كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
سورة الجن
وهي عشرون وثمان آيات مكيةقُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَأامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس قديماً وحديثاً في ثبوت الجن ونفيه فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره وذلك لأن أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة ثم قال وهذا شرح للاسم فقوله وهذا شرح للاسم يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية وزعموا أن الأرواح السفلية أسرع إجابة إلا أنها أضعف وأما الأرواح الفلكية فهي أبطأ إجابة إلا أنها أقوى واختلف المثبتون على قولين فمنهم من زعم أنها ليست أجساماً ولا حالة في الأجسام بل هي جواهر قائمة بأنفسها قالوا ولا يلزم من هذا أن يقال إنها تكون مساوية لذات الله لأن كونها ليست أجساماً ولا جسمانية سلوب والمشاركة في السلوب لا تقتضي المساواة في الماهية قالوا ثم إن هذه الذوات بعد اشتراكها في هذا السلب أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة محبة للشرور والآفات ولا يعرف عدد أنواعهم وأصنافهم إلا الله قالوا وكونها موجودات مجردة لا يمنع من كونها عالمة بالخبريات قادرة على الأفعال فهذه الأرواح يمكنها أن تسمع وتبصر وتعلم الأحوال الخبرية وتفعل الأفعال المخصوصة ولما ذكرنا أن ماهياتها مختلفة لا جرم لم يبعد أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدر البشر ولا يبعد أيضاً أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم وكما أنه دلت الدلائل الطبية على أن المتعلق الأول للنفس الناطقة التي ليس الإنسان إلا هي هي الأرواح وهي أجسام
بخارية لطيفة تتولد من ألطف أجزاء الدم وتتكون في الجانب الأيسر من القلب ثم بواسطة تعلق النفس بهذه الأرواح تصير متعلقة بالأعضاء التي تسري فيها هذه الأرواح لم يبعد أيضاً أن يكون لكل واحد من هؤلاء الجن تعلق بجزء من أجزاء الهواء فيكون ذلك الجزء من الهواء هو المتعلق الأول لذلك الروح ثم بواسطة سيران ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل لتلك الأرواح تعلق وتصرف في تلك الأجسام الكثيفة ومن الناس من ذكر في الجن طريقة أخرى فقال هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالاً بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق أن حدث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن فسبب تلك المشاكلة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما لهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن الجنسية علة الضم فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكاً وتلك الإعانة إلهاماً وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطاناً وتلك الإعانة وسوسة
والقول الثاني في الجن أنهم أجسام ثم القائلون بهذا المذهب اختلفوا على قولين منهم من زعم أن الأجسام مختلفة في ماهياتها إنما المشترك بينها صفة واحدة وهي كونها بأسرها حاصلة في الحيز والمكان والجهة وكونها موصوفة بالطول والعرض والعمق وهذه كلها إشارة إلى الصفات والاشتراك في الصفات لا يقتضي الإشتراك في تمام الماهية لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد قالوا وليس لأحد أن يحتج على تماثل الأجسام بأن يقال الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد وحقيقة واحدة فيلزم أن لا يحصل التفاوت في ماهية الجسم من حيث هو جسم بل إن حصل التفاوت حصل في مفهوم زائد على ذلك وأيضاً فلأنه يمكننا تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف والعلوي والسفلي ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فالأقسام كلها مشتركة في الجسمية والتفاوت إنما يحصل بهذه الصفات وهي اللطافة والكثافة وكونها علوية وسفلية قالوا وهاتان الحجتان ضعيفتان
أما الحجة الأولى فلأنا نقول كما أن الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد وحقيقة واحدة فكذا العرض من حيث إنه عرض له حد واحد وحقيقة واحدة فيلزم منه أن تكون الأعراض كلها متساوية في تمام الماهية وهذا مما لا يقوله عاقل بل الحق عند الفلاسفة أنه ليس للأعراض ألبتة قدر مشترك بينها من الذاتيات إذا لو حصل بينها قدر مشترك لكان ذلك المشترك جنساً لها ولو كان كذلك لما كانت التسعة أجناساً عالية بل كانت أنواع جنس واحد إذا ثبت هذا فنقول الأعراض من حيث إنها أعراض لها حقيقة واحدة ولم يلزم من ذلك أن يكون بينها ذاتي مشترك أصلاً فضلاً عن أن تكون متساوية في تمام الماهية فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجسم كذلك فإنه كما أن الأعراض مختلفة في تمام الماهية ثم إن تلك المختلفات متساوية في وصف عارض وهو كونها عارضة لموضوعاتها فكذا من الجائز أن تكون ماهيات الأجسام مختلفة في تمام ماهياتها ثم إنها تكون متساوية في وصف عارض وهو كونها مشاراً إليها بالحس وحاصلة في الحيز والمكان وموصوفة بالأبعاد الثلاثة فهذا الاحتمال لا دافع له أصلاً
وأما الحجة الثانية وهي قولهم إنه يمكن تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف فهي أيضاً منقوضة بالعرض فإنه يمكن تقسيم العرض إلى الكيف والكم ولم يلزم أن يكون هناك قدر مشترك من الذاتي فضلاً
عن التساوي في كل الذاتيات فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا أيضاً كذلك إذا ثبت أنه لا امتناع في كون الأجسام مختلفة ولم يدل دليل على بطلان هذا الاحتمال فحينئذ قالوا لا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الهواء في الماهية ثم تكون تلك الماهية تقتضي لذاتها علماً مخصوصاً وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة وعلى هذا التقدير يكون القول بالجن ظاهر الاحتمال وتكون قدرتها على التشكل بالأشكال المختلفة ظاهرة الاحتمال
القول الثاني قول من قال الأجسام متساوية في تمام الماهية والقائلون بهذا المذهب أيضاً فرقتان
الفرقة الأولى زعموا أن البنية ليست شرطاً للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية قالوا ولو كانت البنية شرطاً للحياة لكان إما أن يقال إن الحياة الواحدة قامت بمجموع الأجزاء أو يقال قام بكل واحد من الأجزاء حياة على حدة والأول محال لأن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة دفعة واحدة غير معقول والثاني أيضاً باطل لأن الأجزاء التي منها تألف الجسم متساوية والحياة القائمة بكل واحد منها مساوية للحياة القائمة بالجزء الآخر وحكم الشيء حكم مثله فلو افتقر قيام الحياة بهذا الجزء إلى قيام تلك الحياة بذلك الجزء لحصل هذا الافتقار من الجانب الآخر فيلزم وقوع الدور وهو محال وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ ثبت أن قيام الحياة بهذا الجزء لا يتوقف على قيام الحياة الثانية بذلك الجزء الثاني وإذا بطل هذا التوقف ثبت أنه يصح كون الجزء الواحد موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة وبطل القول بأن البنية شرط قالوا وأما دليل المعتزلة وهو أنه لا بد من البنية فليس إلا الاستقراء وهو أنا رأينا أنه متى فسدت البنية بطلت الحياة ومتى لم تفسد بقيت الحياة فوجب توقف الحياة على حصول البنية إلا أن هذا ركيك فإن الاستقراء لا يفيد القطع بالوجوب فما الدليل على أن حال من لم يشاهد كحال ما شوهد وأيضاً فلأن هذا الكلام إنما يستقيم على قول من ينكر خرق العادات أما من يجوزها فهذا لا يتمشى على مذهبه والفرق بينهما في جعل بعضها على سبيل العادة وجعل بعضها على سبيل الوجوب تحكم محض لا سبيل إليه فثبت أن البنية ليست شرطاً في الحياة وإذا ثبت هذا لم يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً بأمور كثيرة وقدرة على أشياء شاقة شديدة وعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كانت أجزاؤهم كبيرة أو صغيرة
القول الثاني أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضراً والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة وتكون الحاسة سليمة ثم مع هذا لا يحصل الإدراك أو يكون هذا ممتنعاً عقلاً أما الأشعري وأتباعه فقد جوزوه وأما المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلاً والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية أما العقلية فأمران الأول أنا نرى الكبير من البعد صغيراً وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجباً الثاني أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر
أو لا تكون فإن كان الأول يلزم الدور لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضاً رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء فيقع الدور وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجباً بل جائزاً وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة والجبال ياقوتاً وزبرجداً أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر ثم كما فتحت العين أعدمها الله عجزوا عن الفرق والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات فوهموا أن بعضها واجبة وبعضها غير واجبة ولم يجدوا قانوناً مستقيماً ومأخذاً سليماً في الفرق بين البابين فتشوش الأمر عليهم بل الواجب أن يسوى بين الكل فيحكم على الكل بالوجوب كما هو قول الفلاسفة أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري فأما التحكم في الفرق فهو بعيد إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها وإن كانوا حاضرين هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة والجن أيضاً كذلك وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة فإذاً يجب في الملك والجن أن يكون كذلك ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبداً وهم الكرام الكاتبون والحفظة ويحضرون أيضاً عند قبض الأرواح وقد كانوا يحضرون عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أحداً من القوم ما كان يراهم وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحداً فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم وإن كانوا موصفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم إن البنية شرط الحياة وإن قالوا إنها أجسام لطيفة وحية ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة فهذا إنكار لصريح القرآن وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلاً عن حجة مبينة فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات وبالله التوفيق
المسألة الثانية اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا
فالقول الأول وهو مذهب ابن عباس أنه عليه السلام ما رآهم قال إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة فلما بعث الله محمداً عليه السلام حرست السماء وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا والله هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ
فأخبر الله تعالى محمداً عليه السلام عن ذلك الغيب وقال قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ كذا وكذا قال وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي فإن قيل الذين رموا بالشهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع قلنا فيه وجهان الأول أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر الثاني أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم شياطين كما قيل شياطين الجن والإنس فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة الله واختلفوا في أن أولئك الجن الذين سمعوا القرآن من هم فروى عاصم عن ذر قال قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسمعوا قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم انصرفوا فذلك قوله وَإِذَا صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ ( الأحقاف 29 ) وقيل كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم
القول الثاني وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي فسكتوا ثم قال الثانية فسكتوا ثم قال الثالثة فقال عبدالله قلت أنا أذهب معك يا رسول الله قال فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب خط علي خطاً فقال لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه فغاب عن بصري فقمت فأومأ إلي بيده أن أجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم وفي رواية أخرى فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنت قال أنا نبي الله قالوا فمن يشهد لك على ذلك قال هذه الشجرة تعالي يا شجرة فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه فقال على ماذا تشهدين لي قالت أشهد أنك رسول الله قال اذهبي فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت قال ابن مسعود فلما عاد إلي قال أردت أن تأتيني قلت نعم يا رسول الله قال ما كان ذلك لك هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر
واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات وطريق التوفيق بين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه أحدها لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود وثانيها أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم وقراءة القرآن عليهم إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا وأي شيء فعلوا فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا وثالثها أن الواقعة كانت مرة واحدة وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ وكان كذا وكذا فأوحى الله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما قالوه لأقوامهم وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب
المسألة الثالثة اعلم أن قوله تعالى قُلْ أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن وفيه فوائد إحداها أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس فقد بعث إلى الجن وثانيها أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول وثالثها أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس ورابعها أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا وخامسها أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس
المسألة الرابعة الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم الوحي الوحي والقراءة المشهورة أَوْحَى بالألف وفي رواية يونس وهرون عن أبي عمرو وَحْى ٌ بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال وحي إليه وأوحى إليه وقرىء أحي بالهمز من غير واو وأصله وحي فقلبت الواو همزة كما يقال أعد وأزن نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ ( المرسلات 11 ) وقوله تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن قوله أَنَّهُ اسْتَمَعَ بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل أُوحِى َ فهو كقوله وَأُوحِى َ إِلَى هَاذَا الْقُرْءانُ ( الأنعام 19 ) وأجمعوا على كسر إنا في قوله إِنَّا سَمِعْنَا لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم ههنا قراءتان إحداهما أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح وما كان من قول الجن كسر وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ( الجن 18 ) وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ ( الجن 19 ) وثانيهما فتح الكل والتقدير فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي فإن قيل ههنا إشكال من وجهين أحدهما أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال وآمنا بأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً والثاني وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال آمنا به وزيد بل يقال آمنا به وبزيد والجواب عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان
المسألة الثانية نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهوداً وذكر الحسن أن فيهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء
النوع الأول مما حكوه قوله تعالى فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( الأحقاف 29 ) قُلْ أُوحِى َ أي خارجاً عن حد أشكاله ونظائره و ( عجباً ) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ أي إلى الصواب وقيل إلى التوحيد يَهْدِى إِلَى أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً أي ولن نعود إلى ما كنا
عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين
النوع الثاني مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد فقالوا
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ً وَلاَ وَلَداً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في الجد قولان الأول الجد في اللغة العظمة يقال جد فلان أي عظم ومنه الحديث ( كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا ) أي جد قدره وعظم لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص
القول الثاني الجد الغنى ومنه الحديث ( لا ينفع ذا الجد منك الجد ) قال أبو عبيدة أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وكذلك الحديث الآخر ( قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون ) يعني أصحاب الغنى في الدنيا فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد
وعندي فيه قول ثالث وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازاً عن الأصل فقوله تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد
المسألة الثانية قرىء يَقُولُ رَبَّنَا بالنصب على التمييز و جَدُّ رَبّنَا بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولاً عن الشرك وثانياً عن دين النصارى
النوع الثالث مما ذكره الجن قوله تعالى
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً
السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولاً هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه
واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد وليس في اللفظ ما يدل على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم فمجاوزة الحد في النفي تفضي إلى التعطيل ومجاوزة الحد في الإثبات تفضي إلى التشبيه وإثبات الشريك والصاحبة والولد وكلا الأمرين شطط ومذموم
النوع الرابع قوله تعالى
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الآية أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال الكذب على الله فلما
سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد وأنهم إنما تخلصوا عن تلك الظلمات ببركة الاستدلال والاحتجاج
المسألة الثانية قوله كَذِبًا بم نصب فيه وجوه أحدها أنه وصف مصدر محذوف والتقدير أن لن تقول الإنس والجن على الله قولاً كذباً وثانيها أنه نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول وثالثها أن من قرأ أَن لَّن تَقُولَ وضع كَذِبًا موضع تقوّلاً ولم يجعله صفة لأن التقوّل لا يكون إلا كذباً
النوع الخامس قوله تعالى
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فيه قولان الأول وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه فيبيت في جوار منهم حتى يصبح وقال آخرون كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما تفزعهم الجن فيهربون القول الثاني المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً لكن من شر الجن مثل أن يقول الرجل أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن وهذا ضعيف فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً أما قوله فَزَادوهُمْ رَهَقاً قال المفسرون معناه زادوهم إثماً وجرأة وطغياناً وخطيئة وغياً وشراً كل هذا من ألفاظهم قال الواحدي الرهق غشيان الشيء ومنه قوله تعالى وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ( يونس 26 ) وقوله تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 41 ) ورجل مرهق أي يغشاه السائلون ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترؤا عليهم فزادوهم ظلماً وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغياناً فيقولون سدنا الجن والإنس والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها
النوع السادس قوله تعالى
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً
اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي فإن كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض كان التقدير وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن وإن كانا من الوحي كان التقدير وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحداً للرسالة على ما هو مذهب البراهمة واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق
النوع السابع قوله تعالى
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال لمسه والتمسه ومثله الجس يقال جسوه بأعينهم وتجسسوه والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شداداً
النوع الثامن قوله تعالى
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاٌّ نَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً
أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب وفي قوله شِهَاباً رَّصَداً وجوه أحدها قال مقاتل يعني رمياً من الشهب ورصداً من الملائكة وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهاباً ورصداً لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد وثانيها قال الفراء أي شهاباً قد أرصد له ليرجم به وعلى هذا الرصد نعت للشهاب وهو فعل بمعنى مفعول وثالثها يجوز أن يكون رصداً أي راصداً وذلك لأن الشهاب لما كان معداً له فكأن الشهاب راصد له ومترصد له واعلم أنا قد استقصينا في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فإن قيل هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ويدل عليه أمور أحدها أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث وثانيها قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ذكر في خلق الكواكب فائدتين التزيين ورجم الشياطين وثالثها أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية قال أوس بن حجر فانقض كالدريّ يتبعه
نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع يرد علينا العير من دون إلفه
أو الثور كالدرى يتبعه الدم
وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما ( بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية فقالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم ) الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ قالوا فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث فما معنى تخصيصها بمحمد عيه الصلاة والسلام والجواب مبني على مقامين
المقام الأول أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وأبي بن كعب روي عن ابن عباس قال كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا
الكلمة زادوا فيها تسعاً أما الكلمة فإنها تكون حقة وأما الزيادات فتكون باطلة فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منعوا مقاعدهم ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائماً يصلي الحديث إلى آخره وقال أبي بن كعب لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول الله فرمي بها فرأت قريش أمراً ما رأوه قبل ذلك فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك بعض أكابرهم فقال لم فعلتم ما أرى قالوا رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء فقال اصبروا فإن تكن نجوماً معروفة فهو وقت فناء الناس وإن كانت نجوماً لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيراً حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبدالله ويدعي أنه نبي مرسل وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعناً منهم في هذه المعجزة وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة
المقام الثاني وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ( الجن 8 ) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية
النوع التاسع قوله تعالى
وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً
وفيه قولان أحدهما أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير والثاني لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا
النوع العاشر قوله تعالى
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من فيه قولان الأول أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين والثاني أن المراد من لا يكون كاملاً في الصلاح فيدخل فيه المقتصدون والكافرون والقدة من قدد كالقطعة من قطع ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق وفي تفسير الآية وجوه أحدها المراد كنا ذوي طرائق قدداً أي ذوي مذاهب مختلفة قال السدي
الجن أمثالكم فيهم مرجئة وقدرية وروافض وخوارج وثانيها كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وثالثها كانت طرائقنا طرائق قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه
النوع الحادي عشر قوله تعالى
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً
الظن بمعنى اليقين و فِى الاْرْضِ و هَرَباً فيه وجهان الأول أنهما حالان أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء والثاني لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ولن نعجزه هرباً إن طلبنا
النوع الثاني عشر قوله تعالى
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً
لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى أي القرآن قال تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) بِهِ إِنَّهُ أي آمنا بالقرآن فَلاَ يَخَافُ فهو لا يخاف أي فهو غير خائف وعلى هذا يكون الكلام في تقدير جملة من المبتدأ والخبر أدخل الفاء عليها لتصير جزاء للشرط الذي تقدمها ولولا ذاك لقيل لا يخف فإن قيل أي فائدة في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال لا يخف قلنا الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك فكأنه قيل فهو لا يخاف فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص لذلك دون غيره لأن قوله فهو لا يخاف معناه أن غيره يكون خائفاً وقرأ الأعمش فَلاَ يُخَفَّفُ وقوله تعالى بَخْساً وَلاَ رَهَقاً البخس النقص والرهق الظلم ثم فيه وجهان الأول لا يخاف جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا ( رهق ) ظلم أحداً فلا يخاف جزاءهما الثاني لا يخاف أن يبخس بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ
النوع الثالث عشر قوله تعالى
( 14 )
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً
القاسط الجائر والمقسط العادل وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق وعن سعيد بن جبير أن الحجاج قال له حين أراد قتله ما تقول في قال قاسط عادل فقال القوم ما أحسن ما قال حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج يا جهلة إنه سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ وقوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( الأنعام 1 ) تَحَرَّوْاْ رَشَداً أي قصدوا طريق الحق قال أبو عبيدة تحروا توخوا قال المبرد أصل التحري من قولهم ذلك أحرى أي أحق وأقرب وبالحري أن تفعل كذا أي يجب عليك
ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً
وفيه سؤالان
الأول لمَ ذكر عقاب القاسطين ولمْ يذكر ثواب المسلمين الجواب بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى تَحَرَّوْاْ رَشَداً ( الجن 14 ) أي توخوا رشداً عظيماً لا يبلغ كنهه إلا الله تعالى ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب
السؤال الثاني الجن مخلوقين من النار فكيف يكونون حطباً للنار الجواب أنهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحماً ودماً هكذا قيل وههنا آخر كلام الحسن
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَة ِ لاّسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه وههنا مسائل
المسألة الأولى ( أن ) مخففة من الثقيلة والمعنى وأوحي إليَّ أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا قال الواحدي وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل لا والسين في قوله أَن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً و عَلِمَ أَن سَيَكُونُ
المسألة الثانية الضمير في قوله اسْتَقَامُواْ إلى من يرجع فيه قولان قال بعضهم إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا وقال آخرون بل المراد الإنس واحتجوا عليه بوجهين الأول أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مجرى قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وقال القاضي الأقرب أن الكل يدخلون فيه وأقول يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة وجب أن يعم الحكم بعموم العلة
المسألة الثالثة الغدق بفتح الدال وكسرها الماء الكثير وقرىء بهما يقال غدقت العين بالكسر فهي غدقة وروضة مغدقة أي كثيرة الماء ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال أحدها أنه الغيث والمطر والثاني وهو قول أبي مسلم أنه إشارة إلى الجنة كما قال جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وثالثها أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا
المسألة الرابعة إن قلنا الضمير في قوله اسْتَقَامُواْ راجع إلى الجن كان في الآية قولان أحدهما لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ونظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ( المائدة 65 ) وقوله وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ ( المائدة 66 ) وقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ ( الطلاق 2 3 ) وقوله فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 12 ) وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق ونظيره قوله تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ
( الزخرف 33 ) واختار الزجاج الوجه الأول قال لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فهو كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضاً ابتلاء واختباراً حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان وأما الذين قالوا الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان عائدان فيه بعينه وههنا يكون إجراء قوله لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بقوله لِنَفْتِنَهُمْ على أنه تعالى يضل عباده والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال واستدلت المعتزلة باللام في قوله لِنَفْتِنَهُمْ على أنه تعالى إنما يفعل لغرض وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله وقوله تعالى وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ أي عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه يسلكه وقرىء بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذاباً والأصل نسلكه في عذاب كقوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 42 ) إلا أن هذه العبارة أيضاً مستقيمة لوجهين الأول أن يكون التقدير نسلكه في عذاب ثم حذف الجار وأوصل الفعل كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) والثاني أن يكون معنى نسلكه أي ندخله يقال سلكه وأسلكه والصعد مصدر صعد يقال صعد صعداً وصعوداً فوصف به العذاب لأنه ( يصعد فوق طاقة ) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ومنه قول عمر ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح يريد ما شق علي ولا غلبني وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعداً جبل في جهنم وهو صخرة ملساء فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها ثم يكلف الصعود مرة أخرى فهذا دأبه أبداً ونظير هذه الآية قوله تعالى سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( المدثر 17 )
النوع الثالث من جملة الموحى قوله تعالى
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً
وفيه مسائل
المسألة الأولى التقدير قل أوحي إلي أن المساجد لله ومذهب الخليل أن التقدير ولأن المساجد لله فلا تدعوا فعلى هذا اللام متعلقة ( بلا تدعوا أي ) فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ونظيره قوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ على معنى ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون أي لأجل هذا المعنى فاعبدون
المسألة الثانية اختلفوا في المساجد على وجوه أحدها وهو قول الأكثرين أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس فأمر الله المسلمين بالإخلاص والتوحيد وثانيها قال الحسن أراد بالمساجد البقاع كلها قال عليه الصلاة والسلام ( جعلت لي الأرض مسجداً ) كأنه تعالى قال الأرض كلها مخلوقة لله
تعالى فلا تسجدوا عليها لغير خالقها وثالثها روي عن الحسن أيضاً أنه قال المساجد هي الصلوات فالمساجد على هذا القول جمع مسجد بفتح الجيم والمسجد على هذا القول مصدر بمعنى السجود ورابعها قال سعيد بن جبير المساجد الأعضاء التي يسجد العبد عليها وهي سبعة القدمان والركبتان واليدان والوجه وهذا القول اختيار ابن الأنباري قال لأن هذه الأعضاء هي التي يقع السجود عليها وهي مخلوقة لله تعالى فلا ينبغي أن يسجد العاقل عليها لغير الله تعالى وعلى هذا القول معنى المساجد مواضع السجود من الجسد واحدها مسجد بفتح الجيم وخامسها قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما يريد بالمساجد مكة بجميع ما فيها من المساجد وذلك لأن مكة قبلة الدنيا وكل أحد يسجد إليها قال الواحدي وواحد المساجد على الأقوال كلها مسجد بفتح الجيم إلا على قول من يقول إنها المواضع التي بنيت للصلاة فإن واحدها بكسر الجيم لأن المواضع والمصادر كلها من هذا الباب بفتح العين إلا في أحرف معدودة وهي المسجد والمطلع والمنسك والمسكن والمنبت والمفرق والمسقط والمجزر والمحشر والمشرق والمغرب وقد جاء في بعضها الفتح وهو المنسك والمسكن والمفرق والمطلع وهو جائز في كلها وإن لم يسمع
