كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
الثالث قوله سبحانه إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم أحدها دلالتها على أمم من أهل الجنة وذلك لأن العلماء من أهل الخشية ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة فالعلماء من أهل الجنة فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البينة 8 ) إلى قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى ( وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ) واعلم أنه يمكن إثبات مقدمتي هذه الدلالة بالعقل أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه فذلك لأن من لم يكن عالماً بالشيء استحال أن يكون خائفاً منه ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بدّ له من العلم بأمور ثلاثة منها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها ومنها العلم بكونه عالماً لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه ومنها العلم بكونه حكيماً فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادراً على منعه عالماً بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بشفاهته صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات قادراً على كل المقدورات غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله وإنما قلنا أن الخوف سبب الفوز بالجنة وذلك لأنه إذا سنح للعبد لذة عاجلة وكانت تلك اللذة على خلاف أمر الله وفعل ذلك الشيء يكون مشتملاً على منفعة ومضرة فصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح فإذا علم بنور الإيمان أن اللذة العاجلة حقيرة في مقابلة الألم الآجل صار ذلك الإيمان سبباً لفراره عن تلك اللذة العاجلة وذلك هو الخشية وإذا صار تاركاً للمحظور فاعلاً للواجب كان من أهل الثواب فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بالله خائف والخائف من أهل الجنة وثانيها أن ظاهر الآية يدل على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء وذلك لأن كلمة إنما للحصر فهذا يدل على أن خشية الله لا تحصل إلا للعلماء والآية الثانية وهي قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ دالة على أن الجنة لأهل الخشية وكونها لأهل الخشية ينافي كونها لغيرهم فدل مجموع الآيتين على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء واعلم أن هذه الآية فيها تخويف شديد وذلك لأنه ثبت أن الخشية من الله تعالى من لوازم العلم بالله فعند عدم الخشية يلزم عدم العلم بالله وهذه الدقيقة تنبهك على أن العلم الذي هو سبب القرب من الله تعالى هو الذي يورث الخشية وأن أنواع المجادلات وإن دقت وغمضت إذا خلت عن إفادة الخشية كانت من العلم المذموم
وثالثها قرىء إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء برفعه الأول ونصب الثاني ومعنى هذه القراءة أنه تعالى لو جازت الخشية عليه لما خشي العلماء لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز وأما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به وأي التفات إليه ففي هذه القراءة نهاية النصب للعلماء والتعظيم الرابع قوله تعالى وَقُلْ رَبّى زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره وقال قتادة لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام ولم يقل هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً ( الكهف 66 ) الخامس كان لسليمان عليه السلام من ملك الدنيا ما كان حتى أنه قال رَبّ هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ثم إنه لم يفتخر بالمملكة وافتخر بالعلم حيث قال وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 16 ) فافتخر بكونه عالماً بمنطق الطير فإذا حسن من سليمان أن يفتخر بذلك العلم فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كان أحسن ولأنه قدم ذلك على قوله وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء وأيضاً فإنه تعالى لما ذكر كمال حالهم قدم العلم أولاً وقال وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ ( الأنبياء 78 ) إلى قوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ( الأنبياء 79 ) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال الدنيا فدل على أن العلم أشرف السادس قال بعضهم الهدهد مع أنه في نهاية الضعف ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ فلولا أن العلم أشرف الأشياء وإلا فمن أين للهدهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين وما ذاك إلا ببركة العلم السابع قال عليه الصلاة والسلام ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ) وفي التفضيل وجهان أحدها أن التفكر يوصلك إلى الله تعالى والعبادة توصلك إلى ثواب الله تعالى والذي يوصلك إلى الله خير مما يوصلك إلى غير الله والثاني أن التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) جعل الصلاة وسيلة إلى ذكر القلب والمقصود أشرف من الوسيلة فدل ذلك على أن العلم أشرف من غيره الثامن قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) فسمى العلم عظيماً وسمي الحكمة خيراً كثيراً فالحكمة هي العلم وقال أيضاً الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 ) فجعل هذه النعمة مقدمة على جميع النعم فدل على أنه أفضل من غيره التاسع أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم أما التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام ( عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بها كرامتي في الدنيا والآخرة ) وأما الزبور فقال سبحانه وتعالى ( يا داود قل لأحبار
بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقاء فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء فإن لم تجدوا عالماً فحادثوا العقلاء فإن التقى والعلم والعقل ثلاث مرات بما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد إهلاكه ) وأقول إنما قدم الله تعالى التقي على العلم لأن التقي لا يوجد بدون العلم كما بينا أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد وهذا السر أيضاً قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بدّ وأن يكون عاقلاً أما العاقل فقد لا يكون عالماً فالعقل كالبذر والعلم كالشجرة والتقوى كالثمر وأما الإنجيل قال الله تعالى في السورة السابعة عشر منه ( ويل لمن سمع بالعلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم وإن لم يرفعكم لم يضعكم وإن لم يغنكم لم يفقركم وإن لم ينفعكم لم يضركم ولا تقولوا نخاف أن نعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجوا أن نعلم فنعمل ) والعلم شفيع لصاحبه وحق على الله تعالى أن لا يخزيه إن الله تعالى يقول يوم القيامة ( يا معاشر العلماء ما ظنكم بربكم يقولون ظننا أن يرحمنا ويغفر لنا فيقول فأني قد فعلت إني قد استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي ) وقال مقاتل بن سليمان وجدت في الإنجيل أن الله تعالى قال لعيسى بن مريم عليهما السلام يا عيسى عظم العلماء واعرف فضلهم لأني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب وكفضل الآخرة على الدنيا وكفضلي على كل شيء أما الأخبار ( ا ) عن عبد الله بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للعلماء ( إني لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم ادخلوا الجنة على ما كان منكم ) ( ب ) قال أبو هريرة وابن عباس خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبة بليغة قبل وفاته وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة فقال من تعلم العلم وتواضع في العلم وعلمه عباد الله يريد ما عند الله لم يكن في الجنة أفضل ثواباً منه ولا أعظم منزلة ولم يكن في الجنة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة إلا كان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل ) ( ج ) ابن عمر مرفوعاً إذا كان يوم القيامة صفت منابر من ذهب عليها فباب من فضة منضدة بالدر والياقوت والزمرد جلالها السندس والاستبرق ثم ينادي منادى الرحمن أين من حمل إلى أمة محمد علماً يريد به وجه الله اجلسوا على هذه المنابر فلا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنة ( د ) عن عيسى ابن مريم عليهما السلام أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل ويدخلون الجنة بلا إله إلا الله ( ه ) قال عليه السلام ( من اغبرت قدماه في طلب العلم حرم الله جسد على النار واستغفر له ملكاه وإن مات في طلبه مات شهيداً وكان قبره روضة من رياض الجنة ويوسع له في قبره مد بصره وينور على جيرانه أربعين قبراً عن يمينه وأربعين قبراً عن يساره وأربعين عن خلفه وأربعين أمامه ونوم العالم عبادة ومذاكرته تسبيح ونفسه صدقة وكل قطرة نزلت من عينيه تطفىء بحراً من جهنم فمن أهان العالم فقد أهان العلم ومن أهان العلم فقد أهان النبي ومن أهان النبي فقد أهان جبريل ومن أهان جبريل أهان الله ومن أهان الله أهانه الله يوم القيامة ) ( و ) قال عليه الصلاة والسلام ( ألا أخبركم بأجود الأجواد قالوا نعم يا رسول الله قال الله تعالى ( أجود الأجواد وأنا أجود ولد آدم وأجودهم من بعدي رجل عالم ينشر علمه فيبعث يوم القيامة أمة وحده ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل ) ( ز ) عن أبي
هريرة مرفوعاً ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ومن سلك طريقاً يبتغي به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وما اجتمع قوم في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) رواه مسلم في الصحيح ( ح ) قال عليه الصلاة والسلام ( يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) قال الراوي فأعظم مرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة ( ط ) معاذ بن جبل قال عليه الصلاة والسلام ( تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل الجنة والأنيس من الوحشة والصاحب في الوحدة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والدين عند الاختلاف يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة هداة يهتدى بهم وأئمة في الخير يقتفى بآثارهم ويقتدى بأفعالهم وينتهى إلى آرائهم ترغب الملائكة في خلقتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلاتها تستغفر لهم حتى كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف يبلغ بالبعيد منازل الأحرار ومجالس الملوك والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله ويعبد وبه يمجد ويوحد وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام ) ( ي ) أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير ) ( يا ) قال عليه الصلاة والسلام ( إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس قيل يا رسول الله ومن الناس قال أهل القرآن قيل ثم من قال أهل العلم قيل ثم من قال الصباح الوجوه ) قال الراوي والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه ( يب ) قال عليه الصلاة والسلام ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله والدنيا سم الله القتال لعباده فخذوا منها بقدر السم في الأدوية لعلكم تنجون ) قال الراوي والعلماء داخلون فيه لأنهم يقولون هذا حرام فاجتنبوه وهذا حلال فخذوه ( يج ) في الخبر العالم نبي لم يوح إليه ( يد ) قال عليه الصلاة والسلام ( كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامس فتهلك ) قال الراوي وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام ( الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيهم ) إن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم وما أحسن قول بعض الأعراب لولده كن سبعاً خالساً أو ذئباً خانساً أو كلباً حارساً وإياك وأن تكون إنساناً ناقصاً ( يه ) قال عليه الصلاة والسلام ( من اتكأ على يده عالم كتب الله له بكل خطوة عتق رقبة ومن قبل رأس عالم كتب الله له بكل شعرة حسنة ) ( يو ) قال عليه الصلاة والسلام برواية أبي هريرة ( بكت السموات السبع ومن فيهن ومن عليهن والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن لعزيز ذل وغني افتقر وعالم يلعب به الجهال ) ( يز ) وقال عليه السلام ( حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والشهداء قواد أهل الجنة والأنبياء سادة أهل الجنة ( يح ) وقال عليه السلام ( العلماء مفاتيح الجنة وخلفاء الأنبياء )
