما بقي في جيشه أحد إلا تركه أي ذمه وعابه.
وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سيره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا، على قولين، الاظهر منهما أنه سيره إليه، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة فالله أعلم.
وقال أبو مخنف عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الله اليماني (3) عن القاسم بن بخيت، قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري: يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما فقال له أبو برزة الاسلمي (4): أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذا لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، ثم قال: ألا إن هذا سيجئ يوم القيامة وشفيعه محمد، وتجئ وشفيعك ابن زياد.
ثم قال فولى.
وقد رواه ابن أبي الدنيا، عن أبي الوليد، عن خالد بن يزيد بن أسد، عن عمار الدهني عن جعفر.
قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة وجعل ينكت بالقضيب فقال له: " ارفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه ".
قال ابن أبي
__________
(1) في الطبري: أمسى.
(2) في هامش المطبوعة: لا يتصور أن يكون يزيد قد تمثل بهذه الابيات هذه الايام، فإن المؤرخين قاطبة ذكروا أنه تمثل بها لما جاءه خبر وقعة الحرة بالمدينة الشريفة، وقتل الانصار، ووقعة الحرة بعد هذه كما ستراه.
وأيضا فإن قضية الحسين رضي الله عنه لم يكن حاضرها أحد من الخزرج، بعلم ذلك من الالمام بالاخبار وأيام الناس والله
أعلم.
(قلت: والابيات لعبد الله بن الزبعري).
(3) في الطبري: الثمالي.
(4) واسمه نضلة بن عبيد (تهذيب التهذيب 10 / 446).

الدنيا: وحدثني مسلمة بن شبيب عن الحميدي عن سفيان سمعت سالم بن أبي حفصة قال قال الحسن: لما جئ برأس الحسين جعل يزيد يطعن بالقضيب، قال سفيان وأخبرت أن الحصين كان ينشد على إثر هذا: سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وبت رسول الله ليس لها نسل واما بقية أهله ونسائه فإن عمر بن سعد وكل بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك بكته النساء، وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها، فقالت وهي تبكي: يا محمداه، يا محمداه * صلى عليك الله * وملك السماه * هذا حسين بالعراه * مزمل بالدماه، مقطع الاعضاء يا محمداه * وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا.
قال فأبكت والله كل عدو وصديق.
قال قرة بن قيس لما مرت النسوة بالقتلى صحن ولطمن خدودهن، قال: فما رأيت من منظر من نسوة قط أحسن منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله إنهن لاحسن من مهابيرين.
وذكر الحديث كما تقدم.
ثم قال: ثم ساروا بهم من كربلاء حتى دخلوا الكوفة فأكرمهم ابن زياد وأجرى عليهم النفقات والكساوى وغيرها، قال: ودخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكرت وحفت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد قال: من هذه ؟ فلم تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وكذب أحدوثتكم.
فقالت: بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.
قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم ؟ فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم،
وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله.
فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الامير ! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشئ من منطقها ؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل.
وقال أبو مخنف عن المجالد بن سعيد: إن ابن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين " زين العابدين " قال لشرطي (1): أنظر أأدرك هذا الغلام، فإن كان أدرك فانطلقوا به فاضربوا عنقه ؟ فكشف إزاره عنه فقال: نعم ! فقال: اذهب به فاضرب عنقه، فقال له علي بن الحسين: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن، فقال له ابن زياد: تعال أنت ! فبعثه معهن.
قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين، فقال له ما اسمك ؟ قال: أنا علي بن
__________
(1) في ابن الاعثم 5 / 228 والطبري 6 / 263 وابن الاثير 4 / 82: مري بن معاذ الاحمري.

الحسين، قال: أو لم يقتل الله علي بن الحسين ؟ فسكت، فقال له ابن زياد.
مالك لا تتكلم ؟ قال: كان لي أخ يقال له علي أيضا قتله الناس.
قال: إن الله قتله، فسكت، فقال: مالك لا تتكلم ؟ فقال: * (الله يتوفى الانفس حين موتها) * [ الزمر: 42 ] * (وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله) * [ آل عمران: 145 ] قال: أنت والله منهم، ويحك ! ! انظروا هذا أدرك ؟ والله إني لاحسبه رجلا، فكشف عنه مري بن معاذ الاحمري فقال: نعم قد أدرك، فقال: اقتله، فقال علي بن الحسين: من يوكل بهذه النسوة ؟ وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا بن زياد حسبك منا ما فعلت بنا، أما رويت من دمائنا ؟ وهل أبقيت منا أحدا ؟ قال: واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلني معه، وناداه علي فقال: يا بن زياد ! ! إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الاسلام.
قال: فنظر إليهن ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: عجبا للرحم ! ! والله إني لاظن أنها ودت لو أني قتلته أن أقتلها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.
قال: ثم إن ابن زياد أمر بنساء الحسين وصبيانه وبناته فجهزن إلى يزيد، وأمر
بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه، وأرسلهم مع محقر بن ثعلبة العائذي (1) - من عائذة قريش - ومع شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فلما بلغوا باب يزيد بن معاوية رفع محقر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محقر بن ثعلبة، أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أم محقر شر وألام.
فلما دخلت الرؤوس والنساء على يزيد دعا أشراف الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلن عليه والناس ينظرون، فقال لعلي بن الحسين: يا علي أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال علي: * (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) * [ الحديد: 22 ] فقال يزيد لابنه خالد: أجبه.
قال: فما درى خالد ما يرد عليه، فقال له يزيد: قل: * (ما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * [ الشورى: 30 ] فسكت عنه ساعة ثم دعا بالنساء والصبيان فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينهم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بهم، ولا بعث بكم هكذا.
وروى أبو مخنف: عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي قالت: لما أجلسنا بين يدي يزيد رق لنا وأمر لنا بشئ وألطفنا، ثم إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه - يعنيني - وكنت جارية وضيئة، فارتعدت فزعة من قوله، وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب أختي زينب - وكانت أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يجوز - فقالت لذلك الرجل: كذبت والله ولؤمت، ما ذلك لك وله: فغضب يزيد فقال لها: كذبت !
__________
(1) في الطبري 6 / 264: محفز، وفي الكامل 4 / 84 محفر، وفي الاخبار الطوال ص 260: محقن.

والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.
قالت: كلا ! والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
قالت: فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا ؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت
أنت وأبوك وجدك.
قال: كذبت يا عدوة الله.
قالت: أنت أمير المؤمنين مسلط تشتم ظالما وتقهر بسلطانك.
قالت: فوالله لكأنه استحى فسكت، ثم قام ذلك الرجل فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه.
فقال له يزيد: اعزب وهب الله لك حتفا قاضيا.
ثم أمر يزيد النعمان بن بشير أن يبعث معهم إلى المدينة رجلا أمينا معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهن.
ثم أنزل النساء عند حريمه في دار الخلافة فاستقبلهن نساء آل معاوية يبكين وينحن على الحسين، ثم أقمن المناحة ثلاثة أيام، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر بن الحسين، فقال يزيد يوما لعمر بن الحسين - وكان صغيرا جدا - أتقاتل هذا ؟ - يعني ابنه خالد بن يزيد - يريد بذلك ممازحته وملاعبته، فقال: اعطني سكينا (1) واعطه سكينا حتى نتقاتل، فأخذه يزيد فضمه إليه وقال: شنشنة أعرفها من أخزم (2)، هل تلد الحية إلا حية ؟.
ولما ودعهم يزيد قال لعلي بن الحسين: قبح الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، ثم جهزه وأعطاه مالا كثيرا وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال له: كاتبني بكل حاجة تكون لك، فكان ذلك الرسول الذي أرسله معهن يسير عنهن بمعزل من الطريق، ويبعد عنهن بحيث يدركهن طرفه وهو في خدمتهم حتى وصلوا المدينة، فقالت فاطمة بنت علي: قلت لاختي زينب: إن هذا الرجل الذي أرسل معنا قد أحسن صحبتنا فهل لك أن نصله ؟ فقالت: والله ما معنا شئ نصله به إلا حلينا، قالت وقلت لها: نعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختي سوارها ودملجها وبعثنا به إليه واعتذرنا إليه وقلنا: هذا جزاؤك بحسن صحبتك لنا، فقال: لو كان الذي صنعت معكم إنما هو للدنيا كان في هذا الذي أرسلتموه ما يرضيني وزيادة، ولكن والله ما فعلت ذلك إلا لله تعالى ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة ؟ وما الحامل له على ما فعل، وما الذي أوقعه فيما وقع فيه ؟ قالوا: لا ! قال: يزعم أن أباه خير من أبي، وأمه
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 261: سيفا، في الموضعين.
(2) الشنشنة: الطبيعة والسجية، وأخزم كان ولدا عاقا لابيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال: إنما هو شنشنة أعرفها من أخزم، فصار مثلا.
وفي ابن الاثير أن الغلام: هو عمرو بن الحسن (4 / 87).
وفي مكان آخر ذكره: عمرو بن الحسين وقد استصغر فلم يقتل وأمه أم ولد.

فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أمي، وجده رسول الله خير من جدي، وأنه خير مني وأحق بهذا الامر مني، فأما قوله أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله عزوجل، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله أمه خير من أمي فلعمري إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أمي، وأما قوله جده رسول الله خير من جدي، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتى من قلة فقهه لم يقرأ * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) * الآية [ آل عمران: 26 ]، وقوله تعالى: * (والله يؤتي ملكه من يشاء) * [ البقرة: 247 ].
فلما دخلت النساء على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين - وكانت أكبر من سكينة - يا يزيد ! بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا.
فقال يزيد: يا بنت أخي، أنا لهذا كنت أكره.
قالت: قلت والله ما تركوا لنا خرصا، فقال: ابنة أخي ! ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك.
ثم أدخلهن داره ثم أرسل إلى كل امرأة منهن ماذا أخذ لك ؟ فليس منهن امرأة تدعي شيئا بالغا ما بلغ إلا أضعفه لها.
وقال هشام عن أبي مخنف: حدثني أبو حمزة الثمالي عن عبد الله الثمالي عن القاسم بن بخيت (1).
قال: لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين دخلوا به مسجد دمشق فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم ؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا، فوثب مروان وانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال: ما صنعتم ؟ فقالوا له مثل ما قالوا لاخيه، فقال لهم: حجبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبدا، ثم قام فانصرف.
قال: ولما بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بني هاشم ونحن
عليه، وروي أن يزيد استشار الناس في أمرهم فقال رجل ممن قبحهم الله: يا أمير المؤمنين لا يتخذن من كلب سوء جروا، اقتل علي بن الحسين حتى لا يبقى من ذرية الحسين أحد، فسكت يزيد فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين اعمل معهم كما كان يعمل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآهم على هذه الحال.
فرق عليهم يزيد وبعث بهم إلى الحمام وأجرى عليهم الكساوى والعطايا والاطعمة، وأنزلهم في داره.
وهذا يرد قول الرافضة: إنهم حملوا على جنائب الابل سبايا عرايا، حتى كذب من زعم منهم أن الابل البخاتي إنما نبتت لها الاسنمة من ذلك اليوم لتستر عوراتهن من قبلهن ودبرهن.
ثم كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد أمير الحرمين يبشره بمقتل الحسين، فأمر مناديا (2) فنادى بذلك.
فلما سمع نساء بني هاشم ارتفعت أصواتهن بالبكاء والنوح، فجعل عمرو بن سعيد
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: نجيب تحريف.
(2) في الطبري 6 / 268: عبد الملك بن أبي الحارث السلمي، وهو الذي أرسله عبيد الله بن زياد بخبر مقتل الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص.

يقول: هذا ببكاء نساء عثمان بن عفان.
وقال عبد الملك بن عمير: دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار على ترس، ووالله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يديه.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تاريخه (1): حدثني زكريا بن يحيى الضرير ثنا أحمد بن جناب (2) المصيصي، ثنا خالد بن يزيد بن (3) عبد الله القسري، ثنا عمار الدهني قال: قلت لابي جعفر: حدثني عن مقتل الحسين كأني حضرته، فقال: أقبل الحسين بكتاب مسلم بن عقيل الذي كان قد كتبه إليه يأمره فيه بالقدوم عليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاث أميال، لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد ؟ فقال: أريد هذا المصر، فقال له: ارجع فإني لم أدع
لك خلفي خيرا أرجوه، فهم الحسين أن يرجع، وكان معه أخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله لا نرجع حتى (4) نأخذ بثأرنا ممن قتل أخانا أو نقتل.
فقال: لا خيرة في الحياة بعدكم، فسار فلقيه أوائل خيل ابن زياد، فلما رأى ذلك عاد إلى كربلاء فأسند ظهره إلى (5) قصيتا وحلفا ليقاتل من جهة واحدة.
فنزل وضربه أبنيته وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه ابن زياد الري وعهد إليه عهده، فقال: اكفني هذا الرجل واذهب إلى عملك، فقال: اعفني.
فأبى أن يعفيه، فقال: أنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمره به، فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين: اختر واحدة من ثلاث، إما أن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور.
فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله بن زياد لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدا.
فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاءه سهم فأصاب ابنا له في حجره فجعل يمسح الدم ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، ثم أمر بحبرة فشقها ثم لبسها وخرج بسيفه فقاتل حتى قتل، قتله رجل من مذحج وحز رأسه فانطلق به إلى ابن زياد وقال في ذلك: أوقر ركابي فضة وذهبا * فقد قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا
__________
(1) انظر الطبري 6 / 230.
(2) في المطبوعة: خباب، خطأ.
(3) في نسخ البداية المطبوعة يزيد عن عبد الله القسري، تحريف.
(4) في الطبري: حتى نصيب ثأرنا أو نقتل.
(5) في الطبري: إلى قصباء وخلا كي لا يقاتل إلا من وجه واحد.

قال فأوفده إلى يزيد بن معاوية فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو برزة الاسلمي، فجعل
يزيد ينكت بالقضيب على فيه ويقول: يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا فيه على فيه يلثمه.
قال: وأرسل عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى ابن زياد، ولم يكن بقي من آل الحسين إلا غلام، وكان مريضا مع النساء، فأمر به ابن زياد ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: والله لا يقتل حتى تقتلوني، فرق لها وكف عنه، قال: فأرسلهم إلى يزيد فجمع يزيد من كان بحضرته من أهل الشام ثم دخلوا عليه فهنوه بالفتح، فقام رجل منهم أحمر أزرق - ونظر إلى وصيفة من بناته - فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه، فقالت زينب: لا ولا كرامة لك ولا له، إلا أن تخرجا من دين الله، قال: فأعادها الازرق فقال له يزيد: كف عن هذا.
ثم أدخلهم على عياله، ثم حملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب (1) ناشرة شعرها واضعة كمها على رأسها تتلقاهم وهي تبكي وتقول: ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الامم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم (2) ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء (3) في ذوي رحم وقد روى أبو مخنف عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود أن بنت عقيل هي التي قالت هذا الشعر، وهكذا حكى الزبير بن بكار أن زينب الصغرى بنت عقيل بن أبي طالب هي التي قالت ذلك حين دخل آل الحسين المدينة النبوية.
وروى أبو بكر بن الانباري باسناده أن زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة - وهي زوج عبد الله بن جعفر أم بنيه رفعت سجف خفائها يوم كربلاء يوم قتل الحسين وقالت هذه الابيات فالله أعلم.
وقال هشام بن الكلبي: حدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن أبي المقدام قال: حدثني عمرو بن عكرمة قال:
__________
(1) في الارشاد وكشف الغمة: خرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب ومعها أخواتها أم معافى وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب تبكي قتلاها.
وفي مروج الذهب 3 / 83: خرجت بنت عقيل بن أبي طالب في نساء من قومها حواسر حائرات...وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 245: ثم جعل علي بن الحسين يقول: (2) في الطبري: منهم أسارى وقتلى...وفي مروج الذهب 3 / 83: نصف أسارى ونصف.
(3) في مروج الذهب: بشر.

صبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة فإذا مولاة لنا تحدثنا قالت (1): سمعت البارحة مناديا ينادي وهو يقول: أيها القاتلون ظلما (2) حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل كل أهل السماء يدعو عليكم * من نبي ومالك وقبيل (3) لقد لعنتم على لسان ابن داود * وموسى وحامل (4) الانجيل قال ابن هشام: حدثني عمرو بن حيزوم الكلبي عن أمه (5) قالت: سمعت هذا الصوت، وقال الليث وأبو نعيم يوم السبت.
ومما أنشده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيره لبعض المتقدمين في مقتل الحسين: جاؤا برأسك يا بن بنت محمد * متزملا بدمائه تزميلا وكأن بك يا بن بنت محمد * قتلوا جهارا عامدين رسولا قتلوك عطشانا ولم يتدبروا * في قتلك القرآن والتنزيلا ويكبرون بأن قتلت وإنما * وقتلوا بك التكبير والتهليلا فصل وكان مقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين.
وقال هشام بن الكلبي، سنة ثنتين وستين، وبه قال علي بن المديني.
وقال ابن لهيعة: سنة ثنتين أو ثلاث وستين.
وقال غيره سنة ستين.
والصحيح الاول.
بمكان من الطف يقاح له كربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة أو نحوها، وأخطأ أبو نعيم في قوله: إنه
قتل وله من العمر خمس أو ست وستون سنة.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - يعني ابن زاذان - عن ثابت عن أنس قال: " استأذن ملك القطر أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، فقال لام سلمة: احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، فجاء الحسين بن علي فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الملك: أتحبه ؟ قال ! نعم: فقال: إن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 90: وسمع بعض أهل المدينة ليلة قتل الحسين مناديا ينادي.
وفي ابن الاعثم 5 / 250: فلما فصلوا من دمشق سمعوا مناديا ينادي في الهواء وهو يقول: (2) في الطبري: أيها القائلون جهلا.
(3) في ابن الاثير: وملاءك وقبيل، وفي الطبري: وملك..وفي ابن الاعثم: ومرسل وقتيل.
(4) في ابن الاثير وابن عساكر 4 / 341: وصاحب.
(5) في الطبري: عن أبيه قال:

الذي يقتل فيه، قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها " (1).
قال: فكنا نسمع أنه يقتل بكربلاء * وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثني عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة - أو أم سلمة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد دخل علي البيت ملك لم يدخل قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك الارض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء " (2).
وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أم سلمة.
ورواه الطبراني عن أبي أمامة وفيه قصة أم سلمة.
ورواه محمد بن سعد عن عائشة بنحو رواية أم سلمة فالله أعلم.
وروي ذلك من حديث زينب بنت جحش ولبابة أم الفضل امرأة العباس.
وأرسله غير واحد من التابعين.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا محمد بن هارون، أبو بكر، ثنا إبراهيم بن محمد الرقي وعلي بن الحسن الرازي قالا: ثنا سعيد بن عبد الملك أبو واقد الحراني، ثنا عطاء بن مسلم، ثنا
أشعث بن سحيم، عن أبيه قال: سمعت أنس بن الحارث يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ابني - يعني الحسين - يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره ".
قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل مع الحسين، قال: ولا أعلم رواه غيره.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا شراحيل بن مدرك، عن عبد الله بن يحيى، عن أبيه أنه سار مع علي - وكان صاحب مطهرته - فلما جاؤوا نينوى وهو منطلق إلى صفين.
فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات قلت: وماذا تريد ؟ قال: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعيناه تفيضان فقلت: ما أبكاك يا رسول الله ؟ قال: بلى، قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال فقال: هل لك أن أشمك من تربته ؟ قال: فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا " (3).
تفرد به أحمد.
وروى محمد بن سعد: عن علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن رجل عن عامر الشعبي، عن علي مثله.
وقد روى محمد بن سعد وغيره من غير وجه عن علي بن أبي طالب أنه مر بكربلاء عند أشجار الحنظل وهو ذاهب إلى صفين، فسأل عن اسمها فقيل كربلاء، فقال: كرب وبلاء، فنزل وصلى عند شجرة هناك ثم قال: يقتل ههنا شهداء هم خير الشهداء غير الصحابة، يدخلون الجنة بغير حساب - وأشار إلى مكان هناك - فعلموه بشئ فقتل فيه الحسين.
وقد روي عن كعب الاحبار آثار في كربلاء وقد حكى أبو الجناب الكلبي وغيره أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نوح الجن على الحسين وهن يقلن:
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 265.
(2) مسند أحمد 6 / 294.
(3) مسند أحمد 1 / 75.