المسألة الثالثة قال الحسن من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله لأن قوله فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه
النوع الرابع من جملة الموحى قوله تعالى
وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
اعلم أن عبدالله هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الجميع ثم قال الواحدي إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد كما في قوله يَوْمٍ يُحْشَرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً والأكثرون على أنه من جملة الموحى إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن وفي خلل ما هو كلام الجن مختلاً بعيداً عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن ومن جعله من كلام الجن كسرها ونحن نفسر الآية على القولين أما على قول من قال إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله كَادُواْ إلى من يعود فيه ثلاثة أوجه أحدها إلى الجن ومعنى قَامَ يَدْعُوهُ أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن فاستمعوا القراءة كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً وإعجاباً بما تلا من القرآن لأنهم رأوا مالم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث وهو قول قتادة لما قام عبدالله تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه وأما على قول من قال إنه من كلام الجن فالوجهان أيضاً عائدان فيه وقوله لِبَداً فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه ومنه قول زهير
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
وقرىء لِبَداً بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة وقرىء لِبَداً جمع لابد كسُجِّد وساجد وقرىء أيضاً لِبَداً بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور فإن قيل لم سمي محمداً بعبدالله وما ذكره برسول الله أو نبي الله قلنا لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبدالله لما اشتغل بعبودية الله فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
قرأ العامة قال على الغيبة وقرأ عاصم وحمزة قُلْ حتى يكون نظيراً لما بعده وهو قوله قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ ( الجن 21 ) قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى ( الجن 22 ) قال مقاتل إن كفار مكة قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا ) فأنزل الله قُلْ إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى وهذا حجة لعاصم وحمزة ومن قرأ قَالَ حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك أجابهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى فحكى الله ذلك عنه بقوله قَالَ أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم
قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً
إما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام لا أملك لكم غياً ولا رشداً ويدل عليه قراءة أبي ( غياً ولا رشداً ) ومعنى الكلام أن النافع والضار والمرشد والمغوي هو الله وإن أحداً من الخلق لا قدرة له عليه
قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
قوله تعالى قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدًا قال مقاتل إنهم قالوا اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك فقال الله له قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ
ثم قال تعالى وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ وحرزاً قال المبرد مُلْتَحَدًا مثل قولك منعرجاً والتحد معناه في اللغة مال فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض
إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً
قوله تعالى إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ذكروا في هذا الاستثناء وجوهاً أحدها أنه استثناء من قوله لا أَمْلِكُ ( الجن 21 ) أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله وقوله قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى ( الجن 22 ) جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى أنه تعالى إن أراد به سوءاً لم يقدر أحد أن يجيره منه وهذا قول الفراء وثانيها وهو قول الزجاج أنه نصب على البدل من قوله مُلْتَحَدًا ( الجن 22 ) والمعنى ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغاً أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحداً بل قال وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه ثالثها قال بعضهم ( إلا ) معناه إن ( لا ) ومعناه إن لا أبلغ بلاغاً كقولك ( إلا ) قياماً فقعوداً والمعنى إن لا أبلغ لم أجد ملتحداً فإن قيل المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام ( بلغوا عني بلغوا عني ) فلم قال ههنا بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ قلنا ( من ) ليست ( بصفة للتبلغ ) إنما هي بمنزلة ( من ) في قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ بمعنى بلاغاً كائناً من الله أما قوله تعالى وَرِسَالَاتِهِ فهو عطف على بَلاَغاً كأنه قال لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان
قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( المائدة 95 ) وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ ( البقرة 126 ) فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب ( الكشاف ) وقرىء فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( الأنفال 41 ) أي فحكمه أن لله خمسه
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً حملاً على معنى الجمع في ( من ) وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار قالوا وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها قالوا وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله أَبَدًا فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل أما ههنا ( فقد ) جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحاً في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات ونزيد ههنا وجوهاً أحدها أن تخصيص العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى ثم قال وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني جبريل فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ أي من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم وإذا كان ما ذكرنا محتملاً سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكماً لا تعلق له بها فيكون هذا الوعيد وعيداً على ترك التبليغ من الله ولا شك أن ترك التبليغ من الله أعظم الذنوب والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد وذكرها ههنا مقيدة بقيد الأبد فلا بد في هذا التخصيص من سبب ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا
الذنب صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً معناه أن هذه الحالة له لا لغيره وهذا كقوله لَكُمْ دِينَكُمْ أي لكم لا لغيركم وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر وهو أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي وذلك هو الكافر ونحن نقول بأن الكافر يبقى في النار مؤبداً وإنما قلنا إن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي لأن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه مثل أن يقال ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً تحت اللفظ وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ متناولاً لمن أتى بكل المعاصي والذي يكون كذلك هو الكافر فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير فسقط وجه الاستدلال بها فإن قيل كون الإنسان الواحد آتياً لجميع أنواع المعاصي محال لأن من المحال أن يكون قائلاً بالتجسم وأن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل وإذا كان ذلك محالاً فحمل الآية عليه غير جائز قلنا تخصيص العام بدليل العقل جائز فقولنا وَمَن يَعْصِ اللَّهَ يفيد كونه آتياً بجميع أنواع المعاصي ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلاً حصوله فيبقى متناولاً للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به
المسألة الثانية تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا تارك المأمور به عاص لقوله تعالى أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ( طه 93 ) لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) لا أَعْصِى لَكَ أمْراً ( الكهف 69 ) والعاصي مستحق للعقاب لقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً
فإن قيل ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له قلنا فيه وجهان الأول أنه متعلق بقوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والتقدير أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون ( عدده ) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة فَسَيَعْلَمُونَ أيهم أضعف ناصراً وأقل عدداً الثاني أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا واعلم أن نظير هذه الآية قوله في مريم حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ ( مريم 75 ) واعلم أن الكافر لا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة على ما قال مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) ويفر كل أحد منهم من صاحبه على ما قال يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( عبس 34 ) إلى آخره يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وأما المؤمنون فلهم العزة والكرامة والكثرة قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
( الرعد 23 24 ) والملك القدوس يسلم عليهم سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين أو في جانب الكفار
قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً
قال مقاتل لما سمعوا قوله حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ( الجن 24 ) قال النضر بن الحرث متى يكون هذا الذي توعدنا به فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ إلى آخره والمعنى أن وقوعه متيقن أما وقت وقوعه فغير معلوم وقوله أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً أي غاية وبعداً وهذا كقوله وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ( الأنبياء 109 ) فإن قيل أليس أنه قال ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد قلنا المراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم وأما معنى معرفة القرب القريب وعدم ذلك فغير معلوم
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً
ثم قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ لفظة ( من ) في قوله مِن رَّسُولٍ تبيين لمن ارتضى يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي يكون رسولاً قال صاحب ( الكشاف ) وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف الكرامات إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن
واعلم أن الواحدي يجوز الكرامات وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ونسبة الآية إلى الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله صاحب ( الكشاف ) وإن زعم أنها لا تدل على المنع من الإلهامات الحاصلة للأولياء فينبغي أن لا يجعلها دالة على المنع من الدلائل النجومية فأما التحكم بدلالتها على المنع من الأحكام النجومية وعدم دلالتها على الإلهامات الحاصلة للأولياء فمجرد التشهي وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه والذي تدل عليه أن قوله عَلَى غَيْبِهِ ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً ( الجن 25 ) يعني لا أدري وقت وقوع القيامة ثم قال بعده عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد وبالجملة فقوله عَلَى غَيْبِهِ لفظ مفرد مضاف فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه فإن قيل فإذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ تَنزِيلاً ( الفرقان 25 ) ولا شك أن الملائكة
يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة وأيضاً يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعاً كأنه قال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحداً ثم قال بعده لكن من ارتضى من رسول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به والاستحقار لدينه ومقالته
واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية أن لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات إلا الرسل والذي يدل عليه وجوه أحدها أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ويكون صادقاً فيه وثالثها أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء ثم إنها وقعت على وفق كلامها
قال مصنف الكتاب ختم الله له بالحسنى وأنا قد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخباراً على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها وقال لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً
ورابعها أنا نشاهد ( ذلك ) في أصحاب الإلهامات الصادقة وليس هذا مختصاً بالأولياء بل قد يوجد في السحرة أيضاً من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضاً في أكثر تلك الأخبار ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه والله أعلم
أما قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فالمعنى أنه يسلك من بين يدي من ارتضى للرسالة وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي حفظة من الملائكة يحفظونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغ ما أوحى به إليه ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونه ولا يضرونه وعن الضحاك ( ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ( الذين ) يتشبهون بصورة الملك )
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْءٍ عَدَداً
قوله تعالى لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ فيه مسائل
المسألة الأولى وحَّد الرسول في قوله إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( الجن 27 ) ثم جمع في قوله أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ونظيره ما تقدم من قوله فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ ( الجن 23 )
المسألة الثانية احتج من قال بحدوث علم الله تعالى بهذه الآية لأن معنى الآية ليعلم الله أن قد أبلغوا الرسالة ونظيره قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ( محمد 31 ) والجواب من وجهين الأول قال قتادة ومقاتل ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة وعلى هذا اللام في قوله لِيَعْلَمَ متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل أخبرناه بحفظ الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ الحق ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الرسول أن قد أبلغوا أي جبريل والملائكة الذين يبعثون إلى الرسل رسالات ربهم فلا يشك فيها ويعلم أنها حق من الله الثاني وهو اختيار أكثر المحققين أن المعنى ليعلم الله أن قد أبلغ الأنبياء رسالات ربهم والعلم ههنا مثله في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( آل عمران 142 ) والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم فيعلم ذلك منهم
المسألة الثالثة قرىء لِيَعْلَمَ على البناء للمفعول
أما قوله وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ فهو يدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات وأما قوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً فهو يدل على كونه عالماً بجميع الموجودات فإن قيل إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي وقوله كُلّ شَى ْء يدل على كونه غير متناه فلزم وقوع التناقض في الآية قلنا لا شك أن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي فأما لفظة كُلّ شَى ْء فإنها لا تدل على كونه غير متناه لأن الشيء عندنا هو الموجودات والموجودات متناهية في العدد وهذه الآية أحد ما يحتج به على أن المعدوم ليس بشيء وذلك لأن المعدوم لو كان شيئاً لكانت الأشياء غير متناهية وقوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً يقتضي كون تلك المحصيات متناهية فيلزم الجمع بين كونها متناهية وغير متناهية وذلك محال فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض
والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين
سورة المزمل عليه السلام
وهي عشرون آية مكيةياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
فيه مسألتان
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد بالمزمل النبي عليه السلام وأصله المتزمل بالتاء وهو الذي تزمل بثيابه أي تلفف بها فأدغم التاء في الزاي ونحوه المدثر في المتدثر واختلفوا لم تزمل بثوبه على وجوه أحدها قال ابن عباس أول ما جاءه جبريل عليه السلام خافه وظن أن به مساً من الجن فرجع من الجبل مرتعداً وقال زملوني فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال يا أيها المزمل وثانيها قال الكلبي إنما تزمل النبي عليه السلام بثيابه للتهيء للصلاة وهو اختيار الفراء وثالثها أنه عليه السلام كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة وقيل يا أيها النائم المتزمل بثوبه قم واشتغل بالعبودية ورابعها أنه كان متزملاً في مرط لخديجة مستأنساً بها فقيل له عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ كأنه قيل اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية وخامسها قال عكرمة يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله والزمل الحمل وازدمله احتمله
المسألة الثانية قرأ عكرمة الْمُزَّمّلُ و الْمُدَّثّرُ ( المدثر 1 ) بتخفيف الزاي والدال وتشديد الميم والثاء على أنه اسم فاعل أو مفعول فإن كان على اسم الفاعل كان المفعول محذوفاً والتقدير يا أيها المزمل نفسه والمدثر نفسه وحذف المفعول في مثل هذا المقام فصيح قال تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء أي أوتيت من كل شيء شيئاً وإن كان على أنه اسم المفعول كان ذلك لأنه زمل نفسه أو زمله غيره وقرىء ( يا أيها المتزمل ) على الأصل
قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً
وقوله تعالى قُمِ الَّيْلَ فيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله لقوله قُمِ الَّيْلَ وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ واختلفوا في سبب النسخ على وجوه أولها أنه كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها وثانيها أنه تعالى لما قال قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وشق عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر هذه السورة فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ( المزمل 20 ) وذلك في صدر الإسلام ثم قال ابن عباس وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة وقال في رواية أخرى إن إيجاب هذا كان بمكة ونسخه كان بالمدينة ثم نسخ هذا القدر أيضاً بالصلوات الخمس والفرق بين هذا القول وبين القول الأول أن في هذا القول نسخ وجوب التهجد بقوله فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ ( المزمل 20 ) ثم نسخ هذا بإيجاب الصلوات وفي القول الأول نسخ إيجاب التهجد بإيجاب الصلوات الخمس ابتداء وقال بعض العلماء التهجد ما كان واجباً قط والدليل عليه وجوه أولها قوله وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ ( الإسراء 79 ) فبين أن التهجد نافلة له لا فرض وأجاب ابن عباس عنه بأن المعنى زيادة وجوب عليك وثانيها أن التهجد لو كان واجباً على الرسول لوجب على أمته لقوله وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) وورود النسخ على خلاف الأصل وثالثها استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجباً وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله قُمِ الَّيْلَ وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب فلا بد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعاً للاشتراك والمجاز وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ أبو السمال قُمِ الَّيْلَ بفتح الميم وغيره بضم الميم قال أبو الفتح بن جني الغرض من هذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين فأي الحركات تحرك فقد حصل الغرض وحكى قطرب عنهم قم الليل وقل الحق برفع الميم واللام وبع الثوب ثم قال من كسر فعلى أصل الباب ومن ضم أتبع ومن فتح فقد مال إلى خفة الفتح
قوله تعالى إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول أن المراد بقوله إِلاَّ قَلِيلاً الثلث والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ( المزمل 20 ) فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً هو الثلث فإذاً قوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً
معناه قم ثلثي الليل ثم قال نّصْفَهُ والمعنى أو قم نصفه كما تقول جالس الحسن أو ابن سيرين أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت فتحذف واو العطف فتقدير الآية قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ويكون الثلث أقصى النقصان فيكون الواجب هو الثلث والزائد عليه يكون مندوباً فإن قيل فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد ترك الواجب لأنه تعالى قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف وأقل من الثلث فإذا كان الثلث واجباً كان عليه السلام تاركاً للواجب قلنا إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئاً قليلاً فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله ولذلك قال تعالى لهم عِلْمٍ أَلَّن تُحْصُوهُ ( المزمل 20 ) الوجه الثاني أن يكون قوله نّصْفَهُ تفسيراً لقوله قَلِيلاً وهذا التفسير جائز لوجهين الأول أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه وإذا ثبت هذا فنقول قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً معناه قم الليل إلا نصفه فيكون الحاصل قم نصف الليل ثم قال أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع ثم قال أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام النصف وبين أن يقوم ربع الليل وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لا بد منه هو قيام الربع والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ( المزمل 20 ) يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات فزال السؤال المذكور والله أعلم
قوله تعالى وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً قال الزجاج رتل القرآن ترتيلاً بينه تبييناً والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف ويوفي حقها من الإشباع قال المبرد أصله من قولهم ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير وقال الليث الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد ورتلت الكلام ترتيلاً إذا تملهت فيه وأحسنت تأليفه وقوله تعالى تَرْتِيلاً تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه مما لا بد منه للقارى ء
واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية ومن ابتهج بشيء أحب ذكره ومن أحب
شيئاً لم يمر عليه بسرعة فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة
إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
ذكروا في تفسير الثقيل وجوهاً أحدها وهو المختار عندي أن المراد من كونه ثقيلاً عظم قدره وجلالة خطره وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقل وثقيل وثاقل وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء قَوْلاً ثَقِيلاً يعني كلاماً عظيماً ووجه النظم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً فلا بد وأن تسعى في صيرورة نفسك مستعدة لذلك القول العظيم ولا يحصل ذلك الاستعداد إلا بصلاة الليل فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره والثناء عليه والتضرع بين يديه ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية والعوائق الجسمانية استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها وتهيأت للتجرد التام والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية فلما كان لصلاة الليل أثر في صيرورة النفس مستعدة لهذا المعنى لا جرم قال إني إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً فصير نفسك مستعدة لقبول ذلك المعنى وتمام هذا المعنى ما قال عليه الصلاة والسلام ( إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ) وثانيها قالوا المراد بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين عامة وعلى رسول الله خاصة لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته وحاصله أن ثقله راجع إلى ثقل العمل به فإنه لا معنى للتكليف إلا إلزام ما في فعله كلفة ومشقة وثالثها روى عن الحسن أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة وهو إشارة إلى كثرة منافعه وكثرة الثواب في العمل به ورابعها المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها حتى وضعت جرانها فلم تستطع أن تتحرك وعن ابن عباس كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه وعن عائشة رضي الله عنها ( رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقاً ) وخامسها قال الفراء قَوْلاً ثَقِيلاً أي ليس بالخفيف ولا بالسفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى وسادسها قال الزجاج معناه أنه قول متين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رزين وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان وسابعها قال أبو علي الفارسي إنه ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أسرارهم ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم وثامنها أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن على وجه الدهر كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وتاسعها أنه ثقيل بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله وعاشرها أنه ثقيل لكونه مشتملاً على المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق
إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
قوله تعالى إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ يقال نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة والإنشاء الإحداث فكل ما حدث ( فهو ناشىء ) فإنه يقال للذكر ناشىء وللمؤنث ناشئة إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان أحدهما أنها عبارة عن ساعات الليل والثاني أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل أما القول الأول فقال أبو عبيدة ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى فهي ناشئة بعد ناشئة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال الليل كله ناشئة روى ابن أبي مليكة قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل فقال الليل كله ناشئة وقال زين العابدين رضي الله عنه ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدىء سواد الليل القول الثاني هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل وذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها قالوا ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة ومنه ناشئة الليل وعندي فيه وجه ثالث وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات فلا تتفرغ للأحوال الروحانية فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات وتارة أنوار ومكاشفات وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه أو تخيلات أحوال عجيبة فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناساً كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل
أما قوله تعالى هِى َ أَشَدُّ أي مواطأة وملاءمة وموافقة وهي مصدر يقال واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطأة ومنه عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ( التوبة 37 ) أي ليوافقوا فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى مايراد من الخشوع والإخلاص وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق
المسألة الثانية قرىء أَشَدَّ بالفتح والكسر وفيه وجهان الأول قال الفراء أشد ثبات قدم لأن
النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار وهو من قولك اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه وفي الحديث ( اللهم أشدد وطأتك على مضر ) فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها واختار أبو عبيدة القراءة الأولى قال لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية فكأنه قال إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل وأيضاً الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم
قوله تعالى وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً فيه مسألتان
المسألة الأولى أَقْوَمُ قَلِيلاً قال ابن عباس أحسن لفظاً قال ابن قتيبة لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل
المسألة الثانية قرأ أنس ( وأصوب قيلا ) فقيل له يا أبا حمزة إنما هي وَأَقْوَمُ قِيلاً فقال أنس ( إن أقوم ) وأصوب وأهيأ واحد قال ابن جني وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ ( فحاسوا خلال الديار ) بالحاء غير المعجمة فقيل له إنما هو جاسوا فقال حاسوا وجاسوا واحدو أنا أقول يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيراً للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقاً لذلك المعنى ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه
إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال المبرد سبحاً أي تقلباً فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحاً لتقلبه بيديه ورجليه ثم في كيفية المعنى وجهان الأول إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني قال الزجاج أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه
المسألة الثانية قرىء سبخاً بالخاء المنقطة من فوق وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولاً بقيام الليل ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما الذكر والثاني التبتل أما الذكر فاعلم أنه إنما قال كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ ههنا وقال في آية أخرى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 205 ) لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم
ويبقى المسمى فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإنما تكون مشتغلاً بذكر الرب إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلاً بذكر إلهيته وإليه الإشارة بقوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ ( البقرة 200 ) وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام متردداً في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية التي كلت العبارات عن شرحها وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة ولا تكون الهوية مركبة حتى ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره وأما قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص وأصل التبتل في اللغة القطع وقيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها وقال الليث التبتيل تمييز الشيء عن الشيء والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال لا رغبة لها فيهم إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات قال الفراء يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته وقال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون لأن قوله وَتَبَتَّلْ أي انقطع عن كل ما سواه إليه والمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى بل التبتل إلى الآخرة والمغشول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبداً كاملاً بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ولا يجد الإنسان لهذا مثالاً إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق
المسألة الثانية الواجب أن يقال وتبتل إليه تبتلاً أو يقال بتل نفسك إليه تبتيلاً لكنه تعالى لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف
والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعاً إلى الله إلا أنه لا بد أولاً من التبتيل حتى يحصل التبتل كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فذكر التبتل أولاً إشعاراً بأنه المقصود بالذات وذكر التبتيل ثانياً إشعاراً بأنه لا بد منه ولكنه مقصود بالغرض
واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولاً ثم بالتبتل ثانياً ذكر السبب فيه فقال تعالى
رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوباً لأجل شيء آخر وإلا لزم التسلسل فإذاً لا بد من الانتهاء إلى ما يكون محبوباً لذاته والكمال محبوب لذاته فإن من اعتقد أن فلاناً الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفاً بعلم أزيد من علم سائر الناس مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفاً بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته وكمال الكمال لله تعالى فالله تعالى محبوب لذاته فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب والجواد المطلق هو الله تعالى فالمحبوب المطلق هو الله تعالى والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملاً في ذاته لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالباً للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالباً للمعروف لا للعرفان فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملاً فقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر وهو مقام التفويض وهو أن يرفع الاختيار من البين ويفوض الأمر بالكلية إليه فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلاً رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو بل من حيث إنه مراد الحق وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتيل بل من حيث إنه مراد الحق وههنا آخر الدرجات وقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً إشارة إلى هذه الحالة فهذا ما جرى به القلم في تفسير في هذه الآية وفي الزوايا خبايا ومن أسرار هذه الآية بقايا وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 )
المسألة الثانية رَبّ فيه قراءتان إحداهما الرفع وفيه وجهان أحدهما على المدح والتقدير هو رب المشرق فيكون خبر مبتدأ محذوف كقوله بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ وقوله مَتَاعٌ قَلِيلٌ
( آل عمران 197 ) أي تقلبهم متاع قليل والثاني أن ترفعه بالابتداء وخبره الجملة التي هي لاَ إله إِلاَّ هُوَ والعائد إليه الضمير المنفصل والقراءة الثانية الخفض وفيها وجهان الأول على البدل مِن رَبّكَ ( المزمل 8 ) والثاني قال ابن عباس على القسم بإضمار حرف القسم كقولك الله لأفعلن وجوابه لاَ إله إِلاَّ هُوَ كما تقول والله لا أحد في الدار إلا زيد وقرأ ابن عباس رَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ
أما قوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلاً وأن تفوض كل أمورك إليه وههنا مقام عظيم فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو وتقريره أن كل ما سواه ممكن ومحدث وكل ممكن ومحدث فإنه مالم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب ولما كان الواجب لذاته واحداً كان جميع الممكنات مستندة إليه منتهية إليه وهذا هو المراد من قوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وقال بعضهم وَكِيلاً أي كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
المعنى إنك لما اتخذتني وكيلاً فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع الله وكيفية معاملتهم مع الخلق والأول أهم من الثاني فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطاً للناس أو مجانباً عنهم فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المدارة والإغضاء وترك المكافأة ونظيره فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ( النساء 63 ) وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) فَأَعْرَضَ عَمَّ مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( النجم 29 ) قال المفسرون هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال وقال آخرون بل ذلك هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله وهذا أصح
وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَة ِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادراً على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له ذرني أنا وذاك أي لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر وهو كقوله فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ ( القلم 44 ) وقوله أُوْلِى النَّعْمَة ِ بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة يقال أنعم بك ونعمك عيناً أي أسرَّ عينك وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً فيه وجهان أحدهما المراد من القليل الحياة الدنيا والثاني المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر فإن الله أهلكهم في ذلك اليوم
ثم ذكر كيفية عذابهم عند الله فقال
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّة ٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
أي إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا وذكر أموراً أربعة أولها قوله أَنكَالاً واحدها نكل ونكل قال الواحدي النكل القيد وقال صاحب الكشاف النكل القيد الثقيل وثانيها قوله وَجَحِيماً ولا حاجة به إلى التفسير وثالثها قوله وَطَعَاماً ذَا غُصَّة ٍ الغصة ما يغص به الإنسان وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( الغاشية 6 ) قالوا إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج ورابعها قوله وَعَذَاباً أَلِيماً والمراد منه سائر أنواع العذاب واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها يوجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله وَطَعَاماً ذَا غُصَّة ٍ ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروماً عن تجلي نور الله والانخراط في سلك المقدسين وذلك هو المراد من قوله وَعَذَاباً أَلِيماً والتنكير في قوله وَعَذَاباً يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل واعلم أني لا أقول المراد بهذه الآيات هو ما ذكرته فقط بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع حمله عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازاً متعارفاً مشهوراً
ثم إنه تعالى لما وصف العذاب أخبر أنه متى يكون ذلك فقال تعالى
يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج يَوْمٍ منصوب بقول إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ( المزمل 12 ) أي ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم ترجف الأرض
المسألة الثانية الرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة والكثيب القطعة العظيمة من الرمل تجتمع محدودبة وجمعه الكثبان وفي كيفية الاشتقاق قولان أحدهما أنه من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول والثاني قال الليث الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به والفعل اللازم انكثب ينكثب انكثاباً وسمي الكثيب كثيباً لأن ترابه دقاق كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته وقوله مَّهِيلاً أي سائلاً قد أسيل يقال تراب مهيل ومهيول أي مصبوب ومسيل الأكثر في اللغة مهيل وهو مثل قولك مكيل ومكيول ومدين ومديون وذلك أن الياء تحذف منه الضمة فتسكن والواو أيضاً ساكنة فتحذف الواو
لالتقاء الساكنين ذكره الفراء والزجاج وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى يفرق تركيب أجزاء الجبال وينسفها نسفاً ويجعلها كالعهن المنفوش فعند ذلك تصير كالكثيب ثم إنه تعالى يحركها على ما قال وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ ( الكهف 47 ) وقال وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( النمل 88 ) وقال وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ ( النبإ 20 ) فعند ذلك تصير مهيلاً فإن قيل لم لم يقل وكانت الجبال كثباناً مهيلة قلنا لأنها بأسرها تجتمع فتصير كثيباً واحداً مهيلاً
واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النعمة بأهوال القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى
إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً
واعلم أن الخطاب لأهل مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل وههنا سؤالات
السؤال الأول لم نكر الرسول ثم عرف الجواب التقدير أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه فأخذناه أخذاً وبيلاً فأرسلنا إليكم أيضاً رسولاً فعصيتم ذلك الرسول فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلا
السؤال الثاني هل يمكن التمسك بهذه الآية في إثبات أن القياس حجة والجواب نعم لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى فإن قيل هب أن القياس في هذه الصورة حجة فلم قلتم إنه في سائر الصور حجة وحينئذ يحتاج إلى قياس سائر القياسات على هذا القياس فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس وإنه غير جائز قلنا لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك هو أن نقول لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظناً يجب اشتراكهما في الحكم وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم ههنا فإن لقائل أن يقول لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حالة العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة ههنا فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل ههنا ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقرير أنه متى وقع الاشتراك في المناط الظاهر وجب الجزم بالاشتراك في الحكم وإن مجرد احتمال الفرق بالأشياء التي لا يعلم كونها مناسبة للحكم لا يكون قادحاً في تلك التسوية فلا معنى لقولنا القياس حجة إلا هذا
السؤال الثالث لم ذكر في هذا الموضع قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم الجواب لأن أهل مكة ازدروا محمداً عليه الصلاة والسلام واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه رباه وولد فيما بينهم وهو قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( الشعراء 18 )
السؤال الرابع ما معنى كون الرسول شاهداً عليهم الجواب من وجهين الأول أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم الثاني المراد كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من
الكفر لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ولذلك وصفت بأنها بينة فلا يمتنع أن يوصف عليه الصلاة والسلام بذلك من حيث إنه بين الحق وهذا بعيد لأن الله تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) أي عدولاً خياراً لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) فبين أنه يكون شاهداً عليهم في المستقبل ولأن حمله على الشهادة في الآخرة حقيقة وحمله على البيان مجاز والحقيقة أولى
السؤال الخامس ما معنى الوبيل الجواب فيه وجهان الأول الوبيل الثقيل الغليظ ومنه قولهم صار هذا وبالاً عليهم أي أفضى به إلى غاية المكروه ومن هذا قيل للمطر العظيم وابل والوبيل العصا الضخمة الثاني قال أبو زيد الوبيل الذي لا يستمرأ وماء وبيل وخيم إذا كان غير مريء وكلأ مستوبل إذا أدت عاقبته إلى مكروه إذا عرفت هذا فنقول قوله فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً يعني الغرق قاله الكلبي ومقاتل وقتادة
ثم إنه تعالى عاد إلى تخويفهم بالقيامة مرة أخرى فقال تعالى
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي في الآية تقديم وتأخير أي فكيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم
المسألة الثانية ذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله يَوْماً وجوهاً الأول أنه مفعول به أي فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر والثاني أن يكون ظرفاً أي وكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والثالث أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله لا معنى لها إلا خوف عقابه
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين الأول قوله يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وفيه وجهان الأول أنه مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب لأن كثرة الهموم توجب انقصار الروح إلى داخل القلب وذلك الانقصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وانطفاء الحرارة الغريزية وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط وذلك يوجب ابيضاض الشعر فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الوالدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز يوم القيامة الثاني يجوز أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب ولقد سألني بعض الأدباء عن قول المعري
وظلم يملأ الفودين شيباً
وقال كيف يفضل هذا التشبيه الذي في القرآن على بيت المعري فقلت من وجوه الأول أن امتلاء الفودين من الشيب ليس بعجب أما صيرورة الولدان شيباً فهو عجيب كأن شدة ذلك اليوم تنقلهم من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة من غير أن يمروا فيما بين الحالتين بسن الشباب وهذا هو المبالغة العظيمة في وصف اليوم بالشدة وثانيها أن امتلاء الفودين من الشيب معناه ابيضاض الشعر وقد يبيض الشعر لعلة مع أن قوة الشباب تكون باقية فهذا ليس فيه مبالغة وأما الآية فإنها تدل على صيرورة الولدان شيوخاً في الضعف والنحافة وعدم طراوة الوجه وذلك نهاية في شدة ذلك اليوم وثالثها أن امتلاء الفودين من الشيب ليس فيه مبالغة لأن جانبي الرأس موضع للرطوبات الكثيرة البلغمية ولهذا السبب فإن الشيب إنما يحدث أولاً في الصدغين وبعده في سائر جوانب الرأس فحصول الشيب في الفودين ليس بمبالغة إنما المبالغة هو استيلاء الشيب على جميع أجزاء الرأس بل على جميع أجزاء البدن كما هو مذكور في الآية والله أعلم
النوع الثاني من أهوال يوم القيامة قوله السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ وهذا وصف لليوم بالشدة أيضاً وأن السماء على عظمها وقوتها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق ونظيره قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) وفيه سؤالان
السؤال الأول لم لم يقل منفطرة الجواب من وجوه أولها روى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء إنما قال السَّمَاء مُنفَطِرٌ ولم يقل منفطرة لأن مجازها مجاز السقف تقول هذا سماء البيت وثانيها قال الفراء السماء تؤنث وتذكر وهي ههنا في وجوه التذكير وأنشد شعراً فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالنجوم مع السحاب
وثالثها أن تأنيث السماء ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز تذكيره
قال الشاعر
والعين بالإثمد الخيري مكحول
وقال الأعشى فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
ورابعها أن يكون السماء ذات انفطار فيكون من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر وأعجاز نخل منقعر وكقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع
السؤال الثاني ما معنى مُنفَطِرٌ بِهِ الجواب من وجوه أحدها قال الفراء المعنى منفطر فيه وثانيها أن الباء في ( به ) مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما ينفطر به وثالثها يجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظم تلك الواقعة عليها وخشيتها منها كقوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 )
أما قوله كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً فاعلم أن الضمير في قوله وَعْدَهُ يحتمل أن يكون عائداً إلى المفعول وأن يكون عائداً إلى الفاعل أما الأول فأن يكون المعنى وعد ذلك اليوم مفعول أي الوعد المضاف إلى ذلك اليوم واجب الوقوع لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه وأما الثاني فأن يكون المعنى وعد
الله واقع لا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وههنا وإن لم يجر ذكر الله تعالى ولكنه حسن عود الضمير إليه لكونه معلوماً واعلم أنه تعالى بدأ في أول السورة بشرح أحوال السعداء ومعلوم أن أحوالهم قسمان أحدهما ما يتعلق بالدين والطاعة للمولى فقدم ذلك والثاني ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق وبين ذلك بقوله وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ( المزمل 10 ) وأما الأشقياء فقد بدأ بتهديدهم على سبيل الإجمال وهو قوله تعالى وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ ( المزمل 11 ) ثم ذكره بعده أنواع عذاب الآخرة ثم ذكر بعده عذاب الدنيا وهو الأخذ الوبيل في الدنيا ثم وصف بعده شدة يوم القيامة فعند هذا تم البيان بالكلية فلا جرم ختم ذلك الكلام بقوله
إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً
أي هذه الآيات تذكرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً واتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَة ٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَة ٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ فيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من قوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ أقل منهما وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك
المسألة الثانية قرىء وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف ( والثلث ) وقرىء وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث لكنا بينا في تفسير قوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( المزمل 2 ) أنه لا يلزم من هذا أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركاً للواجب وقوله تعالى وَطَائِفَة ٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور
قوله تعالى وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى
قوله تعالى عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في أَن لَّن تُحْصُوهُ عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة ولا يمكنكم أيضاً تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة قال مقاتل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه
المسألة الثانية احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال لَّن تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه ثم إنه كان قد كلفهم به ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه
وقوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ( البقرة 187 ) والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب
قوله تعالى فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ وفيه قولان الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل أي فصلوا ما تيسر عليكم ثم ههنا قولان الأول قال الحسن يعني في صلاة المغرب والعشاء وقال آخرون بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه ثم نسخ ذلك أيضاً بالصلوات الخمس القول الثاني أن المراد من قوله فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل يقرأ مائة آية وقيل من قرأ مائة آية كتب من القانتين وقيل خمسين آية ومنهم من قال بل السورة القصيرة كافية لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعاً للحرج وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال سقط عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قيام الليل وصارت تطوعاً وبقي ذلك فرضاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل لم نسخ الله ذلك فقال لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال تعالى إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ( المزمل 7 ) فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخاً في حقه ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود ( أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء ) ثم أعاد مرة أخرى قوله فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وذلك للتأكيد ثم قال وَإِذْ أَخَذْنَا يعني المفروضة وَإِذْ أَخَذْنَا أي الواجبة وقيل زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنياً
قوله تعالى وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يريد سائر الصدقات وثانيها يريد أداء الزكاة على أحسن وجه وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعاً للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إلى المستحق وثالثها يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال
ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت وقال الزجاج وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً لكم من متاع الدنيا والقول ما قاله ابن عباس
المسألة الثانية معنى الآية وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً إلا أنه قال هو خيراً للتأكيد والمبالغة وقرأ أبو السمال هو خير وأعظم أجراً بالرفع على الابتداء والخبر ثم قال وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَّحِيمٌ بهم وفي الغفور قولان أحدهما أنه غفور لجميع الذنوب وهو قول مقاتل والثاني أنه غفور لمن يصر على الذنب احتج مقاتل على قوله بوجهين الأول أن قوله غَفُورٌ رَّحِيمٌ يتناول التائب والمصر بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين
سورة المدثر
خمسون وست آيات مكية وعند بعضهمأنها أول ما نزل
ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفىء يقال تدثر بثوبه والدثار اسم لما يتدثر به ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما
المسألة الثانية أجمعوا على أن المدثر هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثراً فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثراً بثوبه ومنهم من ترك هذا الظاهر أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه أحدها أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال ( كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعداً على عرش بين السماء والأرض فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني وصبوا علي ماء بارداً فنزل جبريل عليه السلام بقوله رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ) وثانيها أن النفر الذين آذوا رسول الله وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد فكل واحد منا يجيب بجواب آخر فواحد يقول مجنون وآخر يقول كاهن وآخر يقول شاعر فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد فقال واحد إنه شاعر فقال الوليد سمعت كلام عبيد بن الأبرص وكلام أمية بن أبي الصلت وكلامه ما يشبه كلامهما وقال آخرون كاهن قال الوليد ومن الكاهن قالوا الذي يصدق تارة ويكذب أخرى قال الوليد ما كذب محمد قط فقال آخر إنه مجنون فقال الوليد ومن يكون المجنون قالوا مخيف الناس فقال الوليد ما أخيف بمحمد أحد قط ثم قام الوليد وانصرف إلى
بيته فقال الناس صبأ الوليد بن المغيرة فدخل عليه أبو جهل وقال مالك يا أبا عبد شمس هذه قريش تجمع لك شيئاً زعموا أنك احتججت وصبأت فقال الوليد مالي إليه حاجة ولكني فكرت في محمد فقلت إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين وبين المرأة وزوجها ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون فقالوا إن محمداً لساحر فوقعت الضجة في الناس أن محمداً ساحر فلما سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه فأنزل الله تعالى رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً متدثراً بثيابه فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه وقال رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ كأنه قال له اترك التدثر بالثياب والنوم واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له
القول الثاني أنه ليس المراد من المدثر المتدثر بالثياب وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه أحدها أن المراد كونه متدثراً بدثار النبوة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم ويقال تلبس فلان بأمر كذا فالمراد رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ بدثار النبوة قُمْ فَأَنذِرْ ( المدثر 2 ) وثانيها أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء كان كالمختفي من الناس فكأنه قيل يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول واشتغل بإنذار الخلق والدعوة إلى معرفة الحق وثالثها أنه تعالى جعله رحمة للعالمين فكأنه قيل له يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم والخلق الكريم والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك
المسألة الثالثة عن عكرمة أنه قرىء على لفظ اسم المفعول من دثره كأنه قيل له دثرت هذا الأمر وعصيت به وقد سبق نظيره في المزمل
قُمْ فَأَنذِرْ
في قوله قُمِ وجهان أحدهما قم من مضجعك والثاني قم قيام عزم وتصميم وفي قوله فَأَنذِرْ وجهان أحدهما حذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا وقال ابن عباس قم نذيراً للبشر احتج القائلون بالقول الأول بقوله تعالى وَأَنذِرِ واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) وههنا قول ثالث وهو أن المراد فاشتغل بفعل الإنذار كأنه تعالى يقول له تهيأ لهذه الحرفة فإنه فرق بين أن يقال تعلم صنعة المناظرة وبين أن يقال ناظر زيداً
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
فيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير التكبير وجوهاً أحدها قال الكلبي عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان وثانيها قال مقاتل هو أن يقول الله أكبر روى أنه ( لما نزلت هذه الآية قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال الله أكبر كبيراً فكبرت خديجة وفرحت وعلمت أنه أوحى إليه ) وثالثها المراد منه التكبير في الصلوات فإن قيل هذه السورة نزلت في أول البعث وما كانت الصلاة واجبة في ذلك الوقت قلنا لا يبعد أنه كانت له عليه السلام صلوات تطوعية فأمر أن يكبر ربه فيها ورابعها يحتمل عندي أن يكون المراد أنه لما قيل له قُمْ فَأَنذِرْ قيل بعد ذلك وَرَبَّكَ فَكَبّرْ عن اللغو والعبث
واعلم أنه ما أمرك بهذا الإنذار إلا لحكمة بالغة ومهمات عظيمة لا يجوز لك الإخلال بها فقوله وَرَبُّكَ كالتأكيد في تقرير قوله قُمْ فَأَنذِرْ وخامسها عندي فيه وجه آخر وهو أنه لما أمره بالإنذار فكأن سائلاً سأل وقال بماذا ينذر فقال أن يكبر ربه عن الشركاء والأضداد والأنداد ومشابهة الممكنات والمحدثات ونظير قوله في سورة النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى معرفة الله ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات
المسألة الثانية الفاء في قوله فَكَبّرْ ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال أبو الفتح الموصلي يقال زيداً فاضرب وعمراً فاشكر وتقديره زيداً اضرب وعمراً اشكر فعنده أن الفاء زائدة وثانيها قال الزجاج دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية والمعنى قم فكبر ربك وكذلك ما بعده على هذا التأويل وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) الفاء لإفادة معنى الشرط والتقدير وأي شيء كان فلا تدع تكبيره
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
اعلم أن تفسير هذه الآية يقع على أربعة أوجه أحدها أن يترك لفظ الثياب والتطهير على ظاهره والثاني أن يترك لفظ الثياب على حقيقته ويحمل لفظ التطهير على مجازه الثالث أن يحمل لفظ الثياب على مجازه ويترك لفظ التطهير على حقيقته والرابع أن يحمل اللفظان على المجاز أما الاحتمال الأول وهو أن يترك لفظ الثياب ولفظ التطهير على حقيقته فهو أن نقول المراد منه أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار وعلى هذا التقدير يظهر في الآية ثلاثة احتمالات أحدها قال الشافعي المقصود منه الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس وثانيها قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان المشركون ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات وثالثها روي أنهم ألقوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلى شاة فشق عليه ورجع إلى بيته حزيناً وتدثر بثيابه فقيل رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ( المدثر 1 2 ) ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( المدثر 3 ) عن أن لا ينتقم منهم وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ عن تلك النجاسات والقاذورات الاحتمال الثاني أن يبقى لفظ الثياب على حقيقته ويجعل لفظ التطهير على مجازه فهنا قولان الأول أن المراد من قوله فَطَهّرْ أي فقصر وذلك لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم فكانت ثيابهم تتنجس ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والكبر فنهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك القول الثاني وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ أي ينبغي أن تكون الثياب التي تلبسها مطهرة عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون مكتسبة من وجه حلال الاحتمال الثالث أن يبقى لفظ التطهير على حقيقته ويحمل لفظ الثياب على مجازه وذلك أن يحمل لفظ الثياب على الحقيقة وذلك لأن العرب ما كانوا يتنظفون وقت الاستنجاء فأمر عليه الصلاة والسلام بذلك التنظيف وقد يجعل لفظ الثياب كناية عن النفس
قال عنترة فشككت بالرمح الأصم ثيابه ( أي نفسه )
ولهذا قال ليس الكريم على القنا بمحرم
الاحتمال الرابع وهو أن يحمل لفظ الثياب ولفظ التطهير على المجاز وذكروا على هذا الاحتمال وجوهاً الأول وهو قول أكثر المفسرين وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وعن الحسن وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ قال وخلقك فحسن قال القفال وهذا يحتمل وجوهاً أحدها أن الكفار لما لقبوه بالساحر شق ذلك عليه جداً حتى رجع إلى بيته وتدثر بثيابه وكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر يقتضيه سوء الخلق فقيل له قُمْ فَأَنذِرْ ( المدثر 2 ) ولا تحملنك سفاهتهم على ترك إنذارهم بل حسن خلقك والثاني أنه زجر عن التخلق بأخلاقهم فقيل له طهر ثيابك أي قلبك عن أخلاقهم في الافتراء والتقول والكذب وقطع الرحم والثالث فطهر نفسك وقلبك عن أن تعزم على الانتقام منهم والإساءة إليهم ثم إذا فسرنا الآية بهذا الوجه ففي كيفية اتصالها بما قبلها وجهان الأول أن يقال إن الله تعالى لما ناداه في أول السورة فقال رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ( المدثر 1 ) وكان التدثر لباساً والدثار من الثياب قيل طهر ثيابك التي أنت متدثر بها عن أن تلبسها على هذا التفكر والجزع والضجر من افتراء المشركين الوجه الثاني أن يفسر المدثر بكونه متدثراً بالنبوة كأنه قيل يا أيها المتدثر بالنبوة طهر ما تدثرت به عن الجزع وقلة الصبر والغضب والحقد فإن ذلك لا يليق بهذا الدثار ثم أوضح ذلك بقوله وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( المدثر 7 ) واعلم أن حمل المدثر على المتصف ببعض الصفات جائز يقال فلان طاهر الجيب نقي الذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ويقال فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة قال الشاعر فلا أب وابناً مثل مروان وابنه
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان الأول أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا السبب جعلوا الثواب كناية عن الإنسان يقال المجد في ثوبه والعفة في إزاره والثاني أن الغالب أن من طهر باطنه فإنه يطهر ظاهره الوجه الثاني في تأويل الآية أن قوله وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ أمر له بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة وهذا على تأويل من حمل قوله وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ ( الشرح 2 3 ) على أيام الجاهلية الوجه الثاني في تأويل الآية قال محمد بن عرفة النحوي معناه نساءك طهرهن وقد يكنى عن النساء بالثياب قال تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ( البقرة 187 ) وهذا التأويل بعيد لأن على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الرجز وجوهاً الأول قال العتبي الرجز العذاب قال الله تعالى لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) أي العذاب ثم سمي كيد الشيطان رجزاً لأنه سبب للعذاب وسميت الأصنام رجزاً لهذا المعنى أيضاً فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي ثم على هذا القول احتمالان أحدهما أن قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يعني كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره والتقدير وذا الزجر فاهجر أي ذا العذاب فيكون المضاف محذوفاً والثاني أنه سمي إلى ما يؤدي إلى العذاب عذاباً تسمية للشيء باسم ما يجاوره ويتصل به القول الثاني أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى
الرجس فقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل له اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( المدثر 4 ) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح
المسألة الثانية احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية قال لولا أنه كان مشتغلاً بها وإلا لما زجر عنها بقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ والجواب المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران كما أن المسلم إذا قال اهدنا فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا بل المراد ثبتنا على هذه الهداية فكذا ههنا