قال الراوي الإنسان لا يكون مفتاحاً إنما المعنى أن عندهم من العلم مفتاح الجنان والدليل عليه أن من رأى في النوم أن بيده مفاتيح الجنة فإنه يؤتى علماً في الدين ( يط ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إن لله تعالى في كل يوم وليلة ألف رحمة على جميع خلقه الغافلين والبالغين وغير البالغين فتسعمائة وتسعة وتسعون رحمة للعلماء وطالبي العلم والمسلمين والرحمة الواحدة لسائر الناس ) ( ك ) وقال عليه الصلاة والسلام ( قلت يا جبريل أي الأعمال أفضل لأمتي قال العلم قلت ثم أي قال النظر إلى العالم قلت ثم أي قال زيارة العالم ثم قال ومن كسب العلم لله وأراد به صلاح نفسه وصلاح المسلمين ولم يرد به عرضاً من الدنيا فأنا كفيله بالجنة ) ( كا ) وقال عليه الصلاة والسلام ( عشرة تستجاب لهم الدعوة العالم والمتعلم وصاحب حسن الخلق والمريض واليتيم والغازي والحاج والناصح للمسلمين والولد المطيع لأبويه والمرأة المطيعة لزوجها ) ( كب ) ( سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما العلم فقال دليل العمل قيل فما العقل قال قائد الخير قيل فما الهوى قال مركب المعاصي قيل فما المال قال رداء المتكبرين قيل فما الدنيا قال سوق الآخرة )
( كج ) أنه عليه الصلاة والسلام كان يحدث إنساناً فأوحى الله إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة وكان هذا وقت العصر فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة قال اشتغل بالتعلم فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب قال الراوي فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به في ذلك الوقت ( كد ) قال عليه الصلاة والسلام ( الناس كلهم موتى إلا العالمون ) والخبر مشهور ( كه ) عن أنس قال عليه الصلاة والسلام ( سبعة للعبد تجري بعد موته من علم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً صالحاً يدعو له بالخير أو صدقة تجري له بعد موته ) فقدم عليه الصلاة والسلام التعليم على جميع الانتفاعات لأنه روحاني والروحاني أبقى من الجسمانيات ( كو ) قال عليه الصلاة والسلام ( لا تجالسوا العلماء إلا إذا دعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ) ( كز ) أوصى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا علي احفظ التوحيد فأنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي وأقم الصلاة فإنها قرة عيني واذكر الرب فإنه بصيرة فؤادي واستعمل العلم فإنه ميراثي ( كح ) أبو كبشة الأنصاري قال ضرب لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل الدنيا مثل أربعة رهط رجل آتاه الله علماً وآتاه مالاً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يمنعه من الحق وينفقه في الباطل ورجل لم يؤته الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الوزر سواء
الآثار ( ا ) كميل بن زياد قال أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ ما أقول لك الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق يا كميل العلم خير من المال والعلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق وصنيع المال يزول بزواله يا كميل معرفة العلم زين يزان به يكتسب
به الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته والعلم حاكم والمال محكوم عليه ( ب ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء ( ج ) عنم ابن عباس خير سليمان بين الملك والمال وبين العلم فاختار العلم فأعطي العلم والملك معاً ( د ) سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه لما روي عن نافع بن الأرزق قال لابن عباس كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء قال ابن عباس لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها فقال نافع فكيف بأوقات الفخ يغطي له بأصبع من تراب فلا يراه بل يقع فيه فقال ابن عباس إذا جاء القدر عمي البصر ( ه ) قال أبو سعيد الخدري تقسم الجنة على عشرة آلاف جزء تسعة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعون منها للذين عقلوا عن الله أمره فكان هذا ثوابهم على قدر ما قسم الله لهم من العقول يقتسمون المنازل فيها وجزء للمؤمنين الضعفاء الفقراء الصالحين ( و ) قال ابن عباس لولده يا بني عليك بالأدب فإنه دليل على المروءة وأنس في الوحشة وصاحب في الغربة وقرين في الحضر وصدر في المجلس ووسيلة عند انقضاء الوسائل وغنى عند العدم ورفعة للخسيس وكمال للشريف وجلالة للملك ( ز ) عن الحسن البصري صرير قلم العلماء تسبيح وكتابة العلم والنظر فيه عبادة وإذا أصاب من ذلك المداد ثوبه فكأنما أصابه دم الشهداء وإذا قطر منها على الأرض تلألأ نوره وإذا قام من قبره نظر إليه أهل الجمع فيقال هذا عبد من عباد الله أكرمه الله وحشر مع الأنبياء عليهم السلام ( ح ) في ( كتاب كليلة ) ودمنة أحق من لا يستخف بحقوقهم ثلاثة العالم والسلطان والإخوان فإن من استخف بالعالم أهلك دينه ومن استخف بالسلطان أهلك دنياه ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته ( ط ) قال سقراط من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحدكما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ولا يقدر أحد على سلبه عنك ( ي ) قيل لبعض الحكماء لا تنظر فأغمض عينيه فقيل لا تسمع فسد أذنيه فقيل لا تتكلم فوضع يده على فيه فقيل له لا تعلم فقال لا أقدر عليه ( يا ) إذا كان السارق عالماً لا تقطع يده لأنه يقول كان المال وديعة لي وكذا الشارب يقول حسبته خلا وكذا الزاني يقول تزوجتها فإنه لا يحد ( يب ) قال بعضهم أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر بيانكم كما تحيون الموات بالنبات والنواة فإن نفساً تبعد من الشهوات والشبهات أفضل من أرض تصلح للنبات قال الشاعر فوفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم ميت
وليس له حتى النشور نشور
وَأَمَّا فمن وجوه ( ا ) المعصية عند الجهل لا يرجى زوالها وعند الشهورة يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر والشيطان غوى وبقي في غيه أبداً لأن ذلك كان بسبب الجهل ( ب ) إن يوسف عليه السلام لما صار ملكاً احتاج إلى زير فسأل ربه عن ذلك فقال له جبريل إن ربك يقول لا تختر إلا فلاناً فرآه يوسف في أسوإ الأحوال فقال لجبريل إنه كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله فقال جبريل إن ربك عينه لذلك لأنه كان ذب عنك حيث قال إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ( يوسف 27 ) والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام استحق الشركة في مملكته فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم كيف لا يستحق من الله الإحسان والتحسين ( ج ) أراد واحد خدمة ملك فقال الملك اذهب وتعلم
حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله تعالى وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب ( د ) تحصيل العلم إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ لأن السويداء تصغير السواد ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً ( ه ) قال حكيم القلب ميت وحياته بالعالم والعلم ميت وحياته بالطلب والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكاً أبدياً لا آخر له ( و ) قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) إلى قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كانت رياسة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كأنها قالت إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ إشارة إلى تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين ( ز ) الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهراً والنكتة أن العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهراً فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ثم انضم إليهما العلم بالله وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهراً ههنا والمردود مقبولاً ( ح ) القلب رئيس الأعضاء ثم تلك الرياسة ليست للقوة فإن العظم أقوى منه ولا للعظم فإن الفخذ أعظم منه ولا للحدة فإن الظفر أحد منه وإنما تلك الرياسة بسبب العلم فدل على أن العلم أشرف الصفات
أما الحكايات ( ا ) حكي أن هرون الرشيد كان معه فقهاء وكان فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيته مالاً بالليل فأقر الآخذ بذلك في المجلس فاتفق الفقهاء على أنه تقطع يده فقال أبو يوسف لا قطع عليه قالوا لم قال لأنه أقر بالأخذ والأخذ لا يوجب القطع بل لا بدّ من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في قوله ثم قالوا للآخذ أسرقتها قال نعم فأجمعوا كلهم على أنه وجب القطع لأنه أقر بالسرقة فقال أبو يوسف لاقطع لأنه وإن أقر بالسرقة لكن بعد ما وجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ فإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل من ذلك ( ب ) عن الشعبي كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر فقيه خراسان مع بلخ مكبلاً بالحديد فقال له الحجاج أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال بلى فقال الحجاج لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً فقال آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج قال فتعجبت من جرأته بقوله يا حجاج فقال له ولا تأتني بهذه الآية نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ( آل عمران 61 ) فقال آتيك بها واضحة من كتاب الله وهو قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية نوح قال فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا ( ج ) يحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في
القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويشنعوا عليه فقال لهم لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره فأشاروا إلى واحد فقال هذا أعلمكم قالوا نعم قال والمناظرة معه كالمناظرة معكم قالوا نعم قال والإلزام عليه كالإلزام عليكم قالوا نعم قال وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة قالوا نعم قال كيف قالوا لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولاً لنا قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام ( د ) هجا الفرزدق واحداً فقال فلقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع در على خالصة
وكانت خالصة معشوقة سليمان بن عبد الملك وكانت ظريفة صاحبة أدب وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان وشكت الفرزدق فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلاً مقيداً فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة فقال له سليمان بن عبد الملك أنت القائل فلقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع در على خالصة
فقال ما قلته هكذا وإنما غيره على من أراد بي مكروهاً وإنما قلت وخالصة من وراء الستر تسمع فلقد ضاء شعري على بابكم
كما ضاء در على خالصة
فسرى عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فألقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهي زيادة على ألف ألف درهم فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلى من الفرزدق بما ألف ورده على خالصة ( ه ) دعا المنصور أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وهو يعاديه يا أمير المؤمنين هذا يعني أبا حنيفة يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره فقال أبو حنيفة هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس فقال كيف قال أنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم فضحك المنصور وقال إياك يا ربيع وأبا حنيفة فلما خرج فقال الربيع يا أبا حنيفة سعيت في دمي فقال أبو حنيفة كنت البادي وأنا المدافع ويحكى أن مسلماً قتل ذمياً عمداً فحكم أبو يوسف بقتل المسلم به فبلغ زبيدة ذلك فبعثت إلى أبي يوسف فقالت إياك وأن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلمين فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيء بأولياء الذمي والمسلم فقال له الرشيد أحكم بقتله فقال يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه ( ز ) دخل الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك فقال له ما جواب السلام عليك فقال وعليك السلام ثم فطن الحجاح وقال قاتلك الله يا غضبان أخذت لنفسك أمانا بردي عليك أما والله لولا الوفاء والكرم لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه فانظر إلى فائدة العلم في هذه الصورة فلله در العلم ومن به تردى وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى ( ح ) بلغ عبد الملك بن مروان قول الشاعر
فومنا سويد والبطين وقعنب
ومنا أمير المؤمنين شبيب
