كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن
كثير الدمشقي
وإذا المقل أقام وسط رحالهم * ردوه رب صواهل وقيان وإذا دعوتهم لكل ملمة * سدوا شماع الشمس بالفرسان آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت.
بحيرا الراهب الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة وعمره إذا ذاك اثنتي (1) عشرة سنة فرأى الغمامة تظله من بينهم.
فصنع لهم طعاما ضيافة واستدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في السيرة وقد روى الترمذي في ذلك حديثا بسطنا الكلام عليه هنالك وقد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب وذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر بينها وبين بصرى ستة أميال وهي التي يقال لها (دير بحيرا) قال ويقال: إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا والله أعلم.
ذكر قس بن ساعدة الايادي قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب " هواتف الجان ": حدثنا داود القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت.
قال: لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الايادي ".
قالوا: هلك يا رسول الله.
قال: " لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه ".
فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال: أنا أحفظه يارسول الله.
قال: فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: " فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات، وكل شئ آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، مالي أرى
الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالاقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا.
أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه.
إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الاولي * ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاصاغر والاكابر لا من مضى يأتي الي * ك ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر وهذا إسناد غريب من هذا الوجه وقد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه " المعجم
__________
(1) في الاصل اثني وهو خطأ.
الكبير ": حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي، حدثنا محمد بن حسان السهمي، حدثنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس.
قال: قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيكم يعرف القس بن ساعدة الايادي ".
قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله.
قال: " فما فعل " ؟ قالوا: هلك، قال: فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور.
وأقسم قس قسما حقا لئن كان في الامر رضي ليكون بعده سخط.
إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.
مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون.
أرضوا بالمقام فأقاموا.
أم تركوا فناموا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفيكم من يروي شعره ؟ فأنشده بعضهم: في الذاهبين الاولي * - ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس ما مصادر
ورأيت قومي نحوها * يسعي الاصاغر والاكابر لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر وهكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه دلائل النبوة من طريق محمد بن حسان السلمي به.
وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الاستاذ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي عن سعيد بن شبيب، عن محمد بن الحجاج، عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد، ويعرف بصاحب الفريسة.
وقد كذبه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني واتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث.
وقد رواه البزار وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا ورواه ابن درستويه وأبو نعيم من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه الطريق أمثل من التي قبلها وفيه: إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها ونثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد بن موسى بن إسحاق الحطمي.
حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثنا وهب بن جرير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس.
قال قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: " ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الايادي " وذكر القصة مطولة.
وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعا قال أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعا وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد الله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعا قال أنا جعفر بن علي سماعا قال أنا السلفي سماعا
أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي أنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن عيسى السعدي أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد السعدي - قاضي فارس - حدثنا أبو داود
سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع عن محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال: كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها عالما بسير الفرس وأقاويلها بصيرا بالفلسفة والطب ظاهر الدهاء والادب كامل الجمال ذا ثروة ومال وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافدا في رجال من عبد القيس ذوي اراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه وأنشأ يقول: يا نبي الهدى أتتك رجال * قطعت فدفدا وآلا فآلا وطوت نحوك الصحاصح تهوى * لا تعد الكلال فيك كلالا كل بهماء قصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا ارقالا وطوتها العتاق يجمح فيها * بكماة كأنجم تتلألأ تبتغي دفع بأس يوم عظيم * هائل أوجع القلوب وهالا ومزادا لمحشر الخلق طرا * وفراقا لمن تمادى ضلالا نحو نور من الاله وبرها * ن وبر ونعمة أن تنالا خصك الله يا بن آمنة الخ * - ير بها إذ أتت سجالا سجالا فاجعل الحظ منك يا حجة الل * ه جزيلا لاحظ خلف أحالا قال فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه وقال له.
يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك.
فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة وأغلظ عقوبة وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك واتبع سواك وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب ؟ ويرضى الرب عن المربوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك ذلك واخلص الآن لله بالوحدانية ودع عنك دين النصرانية.
فنال الجارود: فداك أبي وأمي مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.
قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه فسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، وأظهر من
إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به.
ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الايادي فقال الجارود فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم بخبره واقف على أمره كان قس يارسول الله سبطا من أسباط العرب عمر ستمائة سنة تقفز منها خمسة أعمار في البراري والقفار يضج بالتسبيح على مثال المسيح لا يقره قرار ولا تكنه دار ولا يستمتع به جار.
كان يلبس الامساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام،
ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر، فصار لذلك واحدا تضرب بحكمته الامثال، وتكشف به الاهوال.
أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب ووحد، وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت وسلم بالقضاء، على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالاشعار، وفكر في الاقدار، وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكبا، ووعظ دائبا، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه، وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الازر، وعظم الامر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.
وهو القائل في يوم عكاظ.
شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وأناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع واشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام، لقد ضل الانام، نشو مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسئ، تبا لارباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والانثى، رب الآخرة والاولى.
أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد ؟ وأين الآباء والاجداد ؟ وأين العليل والعواد ؟ كل له معاد يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في
الناقور، وأشرقت الارض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط وأبصر اللاحظ، فويل لمن صدف عن الحق الاشهر، والنور الازهر، والعرض الاكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة وفريق في السعير.
وهو القائل: ذكر القلب من جواه ادكار * وليال خلالهن نهار وسجال هو اطل من غمام * ثرن ماء وفي جواهن نار ضوءها يطمس العيون وأرعا * دشداد في الخافقين تطار وقصور مشيدة حوت الخ * - ير وأخرى خلت بهن قفار وجبال شوامخ راسيات * وبحار مياههن غزار ونجوم تلوح في ظلم اللي * - ل نراها في كل يوم تدار ثم شمس يحثها قمر اللي * - ل وكل متابع موار وصغير وأشمط وكبير * كلهم في الصعيد يوما مزار وكبير مما يقصر عنه * حدسه الخاطر الذي لا يحار فالذي قد ذكرت دل على الل * ه نفوسا لها هدى واعتبار
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ، واقفا على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، ولك ما هو آت آت، مطر ونبات، واحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبرا، وإن في الارض عبرا، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس.
اقسم قس قسما، لا كاذبا فيه ولا آثما، لئن كان في هذا الامر
رضي، ليكونن سخط.
ثم قال: أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه.
ثم قال مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، ارضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا فناموا.
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى بعض أصحابه فقال: أيكم يروي شعره لنا ؟ فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول: في الذاهبين الاولي * - ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاصاغر والاكابر لا يرجع الماض إلي * ي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر قال: فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي وأنا رأيت من قس عجبا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس ؟ فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي فدعني أقفو أثره في تنائف قفاف ذات ضغابيس وعرصات جثجاث بين صدور جذعان، وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك القلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة واغصانها متهدلة كأن بريرها حب الفلفل وبواسق اقحوان، وإذا بعين خرارة وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب.
فدنوت منه وقلت له: أنعم صباحا ! فقال: وأنت فنعم صباحك ! وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه ضربه قس بالقضيب الذي بيده.
وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعرا شديدا، ونظر إلي فقال لا تخف.
وإذا بقبرين بينهما مسجد فقلت ما هذان ؟ القبران ؟ قال قبر أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله حتى الحق بهما.
فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم وتبيانهم على شرهم ؟ فقال لي: ثكلتك أمك أو ما علمت أن ولد
إسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الاضداد وعظموا الانداد ثم أقبل على القبرين وانشأ يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما * أجد كما لا تقضيان كراكما أرى النوم بين الجلد والعظم منكما * كأن الذي يسقي العقار سقاكما أمن طول نوم لا تجيبان داعيا * كأن الذي يسقي العقار سقاكما ألم تعلما أني بنجران مفردا * ومالي فيه من حبيب سواكما مقيم على قبريكما لست بارحا * إياب الليالي أو يجيب صداكما أأبكيكما طول الحياة وما الذي * يرد على ذي لوعة أن بكاكما فلو جعلت نفس لنفس أمرئ فدى * لجدت بنفسي أن تكون فداكما كأنكما والموت أقرب غاية * بروحي في قبريكما قد أتاكما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة.
وهذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود والله أعلم.
وقد رواه البيهقي: والحافظ أبو القاسم بن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى ابن محمد بن سعيد القرشي الاخباري ثنا أبي ثنا علي بن سليمان بن علي عن علي بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال: قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله أو نحوه مطولا بزيادات كثيرة في نظمه ونثره، وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه قال فبت في واد لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول: يا أيها الراقد في الليل الاجم * قد بعث الله نبيا في الحرم من هاشم أهل الوفاء والكرم * يجلو دجيات الدياجي والبهم قال فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا ولا سمعت له فحصا، قال فأنشأت أقول: يا أيها الهاتف في داجي الظلم * أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم * ماذا الذي تدعو إليه يغتنم قال فإذا أنا بنحنحة وقائلا يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا بالحبور صاحب النجيب الاحمر، والتاج والمغفر، والوجه الازهر، والحاجب الاقمر، والطرف الاحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله وذلك محمد المبعوث إلى الاسود والابيض أهل المدر والوبر ثم أنشأ يقول: الحمد لله الذي * لم يخلق الخلق عبث لم يخلنا يوما سدى * من بعد عيسى واكترث أرسل فينا أحمدا * خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما * حج له ركب وحث
وفيه من إنشاء قس بن ساعدة: يا ناعى الموت والملحود في جدث * عليهم من بقايا قولهم خرق دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا حتى يعودوا بحال غير حالهم * خلقا جديدا كما من قبله خلقوا منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها المنهج الخلق ثم رواه البيهقي عن محمد بن عبد الله بن يوسف بن أحمد الاصبهاني.
حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الاخميمي بمكة ثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ثنا سفيان بن عيينة عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
فذكر القصة وذكر الانشاد قال فوجد واعبد رأسه صحيفة فيها: يا ناعي الموت والاموات في جدث * عليهم من بقايا نومهم خرق دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * كما تنبه من نوماته الصعق منهم عراة وموتى في ثيابهم * منها الجديد ومنها الازرق الخلق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث.
وأصله مشهور وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة وقد تكلم أبو محمد بن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث وأكثره ظاهر إن شاء الله تعالى وما كان فيه غرابة شديدة نبهنا عليه في الحواشي.
وقال البيهقي: أنا أبو سعيد بن محمد بن أحمد الشعيثي ثنا أبو عمرو بن أبي طاهر المحمدي آباذي لفظا ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الاموردي ثنا أبي ثنا سعيد بن هبيرة ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس بن مالك قال قدم وفد أياد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل قس بن ساعدة ! قالوا هلك.
قال أما إني سمعت منه كلاما أرى أني أحفظه فقال بعض القوم نحن نحفظه يا رسول الله قال هاتوا: فقال قائلهم إني واقف بسوق عكاظ فقال: يا أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرسية وأنها مجرية إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، أرى الناس يموتون ولا يرجعون أرضوا بالاقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أقسم قس قسما بالله لا آثم فيه، إن لله دينا هو أرضى مما أنتم عليه ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الاول * ين من القرون لنا بصائر لما رأيت مصارعا * للقوم ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاكابر والاصاغر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر
ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم ثم قال بعد ذلك كله وقد روى هذا الحديث عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بزيادة ونقصان.
وروى من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعا وروى مختصرا من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة.
قلت: وعبادة بن الصامت كما تقدم وعبد الله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب الدلائل عن
عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي عن أبي الوليد طريف بن عبيد الله مولى علي بن أبي طالب بالموصل عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي معاوية عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود فذكره.
وروى أبو نعيم أيضا حديث عبادة المتقدم وسعد بن أبي وقاص.
ثم قال البيهقي وإذا روى الحديث من أوجه أخر وإن كان بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا والله أعلم.
زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي.
وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه وأخاه لامه وذلك لان عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه، وكان لها من نفيل أخوه الخطاب قاله الزبير بن بكار ومحمد بن إسحاق.
وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الاوثان وفارق دينهم وكان لا بأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده.
قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري.
ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته.
وكذا رواه أبو أسامة عن هشام به وزاد وكان يصلي إلى الكعبة ويقول إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم.
وكان يحيى الموؤودة ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها ادفعها إلي أكفلها فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها.
أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة وعلقه البخاري فقال: وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه به وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: وقد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وعبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة.
وأمه أميمة بنت عبد المطلب.
واخته زينب بنت جحش التى تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مولاه زيد بن حارثة كما
سيأتي بيانه.
حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.
فقال قائلهم تعلمن والله ما قومكم على شئ لقد أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه ما وثن يعبد ؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لانفسكم فخرجوا يطلبون ويسيرون في الارض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى والملل
كلها.
الحنيفية دين إبراهيم، فلما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية وابتغى الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب ولم يكن فيهم أعدل أمرا واعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الاوثان وفارق الاديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين الحنيفية دين إبراهيم يوحد الله ويخلع من دونه ولا يأكل ذبائح قومه فإذا هم بالفراق لما هم فيه.
قال: وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيرا حتى خرج منه إلى أعلى مكة ووكل به الخطاب شبابا من قريش وسفهاء من سفهائهم فقال لا تتركوه يدخل فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه.
وقال موسى بن عقبة سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الارض لم تذبحوها على غير اسم الله.
انكارا لذلك وإعظاما له ؟ وقال يونس عن ابن إسحاق وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة فضرب في الارض يطلب الحنيفية دين إبراهيم وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آدنت الخطاب بن نفيل فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الاول دين إبراهيم ويسأل عنه ولم يزل في ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال له الراهب إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظل خروج نبي وهذا زمانه.
وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئا منها فخرج سريعا حين قال له الراهب ما
قال يريد مكة حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة يرثيه: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كماهيا وقد تدرك الانسان رحمة ربه * ولو كان تحت الارض ستينا واديا وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق الوابشي ثنا عمرو بن عطية عن أبيه عن ابن عمر عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية فانطلق حتى أتى رجلا من اليهود فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك.
فقال له اليهودي لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله.
فقال من غضب الله أفر.
فانطلق حتى أتى نصرانيا فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك، فقال لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة.
فقال من الضلالة أفر.
قال له النصراني فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت.
قال أي دين ؟ قال دين إبراهيم قال فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه أحيى وعليه أموت.
قال فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو أمة وحده يوم القيامة.
وقد روى موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر نحو هذا وقال محمد بن سعد حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي عن اسماعيل عن مجالد
عن الشعبي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قل قال زيد بن عمرو بن نفيل: شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما فكنت بالشام وما والاها حتى أتيت راهبا في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي وكراهتي عبادة الاوثان واليهودية والنصرانية.
فقال له: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة إنك لتطلب دينا ما يوجد اليوم (أحد يدين) به وهو دين أبيك إبراهيم كان حنيفا لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية وهو أكرم الخلق على الله.
وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل: إن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم، إذ قال إلهي أنفي لك عان راغم، مهما
تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا انحال، ليس مهجر كمن قال.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي.
عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي عن أبيه عن جده أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو من أين أقبلت يا صاحب البعير ؟ فقال من بنية إبراهيم، فقال وما تلتمس قال ألتمس الدين قال ارجع فإنه يوشك أن يظهر في أرضك.
قال: فأما ورقة فتنصر وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني فرجع وهو يقول: لبيك حقا حقا * تعبدا ورقا البر أبغي لا انحال * فهل مهجر كمن قال آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: انفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، ثم يخر فيسجد قال وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له، قال نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
قال وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو: يا بن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب.
وقال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو بكر بن أبي سبرة عن موسى بن ميسرة عن ابن أبي مليكة عن حجر بن أبي أهاب.
قال: رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة بعدما رجع من الشام وهو يراقب الشمس فإذا زالت استقبل للكعبة فصلى ركعة سجدتين ثم يقول هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل لا أعبد حجرا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له ولا استقسم الازلام وإنا أصلي لهذا البيت حتى أموت.
وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول: لبيك لا شريك لك ولا ند لك ثم يدفعه من عرفة ماشيا وهو يقول لبيك متعبدا مرقوقا.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال سمعت زيد ابن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب ولا أراني أدركه وأنا أو من به وأصدقه وأشهد أنه نبي فان طالت بك مدة فرأيته فاقرئه مني السلام وسأخبرك
ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت: هلم ! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد وهذا البلد مولده ومبعثه ثم يخرجه قومه منها ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكان من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو وأقرائه منه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه وقال قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا.
وقال البخاري في صحيحه: ذكر زيد بن عمرو بن نفيل.
حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها.
ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وأن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الارض ثم يذبحونها على غير اسم الله انكارا لذلك وإعظاما له.
قال موسى بن عقبة: وحدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا يحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله قال زيد وما أفر إلا من غضب الله تعالى ولا أحمل من غضب الله شيئا ولا أستطيعه فهل تدلني على غيره ؟ قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال زيد وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من على غيره قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فلما رأى زيد قولهم في
إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
قال وقال الليث: كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه عن اسماء بنت أبي بكر قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري وكان يحيي الموؤودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لابيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها انتهى ما ذكره البخاري.
وهذا الحديث الاخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد عن الليث عن هشام عن أبيه عن اسماء فذكر نحوه.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى
الكعبة يقول: يا معشر قريش إياكم والزنا فإنه يورث الفقر.
وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا وفي بعضها نكارة شديدة.
ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا يوسف بن يعوقب الصفار حدثنا يحيى بن سعيد الاموي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية ويقول إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم ويسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى بن مريم.
إسناده جيد حسن.
وقال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، ولقد نزل به وأنه ليقول أنا على دين إبراهيم فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم قال فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له، ثم يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال مات
زيد بن عمرو بن نفيل بمكة ودفن بأصل حراء، وقد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم فقتلوه بمكان يقال له ميفعة والله أعلم.
وقال الباغندي عن أبي سعيد الاشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين.
وهذا إسناد جيد وليس هو في شئ من الكتب.
ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله ما قدمناه في بدء الخلق من تلك القصيدة: إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا إلى الملك الاعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا وقد قيل إنها لامية بن أبي الصلت والله أعلم.
ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق والزبير بن بكار وغيرهما: وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الارض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الريح تصرف حالا فحالا وقال محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة قال روي أبي أن زيد بن عمرو قال:
أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الامور عزلت اللات والعزى جميعا * كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني عمرو أزور ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي يسير عجبت وفي الليالي معجبات * وفي الايام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا * كثيرا كان شأنهم الفجور وابقى آخرين ببر قوم * فيربل منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير ولكن أ عبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور فتقوى الله ربكم احفظوها * متى ما تحفظوها لا تبوروا ترى الابرار دارهم جنان * وللكفار حامية سعير وخزي في الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من هذه القصيدة.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال زيد بن عمرو بن نفيل: عزلت الجن والجنان عني * كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني طسم أدير ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي صغير أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الامور ألم تعلم بأن الله أفنى * رجالا كان شأنهم الفجور وابقى آخرين ببر قوم * فيربو منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير قالت فقال ورقة بن نوفل: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا لدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك جنان الجبال كما هيا أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الاعاديا حنانيك أن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا
لتدركن المرء رحمة ربه * وإن كان تحت الارض سبعين واديا أدين لرب يستجيب ولا أرى * أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا أقول إذا صليت في كل بيعة * تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام هو وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش فتنصروا إلا زيدا فإنه لم يدخل في شئ من الاديان بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له متبعا ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه.
وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث.
وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر.
وله خبر عجيب ذكره الاموي ومختصره أنه لما قدم على قيصر فشكى إليه ما لقي من قومه كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشا لحرب قريش فعزم على ذلك فكتب إليه الاعراب تنهاه عن ذلك لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل الله بأصحاب الفيل، فكساه ابن جفنة قميصا مصبوغا مسموما فمات من سمه فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الاموي تركناه اختصارا وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها والله سبحانه وتعالى أعلم.