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الراء في هذه السورة وفي سائر القرآن بكسر الراء وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر وقرأ يعقوب بالضم ثم قال الفراء هما لغتان والمعنى واحد وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسر الراء العذاب ووسواس الشيطان أيضاً رجز وقال أبو عبيدة أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع وثانيها أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر وثالثها أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدراً أن تستكثر قال أبو علي الفارسي هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائداً به غدا أي مقدراً للصيد فكذا ههنا المعنى مقدراً الاستكثار قال ويجوز أن يحكي به حالاً أتية إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في تفسير الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء إنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجر الرجز ثم قال وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه قال الحسن لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها وثانيها لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله فلا منة لك عليهم ولهذا قال وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( المدثر 7 ) وثالثها لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر أي لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك ورابعها لا تمنن أي لا تضعف من قولهم حبل منين أي ضعيف يقال منه السير أي أضعفة والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية ومن ذهب إلى هذا قال هو مثل قوله أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ( الزمر 64 ) أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد الله ( ولا تمتن تستكثر ) وهذا يشهد لهذا التأويل وهذا القول اختيار مجاهد وخامسها وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله وَلاَ تَمْنُن أي لا تعط يقال مننت فلاناً كذا أي أعطيته قال هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ( ص 39 ) أي فأعط أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه وعلى هذا التأويل سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل الجواب الحكمة فيه من وجوه الأول لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ
( الحجر 88 ) وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة الثاني أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له وذلك لا يليق بمنصب النبوة لأنه يوجب دناءة الآخذ ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه وتنفير المأخوذ منه ولهذا قال أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ( الطور 40 )
السؤال الثاني هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام أم يتناول الأمة الجواب ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة وهذا المعنى غير موجود في الأمة ومن الناس من قال هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء والله تعالى منع الكل من ذلك
السؤال الثالث بتقدير أن يكون هذا النهي مختصاً بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه والجواب ظاهر النهي للتحريم الوجه السادس في تأويل الآية قال القفال يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطي لأحد شيئاً لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائداً أو ناقصاً أو مساوياً ويكون معنى قوله تَسْتَكْثِرُ أي طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً على العطاء فسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيباً ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ومن ذهب إلى هذا القول قال السبب فيه أن يصير عطاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خالياً عن انتظار العوض والتفات الناس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى الوجه السابع أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثاراً منك لتلك العطية بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام فإن الدنيا بأسرها قليلة فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة فالوجه الأول معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعاً من طلب الزيادة في العوض والوجه الثاني معناه كونه ممنوعاً عن طلب مطلق العوض زائداً كان أو مساوياً أو ناقصاً والوجه الثالث معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام الوجه الثامن معناه إذا أعطيت شيئاً فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية فإن المن محبط لثواب العمل قال تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ بِرَبّ النَّاسِ ( البقرة 264 )
المسألة الثانية قرأ الحسن تَسْتَكْثِرُ بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه أحدها كأنه قيل لا تمنن لا تستكثر وثانيها أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ بإسكان اللام وثالثها أن يعتبر حال الوقف وقرأ الأعمش تَسْتَكْثِرُ بالنصب بإضمار أن كقوله ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
ويؤيده قراءة ابن مسعود ولا تمنن أن تستكثر
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
فيه وجوه أحدها إذا أعطيت المال فاصبر على ترك المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك وثانيها إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض وليكن هذا الترك لأجل ربك وثالثها أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب ورابعها أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قام الوليد ودخل داره فقال القوم إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل وقال إن قريشاً جمعوا لك مالاً حتى لا تترك دين آبائك فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره فقيل لمحمد إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره وخامسها أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( المدثر 3 ) لا الأوثان وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( المدثر 4 ) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( المدثر 5 ) ولا تقربه كما تقربه الكفار وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( المدثر 6 ) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدراً من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه
فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ
اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَإِذَا نُقِرَ للسبب كأنه قال اصْبِر عَلَى أَذَاهُمْ فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه
المسألة الثانية اختلفوا في أن الوقت الذي ينقر في الناقور أهو النفخة الأولى أم النفخة الثانية فالقول الأول أنه هو النفخة الأولى قال الحليمي في كتاب المنهاج أنه تعالى سمى الصور بأسمين أحدهما الصور والآخر الناقور وقول المفسرين إن الناقور هو الصور ثم لا شك أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً فإن نفخة الإصعاق تخالف نفخة الإحياء وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى فيحتمل أن يكون الصور محتوياً على آلتين ينقر في إحداهما وينفخ في الأخرى فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر والنفخ لتكون الصيحة أهد وأعظم وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه واقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها والنفخة الأولى للتنقير وهو نظير صوت الرعد فإنه إذا اشتد فربما مات سامعه والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت هذا آخر كلام الحليمي رحمه الله ولى فيه إشكال وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد
على الكافرين لأنهم يموتون في تلك الساعة إنما اليوم الشديد على الكافرين عند صيحة الإحياء ولذلك يقولون يا ليتها كانت القاضية أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى والقول الثاني إنه النفخة الثانية وذلك لأن الناقور هو الذي ينقر فيه أي ينكت فيجوز أنه إذا أريد أن ينفخ في المرة الثانية نقر أولاً فسمى ناقوراً لهذا المعنى وأقول في هذا اللفظ بحث وهو أن الناقور فاعول من النقر كالهاضوم ما يهضم به والحاطوم ما يحطم به فكان ينبغي أن يكون الناقور ما ينقر به لا ما ينقر فيه
المسألة الثالثة العامل في قوله فَإِذَا نُقِرَ هو المعنى الذي دل عليه قوله يَوْمٌ عَسِيرٌ ( المدثر 9 ) والتقدير إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله فذلك إشارة إلى اليوم الذي ينقر فيه في الناقور والتقدير فذلك اليوم يَوْمٌ عَسِيرٌ وأما يَوْمَئِذٍ ففيه وجوه الأول أن يكون تفسيراً لقوله فَذَلِكَ لأن قوله فَذَلِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر وأن يكون إشارة إلى اليوم المضاف إلى النقر فكأنه قال فذلك أعني اليوم المضاف إلى النقر يَوْمٌ عَسِيرٌ فيكون يَوْمَئِذٍ في محل النصب والثاني أن يكون يَوْمَئِذٍ مرفوع المحل بدلاً من ذلك وَيَوْمَ عَسِيرٌ خبر كأنه قيل فيوم النقر يَوْمٌ عَسِيرٌ فعلى هذا يومئذ في محل الرفع لكونه بدلاً من ذلك إلا أنه لما أضيف اليوم إلى إذ وهو غير متمكن بني على الفتح الثالث أن تقدير الآية فذلك النقر يومئذ نقر يَوْمٌ عَسِيرٌ على أن يكون العامل في يَوْمَئِذٍ هو النقر
المسألة الثانية عسر ذلك اليوم على الكافرين لأنهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم ويحشرون زرقاً وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لأنهم لا يناقشون في الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين ويحتمل أن يكون إنما وصفه الله تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين على ما روى أن الأنبياء يومئذ يفزعون وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد فعلى القول الأول لا يحسن الوقف على قوله يَوْمٌ عَسِيرٌ فإن المعنى أنه على الكافرين عسير وغير يسير وعلى القول الثاني يحسب الوقف لأن المعنى أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر مخصوص فيه بزيادة خاصة وهو أنه عليه غير يسير فإن قيل فما فائدة قوله غَيْرُ يَسِيرٍ وعسير مغن عنه الجواب أما على القول الأول فالتكرير للتأكيد كما تقول أنا لك محب غير مبغض وولي غير عدو وأما على القول الثاني فقوله عَسِيرٌ يفيد أصل العسر الشامل للمؤمنين والكافرين وقوله غَيْرُ يَسِيرٍ يفيد الزيادة التي يختص بها الكافر لأن العسر قد يكون عسراً قليلاً يسيراً وقد يكون عسراً كثيراً فأثبت أصل العسر للكل وأثبت العسر بصفة الكثرة والقوة للكافرين
المسألة الثالثة قال ابن عباس لما قال إنه غير يسير على الكافرين كان يسيراً على المؤمنين فبعض من قال بدليل الخطاب قال لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا لما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافر كونه يسيراً على المؤمن
ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
أجمعوا على أن المراد ههنا الوليد بن المغيرة وفي نصب قوله وحيداً وجوه الأول أنه نصب على الحال ثم يحتمل أن يكون حالاً من الخالق وأن يكون حالاً من المخلوق وكونه حالاً من الخالق على وجهين الأول ذرني وحدي معه فإني كاف في الانتقام منه والثاني خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد وأما كونه حالاً من المخلوق فعلى معنى أني خلقته حال ما كان وحيداً فريداً لا مال له ولا ولد كقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الأنعام 94 ) القول الثاني أنه نصب على الذم وذلك لأن الآية نزلت في الوليد وكان يلقب بالوحيد وكان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير فالمراد ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ أعني وحيداً وطعن كثير من المتأخرين في هذا الوجه وقالوا لا يجوز أن يصدقه الله في دعواه أنه وحيد لا نظير له وهذا السؤال ذكره الواحدي وصاحب الكشاف وهو ضعيف من وجوه الأول أنا لما جعلنا الوحيد اسم علم فقد زال السؤال لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة الثاني لم لا يجوز أن يحمل على كونه وحيداً في ظنه واعتقاده ونظيره قوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) الثالث أن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف بل هو كان يدعى لنفسه أنه وحيد في هذه الأمور فيمكن أن يقال أنت وحيد لكن في الكفر والخبث والدناءة القول الثالث أن وحيداً مفعول ثان لخلق قال أبو سعيد الضرير الوحيد الذي لا أب له وهو إشارة إلى الطعن في نسبه كما في قوله عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( القلم 13 )
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
في تفسير المال الممدود وجوه الأول المال الذي يكون له مدد يأتي من الجزء بعد الجزء على الدوام فلذلك فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر شهر وثانيها أنه المال الذي يمد بالزيادة كالضرع والزرع وأنواع التجارات وثالثها أنه المال الذي امتد مكانه قال ابن عباس كان ماله ممدوداً ما بين مكة إلى الطائف ( من ) الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة بالطائف والأشجار والأنهار والنقد الكثير وقال مقاتل كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً فالممدود هنا كما في قوله وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) أي لا ينقطع ورابعها أنه المال الكثير وذلك لأن المال الكثير إذا عدد فإنه يمتد تعديده ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال بعضهم ألف دينار وقال آخرون أربعة آلاف وقال آخرون ألف ألف وهذه التحكمات مما لا يميل إليها الطبع السليم
وَبَنِينَ شُهُوداً
فيه وجهان الأول بنين حضوراً معه بمكة لا يفارقونه البتة لأنهم كانوا أغنياء فما كانوا محتاجين إلى مفارقته لطلب كسب ومعيشة وكان هو مستأنساً بهم طيب القلب بسبب حضورهم والثاني يجوز أن يكون المراد من كونهم شهوداً أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل وعن مجاهد كانوا عشرة وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد
شمس أسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ولهذا المعنى يدعى بهذا فيقال أدام الله تمهيده أي بسطته وتصرفه في الأمور ومن المفسرين من جعل هذا التمهيد البسطة في العيش وطول العمر وكان الوليد من أكابر قريش ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
لفظ ثم ههنا معناه التعجب كما تقول لصاحبك أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ونظيره قوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( الأنعام 1 ) فمعنى ( ثم ) ههنا للإنكار والتعجب ثم تلك الزيادة التي كان يطمع فيها هل هي زيادة في الدنيا أو في الآخرة فيه قولان الأول قال الكلبي ومقاتل ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي الثاني أن تلك الزيادة في الآخرة قيل إنه كان يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي ونظيره قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ( مريم 77 )
كَلاَّ إِنَّهُ كان لاٌّ يَاتِنَا عَنِيداً
ثم قال تعالى كَلاَّ وهو ردع له عن ذلك الطمع الفاسد قال المفسرون ولم يزل الوليد في نقصان بعد قوله كَلاَّ حتى افتقر ومات فقيراً
قوله تعالى إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً إنه تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال لم لا يزاد فقيل لأنه كان لآياتنا عنيداً والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير وفي هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته أحدها أنه كان معانداً في جميع الدلائل الدالة على التوحيد والعدل والقدرة وصحة النبوة وصحة البعث وكان هو منازعاً في الكل منكراً للكل وثانيها أن كفره كان كفر عناد كان يعرف هذه الأشياء بقلبه إلا أنه كان ينكرها بلسانه وكفر المعاند أفجش أنواع الكفر وثالثها أن قوله إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة ورابعها أن قوله إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصة بآيات الله تعالى وبيناته فإن تقديره إنه كان لآياتنا عنيداً لا لآيات غيرنا فتخصيصه هذا العناد بآيات الله مع كونه تاركاً للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
أي سأكلفه صعوداً وفي الصعود قولان الأول أنه مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق مثل قوله يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ( الجن 17 ) وصعود من قولهم عقبة صعود وكدود شاقة المصعد والثاني أن صعوداً اسم لعقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت وعنه عليه الصلاة والسلام ( الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً )
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده فقال
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
يقال فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه وهو المراد من قوله فَقَدَرَ
ثم قال تعالى
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام ومثله قولهم قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره ومعناه أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك وإذا عرفت ذلك فنقول إنه يحتمل ههنا وجهين أحدهما أنه تعجيب من قوة خاطره يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد عليه السلام بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل والثاني الثناء عليه على طريقة الاستهزاء يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط
ثم قال
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
والمقصود من كلمه ثم ههنا الدلالة على أن الدعاء عليه في الكرة الثانية أبلغ من الأولى
ثم قال
ثُمَّ نَظَرَ
والمعنى أنه أولاً فكر وثانياً قدر وثالثاً نظر في ذلك المقدر فالنظر السابق للاستخراج والنظر اللاحق للتقدير وهذا هو الاحتياط فهذه المراتب الثلاثة متعلقة بأحوال قلبه
ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه فقال
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله عَبَسَ وَبَسَرَ يدل على أنه كان عارفاً في قلبه صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه كان يكفر به عناداً ويدل عليه وجوه الأول أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاماً عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقداً صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني ما روي أن الوليد مر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ ( فصلت 13 ) أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة ولما رجع الوليد قال لهم والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يعلى عليه فقالت قريش صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها فقال أبو جهل أنا أكفيكموه ثم دخل عليه محزوناً فقال مالك يا ابن الأخ فقال إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالاً ليكون ذلك عوضاً مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد فقال والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالاً ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئاً يليق به إلا أنه ساحر فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معانداً لأن السحر يتعلق بالجن والثالث أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله والأفعال المنكرة وكان من الظاهر أن محمداً لا يدعو إلا إلى الله فكيف يليق به السحر فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما عَبَسَ وَبَسَرَ لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان
المسألة الثانية قال الليث عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل كلح فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل بسر فإن غضب مع ذلك قيل بسل
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان فقال إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة وفي قوله يُؤْثَرُ وجهان الأول أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثراً إذا حدثت به عن قوم في آثارهم أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل ثم صار بمعنى الرواية عمن كان والثاني يؤثر على جميع السحر وعلى هذا يكون هو من الإيثار
ثم قال
إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ
والمعنى أن هذا قول البشر ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره ولو كان الأمر كما قال لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عناداً منه لأنه روي عنه أنه لما سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حم السجدة ) وخرج من عند الرسول عليه السلام قال سمعت من محمد كلاماً ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه يعلو ولا يعلى عليه فلما أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ههنا من أنه قول البشر إنما ذكره على سبيل العناد والتمرد لا على سبيل الاعتقاد
ثم قال
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
قال ابن عباس سَقَرَ اسم للطبقة السادسة من جهنم ولذلك لا ينصرف للتعريف والتأنيث
ثم قال
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
الغرض التهويل
ثم قال
لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ
واختلفوا فمنهم من قال هما لفظان مترادفان معناهما واحد والغرض من التكرير التأكيد والمبالغة كما يقال صد عني وأعرض عني ومنهم من قال لا بد من الفرق ثم ذكروا وجوهاً أحدها أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئاً فإذا أعيدوا خلقاً جديداً فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت وهكذا أبداً وهذا رواية عطاء عن ابن عباس وثانيها لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئاً إلا أحرقته وثالثها لا تبقي من أبدان المعذبين شيئاً ثم إن تلك النيران لا تذر من قوتها وشدتها شيئاً إلا وتستعمل تلك القوة والشدة في تعذيبهم
ثم قال
لَوَّاحَة ٌ لِّلْبَشَرِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في اللواحة قولان الأول قال الليث لاحه العطش ولوحه إذا غيره فاللواحة هي المغيرة قال الفراء تسود البشرة بإحراقها والقول الثاني وهو قول الحسن والأصك أن معنى اللواحة أنها تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام وهو كقوله وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ( النازعات 36 ) ولواحة على هذا القول من لاح الشيء يلوح إذا لمع نحو البرق وطعن القائلون بهذا الوجه في الوجه الأول وقالوا إنه لا يجوز أن يصفها بتسويد البشرة مع قوله إنها لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ ( المدثر 28 )
المسألة الثانية قرىء لَوَّاحَة ٌ نصباً على الاختصاص للتهويل
ثم قال
عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه يلي أمر تلك النار ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً وقيل تسعة عشر صنفاً وقيل تسعة عشر صفاً وحكى الواحدي عن المفسرين أن خزنة النار تسعة عشر مالك ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق وأنيابهم كالصياصي وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر نزعت منهم الرأفة والرحمة يأخذ أحدهم سبعين ألفاً في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم
المسألة الثانية ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً أحدها وهو الوجه الذي تقوله أرباب الحكمة أن سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية
أما القوى الحيوانية فهي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب ومجموعهما اثنتا عشرة
وأما القوى الطبيعة فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وهذه سبعة فالمجموع تسعة عشر فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسعة عشر لا جرم كان عدد الزبانية هكذا وثانيها أن أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة والمجموع ثمانية عشر وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول بل ليس إلا بسبب ترك العمل فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة فالمجموع تسعة عشر وثالثها أن الساعات أربعة وعشرون خمسة منها مشغولة بالصلوات الخمس فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر
المسألة الثالثة قراءة أبي جعفر ويزيد وطلحة بن سليمان عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ على تقطيع فاعلان قال ابن جني في المحتسب والسبب أن الاسمين كاسم واحد فكثرت الحركات فأسكن أول الثاني للتخفيف وجعل ذلك أمارة القوة اتصال أحد الإسمين بصاحبه وقرأ أنس بن مالك تِسْعَة َ عَشَرَ قال أبو حاتم هذه القراءة لا تعرف لها وجهاً إلا أن يعني تسعة أعشر جمع عشير مثل يمين وأيمن وعلى هذا يكون المجموع تسعين
وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِى َ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً روي أنه لما نزل قوله تعالى عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ ( المدثر 30 ) قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم قال ابن أبي كبشة إن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الجمع العظيم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهما فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنينا فلما قال أبو جهل وأبو الأشد ذلك قال المسلمون ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادينا فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا يسوى بينهما والمعنى لا تقاس الملائكة بالسجانين
والحداد السجان الذي يحبس النار فأنزل الله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً واعلم أنه تعالى إنما جعلهم ملائكة لوجوه أحدها ليكونوا بخلاف جنس المعذبين لأن الجنسية مظنة الرأفة والرحمة ولذلك بعث الرسول المبعوث إلينا من جنسنا ليكون له رأفة ورحمة بنا وثانيها أنهم أبعد الخلق عن معصية الله تعالى وأقواهم على الطاعات الشاقة وثالثها أن قوتهم أعظم من قوة الجن والإنس فإن قيل ثبت في الأخبار أن الملائكة مخلوقون من النور والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار قلنا مدار القول في إثبات القيامة على كونه تعالى قادراً على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أن يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت فكذا لا استبعاد في بقاء الملائكة هناك من غير ألم
ثم قال تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا العدد إنما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين الأول أن الكفار يستهزئون يقولون لم لم يكونوا عشرين وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود الثاني أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله إلى قيام القيامة وأما أهل الإيمان فلا يلتفتون إلى هذين السؤالين
أما السؤال الأول فلأن جملة العالم متناهية فلا بد وأن يكون للجواهر الفردة التي منها تألفت جملة هذا العالم عدد معين وعند ذلك يجيء ذلك السؤال وهو أنه لم خصص ذلك العدد بالإيجاد ولم يزد على ذلك العدد جوهر آخر ولم ينقص وكذا القول في إيجاد العالم فإنه لما كان العالم محدثاً والإله قديماً فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية فلم لم يحدث العالم قبل أن حدث بتقدير لحظة أو بعد أن وجد بتقدير لحظة وكذا القول في تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعين وكل واحد من الأجسام بأجزائه المحدودة المعدودة ولا جواب عن شيء من ذلك إلا بأنه قادر مختار والمختار له أن يرجح الشيء على مثله من غير علة وإذا كان هذا الجواب هو المعتمد في خلق جملة العالم فكذا في تخصيص زبانية النار بهذا العدد
وأما السؤال الثاني فضعيف أيضاً لأنه لا يبعد في قدرة الله تعالى أن يعطي هذا العدد من القدرة والقوة ما يصيرون به قادرين على تعذيب جملة الخلق ومتمكنين من ذلك من غير خلل وبالجملة فمدار هذين السؤالين على القدح في كمال قدرة الله فأما من اعترف بكونه تعالى قادراً على مالا نهاية له من المقدورات وعلم أنه أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذه الاستبعادات بالكلية
المسألة الثانية احتج من قال إنه تعالى قد يريد الإضلال بهذه الآية قال لأن قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ
يدل على أن المقصود الأصلي إنما هو فتنة الكافرين أجابت المعتزلة عنه من وجوه أحدها قال الجبائي المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء وثانيها قال الكعبي المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به وثالثها أن المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة والمعنى إلا فتنة على الذين كفروا ليكذبوا به وليقولوا ما قالوا وذلك عقوبة لهم على كفرهم وحاصله راجع إلى ترك الألطاف والجواب أنه لا نزاع في شيء مما ذكرتم إلا أنا نقول هل لإنزال هذه المتشابهات أثر في تقوية داعية الكفر أم لا فإذا لم يكن له أثر في تقوية داعية الكفر كان إنزالها كسائر الأمور الأجنبية فلم يكن للقول بأن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا وجه ألبتة وإن كان له أثر في تقوية داعية الكفر فقد حصل المقصود لأنه إذا ترجحت داعية الفعل صارت داعية الترك مرجوحة والمرجوح يمتنع أن يؤثر فالترك يكون ممتنع الوقوع فيصير الفعل واجب الوقوع والله أعلم واعلم أنه تعالى بين أن المقصود من إنزال هذا المتشابه أمور أربعة أولها لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وثانيها وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِيمَاناً وثالثها وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ورابعها وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً واعلم أن المقصود من تفسير هذه الآيات لا يتلخص إلا بسؤالات وجوابات
السؤال الأول لفظ القرآن يدل على أنه تعالى جعل افتتان الكفار بعدد الزبانية سبباً لهذه الأمور الأربعة فما الوجه في ذلك والجواب أنه ما جعل افتتانهم بالعدد سبباً لهذه الأشياء وبيانه من وجهين الأول التقدير وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب كما يقال فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك قالوا والعاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة وقد تحذف أخرى الثاني أن المراد من قوله وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ هو أنه وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر إلا أنه وضع فتنة للذين كفروا موضع تسعة عشر كأنه عبر عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيهاً على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر
السؤال الثاني ما وجه تأثير إنزال هذا المتشابه في استيقان أهل الكتاب الجواب من وجوه أحدها أن هذا العدد لما كان موجوداً في كتابهم ثم إنه عليه السلام أخبر على وفق ذلك من غير سابقة دراسة وتعلم فظهر أن ذلك إنما حصل بسبب الوحي من السماء فالذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب يزدادون به إيماناً وثانيها أن التوراة والإنجيل كانا محرفين فأهل الكتاب كانوا يقرأون فيهما أن عدد الزبانية هو هذا القدر ولكنهم ما كانوا يعولون على ذلك كل التعويل لعلمهم بتطرق التحريف إلى هذين الكتابين فلما سمعوا ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قوي إيمانهم بذلك واستيقنوا أن ذلك العدد هو الحق والصدق وثالثها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب فإنهم يستهزئون به ويضحكون منه لأنهم كانوا يستهزئون به في إثبات التوحيد والقدرة والعلم مع أن تلك المسائل أوضح وأظهر فكيف في ذكر هذا العدد العجيب ثم إن استهزاءهم برسول الله وشدة سخريتهم به ما منعه من إظهار هذا الحق فعند هذا يعلم كل أحد أنه لو كان غرض محمد ( صلى الله عليه وسلم ) طلب الدنيا والرياسة لاحترز عن ذكر هذا
العدد العجيب فلما ذكره مع علمه بأنهم لا بد وأن يستهزئوا به علم كل عاقل أن مقصوده منه إنما هو تبليغ الوحي وأنه ما كان يبالي في ذلك لا بتصديق المصدقين ولا بتكذيب المكذبين
السؤال الثالث ما تأثير هذه الواقعة في ازدياد إيمان المؤمنين الجواب أن المكلف مالم يستحضر كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحادثات منزهاً عن الكذب والحلف لا يمكنه أن ينقاد لهذه العدة ويعترف بحقيقتها فإذا اشتغل باستحضار تلك الدلائل ثم جعل العلم الإجمالي بأنه صادق لا يكذب حكيم لا يجهل دافعاً للتعجب الحاصل في الطبع من هذا العدد العجيب فحينئذ يمكنه أن يؤمن بحقيقة هذا العدد ولا شك أن المؤمن يصير عند اعتبار هذه المقامات أشد استحضاراً للدلائل وأكثر انقياداً للدين فالمراد بازدياد الإيمان هذا
السؤال الرابع حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان فما قولكم في هذه الآية الجواب نحمله على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه
السؤال الخامس لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ الجواب أن المطلوب إذا كان غامضاً دقيق الحجة كثير الشبهة فإذا اجتهد الإنسان فيه وحصل له اليقين فربما غفل عن مقدمة من مقدمات ذلك الدليل الدقيق فيعود الشك والشبهة فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك فالمقصود من إعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل عقيبه ألبتة شك ولا ريب