فأمر به فأدخل عليه فقال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب بنصب الراء فناديتك واستغثت بك فسرى عن عبد الملك وتخلص الرجل من الهلاك بصنعة يسيرة عملها بعلمه وهو أنه حول الضمة فتحة ( ط ) قال أبو مسلم صاحب الدولة لسليمان بن كثير بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى بين يديك ذكرى فقلت اللهم سود وجهه واقطع عنقه وأسقني من دمه فقال نعم قلته ولكن في كرم كذا لما نظرت إلى الحصرم فاستحسن قوله وعفا عنه ( ي ) قال رجل لأبي حنيفة إني حلفت لا أكلم امرأتي حتى تكلمني وحلفت بصدقة ما تملك أن لا تكلمني أو أكلمها فتحير الفقهاء فيه فقال سفيان من كلم صاحبه حنث فقال أبو حنيفة إذهب وكلمها ولا حنث عليكما فذهب إلى سفيان وأخبره بما قال أبو حنيفة فذهب سفيان إلى أبي حنيفة مغضباً وقال تبيح الفروجا فقال أبو حنيفة وما ذاك قال سفيان أعيدوا على أبي حنيفة السؤال فأعادوا وأعاد أبو حنيفة الفتوى فقال من أين قلت قال لما شافهته باليمين بعدما حلف كانت مكلمة فسقطت يمينه وإن كلمها فلا حنث عليه ولا عليها لأنه قد كلمها بعد اليمين فسقطت اليمين عنهما قال سفيان إنه ليكشف لك من العلم عن شيء كلنا عنه غافل ( يا ) دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة فقال أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه فقال لهم أبو حنيفة هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه قالوا نعم قال فاجمعوا كلاً منهم وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحداً واحداً وقولوا أهذا لصك فإن كان ليس بلصه قال لا وإن كان لصه فليسكت وإذا سكت فاقبضوا عليه ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة فرد الله عليه جميع ما سرق منه ( يب ) كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة فقال يوماً لأبي حنيفة إني أريد أن أتزوج ابنة فلان وقد خطبتها إلا أنهم قد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي فقال احتل واقترض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك ثم أقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد وأنك تسافر بأهلك معك فأظهر الرجل ذلك فاشتد ذلك على أهل المرأة وجاؤا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم أبو حنيفة له ذلك فقالوا وكيف الطريق إلى دفع ذلك فقال أبو حنيفة الطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه منه فأجابوه إليه فذكر أبو حنيفة ذلك للزوج فقال الزوج فأنا أريد منهم شيئاً آخر فوق ذلك فقال أبو حنيفة أيما أحب إليك أن ترضى بهذا القدر وإلا أقرت لرجل بدين فلا تملك المسافرة بها حتى تقضي ما عليها من الدين فقال الرجل الله الله لا يسمعوا بهذا فلا آخذ منهم شيئاً ورضي بذلك القدر فحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين ( يج ) عن الليث بن سعد قال قال رجل لأبي حنيفة لي ابن ليس بمحمود السيرة أشتري له الجارية بالمال العظيم فيعتقها وأزوجه المرأة بالمال العظيم فيطلقها فقال له أبو حنيفة إذهب به معك إلى سوق النخاسين فإذا وقعت عينه على جارية فابتعها لنفسك ثم زوجها إياه فإن طلقها عادت إليك مملوكة وإن أعتقها لم يجز عتقه إياها قال الليث فوالله ما أعجبني جوابه كما أعجبني سرعة جوابه ( يد ) سئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته نهاراً في رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب فقال أبو حنيفة يسافر مع امرأته
فيطؤها نهاراً في رمضان ( يه ) جاء رجل إلى الحجاج فقال سرقت لي أربعة آلاف درهم فقال الحجاج من تتهم فقال لا أتهم أحداً قال لعلك أتيت من قبل أهلك قال سبحان الله امرأتي خير من ذلك قال الحجاج لعطاره إعمل لي طيباً ذكياً ليس له نظير فعمل له الطيب ثم دعا الشيخ فقال ادهن من هذه القارورة ولا تدهن منها غيرك ثم قال الحجاج لحرسه اقعدوا على أبواب المساجد وأراهم الطيب وقال من وجد منه ريح هذا الطيب فخذوه فإذا رجل له وفرة فأخذوه فقال الحجاج من أين لك هذا الذهن قال اشتريته قال أصدقني وإلا قتلتك فصدقه فدعا الشيخ وقال هذا صاحب الأربعة آلاف عليك بامرأتك فأحسن أدبها ثم أخذ الأربعة آلاف من الرجل وردها إلى صاحبها ( يو ) قال الرشيد يوماً لأبي يوسف عند جعفر بن عيسى جارية هي أحب الناس إليّ وقد عرف ذلك وقد حلف أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق وهو الآن يطلب حل يمينه فقال يهب النصف ويبيع النصف ولايحنث ( يز ) قال محمد بن الحسن كنت نائماً ذات ليلة فإذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت انظروا من ذاك فقالوا رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه فلما دخلت عليه قال دعوتك في مسألة إن أم محمد يعني زبيدة قلت لها أنا الإمام العدل والإمام العدل في الجنة فقالت لي إنك ظالم عاصٍ فقد شهدت لنفسك بالجنة فكفرت بكذبك على الله وحرمت عليك فقلت له يا أمير المؤمنين إذاوقعت في معصية هل تخاف الله في تلك الحالة أو بعدها فقال إي والله أخاف خوفاً شديداً فقلت أنا أشهد أن لك جنتين لا جنة واحدة قال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي ( يح ) يحكى أن أبا يوسف أتاه ذات ليلة رسول الرشيد يستعجله فخاف أبو يوسف على نفسه فلبس إزاره ومشى خائفاً إلى دار الخليفة فلما دخل عليه سلم فرد عليه الجواب وأدناه فعند ذلك هدأ روعه قال الرشيد إن حلياً لنا فقد من الدار فاتهمت فيه جارية من جواري الدار الخاصة فحلفت لتصدقيني أولأقتلنك وقد ندمت فاطلب لي وجهاً فقال أبو يوسف فأذن لي في الدخول عليها فأذن له فرأى جارية كأنها فلقة قمر فأخلى المجلس ثم قال لها أمعك الحلى فقالت لا والله فقال لها احفظي ما أقول لك ولا تزيدي عليه ولا تنقصي عنه إذا دعاك الخليفة وقال لك أسرقت الحلى فقولي نعم فإذا قال لك فهاتها فقولي ما سرقتها ثم خرج أبو يوسف إلى مجلس الرشيد وأمر بإحضار الجارية فحضرت فقال للخليفة سلها عن الحلى فقال لها الخليفة أسرقت الحلى قالت نعم قال لها فهاتها قالت لم أسرقها والله قال أبو يوسف قد صدقت يا أمير المؤمنين في الإقرار أو الإنكار وخرجت مناليمين فسكن غضب الرشيد وأمر أن يحمل إلى دار أبي يوسف مائة ألف درهم فقالوا إن الخزان غيب فلو أخرنا ذلك إلى الغد فقال إن القاضي أعتقنا الليلة فلا نؤخر صلته إلى الغد فأمر حتى حمل عشر بدر مع أبي يوسف إلى منزله ( يط ) قال بشر المريسي للشافعي كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أن أهل المشرق والمغرب لا يمكن معرفة وجود إجماعهم على الشيء الواحد وكانت هذه المناظرة عند الرشيد فقال الشافعي هل تعرف إجماع الناس على خلافة هذا الجالس فأقر به خوفاً وانقطع ( ك ) أعرابي قصد الحسين بن علي رضي الله عنهما فسلم عليه وسأله حاجة وقال سمعت جدك يقول إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة إما عربي شريف أو مولى كريم أو حامل القرآن
أو صاحب وجه صبيح فأما العرب فشرفت بجدك وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم وأما القرآن ففي بيوتكم نزل وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين فقال الحسين ما حاجتك فكتبها على الأرض فقال الحسين سمعت أبي علياً يقول قيمة كل امرىء ما يحسنه وسمعت جدي يقول المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إليّ صرة مختومة من العراق فقال سل ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال أي الأعمال أفضل قال الأعرابي الإيمان بالله قال فما نجاة العبد من الهلكة قال الثقة بالله قال فما يزين المرء قال علم معه حلم قال فإن أخطأه ذلك قال فمال معه كرم قال فإن أخطأه ذلك قال ففقر معه صبر قال فإن أخطأه ذلك قال فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه
أما الشواهد العقلية في فضيلة العلم فنقول اعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال وكون الجهل صفة نقصان أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل فأنه يتأذى بذلك وإن كان يعلم كذب ذلك ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فإنه يفرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك وكل ذلك دليل على أن العلم شريف لذاته ومحبوب لذاته والجهل نقصان لذاته وأيضاً فالعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا من جنسهم من كان أوفر عقلاً منهم وأغزر فضلاً فيما هم فيه وبصدده انقادوا له طوعاً فالعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من كان دونهم في العلم ولذلك فإن كثيراً ممن كانوا يعاندون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع بصرهم عليه فألقى الله في قلوبهم منه روعة وهيبة فهابوه وانقادوا له ( صلى الله عليه وسلم ) ولهذا قال الشاعر فلو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بداهتة تنبيك عن خبر
وأيضاً فلا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات وليست تلك الفضيلة لقوته وصولته فإن كثيراً من الحيوانات يساويه فيها أو يزيد عليه فأذن تلك الفضيلة ليست إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة الله على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( ) وأيضاً الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئاً البتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسبباً للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين الله وبين عباده ولهذا قال تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا
روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضاً فالأنبياء صلوات الله عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) إلى آخره وقال قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ث ( يوسف 108 ) م خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا قال سبحانه إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فأجابهم سبحانه بكونه عالماً فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجود والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جواباً لهم وموجباً لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جواباً لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضاً على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقاً والنفاق أخس المراتب قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) أو تقليداً والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجباً للافتخار ببركة العلم ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه الله تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) وقال أخرى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 ) ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) وتارة مع قومه فقال مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( الأنبياء 52 ) وأخرى مع ملك زمانه فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ ( البقرة 258 ) وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 7 8 ) فقدم الامتنان
بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضاً مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( هود 49 ) ثم إنه أول ما أوحى إليه قال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) ثم قال وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وهو عليه الصلاة والسلام كان أبداً يقول أرنا الأشياء كما هي فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلاً وأيضاً فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة فمنها الحياة أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) وثانيها الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وثالثها النور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وأيضاً قال تعالى في صفة طالوت إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية وقال يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف 55 ) ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح وأيضاً فقد جاء في الخبر ( المرء بأصغريه قلبه ولسانه ) إن تكلم تكلم بلسانه وإن قاتل قاتل بجنانه قال الشاعر لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وأيضاً فإن الله تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار فقال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) وقال بعضهم العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه قلب متفكر ولسان معبر وبيان مصور قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( عين العلم من العلو ولامه من اللطف وميمه من المروءة ) وأيضاً قيل العلوم عشرة علم التوحيد للأديان وعلم السر لرد الشيطان وعلم المعاشرة للإخوان وعلم الشريعة للأركان وعلم النجوم للأزمان وعلم المبارزة للفرسان وعلم السياسة للسلطان وعلم الرؤيا للبيان وعلم الفراسة للبرهان وعلم الطب للأبدان وعلم الحقيقة للرحمن وأيضاً قيل ضرب المثل في العلم بالماء قوله تعالى أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء ( البقرة 22 ) والمياه أربعة ماء المطر وماء السيل وماء القناة وماء العين فكذا العلوم أربعة علم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر وكذا لا ينبغي طلب معرفة كيفية الله عزّ وجلّ لئلا يحصل الكفر وعلم الفقه يزداد بالاستنباط كماء القناة يزداد بالحفر وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء كذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطمع وعلم البدع كماء السيل يميت الأحياء ويهلك الخلق فكذا البدع والله أعلم