مسح الرسول جبينه * فله بريق في الخدود أبواه من عليا قريش * جده خير الجدود
وقد أجابهم بعض الناس فقال: خرجوا به وفدا إلي * - ه فهم له شر الوفود قتلوا ابن بنت نبيهم * سكنوا به ذات الخدود وروى ابن عساكر أن طائفة من الناس ذهبوا في غزوة إلى بلاد الروم فوجدوا في كنيسة مكتوبا: أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب ؟ فسألوهم: من كتب هذا ؟ فقالوا: إن هذا مكتوب ههنا من قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة.
وروي أن الذين قتلوه رجعوا فباتوا وهم يشربون الخمر والرأس معهم، فبرز لهم قلم من حديد فرسم لهم في الحائط بدم هذا البيت: أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب ؟ وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعفان ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.
قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ما هذا ؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل التقطه منذ اليوم " (1).
قال عمار: فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم.
تفرد به أحمد وإسناده قوي.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الله بن محمد بن هانئ أبو عبد الرحمن النحوي، ثنا مهدي بن سليمان، ثنا علي بن زيد بن جدعان.
قال: استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع وقال: قتل الحسين والله، فقال له أصحابه: لم يا بن عباس ؟ فقال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زجاجة من دم فقال: أتعلم ما صنعت أمتي من بعدي ؟ قتلوا الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعهما إلى الله ".
فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلا أربعة وعشرين يوما حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قتل في ذلك اليوم وتلك الساعة.
وروى الترمذي: عن أبي سعيد الاشج، عن أبي خالد الاحمر، عن رزين، عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة وهي
تبكى فقلت: ما يبكيك ؟ فقالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 283.

لك يا رسول الله ؟ قال: " شهدت قتل الحسين آنفا " (1).
وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الانصاري، أنبأنا قرة بن خالد، أخبرني عامر بن عبد الواحد، عن شهر بن حوشب قال: إنا لعند أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا صارخة فأقبلت حتى انتهت إلى أم سلمة فقالت: قتل الحسين.
فقالت: قد فعلوها، ملا الله قبورهم - أو بيوتهم - عليهم نارا، ووقعت مغشيا عليها، وقمنا.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا ابن مسلم، عن عمار قال: سمعت أم سلمة قالت: سمعت الجن يبكين على الحسين وسمعت الجن تنوح على الحسين.
ورواه الحسين بن إدريس عن هاشم بن هاشم عن أمه عن أم سلمة قالت: سمعت الجن ينحن على الحسين وهن يقلن: أيها القاتلون جهلا حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل كل أهل السماء يدعو عليكم * ونبي ومرسل وقبيل قد لعنتم على لسان ابن داود * وموسى وصاحب الانجيل وقد روي من طريق أخرى عن أم سلمة بشعر غير هذا فالله أعلم.
وقال الخطيب: أنبأنا أحمد بن عثمان بن ساج السكري، ثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، ثنا محمد بن شداد المسمعي، ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: " أوحى الله تعالى إلى محمد إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وأنا قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا ".
هذا حديث غريب جدا، وقد رواه الحاكم في مستدركه.
وقد ذكر الطبراني ههنا آثارا غريبة جدا، ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبا فاحشا، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع
وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضا، وأمطرت السماء دما أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، ونحو ذلك.
وروى ابن لهيعة: عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الامارة جعلت الحيطان تسيل دما، وأن الارض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس بما (2) كان معه يومئذ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الابل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم.
إلى غير ذلك من الاكاذيب والاحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شئ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب (31) باب.
ح (3771) ص (5 / 657).
(2) كذا بالاصل ولعلها: مما.

وأما ما روي من الاحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قل من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون.
وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كفاية، وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والائمة ذكروه ما سقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعيا، وهو ضعيف الحديث عند الائمة، ولكنه أخباري حافظ، عنده من هذه الاشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم.
وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الاربعمائة وما حولها فكانت الدبادب (1) تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والاسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين لانه قتل عطشانا.
ثم تخرج النساء حاسرات عن وجههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الاسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والاهواء الفظيعة، والهتائك
المخترعة وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لانه قتل في دولتهم.
وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب (2) من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الاطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.
وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها، فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الامة كلها بكمالها ونتهم على نبيها صلى الله عليه وسلم، فليس الامر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الائمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.
فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون في الدنيا وآخذهم على ذلك وحملهم عليه
__________
(1) الدبادب: الطبول.
(2) النواصب: ويقال الناصبية وأهل النصب المتدينون ببغضة علي بن أبي طالب (رض) لانهم نصبوا له.

بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه.
وليس كل ذلك الجيش كان راضيا بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك.
وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك والله أعلم.
فكل مسلم يبنغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكنه لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتما، وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الانبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شئ مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الامور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك.
وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه علي بن الحسين عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الاجر مثل يوم أصيب منها " (1).
رواه الامام أحمد وابن ماجه.
وأما قبر الحسين رضي الله عنه فقد اشتهر عند كثير من المتأخرين أنه في مشهد علي.
بمكان من الطف عند نهر كربلاء، فيقال إن ذلك المشهد مبني على قبره فالله أعلم.
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه بخبر.
وقد كان أبو نعيم، الفضل بن دكين، ينكر على من يزعم أنه يعرف قبر الحسين.
وذكر هشام بن الكلبي أن الماء لما أجري على قبر الحسين ليمحي أثره نضب
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 201 أخرجه من طريق عباد بن عباد عن الحسين بن علي.
وابن ماجه من طريق هشام بن
زياد: في الجنائز - (55) باب - ح (1600) ص 1 / 510.

الماء بعد أربعين يوما، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها حتى وقع على قبر الحسين فبكى وقال: بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبك وأطيب تربتك ! ! ثم أنشأ يقول: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه * فطيب تراب القبر دل على القبر وأما رأس الحسين رضي الله عنه فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السير أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، ومن الناس من أنكر ذلك.
وعندي أن الاول أشهر فالله أعلم.
ثم اختلفوا بعد ذلك في المكان الذي دفن فيه الرأس، فروى محمد بن سعد: أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة فدفنه عند أمه بالبقيع، وذكر ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمر بن صالح - وهما ضعيفان - أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي فأخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق.
قلت: ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني.
وذكر ابن عساكر في تاريخه في ترجمته ريا حاضنة يزيد بن معاوية، أن يزيد حين وضع رأس الحسين بين يديه تمثل بشعر ابن الزبعرى يعني قوله: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل قال: ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام ثم وضع في خزائن السلاح، حتى كان من زمن سليمان بن عبد الملك جئ به إليه، وقد بقي عظما أبيض، فكفنه وطيبه وصلى عليه ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاءت المسودة - يعني بني العباس - نبشوه وأخذوه معهم.
وذكر ابن عساكر أن هذه المرأة بقيت بعد دولة بني أمية، وقد جاوزت المائة سنة فالله أعلم.
وادعت الطائفة المسمون بالفاطميين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستين وستمائة، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر، الذي يقال له تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة.
وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا
بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء، في دولتهم في حدود سنة أربعمائة، كما سنبين ذلك كله إذا انتهينا إليه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فانهم جاؤوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا: هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم.

شئ من فضائله روى البخاري من حديث شعبة ومهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب: سمعت ابن أبي نعيم (1) قال: سمعت عبد الله بن عمر وسأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال: أهل العراق يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هما ريحانتاي من الدنيا " (2).
ورواه الترمذي عن عقبة بن مكرم، عن وهب بن جرير عن أبيه عن محمد بن أبي يعقوب به نحوه: أن رجلا من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب، فقال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
وذكر تمام الحديث.
ثم قال: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن أبي الحجاف عن أبي حازم عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني " (3) - يعني حسنا وحسينا -.
وقال الامام أحمد: حدثنا تليد بن سليمان، كوفي، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم عن أبي هريرة.
قال: " نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال: أنا حرب لما حاربكم، سلم لمن سالمكم " (4).
تفرد بهما الامام أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، ثنا حجاج - يعني ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة.
قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه الواحد، وهذا على عاتقه الآخر، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل يا رسول الله ! والله إنك
لتحبهما، فقال: من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني ".
تفرد به أحمد.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثني عقبة بن خالد، حدثني يوسف بن إبراهيم التميمي، أنه سمع أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أهل بيتك أحب إليك ؟ قال: " الحسن والحسين ".
قال: وكان يقول " ادع لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه " (5).
وكذا رواه الترمذي عن أبي سعيد الاشج به، وقال: حسن غريب من حديث أنس.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر وعفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس.
أن
__________
(1) بضم النون وهو عبد الرحمن يكنى أبا الحكم البجلي.
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (22) باب.
ح (3753) فتح الباري 7 / 95.
وأخرجه الترمذي في المناقب (31) باب.
ح (3770) ص 5 / 657.
(3) مسند أحمد ج 2 / 288، 440، 531.
(4) مسند أحمد ج 2 / 442، وأخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم في المناقب ح (3870) ص 5 / 699.
(5) أخرجه الترمذي في المناقب (31) باب.
ح (3772) ص (5 / 657).

رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت، * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة.
وقال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أسامة، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي بن ثابت، عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبصر حسنا وحسينا فقال: اللهم إني أحبهما فأحبهما " (2) ثم قال: حسن صحيح وقد روى الامام أحمد عن زيد بن الحباب، عن الحسين بن واقد.
وأهل السنن الاربعة من حديث الحسين بن واقد عن بريدة عن أبيه.
قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله، * (إنما أموالكم
وأولادكم فتنة) * [ التغابن: 15 ] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتها " (3).
وهذا لفظ الترمذي، وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد.
ثم قال: حدثنا الحسن (4) بن عرفة، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن راشد عن يعلى بن مرة.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الاسباط ".
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
ورواه أحمد عن عفان عن وهب عن عبد الله بن عثمان بن خيثم به.
ورواه الطبراني عن بكر بن سهل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بن راشد بن سعد، عن يعلى بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحسن والحسين سبطان من الاسباط ".
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " (5).
ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وغيره عن يزيد بن أبي زياد، وقال: حسن صحيح.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد، عن مروان الفزاري، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبيه عن أبي
__________
(1) سورة الاحزاب آية 33.
والحديث أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 259، 285 وأخرجه الترمذي في تفسير القرآن (34) باب.
ح (3206) ص (5 / 352).
(2) كتاب المناقب (31) باب.
ح (3782) ص (5 / 661).
(3) تقدم تخريجه فليراجع في ترجمة الحسن بن علي من هذا الجزء صفحة 41.
(4) من الترمذي، وتقريب التهذيب، وهو الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، أبو علي البغدادي، صدوق مات سنة 257 ه.
(تقريب 1 / 168 / 290).
والحديث أخرجه الترمذي في المناقب.
(31) باب.
ح (3775) ص (5 / 658).
والامام أحمد في مسنده (4 / 172).
(5) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 3، 62، 64، 83 والترمذي في المناقب (31) باب.

سعيد.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة، يحيى
وعيسى صلى الله عليه وسلم ".
وأخرجه النسائي من حديث مروان بن معاوية الفزاري به، ورواه سويد بن سعيد عن محمد بن حازم، عن الاعمش، عن عطية عن أبي سعيد.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن ربيع بن سعد عن أبي سابط قال: دخل حسين بن علي المسجد فقال جابر بن عبد الله: من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
تفرد به أحمد، وروى الترمذي والنسائي من حديث إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة أن أمه بعثته ليستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها، قال: فأتيته فصليت معه المغرب ثم صلى حين صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال: " من هذا ؟ حذيفة ؟ قلت: نعم ! قال: ما حاجتك غفر الله لك ولامك ؟ إن هذا ملك لم ينزل إلى الارض قبل هذه الليلة استأذن ربه بأن يسلم علي ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " (1) ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا يعرف إلا من حديث إسرائيل.
وقد روي مثل هذا من حديث علي بن أبي طالب ومن حديث الحسين نفسه، وعمر وابنه عبد الله وابن عباس وابن مسعود وغيرهم، وفي أسانيده كلها ضعف والله أعلم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا موسى بن عطية عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحسن والحسين: " من أحبني فليحب هذين ".
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا إسماعيل - يعني ابن جعفر - أخبرني محمد - يعني ابن حرملة - عن عطاء.
أن رجلا أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم " يضم إليه حسنا وحسينا ويقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما " (2).
وقد روي عن أسامة بن زيد وسلمان الفارسي شئ يشبه هذا وفيه ضعف وسقم والله أعلم.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا كامل وأبو المنذر ابنا كامل قال أسود: أنبأنا المعنى عن أبي صالح عن أبي هريرة.
قال: " كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فإذا سجد وثب الحسين والحسن على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما أخذا رفيقا فيضعهما على الارض، فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته
أقعدهما على فخذيه، قال: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله أردهما إلى أمهما ؟ قال: فبرقت برقة فقال لهما: الحقا بأمكما، قال فمكث ضؤها حتى دخلا على أمهما " (3).
وقد روى موسى بن عثمان
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب (31) باب.
ح (3781) ص (5 / 660).
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده 5 / 369، والترمذي في المناقب عن البراء (31) باب.
ح (3782) ص (5 / 661).
(3) مسند أحمد 2 / 513.

الحضرمي، عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة نحوه، وقد روي عن أبي سعيد وابن عمر قريب من هذا، فقال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا معاذ بن معاذ، ثنا قيس بن الربيع، عن أبي المقدام عبد الرحمن الازرق عن علي.
قال: " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة لنا كي يحلبها فدرت فجاءه الآخر فنحاه، فقالت فاطمة: يا رسول الله كأنه أحبهما إليك ؟ قال: لا ولكنه استسقى قبله، ثم قال: إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة " (1).
تفرد به أحمد.
ورواه أبو داود الطيالسي: عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي فاختة عن علي فذكر نحوه.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان يكرمهما ويحملهما ويعطيهما كما يعطي أباهما، وجئ مرة بحلل من اليمن فقسمها بين أبناء الصحابة ولم يعطهما منهما شيئا، وقال: ليس فيها شئ يصلح لهما، ثم بعث إلى نائب اليمن فاستعمل لهما حلتين تناسبهما.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا قبيصة بن عقبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين مقبلا فقال: هذا أحب أهل الارض إلى أهل السماء.
وقال الزبير بن بكار: حدثني سليمان بن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وهم صغار لم يبلغوا، ولم يبايع صغيرا إلا منا ".
وهذا مرسل غريب.
وقال محمد بن سعد:
أخبرني يعلى بن عبيد، ثنا عبد الله بن الوليد الرصافي، عن عبد الله بن عبيد الله بن عميرة.
قال: حج الحسين بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا ونجائبه تقاد بين يديه.
وحدثنا أبو نعيم - الفضل بن دكين - ثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن الحسين بن علي حج ماشيا وإن نجائبه لتقاد وراءه.
والصواب أن ذلك إنما هو الحسن أخوه، كما حكاه البخاري.
وقال المدائني: جرى بين الحسن والحسين كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن إلى الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقام الحسين فقبله أيضا، وقال: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أني رأيت أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني.
وحكى الاصمعي عن ابن عون أن الحسن كتب إلى الحسين يعيب عليه إعطاء الشعراء فقال الحسين إن أحسن المال ما وقى العرض.
وقد روى الطبراني: حدثنا أبو حنيفة محمد بن حنيفة الواسطي ثنا يزيد بن البراء بن عمرو بن البراء الغنوي، ثنا سليمان بن الهيثم قال: كان الحسين بن علي يطوف بالبيت فأراد أن يستلم فيما وسع له الناس، فقال رجل: يا أبا فراس من هذا فقال الفرزدق:
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 101.