السؤال السادس جمهور المفسرين قالوا في تفسير قوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ إنهم الكافرون وذكر الحسين بن الفضل البجلي أن هذه السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق والجواب قول المفسرين حق وذلك لأنه كان في معلوم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبر عما سيكون وعلى هذا تصير هذه الآية معجزة لأنه إخبار عن غيب سيقع وقد وقع على وفق الخبر فيكون معجزاً ويجوز أيضاً أن يراد بالمرض الشك لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب
السؤال السابع هب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا مقصودين من إنزال هذا المتشابه فكيف صح أن يكون قول الكافرين والمنافقين مقصوداً الجواب أما على أصلنا فلا إشكال لأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء وسيأتي مريد تقرير لهذا في الآية الآتية وأما عند المعتزلة فإن هذه الحالة لما وقعت أشبهت الغرض في كونه واقعاً فأدخل عليه حرف اللام وهو كقوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
السؤال الثامن لم سموه مثلاً الجواب أنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد الله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر لا جرم سموه مثلاً
السؤال التاسع القوم كانوا ينكرون كون القرآن من عند الله فكيف قالوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً الجواب أما الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون فكانوا في الظاهر معترفين بأن القرآن من عند الله فلا جرم قالوا ذلك باللسان وأما الكفار فقالوه على سبيل التهكم أو على سبيل الاستدلال بأن القرآن لو كان من عند الله لما قال مثل هذا الكلام
قوله تعالى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وجه الاستدلال بالآية للأصحاب ظاهر لأنه تعالى ذكر في أول الآية قوله وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ثم ذكر في آخر الآية وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً ثم قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء أما المعتزلة فقد ذكروا الوجوه المشهورة التي لهم أحدها أن المراد من الإضلال منع الألطاف وثانيها أنه لما اهتدى قوم باختيارهم عند نزول هذه الآيات وضل قوم باختيارهم عند نزولها أشبه ذلك أن المؤثر في ذلك الاهتداء وذلك الإضلال هو هذه الآيات وهو كقوله فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ( التوبة 124 ) وكقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 ) وثالثها أن المراد من قوله يُضِلَّ ومن قوله يَهْدِى حكم الله بكونه ضالاً ويكون مهتدياً ورابعها أنه تعالى يضلهم يوم القيامة عن دار الثواب وهذه الكلمات مع أجوبتها تقدمت في سورة البقرة في قوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 )
قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ فيه وجوه أحدها وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد فقال تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود مالا يعلم عددهم إلا الله وثانيها وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها وثالثها أنه لا حاجة بالله سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة وهو الذي يخلق الآلام فيهم ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب فجنود الله غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية
قوله تعالى وَمَا هِى َ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ الضمير في قوله وَمَا هِى َ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى سقر والمعنى وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر والثاني أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات وهي ذكرى لجميع العالمية وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان
كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ
ثم قال تعالى كَلاَّ وفيه وجوه أحدها أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون وثانيها أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً وثالثها أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ورابعها أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة
ثم قال تعالى وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وفيه قولان الأول قال الفراء والزجاج دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ويدل على هذا قراءة من قرأ إذا دبر وروى أن مجاهداً سأل ابن عباس عن قوله دُبُرٍ فسكت حتى إذا أدبر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب
هذه القراءة ويقول إنما يدبر ظهر البعير قال الواحدي والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا وأنشد أبو علي وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم
بصهاب هامدة كأمس الدابر
القول الثاني قال أبو عبيدة وابن قتيبة دبر أي جاء بعد النهار يقال دبرني أي جاء خلفي ودبر الليل أي جاء بعد النهار قال قطرب فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار
وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ
أي أضاء وفي الحديث ( أسفروا بالفجر ) ومنه قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ( عبس 38 ) أي مضيئة
ثم قال تعالى
إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكلام هو جواب القسم أو تعليل لكلام والقسم معترض للتوكيد
المسألة الثانية قال الواحدي ألف إحدى مقطوع ولا تذهب في الوصل وروي عن ابن كثير أنه قرأ إنها لإحدى الكبر بحذف الهمزة كما يقال ويلمه وليس هذا الحذف بقياس والقياس التخفيف وهو أن يجعل بين بين
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) الكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظير ذلك السوافي جمع السافياء وهو التراب الذي سفته الريح والقواصع في جميع القاصعاء كأنهما جمع فاعلة
المسألة الرابعة إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبْرَى يعني أن سقر التي جرى ذكرها لإحدى الكبر والمراد من الكبر دركات جهنم وهي سبعة جهنم ولظى والحطمة والسعير وسقر والجحيم والهاوية أعاذنا الله منها
نَذِيراً لِّلْبَشَرِ
نذيراً تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً وقيل هو حال وفي قراءة أبي نذير بالرفع خبر أو بحذف المبتدأ
ثم قال تعالى
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الآية وجهان الأول أن يَتَقَدَّمَ في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدم عليه كقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه التقدم والتأخر مطلقان لمن شاءهما منكم والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه وهو في معنى قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) الثاني لمن شاء بدل من قوله للبشر والتقدير إنها نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر نظيره وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ ( آل عمران 97 )
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه وجوابه أن هذه الآية دلت على أن فعل العبد معلق على مشيئته لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله تعالى لقوله
وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 3 ) وحينئذ تصير هذه الآية حجة لنا عليهم وذكر الأصحاب عن وجه الاستدلال بهذه الآية جوابين آخرين الأول أن معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين التهديد كقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) الثاني أن هذه المشيئة لله تعالى على معنى لمن شاء الله منكم أن يتقدم أو يتأخر
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ
قال صاحب ( الكشاف ) رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ( الطور 21 ) لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصيغة لقيل رهين لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل كل نفس بما كسبت رهن ومنه بيت الحماسة أبعد الذي بالنعف نعف كواكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال رهن رمس والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عن رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق ثم ذكروا وجوهاً في أن أصحاب اليمين من هم أحدها قال ابن عباس هم المؤمنون وثانيها قال الكلبي هم الذين قال ( فيهم ) الله تعالى ( هؤلاء في الجنة ولا أبالي ) وهم الذين كانوا على يمين آدم وثالثها قال مقاتل هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ورابعها قال علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عمر هم أطفال المسلمين قال الفراء وهو أشبه بالصواب لوجهين الأول لأن الولدان لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به والثاني أنه تعالى ذكر في وصفهم فقال فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ وهذا إنما يليق بالولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب فسألوا مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 40 42 ) وخامسها عن ابن عباس هم الملائكة
فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ
قوله تعالى فِي جَنَّاتِ أي هم في جنات لا يكتنه وصفها
ثم قال تعالى يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ وفيه وجهان الأول أن تكون كلمة عن صلة زائدة والتقدير يتساءلون المجرمين فيقولون لهم ما سلككم في سقر فإنه يقال سألته كذا ويقال سألته عن كذا الثاني أن يكون المعنى أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين فإن قيل فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقولوا ما سلكهم في سقر قلنا أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه فقال المراد من هذا أن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون قلنا لهم مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم فلما رأوهم قالوا لهم مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 42 ) والإضمارات كثيرة في القرآن
مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ
المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة أولها قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وثانيها لم نك نطعم المسكين وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذبوا على تركه وثالثها وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ والمراد منه الأباطيل ورابعها وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين أي الموت قال تعالى حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفاً بهذه الخصال الأربعة واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه فإن قيل لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربعة قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 )
ثم قال تعالى
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ
واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية وقالوا إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين
ثم قال تعالى
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ
أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائماً
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة فقال
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَة ٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة ٍ
قال ابن عباس يريد الحمر الوحشية ومستنفرة أي نافرة يقال نفر واستنفر مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب وقرىء بالفتح وهي المنفرة المحمولة على النفار قال أبو علي الفارسي الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة ٍ وهذا يدل على أنها هي استنفرت ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام قال سألت أبا سوار الغنوي وكان أعرابياً فصيحاً فقلت كأنهم حمر ماذا فقال مستنفرة طردها قسورة قلت إنما هو
فرت من قسورة قال أفرت قلت نعم قال فمستنفرة إذا
ثم قال تعالى فَرَّتْ يعني الحمر مِن قَسْوَرَة ٍ
وذكروا في القسورة وجوهاً أحدها أنها الأسد يقال ليوث قساور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع قال ابن عباس الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) هربوا منه كما يهرب الحمار من الأسد ثم قال ابن عباس القسورة هي الأسد بلسان الحبشة وخالف عكرمة فقال الأسد بلسان الحبشة عنبسة وثانيها القسورة جماعة الرماة الذين يتصيدونها قال الأزهري هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه وثالثها القسورة ركز الناس وأصواتهم ورابعها أنها ظلمة الليل قال صاحب ( الكشاف ) وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ولا ترى مثل نفار حمير الوحش وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء
ثم قال تعالى
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً
أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ ( الأسراء 93 ) وقال وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وقيل إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار وقيل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلا أن يراد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة وقرأ سعيد بن جبير صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزله ونزله
ثم قال تعالى
كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاٌّ خِرَة َ
كَلاَّ وهو ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر عن اقتراح الآيات
ثم قال تعالى بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَة َ فلذلك أعرضوا عن التأمل فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت
ثم قال تعالى
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
ثم قال تعالى كَلاَّ وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة
ثم قال تعالى إِنَّهُ تَذْكِرَة ٌ يعني تذكرة بليغة كافية فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي جعله نصب عينه فإن نفع ذلك راجع إليه والضمير في أَنَّهُ وذكره للتذكرة في قوله الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وإنما ذكر ( ت ) لأنها في معنى الذكر أو القرآن
ثم قال تعالى
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة ِ
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ
قالت المعتزلة يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه والجواب أنه تعالى نفى الذكر
مطلقاً واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر وقرىء يذكرون بالياء والتاء مخففاً ومشدداً
ثم قال تعالى هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة ِ أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
سورة القيامة
أربعون آية مكيةلاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى المفسرون ذكروا في لفظة لا في قوله لاَ أُقْسِمُ ثلاثة أوجه الأول أنها صلة زائدة والمعنى أقسم بيوم القيامة ونظيره لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وقوله مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 159 ) وهذا القول عندي ضعيف من وجوه أولها أن تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفضي إلى أن لا يبقى الاعتماد على إثباته ولا على نفيه وثانيها أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوله فإن قيل ( فال ) كلام عليه من وجهين الأول لا نسلم أنها إنما تزاد في وسط الكلام ألا ترى إلى أمرىء القيس كيف زادها في مستهل قصيدته وهي قوله لا وأبيك ابنة العامري
لا يدعى القوم أني أفر
الثاني هب أن هذا الحرف لا يزاد في أول الكلام إلا أن القرآن كله كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض والدليل عليه أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام والجواب عن الأول أن قوله لا وأبيك قسم عن النفي وقوله لاَ أُقْسِمُ نفي للقسم فتشبيه أحدهما بالآخر غير جائز وإنما قلنا إن قوله لا أقسم نفي للقسم لأنه على وزان قولنا لا أقتل لا أضرب لا أنصر ومعلوم أن ذلك يفيد النفي والدليل عليه أنه لو حلف لا يقسم كان البر بترك القسم والحنث بفعل القسم فظهر أن البيت
المذكور ليس من هذا الباب وعن الثاني أن القرآن كالسورة الواحدة في عدم التناقض فإما في أن يقرن بكل آية ما قرن بالآية الأخرى فذلك غير جائز لأنه يلزم جواز أن يقرن بكل إثبات حرف النفي في سائر الآيات وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً وإنه لا يجوز وثالثها أن المراد من قولنا لا صلة أنه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ومعلوم أن وصف كلام الله تعالى بذلك لا يجوز القول الثاني للمفسرين في هذه الآية ما نقل عن الحسن أنه قرأ لأقسم على أن اللام للابتداء وأقسم خبر مبتدأ محذوف معناه لأنا أقسم ويعضده أنه في مصحف عثمان بغير ألف واتفقوا في قوله ولا أقسم بالنفس اللوامة على لا أقسم قال الحسن معنى الآية أني أقسم بيوم القيامة لشرفها ولا أقسم بالنفس اللوامة لخساستها وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة وقال لو كان المراد هذا لقال لأقسمن لأن العرب لا تقول لأفعل كذا وإنما يقولون لأفعلن كذا إلاأن الواحدي حكى جواز ذلك عن سيبويه والفراء واعلم أن هذا الوجه أيضاً ضعيف لأن هذه القراءة شاذة فهب أن هذا الشاذ استمر فما الوجه في القراءة المشهورة المتواترة ولا يمكن دفعها وإلا لكان ذلك قدحاً فيما ثبت بالتواتر وأيضاً فلا بد من إضمار قسم آخر لتكون هذه اللام جواباً عنه فيصير التقدير والله لأقسم بيوم القيامة فيكون ذلك قسماً على قسم وإنه ركيك ولأنه يفضي إلى التسلسل القول الثالث أن لفظة لا وردت للنفي ثم ههنا احتمالان الأول أنها وردت نفياً لكلام ذكر قبل القسم كأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر على ما ذكرتم ثم قيل أقسم بيوم القيامة وهذا أيضاً فيه إشكال لأن إعادة حرف النفي مرة أخرى في قوه وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ مع أن المراد ما ذكروه تقدح في فصاحة الكلام
الاحتمال الثاني أن لا ههنا لنفي القسم كأنه قال لا أقسم عليكم بذلك اليوم وتلك النفس ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وهذا القول اختيار أبي مسلم وهو الأصح ويمكن تقدير هذا القول على وجوه أخر أحدها كأنه تعالى يقول لاَ أُقْسِمُ بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن هذا المطلوب أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه وثانيها كأنه تعالى يقول لاَ أُقْسِمُ بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن إثباته أظهر وأجلى وأقوى وأحرى من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم ثم قال بعده أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) أي كيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد مع ظهور فساده وثالثها أن يكون الغرض منه الاستفهام على سبيل الإنكار والتقدير ألا أقسم بيوم القيامة ألا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر والنشر حق
المسألة الثانية ذكروا في النفس اللوامة وجوهاً أحدها قال ابن عباس إن كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة سواء كانت برة أو فاجرة أما البرة فلأجل أنها لم لم تزد على طاعتها وأما الفاجرة فلأجل أنها لم لم تشتغل بالتقوى وطعن بعضهم في هذا الوجه من وجوه الأول أن من يستحق الثواب لا يجوز أن يلوم نفسه على ترك الزيادة لأنه لو جاز منه لوم نفسه على ذلك لجاز من غيره أن يلومها عليه الثاني أن الإنسان إنما يلوم نفسه عند الضجارة وصيق القلب وذلك لا يليق بأهل الجنة حال كونهم في الجنة ولأن المكلف يعلم أنه لا مقدار من الطاعة إلا ويمكن الإتيان بما هو أزيد منه فلو كان ذلك موجباً للوم لامتنع الانفكاك عنه وما كان كذلك لا يكون مطلوب الحصول ولا يلام على ترك تحصيله والجواب عن الكل أن يحمل اللوم
على تمني الزيادة وحينئذ تسقط هذه الأسئلة وثانيها أن النفس اللوامة هي النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى
ثالثها أنها هي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وعن الحسن أن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه وأما الجاهل فإنه يكون راضياً بما هو فيه من الأحوال الخسيسة ورابعها أنها نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة وخامسها المراد نفوس الأشقياء حين شاهدت أحوال القيامة وأهوالها فإنها تلوم نفسها على ما صدر عنها من المعاصي ونظيره قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ ( الزمر 56 ) وسادسها أن الإنسان خلق ملولا فأي شيء طلبه إذا وجده مله فحينئذ يلوم نفسه على أني لم طلبته فلكثرة هذا العمل سمي بالنفس اللوامة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 21 ) واعلم أن قوله لوامة ينبىء عن التكرار والإعادة وكذا القول في لوام وعذاب وضرار
المسألة الثالثة إعلم أن في الآية إشكالات أحدها ما المناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم وثانيها المقسم عليه هو وقوع القيامة فيصير حاصلة أنه تعالى أقسم بوقوع القيامة وثالثها لم قال لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ولم يقل والقيامة كما قال في سائر السور والطور والذاريات والضحى والجواب عن الأول من وجوه أحدها أن أحوال القيامة عجيبة جداً ثم المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفوس اللوامة أعني سعادتها وشقاوتها فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشدية وثانيها أن القسم بالنفس اللوامة تنبيه على عجائب أحوال النفس على ما قال عليه الصلاة والسلام ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقوله إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ إلى قوله وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) وقال قائلون القسم وقع بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبداً تستحقر فعلها وجدها واجتهادها في طاعة الله وقال آخرون إنه تعالى أقسم بالقيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة وهذا على القراءة الشاذة التي رويناها عن الحسن فكأنه تعالى قال أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ تعظيماً لها ولا أقسم بالنفس تحقيراً لها لأن النفس اللوامة إما أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها وإما أن تكون فاسقة مقصرة في العمل وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة
وأما السؤال الثاني فالجواب عنه ما ذكرنا أن المحققين قالوا القسم بهذه الأشياء قسم بربها وخالقها في الحقيقة فكأنه قيل أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة
وأما السؤال الثالث فجوابه أنه حيث أقسم قال وَالطُّورِ الطُّورِ وَالذرِيَاتِ ( الذاريات 1 ) وأما ههنا فإنه نفي كونه تعالى مقسماً بهذه الأشياء فزال السؤال والله تعالى أعلم
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّى َ بَنَانَهُ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في جواب القسم وجوهاً أحدها وهو قول الجمهور أنه محذوف على تقدير
ليبعثن ويدل عليه أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ وثانيها قال الحسن وقع القسم على قوله بَلَى قَادِرِينَ وثالثها وهو أقرب أن هذا ليس بقسم بل هو نفي للقسم فلا يحتاج إلى الجواب فكأنه تعالى يقول لا أقسم بكذا وكذا على شيء ولكني أسألك أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
المسألة الثانية المشهور أن المراد من الإنسان إنسان معين روي أن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فيهما ( اللهم اكفني شر جاري السوء ) قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن بك كيف يجمع الله العظام فنزلت هذه الآية وقال ابن عباس يريد الإنسان ههنا أبا جهل وقال جمع من الأصوليين بل المراد بالإنسان المكذب بالبعث على الإطلاق
المسألة الثالثة قرأ قتادة أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ على البناء للمفعول والمعنى أن الكافر ظن أن العظام بعد تفرقها وصيرورتها تراباً واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعدما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض لا يمكن جمعها مرة أخرى وقال تعالى في جوابه بَلَى فهذه الكلمة أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع فكأنه قيل بل يجمعها وفي قوله قَادِرِينَ وجهان الأول وهو المشهور أنه حال من الضمير في نجمع أي نجمع العظام قادرين على تأليفها جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول وهذا الوجه عندي فيه إشكال وهو أن الحال إنما يحسن ذكره إذا أمكن وقوع ذلك الأمر لا على تلك الحالة تقول رأيت زيداً راكباً لأنه يمكن أن نرى زيد غير راكب وههنا كونه تعالى جامعاً للعظام يستحيل وقوعه إلا مع كونه قادراً فكان جعله حالاً جارياً مجرى بيان الواضحات وإنه غير جائز والثاني أن تقدير الآية كنا قادرين على أن نسوي بنانه في الإبتداء فوجب أن نبقي قادرين على تلك التسوية في الانتهاء وقرىء قادرون أي ونحن قادرون وفي قوله عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ وجوه أحدها أنه نبه بالبنان على بقية الأعضاء أي نقدر على أن نسوي بنانه بعد صيرورته تراباً كما كان وتحقيقه أن من قدر على الشيء في الابتداء قدر أيضاً عليه في الإعادة وإنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم خلقه فكأنه قيل نقدر على ضم سلاماته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولاً من غير نقصان ولا تفاوت فكيف القول في كبار العظام وثانيها بلى قادرين على أن نسوي بنانه أي نجعلها مع كفه صفيحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وسائر الأعمال اللطيفة التي يستعان عليها بالأصابع والقول الأول أقرب إلى الصواب
بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
اعلم أن قوله بَلْ يُرِيدُ عطف على أيحسب فيجوز فيه أن يكون أيضاً استفهاماً كأنه استفهم عن شيء ثم استفهم عن شيء آخر ويجوز أن يكون إيجاباً كأنه استفهم أولاً ثم أتى بهذا الإخبار ثانياً وقوله لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ فيه قولان الأول أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه وعن سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة يقول سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله القول الثاني ليفجر أمامه أي ليكذب بما أمامه من البعث والحساب لأن من كذب حقاً كان كاذباً وفاجراً
والدليل عليه قوله يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 6 ) فالمعنى يريد الإنسان ليفجر أمامه أي ليكذب بيوم القيامة وهو أمامه فهو يسأل أيان يوم القيامة متى يكون ذلك تكذيباً له
ثم قال تعالى
يَسْألُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ
أي يسأل سؤال مستنعت مستبعد لقيام الساعة في قوله أيان يوم القيامة ونظيره يقولون متى هذا الوعد واعلم أن إنكار البعث تارة يتولد من الشبهة وأخرى من الشهوة أما من الشبهة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) وتقريره أن الإنسان هو هذا البدن فإذا مات تفرقت أجزاء البدن واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء التراب وتفرقت في مشارق الأرض ومغاربها فكان تمييزها بعد ذلك عن غيرها محالاً فكان البعث محالاً واعلم أن هذه الشبهة ساقطة من وجهين الأول لا نسلم أن الإنسان هو هذا البدن فلم لا يجوز أن يقال إنه شيء مدبر لهذا البدن فإذا فسد هذا البدن بقي هو حياً كما كان وحينئذ يكون الله تعالى قادراً على أن يرده إلى أي بدن شاء وأراد وعلى هذا القول يسقط السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا لأنه أقسم بالنفس اللوامة ثم قال أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن الثاني إن سلمنا أن الإنسان هو هذا البدن فلم قلتم إنه بعد تفريق أجزائه لا يمكن جمعه مرة أخرى وذلك لأنه تعالى عالم بجميع الجزئيات فيكون عالماً بالجزء الذي هو بدن عمرو وهو تعالى قادر على كل الممكنات وذلك التركيب من الممكنات وإلا لما وجد أولاً فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ومتى ثبت كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات قادراً على جميع الممكنات لا يبقى في المسألة إشكال
وأما القسم الثاني وهو إنكار من أنكر المعاد بناء على الشهوة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( القيامة 5 ) ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات والاستكثار من اللذات لا يكاد يقر بالحشر والنشر وبعث الأموات لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية فيكون أبداً منكراً لذلك قائلاً على سبيل الهزؤ والسخرية أيان يوم القيامة
ثم إنه تعالى ذكر علامات القيامة فقال
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر من علامات القيامة في هذا الموضع أموراً ثلاثة أولها قوله فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ قرىء بكسر الراء وفتحها قال الأخفش المكسورة في كلامهم أكثر والمفتوحة لغة أيضاً قال الزجاج برق بصره بكسر الراء يبرق برقاً إذا تحير والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق فيؤثر ذلك في ناظره ثم يستعمل ذلك في كل حيرة وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق كما قالوا قمر بصره إذا فسد من النظر إلى القمر ثم استعير في الحيرة وكذلك بعل الرجل في أمره أي تحير ودهش وأصله من قولهم بعلت المرأة إذا فاجأها زوجها فنظرت إليه وتحيرت وأما برق بفتح الراء فهو من البريق أي لمع من شدة شخوصه وقرأ أبو السمال بلق بمعنى انفتح وانفتح يقال بلق الباب وأبلقته وبلقته فتحته
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذه الحالة متى تحصل فقيل عند الموت وقيل عند البعث وقيل عند رؤية جهنم فمن قال إن هذا يكون عند الموت قال إن البصر يبرق على معنى يشخص عند معاينة أسباب الموت والملائكة كما يوجد ذلك في كل واحد إذا قرب موته ومن مال إلى هذا التأويل قال إنهم إنما سألوه عن يوم القيامة لكنه تعالى ذكر هذه الحادثة عند الموت والسبب فيه من وجهين الأول أن المنكر لما قال أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 6 ) على سبيل الاستهزاء فقيل له إذا برق البصر وقرب الموت زالت عنه الشكوك وتيقن حينئذ أن الذي كان عليه من إنكار البعث والقيامة خطأ الثاني أنه إذا قرب موته وبرق بصره تيقن أن إنكار البعث لأجل طلب اللذات الدنيوية كان باطلاً وأما من قال بأن ذلك إنما يكون عند قيام القيامة قال لأن السؤال إنما كان عن يوم القيامة فوجب أن يقع الجواب بما يكون من خواصه وآثاره قال تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 41 ) وثانيها قوله وَخَسَفَ الْقَمَرُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون المراد من خسوف القمر ذهاب ضوئه كما نعقله من حاله إذا خسف في الدنيا ويحتمل أن يكون المراد ذهابه بنفسه كقوله فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 )
المسألة الثانية قرىء وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( يس 40 ) على البناء للمفعول وثالثها قوله وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في كيفية الجمع وجوهاً أحدها أنه تعالى قال لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه واجتمعا وثانيها جمعا في ذهاب الضوء فهو كما يقال الشافعي يجمع ما بين كذا وكذا في حكم كذا وثالثها يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها في قوله وخسف القمر وجمع الشمس والقمر إنما تستقيم على مذهب من يجعل برق البصر من علامات القيامة فأما من يجعل برق البصر من علامات الموت قال معنى وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب ضوء البصر عند الموت يقال عين خاسفة إذا فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس وأصلها من خسفت الأرض إذا ساخت بما عليها وقوله وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كناية عن ذهاب الروح إلى عالم الآخرة كأن الآخرة كالشمس فإنه يظهر فيها المغيبات وتتضح فيها المبهمات والروح كالقمر فإنه كما أن القمر يقبل النور من الشمس فكذا الروح تقبل نور المعارف من عالم الآخرة ولا شك أن تفسير هذه الآيات بعلامات القيامة أولى من تفسيرها بعلامات الموت وأشد مطابقة لها
المسألة الثانية قال الفراء إنما قال جمع ولم يقل جمعت لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور وذهاب الضوء وقال الكسائي المعنى جمع النوران أو الضياءان وقال أبو عبيدة القمر شارك الشمس في الجمع وهو مذكر فلا جرم غلب جانب التذكير في اللفظ قال الفراء قلت لمن نصر هذا القول كيف تقولون الشمس جمع والقمر فقالوا جمعت فقلت ما الفرق بين الموضعين فرجع عن هذا القول
المسألة الثالثة طعنت الملاحدة في الآية وقالوا خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر والجواب الله تعالى قادر على أن يجعل القمر منخسفاً سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن والدليل عليه أن الأجسام متماثلة فيصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر
والله قادر على كل الممكنات فوجب أن يقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال
قوله تعالى يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي يقول هذا الإنسان المنكر للقيامة إذا عاين هذه الأحوال أين المفر والقراءة المشهورة بفتح الفاء وقرىء أيضاً بكسر الفاء والمفر بفتح الفاء هو الفرار قال الأخفش والزجاج المصدر من فعل يفعل مفتوح العين وهو قول جمهور أهل اللغة والمعنى أين الفرار وقول القائل أين الفرار يحتمل معنيين أحدهما أنه لا يرى علامات مكنة الفرار فيقول حينئذ أين الفرار كما إذا أيس من وجدان زيد يقول أين زيد والثاني أن يكون المعنى إلى أين الفرار وأما المفر بكسر الفاء فهو الموضع فزعم بعض أهل اللغة أن المفر بفتح الفاء كما يكون اسماً للمصدر فقد يكون أيضاً اسماً للموضع والمفر بكسر الفاء كما يكون اسماً للموضع فقد يكون مصدراً ونظيره المرجع
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
قوله تعالى كَلاَّ وهو ردع عن طلب المفر لاَ وَزَرَ قال المبرد والزجاج أصل الوزر الجبل المنيع ثم يقال لكل ما التجأت إليه وتحصنت به وزر وأنشد المبرد قول كعب بن مالك الناس آلت علينا فيك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ومعنى الآية أنه لا شيء يعتصم به من أمر الله
ثم قال تعالى
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
وفيه وجهان أحدهما أن يكون المستقر بمعنى الاستقرار بمعنى أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إلى غيره كما قال إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى ( العلق 8 ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( النور 42 ) أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( الشورى 53 ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 12 ) الثاني أن يكون المعنى إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار أي مفوض ذلك إلى مشيئته من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار
يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بما قدم من عمل عمله وبما أخر من عمل لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به وبما أخره فخلفه أو بما قدم من عمل الخير والشر وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده وعن مجاهد أنه مفسر بأول العمل وآخره ونظيره قوله فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) وقال وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( يس 12 ) واعلم أن الأظهر أن هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند العرض والمحاسبة ووزن الأعمال ويجوز أن يكون عند الموت وذلك أنه إذا مات بين له مقعده من الجنة والنار
بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ
اعلم أنه تعالى لما قال خَلَقَ الإِنسَانَ يومئذ بأعماله قال بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غير غيره وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلاً لتلك الأفعال مقدماً عليها ثم في قوله بَصِيرَة ٌ وجهان الأول قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال فلان جود وكرم فههنا أيضاً كذلك لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم
أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء والثاني أن المراد جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وهو كقوله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ( النور 24 ) وقوله وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ( يس 36 ) وقوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم ( فصلت 20 ) فأما تأنيث البصيرة فيجوز أن يكون لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح كأنه قيل بل جوارح الإنسان كأنه قيل بل جوارح الإنسان على نفس الإنسان بصيرة وقال أبو عبيدة هذه الهاء لأجل المبالغة كقوله رجل راوية وطاغية وعلامة
واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ
للمفسرين فيه أقوال الأول قال الواحدي المعاذير جمع معذرة يقال معذرة ومعاذر ومعاذير قال صاحب ( الكشاف ) جمع المعذرة معاذر والمعاذير ليس جمع معذرة وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر والمعنى أن الإنسان وإن اعتذر عن نفسه وجادل عنها وأتى بكل عذر وحجة فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه القول الثاني قال الضحاك والسدي والفراء والمبرد والزجاج المعاذير الستور واحدها معذار قال المبرد هي لغة يمانية قال صاحب ( الكشاف ) إن صحت هذه الرواية فذاك مجاز من حيث إن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب والمعنى على هذا القول أنه وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل فإن نفسه شاهدة عليه
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فيه مسائل
المسألة الأولى زعم قوم من قدماء الروافض أن هذا القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص عنه واحتجوا عليه بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها ولو كان هذا الترتيب من الله تعالى لما كان الأمر كذلك
واعلم أن في بيان المناسبة وجوهاً أولها يحتمل أن يكون الاستعجال المنهي عنه إنما اتفق للرسول عليه السلام عند إنزال هذه الآيات عليه فلا جرم نهى عن ذلك الاستعجال في هذا الوقت وقيل له لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وهذا كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئاً فأخذ التلميذ يلتفت يميناً وشمالاً فيقول المدرس في أثناء ذلك الدرس لا تلتفت يميناً وشمالاً ثم يعود إلى الدرس فإذا نقل ذلك الدرس مع هذا الكلام في أثنائه فمن لم يعرف السبب يقول إن وقوع تلك الكلمة في أثناء ذلك الدرس غير مناسب لكن من عرف الواقعة علم أنه حسن الترتيب وثانيها أنه تعالى نقل عن الكفار أنهم يحبون
السعادة العاجلة وذلك هو قوله بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( القيامة 5 ) ثم بين أن التعجيل مذموم مطلقاً حتى التعجيل في أمور الدين فقال لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وقال في آخر الآية كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ ( القيامة 20 ) وثالثها أنه تعالى قال بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ( القيامة 14 15 ) فههنا كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يظهر التعجيل في القراءة مع جبريل وكان يجعل العذر فيه خوف النسيان فكأنه قيل له إنك إذا أتيت بهذا العذر لكنك تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هداية الله تعالى وهذا هو المراد من قوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ( القيامة 16 17 ) ورابعها كأنه تعالى قال يا محمد إن غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه وتبلغه إليهم لكن لا حاجة إلى هذا فإن الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ ( القيامة 14 ) وهم بقلوبهم يعلمون أن الذي هم عليه من الكفر وعبادة الأوثان وإنكار البعث منكر باطل فإذا كان غرضك من هذا التعجيل أن تعرفهم قبح ما هم عليه ثم إن هذه المعرفة حاصلة عندهم فحينئذ لم يبق لهذا التعجيل فائدة فلا جرم قال لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ وخامسها أنه تعالى حكى عن الكافر أنه يقول أين المفر ثم قال تعالى كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 11 12 ) فالكافر كأنه كان يفر من الله تعالى إلى غيره فقيل لمحمد إنك في طلب حفظ القرآن تستعين بالتكرار وهذا استعانة منك بغير الله فاترك هذه الطريقة واستعن في هذا الأمر بالله فكأنه قيل إن الكافر يفر من الله إلى غيره وأما أنت فكن كالمضاد له فيجب أن تفر من غير الله إلى الله وأن تستعين في كل الأمور بالله حتى يحصل لك المقصود على ما قال إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ( القيامة 17 ) وقال في سورة أخرى وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبّى زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) أي لا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار بل اطلبه من الله تعالى وسادسها ما ذكره القفال وهو أن قوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ ليس خطاباً مع الرسول عليه السلام بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( القيامة 13 ) فكان ذلك للإنسان حال ما ينبأ بقبائح أفعاله وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( الإسراء 14 ) فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال ثم إن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية أن المراد منه أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله على سبيل التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا وأشد التهويل في الآخرة ثم قال القفال فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به
المسألة الثانية احتج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقال إن ذلك الاستعجال إن كان بإذن الله تعالى فكيف نهاه عنه وإن كان لا بإذن الله تعالى فقد صدر الذنب عنه الجواب لعل ذلك الاستعجال كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي عنه ولا يبعد أن يكون الشيء مأذوناً فيه في وقت ثم يصير منهياً عنه في وقت آخر ولهذا السبب قلنا يجوز النسخ
المسألة الثالثة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يشتد عليه حفظ التنزيل وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ فأنزل تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ أي بالوحي والتنزيل والقرآن وإنما جاز هذا الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه كما
أضمر في قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ونظير قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( طه 114 ) وقوله لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتعجل بأخذه
أما قوله تعالى
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ
ففيه مسائل
المسألة الأولى كلمة على للوجوب فقوله إن علينا يدل على أن ذلك كالواجب على الله تعالى أما على مذهبنا فذلك الوجوب بحكم الوعد وأما على قول المعتزلة فلأن المقصود من البعثة لا يتم إلا إذا كان الوحي محفوظاً مبرأ عن النسيان فكان ذلك واجباً نظراً إلى الحكمة
المسألة الثانية قوله إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ معناه علينا جمعه في صدرك وحفظك وقوله وَقُرْءانَهُ فيه وجهان أحدهما أن المراد من القرآن القراءة وعلى هذا التقدير ففيه احتمالان أحدهما أن يكون المراد جبريل عليه السلام سيعيده عليك حتى تحفظه والثاني أن يكون المراد إنا سنقرئك يا محمد إلى أن تصير بحيث لا تنساه وهو المراد من قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) فعلى هذا الوجه الأول القارىء جبريل عليه السلام وعلى الوجه الثاني القارىء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والوجه الثاني أن يكون المراد من القرآن الجمع والتأليف من قولهم ما قرأت الناقة سلاقط أي ما جمعت وبنت عمرو بن كلثوم لم تقرأ جنيناً وقد ذكرنا ذلك عند تفسير القرء فإن قيل فعلى هذا الوجه يكون الجمع والقرآن واحداً فيلزم التكرار قلنا يحتمل أن يكون المراد من الجمع جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ومن القرآن جمعه في ذهنه وحفظه وحينئذ يندفع التكرار
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ
فيه مسألتان
المسألة الأولى جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته وهذا يدل على الشرف العظيم لجبريل عليه السلام ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 )
المسألة الثالثة قال ابن عباس معناه فإذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه وفيه وجهان الأول قال قتادة فاتبع حلاله وحرامه والثاني فاتبع قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبريل لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبريل عليه السلام القراءة فإذا سكت جبريل فخذ أنت في القراءة وهذا الوجه أولى لأنه عليه السلام أمر أن يدع القراءة ويستمع من جبريل عليه السلام حتى إذا فرغ جبريل قرأه وليس هذا موضع الأمر باتباع ما فيه من الحلال والحرام قال ابن عباس فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل عليه جبريل بعد هذه الآية أطرق واستمع فإذا ذهب قرأه
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الآية تدل على أنه عليه السلام كان يقرأ مع قراءة جبريل عليه السلام وكان يسأل في
أثناء قراءته مشكلاته ومعانيه لغاية حرصه على العلم فنهى النبي عليه السلام عن الأمرين جميعاً أما عن القراءة مع قراءة جبريل فبقوله فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( القيامة 18 ) وأما عن إلقاء الأسئلة في البيان فبقوله ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
المسألة الثانية احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية وأجاب أبو الحسين عنه من وجهين الأول أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب وأنتم لا تقولون به الثاني أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد من اللفظ ما يقتضيه ظاهره فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي وذكر القفال وجهاً ثالثاً وهو أن قوله ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه ونظيره قوله تعالى فَكُّ رَقَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 13 17 ) والجواب عن الأول أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان بل يقتضي تأخير وجوب البيان وعندنا الأمر كذلك لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة وعن الثاني أن كلمة ثم دخلت مطلق البيان فيتناول البيان المجمل والمفصل وأما سؤال القفال فضعيف أيضاً لأنه ترك للظاهر من غير دليل
المسألة الثالثة قوله تعالى ثُمَّ أَنَابَ عَلَيْنَا بَيَانَهُ يدل على أن بيان المجمل واجب على الله تعالى أما عندنا فبالوعد والتفضل وأما عند المعتزلة فبالحكمة
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ وَتَذَرُونَ الاٌّ خِرَة َ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) كَلاَّ ردع لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن عادة العجلة وحث على الأناة والتؤدة وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ كأنه قال بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة وتذرون الأخرة وقال سائر المفسرين كَلاَّ معناه حقاً أي حقاً تحبون العاجلة وتذرون الآخرة والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها ويتركون الآخرة ويعرضون عنها
المسألة الثانية قرىء تحبون وتذرون بالتاء والياء وفيه وجهان الأول قال الفراء القرآن إذا نزل تعريفاً لحال قوم فتارة ينزل على سبيل المخاطبة لهم وتارة ينزل على سبيل المغايبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) الثاني قال أبو علي الفارسي الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان في قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ ( القيامة 3 ) والمراد منه الكثرة كقوله إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( المعارج 19 ) والمعنى أنهم يحبون ويذرون والتاء على قل لهم بل تحبون وتذرون
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ
قال الليث نضر اللون والشجر والورق ينضر نضرة والنضرة النعمة والناضر الناعم والنضر الحسن من كل شيء ومنه يقال للون إذا كان مشرقاً ناضر فيقال أخضر ناضر وكذلك في جميع الألوان ومعناه الذي يكون له برق وكذلك يقال شجر ناضر وروض ناضر ومنه قوله عليه السلام ( نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ) الحديث أكثر الرواة رواه بالتخفيف وروى عكرمة عن الأصمعي فيه التشديد وألفاظ المفسرين مختلفة في تفسير الناضر ومعناها واحد قالوا
مسرورة ناعمة مضيئة مسفرة مشرقة بهجة وقال الزجاج نضرت بنعيم الجنة كماقال تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 )
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة ٌ
اعلم أن جمهور أهل السنة يتمسكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما بيان أن ظاهره لا يدل على رؤية الله تعالى والثاني بيان التأويل
أما المقام الأول فقالوا النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السماع فكما أن نظر القلب مقدمة للمعرفة والإصغاء مقدمة للسماع فكذا نظر العين مقدمة للرؤية قالوا والذي يدل على أن النظر ليس اسماً للرؤية وجوه الأول قوله تعالى وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( الأعراف 198 ) أثبت النظر حال عدم الرؤية فدل على أن النظر غير الرؤية والثاني أن النظر يوصف بما لا توصف به الرؤية يقال نظر إليه نظراً شرزاً ونظر غضبان ونظر راض وكل ذلك لأجل أن حركة الحدقة تدل على هذه الأحوال ولا توصف الرؤية بشيءمن ذلك فلا يقال رآه شزراً ورآه رؤية غضبان أو رؤية راض الثالث يقال انظر إليه حتى تراه ونظرت إليه فرأيته وهذا يفيد كون الرؤية غاية للنظر وذلك يوجب الفرق بين النظر والرؤية الرابع يقال دور فلان متناظرة أي متقابلة فمسمى النظر حاصل ههنا ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس قوله الشاعر وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
أثبت النظر المقرون بحرف إلى مع أن الرؤية ما كانت حاصلة السادس احتج أبو علي الفارسي على أن النظر ليس عبارة عن الرؤية التي هي إدراك البصر بل هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو الجهة التي فيها الشيء الذي يراد رؤيته لقول الشاعر فيامي هل يجزي بكائي بمثله
مراراً وأنفاسي إليك الزوافر
وأنى متى أشرف على الجانب الذي
به أنت من بين الجوانب ناظراً
قال فلو كان النظر عبارة عن الرؤية لما طلب الجزاء عليه لأن المحب لم يطلب الثواب على رؤية المحبوب فإن ذلك من أعظم مطالبه قال ويدل على ذلك أيضاً قول الآخر ونظرة ذي شجن وامق
إذا ما الركائب جاوزن ميلا
والمراد منه تقليب الحدقة نحو الجانب الذي فيه المحبوب فعلمنا بهذه الوجوه أن النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية السابع أن قوله إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ معناه أنها تنظر إلى ربها خاصة ولا تنظر إلى غيره وهذا معنى تقديم المفعول ألا ترى إلى قوله إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 12 ) إلى ربك يومئذ المساق ( القيامة 30 ) ( القيامة 30 ) أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( الشورى 53 ) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( البقرة 8 ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( آ ل عمران 28 ) عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( الشورى 10 ) كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد
في موقف القيامة فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) فلما دلت الآية على أن النظر ليس إلا إلى الله ودل العقل على أنهم يرون غير الله علمنا أن المراد من النظر إلى الله ليس هو الرؤية الثامن قال تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 77 ) ولو قال لا يراهم كفي فلما نفى النظر ولم ينف الرؤية دل على المغايرة فثبت بهذه الوجوه أن النظر المذكور في هذه الآية ليس هو الرؤية
المقام الثاني في بيان التأويل المفصل وهو من وجهين الأول أن يكون الناظر بمعنى المنتظر أي أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله وهو كقول القائل إنما أنظر إلى فلان في حاجتي والمراد أنتظر نجاحها من جهته وقال تعالى فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( النمل 35 ) وقال وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) لا يقال النظر المقرون بحرف إلى غير مستعمل في معنى الانتظار ولأن الانتظار غم وألم وهو لا يليق بأهل السعادة يوم القيامة لأنا نقول الجواب عن الأول من وجهين الأول النظر المقرون بحرف إلى قد يستعمل بمعنى الانتظار والتوقع والدليل عليه أنه يقال أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي والمراد منه التوقع والرجاء وقال الشاعر وإذا نظرت إليك من ملك
والبحر دونك زدتني نعما
وتحقيق الكلام فيه أن قولهم في الانتظار نظرت بغير صلة فإنما ذلك في الانتظار لمجيء الإنسان بنفسه فأما إذا كان منتظراً لرفده ومعونته فقد يقال فيه نظرت إليه كقول الرجل وإنما نظري إلى الله ثم إليك وقد يقول ذلك من لا يبصر ويقول الأعمى في مثل هذا المعنى عيني شاخصة إليك ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إن المراد من إلى ههنا حرف التعدي بل هو واحد الآلاء والمعنى وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها منتظرة
وأما السؤال الثاني وهو أن الانتظار غم وألم فجوابه أن المنتظر إذا كان فيما ينتظره على يقين من الوصول إليه فإنه يكون في أعظم اللذات
التأويل الثاني أن يضمر المضاف والمعنى إلى ثواب ربها ناظرة قالوا وإنما صرنا إلى هذا التأويل لأنه لما دلت الدلائل السمعية والعقلية على أنه تعالى تمتنع رؤيته وجب المصير إلى التأويل ولقائل أن يقول فهذه الآية تدل أيضاً على أن النظر ليس عبارة عن تقليب الحدقة لأنه تعالى قال لا ينظر إليهم وليس المراد أنه تعالى يقلب الحدقة إلى جهنم فإن قلتم المراد أنه لا ينظر إليهم نظر الرحمة كان ذلك جوابنا عما قالوه
التأويل الثالث أن يكون معنى إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ أنها لا تسأل ولا ترغب إلا إلى الله وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام ( اعبد الله كأنك تراه ) فأهل القيامة لشدة تضرعهم إليه وانقطاع أطماعهم عن غيره صاروا كأنهم ينظرون إليه الجواب قوله ليس النظر عبارة عن الرؤية قلنا ههنا مقامان
الأول أن تقيم الدلالة على أن النظر هو الرؤية من وجهين الأول ما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام وهو قوله أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) فلو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب
المرئي لاقتضت الآية أن موسى عليه السلام أثبت لله تعالى وجهة ومكاناً وذلك محال الثاني أنه جعل النظر أمراً مرتباً على الإرادة فيكون النظر متأخراً عن الإرادة وتقليب الحدقة غير متأخر عن الإرادة فوجب أن يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي
المقام الثاني وهو الأقرب إلى الصواب سلمنا أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته لكنا نقول لما تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على مسببه وهو الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ولا تعلق بينه وبين الانتظار فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار
أما قوله النظر جاء بمعنى الانتظار قلنا لنا في الجواب مقامان
الأول أن النظر الوارد بمعنى الانتظار كثير في القرآن ولكنه لم يقرن ألبتة بحرف إلى كقوله تعالى انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( الحديد 13 ) وقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ( الأعراف 53 ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( البقرة 210 ) والذي ندعيه أن النظر المقرون بحرف إلى المعدي إلى الوجوه ليس إلا بمعنى الرؤية أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر فوجب أن لا يرد بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك
وأما قول الشاعر وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
قلنا هذا الشعر موضوع والرواية الصحيحة وجوه ناظرات يوم بكر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن مسيلمة الكذاب لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء وأما قول الشاعر
وإذا نظرت إليك من ملك
فالجواب أن قوله وإذا نظرت إليك لا يمكن أن يكون المراد منه الانتظار لأن مجرد الانتظار لا يستعقب العطية بل المراد من قوله وإذا نظرت إليك وإذا سألتك لأن النظر إلى الإنسان مقدمة المكالمة فجاز التعبير عنه به وقوله كلمة إلى ههنا ليس المراد منه حرف التعدي بل واحد الآلاء قلنا إن إلى على هذا القول تكون اسماً للماهية التي يصدق عليه أنها نعمة فعلى هذا يكفي في تحقق مسمى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة وإن كان في غاية القلة والحقارة وأهل الثواب يكونون في جميع مواقف القيامة في النعم العظيمة المتكاملة ومن كان حاله كذلك كيف يمكن أن يبشر بأنه يكون في توقع الشيء الذي ينطلق عليه اسم النعمة ومثال هذا أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حالك في العظمة والقوة بعد سنة بحيث تكون متوقعاً لحصول اللقمة الواحدة من الخبز والقطرة الواحدة من الماء وكما أن ذلك فاسد من القول فكذا هذا
المقام الثاني هب أن النظر المعدي بحرف إلى المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا فلا بد وأن يحصل في
الآخرة شيء أزيد منه حتى يحسن ذكره في معرض الترغيب في الآخرة ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول لأن ذلك معلوم بالعقل فبطل ما ذكروه من التأويل
وأما التأويل الثاني وهو أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة فهذا ترك للظاهر وقوله إنما صرنا إليه لقيام الدلائل العقلية والنقلية على أن الله لا يرى قلنا بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه فلا حاجة ههنا إلى ذكرها والله أعلم
وقوله تعالى
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ
الباسر الشديد العبوس والباسل أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه والمعنى أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار وقد تقدم تفسير البسور عند قوله عَبَسَ وَبَسَرَ ( المدثر 22 ) وإنما كانت بهذه الصفة لأنها قد أيقنت أن العذاب نازل وهو قوله تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ والظن ههنا بمعنى اليقين هكذا قاله المفسرون وعندي أن الظن إنما ذكر ههنا على سبيل التهكم كأنه قيل إذا شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق وأما الفاقرة فقال أبو عبيدة الفاقرة الداهية وهو اسم للوسم الذي يفقر به على الأنف قال الأصمعي الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر البعير بها ومنه قيل عملت به الفاقرة قال المبرد الفاقرة داهية تكسر الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة داهية تكسر فقار الظهر وقال ابن قتيبة يقال فقرت الرجل كما يقال رأسته وبطنته فهو مفقور واعلم أن من المفسرين من فسر الفاقرة بأنواع العذاب في النار وفسرها الكلبي فقال الفاقرة هي أن تحجب عن رؤية ربها ولا تنظر إليه
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ
قوله تعالى كَلاَّ قال الزجاج كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة وعلمتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين وقال آخرون كَلاَّ أي حقاً إذا بلغت التراقي كان كذا وكذا والمقصود أنه لما بين تعظيم أحوال الآخرة بين أن الدنيا لا بد فيها من الانتهاء والنفاد والوصول إلى تجرع مرارة الموت وقال مقاتل كَلاَّ أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة ولكنه لا يمكنه أن يدفع أنه لا بد من الموت ومن تجرع آلامها وتحمل آفاتها
ثم إنه تعالى وصف تلك الحالة التي تفارق الروح فيها الجسد فقال إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد إذا بلغت النفس أو الروح أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك كقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ والتراقي جمع ترقوة وهي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين
واعلم أنه يكنى ببلوغ النفس التراقي عن القرب من الموت ومنه قول دريد بن الصمة ورب عظيمة دافعت عنها
وقد بلغت نفوسهم التراقي
ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الأحزاب 10 )
المسألة الثالثة قال بعض الطاعنين إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها عن القلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه من راق وحتى تلتف الساق بالساق والجواب المراد من قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ أي إذا حصل القرب من تلك الحالة
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في راق وجهان الأول أن يكون من الرقية يقال رقاه يرقيه رقية إذا عوذه بما يشفيه كما يقال بسم الله أرقيك وقائل هذا القول على هذا الوجه هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت ثم هذا الاستفهام يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيباً يشفيه وراقياً يرقيه ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار كما يقول القائل عند اليأس من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت الوجه الثاني أن يكون قوله مَنْ رَاقٍ من رقى يرقي رقياً ومنه قوله تعالى وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة قال ابن عباس إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر فيقول ملك الموت من يرقى بهذا الكافر وقال الكلبي يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو مَنْ رَاقٍ
المسألة الثانية قال الواحدي إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن فلا يجوز إظهار نون من في قوله مَنْ رَاقٍ وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله مَنْ رَاقٍ و بَلْ رَانَ ( المطففين 14 ) قال أبو علي الفارسي ولا أعرف وجه ذلك قال الواحدي والوجه أن يقال قصد الوقف على من وبل فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما وهذا غير مرضي من القراءة
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ
قال المفسرون المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقاً ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ ( القيامة 20 ) ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل الظن
الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم
واعلم أن الآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقاً والفرق إنما يكون لو كانت الروح باقية فإن الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف
ثم قال تعالى
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ
الالتفاف هو الاجتماع كقوله تعالى جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ( الإسراء 104 ) وفي الساق قولان القول الأول أنه الأمر الشديد قال أهل المعاني لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه فقيل للأمر الشديد ساق وتقول العرب قامت الحرب على ساق أي اشتدت قال الجعدي أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ثم قال والمراد بقوله وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب أو التفت شدة ترك الأهل وترك الولد وترك المال وترك الجاه وشدة شماتة الأعداء وغم الأولياء وبالجملة فالشدائد هناك كثيرة كشدة الذهاب إلى الآخرة والقدوم على الله أو التفت شدة ترك الأحباب والألياء وشدة الذهاب إلى دار الغربة والقول الثاني أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص ثم ذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها قال الشعبي وقتادة هما ساقاه عند الموت أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى والثاني قال الحسن وسعيد بن المسيب هما ساقاه إذا التفتا في الكفن والثالث أنه إذا مات يبست ساقاه والتصقت إحداهما بالأخرى
ثم قال تعالى
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ
المساق مصدر من ساق يسوق كالمقال من قال يقول ثم فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد أن المسوق إليه هو الرب والثاني أن يكون المراد أن السائق في ذلك اليوم هو الرب أي سوق هؤلاء مفوض إليه
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وفيما يتعلق بدنياه أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين ولكنه كذب به وأما ما يتعلق بفروع الدين فهو أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض وأما ما يتعلق بدنياه فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى ويتبختر ويختال في مشيته واعلم أن الآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان
المسألة الثانية قوله فَلاَ صَدَّقَ حكاية عمن فيه قولان الأول أنه كناية عن الإنسان في قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) ألا ترى إلى قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( القيامة 36 ) وهو معطوف على قوله يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 6 ) والقول الثاني أن الآية نزلت في أبي جهل
المسألة الثالثة في يتمطى قولان أحدهما أن أصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه
فقلبت الطاء فيه ياء كما قيل في تقصى أصله تقصص والثاني من المطا وهو الظهر لأنه يلويه وفي الحديث ( إذا مشت أمتي المطيطي ) أي مشية المتبختر