شئ من الحوادث في زمن الفترة فمن ذلك بنيان الكعبة وقد قيل: إن أول من بناه آدم وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وأقوى الاقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام.
كما تقدم وكذلك رواه سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب قال: ثم تهدم فبنته العمالقة ثم تهدم فبنته جرهم ثم تهدم فبنته قريش.
قلت: سيأتي بناء قريش له وذلك قبل المبعث بخمس سنين وقيل بخمس عشرة سنة وقال الزهري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحلم.
وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة.
كعب بن لؤي
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن طلحة التيمي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة.
قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة وكانت قريش تسميه العروبة فيخطبهم فيقول: أما بعد فأسمعوا وتعلموا، وافهموا واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والارض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والاولون كالآخرين، والانثى والذكر والروح وما يهيج إلى بلى فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم.
فهل رأيتم من هالك رجع ؟ أو ميت نشر ؟ الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم ; وسيخرج منه نبي كريم، ثم يقول: نهار وليل كل يوم بحادث * سواء علينا ليلها ونهارها يؤوبان بالاحداث حتى تأوبا * وبالنعم الضافي علينا ستورها على غفلة يأتي النبي محمد * فيخبر أخبارا صدوق خبيرها ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر، ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل،
ولارقلت بها إرقال العجل.
ثم يقول: يا ليتني شاهدا نجواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا قال وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة عام وستون سنة.
تجديد حفر زمزم على يدي عبد المطلب بن هاشم التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر وكان أول ما ابتدى به عبد المطلب من حفرها كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله المزني عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها.
قال قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي احفر طببة.
قال قلت وما طيبة ؟ قال ثم ذهب عني قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر برة.
قال قلت وما برة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر المضنونة قال قلت وما المضنونة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني قال احفر زمزم.
قال قلت وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي الحجيج الاعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الاعصم، عند قرية النمل.
قال: فلما بين لي شأنها ودل على موضعها وعزف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب وليس له يومئذ ولد غيره فحفر فلما بدا لعبد المطلب الطمى كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته.
فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر ابينا اسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها.
قال: ما أنا بفاعل إن هذا الامر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم قالوا له فانصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.
قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال: نعم وكانت بإشراف الشام فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية وركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا والارض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فقال عبد المطلب إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه.
فقالوا: نعما أمرت به فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى ثم إن عبد المطلب قال لاصحابه ألقينا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الارض لا نبتغي لانفسنا لعجز فعسى أن يزرقنا ماء ببعض البلاد فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملاوا أسقيتهم ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الاحوال فقال هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فجاؤوا فشربوا واستقوا
كلهم ثم قالوا قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه
الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم.
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم قال ابن إسحاق وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم: ثم ادع بالماء الروى غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر ليس يخاف منه شئ ما عمر قال فحرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي ؟ قال: لا ! قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك فرجع ونام فأتى فقيل له: احفر زمزم.
إنك إن حفرتها لن تندم.
وهي تراث من أبيك الاعظم.
لا تنزف أبدا ولا تزم.
تسقى الحجيج الاعظم.
مثل نعام جافل لم يقسم.
ينذر فيها ناذر بمنعم.
تكون ميراثا وعقدا محكم.
ليست لبعض ما قد تعلم.
وهي بين الفرث والدم.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حنى قيل له ذلك قال وأين هي ؟ قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا.
فالله أعلم أي ذلك كان.
قال فغلبا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره.
زاد الاموي ومولاه أصرم فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش وقالت والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لابنه الحارث: زد عني حتى أحفر فوالله لامضين لما أمرت به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطمى فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهما ووجد فيها أسيافا قلعية وأدرعا.
فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال لا ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال اجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن
خرج قدحاه على شئ كان له ومن تخلف قدحاه فلا شئ له.
قالوا: أنصفت فجعل للكعبة قدحين أصفرين وله أسودين ولهم أبيضين ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل وهبل أكبر أصنامهم ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل.
يعني هذا الصنم.
وقام عبد المطلب يدعو الله.
وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول: اللهم أنت الملك المحمود * ربي أنت المبدئ المعيد وممسك الراسية الجلمود * من عندك الطارف والتليد
إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد فبين اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا أجعله رب لي فلا أعود قال وضرب صاحب القداح فخرج الاصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الاسودان على الاسياف والادراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش.
فضرب عبد المطلب الاسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعون.
ثم أن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب ثم عددها ابن إسحاق وسماها وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال فعفت زمزم على البئار كلها وانصرف الناس كلهم إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولانها بئر اسماعيل بن إبراهيم وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.
وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زمزم: إنها لطعام طعم.
وشفاء سقم.
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء زمزم لما شرب منه.
وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا فيه ولفظه ماء زمزم لما شرب له.
ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ماء زمزم لما شرب له.
ولكن سويد بن سعيد ضعيف والمحفوظ عن ابن المبارك عن عبد الله بن المؤمل كما تقدم وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا ماء زمزم لما شرب له وفيه نظر والله أعلم.
وهكذا روى ابن ماجه أيضا والحاكم عن أبن عباس أنه قال لرجل إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم.
وقد ذكر عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا والله أعلم.
وقد قال الاموي في مغازيه: حدثنا أبو عبيد أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم.
قال: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وذلك أنه جعل لها حوضين حوضا للشرب، وحوضا للوضوء.
فعند ذلك قال: لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه.
قال أبو عبيد قال الاصمعي: قوله وبل اتباع قال أبو عبيد والاتباع لا يكون بواو العطف وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان أن بل بلغة حمير مباح ثم قال أبو عبيد حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود أنه سمع زرا أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن علقمة أنه سمع ابن عباس
يقول ذلك وهذا صحيح اليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والاعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها فلا ينافي ما تقدم والله أعلم.
وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شئ فقال لاخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل أعطيك جميع مالك فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها
فقال: نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس فترك له السقاية فصارت إليه ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس ثم إلى داود بن علي ثم إلى سليمان بن علي ثم إلى عيسى بن علي ثم أخذها المنصور واستناب عليها مولاه أبا رزين ذكره الاموي.
نذر عبد المطلب ذبح ولده قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة.
فلما تكامل بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه وهم: الحارث.
والزبير.
وحجل.
وضرار.
والمقوم.
وأبو لهب.
والعباس.
وحمزة.
وأبو طالب.
وعبد الله.
جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله عزوجل بذلك فأطاعوه وقالوا كيف نصنع ؟ قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة وهي الازلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل أو نسب أو أمر من الامور جاؤوه فاستقسموا بها فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه.
والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل خرج القدح على ابنه عبد الله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد أبنه عبد الله وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى أساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من انديتها فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب ؟ قال اذبحه فقالت له قريش وبنوه أخوة عبد الله والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجئ بابنه حتى يذبحه فما بقاء الناس على هذا.
وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه فيقال إنه شج وجهه شجا لم يزل في وجهه إلى أن مات ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فيسألها عن ذلك ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة وهي سجاح فيما ذكره
يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر فركبوا حتى جاؤوها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا من عندها فلما خرجوا قام
عبد المطلب يدعو الله ثم غدوا عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم ؟ قالوا عشر من الابل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الابل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الابل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم فخرجوا حتى قدموا مكة فلما اجمعوا على ذلك الامر قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الابل ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا فلم يزالوا يزيدون عشرا عشرا ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الابل مائة.
ثم ضربوا فخرج القدح على الابل فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب.
فعندها زعموا أنه قال لا حتى اضرب عليها بالقداح ثلاث مرات فضربوا ثلاثا ويقع القدح فيها على الابل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها انسان ولا يمنع.
قال ابن هشام ويقال ولا سبع وقد روى أنه لما بلغت الابل مائة خرج على عبد الله أيضا فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين فخرج القدح على عبد الله فزادوا مائة أخرى فصارت الابل ثلاثمائة.
ثم ضربوا فخرج القدح على الابل فنحرها عند ذلك عبد المطلب والصحيح الاول والله أعلم.
وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الابل وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب.
وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشئ بل توقف.
فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال إنهما لم يصيبا الفتيا ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير ونهاها عن ذبح ولدها ولم يأمرها بذبح الابل، وأخذ الناس بقول مروان بذلك والله أعلم.
تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به - فيما يزعمون - على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قتال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فنظرت إلى وجهه فقالت أين تذهب يا عبد الله ؟ قال مع أبي قالت لك مثل الابل التي نحرت عنك وقع على الآن.
قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالامس ؟ قالت له فارقك النور الذي كان معك بالامس فليس لي بك حاجة.
وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن في هذه الامة نبي
فطمعت أن يكون منها فجعله الله تعالى في أشرف عنصر وأكرم محتد وأطيب أصل كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وسنذكر المولد مفصلا ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الامر الذي رامته وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رحمه الله: عليك بآل زهرة حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه أماما إلى أن قالت: فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتديا إماما يراه الله من نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوما أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب حدثنا محمد بن عمارة القرشي حدثنا مسلم بن خالد الزنجي حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت يافتى هل لك أن تفع علي الآن وأعطيك مائة من الابل ؟ فقال عبد الله: أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه فكيف بالامر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثا.
ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت: ما صنعت بعدي ؟ فأخبرها.
فقالت والله ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في.
وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد.
ثم أنشأت فاطمة تقول: إني رأيت مخيلة لمعت * فتلالات بحناتم القطر فلمأتها نورا يضئ له * ما حوله كإضاءة البدر ورجوتها فخرا أبوء به * ما كل قادح زنده يوري لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري وقالت فاطمة أيضا: بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد ميثت له بدهان
وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته لتواني فأجمل إذا طالبت أمرا فانه * سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخرا ما لذلك ثان وروى الامام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن جعفر عن ابن عون عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس قال إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود قال فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب يا عبد المطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك ؟ قال نعم إذا لم يكن عورة.
قال ففتح إحدى منخري فنظر فيه ثم نظر في الآخر فقال أشهد أن في إحدى يديك ملكا وفي الاخرى نبوة وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك ؟ قلت لا أدري قال هل لك من شاغة ؟ قلت وما الشاغة ؟ قال زوجة.
قلت أما اليوم فلا قال فإذا رجعت فتزوج فيهم.
فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت حمزة وصفية ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة فلج أي فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب.
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) ولما سأل هرقل ملك الروم لابي سفيان تلك الاسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم ؟ قال: هو فينا ذو نسب.
قال كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها، يعني في أكرمها أحسابا وأكثرها قبيلة صلوات الله عليهم أجمعين.
فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة.
أبو القاسم.
وأبو إبراهيم.
محمد.
وأحمد.
والماحي الذي يمحى به الكفر.
والعاقب الذي ما بعده نبي.
والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه.
والمقفي.
ونبي الرحمة.
ونبي التوبة.
ونبي الملحمة.
وخاتم النبيين.
والفاتح.
وطه.
ويس.
وعبد الله.
قال البيهقي (1): وزاد بعض العلماء فقال سماه الله في القرآن رسولا.
نبيا.
أمينا (2)
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 160.
(2) كذا في الاصل، والصواب كما في البيهقي: أميا.
شاهدا.
مبشرا.
نذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
ورؤوفا رحيما.
ومذكرا.
وجعله رحمة ونعمة وهاديا (1).
وسنورد الاحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة والسلام في باب نعقده بعد فراغ السيرة.
فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر وأفرد الناس في ذلك مؤلفات حتى رام بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة والسلام ألف اسم.
وأما الفقيه الكبير أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي بكتابه الذي سماه لاحوذي فانه ذكر من ذلك أربعة وستين اسما والله أعلم.
وهو ابن عبد الله وكان أصغر ولد أبيه عبد المطلب وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الابل كما تقدم.
قال الزهري: وكان أجمل رجال قريش وهو أخو الحارث والزبير وحمزة وضرار وأبي طالب - واسمه عبد مناف - وأبي لهب - واسمه عبد العزى - والمقوم - واسمه عبد الكعبة - وقيل هما اثنان وحجل واسمه المغيرة والغيداق وهو كبير الجود - واسمه نوفل - ويقال إنه حجل.
فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة والسلام.
وعماته ست وهن أروى.
وبرة.
وأميمة.
وصفية.
وعاتكة.
وأم حكيم - وهي البيضاء - وسنتكلم على كل منهم فيما بعد إن شاء الله تعالى.
كلهم أولاد عبد المطلب - واسمه شيبة - يقال لشيبة كانت في رأسه ويقال له شيبة الحمد لجوده.
وإنما قيل له عبد المطلب لان أباه هاشما لما مر بالمدينة في تجارته إلى الشام نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف (2) بن عدي بن النجار الخزرجي النجاري وكان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيها فزوجها منه واشترط عليه مقامها عنده وقيل بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده
بالمدينة فلما رجع من الشام بنى بها وأخذها معه إلى مكة فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حبلى فتركها بالمدينة ودخل الشام فمات بغزة ووضعت سلمى ولدها فسمته شيبة فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين (3) ثم جاء عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة.
فلما رآه الناس ورأوه على الراحلة قالوا من هذا معك ؟ فقال عبدي ثم جاؤوا فهنأوه به وجعلوا يقولون له عبد المطلب لذلك فغلب عليه وساد في قريش سيادة عظيمة وذهب بشرفهم ورآستهم.
فكان جماع أمرهم عليه وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب وهو الذي جدد حفر زمزم بعدما كانت مطمومة من عهد جرهم وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك
__________
(1) زاد البيهقي: ونذيرا مبينا وسماه عبدا.
(2) في الطبري: جندب.
وفي الجمهرة اتفق مع ابن هشام: ابن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.
(3) في الطبري زاد: أو ثماني سنين.
الغزالتين اللتين من ذهب وجدهما في زمزم مع تلك الاسياف القلعية (1).
قال ابن هشام: وعبد المطلب أخو أسد وفضلة (2) وأبي صيفي وحية وخالدة ورقية والشفاء وضعيفة.
كلهم أولاد هاشم واسمه عمرو وإنما سمي هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل كما قال مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته وقيل (3) للزبعرى والد عبد الله: عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف سنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الاصياف وذلك لانه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف وكان أكبر ولد أبيه.
وحكى ابن جرير أنه كان تؤام أخيه عبد شمس وأن هاشما خرج ورجله ملتصقة برأس عبد شمس فما تخلصت حتى سال بينهما دم فقال الناس (4) بذلك يكون بين أولادهما حروب فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة.
وشقيقهم الثالث المطلب وكان المطلب أصغر ولد أبيه وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال.
ورابعهم نوفل من أم أخرى وهي واقدة بنت عمرو المازنية
وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم وصارت إليهم الرياسة وكان يقال لهم المجيرون (5) وذلك لانهم أخذوا لقومهم قريش الامان من ملوك الاقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم فكان هاشم قد أخذ أمانا من ملوك الشام والروم وغسان وأخذ لهم عبد شمس من النجاشي الاكبر ملك الحبشة، وأخد لهم نوفل من الاكاسرة، وأخذ لهم المطلب أمانا من ملوك حمير.
ولهم يقول الشاعر: يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف وكان إلى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه، وإليه وإلى أخيه المطلب نسب ذوي القربى، وقد كانوا شيئا واحدا في حالتي الجاهلية والاسلام لم يفترقوا، ودخلوا معهم في الشعب، وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل.
ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل ولا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم، فإن هاشما مات بغزة من أرض الشام، وعبد
__________
(1) تقدم التعليق على ذلك في الحرب بين جرهم وخزاعة، واعتكاف عمرو بن الحارث بن مضاض قومه والقتال إلى جانبهم..فليراجع.
(2) كذا في الاصل وفي ابن هشام وجمهرة أنساب العرب: نضلة.
(3) في الطبري قال الكلبي للزبعرى.
(4) في الطبري: فتطير من ذلك فقيل تكون بينهما دماء.
وعنده في رواية أخرى أن عبد شمس هو أكبر ولد عبد مناف.
وفي جمهرة الانساب: كان هاشم وعبد مناف توأمين وخرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم.
(5) عند الطبري: فكانوا أول من أخد لقريش العصم فانتشروا من الحرم.
وفي الطبري وابن الاثير: المجيرون = المخيرون.
شمس مات بمكة (1)، ونوفل مات بسلامان من أرض العراق، ومات المطلب - وكان يقال له القمر لحسنه - بريمان من طريق اليمن.
فهؤلاء الاخوة الاربعة المشاهير وهم هاشم، وعبد شمس،
ونوفل، والمطلب.
ولهم أخ خامس ليس بمشهور وهو أبو عمرو واسمه عبد، وأصل اسمه عبد قصي (2).
فقال الناس عبد بن قصي درج ولا عقب له.
قاله الزبير بن بكار وغيره.
وأخوات ست وهن: تماضر، وحية، وريطة، وقلابة، وأم الاخثم، وأم سفيان.
كل هؤلاء أولاد عبد مناف ومناف اسم صنم وأصل اسم عبد مناف المغيرة.
وكان قد رأس في زمن والده، وذهب به الشرف كل مذهب.
وهو أخو عبدالدار الذي كان أكبر ولد أبيه وإليه أوصي بالمناصب كما تقدم وعبد العزى وعبد وبرة وتخمر وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشي (3) بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى وأبوها آخر ملوك خزاعة وولاة البيت منهم، وكلهم أولاد قصي واسمه زيد.
وإنما سمي بذلك لان أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حزام بن عذرة فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير فسمي قصيا لذلك.
ثم عاد إلى مكة وهو كبير ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات البلاد، وأزاح يد خزاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة ورجع الحق إلى نصابه وصار رئيس قريش على الاطلاق وكانت إليه الوفادة (4) والسقاية - وهو سنها - والسدانة والحجابة واللواء وداره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله - ولهذا قال الشاعر: قصي، لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر وهو أخو زهرة كلاهما ابنا كلاب أخي تيم ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص وهم أبناء كعب وهو الذي كان يخطب قومه كل جمعة ويبشرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد في ذلك أشعارا كما قدمنا، وهو أخو عامر وسامة وخزيمة وسط والحارث وعوف سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الادرم وهما أبناء غالب أخي الحارث ومحارب ثلاثتهم أبناء فهر، وهو أخو الحارث وكلاهما ابن مالك.
وهو أخو الصلت ويخلد، وهم بنو النضر الذي إليه جماع قريش: على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه، وهو أخو مالك وملكان وعبد مناة وغيرهم كلهم أولاد كنانة أخي أسد وأسدة والهون أولاد خزيمة، وهو أخو هذيل وهما ابنا مدركة - واسمه عمرو أخو طابخة واسمه عامر وقمعة ثلاثتهم أبناء الياس وأخي الياس هون غيلان والد فيس كلها وهما ولدا مضر أخي
__________
(1) في ابن الاثير: وقبر بأجياد.
ونوفل مات بسلمان من طريق العراق.
المطلب بردمان من أرض اليمن.
(2) لم يذكره ابن هشام في أولاد عبد مناف بل ذكره وكذلك الطبري في أولاد قصي، وذكر أنه لم يعقب انظر جمهرة أنساب العرب، وزاد ابن هشام اسم أبي عمرو من أولاد عبد مناف.
(3) كذا في الاصول والصواب حبشية (الطبري - ابن هشام).
(4) كذا في الاصول وفادة والصواب الرفادة وقد وردت كثيرا (الطبري - ابن هشام).
ربيعة.
ويقال لهما الصريحان من ولد إسماعيل وأخواهما أنمار وإياد تيامنا، اربعتهم ابناء نزار أخي قضاعة - في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة حجازية عدنانية - وقد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان.
وهدا النسب بهده الصفة لا خلاف فيه بين العلماء فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (1) لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم.
وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزيد مما قال، وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء وكثير منهم بالامهات أيضا كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره في أمهاته وأمهات آبائه وأمهاتهم ما يطول ذكره.
وقد حرره ابن إسحاق رحمه الله والحافظ ابن عساكر.
وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه وما قيل فيه وأنه من ولد إسماعيل لا محالة وإن اختلف في كم بينهما أبا (2) ؟ على أقوال قد بسطناها فيما تقدم والله أعلم.
وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم وأوردنا قصيدة أبي العباس الناشئ المتضمنة ذلك، كل ذلك في أخبار عرب الحجاز ولله الحمد.
وقد تكلم الامام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في أول تاريخه (3) على ذلك كلاما مبسوطا جيدا محررا نافعا.
وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على المنبر ولكن الله أعلم
بصحته، كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي (4) أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ - ببغداد - حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار [ قال ] حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعد (5) - املاء سنة ست وتسعين ومائتين -، [ قال ]: حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي [ قال ]: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي [ قال ] حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري عن أنس [ بن مالك ] وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
قال (6): بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا من كندة يزعمون أنهم منه وأنه منهم فقال: " إنما كان يقول ذلك: العباس، وأبو سفيان بن حرب [ إذا قدما المدينة ليأمنا ] فيأمنا بذلك.
وإنا لن ننتفي من
__________
(1) سورة الشورى الآية: 23 (2) كذا بالاصول والصواب: كم أب بينهما.
(3) راجع الطبري بداية الجزء الثاني.
(4) دلائل النبوة ج 1 / 174 وفيه: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن حفص وصحح الحديث من الدلائل.
(5) في البيهقي: سعيد.
(6) في البيهقي: قالا:
بائنا، نحن بنو النضر بن كنانة ": قال: وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أنا محمد، بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار (1) وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرها (2) فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شئ من عهر الجاهلية.
وخرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم، حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفسا، وخيركم أبا " وهذا حديث غريب جدا من حديث مالك.
تفرد به القدامي (3) وهو ضعيف.
ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر.
فمن ذلك قوله: " خرجت من نكاح لا من سفاح " قال عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن
أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) قال لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح " وهذا مرسل جيد.
وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني عن يحيى بن أبي بكير عن عبد الغفار بن القاسم عن جعفر بن محمد عن أبيه.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أخرجني من النكاح ولم يخرجني من السفاح " وقد رواه ابن عدي موصولا فقال حدثنا أحمد بن حفص حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال أشهد على أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شئ " هذا غريب من هذا الوجه ولا يكاد يصح.
وقال هشيم حدثنا المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شئ، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الاسلام " وهذا أيضا غريب أورده الحافظ ابن عساكر ثم أسنده من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف والله أعلم.
وقال محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم عن عمه الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولدت من نكاح غير سفاح " ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم عن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين) قال من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا.
ورواه عن عطاء.
وقال محمد بن سعد أخبرنا هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية.
__________
(1) في البيهقي: نزار.
(2) في البيهقي: خيرهما.
(3) القدامي من أهل المصيصة كان يقلب الاخبار، قلب على مالك أكثر من مائة حديث وخمسين حديثا ذكره ابن حبان في المجروحين 2 / 39 ولم يرد ذكره في ثقات العجلي، له ترجمة في تقريب التهذيب، ابن الربيع الكرماني أبو عبد الرحمن، ثقة 1 / 446 والكاشف 2 / 112.
وثبت في صحيح البخاري (1) من حديث عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه ".
وفي صحيح مسلم (2) من حديث الاوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الاسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم اسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ".
وقال الامام أحمد حدثنا أبو نعيم (3) عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس " فصعد المنبر فقال: من أنا ؟ " قالوا أنت رسول الله قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا.
فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " (4) صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا إلى يوم الدين.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا عبيد الله بن موسى عن اسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يارسول الله إن قريشا إذا التقوا، لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك غضبا شديدا ثم قال: " والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم الله ولرسوله " فقلت يارسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الارض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله [ عزوجل ] يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم جعلني في خيرهم قبيلة (5).
ثم حين جعل البيوت جعلني
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في 61 كتاب المناقب (23) باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباري 6 / 566.
وفيه عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
وأخرجه البيهقي عنه في دلائله 1 / 175.
(2) صحيح مسلم أول كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي ح 1 ص 1782.
(3) أبو نعيم وهو الفضل بن دكين.
(4) مسند أحمد ج 4 / 166 - 167 وأخرجه الترمذي في 50 كتاب المناقب - باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم 5 / 653 وقال: حديث حسن.
(5) أخرجه البيهقي بإسناده في دلائل النبوة ج 1 / 167 - 168.
في الكلام نقص واضح وتمامه من الدلائل: ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم حين جعل القبائل جعلني في خير قبيلة.
وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (11) باب ح (140) ص (1 / 50) والترمذي في كتاب المناقب وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الزوائد: رجال إسناده ثقات.
في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا ".
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن ربيعة بن الحارث قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحو ما تقدم ولم يذكر العباس (1).
وقال يعقوب بن سفيان حدثني يحيى بن عبد الحميد حدثني قيس بن عبد الله عن الاعمش عن عليلة (2) بن ربعي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله [ تعالى ]: (وأصحاب اليمين) (3) و (أصحاب الشمال) (4)، فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثالثا، فذلك قوله [ تعالى ]: و (أصحاب الميمنة) (5) (والسابقون السابقون) (6) فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين، ثم جعل الا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله [ تعالى ]: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (7) وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا وذلك قوله [ عزوجل ]: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (8) " فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب ".
وهذا الحديث فيه
غرابة ونكارة.
وروى الحاكم والبيهقي (9) من حديث محمد بن ذكوان خال ولد حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال: إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن.
فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعرف في وجهه الغضب.
فقال: " ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إن الله خلق السماوات سبعا فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم " هذا أيضا حديث غريب (10).
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا
__________
(1) أخرجه من هذا الوجه أحمد في مسنده ج 4 / 166 - 167.
(2) كذا في الاصول والصواب عباية بن ربعي.
ذكره العقيلي في الضعفاء الكبير 3 / 415.
(3) سورة الواقعة الآية 37.
(4) سورة الواقعة الآية 41.
(5) سورة الواقعة الآية 8.
(6) سورة الواقعة الآية 10.
(7) سورة الحجر الآية 13.
(8) سورة الاحزاب الآية 33.
(9) دلائل النبوة ج 1 / 171 والحاكم في المستدرك 4 / 73.
(10) سرده العقيلي في الضعفاء وقال لا يتابع عليه.
وضعف العقيلي يزيد بن عوانة.
فخر " وروى الحاكم والبيهقي أيضا (1) من حديث موسى بن عبيدة [ قال ] حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل عن الزهري عن أبي أسامة أو أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل [ عليه السلام ] قلبت الارض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الارض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " قال الحافظ البيهقي وهذه الاحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به فبعضها يؤكد بعضا ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الاسقع [ وأبي هريرة ] والله أعلم.
قلت وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها فان حصلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (2) وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها (3) ونحمي جماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (4) وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور: حدثني عمر بن أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب، قال: قال جدي خريم بن أوس: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه منصرفه من تبوك، فأسلمت، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يارسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل، لا يفضض الله فاك، فأنشأ يقول: من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخضف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر أن * ت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
__________
= محمد بن ذكوان اتفقوا على ضعفه، وقال البخاري منكر الحديث، وقال ابن حبان: سقط الاحتجاج به وقال
الدارقطني: ضعيف وقال أبو حاتم: منكر الحديث كثير الخطأ.
(1) دلائل النبوة ج 1 / 176 وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 217 وعزاه للطبراني في الاوسط.
(2) الغث: اللحم الضعيف، هنا استعارة لضعيف النسب.
(3) قال الله تعالى: ولا تصعر خدك للناس أي لا تميله إمالة المتكبر والمتعجرف.
(4) الاروم: الاصول، جمع أرومة.
حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الا * رض وضاءت بنورك الافق فنحن في ذلك الضياء وفي ال * نور وسبل الرشاد نخترق وقد روى هذا الشعر لحسان بن ثابت.
فروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق أبي الحسن بن أبي الحديد: أخبرنا محمد بن أبي نصر أنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي حدثنا أبو حصين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني حدثني اسحاق بن إبراهيم بن سنان حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني حدثنا ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيج عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ قال فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: " كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم لم يلتق أبواي على سفاح قط لم يزل الله ينقلني من الاصلاب الحسيبة إلى الارحام الطاهرة صفتي مهدي (1) لا ينشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالاسلام عهدي ونشر في التوراة والانجيل ذكري وبين كل نبي صفتي تشرق الارض بنوري والغمام بوجهي وعلمني كتابه وزادني شرفا في سمائه وشق لي اسما من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد وأحمد ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع ثم أخرجني من خير قرن لامتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " قال
ابن عباس فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه وسلم: قلبها طبت في الظلال وفي * مستودع يوم يخصف الورق ثم سكنت البلاد لا بشر أن * ت ولا نطفة ولا علق مطهر تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى طبق بدا طبق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله حسانا " فقال علي بن أبي طالب وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة ثم قال الحافظ ابن عساكر هذا حديث غريب جدا.
قلت: بل منكر جدا والمحفوظ أن هذه الابيات للعباس رضي لله عنه ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم.
قلت: ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي فالله أعلم.
تنبيه: قال القاضي عياض - في كتابه الشفاء -: " وأما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الانبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله.
حتى لا يدخل لبس على
__________
(1) كذا بالاصل، وفي سيرة ابن كثير: صفيا مهذبا.
ضعيف القلب أوشك.
وكذلك محمد لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد.
فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم وهو (والله أعلم حيث يجعل رسالاته) وهم: محمد بن احيحة بن الجلاح الاوسي.
ومحمد بن سلمة (1) الانصاري.
ومحمد بن البراء الكندي (2).
ومحمد بن سفيان بن مجاشع.
ومحمد بن حمران الجعفي.
ومحمد بن خزاعي السلمي لا سابع لهم.
ويقال إن أول من سمى محمدا محمد بن سفيان بن مجاشع.
واليمن تقول بل محمد بن اليحمد من الازد.
ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحد، أو يظهر عليه سبب يشكل (3) أحدا في أمره حتى تحققت الشيمتان له صلى الله عليه وسلم لم ينازع فيهما ".
هذا لفظه.
باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين.
لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير بن (4) عبد الله بن معبد الزماني (5) عن أبي قتادة أن أعرابيا قال يارسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين فقال: " ذاك يوم ولدت فيه وانزل علي فيه ".
وقال الامام أحمد (6) حدثنا وموسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحجر الاسود يوم الاثنين.
تفرد به أحمد ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة وزاد نزلت سورة المائدة يوم الاثنين (اليوم أكملت لكم دينكم).
وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به وزاد أيضا وكانت وقعة بدر يوم الاثنين.
ممن قال هذا يزيد بن حبيب وهذا منكر جدا.
قال ابن عساكر والمحفوظ أن يدرا ونزول: (اليوم أكملت لكم دينكم) يوم الجمعة وصدق ابن عساكر.
وروى عبد الله بن عمر عن كريب عن ابن عباس ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين.
وهكذا روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين.
وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.
وأبعد بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الاول نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب أعلام الروى باعلام الهدى لبعض الشيعة.
ثم
__________
(1) كذا بالاصول والصواب محمد بن مسلمة.
(2) كذا بالاصول وفي سيرة ابن كثير: البكري.
(3) في سيرة ابن كثير: يشكك.
(4) كذا في الاصل ابن عبد الله وهو خطأ وعند مسلم عن عبد الله.
أخرجه مسلم في 13 كتاب الصيام 36 باب استحباب صيام ثلاثة أيام..ص 819.
(5) الزماني نسبة إلى زمان بن مالك بطن من ربيعة.
(6) مسند أحمد ج 1 / 277.
شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص.
ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الاول فقيل لليلتين خلتا منه قاله ابن عبد البر في الاستيعاب ورواه الواقدي عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني.
وقيل لثمان خلون منه حكاه الحميدي عن ابن حزم.
ورواه مالك وعقيل ويونس بن يزيد وغيرهم عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي ورجحه الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير وقيل لعشر خلون منه نقله ابن دحية في كتابه ورواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر ورواه مجالد عن الشعبي كما مر.
وقيل لثنتي عشرة خلت منه نص عليه ابن إسحاق ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر من شهر ربيع الاول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات.
وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم.
وقيل لسبع عشرة (1) خلت منه كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة.
وقيل لثمان بقين منه نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع بن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه والصحيح عن ابن حزم الاول أنه لثمان مضين منه كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت.
والقول الثاني: إنه ولد في رمضان نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار وهو قول غريب جدا وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه في رمضان بلا خلاف وذلك على رأس أربعين سنة من عمره فيكون مولده في رمضان وهذا فيه نظر والله أعلم.
وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ عن خلف بن محمد كردوس الواسطي عن المعلى بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الاول وانزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الاول وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الاول.
وهذا غريب جدا رواه ابن عساكر.
قال الزبير بن بكار حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى.
وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف أخي
الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم عن المسيب بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء في المحرم وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من عزوة أصحاب الفيل.
وذكر غيره أن الخيزران وهي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجدا.
فهو يعرف بها اليوم.
وذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في العشرين من نيسان.
وهذا أعدل الزمان والفصول وذلك لسنة اثنتين وثمانين وثمانمائة لذي القرنين فيما ذكر أصحاب الزيج.
وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدى وكان المشتري وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب وهي درجة وسط السماء.
وكان
__________
(1) في الاصل لسبعة عشر، وهو خطأ.
موافقا من البروج الحمل وكان ذلك عند طلوع القمر أول الليل نقله كله ابن دحية والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل وهذا هو المشهور عن الجمهور.
قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقد رواه البيهقي من حديث أبي اسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل وقال محمد بن إسحاق حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة قال ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين.
قال وسأل عثمان رضي الله عنه قباث بن اشيم أخا بني يعمر بن ليث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد.
ورأيت خزق الفيل أخضر محيلا.
ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة.
وقال ابن إسحاق: كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة.
وكان بناء الكعبة بعد الفجار
بخمسة عشر سنة، والمبعث بعد بنائها بخمس سنين.
وقال محمد بن جبير بن مطعم ": كانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة.
وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني [ قال ] حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان، يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن [ منه ].
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محبلا أعقله.
وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير [ قال ] حدثنا نعيم يعني ابن ميسرة - عن بعضهم عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت عام الفيل.
قال البيهقي وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين.
قال يعقوب وحدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت بعده عكاظ بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور فقيل بعده بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل بخمسين يوما - وهو أشهر - وعن أبي جعفر الباقر كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة، وقال آخرون بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين.
قاله ابن أبزى.
وقيل بثلاث وعشرين سنة رواه شعيب بن
شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم وقيل بعد الفيل بثلاثين سنة.
قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله.
واختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله.
وقال أبو زكريا العجلاني: بعد الفيل بأربعين عاما، رواه ابن عساكر وهذا غريب جدا، وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط حدثني شعيب بن حبان عن عبد الواحد بن أبي عمرو عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: ولد
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا، قال خليفة بن خياط والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.
صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الابل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الازل من ظهور النبي الامي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية، فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه.
قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم، فامتنع عليها فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه.
فتعرض لها لتعاوده.
فقالت لا حاجة لي فيك وتأسفت على ما فاتها من ذلك وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ.
وهذه الصيانة لعبد الله ليست له وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام: " ولدت من نكاح لا من سفاح ".
والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله وهو حمل في بطن أمه على المشهور.
قال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي.
وحدثنا سعيد بن أبي زيد عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة.
قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض.
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث.
فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل.
ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة
قال الواقدي: هذا هو أثبت الاقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرا فمات.
قال محمد بن سعد وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عوانة بن الحكم.
قالا: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهرا، وقيل سبعة أشهر.
وقال محمد بن سعد: والاول أثبت أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن عن عبد السلام عن ابن خربوذ.
قال: توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.
وقد تقدم في الحديث " ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " وقال محمد بن إسحاق فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الامة، فإذا وقع إلى الارض فقولي: أعيذه بالواحد * من شر كل حاسد من كل بر عاهد * وكل عبد رائد يذود عني ذائد * فإنه عند الحميد الماجد حتى أراه قد أتى المشاهد وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملا قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا.
فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الارض، واسمه في الانجيل أحمد يحمده أهل
السماء وأهل الارض، واسمه في القرآن محمد.
وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا والله أعلم.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي.
وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري عن عمته أم بكر بنت المسود عن أبيها.
وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني وزياد بن حشرج عن أبي وجزة.
وحدثنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد.
وحدثنا طلحة بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس: دخل حديث بعضهم في حديث بعض.
أن آمنة بنت وهب قالت لقد علقت به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الارض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وقال بعضهم وقع جاثيا على ركبتيه، وخرج معه نور
ضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رؤيت أعناق الابل ببصرى، رافعا رأسه إلى السماء.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا محمد بن إسماعيل [ قال ] أنبأنا محمد بن إسحاق حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن [ قال ] حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، [ قال ] حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن أبي سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص، [ قال ]: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت فما شئ أنظره في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لاقول ليقعن علي.
وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف أنها كانت قابلته وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل سمعت قائلا يقول يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رئيت منه قصور الروم.
قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى ويقال إن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهرا فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه.
فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقال عبد المطلب يدعو ويشكر الله عزوجل ويقول: الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الاردان قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الاركان حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان أعيذه من كل ذي شنان * من حاسد مضطرب العنان ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان أنت الذي سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثاني * أحمد مكتوب على اللسان * وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو - [ قال ]: حدثنا أبو عبد الله البوشنجي، حدثا أبو أيوب: سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، قال فأعجب [ به ] جده عبد المطلب وحظي عنده.
وقال: ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن.
وهذا الحديث في صحته نظر.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي عن هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن
أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كرامتي على الله أني ولدت مختونا ولم ير سوأتي أحد ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به.
ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو
الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي حدثني خالد بن سلمة عن نافع عن ابن عمر.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري حدثنا يونس بن عطاء حدثنا الحكم بن أبان حدثنا عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن.
وقد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم أنه متواتر وفي هذا كله نظر، ومعنى مختونا أي مقطوع الختان، ومسرورا أي مقطوع السرة من بطن أمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه وهذا غريب جدا.
وقد روى أن جده عبد المطلب ختنه وعمل له دعوة جمع قريشا عليها والله أعلم.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأني محمد بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح: عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي، قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين ووجدنه مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء.
فأتاهن عبد المطلب، فقلن له: ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه شاخصا ببصره إلى السماء.
فقال: احفظنه فإني أرجو أن يكون له شأن، أو أن يصيب خيرا، فلما كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته ؟ قال سميته محمدا، قالوا فما رغبت به عن أسماء أهل بيته ؟ قال أردت أن يحمده الله [ تعالى ] في السماء وخلقه في الارض قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا كما قال بعضهم:
إليك - أبيت اللعن - أعملت ناقتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عزوجل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات الحميدة ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب ويروى لحسان: وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله وهي صفاته الظاهرة وأخلاقه الطاهرة ودلائل نبوته وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا احمد بن شيبان الرملي حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلي حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا زهير عن محارب بن دثار عن عمرو بن يثربي عن العباس بن عبد المطلب قال قلت: يارسول الله ! دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال.
قال: " إني كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش ".
ثم قال تفرد به الليثي وهو مجهول.
فصل فيما وقع من الايات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الاصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جائيا رافعا رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك.
حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ أن ابليس رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت الفاتحة.