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم في كفه خيزران رحيها عبق * بكف أورع في عرنينه شمم مشتقة من رسول الله نسبته (1) * طابت عناصره (2) والخيم والشيم لا يستطيع جواد بعد غايته (3) * ولا يدانيه قوم إن هموا كرموا
من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله أمم أي العشائر هم ليست رقابهم * لاولية هذا أوله نعم هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في معجمه الكبير وهو غريب، فإن المشهور أنها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه فإن الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق، فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدم، ثم إن الحسين قتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت والله أعلم، وروى هشام عن عوانة قال: قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد: أين الكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين ؟ فقال: مضيت لامرك وضاع الكتاب، فقال له ابن زياد: لتجيئن به، قال: ضاع، قال: والله لتجيئن به، قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش أعتذر إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها إلى سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه، فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله، صدق عمر والله.
ولوددت والله أنه ليس من بني ياد رجل إلا وفي أنفه خزامة (4) إلى يوم القيامة وأن حسينا لم يقتل، قال: فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله بن زياد.
فصل في شئ من أشعاره التي رويت عنه فمن ذلك ما أنشده أبو بكر بن كامل عن عبد الله بن إبراهيم وذكر أنه للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
__________
(1) في الديوان: نبعته.
(2) في الديوان: مغارسه.
(3) في الديوان: جودهم.
(4) الخزامة: الحلقة توضع في أنف البعير.

إغن عن المخلوق بالخالق * تسد على الكاذب والصادق
واسترزق الرحمن من فضله * فليس غير الله من رازق من ظن أن الناس يغنونه * فليس بالرحمن بالواثق أو ظن أن المال من كسبه * زلت به النعلان من حالق عن الاعمش أن الحسين بن علي قال: كلما زيد صاحب المال مالا * زيد في همه وفي الاشتغال قد عرفناك يا منغصة العي * - ش ويا دار كل فان وبالي ليس يصفو لزاهد طلب الزه * - د إذا كان مثقلا بالعيال وعن إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني أن الحسين زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال: ناديت سكان القبور فأسكتوا * وأجابني عن صمتهم ترب الحصا قالت أتدري ما فعلت بساكني * مزقت لحمهم وخرقت الكسا وحشوت أعينهم ترابا بعدما * كانت تأذى باليسير من القذا أما العظام فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوا قطعت ذا زاد من هذا كذا * فتركتها رمما يطوف بها البلا وأنشد بعضهم للحسين رضي الله عنه أيضا: لئن كانت الدنيا تعد نفيسة * فدار ثواب الله أعلى وأنبل وإن كانت الابدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل وإن كانت الارزاق شيئا مقدرا * فقلة سعي المرء في الرزق أجمل وإن كانت الاموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل ومما أنشد الزبير بن بكار من شعره في امرأته الرباب بنت أنيف، ويقال بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي أم ابنته سكينة (1): لعمرك إنني لاحب دارا * تحل (2) بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي * وليس للائمي فيها (3) عتاب
__________
(1) قال ابن الكلبي اسمها أميمة.
وقال المديني عن المالكي: اسمها آمنة وقيل أمينة.
وسكينة لقب لقبت به (انظر الاغاني 16 / 138).
(2) في الاغاني: تكون.
(3) في الاغاني 16 / 139: لعاتب عندي عتاب.

ولست لهم وإن عتبوا مطيعا * حياتي أو يعليني التراب (1) وقد أسلم أبوها على يدي عمر بن الخطاب وأمره عمر على قومه، فلما خرج من عنده خطب إليه علي بن أبي طالب أن يزوج ابنه الحسن والحسين من بناته، فزوج الحسن ابنته سلمى، والحسين ابنته الرباب، وزوج عليا ابنته الثالثة، وهي المحياة بنت امرئ القيس في ساعة واحدة، فأحب الحسين زوجته الرباب حبا شديدا وكان بها معجبا يقول فيها الشعر، ولما قتل بكربلاء كانت معه فوجدت عليه وجدا شديدا، وذكر أنها أقامت على قبره سنة ثم انصرفت وهي تقول: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وقد خطبها بعده خلق كثير من أشراف قريش فقالت: ما كنت لاتخذ حموا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله لا يؤويني ورجلا بعد الحسين سقف أبدا.
ولم تزل عليه كمدة حتى ماتت، ويقال إنها إنما عاشت بعده أياما يسيرة فالله أعلم، وابنتها سكينة بنت الحسين كانت من أجمل النساء حتى إنه لم يكن في زمانها أحسن منها فالله أعلم.
وروى أبو مخنف: عن عبد الرحمن بن جندب أن ابن زياد بعد مقتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر بن يزيد، فتطلبه حتى جاءه بعد أيام فقال: أين كنت يا بن الحر ؟ قال: كنت مريضا، قال: مريض القلب أم مريض البدن ؟ قال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من الله عليه بالعافية، فقال له ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا، قال: لو كنت مع عدوك لم يخف مكان مثلي، ولكان الناس شاهدوا ذلك، قال: وعقل عن ابن زياد
عقلة فخرج ابن الحر فقعد على فرسه.
ثم قال: أبلغوه أني لا آتيه والله طائعا فقال ابن زياد: أين ابن الحر ؟ قال: خرج، فقال علي به، فخرج الشرط في طلبه فأسمعهم غليظ ما يكرهون، وترضى عن الحسين وأخيه وأبيه ثم أسمعهم في ابن زياد غليظا من القول ثم امتنع منهم وقال في الحسين وفي أصحابه شعرا: يقول أمير غادر حق غادر * ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه فيا ندمي أن لا أكون نصرته * لذو حسرة ما إن تفارق لازمه (2)
__________
(1) في الاغاني: فلست لهم وإن غابوا مضيعا * حياتي أو يغيبني التراب (2) في الطبري 6 / 270: فيا ندمي أن لا أكون نصرته * ألا كل نفس لا تسدد نادمه وإني لاني لم أكن من جماته * لذو حسرة ما إن تفارق لازمه

سقى الله أرواح الذين تبارزوا * على نصره سقيا من الغيث دائمه وقفت على أجداثهم وقبورهم * فكان الحشى ينقض والعين ساجمه لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى * سراعا إلى الهيجا حماة حضارمه تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم * بأسيافهم أساد غبل ضراغمه فإن يقتلوا تلك النفوس التقية (1) * على الارض قد أضحت لذلك واجمه فما إن رأى الراؤون أفضل منهم * لدى الموت سادات وزهر قمامه أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا * فذى (2) خطة ليست لنا بملائمه لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم * فكم ناقم منا عليكم وناقمه أهم مرارا أن أسير بجحفل * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه فيا بن زياد استعد لحربنا * وموقف ضنك تقصم الظهر قاصمه
وقال الزبير بن بكار: قال سليمان بن قتيبة (3) يرثي الحسين رضي الله عنه: وإن قتيل الطف من آل هاشم * أذل رقابا من قريش فذلت (4) فإن تتبعوه عائذا لبيت تصبحوا (5) * كعاد تعمت عن هداها فضلت مررت على أبيات آل محمد * فالفيتها أمثالها حيث حلت (6) وكانوا لنا غنما فعادوا رزية (7) * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت فلا يبعد الله الديار وأهلها * وإن أصبحت منهم بزعمي تحلت (8) إذا افتقرت قيس خبرنا فقيرها * وتقتلنا قيس إذا النعل زلت وعند يزيد (9) قطرة من دمائنا * سنجزيهم يوما بها حيث حلت ألم تر أن الارض أضحت مريضة * لقتل حسين والبلاة اقشعرت ومما وقع من الحوادث في هذه السنة - أعني إحدى وستين - بعد مقتل الحسين:
__________
(1) في الطبري: فإن يقتلوا فكل نفس تقية...(2) في الطبري: فدع.
(3) في مروج الذهب 3 / 79 والكامل للمبرد 1 / 131 سليمان بن قتة، وفي الكامل لابن الاثير: قال التيمي تيم مرة.
وقال المبرد: وسليمان بن قتة رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي وكان منقطعا إلى بني هاشم.
(4) في الكامل للمبرد، وكامل ابن الاثير: أذل رقاب المسلمين.
(5) في مروج الذهب: فإن يتبعوه عائذ البيت يصبحوا.
وسقط البيت من ابن الاثير والمبرد.
(6) في كامل المبرد: فلم أرها كعهدها يوم حلت.
وفي ابن الاثير: فلم أرها أمثالها...(7) في ابن الاثير: وكانوا رجاء ثم أضحوا رزية، وفي المبرد: ثم صاروا.
(8) في الكامل للمبرد وابن الاثير: وإن أصبحت من أهلها قد تخلت.
(9) في الكامل للمبرد والكامل لابن الاثير: غني.

ففيها ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان حين وفد عليه، وله من العمر
أربعة وعشرون سنة، وعزل عنها أخويه عبادا وعبد الرحمن، وسار سلم إلى عمله فجعل ينتخب الوجوه والفرسان، ويحرض الناس على الجهاد، ثم خرج في جحفل عظيم ليغزو بلاد الترك، ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وولدت هناك ولدا أسموه صغدى، وبعثت (1) إليها امرأة صاحب صغدى بتاجها من ذهب ولآل.
وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتون في تلك البلاد، فشتى بها سلم بن زياد.
وبعث المهلب بن أبي صفرة إلى تلك المدينة التي هي للترك، وهي خوارزم فحاصرهم حتى صالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان يأخذ منهم عروضا عوضا، فيأخذ الشئ بنصف قيمته فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بذلك المهلب عند سلم بن زياد.
ثم بعث من ذلك ما اصطفاه ليزيد بن معاوية مع مرزبان ومعه وفد، وصالح سلم أهل سمرقند في هذه الغزوة على مال جزيل.
وفيها عزل يزيد عن إمرة الحرمين عمرو بن سعيد وأعاد إليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فولاه المدينة، وذلك أن ابن الزبير لما بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ويعظم قتل الحسين وأصحابه جدا، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحم على الحسين ويلعن من قتله، ويقول: أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغنا والملاهي، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد، - يعرض في ذلك بيزيد بن معاوية - فسوف يلقون غيا، ويؤلب الناس على بني أمية ويحثهم على مخالفته وخلع يزيد.
فبايعه خلق كثير في الباطن، وسألوه أن يظهرها فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد، وكان شديدا عليه ولكن فيه رفق، وقد كان كاتبه أهل المدينة وغيرهم، وقال الناس: أما إذ قتل الحسين فليس ينازع أحد أبن الزبير، فلما بلغ ذلك يزيد شق ذلك عليه وقيل له: إن عمرو بن سعيد لو شاء لبعث إليك برأس ابن الزبير، أو يحاصره حتى يخرجه من الحرم، فبعث فعزله وولى الوليد بن عتبة فيها، وقيل في مستهل ذي الحجة، فأقام للناس الحج فيها، وحلف يزيد ليأتيني ابن الزبير في سلسلة من فضة، وبعث بها مع البريد ومعه
برنس من خز ليبر يمينه، فلما مر البريد على مروان وهو بالمدينة وأخبره بما هو قاصد له وما معه من الغل أنشأ مروان يقول: فخذها فما هي للعزيز بخطة * وفيها مقال لامرئ متذلل أعامر إن القوم ساموك خطة * وذلك في الجيران غزل بمغزل
__________
(1) في الطبري 6 / 273 وابن الاثير 4 / 97: أن أم محمد استعارت منها حليا فبعثت إليها بتاجها ولم تعده إليها وذهبت به.

أراك إذا ما كنت في القوم ناصحا (1) * يقال له بالدلو أدبر وأقبل فلما انتهت الرسل إلى عبد الله بن الزبير بعث مروان ابنيه عبد الملك وعبد العزيز ليحضرا مراجعته في ذلك، وقال: أسمعاه قولي في ذلك، قال عبد العزيز: فلما جلس الرسل بين يديه جعلت أنشده ذلك وهو يسمع ولا أشعره، فالتفت إلي فقال: أخبرا أباكما أني أقول: إني لمن نبعة صم مكاسرها * إذا تناوحت القصباء والعشر ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى يلين لضرس الماضغ الحجر قال عبد العزيز: فما أدري أيما كان أعجب ! ! قال أبو معشر: لا خلاف بين أهل السير أن الوليد بن عتبة حج بالناس في هذه السنة وهو أمير الحرمين وعلى البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان وسجستان سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
من توفي فيها من الاعيان الحسين بن علي رضي الله عنهما ومعه بضعة عشر من أهل بيته قتلوا جميعا بكربلاء، وقيل بضعة وعشرون كما تقدم.
وقتل معهم جماعة من الابطال والفرسان.
جابر بن عتيك بن قيس أبو عبد الله الانصاري السلمي، شهد بدرا وما معه، وكان حامل راية الانصار يوم الفتح،
كذا قال ابن الجوزي، قال: وتوفي في هذه السنة عن إحدى وسبعين سنة.
حمزة بن عمرو الاسلمي صحابي جليل ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: سأل حمزة بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني كثير الصيام أفأصوم في السفر ؟ فقال له: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " (2).
وقد شهد فتح الشام، وكان هو البشير للصديق يوم أجنادين، قال الواقدي: وهو الذي بشر كعب بن مالك بتوبة الله عليه فأعطاه ثوبيه، وروى البخاري في التاريخ باسناد جيد عنه أنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاءت لي أصابعي حتى جمعت عليها كل متاع كان
__________
(1) في الطبري: ناضحا.
(2) أخرجه البخاري في الصوم (22) باب.
ومسلم في الصيام ح (103) و (104) وأبو داود في الصوم ح (42) والنسائي في الصيام (56) و (58) وابن ماجه في الصيام ح (10) والدارمي ومالك في الموطأ في الصيام.
وأحمد في مسنده 6 / 46، 193، 202، 207.

للقوم " (1).
اتفقوا على أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة إحدى وستين -.
شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري الحجبي صاحب مفتاح الكعبة كان أبوه ممن قتله علي بن أبي طالب يوم أحد كافرا، وأظهر شيبة الاسلام يوم الفتح، وشهد حنينا وفي قلبه شئ من الشك، وقد هم بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلع الله على ذلك رسوله فأخبره بما هم به فأسلم باطنا وجاد إسلامه، وقاتل يومئذ وصبر فيمن صبر.
قال الواقدي عن أشياخه: إن شيبة قال: كنت أقول والله لو آمن بمحمد جميع الناس ما آمنت به، فلما فتح مكة وخرج إلى هوازن خرجت معه رجاء أن أجد فرصة آخذ بثأر قريش كلها منه، قال: فاختلط الناس ذات يوم ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فدنوت منه وانتضيت سيفي لاضربه به، فرفع لي شواظ من نار كاد يمحشني، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا شيبة ادن مني، فدنوت منه فوضع يده على صدري وقال: اللهم أعذه من الشيطان.
قال: فوالله ما رفع
يده حتى لهو يومئذ أحب إلي من سمعي وبصري، ثم قال: اذهب فقاتل، قال فتقدمت إلى العدو والله لو لقيت أبي لقتلته لو كان حيا، فلما تراجع الناس قال لي: يا شيبة الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك، ثم حدثني بكل ما كان في نفسي مما لم يطلع عليه أحد إلا الله عزوجل، فتشهدت وقلت: استغفر الله، فقال: غفر الله لك " (2).
ولي الحجابة بعد عثمان بن طلحة واستقرت الحجابة في بنيه وبيته إلى اليوم، وإليه ينسب بنو شيبة، وهم حجبة الكعبة.
قال خليفة بن خياط وغير واحد: توفي سنة تسع وخمسين.
وقال محمد بن سعد: بقي إلى أيام يزيد بن معاوية.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: مات في هذه السنة.
عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم صحابي انتقل إلى دمشق وله بها دار، ولما مات أوصى إلى يزيد بن معاوية وهو أمير المؤمنين.
الوليد بن عقبة بن أبي معيط ابن أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو وهب القرشي العبشمي، وهو أخو عثمان بن عفان لامه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وللوليد من الآخوة خالد وعمارة وأم
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 79 وأبو نعيم في الدلائل ص (494) والسيوطي في الخصائص الكبرى (2 / 81).
(2) انظر خبره في مغازي الواقدي 3 / 910 وابن هشام في السيرة 4 / 58 وابن عساكر عن مصعب بن شيبة ونقله الزرقاني في المواهب اللدنية 3 / 15.