المسألة الرابعة قال أهل العربية لا ههنا في موضع لم فقوله فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى أي لم يصدق ولم يصل وهو كقوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ ( البلد 11 ) أي لم يقتحم وكذلك ما روي في الحديث ( أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل ) قال الكسائي لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها حتى تتبعها بأخرى إما مصرحاً أو مقدراً أما المصرح فلا يقولون لا عبدالله خارج حتى يقولون ولا فلان ولا يقولون مررت برجل لا يحسن حتى يقولوا ولا يجمل وأما المقدر فهو كقوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ ثم اعترض الكلام فقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ ( البلد 12 14 ) وكان التقدير لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً فاكتفى به مرة واحدة ومنهم من قال التقدير في قوله فَلاَ اقتَحَمَ أي أفلا اقتحم وهلا اقتحم
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى
قال قتادة والكلبي ومقاتل أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيد أبي جهل ثم قال أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى توعده فقال أبو جهل بأي شيء تهددني لا تستطع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعز أهل هذا الوادي ثم انسل ذاهباً فأنزل الله تعالى كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام ومعنى قوله أَوْلَى لَكَ بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه قال القاضي المعنى بعد ذلك فبعداً ( لك ) في أمر دنياك وبعداً لك في أمر أخراك وقال آخرون المعنى الويل لك مرة بعد ذلك وقال القفال هذا يحتمل وجوهاً أحدها أنه وعيد مبتدأ من الله للكافرين والثاني أنه شيء قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعدوه فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه فأنزل الله تعالى مثل ذلك والثالث أن يكون ذلك أمراً من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله فيكون المعنى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ( القيامة 33 ) فقل له يا محمد أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أي احذر فقد قرب منك مالا قبل لك به من المكروه
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة والسدي في اللغة المهمل يقال أسديت إبلي إسداء أهملتها
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) أعاد في آخر السورة ذلك وذكر في صحة البعث والقيامة دليلين الأول قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( القيامة 36 ) ونظيره قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 ) وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضياً بقبائح الأفعال وذلك لا يليق بحكمته فإذاً لا بد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة
الدليل الثاني على صحة القول بالحشر الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة وهو المراد من قوله تعالى
أَلَمْ يَكُ نُطْفَة ً مِّن مَّنِى ٍّ يُمْنَى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى النطفة هي الماء القليل وجمعها نطاف ونطف يقول ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة وقوله مّن مَّنِى ّ يُمْنَى أي يصب في الرحم وذكرنا الكلام في يمنى عند قوله مِن نُّطْفَة ٍ إِذَا تُمْنَى ( النجم 46 ) وقوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( الواقعة 58 ) فإن قيل ما الفائدة في يمنى في قوله مّن مَّنِى ّ يُمْنَى قلنا فيه إشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ( المائدة 75 ) والمراد منه قضاء الحاجة
المسألة الثانية في يمنى في هذه السورة قراءتان التاء والياء فالتاء للنطفة على تقدير ألم يك نطفة تمنى من المني والياء للمني من مني يمنى أي يقدر خلق الإنسان منه
ثُمَّ كَانَ عَلَقَة ً فَخَلَقَ فَسَوَّى
قوله تعالى ثُمَّ كَانَ عَلَقَة ً أي الإنسان كان علقة بعد النطفة
أما قوله تعالى فَخَلَقَ فَسَوَّى ففيه وجهان الأول فخلق فقدر فسوى فعدل الثاني فخلق أي فنفخ فيه الروح فسوى فكمل أعضاءه وهو قول ابن عباس ومقاتل
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى
ثم قال تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ يعني الصنفين
ثم فسرهما فقال الذَّكَرَ وَالاْنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى والمعنى أليس ذلك الذي أنشأ هذه الأشياء بقادر على الإعادة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأها قال سبحانك بلى والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم
سورة الإنسان
إحدى وثلاثون آية مكيةهَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
اتفقوا على أن هَلُ ههنا وفي قوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ ( الغاشية 1 ) بمعنى قد كما تقول هل رأيت صنيع فلان وقد علمت أنه قد رآه وتقول هل وعظتك هل أعطيتك ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته وقد تجيء بمعنى الجحد تقول وهل يقدر أحد على مثل هذا وأما أنها تجيء بمعنى الاستفهام فظاهر والدليل على أنها ههنا ليست بمعنى الاستفهام وجهان الأول ما روي أن الصديق رضي الله عنه لما سمع هذه الآية قال يا ليتها كانت تمت فلا نبتلي ولو كان ذلك استفهاماً لما قال ليتها تمت لأن الاستفهام إنما يجاب بلا أو بنعم فإذا كان المراد هو الخبر فحينئذ يحسن ذلك الجواب الثاني أن الاستفهام على الله تعالى محال فلا بد من حمله على الخبر
المسألة الأولى اختلفوا في الإنسان المذكور ههنا فقال جماعة من المفسرين يريد آدم عليه السلام ومن ذهب إلى هذا قال إن الله تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية ثم عقب بذكر ولده في قوله إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) والقول الثاني أن المراد بالإنسان بنو آدم بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا التقدير يكون نظم الآية أحسن
المسألة الثانية حِينٍ فيه قولان الأول أنه طائفة من الزمن الطويل الممتد وغير مقدر في نفسه والثاني أنه مقدر بالأربعين فمن قال المراد بالإنسان هو آدم قال المعنى أنه مكث آدم عليه السلام أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح وروى عن ابن عباس أنه بقي طيناً أربعين سنة وأربعين من صلصال وأربعين من حمأ مسنون فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة فهو في هذه المدة ما كان شيئاً مذكوراً وقال الحسن خلق الله تعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دواب البر والبحر في الأيام الستة التي خلق فيها السموات
والأرض وآخر ما خلق آدم عليه السلام وهو قوله لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً فإن قبل إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه قد مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً قلنا إن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح وسيصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان والذين يقولون الإنسان هو النفس الناطقة وإنها موجودة فبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل واعلم أن الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث ومتى كان كذلك فلا بد من محدث قادر
المسألة الثالثة لم يكن شيئاً مذكوراً محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين تقديره هل أتى على الإنسان حين لم يكن فيه شيئاً
إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ فيه مسائل
المسألة الأولى المشج في اللغة الخلط يقال مشج يمشج مشجاً إذا خلط والأمشاج الأخلاط قال ابن الأعرابي واحدها مشج ومشيج ويقال للشيء إذا خلط مشيج كقولك خليط وممشوج كقولك مخلوط قال الهذلي كأن الريش والفوقين منه
خلاف النصل شط به مشيج
يصف السهم بأنه قد بعد في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بدم يسير قال صاحب ( الكشاف ) الأمشاج لفظ مفرد وليس يجمع بدليل أنه صفة للمفرد وهو قوله نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ ويقال أيضاً نطفة مشيج ولا يصح أن يكون أمشاجاً جمعاً للمشج بل هما مثلان في الإفراد ونظيره برمة أعشار أي قطع مسكرة وثوب أخلاق وأرض سباسب واختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة فالأكثرون على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( الطارق 7 ) قال ابن عباس هو اختلاط ماء الرجل وهو أبيض غليظ وماء المرأة وهو أصفر رقيق فيختلطان ويخلق الولد منهما فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة قال مجاهد هي ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء وقال عبدالله أمشاجها عروقها وقال الحسن يعني من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة وذلك أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها فاختلطت النطفة بالدم وقال قتادة الأمشاج هو أنه يختلط الماء والدم أولاً ثم يصير علقة ثم يصير مضغة وبالجملة فهو عبارة عن انتقال ذلك الجسم من صفة إلى صفة ومن حال إلى حال وقال قوم إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والتقدير من نطفة ذات أمشاج فحذف المضاف وتم الكلام قال بعض العلماء الأولى هو أن المراد اختلاط نطفة الرجل والمرأة لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج وهي إذا صارت علقة فلم يبق فيها وصف أنها نطفة ولكن هذا الدليل لا يقدح في أن المراد كونها أمشاجاً من الأرض والماء والهواء والحار
أما قوله تعالى نَّبْتَلِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى نبتليه معناه لنبتليه وهو كقول الرجل جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك وأتيتك أستمنحك أي لأستمنحك كذا قوله نَّبْتَلِيهِ أي لنبتليه ونظيره قوله وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( المدثر 6 ) أي لتستكثر
المسألة الثانية نبتليه في موضع الحال أي خلقناه مبتلين له يعني مريدين ابتلاءه
المسألة الثالثة في الآية قولان أحدهما أن فيه تقديماً وتأخيراً والمعنى فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً لنبتليه والقول الثاني أنه لا حاجة إلى هذا التغيير والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث بل للابتلاء والامتحان
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر فقال فَجَعَلْنَا سَمِيعاً بَصِيراً والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَالاً يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) وأيضاً قد يراد بالسميع المطيع كقوله سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال فلان بصير في هذا الأمر ومنهم من قال بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان والله تعالى خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
قوله تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال وفيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف وهي الحواس الظاهرة والباطنة فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات ينتزع منها عقائد صادقة أولية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل ولذلك قيل من فقد حساً فقد علماً ومن قال المراد من كونه سميعاً بصيراً هو العقل قال إنه لما بين في الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين في هذه الآية أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو والذي لا يجوز ما هو
المسألة الثانية السبيل هو الذي يسلك من الطريق فيجوز أن يكون المراد بالسبيل ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك ويكون معنى هديناه أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له كقوله تعالى وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) ويكون السبيل اسماً للجنس فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) ويجوز أن يكون المراد بالسبيل هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ
( الأحزاب 67 ) وإنما أضلوهم سبيل الهدى ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله هَدَيْنَاهُ أي أرشدناه وإذا أرشد لسبيل الحق فقد نبه على تجنب ما سواها فكان اللفظ دليلاً على الطريقين من هذا الوجه
المسألة الثالثة المراد من هداية السبيل خلق الدلائل وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) وليس معناه خلقنا الهداية ألا ترى أنه ذكر السبيل فقال هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أي أريناه ذلك
المسألة الرابعة قال الفراء هديناه السبيل وإلى السبيل وللسبيل كل ذلك جائز في اللغة
قوله تعالى إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً فيه مسائل
المسألة الأولى في الآية أقوال
الأول أن شاكر أو كفوراً حالان من الهاء في هديناه السبيل أي هديناه السبيل كونه شاكراً وكفوراً والمعنى أن كل ما يتعلق بهداية الله وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان
والقول الثاني أنه انتصب قوله شاكراً وكفوراً بإضمار كان والتقدير سواء كان شاكراً أو كان كفوراً
والقول الثالث معناه إنا هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً أي ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته كقوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 ) وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ ( العنكبوت 3 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( محمد 31 ) قال القفال ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل قد نصحت لك إن شئت فأقبل وإن شئت فاترك أي فإن شئت فتحذف الفاء فكذا المعنى إنا هديناه السبيل فإما شاكراً وإما كفوراً فتحذف الفاء وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا كقوله وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 )
القول الرابع أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل أي إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز
واعلم أن هذه الأقوال كلها لائقة بمذهب المعتزلة
والقول الخامس وهو المطابق لمذهب أهل السنة واختيار الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما في قوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( التوبة 106 ) والتقدير إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ثم جعلناه تارة شَاكِراً أو تارة كَفُورًا ويتأكد هذا التأويل بما روي أنه قرأ أبو السمال بفتح الهمزة في أَمَّا والمعنى أما شاكراً فبتوفيقنا وأما كفوراً فبخذلاننا قالت المعتزلة هذا التأويل باطل لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية تهديد الكفار فقال إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً ( الإنسان 4 ) ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده
عليه ولما بطل هذا التأويل ثبت أن الحق هو التأويل الأول وهو أنه تعالى هدى جميع المكلفين سواء آمن أو كفر وبطل بهذا قول المجبرة أنه تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان أجاب أصحابنا بأنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بأن يجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان وهذا تكليف بالجمع بين المتنافيين فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضاً أن يخلق الكفر فيه ولا يصير ذلك عذراً في سقوط الوعيد وإذا ثبت هذا ظهر أن هذا التأويل هو الحق وأن التأويل اللائق بقول المعتزلة ليس بحق وبطل به قول المعتزلة
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر نعمه على الإنسان فابتدأ بذكر النعم الدنيوية ثم ذكر بعده النعم الدينية ثم ذكر هذه القسمة
واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلاً بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر بل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف إما أن يكون شاكراً وإما أن يكون كفوراً واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر قالوا لأن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً وأن يكون كل مذنب كافراً واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلاً بفعل الشكر فإن ذلك باطل طرداً وعكساً أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه والفاسق قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلاً بالشكر ولا بالكفران بل يكون ساكناً غافلاً عنهما فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك بل لا بد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك وحينئذ يثبت الحصر ويسقط سؤالهم بالكلية والله أعلم
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاٌّ بْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
قوله تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد وفيه مسائل
المسألة الأولى الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه كقوله تعالى هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ ( ق 23 ) وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطباً لها وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة لأن قوله تعالى أَعْتَدْنَا أخبار عن الماضي قال القاضي إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود قلنا هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة
المسألة الثالثة قرىء سلاسلاً بالتنوين وكذلك قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ ومنهم من يصل بغير تنوين ويقف
بالألف فلمن نون وصرف وجهان أحدهما أن الأخفش قال قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف قال وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني أن هذه الجموع أشبهت الآحاد لأنهم قالوا صواحبات يوسف فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ ( الحج 40 ) وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله الظُّنُونَاْ فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً الأبرار جمع بر كالأرباب جمع رب والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( البقرة 177 ) ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم فقال يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ يعني من إناء فيه الشراب ولهذا قال ابن عباس ومقاتل يريد الخمر وفي الآية سؤالان
السؤال الأول أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره ههنا الجواب من وجوه أحدها أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذه العين وثانيها أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً وثالثها أي بأس في أن يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرة ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار
السؤال الثاني ما فائدة كان في قوله كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً الجواب منهم من قال إنها زائدة والتقدير من كأس مزاجها كافوراً وقيل بل المعنى كان مزاجها في علم الله وحكمه كافورا
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
المسألة الأولى إن قلنا الكافور اسم النهر كان عيناً بدلاً منه وإن شئت نصبت على المدح والتقدير أعني عيناً أما إن قلنا إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان عيناً بدلاً من محل من كأس على تقدير حذف مضاف كأنه قيل يشربون خمراً خمر عين ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
المسألة الثانية قال في الآية الأولى يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ( الإنسان 5 ) وقال ههنا يشرب بها فذكر هناك من وههنا الباء والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل
المسألة الثالثة قوله يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها والكفار بالاتفاق لا يشربون منها فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان إذا ثبت هذا فقوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ( الزمر 7 ) لا يتناول الكفار بل يكون مختصاً بالمؤمنين فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر
قوله تعالى يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً معناه يفجرونها حيث شاؤا من منازلهم تفجيراً سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
فالأول قوله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافياً أما النذر فقال أبو مسلم النذر كالوعد إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر وإن كان من الله تعالى فهو وعد واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله على كذا وكذا من الصدقة أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول إن شفى الله مريضي أو رد غائبي فعلى كذا كذا واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كما إذا قال إن دخل فلان الدار فعلى كذا فمن الناس من جعله كاليمين ومنهم من جعله من باب النذر إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال أولها أن المراد من النذر هو النذر فقط ثم قال الأصم هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر عى أداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى وهذا التفسير في غاية الحسن وثانيها المراد بالنذر ههنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات وذلك لأن النذر معناه الإيجاب وثالثها قال الكلبي المراد من النذر العهد والعقد ونظيره قوله تعالى أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) فسمى فرائضه عهداً وقال أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) سماها عقوداً لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان
المسألة الثانية هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر لأنه تعالى عقبه بيخافون يوماً وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً وتأكد هذا بقوله تعالى وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ ( النحل 91 ) بعد توكيدها وبقوله ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ( الحج 29 ) فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم
المسألة الثالثة قال الفراء وجماعة من أرباب المعاني كان في قوله كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( الإنسان 5 ) زائدة وأما ههنا فكان محذوفة والتقدير كانوا يوفون بالنذر ولقائل أن يقول إنا بينا أن كان في قوله كَانَ مِزَاجُهَا ( الإنسان 5 ) ليست بزائدة وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
النوع الثاني من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل فلما حكى عنهم العمل وهو قوله يُوفُونَ حكى عنهم النية وهو قوله وَيَخَافُونَ يَوْماً وتحقيقه قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً وما كان كذلك لا يكون شراً فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر الجواب أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً
السؤال الثاني ما معنى المستطير الجواب فيه وجهان أحدهما الذي يكون فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ وهو من قولهم استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر فإن قيل كيف يمكن أن يقال شر ذلك اليوم مستطير منتشر مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) قلنا الجواب من وجهين الأول أن هول القيامة شديد ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل وتتناثر الكواكب وتتكور الشمس والقمر وتفرغ الملائكة وتبدل الأرض غير الأرض وتنسف الجبال وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وقال يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيراً في العصاة والفجار وأما المؤمنون فهم آمنون كما قال لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ( الزخرف 68 ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( فاطر 44 ) إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز
القول الثاني في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع
السؤال الثالث لم قال كان شره مستطيراً ولم يقل وسيكون شره مستطيراً الجواب اللفظ وإن كان للماضي إلا أنه بمعنى المستقبل وهو كقوله وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ ( الأحزاب 15 ) ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيراً في علم الله وفي حكمته كأنه تعالى يعتذر ويقول إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد وهما يوجبان الوفاء به لاستحالة الكذب في كلامي فكأنه تعالى يقول كان ذلك في الحكمة لازماً فلهذا السبب فعلته
النوع الثالث من أعمال الأبرار قوله تعالى
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله تعالى وإليه الإشارة بقول تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ وههنا مسائل
المسألة الأولى لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب ( البسيط ) أنها نزلت في حق علي عليه السلام وصاحب ( الكشاف ) من المعتزلة ذكر هذه القصة فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أناس معه فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين فلما أمسوا ووضعواالطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة ) والأولون يقولون إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ ( الإنسان 5 ) وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ مِنْ وَيُطْعِمُونَ ( الإنسان 5 7 8 ) وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة اللهم إلا أن يقال السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية الذين يقولون هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام قالوا المراد من قوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار ( فإنهم ) قالوا إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان بالطعام ولا حياة إلا به وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن
جميع وجوه المنافع فيقال أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وقال وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) إذا ثبت هذا فنقول إن الله تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة وأما قوله تعالى عَلَى حُبّهِ ففيه وجهان أحدهما أن يكون الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونظيره لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) والثاني قال الفضيل بن عياض على حب الله أي لحبهم لله واللام قد تقام مقام على وكذلك تقام على مقام اللام ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم وهم ثلاثة أحدهم المسكين وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه والثاني اليتيم وهو الذي مات كاسبه فيبقى عاجزاً عن الكسب لصغره مع أنه مات كسبه والثالث الأسير وهو المأخوذ من قومه المملوك ( ه ) رقبته الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلة وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى ههنا هم الذين ذكرهم في قوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 11 16 ) وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال أحدها قال ابن عباس والحسن وقتادة إنه الأسير من المشركين روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق ولا يمتنع أيضاً أن يكون المراد هو الأسير كافراً كان أو مسلماً لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى فإن قيل لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه قلنا القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب فنقول الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها قال السدي الأسير هو المملوك وثالثها الأسير هو الغريم قال عليه السلام ( غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ) ورابعها الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وروى ذلك مرفوعاً من طريق الخدري أنه عليه السلام قال مِسْكِيناً فقيراً وَيَتِيماً لا أب له وَأَسِيراً قال المملوك المسجون وخامسها الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج قال عليه الصلاة والسلام ( اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان ) قال القفال واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين أحدهما تحصيل رضا الله وهو المراد من قوله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ والثاني الاحتراز من خوف يوم القيامة وهو المراد من قوله إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إلى قوله قَمْطَرِيراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا هذه الأشياء باللسان إما لأجل أن يكون ذلك القول منعاً لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر لأن إحسانهم مفعول لأجل الله تعالى فلا معنى لمكافأة الخلق وإما أن يكون
لأجل أن يصير ذلك القول تفقيهاً وتنبيهاً على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة وثانيها أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك وثالثها أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً وعن مجاهد أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى عليهم
المسألة الثانية اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل الله تعالى وتارة يكون لغير الله تعالى إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمد وثناء وتارة يكون لهما وهذا هو الشرك والأول هو المقبول عند الله تعالى وأما القسمان الباقيان فمردودان قال تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ( البقرة 264 ) وقال وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَواة ٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( الروم 39 ) ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى إذا عرفت هذا فنقول القوم لما قالوا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً
المسألة الثالثة الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر وهو على وزن الدخول والخروج هذا قول جماعة أهل اللغة وقال الأخفش إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا ( الإسراء 99 ) مثل برد وبرود وإن شئت مصدراً واحداً في معنى جمع مثل قعد قعوداً وخرج خروجاً
المسألة الرابعة قوله إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يحتمل وجهين أحدهما أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم والثاني أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة فإن قيل إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه قلنا الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط أما الإطعام فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة
المسألة الخامسة وصف اليوم بالعبوس مجازاً على طريقتين أحدهما أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولهم نهارك صائم روي أن الكافر يحبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران والثاني أن يشبه في شدته وضراوته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل
المسألة السادسة قال الزجاج جاء في التفسير أن قمطريراً معناه تعبيس الوجه فيجتمع ما بين العينين قال وهذا سائغ في اللغة يقال اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها يعني أن معنى قمطر في اللغة جمع وقال الكلبي قمطريراً يعني شديداً وهو قول الفراء وأبي عبيدة والمبرد وابن قتيبة قالوا يوم قمطرير وقماطر إذا كان صعباً شديداً أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء قال الواحدي هذا معنى والتفسير هو الأول
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين طلب رضا الله والخوف من القيامة بين في هذه الآية أنه أعطاهم هذين الغرضين أما الحفظ من هول القيامة فهو المراد بقوله فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وسمى شدائدها شراً توسعاً على ما علمت واعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب وأما طلب رضاء الله تعالى فأعطاهم بسببه نضرة في الوجه وسروراً في القلب وقد مر تفسير وَلَقَّاهُمْ في قوله وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة ً ( الفرقان 75 ) وتفسير النضرة في قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ ( القيامة 23 ) والتنكير في سروراً للتعظيم والتفخيم
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّة ً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي ونظيره قوله تعالى وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( الحج 23 ) أقول وهذا يدل على أن المراد من قوله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ( الإنسان 9 ) ليس هو الإطعام فقط بل جميع أنواع المواساة من الطعام والكسوة ولما ذكر تعالى طعامهم ولباسهم وصف مساكنهم ثم إن المعتبر في المساكن أمور
أحدها الموضع الذي يجلس فيه فوصفه بقوله مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاْرَائِكِ وهي السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعت وفي نصب متكئين وجهان الأول قال الأخفش إنه نصب على الحال والمعنى وجزاهم جنة في حال اتكائهم كما تقول جزاهم ذلك قياماً والثاني قال الأخفش وقد يكون على المدح
والثاني هو المسكن فوصفه بقوله لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وفيه وجهان أحدهما أن هواءها معتدل في الحر والبرد والثاني أن الزمهرير هو القمر في لغة طيء هكذا رواه ثعلب وأنشد وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر
وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
والثالث كونه بستاناً نزهاً فوصفه الله تعالى بقوله وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وفي الآية سؤالان الأول ما السبب في نصب وَدَانِيَة ً الجواب ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج فيه وجهين أحدهما الحال بالعطف على قوله مُتَّكِئِينَ كما تقول في الدار عبدالله متكئاً ومرسلة عليه الحجال لأنه حيث قال عليهم رجع إلى ذكرهم والثاني الحال بالعطف على محل يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) والتقدير غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد ودنو الظلال عليهم والثالث أن يكون دانية نعتاً للجنة والمعنى وجزاهم جنة دانية وعلى هذا الجواب تكون دانية صفة
لموصوف محذوف كأنه قيل وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها وذلك لأنهم وعدوا جنتين وذلك لأنهم خافوا بدليل قوله إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا ( الإنسان 10 ) وكل من خاف فله جنتان بدليل قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) وقرىء وَدَانِيَة ً بالرفع على أن ظِلَالُهَا مبتدأ وَدَانِيَة ً خبر والجملة في موضع الحال والمعنى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) والحال أن ظلالها دانية عليهم
السؤال الثاني الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس فإن كان لا شمس في الجنة فكيف يحصل الظل هناك والجواب أن المراد أن أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلله منها
قوله تعالى وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ذكروا في ذللت وجهين الأول قال ابن قتيبة ذللت أدنيت منهم من قولهم حائط ذليل إذا كان قصير السمك والثاني ظللت أي جعلت منقادة ولا تمتنع على قطافها كيف شاءوا قال البراء بن عازب ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه
واعلم أنه تعالى لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف بعد ذلك شرابهم وقدم عليه وصف تلك الأواني التي فيها يشربون فقال
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأانِيَة ٍ مِّن فِضَّة ٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّة ٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
في الآية سؤالات
السؤال الأول قال تعالى وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ( الزخرف 71 ) والصحاف هي القصاع والغالب فيها الأكل فإذا كان ما يأكلون فيه ذهباً فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهباً لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب مالا يتنوق في إناء الأكل وإذا دلت هذه الآية على أن إناء شربهم يكون من الذهب فكيف ذكر ههنا أنه من الفضة والجواب أنه لا منافاة بين الأمرين فتارة يسقون بهذا وتارة بذاك
السؤال الثاني ما الفرق بين الآنية والأكواب الجواب قال أهل اللغة الأكواب الكيزان التي لا عرى لها فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء يقع فيه الشرب كالقدح والكوب ما صب منه في الإناء كالإبريق
السؤال الثالث ما معنى كانت الجواب هو من يكون في قوله كُنْ فَيَكُونُ أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين
السؤال الرابع كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير الجواب عنه من وجوه أحدها أن أصل القوارير في الدنيا الرمل وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا فكما أنه لا نسبة بين
هذين الأصلين فكذا بين القارورتين في الصفاء واللطافة وثانيها قال ابن عباس ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وإذا كان كذلك فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها إلا أنه كثيف الجوهر وكمال القارورة في شفافيتها وصفائها إلا أنه سريع الانكسار فآنية الجنة آنية يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها وشرف جوهرها ومن القارورة صفاؤها وشفافيتها وثالثها أنها تكون فضة ولكن لها صفاء القارورة ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين ورابعها أن المراد بالقوارير في الآية ليس هو الزجاج فإن العرب تسمى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورق وصفاً قارورة فمعنى الآية وَأَكْوابٍ مِن فِضَّة ٍ مستديرة صافية رقيقة
السؤال الخامس كيف القراءة في قَوَارِيرَاْ قَوارِيرَ الجواب قرئا غير منونين وبتنوين الأول وبتنوينهما وهذا التنوين بدل عن ألف الإطلاق لأنه فاصلة وفي الثاني لاتباعه الأول لأن الثاني بدل من الأول فيتبع البدل المبدل وقرىء قَوارِيرَ مِن فِضَّة ٍ بالرفع على هي قوارير وقدروها صفة لقوارير من فضة
أما قوله تعالى قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال المفسرون معناه قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص من الري ليكون ألذ لشربهم وقال الربيع بن أنس إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها
المسألة الثانية أن منتهى مراد الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله كَانَتْ قَوَارِيرَاْ وأما النقاء فقد ذكره بقوله من فضة وأما الشكل فقد ذكره بقوله قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
المسألة الثالثة المقدر لهذا التقدير من هو فيه قولان الأول أنهم هم الطائفون الذين دل عليهم قوله تعالى وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب والثاني أنهم هم الشاربون وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقداراً من المشروب جاءهم على ذلك القدر
واعلم أنه تعالى لما وصف أواني مشروبهم ذكر بعد ذلك وصف مشروبهم فقال
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
العرب كانوا يحبون جعل الزنجبيل في المشروب لأنه يحدث فيه ضرباً من اللذع فلما كان كذلك وصف الله شراب أهل الجنة بذلك ولا بد وأن تكون في الطيب على أقصى الوجوه قال ابن عباس وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم وتمام القول ههنا مثل ما ذكرناه في قوله كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق وقال الأكثرون يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ وقد زيدت الباء في التركيب
حتى صارت الكلمة خماسية ودلت على غاية السلاسة قال الزجاج السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل وليس فيه لذعة لأن نقيض اللذع هو السلاسة وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلاً إليها وهو بعيد إلا أن يراد أن جملة قول القائل سلسبيلا جعلت علماً للعين كما قيل تأبط شراً وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح
المسألة الثانية في نصب عيناً وجهان أحدهما أنه بدل من زنجبيلاً وثانيهما أنه نصب على الاختصاص
المسألة الثالثة سلسبيلاً صرف لأنه رأس آية فصار كقوله الظنونا والسبيلا وقد تقدم في هذه السورة بيان ذلك واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
فقال وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون
والصفة الثالثة قوله تعالى إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وفي كيفية التشبيه وجوه أحدها شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم ألا ترى أنه تعالى قال وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين وثانيها أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وثالثها قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى رأيت هل له مفعول فيه قولان الأول قال الفراء المعنى وإذا رأيت ما ثم وصلح إضمار ما كما قال لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ يريد ما بينكم قال الزجاج لا يجوز إضمار ما لأن ثم صلة وما موصولها ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة الثاني أنه ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر والغرض منه أن يشبع ويعم كأنه قيل وإذا وجدت الرؤية ثم ومعناه أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير وثم في موضع النصب على الظرف يعني في الجنة
المسألة الثانية اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب
واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة وما هو إلا أن تصير نفسه منقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت وأما ما هو على أصول المتكلمين فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كمايرى أدناه وقيل لا زوال له وقيل إذا أرادوا شيئاً حصل ومنهم من حمله على التعظيم فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان
المسألة الثالثة قال بعضهم قوله وَإِذَا رَأَيْتَ خطاب لمحمد خاصة والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك فقال نعم فبكى حتى مات وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
قوله تعالى عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ وثياب سندس خبره والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس فإن قيل عاليهم مفرد وثياب سندس جماعة والمبتدأ إذا كان مفرداً لا يكون خبره جمعاً قلنا المبتدأ وهو قوله عَالِيَهُمْ وإن كان مفرداً في اللفظ فهو جمع في المعنى نظيره قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ ( المؤمنون 67 ) كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية وهي فتح الياء فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه الأول أنه نصب على الظرف لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب كما كان قوله وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني أنه نصب على الحال ثم هذا أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها قال أبو علي الفارسي التقدير ولقاهم نضرة وسروراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثانيها التقدير وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثالثها أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس ورابعها حسبتهم لؤلؤاً منثوراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول تكون الثياب الأبرار وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث في سبب هذا النصب أن يكون التقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس
المسألة الثانية قرأ نافع وعاصم خضر واستبرق كلاهما بالرفع وقرأ الكسائي وحمزة كلاهما بالخفض وقرأ ابن كثير خضر بالخفض واستبرق بالرفع وقرأ أبو عمرو وعبدالله بن عامر خضر بالرفع
واستبرق بالخفض وحاصل الكلام فيه أن خضراً يجوز فيه الخفض والرفع أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس لأن سندس أريد به الجنس فكان في معنى الجمع وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع كما يقال أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال إنه قبيح والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم حصى أبيض وفي التنزيل مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ و أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته وأما استبرق فيحوز فيه الرفع والخفض أيضاً معاً أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب كأنه قيل ثياب سندس واستبرق وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل ثياب سندس واستبرق والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال ثياب خز وكتان ويدل على ذلك قوله تعالى وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف
المسألة الثالثة السندس ما رق من الديباج والاستبرق ما غلظ منه وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ثم قيل إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون وقيل بل هذا لباس الأبرار وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها ولهذا قال عَالِيَهُمْ وقيل هذا من تمام قوله مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاْرَائِكِ ومعنى عَالِيَهُمْ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج
قوله تعالى وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ وفيه سؤالات
السؤال الأول قال تعالى في سورة الكهف أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ( الكهف 31 ) فكيف جعل تلك الأساور ههنا من فضة والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا وثانيها أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم وميله إليه أشد وثالثها أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس
السؤال الثاني السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب الجواب أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً وقيل هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط ثم غلب في اللفظ جانب التذكير وفي الآية وجه آخر وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار
الذهب والفضة فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً وبالجملة فقوله وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ إشارة إلى قوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا وقوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إشارة إلى قوله لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فهذا احتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده
قوله تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً الطهور فيه قولان الأول المبالغة في كونه طاهراً ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا وثانيها المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة وما داسته الأقدام الدنسة وثالثها أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني في الطهور أنه المطهر وعلى هذا التفسير أيضاً في الآية احتمالان أحدهما قال مقاتل هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما قال أبو قلابة يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية فإن قيل قوله تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل أو هذا نوع آخر قلنا بل هذا نوع آخر ويدل عليه وجوه أحدها دفع التكرار وثانيها أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه فقال وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها وهو أن الروح من عالم الملائكة والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوى البدن وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته وذلك هو آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء قال تعالى
إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً
اعلم أن في الآية وجهين الأول قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله تعالى لكم إلى هذا الوقت فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم كما قال حاكياً عن الملائكة إنهم يقولون لأهل الجنة سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 24 ) وقال كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَة ِ ( الحاقة 24 ) والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وألم قلبه ويقال للمثاب هذا بطاعتك فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمراً أي ويقال لهم هذا الكلام الوجه الثاني أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول إذا كان فعل العبد خلفاً لله فكيف يعقل أن يكون فعل الله جزاء على فعل الله الجواب الجزء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله تعالى
السؤال الثاني كون سعي العبد مشكوراً لله يقتضي كون الله شاكراً له والجواب كون الله تعالى شاكراً للعبد محال إلا على وجه المجاز وهو من ثلاثة أوجه الأول قال القاضي إن الثواب مقابل لعلمهم كما أن الشكر مقابل للنعم الثاني قال القفال إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثني به إنه شكور فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده هو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطاؤه إياهم عليه ثواباً كثيراً الوجه الثالث أن منتهى درجة العبد أن يكون راضياً من ربه مرضياً لربه على ما قال أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 27 28 ) وكونها راضية من ربه أقل درجة من كونها مرضية لربه فقوله إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء إشارة إلى الأمر الذي به تصير النفس راضية من ربه وقوله وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إشارة إلى كونها مرضية لربه ولما كانت هذه الحال أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج والمراد منه إما كونه مخلوقاً من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن
والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية فلذلك يدل على أنه لا بد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعاً عاطلاً باطلاً بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان وإليه الإشارة بقوله نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) وههنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان وهو السمع والبصر والعقل وإليه الإشارة بقوله فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر فقال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الإنسان 3 ) ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين منهم شاكر ومنهم كفور وهذا الإنقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية أو من الله على ما هو تأويل الجبرية ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء وهو إلى قوله وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( الإنسان 22 ) واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين أما المطيعون فهم الرسول وأمته والرسول هو الرأس والرئيس فلهذا خص الرسول بالخطاب واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإزالة الغم والوحشة عن خاطره وإنما فعل ذلك لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة ذكر نهيه عن بعض الأشياء ثم بعد الفراغ عن النهي ذكر أمره ببعض الأشياء وإنما قدم النهي على الأمر لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار وله الشكر عليه أبد الآباد
ولنرجع إلى التفسير فنقول أما تلك المقدمة فهي قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسماً لأن تأكيداً على تأكيد أبلغ كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الكفار يقولون إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي وهذا فيه فائدتان
إحداهما إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السموات عظمه وصدقه
والثانية تقويته على تحمل التكليف المستقبل وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة وكان ذلك شاقاً عليه فقال له أَنَاْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً فكأنه قال له إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقاً منجماً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال فاصبر لحكم ربك
الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
فإما أن يكون المعنى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ في تأخير الإذن في القتال ونظيره فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( الأعراف 87 ) أو يكون المعنى عاماً في جميع التكاليف أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفاً خاصاً بك من العبادات والطاعات أو متعلقاً بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك ثم في الآية سؤالات
السؤال الأول قوله فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ دخل فيه أن لاَ تُطِعْهُ أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ فكأن ذكره بعد هذا تكريراً الجواب الأول أمر بالمأمورات والثاني نهى عن المنهيات ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح فيكون التصريح به مفيداً
السؤال الثاني أنه عليه السلام ما كان يطيع أحداً منهم فما الفائدة في هذا النهي الجواب المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم لأنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات
السؤال الثالث ما الفرق بين الآثم والكفور الجواب الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت والكفور هو الجاحد للنعمة فكل كفور آثم أما ليس كل آثم كفوراً وإنما قلنا إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ( النساء 48 ) فسمى الشرك إثماً وقال وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) وقال وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ( الأنعام 120 ) وقال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ( البقرة 219 ) فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي واعلم أن كل من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غيره فقد عصاه وجحد إنعامه إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن المراد شخص معين ثم منهم من قال الآثم والكفور هو شخص واحد وهو أبو جهل ومنهم من قال الآثم هو الوليد والكفور هو عتبة قال القفال ويدل عليه أنه تعالى سمي الوليد أثيماً في قوله وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ إلى قوله مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( القلم 10 12 ) وروى صاحب الكشاف أن الآثم هو عتبة والكفور هو الوليد لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق والوليد كان غالياً في الكفر والقول الأول أولى لأنه متأيد بالقرآن يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالاً فقرأ عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله فَانٍ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ ( فصلت 1 13 ) فانصرفا عنه وقال أحدهما ظننت أن الكعبة ستقع علي القول الثاني أن الآثم
والكفور مطلقان غير مختصين بشخص معين وهذا هو الأقرب إلى الظاهر ثم قال الحسن الآثم هو المنافق والكفور مشركوا العرب وهذا ضعيف بل الحق ما ذكرناه من أن الآثم عام والكفور خاص
السؤال الرابع كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ الجواب الْكَفُورَ أخبث أنواع الآثم فخصه بالذكر تنبيهاً على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله
السؤال الخامس كلمة أو تقتضي النهي عن طاعة أحدهما فلم لم يذكر الواو حتى يكون نهياً عن طاعتهما جميعاً الجواب ذكروا فيه وجهين الأول وهو الذي ذكره الزجاج واختاره أكثر المحققين أنه لو قيل ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لأن النهي عن طاعة مجموع شخصين لا يقتضي النهي عن طاعة كل واحد منهما وحده أما النهي عن طاعة أحدهما فيكون نهياً عن طاعة مجموعهما لأن الواحد داخل في المجموع ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأن قوله لاَ تُطِعْهُ هذا وهذا معناه كن مخالفاً لأحدهما ولا يلزم من إيجاب مخالفة أحدهما إيجاب مخالفتهما معاً فإنه لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه أما إذا توافقا فلا تخالفهما والثاني قال الفراء تقدير الآية لا تطع منهم أحداً سواء كان أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ كقول الرجل لمن يسأله شيئاً لا أعطيك سواء سألت أو سكت
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا النهي عقبه بالأمر فقال
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
وفي هذه الآية قولان
الأول أن المراد هو الصلاة قالوا لأن التقييد بالبكرة والأصيل يدل على أن المراد من قوله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ الصلوات ثم قالوا البكرة هي صلاة الصبح والأصيل صلاة الظهر والعصر وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ المغرب والعشاء فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً المراد منه التهجد ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ أمر وهو للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة وقال آخرون بل المراد التطوع وحكمه ثابت
القول الثاني أن المراد من قوله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد والمقصود أن يكون ذاكراً لله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً بقلبه ولسانه وهو المراد من قوله عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الأحزاب 41 )
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً ( الإنسان 23 ) أي هديناك إلى هذه الأسرار وشرحنا صدرك بهذه الأنوار وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقاداً مطيعاً لأمرنا وإياك وأن تكون منقاداً مطيعاً لغيرنا ثم لما أمره بطاعته ونهاه عن طاعة غيره قال وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات أما معرفة الحقيقة فلا فتارة يقال له وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وهو إشارة إلى معرفة الأسماء وتارة يقال له وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ وهو
إشارة إلى مقام الصفات وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات إلى الوصول إليها والاطلاع عليها فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين فقال تعالى
إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية وفي الآية سؤالان
السؤال الأول لم قال وراءهم ولم يقل قدامهم الجواب من وجوه أحدها لما لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها أن تستعمل بمعنى قدام كقوله مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ( إبراهيم 16 ) وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ ( الكهف 79 )
السؤال الثاني ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل الجواب استعير الثقل لشدته وهوله من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 )
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل قال
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به فإذا أحبوا اللذات العاجلة وتلك اللذات لا تحصل إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم وعلى أن يسلب النعمة عنهم وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله وأن يتركوا هذا التمرد وحاصل الكلام كأنه قيل لهم هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والإنقياد له فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله والإعراض عن حكمه لكنتم قد تمردتم وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب وطريقة لطيفة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة الأسر الربط والتوثيق ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضاً ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب
المسألة الثانية وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم وهو كقوله عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل لا حاجة بنا إلى
أحد من المخلوقين ألبتة وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام فإنا قادرون على إفنائهم وعلى إيجاد أمثالهم ونظيره قوله تعالى أَن يَشَاء يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ( النساء 133 ) وقال إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( إبراهيم 19 20 ) ثم قيل بدلنا أمثالهم أي في الخلقة وإن كانوا أضدادهم في العمل وقيل أمثالهم في الكفر
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف في قوله وَإِذَا شِئْنَا إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( محمد 38 ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ( النساء 133 ) واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع فلا يقال إن طلعت الشمس أكرمتك أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع تقول آتيك إذا طلعت الشمس فههنا لما كان الله تعالى عالماً بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف إذا
إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمعنى أن هذه السورة بما فيها من الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلاً واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر فالقدري يتمسك بقوله تعالى فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ويقول إنه صريح مذهبي ونظيره فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ والجبري يقول متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر وذلك لأن قوله فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل وقوله بعد ذلك وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد وذلك هو الجبر وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف قال القاضي المذكور في هذه الآية اتخاذ السبيل إلى الله ونحن نسلم أن الله قد شاءه لأنه تعالى قد أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه وهذا لا يقتضي أن يقال العبد لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه وأيضاً فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب وهو أن يقال ما محل أن
يشاء الله وجوابه النصب على الظرف وأصله إلا وقت مشيئة الله وكذلك قراءة ابن مسعود ( إلا ما شاء الله ) لأن ما مع الفعل كأن معه وقرىء أيضاً يشاءون بالياء
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً أي عليماً بأحوالهم وما يكون منهم حيث خلقهم مع علمه بهم
ثم ختم السورة فقال
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أن خاتمة هذه السورة عجيبة وذلك لأن قوله وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) يدل على أن جميع ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله وقوله يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله فخرج من آخر هذه السورة إلا الله وما هو من الله وذلك هو التوحيد المطلق الذي هو آخر سير الصديقين ومنتهى معارجهم في أفلاك المعارف الإلهية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ إن فسرنا الرحمة الإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله وفضله وإحصانه لا بسبب الاستحقاق وذلك لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل والحاجة المحالين على الله والمفضي إلى المحال محال فتركه محال فوجوده واجب عقلاً وعدمه ممتنع عقلاً وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة وأيضاً فلأن من كان مديوناً من إنسان فأدى ذلك الدين إلى مستحقه لا يقال بأنه إنما دفع ذلك القدر إليه على سبيل الرحمة والتفضل
المسألة الثانية قوله وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يدل على أنه جف القلم بما هو كائن لأن معنى أعد أنه علم ذلك وقضى به وأخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ ومعلوم أن التغيير على هذه الأشياء محال فكان الأمر على ما بيناه وقلناه
المسألة الثالثة قال الزجاج نصب الظالمين لأن قبله منصوباً والمعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين وقوله أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً كالتفسير لذلك المضمر وقرأ عبدالله بن الزبير والظالمون وهذا ليس باختيار لأنه معطوف على يدخل من يشاء وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية غير حسن وأما قوله في حم عسق يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ فإنما ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصبه في المعنى فلم يجز أن يعطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء وههنا قوله أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يدل على ذلك الناصب المضمر فظهر الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سورة المرسلات
وهي خمسون آية ميكةوَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الكلمات الخمس إما أن يكون المراد منها جنساً وحداً أو أجناساً مختلفة أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوهاً الأول أن المراد منها بأسرها الملائكة فالمرسلات هم الملائكة الذين أرسلهم الله إما بإيصال النعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين وقوله عُرْفاً فيه وجوه أحدها متتابعة كشعر العرف يقال جاؤا عرفاً واحداً وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه والثاني أن يكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكرة فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فهذا المعنى فيهم ظاهر وإن كانوا لأجل العذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم والثالث أن يكون مصدراً كأنه قيل والمرسلات أرسالاً أي متتابعة وانتصاب عرفاً على الوجه الأول على الحال وعلى الثاني لكونه مفعولاً أي أرسلت للإحسان والمعروف وقوله فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً فيه وجهان الأول يعني أن الله تعالى لما أرسل أولئك الملائكة فهم عصفوا في طيرانهم كما تعصف الرياح والثاني أن هؤلاء الملائكة يعصفون بروح الكافر يقال عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه يقال ناقة عصوف أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم قال الشاعر في فيلق شهباء ملمومة
تعصف بالمقبل والمدبر