المسألة السابعة في أقوال الناس في حد العلم قال أبو الحسن الأشعري العلم ما يعلم به وربما قال ما يصير الذات به عالماً واعترضوا عليه بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريف العلم بهما دور وهو غير جائز أجاب عنه بأن علم الإنسان بكونه عالماً بنفسه وبألمه ولذاته علم ضروري والعلم بكونه عالماً بهذه الأشياء علم بأصل العلم لأن الماهية داخلة في الماهية المقيدة فكان علمه بكون العلم علماً علم ضروري فكان الدور ساقطاً وسيأتي مزيد تقريره إذا ذكرنا ما نختاره نحن في هذا الباب إن شاء الله تعالى وقال القاضي أبو بكر العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه وربما قال العلم هو المعرفة والاعتراض على الأول أن قوله معرفة المعلوم تعريف العلم بالمعلوم فيعود الدور أيضاً فالمعرفة لا تكون إلا وفق المعلوم فقوله على ما هو
عليه بعد ذكر المعرفة يكون حشواً أما قوله العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل أحدها أن العلم هو نفس المعرفة فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال وثانيها أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ولهذا يقال ما كنت أعرف فلاناً والآن فقد عرفته وثالثها أن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على الله محال وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني العلم تبيين المعلوم وربما قال إنه استبانة الحقائق وربما اقتصر على التبيين فقال العلم هو التبيين وهو أيضاً ضعيف أما قول العلم هو التبيين فليس فيه إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه ولأن التبيين والاستبانة يشعران بظهور الشيء بعد الخفاء وذلك لا يطرد في علم الله وأما قوله تبيين المعلوم على ما هو به فيتوجه عليه الوجوه المذكورة على كلام القاضي قال الأستاذ أبو بكر بن فورك العلم ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه وهو ضعيف لأن العلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات لا يفيد الأحكام وقال القفال العلم إثبات المعلوم على ما هو به وربما قيل العلم تصور المعلوم على ما هو به والوجوه السالفة متوجهة على هذه العبارة وقال إمام الحرمين الطريق إلى تصور ماهية العلم وتميزها عن غيرها أن نقول إنا نجد من أنفسنا بالضرورة كوننا معتقدين في بعض الأشياء فنقول اعتقادنا في الشيء إما أن يكون جازماً أو لا يكون فإن كان جازماً فأما أن يكون مطابقاً أو غير مطابق فإن كان مطابقاً فأما أن يكون لموجب هو نفس طرفي الموضوع والمحمول وهو العلم البديهي أو لموجب حصل من تركيب تلك العلوم الضرورية وهو العلم النظري أولاً لموجب وهو اعتقاد المقلد وأما الجزم الذي لا يكون مطابقاً فهو الجهل والذي لا يكون جازماً فأما أن يكون الطرفان متساويين وهو الشك أو يكون أحدهما أرجح من الآخر فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه أحدها أن هذا التعريف لا يتم إلا إذا ادعينا أن علمنا بماهية الاعتقاد علم بديهي وإذا جاز ذلك فلم لا ندعي أن العلم بماهية العلم بديهي وثانيها أن هذا تعريف العلم بانتفاء أضداده وليست معرفة هذه الأضداد أقوى من معرفة العلم حتى يجعل عدم النقيض معرفاً للنقيض فيرجع حاصل الأمر إلى تعريف الشيء بمثله أو بالأخفى وثالثها أن العلم قد يكون تصوراً وقد يكون تصديقاً والتصور لا يتطرق إليه الجزم ولا التردد ولا القوة ولا الضعف فإذا كان كذلك كانت العلوم التصورية خارجة عن هذا التعريف قالت المعتزلة العلم هو الاعتقاد المقتضى سكون النفس وربما قالوا العلم ما يقتضي سكون النفس قالوا ولفظ السكون وإن كان مجازاً ههنا إلا أن المقصود منه لما كان ظاهراً لم يكن ذكره قادحاً في المقصود واعلم أن الأصحاب قالوا الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعل العلم منه ولهم أن يقولوا لا شك أن بين العلم واعتقاد المقلد قدراً مشتركاً فنحن نعني بالاعتقاد ذلك القدر قال الأصحاب وهذا التعريف يخرج عنه أيضاً علم الله تعالى فإنه لا يجوز أن يقال فيه إنه يقتضي سكون النفس قالت الفلاسفة العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم وفي هذا التعريف عيوب أحدها إطلاق لفظ الصورة على العلم لا شك أنه من المجازات فلا بدّ في ذلك من تلخيص الحقيقة والذي يقال إنه كما يحصل في المرآة صورة الوجه فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن وهو ضعيف لأنا
إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر وهذا محال وإن لم يحصلا في الذهن ولكن الحاصل في الذهن صورتاهما فقط فحينئذٍ يكون المعلوم هو الصورة فالشيء الذي تلك الصورة صورته وجب أن لا يصير معلوماً وإن قيل حصلت الصورة ومحلها في الذهن فحينئذٍ يعود ما ذكرنا من أنه يحصل الجبل والبحر في الذهن وثانيها أن قوله مطابقة للمعلوم يقتضي الدور وثالثها أن عندهم المعلومات قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون وهي التي يسمونها بالأمور الاعتبارية والصور الذهنية والمعقولات الثانية والمطابقة في هذا القسم غير معقول ورابعها أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال الصورة العقلية مطابقة للمعدوم لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمراً ثبوتياً والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلاً فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جداً أما قوله لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه أحدها أنه ذكر في تعريف الأبصار المبصر والباصر وهو دور وثانيها أنه لو كان الأبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا الشرط مغاير للمشروط فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة وثالثها أنا نرى المرئي حيث هو ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه وأما قوله فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل إما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حاراً عند تصور الحرارة لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جداً وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفاً له والعجز عن تعريف ا لعلم لهذا الباب والحق أن ماهية العلم متصورة تصوراً بديهياً جلياً فلا حاجة في معرفته إلى معرف والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر والعلم الضروري بكونه عالماً بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم والعالم
بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلاً كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلاً وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعاً فهذا القدر كافٍ ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في ( الكتب العقلية ) والله أعلم
المسألة الثامنة في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون أحدها الإدراك وهو اللقاء والوصول يقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكاً من هذه الجهة وثانيها الشعور وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة وكأنه إدراك متزلزل ولهذا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا كما يقال إنه يعلم كذا وثالثها التصور إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور واعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل ورابعها الحفظ فإذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها سميت تلك الحالة حفظاً ولما كان الحفظ مشعراً بالتأكد بعد الضعف لا جرم لا يسمى علم الله حفظاً ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله تعالى محالاً لا جرم لا يسمى ذلك حفظاً وخامسها التذكر وهو أن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فإذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر واعلم أن للتذكر سراً لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أن التذكر صار عبارة عن طلب رجوع تلك الصورة الممحية الزائلة فتلك الصورة إن كانت مشعوراً بها فهي حاضرة حاصلة والحاصل لا يمكن تحصيله فلا يمكن حينئذٍ استرجاعها وإن لم تكن مشعوراً بها كان الذهن غافلاً عنها وإذا كان غافلاً عنها استحال أن يكون طالباً لاسترجاعها لأن طلب ما لا يكون متصوراً محال فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب الاسترجاع ممتنعاً مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس فكيف القول في الأشياء التي هي أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان وسادسها الذكر فالصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها فإذا عادت وحضرت بعد ذلك الطلب سمي ذلك الوجدان ذكراً فإن لم يكن هذا الإدراك مسبوقاً بالزوال لم يسم ذلك الإدراك ذكراً ولهذا قال الشاعر فالله يعلم أني لست أذكره
وكيف أذكره إذ لست أنساه
فجعل حصول النسيان شرطاً لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 52 ) فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد
زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضاً متوجه على قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكناً كان ما ذكرته تشكيكاً في الضروريات فلا يستحق الجواب بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذٍ يطالع شيئاً من مبادىء مقادير أسرار كونه ظاهراً باطناً وسابعها المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفاً ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحداً من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال وآخرون قالوا من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي أدركه أولاً فهذا هو المعرفة فيقال عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفاناً وثامنها الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع وتاسعها الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ( الكهف 93 ) أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي وعاشرها العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعياً لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعياً لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعاً من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال
الناقة ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل قال هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ولما سئل عن العاقل قال العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء الله تعالى الحادي عشر الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من دريت الصيد والدرية لما يتعلم عليه الطعن والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على الله تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى الثاني عشر الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم ومنها يقال أحكم العمل إحكاماً إذا أتقنه وحكم بكذا حكماً والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضاً كذلك ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل هي معرفة الأشياء بحقائقها وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة فأما إدراك الماهية فإنه باقٍ مصون عن التغير والتبدل وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة وقيل هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه الثالث عشر علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو إما بديهية الفطرة وإما نظر العقل الرابع عشر الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة وتحقيق القول فيه إنه سبحانه وتعالى خلق الروح خالياً عن تحقيق الأشياء وعن العلم بها كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) والطاعة مشروطة بالعلم وقال في موضع آخر اتْلُ مَا لِذِكْرِى ( طه 14 ) فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم والعلم لا بدّ منه على كل حال فلا بدّ وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض فقال في السمع وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) وقال في البصر سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ فصلت 53 ) وقال في الفكر وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالماً وهو معنى قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 ) فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن الخامس عشر الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة قال بعض المحققين إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده السادس عشر الحدس ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بدّ لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكم أنه