قال محمد بن إسحاق: وكان هشام بن
عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ فقال القوم والله ما نعلمه فقال الله أكبر، أما إذا أخطأكم فلا بأس انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الامة الاخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس.
لا يرضع ليلتين وذلك أن عفريتا من الجن ادخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا فالتقى القوم فقالوا هل سمعتم حديث اليهودي وهل بلغكم مولد هذا الغلام ؟ فانطلقوا حتى جاؤوا اليهودي فأخبروه الخبر.
قال فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا اخرجي إلينا ابنك فاخرجته وكشفوا له عن ظهره.
فرأى تلك الشامة.
فوقع اليهودي مغشيا عليه.
فلما أفاق قالوا له مالك ويلك ؟ قال قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش.
والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم عن يحيى بن عبد الرحمن بن أسعد
بن زرارة قال حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم عن حسان بن ثابت.
قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان سنين - أعقل ما رأيت وسمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا ويلك مالك ؟ قال قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة.
وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري عن سليمان بن سحيم وذريح بن عبد الرحمن كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال سمعت أبي مالك بن سنان يقول جئت بني عبد الاشهل يوما لاتحدث فيهم ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الاشهلي - كالمستهزئ به ما صفته ؟ فقال رجل ليس بالقصير ولا
بالطويل في عينيه حمرة يلبس الشملة ويركب الحمار.
سيفه على عاتقه وهذا البلد مهاجره.
قال فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع فأسمع رجلان منا يقول ويوشع يقول هذا وحده ! ؟ كل يهود يثرب يقولون هذا.
قال أبي مالك بن سنان فخرجت حتى جئت بني قريظة فأجد جمعا فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الاحمر الذي لم يطلع إلا لخروج نبي أو ظهوره ولم يبق أحد إلا أجمد وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أبي هذا الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أسلم الزبير لاسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع " وقال أبو نعيم: حدثنا عمر بن محمد حدثنا ابراهيم بن السندي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول: كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم فلما طلع الكوكب الاحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده.
واسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا.
وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد.
وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد، قال قال زيد بن عمرو بن نفيل قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي - أو هو خارج - قد خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه.
ذكر ارتجاس ايوان كسرى وسقوط الشرفات وخمود النيران ورؤيا الموبذان وغير ذلك من الدلالات قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب هواتف الجان: حدثنا علي بن حرب حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره.
ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده.
قال: أتدرون فيم بعثت إليكم ؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك [ ذلك ]، فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، يقال الموبذان وأنا - أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الابل، يقال أي شئ يكون هذا يا موبذان ؟ قال حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من انفسهم - فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر ; أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني، فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ فقال لتخبرني أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.
فأخبره بالذي وجه به إليه فيه.
قال علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال فائته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره.
فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى على الضريح.
فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيخ جوابا فانشأ يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فار لم به شأو العنن يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك شيخ الحي من آل سنن وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الاذن أبيض فضفاض الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسري للوسن يجوب بي الارض علنداة شزن * لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ترفعني وجنا وتهوي بي وجن * حتى أتى عاري الجآجي والقطن تلفه في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضني ثكن
قال فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الايوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما.
يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت.
ثم قصى سطيح مكانه فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول: شمر فإنك ماضي العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الاسد المهاصير منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وشابور وسابور والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور ورب قوم لهم صحبان ذي اذن * بدت تلهيهم فيه المزامير وهم بنو الام إما إن رأوا نشبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور قال فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى ألى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.
ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس عن علي بن حرب الموصلي بنحوه.
قلت: كان آخر ملوكهم - الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان وهو الذي انشق الايوان في زمانه.
وكان لاسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة.
وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح.
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه هو الربيع ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن الازد.
ويقال الربيع بن مسعود وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري وذكر غير ذلك في نسبه.
قال وكان يسكن الجابية ثم روى عن أبى حاتم السجستاني قال سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا وكان من بعد لقمان بن عاد.
ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس وذلك نحو من ثلاثين قرنا وكان مسكنه البحرين وزعمت عبد القيس أنه منهم وتزعم الازد أنه منهم وأكثر المحدثين يقولون هو من الازد ولا ندري ممن هو غير أن ولده يقولون إنه من الازد.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شئ من بني آدم يشبه سطيحا إنما كان لحما على وضم ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه.
ولم يكن فيه شئ يتحرك إلا لسانه.
وقال غيره إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس.
ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس وعبد مناف أبناء قصي فامتحنوه في أشياء فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عما يكون في آخر الزمان.
فقال خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.
ثم قال والباقي الابد، والبالغ الامد ليخرجن من ذا البلد، نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض بغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محمودا، من الارض مفقودا، وفي
السماء مشهودا، ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف.
ثم ذكر عثمان ومقتله وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس.
وما بعد ذلك من الفتن والملاحم ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله.
وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن
فقال له: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال بل ينقطع.
قال ومن يقطعه ؟ قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي قال وممن هذا النبي ؟ قال من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر قال وهل للدهر من آخر ؟ قال نعم، يوم يجمع فيه الاولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون.
قال أحق ما تخبرني ؟ قال نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أنبأتك عليه لحق.
ووافقه على ذلك شق سوآ بسواء بعبارة أخرى كما تقدم.
ومن شعر سطيح قوله: عليكم بتقوى الله في السر والجهر * ولا تلبسوا صدق الامانة بالغدر وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة * إذا ماعرته النائبات من الدهر وروى ذلك الحافظ ابن عساكر ثم أورد ذلك المعافى بن زكريا الجريري فقال: وأخبار سطيح كثيرة وقد جمعها غير واحد من أهل العلم.
والمشهور أنه كان كاهنا وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته ومبعثه.
وروى لنا بإسناد الله به أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سطيح فقال: " نبي ضيعه قومه ".
قلت: أما هذا الحديث فلا أصل له في شئ من كتب الاسلام المعهودة ولم أره بإسناد أصلا.
ويروى مثله في خبر خالد بن سنان العبسي ولا يصح أيضا وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح وفيها روائح التصديق لكنه لم يدرك الاسلام كما قال الجريري.
فإنه قد ذكرنا في هذا الاثر أنه قال لابن أخته: يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطح شاما بملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر - أو شية - أي أقل منه - وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق - فالله أعلم بأمره وما صار إليه.
وذكر ابن طرار الحريري أنه عاش سبعمائة سنة.
وقال غيره خمسمائة سنة، وقيل ثلاثمائة سنة فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا عن نسب غلام اختلف فيه فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح.
فقال له الملك ياسطيح ألا تخبرني عن
علمك هذا ؟ فقال إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء.
فقال له أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك، فقال انه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول.
وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن
عقبة الكاهن الآخر ولدا في يوم واحد، فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها.
وكان نصف إنسان ويقال إن خالد بن عبد الله القسري من سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر.
وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حبان بن نفيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخ وقال هو الذي صالح خالد بن الوليد على.
وذكر له معه قصة طويلة وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء لانه لما أخذه قال: بسم الله وبالله رب الارض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى.
ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق رضي الله عنه وذكر لعبد المسيح أشعارا غير ما تقدم.
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبه حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا المسيب بن شريك حدثنا محمد بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل الشام وكان متخفرا بالعاص بن وائل وكان الله قد آتاه علما كثيرا وجعل فيه منافع كثيرة لاهل مكة من طيب ورفق وعلم.
وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم هذا زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والامن ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول ما جاء بعد.
فيقال له فصفه فيقول لا.
ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الاذى يوما.
ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا عيصاه.
فناداه من هذا ؟ فقال أنا عبد الله فأشرف عليه فقال كن أباه فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين ويبعث يوم الاثنين ويموت يوم الاثنين قال فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود.
قال فما سميته ؟ قال محمدا قال والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها أن نجمه طلع البارحة وأنه ولد اليوم وأن اسمه محمد.
انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك.
قال فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره ؟ قال قد وافق ابنك الاسم ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة.
وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى.
فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه.
إن تعش حتى يبدو مقاله ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر وعلى ذلك فاحفظ لسانك ودار عنه قال فما عمره ؟ قال إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين أو ثلاث وستين في أعمار جل أمته.
قال
وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشر المحرم.
وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
هكذا رواه أبو نعيم وفيه غرابة.
حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام كانت أم أيمن واسمها بركة تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة (1)، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم.
وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة (2) قبل حليمة السعدية.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما (3) من حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة (4) عن أم حبيبة بنت أبي سفيان.
قالت: يارسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم عزة بنت أبي سفيان -.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو تحبين ذلك ؟ " قلت نعم ! لست لك بمخلية، وأحب من
شاركني في خير أختي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن ذلك لا يحل لي " قالت فإنا نحدث انك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي سلمة قال: " بنت أم سلمة ؟ " قلت نعم قال: " إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي.
إنها لابنة أخي من الرضاعة.
أرضعتني وأبا سلمة ثويبة.
فلا تعرضن علي بناتكن ولا اخواتكن " زاد البخاري قال عروة.
وثويبة مولاة لابي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة (5).
فقال له ماذا لقيت ؟ فقال أبو لهب لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة - وأشار إلى النقرة (6) التي بين الابهام والتي تليها من الاصابع -.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرائي له هو أخوه العباس.
وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر.
وفيه أن أبا لهب قال للعباس إنه ليخفف علي في مثل يوم الاثنين.
قالوا لانه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته فجوزي بذلك لذلك.
__________
(1) في طبقات ابن سعد ج 8 / 223 أن أم أيمن تزوجت عبيد بن زيد من بني الحارث بن الخزرج فولدت له أيمن، وقتل يوم حنين ثم تزوجت زيد بن حارثة، مولى خديجة، بعد النبوة، فولدت له أسامة.
(2) وهي أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن أبن لها يقال له مسروح وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وبعده أبا سلمة بن عبد الاسد المخزومي - وقيل معه -.
(3) البخاري - كتاب النكاح - باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم..وباب: وربائبكم اللاتي في حجوركم ومسلم في 17 كتاب الرضاع (4) باب تحريم الربيبة ح 16 ص 1073.
(4) زينب بنت أبي سلمة - وأمها أم سلمة -.
(5) في البخاري ودلائل البيهقي: حبيبة.
(6) في البيهقي: النقير وفي ابن سعد النقيرة.
رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة
قال محمد بن إسحاق: فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة (1) بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر قال واسم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرضعه - يعني زوج حليمة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة (1) بن سعد بن بكر بن هوازن (2).
وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - عبد الله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث وحذافة (3) بنت الحارث وهي الشيماء وذكروا (4) أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذا كان عندهم.
قال ابن إسحاق: حدثني جهم بن أبي جهم مولى [ لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث ابن حاطب، ويقال له مولى الحارث بن حاطب ] (5).
قال حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت ! قدمت مكة في نسوة وذكر الواقدي بإسناده انهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب (6) ومعي صبي (7) لنا وشارف لنا والله ما تبض بقطرة.
وما ننام ليلتنا ذلك أجمع (8) مع صبينا ذاك ما نجد في ثديي ما
__________
(1) في ابن هشام: ابن ناصرة ابن قصية بن نصر وفي الطبري باسقاط نصر وفي السهيلي فصية بالفاء.
(الروض الانف - الطبقات - الطبري - شرح السيرة).
(2) قدم الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حين أنزل عليه القرآن، فأتاه فقال: أي بني مالك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول: إن الناس يبعثون بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار..ثم أسلم وحسن إسلامه..(الاصابة - الروض الانف).
(3) في الاصابة: خذامة، وفي الطبري جذامة والطبقات: جدامة.
(4) الطبري - ابن هشام في السيرة - الطبقات.
(5) ما بين معقوفين ليس في ابن هشام، وهذا ما عودنا عليه ابن كثير في نقله عن ابن هشام وغيره ; فإنه يلخص المعنى بعبارته فيزيد ويحذف ولا يلتزم النص إلا قليلا، وأحيانا كثيرة يخلط نقله بما يفسد المعنى.
(6) في ابن هشام: ادمت وفي الطبري اذمت.
قال أبو ذر في شرح السيرة: أدمت أي أطلت عليهم المسافة لتمهلهم عليها.
وأذمت، ويروى أذممت: أي أعيت وتخلف بالركب بسببها ولم تستطع اللحاق به.
(7) وهو عبد الله بن الحارث، وكانت ترضعه (الطبقات 8 / 110).
(8) في ابن هشام والطبري: وما ننام للينا أجمع من صبينا الذي معنا = معي = من بكائه من الجوع.
يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه.
ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا.
فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم، تركناه.
قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه ؟ إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع الينا، فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري.
فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى والله إني لاكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع.
لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
فقال لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة.
فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن.
فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي.
وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا.
فبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إني لاراك قد أخذت نسمة مباركة.
ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه.
فلم يزل الله عزوجل يزيدنا خيرا.
ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا فوالله لقطعت أتأتي بالركب حتى ما يتعلق بها حمار حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا ؟ فأقول نعم والله إنها لهي فقلن والله إن لها لشأنا.
حتى قدمنا أرض بني سعد.
وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فتحلب ما شئنا وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لين وإن أغنامهم لتروح جياعا حتى إنهم ليقولون لرعائهم - أو لرعيانهم - ويحكم انظروا
حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم.
فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن وتروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا.
فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان.
فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا (1) فقدمنا به على أمه ونحن أضن شئ به مما رأينا فيه من البركة.
فلما رأته أمه قلت لها دعينا نرجع بابننا هذه السنة الاخرى فإنا نخشى عليه وباء (2) مكة.
فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم.
فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة (3).
فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا جاء أخوه ذلك يشتد، فقال ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه.
فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده فائما منتقعا لونه.
فاعتنقه أبوه وقال يا بني ما شأنك ؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا.
فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي بنا نرده
__________
(1) الجفر: الغليط الشديد، هنا استجفر أي قوي على الاكل.
(2) كذا في الاصل وابن هشام والطبري.
والوبأ يهمز ويقصر والوباء بالمد: الطاعون.
(3) في ابن هشام والطبري وابن سيد الناس: بأشهر.
والبهم: الصغار من الغنم واحدتها بهمة.
إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف.
قالت حليمة فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به.
فقدمنا به عليها فقالت ما ردكما به ياظئر ؟ فقد كنتما عليه حريصين ؟ فقالا لا والله إلا أن الله قد أدى عنا، وقضينا الذي علينا، وقلنا نخشى الاتلاف والاحداث نرده إلى أهله.
فقالت ما ذاك بكما فاصدقاني شأنكما ؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل.
والله إنه لكائن لابني هذا شأن ألا أخبركما خبره ؟ قلنا بلى ! قالت حملت به فما حملت حملا قط أخف [ علي ] منه فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء،
فدعاه عنكما.
وهذا الحديث قد روي من طرق أخر وهو من الاحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي (1).
وقال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت البهم تقيل فوجدته مع أخته فقالت في هذا الحر ؟ فقالت أخته يا أمه ما وجد أخي حرا.
رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع.
وقال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له أخبرنا عن نفسك.
قال: " نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى [ أخي ] عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا [ مع أخ لي ] في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا، فأضجاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها.
ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه (2) رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني بمائة فوزنتهم.
ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بألف فوزنتهم، فقال دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم " وهذا إسناد جيد قوي (3).
__________
(1) ورد حادث شق الصدر في كتب السيرة، فقد رواه ابن هشام في السيرة (1 / 176) طبقات ابن سعد (1 / 112) دلائل النبوة لابي نعيم (1 / 111) دلائل النبوة للبيهقي 1 / 135 - 136 الخصائص الكبرى للسيوطي (1 / 54).
وقد أشار له أصحاب التفاسير في تفسير قوله عزوجل (ألم نشرح لك صدرك).
وفي الاحاديث أن حادثة شق الصدر هذه تكررت ; لما أصبح عمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ولما جاوز صلى الله عليه وسلم الخمسين من عمره (راجع أحمد - ابن حبان - ابن عساكر - مسلم - الحاكم).
(2) في الطبري وابن هشام: أنقياه.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 146 والطبري ج 1 / 128 والحاكم في المستدرك 2 / 600 وقال: صحيح.
وقد روى أبو نعيم الحافظ في الدلائل من طريق عمر بن الصبح وهو أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن مكحول عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب متهم بالوضع.
فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به ثم قال: وحدثنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن نفير حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية بن الوليد عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن عتبة بن عبد الله (1) أنه حدثه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله ؟ قال: " كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا فانطلق أخي ومكث عند البهم فأقبل [ إلي ] طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه أهو هو ؟ فقال نعم ! فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه.
فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي ثم قال ائتني بماء برد فغسلا به قلبي ثم قال ائتني بالسكينة فذرها (2) في قلبي ثم قال أحدهما لصاحبه خطه فخاطه وختم على قلبي بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الالف فوقي اشفق أن يخر علي بعضهم.
فقال لو أن أمته وزنت به لمال بهم ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت فأشفقت أن يكون قد لبس (3) بي فقالت أعيذك بالله.
فرحلت بعيرا لها، وحملتني على الرحل وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي، فقالت أديت أمانتي وذمتي وحدثتها بالذي لقيت فلم يرعها.
وقالت " إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام " ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به.
وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير.
قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبي حين
علمت ذلك واستيقنت أنك نبي ؟ قال: " يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة وقع أحدهما على الارض، وكان الآخر بين السماء والارض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو ؟ قال هو هو.
قال
__________
= الاسناد، ولم يخرجاه.
وأقره الذهبي.
وهو في السيرة 1 / 177 وما بين معقوفين في الحديث زيادة من ابن هشام والطبري.
ثور بن يزيد الكلاعي أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ العلماء مات سنة 153 ه وقيل سنة 155 ه.
وخالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي أبو عبد الله الشامي الحمصي توفي سنة 103 وقيل غير ذلك.
(تراجم الرجال - تهذيب التهذيب).
(1) في دلائل البيهقي: عتبة بن عبد.
(2) في البيهقي: فذراها.
(3) في البيهقي: التبس بي: أي أصابني مس.
زنه برجل فوزنني برجل فرجحته " وذكر تمامه، وذكر شق صدره وخياطته وجعل الخاتم بين كتفيه قال: " فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الامر معاينة " ثم أورد ابن عساكر عن أبي بن كعب بنحو ذلك.
ومن حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك.
وثبت في صحيح مسلم (1) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء فقال هذا حظ الشيطان [ منك ]، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم، ثم لامه، ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد عن ثابت البناني عن أنس أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم لبسا جوفه حكمة وعلما.
ومن طريق ابن وهب أيضا عن يعقوب بن
عبد الرحمن الزهري عن أبيه عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال قال خذوا خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمد به إلى زمزم فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيمانا.
وثبت من رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
وفي الصحيحين من طريق شريك [ بن عبد الله ] بن أبي نمر عن أنس وعن الزهري عن أنس عن أبي ذر وقتادة عن أنس وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاسراء كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ وإنه غسل بماء زمزم، ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين مرة وهو صغير ومرة ليلة الاسراء ليتأهب للوفود إلى الملا الاعلى ولمناجاة الرب عزوجل والمثول بين يديه تبارك وتعالى (2).
وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاصحابه: " أنا أعربكم، أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر " وذكر ابن إسحاق: أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى (3) فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام فقبلوه وقالوا إنا سنذهب بهذا
__________
(1) أخرجه بطوله الحاكم في المستدرك 2 / 616 - 617 - وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
والامام أحمد في مسنده 3 / 149.
4 / 184 وأخرجه مسلم في صحيحه في 1 كتاب الايمان (74) باب الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ح 261 ص (1 / 147).
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 5 وما بعدها.