كلثوم، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه بعد وقعة بدر من بين الاسرى صبرا بين يديه، فقال: يا محمد من للصبية ؟ فقال: " لهم النار " وكذلك فعل بالنضر بن الحارث.
وأسلم الوليد هذا يوم الفتح، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فرجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يجهز إليهم جيشا، فبلغهم ذلك فجاء من جاء
منهم ليعتذر إليه ويخبرونه بصورة ما وقع، فأنزل الله تعالى في الوليد: * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) * الآية [ الحجرات: 6 ].
ذكر ذلك غير واحد من المفسرين والله أعلم بصحة ذلك.
وقد حكى أبو عمرو بن عبد البر على ذلك الاجماع.
وقد ولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان نيابة الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، سنة خمس وعشرين، ثم شرب الخمر وصلى بأصحابه ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم ؟ ووقع منه تخبيط، ثم إن عثمان جلده وعزله عن الكوفة بعد أربع سنين فأقام بها، فلما جاء علي إلى العراق سار إلى الرقة واشترى له عندها ضيعة وأقام بها معتزلا جميع الحروب التي كانت أيام علي ومعاوية وما بعدها إلى أن توفي بضيعته في هذه السنة، ودفن بضيعته وهي على خمسة عشر ميلا من الرقة، ويقال: إنه توفي في أيام معاوية فالله أعلم.
روى له الامام أحمد وأبو داود حديثا واحدا في فتح مكة، وقد ذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، وذكر أيضا وفاة أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وقد تقدم ذكر وفاتها في سنة إحدى وخمسين، وقيل إنها توفيت سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ست وستين، والصواب ما ذكرناه.
أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية حذيفة وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشية المخزومية كانت أولا تحت ابن عمها أبي سلمة بن عبد الاسد فمات عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في شوال سنة ثنتين بعد وقعة بدر، وقد كانت سمعت من زوجها أبي سلمة: حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنه قال: " ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أبدله الله خيرا منها " قالت: فلما مات أبو سلمة قلت ذلك ثم قلت: ومن هو خير من أبي سلمة أول رجل هاجر ؟ ثم عزم الله لي فقلتها فأبدلني الله خيرا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت من حسان النساء وعابداتهن.
قال الواقدي: توفيت سنة تسع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة.
وقال ابن أبي خيثمة: توفيت في أيام يزيد بن معاوية.
قلت: والاحاديث المتقدمة في مقتل الحسين تدل على أنها عاشت إلى ما بعد مقتله والله أعلم.
ورضي الله
عنها والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين يقال فيها قدم وفد المدينة النبوية على يزيد بن معاوية فأكرمهم وأجازهم بجوائز سنية، ثم

عادوا من عنده بالجوائز فخلعوه وولوا عليهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، فبعث إليهم يزيد جندا في السنة الآتية إلى المدينة فكانت وقعة الحرة على ما سنبينه في التي بعدها إن شاء الله تعالى، وقد كان يزيد عزل عن الحجاز عمرو بن سعيد بن العاص، وولى عليهم الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما دخل المدينة احتاط على الاموال والحواصل والاملاك، وأخذ العبيد الذين لعمرو بن سعيد فحبسهم، - وكانوا نحوا من ثلاثمائة عبد - فتجهز عمرو بن سعيد إلى يزيد وبعث إلى عبيدة أن يخرجوا من السجن ويلحقوا به، وأعد لهم إبلا يركبونها، ففعلوا ذلك، فما لحقوه حتى وصل إلى يزيد فأكرمه واحترمه ورحب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثم إنه عاتبه في تقصيره في شأن ابن الزبير، فقال له: يا أمير المؤمنين الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل مكة والحجاز مالاوه علينا وأحبوه ولم يكن لي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويحترس مني، وكنت أرفق به كثيرا وأداريه لاستمكن منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه ومنعته من أشياء كثيرة، وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا اسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد هو وما جاء له، وماذا يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن عرف أنه يريده رددته صاغرا، وإلا خليت سبيله.
وقد وليت الوليد وسيأتيك من عمله وأمره ما لعلك تعرف به فضل مسارعتي واجتهادي في أمرك ومناصحتي لك إن شاء الله، والله يصنع لك ويكبت عدوك.
فقال له يزيد: أنت أصدق مما رماك وحملني عليك، وأنت ممن أثق به وأرجو معونته وأدخره لذات الصدع، وكفاية المهم وكشف نوازل الامور العظام.
في كلام طويل.
وأما الوليد بن عتبة فإنه أفام بالحجاز وقد هم مرارا أن يبطش بعبد الله بن الزبير فيجده متحذرا ممتنعا قد أعد للامور أقرانها.
وثار باليمامة رجل آخر يقال له نجدة بن عامر الحنفي (1)
حين قتل الحسين، وخالف يزيد بن معاوية، ولم يخالف ابن الزبير بل بقي على حدة، له أصحاب يتبعونه، فإذا كان ليلة عرفة دفع الوليد بن عتبة بالجمهور وتخلف عنه ابن الزبير وأصحاب نجدة، ثم يدفع كل فريق وحدهم.
ثم كتب نجدة (2) إلى يزيد: إنك بعثت إلينا رجلا أخرق لا يتجه لامر رشد ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق لين الكنف، رجوت أن يسهل به من الامور ما استوعر منها وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله تعالى.
قالوا: فعزل يزيد الوليد وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز وإذا هو فتى غر حدث غمر لم يمارس الامور، فطعموا فيه، ولما دخل المدينة بعث إلى يزيد منها وفدا فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الانصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة الحضرمي (3)، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد
__________
(1) في ابن الاثير: 4 / 103: النخعي.
(2) في الطبري 7 / 3 والكامل لابن الاثير: ابن الزبير.
(3) في ابن الاثير 4 / 102 والطبري 7 / 4: المخزومي.

فأكرمهم وأحسن إليهم وعظم جوائزهم، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، إلا المنذر بن الزبير فإنه سار إلى صاحبه عبيد الله بن زياد بالبصرة، وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف نظير أصحابه من أولئك الوفد، ولما رجع وفد المدينة إليها أظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر وتعزف عنده القينات بالمعازف (1)، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه، فتابعهم الناس على خلعه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على الموت، وأنكر عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب (2)، ورجع المنذر بن الزبير من البصرة إلى المدينة فوافق أولئك على خلع يزيد، وأخبرهم عنه أنه يشرب الخمر ويسكر حتى ترك الصلاة، وعابه أكثر مما عابه أولئك.
فلما بلغ ذلك يزيد قال: اللهم إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيت، فأدركه وانتقم منه.
ثم إن يزيد بعث إلى أهل المدينة النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا ويحذرهم غب ذلك ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة
ولزوم الجماعة، فسار إليهم ففعل ما أمره يزيد وخوفهم الفتنة وقال لهم: إن الفتنة وخيمة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام، فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا ؟ فقال له النعمان: أما والله لكأني وقد تركت تلك الامور التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين، وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي (3) وخلفت هؤلاء المساكين - يعني الانصار - يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم.
فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان الامر والله كما قال سواء.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة كذا قال وفيه نظر، فإنه إن كان في وفد أهل المدينة وقد رجعوا من عند يزيد فإنما وفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإن كان قد حج بالناس فيها الوليد فما قدم وفد المدينة إلى يزيد إلا في أول سنة ثلاث وستين وهو أشبه والله أعلم.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان بريدة بن الحصيب الاسلمي كان إسلامه حين اجتاز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر إلى المدينة عند كراع الغميم، فلما كان هناك تلقاه بريدة في ثمانين نفسا من أهله فأسلموا، وصلى بهم صلاة العشاء وعلمه ليلتئذ صدرا من سورة مريم، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أحد فشهد معه المشاهد كلها وأقام بالمدينة، فلما فتحت البصرة نزلها واختط بها دارا، ثم خرج إلى غزو خراسان فمات بمرو في خلافة يزيد بن معاوية.
ذكر موته غير واحد في هذه السنة.
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: ويعزف بالصنابير (ويضرب: في ابن الاثير) ويضرب عنده القيان (في ابن الاثير: ويعزف) ويلعب بالكلاب ويسمر عنده الحراب (اللصوص) والفتيان.
(2) لم يرد ذكره لا في الطبري ولا في ابن الاثير.
(3) في الطبري وابن الاثير: إلى مكة.

الربيع بن خثيم
أبو يزيد ؟ نوري الكوفي أحد أصحاب ابن مسعود قال له عبد الله بن مسعود: ما رأيتك قط إلا ذكرت المخبتين، ولو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحبك.
وكان ابن مسعود يجله كثيرا، وقال الشعبي: كان الربيع من معادن الصدق، وكان أورع أصحاب ابن مسعود، وقال ابن معين: لا يسأل عن مثله، وله مناقب كثيرة جدا، أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة.
علقمة بن قيس أبو شبل النخعي الكوفي كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم وكان يشبه بابن مسعود وقد روى علقمة عن جماعة من الصحابة وعنه خلق من التابعين.
عقبة بن نافع الفهري بعثه معاوية إلى إفريقية في عشرة آلاف فافتتحها، واختط القيروان، وكان موضعها غيضة لا ترام من السباع والحيات والحشرات، فدعا الله تعالى فجعلن يخرجن منها بأولادهن من الاوكار والجحار، فبناها ولم يزل بها حتى هذه السنة (1)، غزا أقواما من البربر والروم فقتل شهيدا رضي الله عنه.
عمر بن حزم صحابي جليل استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على نجران وعمره سبع عشرة سنة وأقام بها مدة، وأدرك أيام يزيد بن معاوية.
مسلم بمن مخلد الانصاري الزرقي ولد عام الهجرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وولي الجند بها لمعاوية ويزيد، ومات في ذي القعدة من هذه السنة.
مسلم بن معاوية الديلمي صحابي جليل شهد بدرا وأحدا والخندق مع المشركين، وكانت له في المسلمين نكاية، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتح مكة وحنينا، وحج مع أبي بكر سنة تسع، وشهد حجة
__________
(1) يذكر ابن الاثير في تاريخه ان معاوية عزل عقبة عن أفريقيا فعاد إلى الشام ثم وعده معاوية بإعادته إلى عمله ولم
يزل في الشام إلى وفاة معاوية فاستعمله يزيد على أفريقيا من جديد سنة 62 ه (الكامل 4 / 217).

الوداع، وعمر ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الاسلام، قاله الواقدي.
قال: وأدرك أيام يزيد بن معاوية، وقال ابن الجوزي: مات في هذه السنة.
وفيها توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن علي التي كانت حاضرة أهل العراق إذ هم يعدون في السبت أو في الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ففيها كانت وقعة الحرة: وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية وولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الانصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك واجتمعوا عند المنبر فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شئ كثير من العمائم والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد (1)، وعلى إجلا بني أمية من المدينة، فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناس علي بن الحسين " زين العابدين " وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وقد قال ابن عمر لاهله: لا يخلعن أحد منكم يزيد فتكون الفيصل ويروى الصيلم بيني وبينه، وسيأتي هذا الحديث بلفظه وإسناده في ترجمة يزيد، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت، وقال: إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر، وكذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب، وقد سئل محمد بن الحنفية في ذلك فامتنع عن ذلك أشد الامتناع، وناظرهم وجادلهم في يزيد ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب الخمر وتركه بعض الصلوات كما سيأتي مبسوطا في ترجمة يزيد قريبا إن شاء الله، وكتب بنو أمية إلى يزيد (2) بما هم فيه من الحصر والاهانة، والجوع والعطش، وإنه إن لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه وإلا استؤصلوا عن
آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد، فلما قدم بذلك على يزيد وجده جالسا على سريره ورجلاه في ماء يتبرد به مما به من النقرس في رجليه، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك وقال: ويلك ! ما فيهم ألف رجل ؟ قال: بلى، قال: فهل لا قاتلوا ساعة من النهار ؟ ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص فقرأ عليه الكتاب واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعرض عليه أن يبعثه إليهم فأبى عليه ذلك، وقال: إن أمير المؤمنين عزلني عنها وهي مضبوطة وأمورها محكمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 5 / 292: كان عمرو بن سعيد بن العاص عاملا ليزيد على المدينة - وقد تقدم عزله -.
(2) في الطبري 7 / 5 كتب مروان بن الحكم الكتاب إلى يزيد وأرسله مع حبيب بن قرة.
أما في الاخبار الطوال ص 264: ارتحل مروان من المدينة بولده وأهل بيته حتى لحق بالشام.

بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتولى ذلك من هو أبعد منهم مني، قال: فبعث البريد إلى مسلم بن عقبة المزني (1) وهو شيخ كبير ضعيف فانتدب لذلك وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس، وقيل اثنا عشر ألفا وخمسة عشر ألف رجل (2)، وأعطى كل واحد منهم مائة دينار (3) وقيل أربعة دنانير، ثم استعرضهم وهو على فرس له (4)، قال المدائني: وجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الاردن حبيش بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة.
فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين ولني عليهم أكفك - وكان النعمان أخا عبد الله بن حنظلة لامه عمرة بنت رواحة - فقال يزيد لا ! ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لاقتلنهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة.
فقال النعمان يا أمير المؤمنين أنشدك الله في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال له عبد الله بن جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل منهم ؟ قال: إن فعلوا فلا سبيل عليهم، وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثا فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منه وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح
المدينة ثلاثا ثم اكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شئ مما دخلوا فيه، وأمر مسلم إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن نمير، وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني.
وقد كان يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد أن يسير إلى الزبير فيحاصره بمكة، فأبى عليه وقال: والله لا أجمعهما للفاسق أبدا، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغزو البيت الحرام ؟ وقد كانت أمه مرجانة قالت له حين قتل الحسين: ويحك ماذا صنعت وماذا ركبت ؟ وعنفته تعنيفا شديدا.
قالوا: وقد بلغ يزيد أن ابن الزبير يقول في خطبته: يزيد القرود، شارب الخمور، تارك الصلوات، منعكف على القينات.
فلما جهز مسلم بن عقبة واستعرض الجيش بدمشق جعل يقول: أبلغ أبا بكر إذا الجيش سرى * وأشرف الجيش على وادي القرى (5)
__________
(1) في الطبري 7 / 6 والكامل لابن الاثير 4 / 112: المري.
(2) في ابن الاعثم 5 / 293: عشرون ألف فارس وسبعة آلاف راجل.
(3) في ابن الاعثم: مائتي دينار ولكل راجل مائة دينار (عدا أعطياتهم).
(4) في الاخبار الطوال ص 264: شيعهم حتى بلغ ماء يقال له " وبرة " وهي أقرب مياه الشام إلى الحجاز.
وفي ابن الاعثم: إلى الثنية.
(5) في الطبري والكامل وابن الاعثم...إذا الليل سرى وهبط القوم...(وانظر الاخبار الطوال ص 265 ومروج الذهب 3 / 84).

أجمع سكران من القوم ترى * يا عجبا من ملحد في أم القرى (1) * مخادع للدين يقضي بالفرى * (2) وفي رواية: أبلغ أبا بكر إذا الامر انبرى * ونزل الجيش على وادي القرى عشرون ألفا بين كهل وفتى * أجمع سكران من القوم ترى
قالوا: وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة في حصار بني أمية، وقالوا لهم: والله لنقتلنكم عن آخركم أو تعطونا موثقا أن لا تدلوا علينا أحدا من هؤلاء الشاميين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطوهم العهود بذلك، فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية فجعل مسلم يسألهم عن الاخبار فلا يخبره أحد، فانحصر لذلك، وجاءه عبد الملك بن مروان فقال له: إن كنت تريد النصر فأنزل شرقي المدينة في الحرة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم وفي وجوههم، فادعهم إلى الطاعة، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم فإن الله ناصرك عليهم إذ خالفوا الامام وخرجوا عن الطاعة.
فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقي المدينة في الحرة، ودعا أهلها ثلاثة أيام، كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة، فلما مضت الثلاثة قال لهم في اليوم الرابع - وهو يوم الاربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين - قال لهم: يا أهل المدينة: مضت الثلاث وإن أمير المؤمنين قال لي: إنكم أصله وعشيرته، وإنه يكره إراقة دمائكم، وإنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثا فقد مضت، فماذا أنتم صانعون ؟ أتسالمون أم تحاربون ؟ فقالوا: بل نحارب.
فقال: لا تفعلوا بل سالموا ونجعل جدنا وقوتنا على هذا الملحد - يعني ابن الزبير - فقالوا: يا عدو الله ! لو أردت ذلك لما مكناك منه، أنحن نذركم تذهبون فتلحدون في بيت الله الحرام ؟ ثم تهيأوا للقتال، وقد كانوا اتخذوا خندقا بينهم وبين ابن عقبة، وجعلوا جيشهم أربعة أرباع على كل ربع أمير (3)، وجعلوا أجمل الارباع الرباع الذي فيه عبد الله بن حنظلة الغسيل، ثم اقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم أهل المدينة إليها.
وقد قتل من الفريقين خلق من السادات والاعيان، منهم عبد الله بن مطيع وبنون له سبعة بين يديه، وعبد الله بن حنظلة الغسيل، وأخوه لامه محمد بن ثابت بن شماس، ومحمد بن عمرو بن حزم،
__________
(1) في الطبري والكامل وابن الاعثم يا عجبا من ملحد يا عجبا.
(2) في الطبري: يقفو بالعرى، وفي الكامل: يعفو بالعرى.
(3) في الطبري 7 / 8 عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف على ربع، وعبد الله بن مطيع على ربع آخر، ومعقل بن سنان الاشجعي على ربع آخر وعبد الله بن حنظلة الغسيل الانصاري في أعظم تلك الارباع وأكثره
عددا.

وقد مر به مروان وهو مجندل فقال: رحمك الله فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود.
ثم أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاث أيام كما أمره يزيد، لا جزاه الله خيرا، وقتل خلقا من أشرافها وقرائها وانتهب أموالا كثيرة منها، ووقع شر عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد.
فكان ممن قتل بين يديه صبرا معقل بن سنان، وقد كان صديقه قبل ذلك (1)، ولكن أسمعه في يزيد كلاما غليظا فنقم عليه بسببه، واستدعى بعلي بن الحسين فجاء يمشي بين مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ليأخذ له بهما عنده أمانا، ولم يشعر أن يزيد أوصاه به، فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب - وقد كان مسلم بن عقبة حمل معه من الشام ثلجا إلى المدينة فكان يشاب له بشرابه - فلما جئ بالشراب شرب مروان قليلا ثم أعطى الباقي لعلي بن الحسين ليأخذ له بذلك أمانا، وكان مروان مواذا لعلي بن الحسين، فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الاناء في يده قال له: لا تشرب من شرابنا، ثم قال له: إنما جئت مع هذين لتأمن بهما ؟ فارتعدت يد علي بن الحسين وجعل لا يضع الاناء من يده ولا يشربه، ثم قال له: لولا أن أمير المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك، ثم قال له: إن شئت أن تشرب فاشرب، وإن شئت دعونا لك بغيرها، فقال: هذه الذي في كفي أريد، فشرب ثم قال له مسلم بن عقبة: قم إلى ههنا فاجلس، فأجلسه معه على السرير وقال له: إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وإن هؤلاء شغلوني عنك.
ثم قال لعلي بن الحسين: لعل أهلك فزعوا، فقال: إي والله.
فأمر بدابته فأسرجت ثم حمله عليها حتى رده إلى منزله مكرما.
ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان - ولم يكن خرج مع بني أمية - فقال له: إنك إن ظهر أهل المدينة قلت أنا معكم، وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين، ثم أمر به فنتفت لحيته بين يديه - وكان ذا لحية كبيرة -.
قال المدائني: وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الاموال.
فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له: أنا بنت عمك فمر أصحابك أن لا يتعرضوا لابلنا بمكان كذا وكذا، فقال لاصحابه: لا تبدأوا إلا بأخذ إبلها أولا.
وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك في الاسارى، فقال: عجلوه لها، فضربت عنقه، وقال: اعطوه رأسه، أما ترضين أن لا يقتل حتى تتكلمي في ابنك ؟ ووقعوا على النساء حتى قيل إنه حبلت ألف امرأة في تلك الايام من غير زوج فالله أعلم.
قال المدائني عن أبي قرة قال: قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج.
وقد اختفى جماعة من سادات
__________
(1) في ابن الاعثم 5 / 297 - 298: قال مسلم: ابن عمي، وقال معقل: أنا ابن عمك، فأنا رجل من أشجع وأنت من بني مرة ويجمع وإياك قيس غيلان.