لا بدّ في الشرع من شاهدين فكذا لا بدّ في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس السابع عشر الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين الثامن عشر الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز التاسع عشر الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلاً لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطراً إطلاقاً لاسم الحال على المحل العشرون الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي الحادي والعشرون الظن وهو الاعتقاد الراجح ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل أنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضاً على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) قالوا إنما أطلق لفظ الظن على العلم ههنا لوجهين أحدهما التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم والثاني أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( الحجرات 15 ) واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى عَنْ الْحَقّ شَيْئاً ( النجم 28 ) وقوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( الحجرات 12 ) الثاني والعشرون الخيال وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالاً والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم الثالث والعشرون البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين الرابع والعشرون الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولاً لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر فذاك المتوسط هو المحمول أولاً الخامس والعشرون الروية وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير وهي من روى السادس والعشرون الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال عليه الصلاة
والسلام ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ) من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت السابع والعشرون الخبرة وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة يقال خبرته قال أبو الدرداء وجدت الناس أخبر تقله وقيل هو من قولهم ناقة خبرة أي غزيرة اللبن فكان الخبر هو غزارة المعرفة ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة هي المخبر عنها بغزارتها الثامن والعشرون الرأي وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي والرأي للفكر كالآلة للصانع ولهذا قيل إياك والرأي الفطير وقيل دع الرأي تصب التاسع والعشرون الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ ( الحجر 75 ) وقوله تعالى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ( البقرة 273 ) وقوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( محمد 30 ) واشتقاقها من قولهم فرس السبع الشاة فكأن الفراسة اختلاس المعارف وذلك ضربان ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي وإياه عنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم ) ويسمى ذلك أيضاً النفث في الروع والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ ( هود 17 ) إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال
المسألة التاسعة قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا وقوله لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا وقوله الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه وهو من يحترف بالتعليم والتلقين وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقاً حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال لله إنه معلم إلا مع التقييد ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره ولا قدرة على ذلك لأحد إلا الله تعالى
قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
اعلم أن الذين اعتقدوا أن الملائكة أتوا بالمعصية في قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا قالوا إنهم لما عرفوا خطأهم في هذا السؤال رجعوا وتابوا واعتذروا عن خطئهم بقولهم سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا والذين أنكروا معصيتهم ذكروا في ذلك وجهين الأول أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون ما سئلوا عنه وذلك لأنهم قالوا إنا لا نعلم إلا ما علمتنا فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه الثاني أن الملائكة إنما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فقلنا لك أتجعل فيها من يفسد فيها وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها وههنا مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بقوله تعالى لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا على أن المعارف مخلوقة لله تعالى وقالت المعتزلة المراد أنه لا علم لنا إلا من جهته إما بالتعليم وإما بنصب الدلالة والجواب أن التعليم عبارة عن تحصيل العلم في الغير كالتسويد فإنه عبارة عن تحصيل السواد في الغير لا يقال التعليم عبارة عن إفادة الأمر الذي يترتب عليه العلم لو حصل الشرط وانتفى المانع ولذلك يقال علمته فما تعلم والأمر الذي يترتب عليه العلم هو وضع الدليل والله تعالى قد فعل ذلك لأنا نقول المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل وذلك النظر فعل العبد فلم يكن حصول ذلك العلم بتعليم الله تعالى وأنه يناقص قوله لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا
المسألة الثانية احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله تعالى وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة والعرافة ونظيره قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( الجن 26 27 ) وللمنجم أن يقول للمعتزلي إذا فسرت التعليم بوضع الدلائل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم فإذا استدللت بها على هذه كان ذلك أيضاً بتعليم الله تعالى ويمكن أن يقال أيضاً إن الملائكة لما عجزوا عن معرفة الغيب فلأن يعجز عنه أحدنا كان أولى
المسألة الثالثة العليم من صفات المبالغة التامة في العلم والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو فلذلك قال إنك أنت العليم الحكيم على سبيل الحصر
المسألة الرابعة الحكيم يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات وعلى هذا التفسير نقول إنه تعالى حكيم في الأزل الآخر أنه الذي يكون فاعلاً لما لا عتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار فكأن الملائكة قالت أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه وعن ابن عباس أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض
المسألة الخامسة أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك على سبيل الحصر
المسألة الرابعة الحكيم يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات وعلى هذا التفسير نقول إنه تعالى حكيم في الأزل الآخر أنه الذي يكون فاعلاً لما لا عتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار فكأن الملائكة قالت أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه وعن ابن عباس أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض
المسألة الخامسة أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالماً بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها فإن قيل الإيمان هو العلم فقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال ههنا إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ والأشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب وجوابه ما تقدم في قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أما قوله وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ففيه وجوه أحدها ما روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أن قوله وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أراد به قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وقوله وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد وثانيها إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها وثالثها أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان ورابعها وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضاً أو ممتزجاً وعلى تقدير الامتزاج فأما أن يعتدل الأمر أن أو يكون الخير غالباً أو يكون الشر غالباً أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده وأما الذي يكون فيه الخير غالباً فالحكمة تقتضي إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم
المسألة السادسة اعلم أن في هذه الآية خوفاً عظيماً وفرحاً عظيماً أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها والأخبار مؤكدة لذلك أحدها روى عدي بن حاتم أنه عليه الصلاة والسلام قال ( يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع حرمتكم من النعيم ( وثانيها قال سليمان بن علي لحميد الطويل عظني فقال إن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على أمر عظيم وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت وثالثها قال حاتم الأصم طهر نفسك في ثلاثة أحوال إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك وإذا كنت قائلاً فاذكر سمع الله إليك وإذا كنت ساكتاً عاملاً بالضمير فاذكر علم الله بك إذ هو يقول
إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ورابعها اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبداً في الخوف والوجل فقوله تعالى إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ معناه أن الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع وأعلم أنه ما ترونه عابداً مطيعاً سيكفر ويبعد عن حضرتي ومن ترونه فاسقاً بعيداً سيقرب من خدمتي فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاًّدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولاً ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانياً ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم وذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة وههنا مسائل
المسألة الأولى الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ( ص 71 72 ) وظاهر هذه الآية يدل على أنه عليه السلام لما صار حياً صار مسجود الملائكة لأن الفاء في قوله فَقَعُواْ للتعقيب وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر والأمر لا يرد بالكفر ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال الأول أن ذلك السجود كان لله تعالى وآدم عليه السلام كان كالقبلة ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول أنه لا يقال صليت للقبلة بل يقال صليت إلى القبلة فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن يقال اسجدوا إلى آدم فلما لم يرد الأمر هكذا بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة الثاني أن إبليس قال أرأيتك هذا الذي كرمت على أي أن كونه مسجوداً يدل على أنه أعظم حالاً من الساجد ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والجواب عن الأول أنه كما لا يجوز أن يقال صليت إلى القبلة جاز أن يقال صليت للقبلة والدليل
عليه القرآن والشعر أما القرآن فقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) والصلاة لله لا للدلوك فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة وأما الشعر فقول حسان فما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
فقوله صلى لقبلتكم نص على المقصود والجواب عن الثاني أن إبليس شكا تكريمه وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر فهذا ما في القول الأول أما القول الثاني فهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيماً له وتحية له كالسلام منهم عليه وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك كما يحيي المسلمون بعضهم بعضاً بالسلام وقال قتادة في قوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ( يوسف 100 ) كانت تحية الناس يومئذٍ سجود بعضهم لبعض وعن صهيب أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا معاذ ما هذا قال إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت ما هذا قالوا تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم وعن الثوري عن سماك بن هاني قال دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له فقال له عليّ اسجد لله ولا تسجد لي وقال عليه الصلاة والسلام لو أمرت أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها القول الثالث أن السجود في أصل اللغة هو الانقياد والخضوع قال الشاعر