لامه: جمعه وضم بعضه إلى بعض.
ظئره: أي مرضعته.
المخيط: هي الابرة ; وفي رواية بقية حصه فحاصه.
قال أبو الفضل (أحد الرواة) يحصه: يخيطه.
(2) انظر دلائل النبوة للبيهقي ج 2 / 136 - 137.
(3) في دلائل البيهقي: أن أمه التي ترضعه نزلت به سوق عكاظ، فرآها كاهن من الكهان فقال: يا أهل عكاظ =
الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد.
وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض، فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده فجاءت جده
عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه، فوجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه وذهب فطاف به يعوذه ويدعو له ثم رده إلى أمه آمنة.
وذكر الاموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو ضعيف - عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة والسلام ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق.
وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه وذكر أنه أقام عندها ست سنين تزيره جده في كل عام فلما كان من شق صدره عندهم ما كان ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب، فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن.
فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة منها أن فحلا من الابل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم برك حتى حك بكلكله الارض فركبه عليه الصلاة والسلام.
ومنها أنه خاض بهم سيلا عرما فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب.
والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير ثم عادت على هوازن بكمالهم فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر.
فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم وأحسن إليهم كما سيأتي مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن إسحاق: في وقعة هوازن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ عبد الله بن عمرو ].
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا يا رسول الله إنا أهل (1) وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك.
وقال خطيبهم زهير بن صرد (2) فقال: يارسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك (3) اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا (4) ابن أبي شمر، أو
__________
= اقتلوا هذا الغلام، فإن له ملكا، فزاغت به أمه التي ترضعه، فأنجاه الله تعالى، 1 / 88.
(1) في سيرة ابن هشام: إنا أصل وعشيرة.
(2) كذا في الاصل ودلائل البيهقي وطبقات ابن سعد، وهو زهير يكنى أبو صرد كما في سيرة ابن هشام.
وفي الواقدي 3 / 950: أبو صرد زهير بن صرد وفي هامش السيرة الحلبية أبو صرد ويكنى أبو برقان ج 2 / 307.
(3) حواضنك: النساء اللاتي أرضعنك، فحاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم من بني سعد بن بكر وهم من هوازن.
(4) ملحنا: وفي رواية مالحنا، يعني أرضعنا، وابن أبي شمر هو الحارث الغساني ملك الغساسنة.
النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين.
ثم أنشد: أمنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير أبقت لنا الدهر هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملاه من محضها درر (1) امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر (2) لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فانا معشر زهر (3) إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر وقد رويت هذه القصة من طريق عبيدالله بن رماحس الكلبي الرملي عن زياد بن طارق الجشمي عن أبي صرد زهير بن جرول - وكان رئيس قومه - قال لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه وأسمعته شعرا، أذكره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه: امنن علينا رسول الله في دعة * فانك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملاه من محضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر إنا نؤمل عفوا منك تلبسه * هذي البرية إذ تعفو وتنتصر فاغفر عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
__________
(1) في دلائل البيهقي: مخضها الدرر.
وفي الواقدي: محضها الدرر وفيه مملوءة بدل يملاه.
(2) صدره في الواقدي: اللائي إذ كنت طفلا كنت ترضعها.
(3) شالت نعامته: أي تفرقت كلمتهم أو ذهب عزهم (القاموس المحيط).
قال (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم " فقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاما وأناسى كثيرا.
حتى قال أبو الحسين بن فارس فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة.
فصل قال ابن إسحاق: بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة له.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالابواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم.
فماتت وهي راجعة به إلى مكة (2).
وذكر الواقدي بأسانيده أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت به أمه إلى المدينة ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله.
قالت أم أيمن فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة فقالا لي أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظر إليه وقلباه فقال أحدهما لصاحبه هذا نبي هذه الامة وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم.
فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالابواء وهي راجعة.
وقد قال الامام أحمد (3) حدثنا حسين بن محمد حدثنا أيوب بن جابر عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بودان قال: " مكانكم حتى آتيكم " فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: " إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة - يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وامسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الاشربة في هذه الاوعية فاشربوا ما بدا لكم " وقد رواه البيهقي (4) من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد (5) عن سليمان بن بريدة
__________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نساؤكم وابناؤكم أحب إليكم، أم أموالكم ؟ فقالوا: خيرتنا..أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا (ابن هشام - دلائل البيهقي).
(2) وفي رواية للطبري: أن قبر آمنة في شعب أبي ذر بمكة.
وفي معجم البلدان شعب أبي دب قال: يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضا أن قبرها بالابواء.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وقيل ابن سبع سنين وقال محمد بن حبيب: توفيت أمه وهو ابن ثماني سنين..(ابن سيد الناس).
(3) مسند أحمد ج 5 / 357.
(4) دلائل النبوة 1 / 189.
(5) في الدلائل وطبقات ابن سعد: علقمة بن مرثد.
عن أبيه قال: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ثم بكى فاستقبله عمر فقال ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال: هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى علي، وأدركتني رقتها فبكيت ".
قال فما رئيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة.
تابعه محارب بن دثار عن بريدة عن أبيه.
ثم روي البيهقي (1) عن الحاكم عن الاصم عن بحر بن نصر عن عبد الله بن وهب حدثنا ابن جريج عن أيوب بن هاني عن مسروق بن الاجدع عن عبد الله بن مسعود.
قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر، وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها = فناجاه طويلا ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا (2) فتلقاه عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ لقد أبكانا وأفزعنا.
فجاء فجلس إلينا فقال: " افزعكم بكائي " ؟ قلنا نعم ! قال: " إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه، ونزل علي: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه أن إبراهيم لاواه حليم) (3) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني " غريب ولم يخرجوه.
وروى مسلم (4) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: " استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت ".
وروى مسلم (5) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: " في النار " فلما قفا دعاه فقال: " إن أبي وأباك في النار ".
وقد روى البيهقي (6) من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه.
قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو ؟ قال:
" في النار " قال فكأن الاعرابي وجد من ذلك، فقال يا رسول الله أين أبوك ؟ قال: " حيثما مررت
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 189 عن أبي عبد الله الحافظ عن أبي العباس محمد بن يعقوب.
(2) في الدلائل: إلينا (3) سورة التوبة الآيتان 113 - 114.
(4) 11 كتاب الجنائز 36 باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه ح 105 - 106 ص 671، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز.
وابن ماجه وعند الترمذي بعضه.
(5) كتاب الايمان 1 - 88 باب ح 347 ص 191.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
(6) دلائل النبوة ج 1 / 191.
بقبر كافر فبشره بالنار " قال فأسلم الاعرابي بعد ذلك.
فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه (1).
وقال الامام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا سعيد - هو ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو.
قال بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا بظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ فقالت أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم.
قال: " لعلك بلغت معهم الكدى " (2) قالت معاذ الله أن أكون بلغتها معهم وقد سمعتك تذكرني في ذلك ما تذكر (3).
قال: " لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " ثم رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (4) من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الاسكندري وقد قال البخاري عنده مناكير.
وقال النسائي: ليس به بأس وقال مرة صدوق، وفي نسخة ضعيف.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان يخطئ كثيرا.
وقال الدارقطني صالح.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر في حديثه مناكير توفي قريبا من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى القبور - وقيل النوح -.
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية خلافا لفرقة الشيعة فيه وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب، وقد قال البيهقي - بعد روايته هذه الاحاديث في كتابه دلائل النبوة: وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام لان انكحة الكفار صحيحة.
ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن إذا كان مثله يجوز في الاسلام وبالله التوفيق.
انتهى كلامه.
قلت: واخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والاطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا في تفسيرنا عند قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب.
فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة ولله الحمد والمنة.
__________
(1) أخرجه في مجمع الزوائد عن الطبراني في الكبير وقال: رجاله رجال الصحيح.
(2) الكدى: المقابر.
(3) إشارة إلى حديث أخرجه أصحاب السنن قال صلى الله عليه وسلم: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
(4) مسند أحمد 2 / 169، أبو داود في الجنائز 3 / 261، النسائي 4 / 27 وقال: أبو عبد الرحمن ضعيف واستدركه الحاكم (1 / 373).
وأما الحديث الذي ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه، فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جدا.
وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى.
لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه والله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم - يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة وكان ينوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر، حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه.
فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري وحدثنا عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله.
وحدثنا هاشم بن عاصم الاسلمي عن المنذر بن جهم.
وحدثنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن أبي الحويرث.
وحدثنا ابن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن نافع عن ابن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام.
وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك دعوا ابني إنه يؤسس ملكا (1).
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه.
فقال عبد المطلب لابي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء ! فكان أبو طالب يحتفظ به.
وقال عبد المطلب لام أيمن - وكانت تحضنه - يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الامة.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول: علي بابني فيؤتى به إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون.
وقال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين (2) هلك جده عبد المطلب بن
__________
(1) في الطبقات: إنه ليؤنس ملكا.
(2) الطبري - الطبقات، وفي رواية شكك فيها الطبري قال: وكان بعضهم يقول توفي عبد المطلب ورسول الله ابن =
هاشم.
ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه.
وهن أروى وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء وذكر أشعارهن وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته وهذا أبلغ النوح.
وبسط القول في ذلك وقد قال ابن هشام ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر (1) قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سنا فلم تزل إليه حتى قام الاسلام وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب لوصية عبد المطلب له به، ولانه كان شقيق أبيه عبد الله أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بعد جده ] وكان إليه ومعه.
وقال الواقدي: أخبرنا معمر عن ابن نجيح عن مجاهد.
وحدثنا معاذ بن محمد الانصاري عن عطاء عن ابن عباس.
وحدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه.
وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشئ قط.
وكان يخصه بالطعام وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا.
فكان إذ أراد أن يغديهم قال كما أنتم حتى يأتي ولدي.
فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن منهم (2) لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.
وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا (3).
وقال الحسن بن عرفة حدثنا علي بن ثابت عن طلحة بن عمرو سمعت عطاء بن أبي رباح سمعت ابن عباس يقول: كان بنو أبي طالب يصبحون رمصا عمصا ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صقيلا
دهينا وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلا ينتهب معهم.
فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.
وقال ابن اسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه أن رجلا من لهب (4) كان عائفا فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم.
__________
= عشر سنين.
وقال محمد بن حبيب توفي جده بعد وفاة أمه (وعمره ثماني سنين) بسنة وأحد عشر شهرا سنة تسع من عام الفيل.
(1) راجع سيرة ابن هشام ج 1 / 179 وما بعدها.
(2) في الطبقات: معهم بدل منهم.
(3) رواه ابن سعد في الطبقات: ج 1 / 119.
(4) بنو لهب من أزد شنوءة.
وقيل هو لهب بن آحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن
قال: فأتى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام، مع من يأتيه، قال: فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شئ.
فلما فرغ قال: الغلام، علي به.
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيته آنفا فوالله ليكونن له شأن.
قال وانطلق به أبو طالب.
فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام.
فلما تهيا للرحيل وأجمع السير صب به (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال والله لاخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبدا - كما قال - فخرج به.
فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له.
وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها.
إليه يصير علمهم عن كتاب، فيما يزعمون.
يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا
ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام.
فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شئ رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم (2).
ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه.
فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت (3) أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع.
ثم أرسل إليهم.
فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعبدكم وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم.
ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون (4) منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما رآهم بحيري لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، قفال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم
__________
= نصر بن الازد، وهي القبيلة التي تعرف بالعيافة والزجر والعائف: الذي يتغرس في خلقة الانسان فيخبر بما يؤول حاله إليه ; (شرح القاموس - الروض الانف).
(1) صب به وفي البيهقي ضب به: أي تعلق وتشبث.
وصب به: أي مال إليه ورق عليه.
ورويت ضبت به: أي أمسك قاله السهيلي.
(2) العبارة في سيرة ابن هشام: في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم.
(3) تهصرت: مالت وتدلت.
وهصرت الغصن: إذا جذبته حتى يميل.
وفي البيهقي: شمرت.
(4) كذا في الاصل وعند ابن هشام: فتأكلوا وهو الصواب.
عن طعامي، قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا.
قال لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن
طعام من بيننا.
ثم قال إليه فاحتضنه (1) وأجلسه مع القوم، فلما رأى (2) بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
وإنما قال له بحيرى ذلك لانه سمع قومه يحلفون بهما (3) فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا.
فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؟ فقال له سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره.
فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال [ له ] ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني قال بحيرى ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخي.
قال فما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به، قال صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود.
فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام (4).
قال ابن إسحاق: فزعموا فيما روى الناس أن زريرا، وثماما، ودريسما (5) - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا [ من ] رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى.
فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم [ إن ] أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير اسناد منه.
وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع.
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي حدثنا عباس بن محمد الدوري حدثنا قراد أبو نوح حدثنا
__________
(1) احتضنه: هنا: أي اجلسه إلى جنبه.
(2) فلما رآه عن ابن إسحاق.
(3) يقال إنه سأله بالات والعزى اختبارا، ولعل هذا مناسب أكثر.
(5) في ابن هشام: زريرا وتماما ودريسا.
وفي الدلائل للبيهقي: زبيرا وثماما ودريسا.
(4) قال أبو عمر بن عبد البر كانت رحلة أبي طالب ثلاث عشرة من الفيل.
وقال أبوالحس الماوردي خرج به عمه أبو طالب في تجارة وهو ابن تسع سنين.
وذكر ابن سعد بإسناد له عن داود بن الحصين أنه كان ابن اثنتي عشرة سنة.
يونس عن (1) أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش.
فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيري - هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم.
قال: فنزل وهم يحلون رحالهم.
فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذا سيد العالمين.
وفي رواية البيهقي (2) زيادة هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: وما علمك ؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه [ مثل التفاحة ].
ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به - وكان هو في رعية الابل - فقال: أرسلوا إليه.
فأقبل وغمامة [ عليه ] تظله.
فلما دنا من القوم قال انظروا إليه عليه غمامة فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلي فئ الشجرة فلما جلس مال فئ الشجرة عليه.
قال انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه.
قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم (3) ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه فالتفت فإذا هو بسبعة نفر (4) من الروم قد أقبلوا.
قال فاستقبلهم فقال ما جاء بكم ؟ قالوا جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره [ فبعثنا ] إلى طريقك هذه.
قال [ لهم ]: فهل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا لا.
إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه.
قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ فقالوا لا.
قال فبايعوه وأقاموا معه عنده.
قال فقال الراهب أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا: أبو طالب.
فلم
يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك والزيت.
هكذا رواه الترمذي (5) عن أبي العباس الفضل بن سهل الاعرج عن قراد أبي نوح به.
والحاكم والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الاصم عن عباس بن محمد الدوري به.
وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له الضبي ويعرف بقراد (6).
سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة
__________
(1) في دلائل البيهقي يونس بن أبي إسحق، السبيعي صدوق وثقه ابن معين وقال أحمد حديثه مضطرب وقال أبو حاتم لا يحتج به مات 159 (الكاشف ج 3 / 264.
تقريب التهذيب 2 / 384).
(2) دلائل النبوة ج 2 / 24.
(3) في دلائل البيهقي: يناشدهم.
(4) في دلائل البيهقي: بتسعة نفر - وفي رواية الاصم بسبعة -.
(5) كتاب المناقب (50) 3 - باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ح 3620 (ص 5: 590 - 591) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2 / 615 - 617) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الذهبي " أظنه موضوعا، فبعضه باطل " وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 24 وما بعدها.
(6) قراد هو أبو نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي روى عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأخرج له =
من الائمة والحفاظ ولم أر أحدا جرحه ومع هذا في حديثه هذا غرابة، قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال عباس الدوري ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله ويحيى بن معين لغرابته وانفراده.
حكاه البيهقي وابن عساكر.
قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة فإن أبا موسى الاشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة.
ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة وعلى كل تقدير فهو مرسل.
فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار
الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة.
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.
الثالث: أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالا إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك ؟ ثم أين كان بلال ؟ كلاهما غريب اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرا.
إما بأن يكون سفره بعد هذا أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي.
وحكي السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين والله أعلم (1).
قال الواقدي: احدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين.
قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة ونزلوا بالراهب بحيرى.
فقال لابي طالب بالسر ما قال.
وأمره أن يحتفظ به فرده معه أبو طالب إلى مكة.
وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكاؤه الله [ عزوجل ] ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية
__________
= البخاري والاربعة سوى ابن ماجه.
وثقه علي بن المديني وابن نمير ويعقوب بن شيبة وابن سعد وابن حبان وروى له الدارقطني وقال: ثقة.
(1) قال ابن سيد الناس ج 1 / 43: في متنه نكارة وهي ارسال أبي بكر مع النبي وكيف وأبو بكر لم يبلغ العشر سنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر من أبي بكر بأزيد من عامين وكانت للنبي تسعة أعوام على ما قاله الطبري وغيره - أو اثنا عشر - وبلال لم ينتقل لابي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من عشرين عام فإنه كان لبني خلف الجمحيين وعند ما عذب في الله اشتراه أبو بكر.
وقال ابن حجر في الاصابة الحديث رجاله ثقات وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة فتحمل على أنها مدرجة فيه مقطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته.
وأخرج ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس أنا أبا بكر الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة.
قال ابن حجر إن صحت هذه القصة فهي سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب.
(الخصائص ج 1 / 144 - 145).
ومعائبها لما يريد [ به ] من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا، أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والاذى.
ما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الامين.
لما جمع الله فيه من الامور الصالحة فكان أبو طالب يحفظه ويحوطه وينصره ويعضده حتى مات.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن معدان (1) حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلا فأتاه فيه راهب.
فقال إن فيكم رجلا صالحا: ثم قال أين أبو هذا الغلام ؟ قال فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسد، وإني أخشاهم عليه.
قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله.
فرده، وقال: اللهم إني أستودعك محمد ! ثم إنه مات.
قصة بحيرا حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار يهود.
قلت: والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهبا نصرانيا والله أعلم.
وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس وكان اسمه جرجيس (2).
وفي كتاب المعارف لابن قتيبة سمع هاتف في الجاهلية قبل الاسلام بقليل يهتف ويقول: ألا إن خير أهل الارض ثلاثة، بحيرى، ورئاب بن البراء الشني، والثالث المنتظر.
وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف.
فصل في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له، وحياطته، وكيف كان يتيما فأواه وعائلا فأغناه
قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا، أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والاخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الامين، لما جمع الله فيه من الامور الصالحة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: " لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما
__________
(1) في ابن سعد: خالد بن خداش.
ج 1 / 120 - 121.
(2) في المسعودي سرجس وكان مؤمنا على دين المسيح عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
يلعب الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لاقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال شد عليك إزارك.
قال فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري على من بين أصحابي ".
وهذه القصة شبيهه بما في الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو وعمه العباس فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة.
فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل فخر إلى الاض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قال فقال: " إزاري " فشد عليه إزاره أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق (1).
وأخرجاه أيضا من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق (2) عن عمرو بن دينار عن جابر بنحوه.
وقال البيهقي (3): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا محمد بن بكير الحضرمي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عكرمة حدثني ابن
عباس عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت، قال وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد.
قال: فكنت أنا وابن أخي وكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا.
فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى، وألقيت حجري وهو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك ؟ فقام وأخذ إزاره قال: " إني نهيت أن أمشي عريانا ".
قال وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.
وروى البيهقي (4) من حديث يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد عن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عزوجل فيهما.
قلت ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت
__________
(1) صحيح البخاري 25 كتاب الحج 42 باب فضل مكة وبنيانها فتح الباري (3 / 439) ومسلم كتاب الحيض ح 77 ص 268.