الصحابة منهم جابر بن عبد الله، وخرج أبو سعيد الخدري فلجأ إلى غار في جبل (1) فلحقه رجل من أهل الشام، قال: فلما رأيته انتضبت سيفي فقصدني، فلما رآني صمم على قتلي فشممت سيفي ثم قلت: * (إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) * فلما رأى ذلك قال: من أنت ؟ قلت: أنا أبو سعيد الخدري قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: نعم ! فمضى وتركني.
قال المدائني: وجئ إلى مسلم بسعيد بن المسيب فقال له: بايع ! فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر.
فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل أنه مجنون فخلى سبيله (2).
وقال المدائني عن عبد الله القرشي وأبي إسحاق التميمي قالا: لما انهزم أهل المدينة يوم الحرة صاح النساء والصبيان، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة.
قال المدائني عن شيخ من أهل المدينة.
قال: سألت الزهري كم كان القتلى يوم الحرة قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والانصار، ووجوه الموالي وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف (3).
قال: وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاث أيام.
قال الواقدي وأبو معشر: كانت وقعة
الحرة يوم الاربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
قال الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن ابن عون قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكانوا يسمونه العائذ - يعني العائذ بالبيت - ويرون الامر شورى، وجاء خبر الحرة إلى أهل مكة ليلة مستهل المحرم مع سعيد مولى المسور بن مخرمة، فحزنوا حزنا شديدا وتأهبوا لقتال أهل الشام.
قال ابن جرير: وقد رويت قصة الحرة على غير ما رواه أبو مخنف: فحدثني أحمد بن زهير، ثنا أبي، سمعت وهب بن جرير، ثنا جويرية بن أسماء قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته لنا، فلما هلك معاوية وفد إلى يزيد وفد من أهل المدينة، وكان ممن وفد إليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر - وكان شريفا
__________
(1) في الامامة والسياسة 1 / 213 وابن الاعثم 5 / 295: لزم بيته.
(2) في الامامة والسياسة: كان سعيد بن المسيب لم يبرح من المسجد ولم يكن يخرج إلا من الليل إلى الليل.
(3) في مروج الذهب 3 / 85: قتل من آل أبي طالب اثنان - ومن بني هاشم ثلاثة وبضع وتسعون رجلا من سائر قريش ومثلهم من الانصار، وأربعة آلاف من سائر الناس، ودون من لم يعرف.
وقال ابن الاعثم 5 / 295: قتل من أولاد المهاجرين ألف وثلاثمائة وقتل من أبناء الانصار ألف وسبعمائة ومن العبيد والموالي وسائر الناس ثلاثة آلاف وخمسمائة.
وفي الامامة والسياسة 1 / 216: قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا، ومن قريش والانصار سبع مئة ومن سائر الناس من الموالي والعرب والتابعين عشرة آلاف.
وفي المعرفة والتاريخ 3 / 325 عن مالك بن أنس قال: قتل يوم الحرة سبعمائة من حملة القرآن وكان فيهم ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

فاضلا سيدا عابدا - ومعه ثمانية بنين له فأعطاه يزيد مائة ألف درهم، وأعطى بنيه كل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملاتهم، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدمها أتاه الناس فقالوا له: ما وراءك ؟ فقال: جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم قالوا: قد بلغنا
أنه أعطاك وأخدمك وأحذاك وأكرمك.
قال: قد فعل وما قبلت منه إلا لا تقوى به على قتاله، فحض الناس فبايعوه، فبلغ ذلك يزيد فبعث إليهم مسلم بن عقبة، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبوا فيه زقا من قطران وغوروه، فأرسل الله على جيش الشام السماء مدرارا بالمطر، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة، فخرج أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، وكان أميرهم مسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، قد أقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدر، فانهزم الناس فكان من أصيب في الخندق أعظم ممن قتل، فدخلوا المدينة وعبد الله بن حنظلة مستند إلى الجدار يغط نوما، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه ورأى ما صنع الناس، أمر أكبر بنيه فتقدم فقاتل حتى قتل، فدخل مسلم بن عقبة المدينة فدعا الناس للبيعة على أنهم خول (1) ليزيد بن معاوية، ويحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد الصمد من تاريخه من كتاب المجالسة لاحمد بن مروان المالكي: ثنا الحسين بن الحسن اليشكري، ثنا الزيادي عن الاصمعي ح.
وحدثني محمد بن الحارث عن المدائني قال: لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قيس مساء تلك الليلة، وابن الزبير جالس يسمع: والصائمون القانتو * ن أولو العبادة والصلاح المهتدون المحسنو * ن السابقون إلى الفلاح ماذا بواقم والبقي * ع من الجحاجحة الصباح وبقاع يثرب ويحهن * - ن من النوادب والصياح قتل الخيار بنو الخيا * ر ذوي المهابة والسماح فقال ابن الزبير: يا هؤلاء قتل أصحابكم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أخطأ يزيد خطأ فاحشا في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا خطأ كبير فاحش، مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم، وقد تقدم أنه قتل
الحسين وأصحابه على يدي عبيد الله بن زياد.
وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أراد بارسال مسلم بن
__________
(1) خول: خدم وعبيد، وفي الاخبار الطوال ص 265: بايع على أنكم فئ لامير المؤمنين.

عقبة توطيد سلطانه وملكه، ودوام أيامه من غير منازع، فعاقبه الله بنقيض قصده، وحال بينه وبين ما يشتهيه، فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا الحسين بن حريث (1)، ثنا الفضل بن موسى، ثنا الجعيد، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " (2).
وقد رواه مسلم من حديث أبي عبد الله القراظ المديني - واسمه دينار - عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يريد أحد المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص - أو ذوب الملح في الماء ".
وفي رواية لمسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن سعد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء " (3).
وقال الامام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، ثنا يزيد بن خصيفة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " (4).
ورواه النسائي من غير وجه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن عطاء بن يسار، عن خلاد بن منجوف بن الخزرج أخبره فذكره.
وكذلك رواه الحميدي عن عبد العزيز بن أبي حازم عن يزيد بن خصيفة.
ورواه النسائي أيضا عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن أبي مريم، عن عطاء بن يسار عن ابن خلاد - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره.
وقال ابن وهب:
أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن أبي بكر، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وقال الدارقطني: ثنا علي بن أحمد بن القاسم، ثنا أبي، ثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، ثنا أبو زكريا، يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الانصاري، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا: خرجنا مع أبينا يوم الحرة وقد كف بصره فقال: تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا أبة وهل أحد يخيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سمعت
__________
(1) من البخاري وفي الاصل الحارث.
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة (7) باب.
ح (1877) فتح الباري 4 / 94.
(3) أخرجه في صحيحه.
كتاب الحج (89) باب.
ح 493 - 494 ص 2 / 1007 - 1008.
(4) مسند أحمد ج 4 / 55.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أخاف أهل هذا الحي من الانصار فقد أخاف ما بين هذين - ووضع يده على جبينه - " (1) قال الدارقطني: تفرد به سعد بن عبد العزيز لفظا وإسنادا، وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال وأبو بكر عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وابنه القاضي أبو الحسين وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد، وجوز لعنته.
ومنع من ذلك آخرون وصنفوا فيه أيضا لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ، وقالوا: إنه كان مع ذلك إماما فاسقا، والامام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقع الهرج وسفك الدماء الحرام، ونهب الاموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كان واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا.
وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه، فرح بذلك فرحا شديدا، فإنه كان يرى أنه الامام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة، كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة كما تقدم، وقد جاء في الصحيح: " من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان ".
وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزبعرى في وقعة أحد التي يقول فيها: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع (2) الخزرج من وقع الاسل حين حلت بفنائهم (3) بركها * واستحر القتل في عبد الاشل قد قتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل (4)
__________
(1) في رواية الامامة والسياسة عن جابر 1 / 214: جنبي.
(2) في فحول الشعراء ص 199: ضجر، وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 241: وقعة.
وورد في سمط النجوم العوالي هذا البيت فقط.
(3) في فحول الشعراء: ألقت بقناة، وفي الاخبار الطوال ص 267: حكت بقباء.
(4) في فحول الشعراء ص 200: فقبلنا النصف من سادتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل وفي نور العين: قد قتلنا النصف من أشرافكم...وفي ابن الاعثم 5 / 241: فجزيناهم ببدر مثلها * وأقمنا مثل بدر فاعتدل

وقد زاد بعض الروافض فيها فقال: لعبت هاشم بالملك فلا * ملك جاءه ولا وحي نزل فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على
من وضعه عليه ليشنع به عليه، وسيذكر في ترجمة يزيد بن معاوية قريبا، وما ذكر عنه وما قيل فيه وما كان يعانيه من الافعال والقبائح والاقوال في السنة الآتية، فإنه لم يمهل بعد وقعة الحرة وقتل الحسين إلا يسيرا حتى قصمه الله الذي قصم الجبابرة قبله وبعده، إنه كان عليما قديرا.
وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والاعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرة مما يطول ذكرهم.
فمن مشاهيرهم من الصحابة عبد الله بن حنظلة أمير المدينة في وقعة الحرة، ومعقل بن سنان وعبيد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهم، ومسروق بن الاجدع.
ثم دخلت سنة أربع وستين ففيها في أول المحرم منها سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصدا قتال ابن الزبير ومن التف عليه من الاعراب، على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف على المدينة روح بن زنباع (1)، فلما بلغ ثنية هرشا (2) بعث إلى رؤوس الاجناد فجمعهم، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي أن حديث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني، ووالله لو كان الامر لي ما فعلت، ثم دعا به فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به، ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أحب إلي من قتل أهل المدينة، وأجزى عندي في الآخرة.
وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي، ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك (3) فيما قاله الواقدي.
ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الاول لاربع عشر ليلة خلت منه، فما متعهما الله بشئ مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممن يشاء.
وسار حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لاربع بقين من المحرم فيما قاله الواقدي، وقيل لسبع مضين منه، وقد تلاحق بابن الزبير جماعات ممن بقي من أشراف أهل المدينة،
__________
(1) وقال الواقدي: استخلف عمرو بن محرز الاشجعي.
(2) هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة.
(3) في الطبري 7 / 14: المشلل، وفي رواية هشام بن الكلبي: ثنية هرشى.
وفي مروج الذهب 3 / 86 والامامة والسياسة 2 / 11: قديد.

وانضاف إليه أيضا نجدة بن عامر الحنفي - من أهل اليمامة - في طائفة من أهلها ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه ابن الزبير في أهل مكة ومن التف معه فاقتتلوا عند ذلك قتالا شديدا، وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام فقتل كل واحد منهما صاحبه، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة، فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة عبد الله بن الزبير به، فكر عليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وطائفة فقاتلوا دونه حتى قتلوا جميعا، وصابرهم ابن الزبير حتى الليل فانصرفوا عنه ثم اقتتلوا في بقية شهر المحرم وصفرا بكماله، فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الاول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت، هذا قول الواقدي، وهم يقولون: خطاره مثل الفتيق المزبد * ترمى بها جدران (1) هذا المسجد وجعل عمر بن حوطة السدوسي يقول: كيف ترى صنيع أم فروة * تأخذهم بين الصفا والمروة وأم فروة اسم المنجنيق، وقيل: إنما احترقت لان أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة، فعلقت النار في بعض أستار الكعبة فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت، وقيل إنما احترقت لان ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة في ليلة ظلماء فظن أنهم أهل الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شررة من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليماني والاسود من الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، واسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة منه.
واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعي يزيد بن معاوية، وأنه قد مات لاربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاول سنة أربع وستين، وهو ابن خمس أو ثمان أو تسع وثلاثين سنة، فكانت ولايته ثلاث سنين وستة أو ثمانية أشهر، فغلب أهل
الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة، ويقال: إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة، ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام فنادى فيهم: يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع، فلم يصدق الشاميون أهل مكة فيما أخبروهم به، حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع (2) بالخبر اليقين.
ويذكر أن حصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدثه بين الصفين فاجتمعا حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفها، فقال له ابن الزبير: مالك ؟ فقال: إن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل من الروث
__________
(1) في الطبري 7 / 14 وفي الكامل 4 / 124: نرمي بها أعواد.
(2) في الطبري 7 / 16: المنقع.

فأكره أن أطأ حمام الحرم، فقال له: تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين ؟ فقال له حصين.
فأذن لنا فلنطف بالكعبة ثم ترجع جلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا.
وذكر ابن جرير أن حصينا وابن الزبير اتعدا ليلة أن يجتمعا فاجتمعا بظاهر مكة (1)، فقال له حصين: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الامر بعده، فهلم فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان.
فيقال: إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك وأغلظ له في المقال فنفر منه ابن نمير وقال: أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال ؟ ثم كر بالجيش راجعا إلى الشام، وقال: أعده بالملك ويتواعدني بالقتل ؟.
ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له: أما الشام فلست آتيه ولكن خذلي البيعة على من هناك، فإني أؤمنكم وأعدل فيكم.
فبعث إليه يقول له: إن من يبتغيها من أهل هذا البيت بالشام لكثير.
فرجع فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي بن الحسين " زين العابدين " وأهدى لحصين بن نمير قتا وعلفا، وارتحلت بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، والله
سبحانه أعلم بالصواب.
وهذه ترجمة يزيد بن معاوية هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو خالد الاموي، ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون ولي العهد من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمر متوليا إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الاول سنة أربع وستين، وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف بن دلجة بن نفاثة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي.
روى عن أبيه معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " (2).
وحديثا آخر في الوضوء.
وعنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي العليا، وقال: له أحاديث، وكان كثير اللحم عظيم الجسم كثير الشعر جميلا طويلا ضخم الهامة محدد الاصابع غليظها مجدرا، وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت أمه في المنام أنه خرج منها قمر من قبلها، فقصت رؤياها على أمها فقالت: إن صدقت رؤياك لتلدن من يبايع له
__________
(1) في الطبري 7 / 17: بالابطح.
(2) أخرجه البخاري في العلم ح (10) وفي الخمس وفي الاعتصام.
ومسلم في الامارة ح (175) وفي الزكاة ح (98) و 100.
والترمذي في العلم ح (4) وابن ماجة في المقدمة.
والدارمي في المقدمة والرقاق.
وأحمد في المسند 1 / 306، 2 / 234، 4 / 92، 93، 95، 96، 97، 98، 99، 100.

بالخلافة.
وجلست أمه ميسون يوما تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية مع زوجته الحظية عنده في المنظرة، وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت من مشطه نظرت أمه إليه فأعجبها فقبلته بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك: إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما وانطلق يزيد يمشي وفاختة تتبعه بصرها ثم قالت: لعن الله سواد ساقي أمك، فقال
معاوية: أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله - وهو ولده منها وكان أحمق - فقالت فاختة: لا والله لكنك تؤثر هذا عليه، فقال: سوف أبين لك ذلك حتى تعرفينه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى بابنها عبد الله فقال له: إنه قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فقال: حاجتي أن تشتري لي كلبا فارها وحمارا فارها، فقال: يا بني أنت حمار وتشتري لك حمارا ؟ قم فاخرج.
ثم قال لامه: كيف رأيت ؟ ثم استدعى بيزيد فقال: إني قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فسلني ما بدا لك.
فخر يزيد ساجدا ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه في هذا الرأي، حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتعرض لايتام بني جمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي.
فقال: مالك ولايتام بن عدي ؟ فقال: لانهم حالفوني وانتقلوا إلى داري.
فقال معاوية: قد فعلت ذلك كله، وقبل وجهه، ثم قال لفاختة بنت قرظة: كيف رأيت ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين أوصه بي فأنت أعلم به مني، ففعل.
وفي رواية أن يزيد لما قال له أبوه: سلني حاجتك، قال له يزيد: اعتقني من النار أعتق الله رقبتك منها، قال: وكيف ؟ قال: لاني وجدت في الآثار أنه من تقلد أمر الامة ثلاثة أيام حرمه الله على النار، فاعهد إلي بالامر من بعدك ففعل.
وقال العتبي: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما له فقال له: اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك ! ! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك ؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الاحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر.
قلت: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاما له فقال: " اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه " (1).
قال العتبي: وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوء جواهر على معاوية فسر بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر ثم افتخر بما يفعله بأرض
__________
(1) أخرجه مسلم في الايمان ح (34) (35) (36) وأبو داود في الادب ح (124) والترمذي في البر ح (30) وأحمد
في المسند 4 / 120.

العراق من تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بني أمية.
فقال له معاوية: اجلس فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن السائب قال: غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره فقال له الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين إنما هم أولادنا، ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فارضهم، وإن طلبوا فاعطهم، ولا تكن عليهم ثقلا فيملوا حياتك ويتمنوا موتك.
فقال معاوية: لله درك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائة ألف درهم، ومائة ثوب.
فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين ؟ فقال: الاحنف، فقال يزيد: لا جرم لاقاسمنه، فبعث إلى الاحنف بخمسين ألفا وخمسين ثوبا.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة عن أبيه.
قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الاحداث، فأحس معاوية بذلك فأحب أن يعظه في رفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمرؤتك وقدرك، ويشمت بك عدوك ويسئ بك صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتا فتأدب بها واحفظها، فأنشده: انصب نهارا في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب حتى إذا الليل أتى بالدجا * واكتحلت بالغمض عين الرقيب فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الاريب كم فاسق تحسبه ناسكا * قد باشر الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمن وعيش خصيب ولذة الاحمق مكشوفة * يسعى بها كل عدو مريب (1)
قلت: وهذا كما جاء في الحديث " من ابتلي بشئ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل " (2).
وروى المدائني: أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحب به وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني، ثم ذكر الحسن فقال: رحم
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة قال في الهامش: بالهامش - ونسبة هذا الشعر إلى معاوية فيه نظر والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) أخرجه مالك في الموطأ في الحدود.
ح (12).

الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خير لك ثوابا وخير عقبى.
فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، ثم أنشد متمثلا: مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم الاوائل وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة تسع وأربعين في قول يعقوب بن سفيان.
وقال خليفة بن خياط: سنة خمسين.
ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم.
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم ".
وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند أم حرام فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " أنت من الاولين " (1).
يعني جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا.
وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الاعمش، عن
إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " (2).
وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد عن زرارة بن أوفى قال: القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية.
قال أبو بكر بن عياش: حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين وثنتين وخمسين وثلاث وخمسين.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن أبي بكير بن الاشج أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت ؟ قال: يمتع الله بك يا أمير المؤمنين، قال لتخبرني: قال، كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب.
فقال معاوية: سبحان الله يا بني والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر ؟.
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى.
قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد ! ! اتق الله فقد وطأت لك هذا الامر،
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري عن يحيى بن يحيى في الجهاد والسير (3) باب.
وأخرجه مسلم في الامارة (49) باب فضل الغزو في البحر.
(2) أخرجه مسلم عن عبد الرحمن بن بشر عن عمران بن حصين في فضائل الصحابة (52) باب.
ح (214) ص (4 / 1964).

ووليت من ذلك ما وليت، فإن يك خيرا فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به، فارفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل الشرف واستها نتهم والتكبر عليهم، ولن لهم لينا بحيث لا يروا منك ضعفا ولا خورا، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وادنهم منك، فانهم يعلموا لك حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك، فإذا أردت أمرا فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من
المشايخ وأهل التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك، وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك الناس، لا تدع لهم فيك مقالا فإن الناس سراع إلى الشر، واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في أعين الناس، واعرف شرف أهل المدينة ومكة فانهم أصلك وعشيرتك، واحفظ لاهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل الامصار بكتاب تعدهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا تسمعن قول قاذف ولا ماحل فإني رأيتهم وزراء سوء.
ومن وجه آخر أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلا من أهل المدينة فأكرمه، قال: ومن هو ؟ قال: عبد الله بن جعفر.
فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف، فقال له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى.
فقال له ابن جعفر: والله لا أجمع أبوي لاحد بعدك.
ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب يزيد بخاتي مبركات قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد فسأله منها ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على يزيد، فقال يزيد للحاجب: ما هذه البخاتي التي على الباب ؟ - ولم يكن شعر بها - فقال: يا أمير المؤمنين هذه أربعمائة بختية جاءتنا من خراسان تحمل أنواع الالطاف - وكان عليها أنواع من الاموال كلها - فقال: اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها.
فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا ؟ - يعني يزيد -.
وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم والحلم والفصاحة والشعر والشجاعة وحسن الرأي في الملك.
وكان ذا جمال حسن المعاشرة، وكان فيه أيضا إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الاوقات، وإماتتها في غالب الاوقات.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا
سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون عيا، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم،

ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر ".
فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به (1).
تفرد به أحمد.
وقال الحافظ أبو يعلي: حدثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن دكين، ثنا كامل أبو العلاء: سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة.
يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من سنة سبعين، ومن إمارة الصبيان " (2).
وروى الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال في يزيد بن معاوية: لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات قال: وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى شهوات (3)، وروي عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تغني بهذا البيت فضربها وقال قولي: أنت منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات وقال الحافظ أبو يعلي: حدثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول عن أبي عبيدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد ".
وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة بل معضل.
وقد رواه ابن عساكر من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي عن هشام بن الغاز عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال أمر هذه الامة قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد " (4).
ثم قال وهو منقطع أيضا بين مكحول وأبي ثعلبة.
وقال أبو يعلى: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عوف عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية.
قال: كنا مع أبي ذر بالشام فقال أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ".
ورواه ابن خزيمة عن بندار عن
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 38.
(2) أخرجه الترمذي من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري في الزهد (23) باب.
ح (2331) وفيه: عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين سنة.
وقال وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه في الزهد.
باب (37).
وأخرج البيهقي في الدلائل 6 / 466 عن أبي هريرة قال: اللهم لا تدركني سنة الستين ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان.
(3) شهوات لقب غلب عليه، يكنى أبا محمد اختلف في ولائه قيل أنه مولى بني سهم وقيل مولى بني تيم بن مرة وقيل مولى بني عدي بن كعب.
ولقب بشهوات لانه كان سؤولا ملحفا فكان كلما رأى شيئا يعجبه...قال أشتهي هذا.
وقيل غير هذا.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 467.

عبد الوهاب بن عبد المجيد عن عوف: حدثنا مهاجر بن أبي مخلد حدثني أبو العالية حدثني أبو مسلم عن أبي ذر فذكر نحوه، وفيه قصة وهي أن أبا ذر كان في غزاة عليهم يزيد بن أبي سفيان فاغتصب يزيد من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبي ذر على يزيد أن يردها عليه، فأمره أبو ذر أن يردها عليه، فتلكأ فذكر أبو ذر له الحديث فردها، وقال يزيد لابي ذر: نشدتك بالله أهو أنا ؟ قال: لا (1).
وكذا رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب.
ثم قال البخاري: والحديث معلول ولا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب.
قال: وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه معاوية.
وقال عباس الدوري: سألت ابن معين: أسمع أبو العالية من أبي ذر ؟ قال: لا إنما يروي عن أبي مسلم عنه، قلت: فمن أبو مسلم هذا ؟ قال: لا أدري.
وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح شئ منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه والله أعلم.
قال الحارث بن مسكين،
عن سفيان، عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل.
قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب، إذا ساسهم من لم يدرك الجاهلية ولم يكن له قدم في الاسلام.
قلت: يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر، وإتيان بعض الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده أبو سفيان يوم أحد لم يأمر بذلك ولم يسؤه.
وقد قدمنا أنه قال: لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مرجانة - يعني عبيد الله بن زياد - وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه: قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا، ولم يعطهم شيئا، وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله في منزله على الحسين حين كان أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام، وقيل إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه ثم ندم على ذلك، فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسر بقتله أولا وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى ندم ! فكان يقول: وما كان علي لو احتملت الاذى وأنزلته في داري وحكمته فيما يريده، وإن كان علي في ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورعاية لحقه وقرابته، ثم يقول: لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة،
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 467 وقال: يزيد بن أبي سفيان كان من أمراء الاجناد بالشام في أيام أبي بكر وعمر لكن سميه يزيد بن معاوية يشبه أن يكون به.
والله أعلم.
وقال: هذا الاسناد إرسال بين أبي العالية وأبي ذر.

فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسينا، مالي ولابن مرجانة قبحه الله وغضب عليه.
ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عنه
- وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر وإيتانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض، بل قد كان فاسقا والفاسق لا يجوز خلعه لاجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقع الهرج كما وقع زمن الحرة، فإنه بعث إليهم من يردهم إلى الطاعة وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد باباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شر عظيم كما قدمنا، وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد.
ولا بايع أحدا بعد بيعته ليزيد.
كما قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية عن نافع.
قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال: أما بعد فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الاشراك بالله، أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته " (1).
فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الامر، فيكون الفيصل بيني وبينه.
وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله.
ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواضبا على الصلاة متحريا للخير يسأل عن الفقه ملازما للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك.
فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلي الخشوع ؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.
قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه.
فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: * (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) * [ الزخرف: 86 ] ولست من أمركم في شئ،
قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الامر غيرك فنحن نوليك أمرنا.
قال: ما أستحل القتال على ما
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 48 ومسلم في الجهاد والسير (4) باب ح 9 و 10 ص 3 / 1360 والترمذي في السير (28) باب.
ح (1581) ص 4 / 144.

تريدونني عليه تابعا ولا متبوعا.
قالوا: فقد قالت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه، قالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لو أمرتهما قاتلت.
قالوا: فقم معنا مقاما تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله ! ! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت لله في عباده.
قالوا: إذا نكرهك.
قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا مصعب الزبيري، ثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع، فلما دخل عليه.
قال: مرحبا بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة، فقال: إنما جئتك لاحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزع يدا من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة جاهلية " (1).
وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد عن زيد عن أبيه عن ابن عمر به، وتابعه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زيد بن أسلم عن أبيه.
وقد رواه الليث عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر فذكره.
وقال أبو جعفر الباقر: لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان.
وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال: واقوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس القهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة ؟ فما الذي يجبرهم ؟ قال: الطعام والاعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته.
وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكرا وأثرا شعر ابن الزبعرى المتقدم ذكره.
وقال أبو بكر محمد بن خلف بن
المرزبان بن بسام: حدثني محمد بن القاسم سمعت الاصمعي يقول سمعت هارون الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية: إنها بين عامر بن لؤي * حين تمنى وبين عبد مناف ولها في الطيبين جدود * ثم نالت مكارم الاخلاف بنت عم النبي أكرم من * يمشي بنعل على التراب وحافي لن تراها على التبدل والغل * - ظة إلا كدرة الاصداف وقال الزبير بن بكار: أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان: آب هذا الهم فاكتنفا * ثم مر النوم فامتنعا راعيا للنجم أرقبه * فإذا ما كوكب طلعا حام حتى أنني لارى * أنه بالغور قد وقعا
__________
(1) أخرجه مسلم في الامارة (13) باب.
ح 58 ص 3 / 1478.

ولها بالمطارون إذا * أكل النمل الذي جمعا (1) نزهه حتى إذا بلغت * نزلت من خلق تبعا في قباب وسط دسكرة * حولها الزيتون قد ينعا ومن شعره: وقائلة لي حين شبهت وجهها * ببدر الدجى يوما وقد ضاق منهجي (2) تشبهني بالبدر هذا تناقص * بقدري ولكن لست أول من هجي ألم تر أن البدر عند كماله * إذا بلغ التشبيه عاد كدملجي فلا فخر إن شبهت بالبدر مبسمي * وبالسحر أجفاني وبالليل مدعجي (3) قد ذكره الزبير بن بكار عن أبي محمد الجزري قال: كانت بالمدينة جارية مغنية يقال لها سلامة، من أحسن النساء وجها، وأحسنهن عقلا وأحسنهن قدا، قد قرأت القرآن.
وروت
الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان والاحوص بن محمد يجلسان إليها.
فعلقت بالاحوص فصدت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام فامتدحه ودله على سلامة وجمالها وحسنها وفصاحتها.
وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمارك، فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعا عظيما، وفضلها على جميع من عنده، ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمر بالاحوص فوجده مهموما، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم هما فقال: يا مبتلى بالحب مقروحا * لاقي من الحب تباريحا أفحمه الحب فما ينثني * إلا بكاس الحب مصبوحا وصار ما يعجبه مغلقا * عنه وما يكره مفتوحا قد حازها من أصبحت عنده * ينال منها الشم والريحا خليفة الله فسل الهوى * وعز قلبا منك مجروحا قال: فأمسك الاحوص عن جوابه ثم غلبه وجده عليها فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدست إليه سلامة خادما وأعطته مالا على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك، فقال: امض لرسالتها، ففعل وأدخل الاحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالاحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فألقي له كرسي فقعد
__________
(1) المطارون: موضع بالشام.
(2) المنهج: البهر وتتابع النفس.
(3) مدعجي: الدعجة: سواد العين مع سعتها.

عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا هم الاحوص بالخروج قال: أمسى فؤادي في هم وبلبال * من حب من لم أزل منه على بال
فقالت: صحا المحبون بعد النأي إذ يئسوا * وقد يئست وما أضحوا على حال فقال: من كان يسلو بيأس عن أخي ثقة * فعنك سلام ما أمسيت بالسالي فقالت: والله والله لا أنساك يا شجني * حتى تفارق مني الروح أوصالي فقال: والله ما خاب من أمسى وأنت له * يا قرة العين في أهل وفي مال قال: ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان في ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشده ما قالا، فلم يحرفا منه حرفا ولا غيرا شيئا مما سمعه، فقال لها يزيد: أتحبينه ؟ قالت: إي والله يا أمير المؤمنين: حبا شديدا جرى كالروح في جسدي * فهل يفرق بين الروح والجسد ؟ فقال له: أتحبها ؟ فقال: إي والله يا أمير المؤمنين: حبا شديدا تليدا غير مطرف * بين الجوانح مثل النار يضطرم فقال يزيد: إنكما لتصفان حبا شديدا خذها يا أحوص فهي لك، ووصله صلة سنية.
فرجع بها الاحوص إلى الحجاز وهو قرير العين.
وقد روي أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخمورا، وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه.
وقيل: إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته.
وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك.
وقال عبد الرحمن بن أبي مدعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن
معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد.
وكان نقش خاتمه آمنت بالله العظيم.

مات يزيد بحوارين من قرى دمشق في رابع عشر ربيع الاول، وقيل يوم الخميس للنصف منه، سنة أربع وستين.
وكانت ولايته بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين، وكان مولده في سنة خمس، وقيل سنة ست، وقيل سبع وعشرين.
ومع هذا فقد اختلف في سنه ومبلغ أيامه في الامارة على أقوال كثيرة، وإذا تأملت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الاشكال من هذا الخلاف، فإن منهم من قال: جاوز الاربعين حين مات فالله أعلم.
ثم حمل بعد موته إلى دمشق وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد أمير المؤمنين يومئذ، ودفن بمقابر باب الصغير، وفي أيامه وسع النهر المسمى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولا صغيرا فوسعه أضعاف ما كان يجري فيه من الماء.
وقال ابن عساكر: حدثنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر العبدي قاضي البحرين من لفظه وكتبه لي بخطه - قال: رأيت يزيد بن معاوية في النوم فقلت له: أنت قتلت الحسين ؟ فقال: لا ! فقلت له: هل غفر الله لك ؟ قال: نعم، وأدخلني الجنة.
قلت: فالحديث الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأى معاوية يحمل يزيد فقال: رجل من أهل الجنة يحمل رجلا من أهل النار " ؟ فقال: ليس بصحيح.
قال ابن عساكر.
وهو كما قال، فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة.
وقال أبو جعفر بن جرير: أولاد يزيد بن معاوية وعددهم فمنهم معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا ليلى وهو الذي يقول فيه الشاعر: إني أرى فتنة قد حان أولها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا وخالد بن يزيد يكنى أبا هاشم كان يقال إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان، وأمهما أم
هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وقد تزوجها بعد يزيد مروان بن الحكم، وهي التي يقول فيها الشاعر: أنعمي أم خالد * رب ساع كقاعد وعبد العزيز (1) بن يزيد ويقال له الاسوار، وكان من أرمى العرب، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهو الذي يقول فيه الشاعر: زعم الناس أن خير قريش * كلهم حين يذكرون الاساور (2)
__________
(1) في الطبري 7 / 16 والكامل: 4 / 125: عبد الله.
(2) في الطبري: حين تذكر الاسوار.

وعبد الله الاصغر، وأبو بكر، وعتبة، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد، لامهات أولاد شتى.
ويزيد وحرب وعمر وعثمان.
فهؤلاء خمسة عشر ذكرا، وكان له من البنات عاتكة ورملة وأم عبد الرحمن وأم يزيد، وأم محمد، فهؤلاء خمس بنات.
وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب، والله سبحانه أعلم.
إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية أبي عبد الرحمن ويقال أبو يزيد ويقال أبو يعلى القرشي الاموي، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، بويع له بعد موت أبيه - وكان ولي عهده من بعده - في رابع عشر ربيع الاول سنة أربع وستين، وكان رجلا صالحا ناسكا، ولم تطل مدته، قيل: إنه مكث في الملك أربعين يوما، وقيل عشرين يوما، وقيل شهرين، وقيل شهرا ونصف شهر، وقيل ثلاثة أشهر وعشرون يوما، وقيل أربعة أشهر فالله أعلم.
وكان في مدة ولايته مريضا لم يخرج إلى الناس (1)، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس ويسد الامور، ثم مات معاوية بن يزيد هذا عن إحدى وعشرين وقيل ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوما، وقيل تسع عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، وقيل ثلاث وعشرون سنة،
وقيل: إنما عاش ثماني عشرة سنة، وقيل تسع عشرة سنة، وقيل عشرون، وقيل خمس وعشرون فالله أعلم.
وصلى عليه أخوه خالد، وقيل عثمان بن عنبسة، وقيل الوليد بن عتبة (2) وهو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك، وشهد دفنه مروان بن الحكم، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس بعده حتى استقر الامر لمروان بالشام، ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق، ولما حضرته الوفاة قيل له ألا توصي فقال: لا أتزود مرارتها إلى اخرتي وأترك حلاوتها لبني أمية، وكان
__________
(1) لم يرد لا في الطبري أو في ابن الاثير أنه كان مريضا، وقال ابن قتيبة في الامامة 2 / 13: لبث واليا شهرين وليال محجوبا لا يرى، وعند ابن العبري ص 111: أنه كان قدريا وقال: لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم وتخلى للعبادة حتى مات.
ورأى الفخري ص 118: أنه كان صبيا ضعيفا وقد عرف بأبي ليلى لضعفه كما قال المسعودي: وهذه الكنية للمستصعف من العرب ويعود اعتكافه وعزلته في منزله كما نرى لاسباب كثيرة أقلها ثلاثة: - عدم اقتناعه - من حيث المبدأ - بأحقيته بالولاية (العبري).
- اشتداد الصراع بين أطراف القيادة الاموية، بين القيسية (الضحاك) واليمنية.
- ظهور عبد الله بن الزبير الرجل القوي، بعد موت يزيد، ودعوته الناس لمبايعته وادعائه الخلافة وظفره بالحجاز والعراق وخراسان واليمن ومصر والشام إلا الاردن.
(2) قال المسعودي صلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما كبر الثانية طعن فسقط ميتا قبل تمام الصلاة فقدم عثمان بن عتبة بن أبي سفيان.