( ترى الأكم فيها سجداً للحوافر )
أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل ومنه قوله تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) واعلم أن القول الأول ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله وأما القول الثالث فضعيف أيضاً لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك لأن الأصل عدم التغيير فإن قيل السجود عبادة والعبادة لغير الله لا تجوز قلنا لا نسلم أنه عبادة بيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيداً كالقول يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الأعظام ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيداً ضرباً من التعظيم وإن لم يكن ذلك عبادة وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبد الله الملائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته
المسألة الثالثة اختلفوا في أن إبليس هل كان من الملائكة قال بعض المتكلمين ولا سيما المعتزلة إنه لم يكن منهم وقال كثير من الفقهاء إنه كان منهم واحتج الأولون بوجوه
أحدها أنه كان من الجن فوجب أن لا يكون من الملائكة وإنما قلنا إنه كان من الجن لقوله تعالى في سورة الكهف إلا إبليس كان من الجن الكهف 50 واعلم أن من الناس من ظن أنه لما ثبت أنه كان من
الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ولهذا سمي الجنين جنينا لاجتنابه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود فنقول لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لقوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا ومن دونهم بل كانوا يعبدون الجن سبأ 41 وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك فإن قيل لا نسلم أنه كان من الجن أما قوله تعالى كان من الجن الكهف 50 فلم يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روي عن ابن مسعود أنه قال كان من الجن أي كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون قوله من الجن أي صار من الجن كما أن قوله وكان من الكافرين أي صار من الكافرين سلمنا أن ما ذكرت يدل على أنه من الجن فلم قلت إن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة وما ذكرتم من الآية معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158 وذلك لأن قريشا قالت الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جنا والجواب لا يجوز أن يكون المراد منه قوله كان من الجن الكهف 50 أنه كان خازن الجنة لأن قوله إلا إبليس كان من الجن يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنيا ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازنا للجنة فيبطل ذلك قوله كان من الجن أي صار من الجن قلنا هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وأما قوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158 قلنا يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة وأيضا فقد بينا أن الملك يسمى جنا بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة اصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث
وثانيها أن ابليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم إنما قلنا أن ابليس له ذرية لقولع تعالى في صفته أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الكهف 50 وهذا صريح في إثبات الذرية له وإنما قلنا إن الملائكة لا ذريو لهم لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم الزخرف 19 أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى الولد لا محالة فانتفت الذرية
وثالثها أن الملائكة معصومون على ما تقدم بيانه وإبليس لم يكن كذلك فوجب أن لا يكون من الملائكة
ورابعها أن ابليس مخلوق من النار والملائكة ليسوا كذلك إنما قلنا إن ابليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس خلقتني من نار الأعراف 12 وأيضا فلأنه كان من الجن لقوله تعالى كان من الجن الكهف 50 والجن مخلوق من النار لقوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم الحجر 27 وقال خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار الرحمن 15 وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور فلما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال خلقت
الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار ولأن من المشهور الذي يدفع أن الملائكة روحانيون وقيل إنما سموا بذلك لأنهم خلقوا من الريح أو الروح
وخامسها أن الملائكة رسل لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 ورسل الله معصومون لقوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته الأنعام 124 فلما لم يكن ابليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين
الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة لا يقال الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب قال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الزخرف 27 وقال تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأئيما إلا قيلا سلاما سلاما الواقعة 25 وقال تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض النساء 29 وقال تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ النساء 92 وأيضا فلأنه كان جنيا واحدا بين الألوف من الملائكة فغلبوا عليه في قوله فسجدوا ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم لأنا نقول كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل فذلك إنما صار إليه عند الضرورة والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات فلو حعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ولو قلنا إنه ليس من الملائكة لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثنناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى أيضا فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه وأما قوله أنه جني واحد بين الملائكة فنقول إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه
الحجة الثانية قالوا لو لم يكن ابليس من الملائكة لما كان قوله وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم متناولا له ولو يكن متناولا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكبار ومعصية ولما استحق الذم والعقاب وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب وأيضا فلم لا يجوز أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله وما منعك أن لا تسجد إذا أمرتك الأعراف 12 لأنا نقول أما الأول فجوابه أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين وأيضا فشدة المخالطة بين الملائكة وبين ابليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على ابليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر قوله أبى واستكبر عقيب قوله وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور
المسألة الرابعة اعلم أن جماعة من أصحابنا يحتجون بأمر الله تعالى للملائكة بسجود آدم عليه السلام على أن آدم أفضل من الملائكة فرأينا أن نذكر ههنا هذه المسألة فنقول قال أكثر أهل السنة الأنبياء أفضل من الملائكة وقالت المعتزلة بل الملائكة أفضل من الأنبياء وهو قول جمهور الشيعة وهذا القول اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني من المتكلمين منا وأبي عبد الله الحليمي من فقهائنا ونحن نذكر محصل الكلام من الجانبين أما القائلون بأن الملائكة أفضل من البشر فقد احتجوا بأمور أحدها قوله تعالى ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته الأنبياء 19 إلى قوله يسبحون الليل والنهار ولا يفترون الأنبياء 20 والاستدلال بهذه الآية من وجهين
الأول أنه ليس المراد من هذه العندية المكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى بل عندية القرب والشرف ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة علمنا أن هذا النوع من القربة والشرف حاصل لهم لا لغيرهم ولقائل أن يقول إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين وهو قوله في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر 55 وأما في الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام حاكيا عنه سبحانه { أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي } وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم لأن هذا الحديث يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكرة قلوبهم وما احتجوا به من الآية يدل على أن الملائكة عند الله تعالى ولا شك أن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله تعالى
الوجه الثاني في الاستدلال بالآية أن الله تعالى احتج بعدم استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبروا ولو كان البشر أفضل منهم لما تم هذا الاحتجاج فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له يقول الملوك لا يستكبرون عن طاعتي فمن هؤلاء المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي وبالجملة فمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف ولقائل أن يقول لا نزاع في أن الملائكة أشد قوة وقدرة من البشر ويكفي في صحة الاستدلال هذا القدر من التفاوت فإنه تعالى يقول إن الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض وطول أعمارهم لا يتركون العبودية لحظة واحدة والبشر مع نهاية ضعفهم ووقوعهم في أسرع الأحوال في المرض والهرم وأنواع الآفات أولى أن لا يتمردوا فهذا القدر من التفاوت كاف في صحة هذا الاستدلال ولا نزاع في حصول التفاوت في هذا المعنى إنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب فلم قلتم إن هذا الاستدلال لا يصح إلا إذا كان الملك أكثر ثوابا من البشر ولا بد فيه من دليل مع أن المتبادر إلى الفهم هو الذي ذكرناه وثانيها أنهم قالوا عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر فتكون أكثر ثوابا من عبادات البشر وإنما قلنا إنها أشق لوجوه
أحدها أن ميلهم إلى التمرد أشد فتكون طاعتهم أشق وإنما قلنا إن ميلهم إلى التمرد أشد لأن العبد السليم من الآفات المستغني عن طلب الحاجات يكون أميل إلى النعم والالتذاذ من المغمور في الحاجات فإنه يكون كالمضطرب في الرجوع إلى عبادة مولاه والالتجاء إليه ولهذا قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون العنكبوت 65 ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وهي جنات وبساتين ومواضع التنزه والراحة وهم آمنون
من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدا مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون بالخوف الشديد ولافزع العظيم وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما وادحا فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة ويؤكده قصة آدم عليه السلام فإنه أطلق له جميع مواضع الجنة بقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما البقرة 35 ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من طاعات البشر
وثانيها أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان أما الإقامة على نوع واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأحزاب والأعشار والأخماس ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على ما قال سبحانه يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 وقال وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون الصافات 165 166 وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة إذا ثبت وجب أن تكون عباداتهم أفضل عليه الصلاة والسلام { أفضل الأعمال أحمزها } أي أشقها وقوله لعائشة رضي الله عنها { إنما أجرك على قدر نصبك } والقياس أيضا يقتضي ذلك فإن العبد كلما كان تحمله المشاق لأجل رضا مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم
والقائل أن يقول على الوجهين هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكبر وذلك لأنا نرى بعض الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل منه ومن أمثاله بل يحكى عن عباد الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناء على الدواعي والقصود فلعل الفعل الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالأفعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابا عظيما والآخر لا يستحق به ثوالا قليلا لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني فإذن كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق
أما قوله في الوجه الأول السموات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الاتيان بالعبادة في المواضع الطيبة أشق من الاتيان بها في المواضع الرديئة أكثر ما في الباب أن يقال إنه قد يهيأ له أسباب التنعم فامتناعه عنها مع تهيتها له أشق ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمهة على البشر ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة على عبوديته وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون من النعم والرفاهية ولا يصبر أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص فما ذكروه بالعكس أولى أما قوله والمواظبة على نوع واحد من العبادة شاق قلنا هذا معارض بوجه آخر وهو أنهم لما
اعتادوا نوعا واحدا من العبادة صاروا كالمجبورين على الشيء الذي لا يقدرون على خلافه على ما قيل العادة طبيعة خامسة فيكون ذلك النوع في نهاية السهولة عليهم ولذلك فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الوصال في الصوم وقال { أفضل الصوم صوم داود عليه السلام } وهو أن يصوم يوما ويفطر يوما
وثالثها قالوا عبادات الملائكة أدوم فكانت أفضل بيان أنها أدوم قوله سبحانه وتعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 وعلى هذا لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر لكانت طاعاتهم أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة على ما تقدم بيانه في باب صفات الملائكة وعلى هذه الآية سؤال روي في شعب الإيمان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون ثم قال جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضا قال أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين البقرة 161 فكيف يكونون مشتغلين باللعن حال اشتغالهم باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح أجاب كعب الأحبار فقال التسبيح لهم كالتنفس لنا فكلما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالنا بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال
وأقول لقائل أن يقول الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام فاجتماعهما في الآية الواحدة محال والجواب الأول أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسن كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداء الله تعالى بالبعض الآخر والجواب الثاني اللعن هو الطرد والتبعيد والتسبيح هو الخوض في ثناء الله تعالى ولا شك أن ثناء الله يسلتزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي فكان ذلك اللعن من لوازمه والجواب الثالث قوله لا يفترون الأنبياء 20 معناه أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن فلانا مواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه ابدا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم أبدا على أدائها في أوقاتها وإذا ثبت أن عبادتهم أدوم وجب أن تكون أفضل أما أولا فلأن الأدوم أشق فيكون أفضل على ما سبق تقريره في الحجة الثانية وأما ثانيا فلقوله عليه السلام أفضل العباد من طال عمره وحسن عمله والملائكة صلوات الله عليهم أطول العباد أعمارا وأحسنهم أعمالا فوجب أن يكونوا أفضل العباد لأنه عليه السلام قال { الشيخ في قومه كالنبي في أمته } وهذا يقتضي أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمة وذلك يوجب فضلهم على البشر
ولقائل أن يقول إن نوحا عليه السلام وكذا لقمان وكذا الخضر كانوا أطول عمرا من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوجب أن يكونوا أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك باطل بالاتفاق فبطل ما قالوه وقد نجد في الأمة من هو أطول عمرا وأشد اجتهادا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو منه أبعد في الدرجة من العرش إلى ما تحت الثرى والتحقيق فيه ما بينا أن كثرة الثواب إنما تحصل لأمر يرجع إلى الدواعي والقصود فيجوز أن تكون الطاعة القليلة تقع من الإنسان على وجه يستحق بها ثوابا كثيرا والطاعات الكثيرة تقع على وجه لا يستحق بها إلا ثوابا قليلا
ورابعها أنهم أسبق السابقين في كل العبادات لا خصلة من خصال الدين إلا وهم أئمة مقدمون فيها بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين والسبق في العبادة جهة تفضيل وتعظيم أما أولا
فبالاجماع وأما ثانيا فلقوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون الواقعة 10 وأما ثالثا فلقوله عليه السلام { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة } فهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التي استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر ولقائل أن يقول فهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أول من سن عبادة الله تعالى من البشر وأول من سن دعوة الكفار إلى الله تعالى ولما كان ذلك باطلا بالاجماع بطل ما ذكروه والتحقيق فيه ما قدمناه أن كثرة الثواب تكون بأمر يرجع إلى النية فيجوز أن تكون نية المتأخر أصفى فيستحق من الثواب أكثر ما يستحقه المتقدم
وخامسها أن الملائكة رسل الأنبياء والرسول أفضل من الأمة فالملائكة أفضل من الأنبياء أما أن الملائكة رسل إلى الأنبياء فلقوله تعالى علمه شديد القوى النجم 5 وقوله نزل به الروح الأمين على قلبك الشعراء 193 وأما أن الرسول أفضل من الأمة فالبقياس على أن الأنبياء من البشر أفضل من أممهم فكذا ههنا فإن قيل العرف أن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع عظيم ليكون حاكما فيهم ومتوليا لأمورهم فذلك الرسول يكون أشرف من ذلك الجمع أما إذا أرسل واحدا إلى واحد فقد لا يكون الرسول أشرف من المرسل إليه كما إذا أرسل واحدا من عبيده إلى وزيره في مهم فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير قلنا لكن جبريل عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر فلزم على هذا القانون الذي ذكره السائل أن يكون جبريل عليه السلام أفضل منهم
واعلم أن هذه الحجة يمكن تقريرها على وجه آخر وهو أن الملائكة رسل لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 ثم لا يخلو الحال من أحد أمرين إما أن يكون الملك رسولا إلى ملك آخر أو إلى واحد من الأنبياء الذين هم من البشر وعلى التقدير فالملك رسول وأمته رسل وأما الرسول البشري فهو رسول لكن أمته ليسوا برسل والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي لا يكون كذلك فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة ولأن إبراهيم عليه السلام كان رسولا إلى لوط عليه السلام فكان أفضل منه وموسى عليه السلام كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم فكذا ههنا ولقائل أن يقول الملك إذا أرسل رسولا إلى بعض النواحي قد يكون ذلك لأنه جعل ذلك الرسول حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم ومتصرفا في أحوالهم وقد لا يكون لأنه يبعثه إليهم ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم فالرسول في القسم الأول يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه أما في القسم الثاني فظاهر أنه لا يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه فالأنبياء المبعوثون إلى أممهم من القسم الأول فلا جرم كانوا أفضل من الأمم فلم قلتم إن بعثة الملائكة إلى الأنبياء من القسم الأول حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء
وسادسها أن الملائكة أتقى من البشر فوجب أن يكونوا أفضل من البشر أنا أنهم أتقى فلأنهم مبرؤون عن الزلات وعن الميل إليها لأن خوفهم دائم وإشفاقهم دائم لقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم النحل 50 وقوله وهم من خشيته مشفقون الأنبياء 28 والخوف والاشفاق ينافيان العزم على المعصية وأما الأنبياء عليهم السلام فهم مع أنهم أفضل البشر ما خلا منهم عن نوع زلة وقال عليه
الصلاة والسلام ما منا من أحد إلا عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا عليهما السلام فثبت أن تقوى الملائكة أشد فوجب أن يكونوا أفضل من البشر لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم الحجرات 13 فإن قيل إن قوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم خطاب مع الآدميين فلا يتناول الملائكة وأيضا فالتقوى مشتق من الوقاية ولا شهوة في حق الملائكة فيستحيل تحقق التقوى في حقهم والجواب عن الأول أن ترتيب الكرامة على التقوى يدل على أن الكرامة معللة بالتقوى فحيث كانت التقوى أكثر كانت الكرامة أكثر وعن الثاني لا نسلن عدم الشهوة في حقهم لكن لا شهوة لهم إلا الأكل والمباشرة ولكن لا يلزم من عدم شهوة معينة عدم مطلق الشهوة بل لهم شهوة التقدم والترفع ولهذا قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وقال تعالى ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الأنبياء 29 ولقائل أن يقول الحديث الذي ذكرتم يدل على أن يحيى عليه السلام كان أتقى من سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من محمد وذلك باطل بالاجماع فعلمنا أنه لا يلزم من زيادة التقوى زيادة الفضل وتحقيقه ما قدمنا أن من المحتمل أن يكون إنسان لم تصدر عنه المعصية قط وصدر عنه من الطاعات ما استحق به مائة جزء من الثواب وإنسان آخر صدرت عنه المعصية ثم أتى بطاعة استحق بها ألف جزء من الثواب فليقابل مائة جزء من الثواب بمئة جزء من العقاب فيبقى له تسعمائة جزء من الثواب فهذا الإنسان مع صدور المعصية منه يكون أفضل من الإنسان الذي لمتصدر المعصية عنه قط وأيضا فلا نسلن أن تقوى الملائكة أشد وذلك لأن التقوى مشتق من الوقاية والمقتضى للمعصية في حق بني آدم أكثر فكان تقوى المتقين منهم أكثر قوله إن الملائكة لهم شهوة الرياسة قلنا هذا لا يضرنا لأن هذه الشهوة حاصلة للبشر أيضا وقد حصلت لهم أنواع أخر من الشهوات وهي شهوة البطن والفرج وإذا كان كذلك كانت الشهوات الصارفة عن الطاعات أكثر في بني آدم فوجب أن تكون تقوى المتقين منهم أشد
وسابعها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة النقربون النساء 172 وجه الاستدلال أن قوله تعالى ولا الملائكة المقربون خرج مخرج التأكيد للأول ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ولا المائة ولا يقال لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب ولقائل هذه الآية إذا دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح لكن لا يلزم منه فضل الملائكة النقربين على من هو أفضل من المسيح وهو محمد وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبالجملة فلو ثبت أن المسيح أفضل من كل الأنبياء كان مقصودهم حاصلا فأما إذا لم يقيموا الدلالة على ذلك فلا يحصل مقصودهم لا سيما وقد أجمع المسلمون على أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من المسيح عليه السلام وما رأينا أحد من المسلمين قطع بفضل المسيح على موسى وإبراهيم عليهما السلام ثم نقول قوله ولا الملائكة المقربون ليس فيه إلا واو العطف والواو للجمع المطلق فيدل على أن المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون فأما أن يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول المثال لا يكفي في إثبات الدعوى الكلية ثم إن المثال معارض بأمثلة أخرى وهو قوله ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو فهذا لا يفيد كون عمرو أفضل من زيد وكذا قوله تعالى ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام المائدة 2 ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها ثم التحقيق أنه إذا قال
هذه الخشبة لا يقدر على حملها الواحد ول العشرة فنحن بعقولنا أن العشرة أقوى من الواحد فلا جرم عرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا من مجرد اللفظ فههنا في الآية إنما يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله ولا الملائكة المقربون النساء 172 بيان المبالغة لو عرفنا قبل ذلك ان الملائكة المقربين أفضل من المسيح وحينئذ تتوقف صحة الاستدلال بهذه الآية على ثبوت الملطوب قبل هذا الدليل ويتوقف ثبوت المطلوب على دلالة هذه الآية عليه فيلزم الدور وأنه باطل سلمنا أنه يفيد التفاوت لكنه لا يفيد التفاوت في كل الدرجات بل في بعض دون آخر بيانه أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف عن خدمته القاضي ولا السلطان ولا يدل على كونه أفضل من القاضي في العلم والزهد والخضوع لله تعالى إذا ثبت هذا فنحن نقول بموجبه وذلك لأن الملك أفضل من البشر في القدرة والبطش فإن جبريل عليه السلام قلع مدائن لوط والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخضزع والعبودية وتمام التحقيق فيه أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب وكثرة الثواب لا تحصل إلا بالعبودية والعبودية عبارة عن نهاية التواضع والخضوع وكون العبد موضوفا بنهاية التواضع لله تعالى لا يناسب الاستنكاف عن عبودية الله ولا يلائمها البتة بل يناقضها وينافيها وإذا كان هذا الكلام ظاهرا جليا كان حمل كلام الله تعالى عليه مخرجا له عن الفائدة أنا اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والاستيلاء العظيم فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية فالنصارى لما شاهدوا من المسيح عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه عن العبودية بسبب هذا القدر من القدرة فقال الله تعالى إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي بل ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والقوة والبطش والاستيلاء على عوالم السموات والأرضين وعلى هذا الوجه ينتظم وجه دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في لبشدة والبطش لكنها لا تدل البتة على أنه أفضل من البشر في كثرة الثواب أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهيته لأنه حصل من غير أب فقيل لهم الملك ما حصل من أب ولا من أم فكانوا أعجب من عيسى في ذلك مع لأنهم لا يستنكفون عن العبودية