البخاري في 8 كتاب الصلاة (8) باب كراهية التعري في الصلاة فتح الباري (1 / 474) ومسلم.
(2) كذا في الاصل والصواب كريا بن إسحاق: المكي، ثقة رمي بالقدر (التقريب 1 / 261).
(3) دلائل النوبة ج 2 / 32.
(4) ج 2 / 33.
لصاحبي أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان فقال بلى.
قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت ما هذا ؟ قالوا تزوج فلان فلانة.
فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ فقلت ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى أبصر لي غنمي حتى أسمر [ بمكة ] ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت
تلك الليلة.
فسألت، فقيل نكح فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال ما فعلت ؟ فقلت لا شئ ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشئ من ذلك حتى أكرمني الله عزوجل بنبوته " وهذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه ويكون قوله في آخره " حتى أكرمني الله عزوجل بنبوته " مقحما والله أعلم (1).
وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات.
وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح.
قال شيخنا في تهذيبه ولم أقف على ذلك والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي (2): حدثني أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة.
قال: كان صنم من نحاس يقال له: أساف، ونائلة (3) يتمسح به المشركون إذا طافوا.
فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمسه ".
قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي لامسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تنه " قال البيهقي: زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه.
وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى " لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما " فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني (4).
أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا إبراهيم بن أسباط حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
__________
(1) الخبر رواه السيوطي في الخصائص الكبرى 1 / 89 ورواه أبو نعيم في دلائله (143) وسبل الهدى (2 / 199) وقال: رواه اسحاق بن راهويه والبزار وابن حبان.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 34 ونقله السيوطي في الخصائص الكبرى ج 1 / 89.
(3) في الدلائل: أو نائلة.
(4) هو أبو سعد أحمد بن محمد الماليني.
سفيان الثوري عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (1) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: يشهد مع المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الاصنام ؟.
قال فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
فهو حديث انكره غير واحد من الائمة على عثمان بن أبي شيبة حتى قال الامام أحمد فيه لم يكن أخوه يتلفظ بشئ من هذا.
وقد حكى البيهقي عن بعضهم (2) أن معناه أنه شهد مع من يستلم الاصنام وذلك قبل أن يوحى إليه والله أعلم.
وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته.
وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان يقف مع الناس بعرفات كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق.
حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير.
قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عزوجل له.
قال البيهقي (3): معنى قوله على دين قومه ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، [ في حجهم ومناكحهم وبيوعهم، دون الشرك ] ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.
قلت: ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه.
وهذا توفيق من الله له.
ورواه الامام أحمد عن يعقوب عن محمد بن إسحاق به.
ولفظه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم توفيقا من الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة (4) فذهبت اطلبه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف فقلت إن هذا من الحمس (5) ما شأنه ههنا ؟ وأخرجاه
__________
(1) في دلائل البيهقي: عبد الله بن محمد بن عقيل، أبو محمد المدني، الطالبي روى عنه ابن عمر وجابر قال فيه
الترمذي صدوق، كان أحمد وإسحاق والحميري يحتجون بحديثه وتوفي فيما قاله الواقدي بعد سنة 140 ه.
(الكاشف ج 2 / 113 - التقريب والتهذيب 1 / 447).
(2) أبو القاسم الطبراني عن المعمري عن عثمان بن أبي شيبة.
قال ابن حجر: " هذا الحديث أنكره الناس، فبالغوا، والمنكر قوله عن الملك، " عهده باستلام الاصنام " فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مرادا، بل المراد أنه شهد مباشرة المشركين استلام اصنامهم (المطالب العالية).
وفي السيرة الشامية: المراد بالمشاهد مشاهد الحلف ونحوها لا مشاهد استلام الاصنام.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 37.
(4) كذا في الاصل والصواب: عرنة كما في سيرة ابن كثير وعرنة: واد بحذاء عرفات.
(5) الحمس: جمع أحمس، وهو الشديد الصلب، وهم قريش وسميت حمسا لزعمهم بأنهم اشتدوا في دينهم إلى =
من حديث سفيان بن عيينة به.
شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار (1) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وإنما سمي يوم الفجار، بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم.
وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمس عشرة سنة - فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان.
وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة (2) - أي تجارة - للنعمان بن المنذر.
فقال [ له ] البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة - أتجيزها على كنانة ؟
قال نعم وعلى الخلق.
فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته.
حتى إذا كان بتيمن ذي طلال (3) بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام.
فلذلك سمي الفجار، وقال البراض في ذلك: وداهية تهم الناس قبلي * شددت لها بني بكر ضلوعي (4) هدمت بها بيوت بني كلاب * وأرضعت الموالي بالضروع رفعت له بذي طلال كفي * فخر يميد كالجذع الصريع (5)
__________
= حد التزهد والتأله ; ودخل معهم كنانة وخزاعة وقيل بنو عامر بن صعصعة.
(راجع سيرة ابن هشام في تفاصيل مهمة حول الحمس).
وكانت قريش ومن يدين دينها يقفون عشية عرفة بالمزدلفة ويقولون: نحن قطن البيت.
وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات: (البخاري - مسلم، كتاب الحج، أبو داود والنسائي في المناسك).
(1) الفجار بكسر الفاء.
بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وسمي الفجار لان القتال جرى في الشهر الحرام ففروا فيه جميعا.
(2) كذا في الاصل وفي العقد الفريد وابن هشام: أجار لطيمة واللطيمة الجمال التي تحمل التجارة، من طيب وبر وأشباههما.
(3) ذي طلال: واد إلى جانب فدك، وفي معجم البلدان، وهو الصواب، أنه بعالية نجد.
(4) رواية البيت في العقد الفريد: وداهية يهال الناس منها * شددت على بني بكر ضلوعي (5) رواية البيت في الاغاني والعقد الفريد: جمعت له يدي بنصل سيف * أفل فخر كالجذع الصريع
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب: وأبلغ - إن عرضت - بني كلاب * وعامر والخطوب لها موالي
وأبلغ - إن عرضت - بني نمير * واخوال القتيل بني هلال بأن الوافد الرحال أمسى * مقيما عند تيمن ذي طلال قال ابن هشام: فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ.
فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم.
ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم.
فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم، فأمسكت هوازن عنهم، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
قال: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم.
أخرجه أعمامه معهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت أنبل على أعمامي " أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
قال ابن هشام: وحديث الفجار طويل هو أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال السهيلي: والفجار بكسر الفاء على وزن قتال.
وكانت الفجارات في العرب أربعة ذكرهن المسعودي (2).
وآخرهن، فجار البراض هذا.
وكان القتال فيه في أربعة أيام، يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوما - وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة وهما حرب بن أمية وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا.
وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا.
ويوم الحريرة عند نخلة.
ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ.
فلما توافوا الموعد ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى يا معشر مضر علام تقاتلون ؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه ؟ قال الصلح، قالوا وكيف ؟ قال ندي قتلاكم ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا.
قالوا ومن لنا بذلك قال أنا، قالوا ومن أنت ؟ قال عتبة بن ربيعة فوقع الصلح على ذلك وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن ديانهم وانقضت حرب الفجار.
وقد ذكر الاموي حروب الفجار وأيامها واستقصاها مطولا فيما رواه عن الاثرم.
وهو المغيرة بن علي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك.
فصل قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا يحيى ابن علي بن هشام (1) الخفاف حدثنا أبو عبد الرحمن الازدي (2) حدثنا اسماعيل بن علية بن
__________
(1) في الدلائل: هشام.
(2) في الدلائل: الاذرمي.
عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه [ عن عبد الرحمن بن عوف ].
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شهدت مع عمومتي حلف المطيبين فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم ".
قال وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن.
قال: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة حدثنا أبو عمرو بن مطر حدثنا أبو بكر بن أحمد بن داود السمناني حدثنا معلى بن مهدي حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته " قال: والمطيبون هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم، قال البيهقي: كذا روي هذا التفسير مدرجا في الحديث ولا أدري قائله (1)، وزعم بعض أهل السير (2) أنه أراد حلف الفضول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.
قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشا تحالفوا بعد موت قصي وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابن عبدالدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف.
وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا عن النصرة لحزبهم فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا.
فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت.
فسموا المطيبين كما تقدم وكان هذا قديما ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول وكان في دار عبد الله بن جدعان كما رواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به
في الاسلام لاجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعد (3) ظالم مظلوما ".
قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر.
وذلك لان الفجار كان في شعبان (4) من هذه السنة، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب وكان سببه أن
__________
(1) وقال البيهقي في السنن الكبرى بعد روايته للحديث: " لا أدري: هذا التفسير من قول أبي هريرة أو من دونه.
6 / 366.
(2) أراد ابن قتيبة وقد ذكره في حديث السنن ونقل قوله: " إن حلف المطيبين هو حلف الفضول " وعقب البيهقي: " إن قوله إنما هو حلف الفضول غلط، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين، لان ذلك كان قديما قبل أن يولد بزمان ".
والثابت لدينا، ومن خلال سياق أحاديث تكوين المطيبين يتبين أنه في زمان هاشم أبي عبد المطلب جدا الرسول صلى الله عليه وسلم (3) كذا في الاصل وفي السهيلي: ولا يعز ظالم على مظلوم.
(4) قال المسعودي ج 2 / 293: انتهى الفجار في شوال.
ووافقه ابن سيد الناس وابن سعد في الطبقات.
وفي رواية لابن سعد عن عروة بن الزبير ; كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة.
رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الاحلاف عبدالدار ومخزوما وجمحا وسهما وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه - أي انتهروه - فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس - وقريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن ما ثثت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة.
وما رسى ثبير وحراء مكنهما.
وعلى التأسي في المعاش.
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول (1)، وقالوا لقد دخل هؤلاء في فضل من الامر.
ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك: حلفت لنعقدن حلفا عليهم * وإن كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا * يعزبه الغريب لذي الجوار ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار وقال الزبير أيضا: إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم وذكر قاسم بن ثابت - في غريب الحديث -: أن رجلا من خثعم قدم مكة حاجا - أو معتمرا - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها
__________
(1) سمي هذا الحلف بحلف الفضول باسم ثلاثة من زعماء جرهم وهم: الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن الحارث.
وقيل في النهاية: الفضل بن شراعة والفضل بن وداعة والفضل بن قضاعة.
والفضول جمع فضل وهي أسماء هؤلاء الذين تقدموا.
وقيل بل سمي كذلك لانهم تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها وألا يغزو ظالم مظلوما.
وقال السهيلي: ما قاله ابن قتيبة حسن ولكن في الحديث ما هو أقوى منه: السنن الكبرى ج 6 / 366 - 367.
وزعم ابن إسحاق أن هذا الحلف عقدوه على التناصر، والاخذ للمظلوم من الظالم..وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب.
عنه.
فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل له عليك بحلف الفضول (1).
فوقف عند الكعبة ونادى يا آل حلف الفضول: فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك ؟ فقال إن نبيها ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسرا فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك فقد، علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال افعل، ولكن متعوني بها الليلة، فقالوا لا والله ولا شخب لقحة فأخرجها إليهم وهو يقول: راح صحبي ولم أحيي القتولا * لم أودعهم وداعا جميلا إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا أخاف الفضولا لا تخالي أني عشية راح الرك * ب هنتم علي أن لا يزولا وذكر أبياتا أخر غير هذه.
وقد قيل إنما سمي هذا حلف الفضول لانه أشبه حلفا تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه.
وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل: وهم الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث.
هذا قول ابن قتيبة (1).
وقال غيره الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه.
وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه وكانوا على من ظلمه حتى يرد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر [ بن ] قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن
جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الاسلام لاجبت ".
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان.
منازعة في مال كان بينهما بذي المروة (2) فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لاقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لادعون
__________
(1) انظر الحاشية (1) ص 356.
(2) ذو المروة: قرية بوادي القرى، وقيل بين خشب ووادي القرى.
(معجم البلدان).
بحلف الفضول.
قال فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لاقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا.
قال وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك.
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك.
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها مضاربة (1).
فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار.
مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب (2) من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة.
فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة ؟ فقال ميسرة هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه
الشجرة إلا نبي (3) ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري.
ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامتها.
فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له - فيما يزعمون - يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك (4) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا.
كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه، فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لاعمامه، فخرج
__________
(1) المضاربة: المقارضة، حيث كانت خديجة تقارضهم مالها في تجارتهم بشئ تجعل لهم منه.
(2) كان اسم الراهب نسطورا وليس هو بحيرى الذي ورد ذكره في حديث أبي طالب ; وكان نزول في سوق بصرى.
عيون الاثر.
وطبقات ابن سعد.
(3) يريد بقوله إنه ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي ; لبعد العهد بالانبياء قبل ذلك.
(4) كذا في الاصل وشرح المواهب وشرح السيرة والروض والطبري.
وسطتك: شرفك.
قال السهيلي: من الوسط.
والوسط من أوصاف المدح والتفضيل.
معه عمه حمزة (1) حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة وكانت أول امرأة تزوجها [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم وكان به يكنى، والطيب والطاهر (2)، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
قال ابن هشام أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر.
وأكبر بناته رقية ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة (3).
قال البيهقي عن الحاكم: قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية.
وكان أول من مات من ولده القاسم [ مات بمكة ]، ثم عبد الله.
وبلغت خديجة خمسا وستين سنة، ويقال خمسين.
وهو أصح.
وقال غيره بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه " والمعروف أن هذا في حق إبراهيم (4).
وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم (5) عن ابن عباس قال ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة: القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.
وقال الزبير بن بكار عبد الله هو الطيب وهو الطاهر، سمي بذلك لانه ولد بعد
__________
(1) يقال إن الذي ينهض معه صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب، وهو الذي خطب خطبة النكاح.
وقيل لعلهما خرجا معا وخطب أبو طالب الخطبة لانه كان أسن من حمزة (الروض الانف، شرح المواهب).
(2) في أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة خلاف فذكر بعضهم ثلاثة بنين القاسم والطاهر والطيب وقال آخرون ما نعلمها ولدت غلاما إلا القاسم.
والارجح أن الطاهر والطيب لقبان لعبد الله وقال ابن سعد: إن عبد الله ولد في الاسلام فسمي الطيب والطاهر وفي موت القاسم في الجاهلية خلاف.
فقد ذكر السهيلي عن الزبير أن القاسم مات رضيعا..فبكت خديجة.
فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أسمعتك صوته في الجنة..فهو دليل على أنه لم يهلك في الجاهلية.
(3) في الطبقات عن ابن عباس: قبل النبوة القاسم (وفي رواية عنده مات ابن سنتين وهذا يناقض ما ذهب إليه الزبير، وفي رواية للبيهقي: أن القاسم قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيب) ثم زينب ثم رقية ثم فاطمة ثم أم كلثوم ثم عبد الله.
(4) تقدم التعليق قريبا فليراجع.
وذكر ابن سعد ان ابراهيم ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة.
ومات وهو
ابن ستة عشر شهرا وقال صلى الله عليه وسلم ان له ظئرا تتم رضاعه في الجنة وهو صديق.
وفي رواية ثمانية عشر شهرا.
يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الاول سنة عشر.
(5) عن الحكم عن مقسم أبي القاسم كما في دلائل النبوة ج 2 / 70.
النبوة فماتوا قبل البعثة.
وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الاسلام وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن ماربة (1) القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب اسكندرية من كورة أنصنا (2) وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة فيما حدثني غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عمرو المدني، وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمسا وعشرين سنة وقريش تبني الكعبة.
وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين - وقيل خمسا وعشرين سنة - (3).
وقال البيهقي: باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن عبد الله أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي عن جده سعيد عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم " فقال له أصحابه وأنت يارسول الله ؟ قال: " وأنا رعيتها لاهل مكة بالقراريط " (4) رواه البخاري (5) عن أحمد بن محمد المكي عن عمرو بن يحيى به.
ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر - وهو ضعيف (6) - عن أبي الزبير عن
__________
(1) مارية بنت شمعون (والمارية البقرة الفتية بتخفيف الياء وبالتشديد الملساء.
وسبب اهدائها إلى النبي أنه صلى الله عليه وسلم
أرسل إلى المقوقس واسمه جريج بن ميناء فقارب المقوقس الاسلام وارسل هدية إلى النبي بغلته دلدل ومارية وقدحا من قوارير (الروض الانف).
(2) أنصنا: بالفتح ثم السكون وكسر الصاد مدينة من نواحي الصعيد على شرقي النيل ويقال انها كانت مدينة السحرة ينسب إليها كثير من أهل العلم.
(3) قيل كان سنه صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين سنة وقيل ثلاثين وقيل سبعا وثلاثين وقيل ستا وعشرين.
وكان عمر خديجة إذ ذاك أربعين سنة وقيل خمسا وأربعين.
وكانت خديجة قد تزوجت قبله رجلين: عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ثم أبو هالة التميمي وهو من بني أسيد بن عمرو واسمه هند بن زرارة بن النباش.
(4) دلائل النبوة ج 2 / 65.
(5) في 37 كتاب الاجارة (2) باب رعي الغنم فتح الباري (4 / 441).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات وابن سعد في الطبقات.
(6) الربيع بن بدر ضعفه ابن معين.
وقال ابن حبان يقلب الاسانيد وقال الدارقطني والازدي: متروك.
وقال النسائي ويعقوب بن سفيان متروك.
تهذيب التهذيب (3 / 239).
جابر.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص " وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس: أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه - قال سكران (1).
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثني إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي (2) حدثني عبد الله بن أبي عبيد (3) بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن مقسم بن أبي القاسم (4) مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أن عبد الله بن الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له تربا، وكنت له إلفا وخدنا.
وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم.
حتى إذا كنا بالحزورة (5) أجزنا على أخت خديجة، وهي جالسة على أدم
تبيعها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟ قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته فقال: " بلى لعمري " فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، والبسوا أبا خديجة حلة، وصفرت لحيته، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقي خمرا فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانة وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه ونام أبو هاشم استيقظ صاحيا.
فقال: ما هذه الحلة وما هذه الصفرة وهذا الطعام ؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك، فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤوه فكلموه.
فقال أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة ؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه، قال إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته.
وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران وذكر نحو ما تقدم حكاه السهيلي.
قال المؤملي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه وهذا هو الذي رجحه السهيلي (6) وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو
__________
(1) وأخرجه الامام أحمد في مسنده مطولا بإسناد ضعيف.
والهيثمي في مجمع الزوائد عنه وعن الطبراني وقال رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح.
(2) في الدلائل ج 2 / 71 ; الموصلي.
(3) في الدلائل وتقريب التهذب: أبي عبيدة.
(4) في الدلائل، مقسم: أبي القاسم مولى عبد الله، وهو الصواب.
ويقال له مولى ابن عباس للزومه، صدوق.
مات سنة 101 ه.
(تقريب التهذيب).
(5) الحزورة: كانت الحزورة سوق مكة، ودخلت في المسجد لما زيد، وباب الحزورة معروف من أبواب المسجد الحرام، والعامة تقول: باب عزورة.
(6) وعند الواقدي قال: الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار وان عمها =
الذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الاسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الاسود مكانه.
وذكر ابن إسحاق: في آخر السيرة أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وكان ابن عمها، وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه - فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الامة، قد عرفت أنه كائن لهذه الامة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال - فجعل ورقة يستبطئ الامر ويقول حتى متى ؟ وقال في ذلك: لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهم طالما ما بعث النشيجا (1) ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا (2) بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا (3) بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا (4) ويظهر في البلاد ضياء نور * يقوم به البرية أن تموجا فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا (5) فيا ليتني إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا (6)
__________
= عمرو بن أسد زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقه الكلبي عن ابن عباس.