رحمه الله أبيض شديد البياض كثير الشعر كبير العينين جعد الشعر أقنى الانف، مدور الرأس، جميل الوجه كثير شعر الوجه دقيقه حسن الجسم.
قال أبو زرعة الدمشقي: معاوية وعبد الرحمن وخالد أخوه، وكانوا من صالحي القوم وقال فيه بعض الشعراء - وهو عبد الله بن همام البلوي: تلقاها يزيد عن أبيه * فدونكها معاوي عن يزيدا أديروها بني حرب عليكم * ولا ترموا بها الغرض البعيدا
ويروى أن معاوية بن يزيد هذا نادى في الناس الصلاة جامعة ذات يوم، فاجتمع الناس فقال لهم فيما قال: يا أيها الناس ! إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم (1).
ثم نزل ودخل منزله فلم يخرج منه حتى مات رحمه الله تعالى.
ويقال إنه سقي ويقال إنه طعن.
ولما دفن حضر مروان دفنه فلما فرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم ؟ قالوا: نعم معاوية بن يزيد، فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أرثم الفزاري: إني أرى فتنة تغلي (2) مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا قالوا: فكان الامر كما قال، وذلك أن أبا ليلى توفي من غير عهد منه إلى أحد، فتغلب إلى الحجاز عبد الله بن الزبير، وعلى دمشق وأعمالها مروان بن الحكم، وبايع أهل خراسان سلم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة، وأحبوه محبة عظيمة، وسار فيهم سلم سيرة حسنة أحبوه عليها، ثم أخرجوه من بين أظهرهم.
وخرج القراء والخوارج بالبصرة وعليهم نافع بن الازرق، وطردوا عنهم عبيد الله بن زياد بعد ما كانوا بايعوه عليهم حتى يصير للناس إمام، فأخرجوه عنهم، فذهب إلى الشام بعد فصول يطول ذكرها، وقد بايعوا بعده عبد الله بن الحارث بن نوفل المعروف ببة، وأمه هند بنت أبي سفيان، وقد جعل على شرطة البصرة هميان بن عدي السدوسي، فبايعه الناس في مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وقد قال الفرزدق: وبايعت أقواما وفيت بعهدهم * وببة قد بايعته غير نادم فأقام فيها أربعة أشهر ثم لزم بيته، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير فكتب ابن الزبير إلى
__________
(1) أورد خطبة له - باختلاف: ابن قتيبة في الامامة 2 / 13 والفخري ص 118 ابن العبري في تاريخ مختصر الدول ص 111 وابن الاثير في الكامل 4 / 130 ومروج الذهب 3 / 88 والطبري 7 / 34.
(2) في مروج الذهب: هاجت، وفي المعارف ص 154: فتنا بدل فتنة.

أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم شهرين (1)، ثم كان ما سنذكره.
وخرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحورا في الاهواز وفارس وغير ذلك على ما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
إمارة عبد الله بن الزبير وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك قد قدمنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير وهو عائذ بالبيت فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام، استفحل ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة هناك، واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير، وأمره باجلاء بني أمية عن المدينة فأجلاهم فرحلوا إلى الشام، وفيهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها، غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحوا من أربعة أمراء (2) من بينهم ثم تضطرب أمورهم، ثم بعثوا إلى ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لانفسهم، فكتب إلى أنس بن مالك ليصلي بهم، ويقال إن أول من بايع ابن الزبير مصعب بن عبد الرحمن، فقال الناس: هذا أمر فيه صعوبة، وبايعه عبد الله بن جعفر وعبد الله بن علي بن أبي طالب، وبعث إلى ابن عمر وابن الحنفية وابن عباس ليبايعوا فأبوا عليه.
وبويع في رجب بعد أن أقام الناس نحو ثلاثة أشهر بلا إمام.
وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الانصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، واستوثق له المصران جميعا، وأرسل إلى مصر فبايعوه.
واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر (3)، وأطاعت له الجزيرة، وبعث على البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة، وبعث إلى اليمن فبايعوه، وإلى خراسان فبايعوه، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع، وقيل إن أهل دمشق وأعمالها من بلاد الاردن لم يبايعوه (4)، لانهم بايعوا مروان بن
__________
(1) في ابن الاثير 4 / 143: أربعين يوما.
(2) جدد أهل البصرة مبايعة عبيد الله بن زياد واليا عليهم حتى يتفق الناس على أمام لهم، ثم عزلوه وطردوه واتفقوا
فيما بينهم على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب بببة ثم اختلفوا فيما بينهم، وبقي ببة يقيم فيهم الصلاة، ثم أرسل ابن الزبير أميرا على البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر ثم عزله وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي - القباع - (انظر الكامل ج 4 والطبري ج 7 حوادث سنة 64).
(3) في الطبري 7 / 34، والكامل 4 / 145: ابن جحدم، وفي مروج الذهب 3 / 106: عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم.
(4) في الكامل 4 / 145: بايع الضحاك في دمشق سرا للزبير، وبايعت قنسرين وحمص، وفي مروج الذهب 3 / 101: اخذت له البيعة بالشام وخطب له على سائر المنابر إلا منبر طبرية من بلاد الاردن وفي فتوح ابن الاعثم 5 / 312: أن الضحاك دعا إلى نفسه في الشام.

الحكم لما رجع الحصين بن نمير من مكة إلى الشام، وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الازرق، وعبد الله بن أباض، وجماعة من رؤسهم.
فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم لانكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان - وكانوا ينتقصون عثمان - فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الايمان والتصديق، والعدل والاحسان والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة، التي لا تنضبط ولا تنحصر، لانها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله.
ذكر بيعة مروان بن الحكم وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز وارتحل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام، اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد، وقد كان معاوية بن يزيد قد عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق، وقد
بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير، وقد بايع لابن الزبير النعمان بن بشير بحمص، وبايع له زفر بن عبد الله الكلابي بقنسرين، وبايع له نائل (1) بن قيس بفلسطين، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، فلم يزل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير بمروان بن الحكم يحسنون له أن يتولى، حتى ثنوه عن رأيه وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى الشام، وقالوا له: أنت شيخ قريش وسيدها: فأنت أحق بهذا الامر.
فرجع عن البيعة لابن الزبير، وخاف ابن زياد الهلاك إن تولى غير بني أمية، فعند ذلك التف هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن على مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول ما فات شئ، وكتب حسان بن مالك بن بحدل الكلبي إلى الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير، ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم، ويذكر فضلهم وشرفهم، وقد بايع حسان بن مالك أهل الاردن لبني أمية، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وبعث إلى الضحاك كتابا بذلك، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له ناغضة بن كريب الطابجي، وقيل هو من بني كلب وقال له: إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت، فأعطاه الكتاب فسار إلى الضحاك فأمره بقراءة الكتاب فلم يقبل، فقام ناغض فقرأه على الناس فصدقه جماعة من أمراء
__________
(1) في الطبري والكامل: ناتل.

الناس، وكذبه آخرون، وثارت فتنة عظيمة بين الناس، فقام خالد بن يزيد بن معاوية وهو شاب حدث على درجتين من المنبر فسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا، فثارت قبائلهم فأخرجوهم من السجن، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية، وكان اجتماع الناس لذلك ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون " فسمي هذا اليوم بيوم جيرون ".
قال المدائني: وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يتولى عليهم فأبى، وهلك في
تلك الليالي (1)، ثم إن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع فخطبهم به، ونال من يزيد بن معاوية، فقام إليه شاب من بني كلب فضربه بعصى كانت معه، والناس جلوس متقلدي سيوفهم، فقام بعضهم إلى بعض فاقتتلوا في المسجد قتالا شديدا، فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، ويتعصبون ليزيد وأهل بيته، فنهض الضحاك بن قيس فدخل دار الامارة وأغلق الباب ولم يخرج إلى الناس إلا يوم السبت لصلاة الفجر، ثم أرسل إلى بني أمية فجمعهم إليه فدخلوا عليه وفيهم مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية.
قال المدائني: فاعتذر إليهم مما كان منه، واتفق معهم أن يركب معهم إلى حسان بن مالك الكلبي فيتفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للامارة، فركبوا جميعا إليه، فينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان، إذ جاء معن بن ثور بن الاخنس في قومه قيس، فقال له: إنك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك، وأنت الآن ذاهب إلى هذا الاعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية، فقال له الضحاك: وما الرأي ؟ قال: الرأي أن نظهر ما كنا نسر، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها من أباها.
فمال الضحاك بمن معه فرجع إلى دمشق (2)، فأقام بها بمن معه من الجيش من قيس ومن لف لفيفها، وبعث إلى أمراء الاجناد وبايع الناس لابن الزبير، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك، فذكره ابن الزبير لاهل مكة وشكره على صنيعه، وكتب إليه بنيابة الشام، وقيل بل بايع لنفسه بالخلافة فالله أعلم.
والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولا، ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه، وذلك إنما فعله مكرا منه وكبارا ليفسد عليه ما هو بصدده، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام، فنقم الناس عليه ذلك وقالوا: دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه ثم خلعته بلا سبب
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 89: طعن وهو يصلي على معاوية بن يزيد ومات وهو في الركعة الثانية.
(2) في الكامل 4 / 147 والطبري 7 / 37: رجع إلى مرج راهط ودمشق بيده (وفي الطبري: جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم على ذلك).
وفي الامامة والسياسة 2 / 17: أن الضحاك بايع لنفسه بعد بيعة بني أمية
لمروان (وانظر الفتوح لابن الاعثم 5 / 312).

ولا عذر، ثم دعوتنا إلى نفسك ؟ فرجع إلى البيعة لابن الزبير فسقط بذلك عند الناس، وذلك الذي أراد ابن زياد.
وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه، ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك، فنزل عنده بدمشق وجعل يركب إليه كل يوم، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له، فركب الضحاك إلى مرج راهط فنزل بمن معه من الجنود، وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالاردن واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب.
ولما رأى مروان بن الحكم ما انتظم من البيعة لابن الزبير، وما استوثق له من الملك، عزم على الرحيل إليه لمبايعته وليأخذ منه أمانا لبني أمية، فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه ابن زياد مقبلا من العراق فصده عن ذلك وهجن رأيه، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص، وحصين بن نمير، وابن زياد، وأهل اليمن وخلق، فقالوا لمروان: أنت كبير قريش، وخالد بن يزيد غلام، و عبد الله بن الزبير كهل، فإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تناوئه بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه (1) بالجابية في يوم الاربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين، قاله الواقدي، فلما تمهد له الامر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس فالتقيا بمرج راهط فغلبه مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يسمع بمثلها، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين.
فإن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة خمس وستين.
وفي رواية محمد بن سعد: وعن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت في أواخر هذه السنة.
وقال الليث بن وسعد والواقدي والمدائني وأبو سليمان بن يزيد وأبو عبيدة وغير واحد: كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقعة مرج راهط ومقتل الضحاك بن قيس الفهري رضي الله عنه قد تقدم أن الضحاك كان نائب دمشق لمعاوية بن أبي سفيان، وكان يصلي عنهم إذا اشتغلوا
أو غابوا، ويقيم الحدود ويسد الامور، فلما مات معاوية قام بأعباء بيعة يزيد ابنه، ثم لما مات يزيد بايع الناس لمعاوية بن يزيد، فلما مات معاوية بن يزيد بايعه الناس من دمشق حتى تجتمع الناس على إمام، فلما اتسعت البيعة لابن الزبير عزم على المبايعة له، فخطب الناس يوما وتكلم في يزيد بن معاوية وذمه، فقامت فتنة في المسجد الجامع، حتى اقتتل الناس فيه بالسيوف، فسكن الناس ثم دخل دار الامارة من الخضراء وأغلق عليه الباب، ثم اتفق مع بني أمية على أن يركبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل وهو بالاردن فيجتمعوا عنده على من يراه أهلا للامارة، وكان حسان
__________
(1) بايعوه على الخلافة ومن بعده خالد بن يزيد ومن بعده إلى عمرو بن سعيد (مروج الذهب 3 / 103.
الكامل لابن الاثير 4 / 148 والطبري 7 / 38).

يريد أن يبايع لابن أخته خالد بن يزيد، ويزيد ابن ميسون، وميسون بنت بحدل، أخت حسان، فلما ركب الضحاك معهم انخذل بأكثر الجيش فرجع إلى دمشق فامتنع بها، وبعث إلى أمراء الاجناد فبايعهم لابن الزبير، وسار بنو أمية ومعهم مروان وعمرو بن سعيد، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، حتى اجتمعوا بحسان بن مالك بالجابية.
وليس لهم قوة طائلة بالنسبة إلى الضحاك بن قيس، فعزم مروان على الرحيل إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ أمانا منه لبني أمية، فإنه كان قد أمر بإجلائهم عن المدينة، فسار حتى وصل إلى أذرعات فلقيه عبيد الله بن زياد مقبلا من العراق، فاجتمع به ومعه حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد بن العاص، فحسنوا إليه أن يدعو إلى نفسه، فإنه أحق بذلك من ابن الزبير الذي قد فارق الجماعة وخلع ثلاثة من الخلفاء، فلم يزالوا بمروان حتى أجابهم إلى ذلك، وقال له عبيد الله بن زياد: وأنا أذهب لك إلى الضحاك إلى دمشق فأخدعه لك وأخذل أمره، فسار إليه وجعل يركب إليه كل يوم ويظهر له الود والنصيحة والمحبة، ثم حسن له أن يدعو إلى نفسه ويخلع ابن الزبير فإنك أحق بالامر منه، لانك لم تزل في الطاعة مشهورا بالامانة، وابن الزبير خارج عن الناس، فدعا الضحاك الناس إلى نفسه ثلاثة أيام فلم يصمد معه، فرجع إلى الدعوة لابن الزبير، ولكن انحط بها عند الناس، ثم قال له ابن
زياد: إن من يطلب ما تطلب لا ينزل المدن والحصون، وإنما ينزل الصحراء ويدعو إليه بالجنود، فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله، وأقام ابن زياد بدمشق وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله عند خالهم حسان بالجابية، فكتب ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته، فدعا إلى نفسه، وتزوج بأم خالد بن يزيد (1) - وهي أم هاشم.
بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة - فعظم أمره وبايعه الناس، واجتمعوا عليه، وسار إلى مرج راهط نحوه الضحاك بن قيس، وركب إليه عبيد الله بن زياد وأخوه عباد بن زياد، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفا، وبدمشق من جهته يزيد بن أبي النمر (2)، وقد أخرج عامل الضحاك منها وهو يمد مروان بالسلاح والرجال وغير ذلك.
ويقال كان نائبه على دمشق يومئذ عبد الرحمن بن أم الحكم، وجعل مروان على ميمنته عبيد الله بن زياد، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص (3)، وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير فأمده النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل بن ذي الكلاع.
وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنسرين.
فكان الضحاك في ثلاثين ألفا، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زكريا بن شمر الهلالي، فتصافوا وتقاتلوا بالمرج عشرين يوما، يلتقون بالمرج في كل يوم فيقتتلون قتالا شديدا،
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 285، ومروج الذهب 3 / 107 والفخري ص 119 والامامة والسياسة ص 2 / 16: تزوج بأم خالد بن يزيد بعد مبايعة الناس له، وما زواجه بها - حسب رأي أصحابه له - إلا إذلالا لابنها خالد وليضع من قدره وليصغر بذلك من شأنه فيسقط عن درجة الخلافة.
(2) في الطبري 7 / 39 يزيد بن أبي نمس وفي الكامل 4 / 149: يزيد بن أبي الغمس.
(3) في الكامل 4 / 149: على ميمنته عمرو بن سعيد وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد (الطبري 7 / 38).

ثم أشار عبيد الله على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة فإن الحرب خدعة، وأنت وأصحابك على الحق، وهم على الباطل، فنودي في الناس بذلك، ثم غدر أصحاب مروان فمالوا يقتلونهم قتالا شديدا، وصبر الضحاك صبرا بليغا، فقتل الضحاك بن قيس في المعركة، قتله رجل يقال له زحمة (1) بن عبد الله من بني كلب، طعنه بحربة فأنفذه ولم يعرفه.
وصبر مروان وأصحابه صبرا
شديدا حتى فر أولئك بين يديه، فنادى مروان: ألا لا تتبعوا مدبرا، ثم جئ برأس الضحاك، ويقال إن أول من بشره بقتله روح بن زنباع الجذامي، واستقر ملك الشام بيد مروان بن الحكم.
وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط، فقال: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك ؟.
قلت: ولم تطل مدته في الملك إلا تسعة أشهر (2) على ما سنذكره.
وقد كان الضحاك بن قيس بن خالد الاكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان (3) بن محارب بن فهر بن مالك، أبو أنيس الفهري أحد الصحابة على الصحيح، وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث عدة، وروى عنه جماعة من التابعين، وهو أخو فاطمة بنت قيس وكانت أكبر منه بعشر سنين، وكان أبو عبيدة بن الجراح عمه.
حكاه ابن أبي حاتم.
وزعم بعضهم أنه لا صحبة له، وقال الواقدي: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قبل البلوغ.
وفي رواية عن الواقدي أنه قال: ولد الضحاك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين.
وقد شهد فتح دمشق وسكنها وله بها دار عند حجر الذهب مما يلي نهر بردا، وكان أميرا على أهل دمشق يوم صفين مع معاوية، ولما أخذ معاوية الكوفة استنابه بها في سنة أربع وخمسون وقد روى البخاري في التاريخ: أن الضحاك قرأ سورة ص في الصلاة فسجد فيها فلم يتابعه علقمة وأصحاب ابن مسعود في السجود.
ثم استنابه معاوية عنده على دمشق فلم يزل عنده حتى مات معاوية وتولى ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد، ثم صار أمره إلى ما ذكرنا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى الهيثم حين مات يزيد بن معاوية: السلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، فتنا كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا
__________
(1) في الطبري 7 / 39: زحنة، وفي مروج الذهب 3 / 105: قتله رجل من تيم اللات.
(2) في العبري ص 111: سبعة أشهر وأياما.
وفي الفخري ص 120: تسعة أشهر وبعض شهر.
وفي الكامل
4 / 191: توفي في شهر رمضان سنة (65) وانظر الطبري 7 / 83.
وفي المعارف ص 154: كانت ولايته عشرة أشهر.
(3) في الاصابة 2 / 207: سنان.