وابن سعد بسنده عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس.
(الطبقات - عيون الاثر).
(1) اللجاج: التمادي في الامر.
والنشيج: بكاء الصبي الذي يضرب فلا يخرج بكاؤه ويردده في صدره قال ابن
الاعرابي: النشيج من الفم والنخير من الانف.
وفي التهذيب: غص البكاء في حلقه عند الفزعة فهو إذ ذاك نشيج.
(2) المكتين: قال السهيلي في روضه: ثنى مكة وهي واحدة لان لها بطاحا وظواهر.
وهذا كثير عند العرب في أشعارهم.
(3) قس: هو قس بن ساعدة الايادي خطيب العرب.
(4) في سيرة ابن هشام: فينا بدل قوما.
وفي بلوغ الارب للآلوسي: يوما.
(5) فلوجا: الفلوج الظهور على الخصم والعدو.
(6) قوله " فياليتي " بحذف نون الوقاية ; وحذفها مع ليت نادر.
قال ابن مالك في الالفية: وليتني فشا وليتي ندرا * ومع لعل أعكس...
ولوجا في الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا (1) أرجي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار من سمك البروجا فإن يبقوا وأبق يكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الاقدار متلفة خروجا (2) وقال ورقة أيضا فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق عنه: أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح ؟ (3) لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح أتاك الذي وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح (4) إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت * وهن من الاحمال تعص دوالج (5) فيخبرنا عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله احمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الاباطح وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح ويتبعه حيا لؤي وغالب * شبابهم والاشيبون الجحاجح (6) فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الود فارح وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن ارضك في الارض العريضة سائح وزاد الاموي: فمتبع دين الذي أسس البنا * وكان له فضل على الناس راجح وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلالا فيه بالظلام المصابح
__________
(1) في بلوغ الارب للالوسي: ولوجا في الذي كرهت قريشا..(2) المتلفة: المهلكة.
خروجا في سيرة ابن هشام حروجا: وهي الكثيرة التصرف.
(3) في بلوغ الارب: وفي الصبر بدل وفي الصدر.
(4) في بلوغ الارب: فتاك بدل أتاك.
والصحاصح: جمع صحصح وهو ما استوى من الارض وجرد أي لا شجر فيها ولا قرار ماء.
(5) قعص: وأقعصه إذا قتله قتلا سريعا.
دوالح: من دلح البعير إذا مر بحمله مثقلا ; أي تثاقل في مشيه من ثقل الحمل كما قال الازهري.
(6) في بلوغ الارب: لؤي بن غالب.
والجحاجح جمع جحجح وهو السيد السمح والكريم.
مثابا لافناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح حراجيج أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرايح ومن شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في روضه (1): لقد نصحت لاقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم * فان دعوكم فقولوا بيننا حداد (2) سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له * وقبلنا سبح الجودي والجمد (3) مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد لا شئ مما نرى تبقى بشاشته * يبقى الاله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجرى الرياح به * والجن والانس فيما بينها مرد (4) أين الملوك التي كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب * لابد من ورده يوما كما وردوا ثم قال هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة، قال وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت.
قلت: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض لاحيان بشئ من هذه الابيات والله أعلم.
فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين ذكر البيهقي (5) بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة.
والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين.
ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في
__________
(1) قاله لما مر ببلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعذب برمضاء مكة ونهاهم عنه فلم ينتهوا ; فقال: والله لئن قتلتموه لاتخذن قبره حنانا (بلوغ الارب - 2 / 271).
(2) في بلوغ الارب للالوسي وعجزه: فإن دعيتم فقولوا دونه حدد.
والحدد: بفتح الحاء والدال: المنع.
(3) عند الالوسي: سبحان ذي العرش لا شئ يعادله * رب البرية فرد واحد صمد سبحانه ثم سبحانا نعوذ به * وقبلنا سبح الجودي والجمد
(4) في الالوسي: ولا سليمان إذا دان الشعوب له * والجن والانس تجري بينها البرد (5) أنظر دلائل النبوة ج 2 / 43 وما بعدها.
زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري وذكر ما ورد من الاسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك، فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئا وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها مشرفة في سائر الاعصار والاوقات قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) [ آل عمران: 96 - 97 ] وثبت في الصحيحين (1) عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال: " المسجد الحرام " قلت ثم أي ؟ قال: " المسجد الاقصى " قلت كم بينهما ؟ قال: " أربعون سنة " وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم، وإن المسجد الاقصى أسسه اسرائيل وهو يعقب عليه السلام.
وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
وقال البيهقي (2) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن مهران حدثنا عبيد الله [ بن موسى ] حدثنا اسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: كان البيت قبل الارض بألفي سنة، (وإذا الارض مدت) [ الانشقاق: 3 ] قال من تحته مدت.
قال وقد تابعه منصور عن مجاهد.
قلت: وهذا غريب جدا وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك وكان فيهما اسرائيليات يحدث منها وفيهما منكرات وغرائب.
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد (3) بن عبد الله البغدادي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح حدثنا أبو صالح الجهني حدثني ابن لهيعة عن يزيد بن (4) أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعث الله
جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ".
قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.
__________
(1) أخرجه البخاري في 60 كتاب الانبياء 10 باب حدثنا موسى بن إسماعيل الفتح 6 / 407 وأخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ح (1) صفحة (370).
(2) دلائل ج 2 / 44، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 518 وقال حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) في الدلائل ج 2 / 44 محمد بن محمد بن عبد الله.
(4) كذا في الاصل وفي الدلائل: يزيد عن أبي الخير.
قلت: وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت والله أعلم.
وقال الربيع [ بن سليمان ]: أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال: حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا بر نسكك يا آدم لقد حججنا قبلك بألفي عام.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني بقية - أو قال ثقة - من أهل المدينة عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح.
قلت: وقد قدمنا حجهما إليه.
والمقصود الحج إلى محله وبقعته وإن لم يكن ثم بناء والله أعلم.
ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه وهو في صحيح البخاري.
ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة قال: سأل رجل عليا عن قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) أهو أول بيت بني في الارض ؟ قال لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام
إبراهيم، ومن دخله كان آمنا.
وإن شئت نبأتك كيف بناؤه.
إن الله تعالى أوحى إلى ابراهيم أن ابن لي بيتا في الارض، فضاق به ذرعا فأرسل [ الله ] إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم [ وكان يبني هو ساقا كل يوم ] حتى بلغ مكان الحجر، قال لابنه أبغني حجرا، فالتمس حجرا حتى أتاه به، فوجد الحجر الاسود قد ركب، فقال لابيه من أين لك هذا ؟ قال جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل، من السماء فأتمه (1).
قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب.
فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الاسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم.
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة وقيس وسلام كلهم عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب.
قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، قال يعقوب بن سفيان أخبرني أصبغ بن فرج أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها، فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه.
فقالوا: تعالوا نحكم أول من
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (3 / 69 - 71) ورواه في أخبار مكة (1 / 24 - 25) ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
يطلع علينا، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة، فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن،
فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الارضي (1) حتى دعوه الامين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها، وهذا سياق حسن، وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله: فلما بلغ الحلم.
والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله (2).
وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم، وغيرهم.
فالله أعلم.
وقال موسى بن عقبة: كان بين الفجار وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة.
قلت: وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة.
وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق والله أعلم (3).
قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه فخر به فخافوا أن يدخلها الماء.
وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة.
فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي ارادوا.
فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا: والوليد بن المغيرة، فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها، فأعجبهم ذلك.
فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت، رأسها عند ذنبها.
فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة.
وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفا لهم فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان
__________
(1) في الدلائل: ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا.
(2) رواه الازرقي في أخبار مكة 1 / 99.
(3) قال ابن هشام: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة هاجت حرب الفجار.
وقال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة.
وقال ابن سيد الناس: ولما بلغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة.
وقال الازرقي: اختصمت قريش..وطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاحا نمرة والذي جزم به ابن إسحق أن بنيان الكعبة كان قبل المبعث بخمس سنين.
1 / 159.
نقول يمكن أن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء، أو لعل البناء كان في فترات..انتهت قبل المبعث بخمس سنوات.
ويمكن أن يكون قد وقع التباس لدى المؤرخين في زمن احتراق الكعبة (فقال الزهري لما بلغ رسول الله الحلم احترقت..و) والانتهاء من هدمها وبنائها.
من نصحه لهم وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها.
وأن يقتسموها أرباعا.
وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حرام.
وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء وتغيبت عنهم ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.
قال: ويقول بعض الناس إنه اختطفها طائر وألقاها نحو أجياد (1).
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها.
وإنما كانت رضما فوق القامة.
فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة.
وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة.
فقطعت قريش يده وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة (2) لرجل من تجار الروم.
فتحطمت.
فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
قال الاموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها.
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم.
فتشرف (3) على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت (4) وكشت وفتحت
فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رقيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية.
وحكى السهيلي: عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها.
فانهار البئر عليه حتى جاؤوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود فأقامت فيها خمسمائة عام وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق.
قال محمد بن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام عابد بن عمران بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه.
فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا.
لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس -
__________
(1) أجياد، وفي الدلائل جياد.
(2) في الاخبار الازرقي بالشعيبة ; وهي واقعة جنوب جدة وتبعد عنها مقدار مرحلتين.
(3) في سيرة ابن هشام: تتشرق أي تبرز للشمس ويقال تشرقت: إذا قعدت للشمس لا يحجبك عنها شئ.
(4) احزألت: رفعت رأسها وتجمعت تستعد للوثوب.
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك أبو وهب بن عمرو - قال وكان خال أبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا ممدحا.
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تجزأت الكعبة.
فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الاسود والركن اليماني لبني مخزوم (1) وقبائل من قريش انضموا إليهم.
وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم (2).
وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى ولبني عدي بن كعب، وهو الحطيم (3).
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه.
فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد
إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر فإن أصيب لم تهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شئ، فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها.
فأصبح الوليد غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه - حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الاساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالاسنة (4) أخذ بعضها بعضا - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الابل - قال السهيلي وأرى رواية السيرة كالالسنة وهما والله أعلم.
قال ابن أسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا (5) من قريش ممن كان يهدمها ادخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها.
فانتهوا عن ذلك الاساس.
وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلا (6) من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة [ وانتهوا ] إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الاساس الاول فرفعه وهو لا يدري أنه من الاساس الاول، فأبصر
__________
(1) زاد في تاريخ مكة: وبني تميم.
(2) زاد في اخبار مكة فذكر: بني عامر بن لؤي.
(3) الحطيم: سمي حطيما، كما قيل، لان الناس يزدحمون فيه حتى يحطم بعضهم بعضا.
(4) في رواية الازرقي: كأنها الابل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلان.
ومن قال الاسنمة فهي جمع سنام، وأراد أن الحجارة تدخل بعضها في بعض كما تدخل عظام الاسنمة بعضها ببعض.
ومن قال الاسنة فهي جمع سنان: أي أسنة الرماح.
(5) في تاريخ الازرقي: هو الوليد بن المغيرة.
وفي رواية له عن سعيد بن المسيب قال: أبو وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم.
وعن جبير بن مطعم قال: عامر بن نوفل بن عبد مناف وقال الواقدي: وقد ثبت أنه أبو وهب.
(6) كذا في الاصل، والصواب من الدلائل رجالا.
القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه وفزع الرجل والبناة.
فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى بنيانهم وقالوا لا تحركوا هذا الحجر ولا شيئا بحذائه.
قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود (1)، فإذا هو أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والارض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام يعني جبلاها - مبارك لاهلها في الماء واللبن.
قال ابن إسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه: مكة [ بيت ] الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
قال وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقا - مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة.
يعملون السيئات ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
وقال سعيد بن يحيى الاموي: حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: " وجد في المقام ثلاثة أصفح، في الصفح الاول: إني أنا الله ذويكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وخففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لاهلها في اللحم واللبن وفي الصفح الثاني: إني أنا الله ذويكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي.
فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته، وفي الصفح الثالث: إني أنا الله ذوبكة، خلقت الخير والشر وقدرته.
فطوبى لمن أجريت الخير على يديه وويل لمن أجريت الشر على يديه.
قال ابن اسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة.
ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه
دون الاخرى.
حتى تحاوروا أو تحالفوا، وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما.
ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة.
فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم انهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش (2) كلها قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه.
ففعلوا.
فكان أول داخل دخل
__________
(1) كذا في الاصل وابن هشام وفي دلائل البيهقي: حبر من يهود اليمن، وفى رواية: من حمير.
(2) ذكر الازرقي أن أبا زمعة بن الاسود كان أسن القوم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأوه قالوا: هذا الامين رضينا، هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلموا إلي ثوبا " فأتى به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب (1).
ثم ارفعوه جميعا " ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.
ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الامين.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا ثابت - يعني أبا يزيد - حدثنا هلال يعني ابن حبان عن مجاهد عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر - أنا نحته أعبده من دون الله - قال: وكنت أجئ باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه فيجئ الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول عليه قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر ولا يرى الحجر أحد.
فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يترايا منه وجه الرجل.
فقال بطن من قريش: نحن نضعه وقال آخرون نحن نضعه فقالوا اجعلوا بينكم حكما.
فقالوا أول رجل يطلع من الفج.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أتاكم الامين.
فقالوا له فوضعه في ثوب.
ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعا وكانت تكسى
القباطي.
ثم كسيت بعد البرور (2).
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف (3).
قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.
وجعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية
__________
(1) أي بزاوية من زواياه فكان عتبة بن ربيعة في ربع عبد مناف، وفي الربع الثاني: أبي زمعة بن الاسود، وفي الثالث العاص بن وائل (في الطبقات: قيس بن عدي)، وفي الرابع أبو حذيفة بن المغيرة.
(2) كذا في الاصل، وفي السيرة والازرقي البرود: وهي ثياب يمنية.
والقباطي: جمع قبطية بالضم وهو ثوب من ثياب مصر رقيق أبيض.
(3) الديباج: معربة وهي القماش المنقوش.
وفيمن كساها الديباج: روى الفاكهي من طريق مسعر عن جسرة: أن خالد بن جعفر بن كلاب أول من كسا الكعبة الديباج في الجاهلية.
وعن الدارقطني في المؤتلف: أن نتيلة بنت حيان والدة العباس بن عبد المطلب كست الكعبة الديباج.
وقال ابن حجر: وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال: 1 - خالد - 2 - نتيلة - معاوية - يزيد - ابن الزبير - الحجاج.
قال: كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها.
وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد.
وأما ابن الزبير فلعله كساها بعد تجديد بنائها لكن لم يداوم على كسوتها الديباج.
وأما الحجاج فكساها بأمر عبد الملك واستمر على ذلك، فلعله أول من داوم على كسوتها في كل سنة.
(الروض الانف أخبار مكة).
الشرق.
وجعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد فيدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا (1) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة.
ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، وأدخلت فيها الحجر " ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت في غاية البهاء
والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل.
لها بابان ملتصقان بالارض شرقيا وغربيا.
يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج بن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان - وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه.
فأمر باعادتها إلى ما كانت عليه فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة.
فارتفع باباها وسدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان عليه فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير.
فقال مالك رحمه الله: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة.
فتركها على ما هي عليه.
فهي إلى الآن كذلك.
وأما المسجد الحرام: فأول من أخر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه.
فلما ولى ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه وأكثر أبوابه.
ولم يوسعه شيئا آخر.
فلما استبد بالامر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج.
وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف.
وقد ذكرنا قصة بناء البيت والاحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة عند قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (2) وذكرنا ذلك مطولا مستقصى فمن شاء كتبه هاهنا ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب (3) فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
__________
(1) زاد في تاريخ مكة: رفعوا بابها حتى لا تدخلها السيول، ولا ترقا إلا بسلم.
(2) سورة البقرة الآية 127.
(3) الزجر: المنع.
ويروى الرجز: العذاب.
غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب (1) أعز به المليك بني لؤي * فليس لاصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهى عن خلع إزاره فأعاده إلى سيرته الاولى.
فصل وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة.
وذلك لانهم عظموا الحرم تعظيما زائدا بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة.
وكانوا يقولون نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله.
فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة.
وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا ولا يسلون شحما وهم حرم.
ولا يدخلون بيتا من شعر ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم.
وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة طاف عريانا ولو كانت امرأة ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك.
وليس له ولا لغيره أن يمسها.
وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى (3) قال بعض الشعراء: كفى حزنا كري عليه كأنه * لقى بين أيدي الطائفين حريم
__________
(1) مساوينا والمساوي هنا: السوآت ; وفي سيرة ابن هشام: مسوينا أي مسوي البنيان.
ثياب: إشارة إلى أنهم كانوا ينقلون الحجارة عراة ويرون أن ذلك كان دينا وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة.
(2) في سيرة ابن هشام: وما بدا منه فلا أحله.
يقال ان المرأة التي قالت ذلك هي ضباعة بنت عامر بن صعصعة ثم من بني سلمة بن قشير (الروض الانف).
(3) اللقى: الشئ الملقى ويقال المنسى وجمعه: ألقاء.
قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ردا عليهم فيما ابتدعوه فقال [ تعالى ]: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي جمهور العرب من عرفات (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (1) وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من الله له، وأنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (2) الآية.
وقال زياد البكائي (3) عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده (4).
مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
وذكر شئ من البشارات بذلك قال محمد بن إسحاق رحمه الله: وكانت الاحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب (5) قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه، أما الاحبار من اليهود والرهبان.
من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
قال الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) [ الاعراف: 157 ] الآية وقال الله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) [ الصف: 6 ].
وقال الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل) [ الفتح: 29 ] الآية.
وقال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) [ آل عمران: 81 ] وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: " ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث
__________
(1) سورة البقرة الآية 199.
(2) سورة الاعراف الآيتان 31 و 32.
(3) زياد البكائي هو أبو محمد زياد بن عبد الله بن طفيل القيسي العامري البكائي راوي السيرة عن ابن إسحاق توفي سنة 183 ه.
(4) ورد في تاريخ مكة ج 1 / 176: قال ابن جريج لما أن أهلك الله تعالى أصحاب الفيل عظمت العرب قريشا.
وأهل مكة وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام..وقالت قريش نحن أهل الله وبنوا إبراهيم..فابتدعوا في دينهم أحداثا أداروها بينهم.
(5) في سيرة ابن هشام: والرهبان من النصارى، والكهان من العرب.
محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه " يعلم من هذا أن جميع الانبياء بشروا وأمروا باتباعه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لاهل مكة: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك) الآية [ البقرة 129 ].
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت يارسول الله، ما كان بدء أمرك ؟ قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام " وقد روى محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس واشتهار ذكره وانتشاره فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني اسرائيل كما تقدم.
يدل هذا على أن من بينهما من الانبياء بشروا به أيضا.
أما في الملا الاعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الاعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني عبد الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين " (1).
وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال: إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.
وقال الامام أحمد أيضا حدثنا عبد الرحمن حدثنا منصور بن سعد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيا ؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " تفرد بهن أحمد (2).
وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي هريرة فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم عن الاوزاعي حدثني يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة ؟ قال: " بين خلق آدم ونفخ الروح فيه " ورواه من وجه آخر عن الاوزاعي به.
وقال:
__________
(1) كذا في الاصل وفي دلائل البيهقي: النبيين.
(2) أخرج الحديثان أحمد في مسنده ج 4 / 127 - 128 و 4 / 66 و 5 / 379.
وأخرج الجزء الاول من حديث الحاكم في المستدرك 2 / 600 وقال هذا حديث صحيح الاسناد، وأقره الذهبي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه أحمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.
" وآدم منجدل في طينته ".
وروى عن البغوي أيضا عن أحمد بن المقدام عن بقية بن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي هريرة - مرفوعا - في قول الله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي عن ابن عباس قيل يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد ".
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره ولا يلقى العرب لذلك فيه بالا.
حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الامور التي كانوا يذكرون فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لامر حدث من أمر الله عزوجل.
قال (1) وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) إلى آخر السورة.
وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير، وكذا قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كله هناك.
قال محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس أنه حدث أن أول
العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف - وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها (2)، فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم ؟ قال بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الانواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا، وهلاك هذا الخلق وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لامر أراد الله به هذا الخلق فما هو ؟.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم - يقال لها الغيطلة (3) -
__________
(1) أي ابن إسحاق.
(2) في سيرة ابن هشام: وأنكرها رأيا.
أي أهداها رأيا من النكر وهو الدهاء، ويروي بالباء من البكور في الشئ وهو مبادرته فيه وسبقه إليه.
(3) قال ابن هشام الغيطلة من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة، أخوه بني مدلج بن مرة.
ويقال الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة.
كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها، ثم قال: أدر ما أدر، يوم عقر ونحر، قلت قريش حين بلغها ذلك ما يريد ؟ ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ثم قال: شعوب ما شعوب ؟ تصرع فيه كعب (1) الجنوب.
فلما بلغ ذلك قريشا قالوا ما ذا يريد ؟ إن هذا لامر هو كائن فانظروا ما هو، فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.
قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا (2) - بطنا من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب، قالت له جنب: انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في أسفل جبله.
فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو، ثم قال: أيها الناس إن الله أكرم محمدا
واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل.
ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء، ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب وقد أخرناها إلى هواتف الجان.
فصل قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الاسلام - مع رحمة الله تعالى وهداه لنا - أن كنا نسمع من رجل من يهود (3) - وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ماس نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به.
فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به.
ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
وقال ورقاء: عن ابن أبي نجيح عن علي الازدي: كانت اليهود تقول اللهم ابعث لنا هذا
__________
(1) المراد هنا كعب بن لؤي، وسياق الحديث الآتي يؤيد ذلك خاصة أن معظم الذين صرعوا في بدر وأحد من أشراف قريش من كعب بن لؤي.
(2) جنب: هم بطن من بني يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مالك بن أدد وهو مذحج وهم: بنو منبه والحارث والغلى وسبحان وشمره وهفان.
وفي جمهرة الانساب: والقاموس ومعجم البلدان سنحان بدل سبحان وشمران بدل شمر.
سموا جنب أو جناب لانهم تحالفوا على بني عمهم صداء أو صدا كما في نهاية الارب وهم من اتباع الكافر الصليحي - لعله كاهنهم - القائم بنواحي زبيد.
(3) عبارة ابن هشام: لما كنا نسمع من رجال يهود.
النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به - أي يستنصرون به [ على الناس ] - رواه البيهقي (1).
ثم روي من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة (2) عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم [ إنا ] نسألك بحق محمد النبي الامي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به.
فأنزل الله عزوجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على اللذين كفروا) (3) الآية وروى عطية عن ابن عباس نحوه.
وروي عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضا.
وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الاشهل، قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الاشهل.
قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا.
علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار.
قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا ؟ إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم ؟ قال: نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطه (4) من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غدا قالوا له: ويحك يا فلان فما آية ذلك ؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد.
وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن، قالوا ومتى نراه ؟ قال - فنظر إلي، وأنا من أحدثهم سنا - فقال: أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله [ محمدا ] رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا.
قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال بلى ولكن ليس به.
رواه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن ابن عباس.
ورواه البيهقي عن الحاكم باسناده من طريق يونس بن بكير (5).
وروى أبو نعيم في الدلائل عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن محمد بن
__________
(1) دلائل النبوة ج 2 / 76.
(2) في الدلائل ابن عنترة / وهو الصواب (التقريب - الثقات للعجلي - الكاشف للذهبي).
قال الدارقطني: ضعيفان وقال أبو حاتم متروك وقال ابن حبان يضع الحديث وأبوه ثقة ووثق هارون العجلي.
وأحمد وابن معين.
(3) سورة البقرة جزء من الآية 89.
(4) كذا في الاصل وفي سيرة ابن هشام: ولود أن له بحظه.
(5) أخرجه أحمد في مسنده 3 / 468 والبيهقي في الدلائل 2 / 78 - 79 ونقله الصالحي في السيرة الشامية (1 / 135) وقال: رواه ابن إسحاق والبخاري وصححه الحاكم، والخبر في الاكتفاء والوفا.
سلمة قال: لم يكن في بني عبد الاشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت.
ثم أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدقه.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسدا وبغيا.
وقد قدمنا حديث أبي سعيد عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته وأخبار الزبير بن باطاعن ظهور كوكب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عم كان اسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد - نفر من بني هدل، أخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الاسلام - قال: قلت: لا، قال: فإن رجلا من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الاسلام بسنين فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: أخرج يا بن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له كم ؟ فيقول صاعا من تمر، أو مدين من شعير.
قال فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا (1) فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقى.
قد فعل ذلك
غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ قال قلنا أنت أعلم قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف (2) خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري [ والنساء ] فيمن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر (3) بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شبابا أحداثا -: يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان.
قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فاحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود.
قلت: وقد قدمنا في قدوم تبع اليماني وهو أبو كرب تبان أسعد إلى المدينة ومحاصرته إياها وأنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له إنه لا سبيل لك عليها، أنها مهاجر بني يكون في آخر الزمان فثناه ذلك عنها.
وقد روى أبو نعيم في الدلائل من طريق الوليد بن مسلم حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده.
قال قال عبد الله بن سلام: إن
__________
(1) في سيرة ابن هشام ودلائل البيهقي: حرتنا.
(2) أتوكف: أنتظر خروجه واستشعر ; وفي الدلائل: أتوقع.
أظل زمانه أي أشرف وقرب.
(3) المراد هنا حين غزا صلى الله عليه وسلم بني قريظة عقب منصرفه من غزوة الخندق.
الله لما أراد هدى زيد بن سعية قال زيد لم يبق شئ من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم، حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
قال فكنت أتلطف له لان أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا في ثمرة، قال فلما حل الاجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه - وهو في جنازة مع أصحابه - ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي ؟ فوالله ما علمتكم بني
عبد المطلب لمطل، قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير.
ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى ؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم.
ثم قال: " أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الاداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه.
وزد عشرين صاعا من ثمر " فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه.
وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، عام تبوك رحمه الله.
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله: إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الانصاري عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس.
قال حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي (1) وكان أبي دهقان (2) قريته وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية، حتى كنت قطن (3) النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
قال وكانت لابي ضيمة عظيمة، قال فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد.
ثم قال لي ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي، وشغلتني عن كل شئ من أمري.
قال فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون.
وكنت لا أدري ما أمر الناس، لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم.
وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها.
ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين ؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن أمره كله.
فلما جئت قال: أي بني أين كنت ألم أكن أعهد إليك ما عهدته ؟ قال قلت
__________
(1) جي: اسم مدينة ناحية أصبهان القديمة، وهي الآن خراب منفردة، وتسمى الآن عند العجم شهرستان وعند المحدثين المدينة.
معجم البلدان 2 / 202 وفي رواية أنه من رامهرمز فلعله ولد بها ونشأ في جى كما في دلائل أبي
نعيم (213).
(2) الدهقان: معربة وهو شيخ القرية، العارف بالفلاحة وما يصلح الارض من الشجر يلجأ إليه في معرفة ذلك.
(3) قطن النار: خادمها الذي يخدمها ويمنعها من أن تخبو.
يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
قال قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا.
قال فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته، قال وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم.
قال: فقدم عليهم ركب من الشام فجاؤوني (1) النصارى فأخبروني بهم.
فقلت [ لهم ] إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم.
فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما ؟ قالوا الاسقف في الكنيسة.
قال فجئته فقلت له: إني رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، فأصلي معك.
قال ادخل، فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال وابغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع.
ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه.
فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا.
قال فقالوا لي: وما علمك بذلك ؟ قال فقلت لهم أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا [ عليه ].
قال فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا: لا ندفنه أبدا قال فصلبوه ورجموه بالحجارة.
وجاؤوا برجل آخر فوضعوه مكانه.
قال سلمان فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس، أرى أنه أفضل منه [ و ] أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا [ منه ].
قال فأحببته حبا لم أحب شيئا قبله مثله.
قال فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة فقلت له إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم
أحبه شيئا قبلك وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني به ؟ قال أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه.
لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فالحق به.
قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل.
فقلت [ له ]: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره، فقال لي أقم عندي.
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني ؟ قال يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين (2) وهو فلان فالحق به، فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته
__________
(1) كذا في الاصل والنسخ المطبوعة ; وفي سيرة ابن هشام تجار من النصارى، وفي دلائل البيهقي: ناس تجارتهم.
(2) نصيبين: مدينة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام بينها وبين الموصل ستة أيام.
خبري وما أمرني به صاحباي.
فقال أقم عندي فأقمت عنده.
فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصي بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصي بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني ؟ قال يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية (1) من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه.
فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري ; فقال أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم.
قال واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، قال ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان.
ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني ؟ قال أي بني، والله ما أعلم أصبح [ اليوم ] أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي، مبعوث بدين إبراهيم يحرج
بأرض العرب مهاجره إلى الارض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.
ثم مربي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا نعم فاعطيتموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.
فبينا أنا عنده إلى قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها، فأقمت بها وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل.
وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة (2).
والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء (3) على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.
قال سلمان فلما سمعتها أخذتني الرعدة حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ قال فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة.
ثم قال مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك، قال فقلت لا شئ إنما أردت أن استثبته عما قال.
قال وقد كان عندي شئ قد جمعته فلما أمسيت أخذته.
ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء - فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شئ كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.
قال فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه " كلوا " وأمسك يده
__________
(1) عمورية: بلد في بلاد الروم غزاه المعتصم.
وسميت بعمورية بنت الروم بن اليفز بن سام بن نوح.
(2) قيلة: بنت كاهل بعد عذرة..من قضاعة أم الاوس والخزرج.
(3) قباء: اسم بئر عرفت القرية بها، وتقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة.
فلم يأكل، فقلت في نفسي هذه واحدة ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة.
ثم جئته فقلت له إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها.
قال فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال فقلت في نفسي هاتان ثنتان.
قال ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان (1) وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه.
ثم استدبرته أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شئ وصف لي.
فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحول " فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يابن عباس.
فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذاك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.
قال سلمان.
ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاتب يا سلمان " فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير (2) وأربعين أوقية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " لاصحابه " أعينوا أخاكم " فأعانوني في النخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية والرجل بعشرة (3).
يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي ".
قال: ففقرت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها.
فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة (4).
فأديت النخل وبقي علي المال.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن.
فقال " ما فعل الفارسي المكاتب ؟ " قال فدعيت له قال " خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان " قال قلت: وأين تقع هذه مما على يارسول الله ؟ قال: " خذها فإن الله سيؤدي بها عنك " قال فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعتق سلمان.
فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرا ثم لم يفتني معه مشهد (5).
__________
(1) في سيرة ابن هشام والبيهقي: وعلي شملتان لي.
والشملة: الكساء الغليظ يشتمل به الانسان، أي يلتحف به.
(2) كذا في الاصول: أبي بالحفر والغرس يقال فقرت الارض إذا حفرتها، وفي النهاية: فقير النخلة: حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها.
(3) الصواب بعشر (سيرة ابن هشام - دلائل البيهقي).
(4) في الروض الانف: أن سلمان غرس ودية واحدة بيده وغرس الباقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان.
(ابن سيد الناس) - البخاري.
(5) خبر إسلام سلمان الفارسي في طبقات ابن سعد، ودلائل النبوة لابي نعيم (213) ومسند أحمد 5 / 438 تاريخ الاسلام للذهبي (2 / 52) تهذيب تاريخ دمشق (6 / 192) والخصائص الكبرى للسيوطي (1 / 45) عيون الاثر (60 / 68).
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حسب عن رجل من عبد القيس عن سلمان أنه قال لما قلت وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله ؟ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه، ثم قال: " خذها فأوفهم منها " فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره أن صاحب عمورية قال له: إيت كذا وكذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلان بين غيضتين (1) يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الاسقام فلا يدعو لاحد منهم إلا شفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الاخرى.
فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه.
قال فتناولته فقال: من هذا ؟ والتفت إلي قال قلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، قال إنك لتسأل عن شئ ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته فهو يحملك عليه.
ثم دخل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: " لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم " هكذا وقع في هذه الرواية.
وفيها رجل مبهم وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة.
وقد قيل إنه الحسن بن عمارة ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبد العزيز وسلمان رضي الله عنه.
قوله لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم غريب جدا بل منكر.
فإن الفترة أقل ما قيل فيها انها أربعمائة سنة، وقيل ستمائة سنة بالشمسية، وسلمان أكثر ما قيل إنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وحكى العباس ابن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش مائتين وخمسين سنة.
واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة والله أعلم.
والظاهر أنه قال لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن بالصواب.
وقال السهيلي: الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف وإن صح لم يكن فيه نكارة.
لان ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعدما رفع فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل وبعث الحواريين بعد ذلك.
قال وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مرارا ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام وإذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي (2) في كتاب دلائل النبوة قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير عن
__________
(1) الغيضة: الشجر الملتف.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 92.
محمد بن إسحاق كما تقدم ورواها أيضا عن الحاكم عن الاصم عن يحيى بن أبي طالب.
حدثنا علي بن عاصم حدثنا حاتم بن أبي صفرة (2) عن سماك بن حرب عن يزيد (2) بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه.
فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز وكان له أخ أكبر منه غني وكان سلمان فقيرا في كنف أخيه، وأن ابن دهقانها كان صاحبا له وكان يختلف معه إلى معلم لهم وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم فسأله سلمان أن
يذهب به معه إليهم فقال له إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي، فالتزم له أن لا يكون منه شئ يكرهه فذهب به معه فإذا هم ستة - أو سبعة - كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته أيده بالمعجزات.
وقالوا له يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دينه.
ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم ثم لزمهم سلمان بالكلية ثم أجلاهم ملك تلك البلاد وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه واحتبس الملك ابنه عنده وعرض سلمان دينهم وعلى أخيه الذي هو أكبر منه فقال إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم فخرجوا حتى أتوا واديا بين جبال فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم واجتمعوا إليهم وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم ويسألونهم عني فيثنون علي خيرا، وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو أهله وذكر الرسل وما أيدوا به وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبد الله ورسوله وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه قال فكان يصوم النهار ويقوم الليل من الاحد إلى الاحد فيخرج إليهم ويعظهم ويأمرهم وينهاهم فمكث على ذلك مدة طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه قال فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الاحد قال فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من تهامة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم [ النبوة ] وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت له وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال وإن أمرك فإن الحق فيما يجئ به ورضي الرحمن فيما قال.
ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس وأن صاحبه صلى فيه هاهنا وهاهنا ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه فتركه سلمان حينا آخر أزيد مما قال ليستريح، فلما استيقظ ذكر
__________
(1) كذا في الاصل، والصواب كما في الدلائل حاتم بن أبي صغيرة، وهو أبو يونس البصري، وأبو صغيرة اسمه مسلم وهو جده لامه وقيل زوج أمه، ثقة / التقريب 1 / 137.
(2) كذا في الاصل وفي الدلائل: زيد بن صوحان.
الله ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد فقال يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئا وها أنا أسألك فنظر فلم يجد أحدا فأخذ بيده وقال قم بسم الله فقام وليس به بأس ولا قلبة كأنما نشط من عقال.
فقال لي يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم، فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه ولم أدر أين ذهب وكلما سألت عنه قوما قالوا أمامك حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بي بلادهم.
فباعوني فاشترتني امرأة من الانصار فجعلتني في حائط لها وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال صاحبه، ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة فلما رآه آمن من ساعته.
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره الذي جرى له.
قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق فاشتراه من سيدته فأعتقه، قال ثم سألته يوما عن دين النصارى فقال: لا خير فيهم.
قال فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) [ المائدة: 82 ] فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت وأنا خائف فجلست بين يديه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) الآيات.
ثم قال: " يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين " فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك.
فقلت له: فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال: نعم، فاتركه فإن الحق وما يرضى الله فيما يأمرك.
وفي هذا السياق غرابة كثيرة وفيه
بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق وطريق محمد بن إسحاق أقوى إسنادا وأحسن اقتصاصا وأقرب إلى ما رواه البخاري في صحيحه من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر، من رب إلى رب، أي من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله والله أعلم.
قال السهيلي: تداوله ثلاثون سيدا من سيد إلى سيد، فالله أعلم.
وكذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في الدلائل وأورد لها أسانيد وألفاظا كثيرة، وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة فالله أعلم.
ذكر أخبار غريبة في ذلك.
قال أبو نعيم في الدلائل: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي (1) حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري حدثنا عباد بن كسيب عن أبيه عن أبي
__________
(1) هو ابو بكر محمد بن زكريا بن دينار الغلابي البصري يعرف بزكرويه.
عتوارة الخزاعي عن سعير بن سوادة العامري قال كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول لا أبقى من البلاد مسرحا أرجوا ربحا في متجر إلا أتيته، فانصرفت من الشام بحرث وأناث أريد به كبة (1) الموسم ودهماء العرب، فدخلت مكة بليل مسدف فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل فرفعت رأسي فإذا قباب مسامتة شعف الجبال، مضروبة بأنطاع الطائف وإذا جزر تنحر وأخرى تساق، وإذا أكلة وحثثة على الطهاة يقولون: ألا عجلوا ألا عجلوا، وإذا رجل يجهر على نشز من الارض، ينادي يا وفد الله ميلوا إلى الغداء.
وأنيسان على مدرجة يقول: يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء، فجهرني (2) ما رأيت فأقبلت أريد عميد القوم، فعرف رجل الذي بي، فقال أمامك، وإذا شيخ كأن في خديه الاساريع (3)، وكأن الشعرى توقد من جبينه، قد لاث على رأسه عمامة سوداء قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم.
قال في بعض الروايات تحته كرسي سماسم (4) ومن دونها نمرقة بيده قضيب متخصر به حوله شمايخ جلس
نواكس الاذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة.
وقد كان نمي إلي خبر من أخبار الشام أن النبي الامي هذا أوان نجومه، فلما رأيته ظننته ذلك.
فقلت السلام عليك يارسول الله.
فقال: مه مه، كلا وكأن قد وليتني إياه فقلت من هذا الشيخ ؟ فقالوا هذا أبو نضلة (5)، هذا هاشم بن عبد مناف، فوليت وأنا أقول هذا والله المجد لا مجد آل جفنة - يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة -.
وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة يعني إطعام الحجيج زمن الموسم.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا علي بن قتيبة الخراساني حدثنا خالد بن الياس عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده.
قال سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال.
بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز وجمتي تضرب منكبي فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغيير وأنا يومئذ سيد قومي فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون ؟ هل رابه من حدثان الدهر شئ ؟ فقلت لها بلى ! وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمني، ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته ولم أفعل لاني [ كنت ]
__________
(1) كبة: الزحام.
(2) جهرني: راعني.
(3) الاساريع: خطوط وطرائق ; وقد تكون: الدود بيض حمر الرؤوس واحدتها أسروع ويسروع (قاموس محيط (سرع).
(4) سماسم: الاولى عيدان السمسم.
والثانية خشب أسود.
(5) نضلة أحد ابناء هاشم.