ويصبح كافرا، يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل ".
وإن يزيد بن معاوية قد مات وأنتم إخواننا وأشقاؤنا فلا تسبقونا حتى نحتال لانفسنا (1).
وقد روى ابن عساكر من طريق ابن قتيبة عن العباس بن الفرج الرياشي عن يعقوب بن إسحاق بن ثوبة عن حماد بن زيد.
قال: دخل الضحاك بن قيس على معاوية فقال معاوية منشدا له: تطاولت للضحاك حتى رددته * إلى حسب في قومه متقاصر فقال الضحاك: قد علم قومنا أنا أحلاس الخيل، فقال: صدقت، أنتم أحلاسها ونحن فرسانها يريد معاوية أنتم راضة وساسة، ونحن الفرسان -.
ورأى أن أصل الكلمة من الحلس وهو كساء يكون تحت البرذعة أي أنه لازم ظهر الفرس كما يلزم الحلس ظهر البعير والدابة.
وروى أن مؤذن دمشق قال للضحاك بن قيس: والله أيها الامير إني لاحبك في الله.
فقال له الضحاك: ولكني والله أبغضك في الله.
قال: ولم أصلحك الله ؟ قال: لانك تتراءى في أذانك وتأخذ على تعليمك أجرا.
قتل الضحاك رحمه الله يوم مرج راهط وذلك للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد وأبو عبيد والواقدي وابن زير والمدائني.
وفيها مقتل النعمان بن بشير الانصاري وأمه عمرة بنت رواحة، كان النعمان أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للانصار، في جمادى الاول (2) سنة ثنتين من الهجرة، فأتت به أمه تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميدا، ويقتل شهيدا، ويدخل الجنة، فعاش في خير وسعة، ولي نيابة الكوفة لمعاوية تسعة أشهر (3)، ثم سكن الشام، وولي قضاءها بعد فضالة بن عبيد، وفضالة بعد أبي الدرداء.
وناب
بحمص لمعاوية، وهو الذي رد آل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأمر يزيد له في ذلك، وهو الذي أشار على يزيد بالاحسان إليهم فرق لهم يزيد وأحسن إليهم وأكرمهم، ثم لما كانت وقعة مروج راهط وقتل الضحاك بن قيس، وكان النعمان قد أمده بأهل حمص.
فقتلوه بقرية يقال لها بيرين (4)، قتله رجل يقال له خالد بن خلي (5) المازني وقتل خلي بن داود وهو جد خالد بن خلي.
وقد رثته ابنته
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2 / 272، 3 / 453، 4 / 416.
(2) في الاستيعاب على هامش الاصابة 3 / 551: في ربيع الآخر.
(3) في الاستيعاب: سبعة أشهر.
(4) في الاستيعاب: بيران، وفي المعارف: بين سلمية وحمص.
(5) في الطبري 7 / 40 وسمط النجوم العوالي: عمرو بن الخلي، وفي مروج الذهب 3 / 106 والاستيعاب: خالد بن عدي الكلاعي وفي الاثير: عمرو بن الجلي.

فقالت: ليت ابن مرنة وابنه * كانوا لقتلك واقية وبني أمية كلهم * لم تبق منهم باقية جاء البريد بقتله * يا للكلاب العاوية يستفتحون برأسه * دارت عليهم فانية فلابكين سريرة * ولابكين علانية ولابكينك ما حيي * - ت مع السباع العادية وقيل إن أعشى همدان قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو مريض، فقال له النعمان: ما أقدمك ؟ قال: لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي ديني، فقال: والله ما عندي، ولكني سائلهم لك شيئا، ثم قام فصعد المنبر ثم قال: يا أهل حمص، إن هذا ابن عمكم من العراق، وهو مسترفدكم شيئا فما ترون ؟ فقالوا: احتكم في أموالنا، فأبى عليهم، فقالوا: قد حكمنا من
أموالنا كل رجل دينارين - وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل - فعجلها له النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار، فلما خرجت أعطياتهم أسقط من عطاء كل رجل منهم دينارين.
ومن كلام النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله: إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل السيئات في زمان البلاء.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي رواحة: يزيد بن أيهم عن الهيثم بن مالك الطائي سمعت النعمان بن بشير على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن للشيطان مصالي وفخوخا، وإن من مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله ".
ومن أحاديثه الحسان الصحاح ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب " (2).
رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو مسهر: كان النعمان بن بشير على حمص عاملا لابن الزبير، فلما تملك مروان خرج النعمان هاربا فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله.
قال أبو عبيدة وغير واحد: في هذه السنة.
__________
(1) رواه البخاري في الايمان (39).
والبيوع (2) ومسلم في المساقاة ح (107) و (108) وأبو داود في البيوع (3) باب.
وابن ماجه في الفتن (14) باب.
وأحمد في مسنده 4 / 267، 269، 271، 275.

وقد روى محمد بن سعد بأسانيده أن معاوية تزوج امرأة جميلة جدا فبعث إحدى امرأتيه - قيسون (1) أو فاختة - لتنظر إليها، فلما رأتها أعجبتها جدا، ثم رجعت إليه فقال: كيف رأيتيها ؟ قالت: بديعة الجمال، غير أني رأيت تحت سرتها خالا أسود، وإني أحسب أن زوجها يقتل ويلقى رأسه في حجرها.
فطلقها معاوية وتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل أتي برأسه فألقي في حجرها سنة
خمس وستين، وقال سليمان بن زير قتل بسلمية سنة ست وخمسين.
وقال غيره: سنة خمس وستين، وقيل سنة ستين والصحيح ما ذكرناه.
وفيها توفي المسور بن مخرمة بن نوفل، صحابي صغير، أصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير بمكة وهو قائم يصلي في الحجر.
وهو من أعيان من قتل في حصار مكة وهو المسور بن مخرمة بن نوفل أبو عبد الرحمن الزهري، أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف، له صحبة ورواية، ووفد على معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب، وقيل إنه كان ممن يصوم الدهر، وإذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنها سبعا، وصلى ركعتين، وقيل إنه وجد يوم القادسية إبريق ذهب مرصع بالياقوت فلم يدر ما هو، فلقيه رجل من الفرس فقال له: بعنيه بعشرة آلاف، فعلم أنه شئ له قيمة، فبعث به إلى سعد بن أبي وقاص فنفله إياه.
فباعه بمائة ألف.
ولما توفي معاوية قدم مكة فأصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير لما رموا به الكعبة، فمات من بعد خمسة أيام، وغسله عبد الله بن الزبير، وحمله في جملة من حمل إلى الحجون، وكانوا يطأون به القتلى، ويمشون به بين أهل الشام، واحتكر المسور بن مخرمة طعاما في زمن عمر بن الخطاب، فرأى سحابا فكرهه، فلما أصبح عدا إلى السوق فقال: من جاءني أعطيته، فقال عمر: أجننت يا أبا مخرمة ؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحابا فكرهت ما فيه الناس فكرهت أن أربح فيه شيئا، فقال له عمر: جزاك الله خيرا.
ولد المسور بمكة بعد الهجرة بسنتين.
المنذر بن الزبير بن العوام ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، ووفد على معاوية فأجازه بمائة ألف، وأقطعه أرضا، فمات معاوية قبل أن يقبض المال.
وكان المنذر بن الزبير وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام يقاتلون أهل الشام بالنهار.
ويطعمانهم بالليل.
قتل المنذر بمكة في حصارها مع أخيه، ولما مات معاوية أوصى إلى المنذر أن ينزل في قبره.
مصعب بن عبد الرحمن بن عوف
كان شابا دينا فاضلا.
قتل مصعب أيضا في حصار مكة مع ابن الزبير.
__________
(1) المشهور أنها ميسون.

وممن قتل في وقعة الحرة محمد بن أبي بن كعب، وعبد الرحمن بن أبي قتادة، وأبو حكيم معاذ بن الحارث الانصاري الذي أقامه عمر يصلي بالناس، وقتل يومئذ ولدان لزينب بنت أم سلمة، وزيد بن محمد بن سلمة الانصاري قتل يومئذ، وقتل معه سبعة من إخوته وغير هؤلاء رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
وفيها توفي الاخنس بن شريق، شهد فتح مكة وكان مع علي يوم صفين.
وفي هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له عبد الله بن خازم، وقهر عمالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية، قبل أن يستقر مالك ابن الزبير على تلك النواحي، وجرت بين عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالا إذ لا يتعلق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض، والله المستعان.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه، وأحبوه حتى أنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا فخرج عنهم سلم وترك عليهم المهلب بن أبي صفرة.
وفيها اجتمع ملا الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدين، وعليه عازمين، من مقتل الحسين بكربلاء من يوم عاشوراء عشرة المحرم سنة إحدى وستين، وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه * فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل * فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل، وكان رؤس القائمين في ذلك خمسة، سليمان بن صرد الصحابي، والمسيب بن نجبة الفزاري أحد كبار أصحاب علي، وعبد الله بن سعد بن نفيل
الازدي، وعبد الله بن وال التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي.
وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا وتواعدوا النخيلة، وأن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئا كثيرا وأعدوه لذلك.
وقام المسيب بن نجية خطيبا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فقد ابتلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كتبنا إليه وراسلناه، فأتانا طمعا في نصرتنا إياه، فخذلناه وأخلفناه، وأتينا به إلى من قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الاخيار، فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذلنا (1) عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعا ويلا متصلا أبدا لا
__________
(1) في الطبري 7 / 48 والكامل 4 / 159: ولا جادلنا، وفي ابن الاعثم 6 / 49: ولا دفعنا.

يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو نقتل دون ذلك وتذهب أموالنا وتخرب ديارنا، أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم.
وذكر كلاما طويلا.
ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنخيلة في السنة الآتية (1).
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن يدعوه إلى ذلك فاستجاب له ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن، فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالاوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور.
وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صرد بذلك ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشطوا لامرهم الذي تمالاوا عليه.
فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعد قليل، طمعوا في الامر، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا، ولم يبق من يقيم لهم أمرا، فاستشاروا سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الميقات، فنهاهم عن ذلك وقال: لا ! حتى يأتي الاجل الذي واعدنا إخواننا فيه، ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن
مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة (2)، فبايع لعبد الله بن الزبير، فهو يسد الامور حتى تأتي نواب ابن الزبير.
فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد الله بن يزيد الخطمي، على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله (3) التيمي، على الخراج والاموال.
وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صرد وعظموه تعظيما زائدا، وهم معدون للحرب.
فلما استقر المختار عندهم بالكوفة دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو محمد بن الحنفية في الباطن، ولقبه المهدي، فاتبعه على ذلك كثير من الشيعة وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين، الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين، وفرقة أخرى مع المختار يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة، وجاءت العين (4) الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالا عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون، وأشار من
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 52 والطبري 7 / 50: غرة ربيع الآخر سنة 65 ه.
(2) في ابن الاعثم 6 / 53 والطبري 7 / 52: دحروجة الجعل.
(3) في ابن الاعثم: عبد الله.
(4) في الطبري 7 / 55 وابن الاعثم 6 / 57: يزيد بن الحارث بن رويم وهو من شيعة بني أمية.

أشار عليه بأن يبادر إليهم ويحتاط عليهم ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة.
فقام خطيبا في الناس وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا عليه من الامر، وأن منهم من يريد الاخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني لست ممن قتله، وإني والله لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه الله ولعن قاتله، وإني لا أتعرض لاحد قبل أن يبدأني
بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الاخذ بثأر الحسين فليعمدوا إلى ابن زياد فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا بسلاحهم على أهل بلدهم، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم.
فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الامير الآخر فقال: أيها الناس لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا والله قد استيقنا من أنفسنا أن قوما يريدون الخروج علينا، ولنأخذن الوالد بالولد والولد بالوالد، والحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته، حتى تدينوا بالحق وتذلوا للطاعة.
فوثب إليه المسيب بن نجبة الفزاري فقطع كلامه فقال: يا بن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك ؟ أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك، وإنا لنرجوا أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر.
وساعد المسيب بن نجية من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال، وجرت فتنة وشئ كبير في المسجد، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي عن المنبر وحاولوا أن يوفقوا بين الاميرين فلم يتفق لهم ذلك، ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة، وكان من أمرهما ما سنذكره.
وأما المختار بن عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضا إلى الشيعة من يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن، فأشار المختار على عمه وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسين ويبعثه إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عمر المختار من ذلك، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان وقتله ابن زياد، كان المختار يومئذ بالكوفة فبلغ ابن زياد أنه يقول: لاقومن بنصرة مسلم ولآخذن بثأره، فأحضره بين يديه وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها، وأمر بسجنه، فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد: أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك، فأخرجه وقال له: إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك.
فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول: والله
لاقطعن أنامل عبيد الله بن زياد، ولاقتلن بالحسين بن علي على عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا.
فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بايعه المختار بن عبيد، وكان من كبار الامراء عنده، ولما حاصره الحصين بن نمير مع أهل الشام قاتل المختار دون ابن الزبير أشد القتال، فلما بلغه موت يزيد بن

معاوية واضطراب أهل العراق، نقم على ابن الزبير في بعض الامر (1) وخرج من الحجاز فقصد الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيئون للصلاة، فجعل لا يمر بملا إلا سلم عليه وقال: أبشروا بالنصر.
ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر، ثم انصرف فسلم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه وعظموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفية، ويظهر الانتصار لاهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم، ويستوفي ثأرهم، ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة - وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان - فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه ويقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الامر، ومعدن الفضل، ووصي الرضى (2)، والامام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الاعداء، وتمام النعماء، وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو غشمة من الغشم، وشن بال ليس بذي تجربة للامور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مثل مثل لي، وأمر قد بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل.
فالتف عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد، فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة (3) قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن يزيد (4) نائب الكوفة: إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد، فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره فأخذ فذهب به إلى السجن مقيدا، وقيل بغير قيد، فأقام به مدة ومرض فيه.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الازدي نعوده ونتعاهده.
فسمعته يقول: أما ورب
البحار، والنخيل والاشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الابرار، والمصلين (5) الاخيار، لاقتلن كل جبار، بكل لدن جثار خطار، ومهند بتار، بجند من الاخيار، وجموع من الانصار، ليسوا بميل الاغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، وجبرت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر أولاد النبيين، لم أبك على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا دنا.
قال: وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج.
__________
(1) في تاريخ الطبري 7 / 63: نقم المختار على ابن الزبير لانه أقام معه خمسة أشهر لا يستعمله وقال فيه ابن الزبير: والله لهو أحذر من ذئب قد أطافت به السباع.
فنقم عليه المختار وخرج إلى الكوفة.
(الكامل لابن الاثير 4 / 171) وفي رواية لابن الاثير أن خروج المختار إلى الكوفة كان بالاتفاق مع ابن الزبير لاقناع شيعة الكوفة بالقتال إلى جانبه ضد أهل الشام.
(2) في الطبري: الوصي.
(3) في الطبري 7 / 65 والكامل 4 / 172: الجزيرة.
(4) من الطبري والكامل، وفي الاصل زياد تحريف، والمراد عبد الله بن يزيد نائب ابن الزبير على الكوفة.
(5) في الطبري والكامل: والمصطفين.

ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير قال ابن جرير: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وذلك لانه مال جدارها من رمي المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم، وكان الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك، وجعل الحجر الاسود في تابوت في سرق من حرير، وادخر ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب، عند الخزان حتى أعاد ابن الزبير بناءها على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيها عليه من الشكل، وذلك كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولادخلت فيها الحجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون
من الآخر، ولالصقت بابها بالارض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا " (1).
فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله خيرا.
ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، هدم الحائط الشمالي وأخرج الحجر كما كان أولا، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربي، وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال: وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك.
وقد هم ابن المنصور المهدي أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الامام مالك بن أنس في ذلك، فقال: إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة، - يعني يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأيا آخر والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله (2)، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن المرزبان (3)، وامتنع شريح أن يحكم في زمان الفتنة، وعلى البصرة عمر بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان في أواخر هذه السنة وقعة مرج راهط كما قدمنا، وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره بالضحاك بن قيس وقتله له في الوقعة، وقيل إن فيها دخل مروان مصر وأخذها من نائبها الذي من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدر (4).
واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها والله أعلم.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في الطبري 7 / 66 والكامل 4 / 174: عبيدة.
(3) في الطبري: سعد بن نمران، وفي الكامل: هشام بن هبيرة.
(4) تقدم: جحدم.

وقال الواقدي: لما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها فأشار عليه جابر بن عبد الله وعبيد بن عمير بذلك، وقال ابن عباس: أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن أرى أن تصلح ما يتهدم من بنيانها.
ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثا أيام، ثم غدا في اليوم الرابع فبدأ ينقض الركن إلى الاساس، فلما وصلوا إلى الاساس وجدوا أصلا بالحجر مشبكا كأصابع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا فأمرهم أن يحفروا، فلما ضربوا بالمعاول في تلك الاحجار المشبكة ارتجت مكة فتركه على حاله، ثم أسس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضعين بالارض، باب يدخل منه وباب يخرج منه، ووضع الحجر الاسود بيده، وشده بفضة لانه كان قد تصدع، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج، ثم اعتمر من مساجد عائشة وطاف بالبيت وصلى وسعى، وأزال ما كان حول الكعبة من الزبالة، وما كان حولها من الدماء، وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسود الركن وانصدع الحجر الاسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد الزبير لها ما ثبت في الصحيحين من حديث عاشئة المتقدم ذكره والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وستين فيها اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفا، كلهم يطلبون الاخذ بثأر الحسين ممن قتله، قال الواقدي: لما خرج الناس إلى النخيلة كانوا قليلا، فلم تعجب سليمان قلتهم، فأرسل حكيم بن منقذ (1) فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادي حتى بلغ المسجد الاعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريبا من عشرين ألفا أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد، فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فقال المسيب بن نجية لسليمان: إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، وباع نفسه لله عز وجل، فلا تنتظرن أحدا وامض لامرك في جهاد عدوك واستعن بالله عليهم.
فقام سليمان في أصحابه وقال: يا أيها الناس ! من كان إنما خرج لوجه الله وثواب الآخرة
فذلك منا ونحن منه، ومن كان خروجه معنا للدنيا فليس منا ولا يصحبنا.
فقال الباقون معه: ما للدنيا خرجنا، ولا لها طلبنا، فقيل له: أنسير إلى قتلة الحسين بالشام وقتلته عندنا بالكوفة كلهم مثل عمر بن سعد وغيره ؟ فقال سليمان: إن ابن زياد هو الذي جهز الجيش إليه وفعل به ما فعل، فإذا فرغنا منه عدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتوهم أولا، وهم أهل مصركم ما عدم الرجل منكم أن يرى رجلا قد قتل أباه قد قتل أخاه أو حميمه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتم من
__________
(1) في الطبري 7 / 66 زيد: والوليد بن غضين الكناني، وفي ابن الاعثم 6 / 58: ابن عصين وفي الكامل: ابن عصير.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55