فإن قيل في الآية ما يدل على أن المراد وقوع التفاوت بين المسيح والملائكة في العبودية لا في القدرة والقوة والبطش وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم مقربين والقرب من الله تعالى لا يكون بالمكان والجهة بل بالدرجة والمنزلة فلما وصفهم ههنا بكونهم مقربين علمنا أن المراد وقوع التفاوت بينهم وبين المسيح في درجات الفضل لا في الشدة والبطش قلنا إن كان مقصودك من هذا السؤال أنه تعالى وصف الملائكة بكونهم مقربين فوجب أن لا يكون المسيح كذلك فهذا باطل لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفيه عما عداه وإن كان مقصودك أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مقربين وجب أن يكون التفاوت واقعا في ذلك فهذا باطل أيضا لاحتمال أن يكون المسيح والمقربون مع اشتراكهم في صفة القرب في الطاعة يتباينون بأمور أخر فيكون المراد بيان التفاوت في تلك الأمور سؤال آخر وهو أنا نقول بموجب الآية فنسلن أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل واحد من الملائكة في الفضل سؤال آخر لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في قوله وهو أهون عليه الروم 27
وثامنها قوله تعالى حكاية عن إبليس ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الأعراف 20 ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء عليهما السلام أن الملك أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغريهما بذلك ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران بذلك ولقائل أن يقول هذا قول إبليس فلا يكون حجة ولا يقال إن آدم اعتقد صحة ذلك وإلا لما اغتر واعتقاد آدم حجة لأنا نقول لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت وأيضا هب أنه حجة لكن آدم عليه السلام لم يكن قبل الزلة نبيا قلم يلزم من فضل الملك عليعه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيا وأيضا هب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة فلم قلت إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب وذلك لأنه لا نزاع أن الملك أفضل من البشر في باب القدرة والقوة وفي باب الحسن والجمال وفي باب الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم مخلوق من التراب فلعل آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التغرير حاصلا من هذا الوجه وأيضا فقوله إلا أن تكونا ملكين الأعراف 20 يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذ يصح استدلالكم ويحتمل أن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة والخالدين دونكما هذا كما يقال أحدنا لغيره ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانا ويكون المعنى أن المنهي هو فلان دونك ولم يرد إلا أن ينقلب فيصير فلانا ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إيهام أنهما لم ينهيا وإنما المنهي غيرهما وأيضا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت أنها تدل على أن الملك أفضل من محمد وذلك لأن المسلمين أجمعوا على أن محمدا أفضل من آدم عليهما السلام ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل
وتاسعها قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك الأنعام 50 ولقائل أن يقول يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم وشدة القدرة والذي يدل على صحبة هذا الاحتمال وجوه الأول وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود السماء ونقل الجبال وإحضار الأموال العظيمة وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة والقدرة الشديدة الثاني أن قوله قل لا أقول لكم عندي خزائن الله هذا يدل على اعترافه بأنه غير قادر على كل المقدورات وقوله ولا أعلم بالغيب يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل المعلومات ثم قوله ولا أقول لكم إني ملك معناه والله أعلم وكما لا أدعي القدرة على مل المقدروات والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علومهم الثالث قوله ولا أقول لكم إني ملك لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فإن عدم الاستواء في الكل غير وحصول الاختلاف في الكل غير
وعاشرها قوله تعالى ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم يوسف 31 فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة والجمال قلنا الأولى أن يكون التشبيه واقعا في السيرة لا في
الصورة لأنه قال إن هذا إلا ملك كريم فشبهه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية لا بمجرد صورته فثبت أن المراد تشبيه بالملك في نفي دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشتهى وإثبات ضد ذلك وهي حالة الملك وهي غض البصر وقمع عن الميل إلى المحرمات فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء والمؤمن والكافر على اختصاص الملائكة بدرجة فائقة على درجات البشر ولقائل أن يقول إن قول المرأة فذلكن الذي لمتنني فيه كالصريح في أن مراد النساء بقولهن إن هذا إلا ملك كريم يوسف 31 تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة لأن ظهور عذرها في شدة عشقها إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه فإن ذلك لا يناسب شدة عشقها له سلمنا أن المراد تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في الإعراض عن المشتهيات فلم يجب أن يكون يوسف عليه السلام أقل ثوابا من الملائكة وذلك أنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم والمناكح اقل من عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء لكن لم قلتم إن ذلك يوجب المزيد في الفضل بمعنى كثرة الذنوب فإن تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل فقد سبق الكلام عليه
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الإسراء 70 ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم أما المكلفون فهم أربعة أنواع الملائكة والإنس والجن والشياطين ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين فلو كان أفضل من الملك أيضا لزم حينئذ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات وحينئذ لا يبقى لقوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الإسراء 70 فائدة بل كان ينبغي أن يقال وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلا ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر ولقائل أن يقول حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب لأن التصريح بأنه أفضل من كثير من المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب وأيضا فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كل واحد منهم يساوي مائة دينار وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية يساوي كل واحد منهم دينارا فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني إلا أنه حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول فكذا ههنا وأيضا فقوله وفضلناهم الإسراء 70 يجوز أن يكون المراد وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول الآية وهي قوله ولقد كرمنا بني آدم الإسراء 70 ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة والمبالغة في النظافة والطهارة وإذا كان كذلك فنحن نسلن أن الملك أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم إن الملك أكثر ثوابا من البشر وأيضا فقوله خلق السموات بغير عمد ترونها لقمان 10 لا يقتضي أن يكون هناك عمد غير مرئي وكذلك قوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به المؤمنون 117 يقتضي أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك ههنا
الحجة الثانية عشرة الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا بدأوا بالاستغفار لأنفسهم ثم بعد ذلك
لغيرهم من المؤمنين قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا الأعراف 23 وقال نوح عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا نوح 28 وقال إبراهيم عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي نوح 28 وقال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين الشعراء 83 وقال موسى رب اغفر لي ولأخي الأعراف 151 وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات محمد 19 وقال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الفتح 2 أما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر يدل عليه تعالى حكاية عنهم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم غلفر 7 وقال ويستغفرون للذيم آمنوا غافر 7 فلو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدأوا في ذلك بأنفسهم لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير وقال عليه الصلاة والسلام { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر ولقائل أن يقول هذا الوجه لا يدل على أن الملائكة لم يصدر عنهم الزلة البتة وأن البشر قد صدرت الزلات عنهم لكنا بينا فيما تقدم أن التفاوت في ذلك لا يوجب التفاوت في الفضيلة ومن الناس من قال استغفارهم للبشر كالعذر عمن طعنوا فيهم بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها
الحجة الثالثة عشرة قوله تعالى وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين الانفطار 11 وهذا عام في حق جميع المكلفين من بني آدم فدخل فيه الأنبياء غيرهم وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين الأول أنه تعالى جعلهم لبني آدم والحافظ للمكلف من المعصية لا بد وأن يكون أبعد عن الخطأ والزلل من المحفوظ وذلك يقتضي كونهم أبعد عن المعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر وذلك يقتضي مزيد الفضل والثاني أنه سبحانه وتعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات وعليهم في المعاصي وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان الأمر بالعكس ولقائل أن يقول أما قوله الحافظ يجب أن يكون أكرم من المحفوظ فهذا بعيد فإن الملك قد يوكل بعض عبيده على ولده ولا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ هناك أما قوله جعل شهادتهم نافذة على البشر فضعيف لأن الشاهد قد يكون أدون حالا من المشهود عليه
الحجة الرابعة عشرة قوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا النبأ 38 والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله تعالى وجاله ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى من الإنباء عن عظمة الله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى في هذا المقام ثم كما أنه سبحانه بين عظمة ذاته في الآخرة بذكر الملائكة فكا بين عظمته في الدنيا بذكر الملائكة وهو قوله وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم الزمر 75 ولقائل أن يقول كل ذلك يدل على أنهم أزيد حالا من البشر في بعض الأمور فلم يجوز أن تلك الحالة هي قوتهم وشدتهم وبطشهم وهذا كما يقال إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك أطراف العالم خاضعين خاشعين فإن عظمة السلطان إنما تشرح بذلك ثم إن هذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده فكذا ههنا
الحجة الخامسة عشرة قوله تعالى والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله البقرة 285
فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان بهذه الأشياء ثم بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالكتب وربع بالرسل وكذا في قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم آل عمران 18 وقال إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56 والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ويدل عليه أن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا فوجب أن يكون قبيحا شرعا أما أنه قبيح عرفا فلأن الشاعر قال عميرة ودع إن تجهزت غاديا
كفى الشيب والإسلام للمء ناهيا
قال عمر بن الخطاب لو قدمت السلام لأجزتك ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول هذه الحجة ضعيفة لأن الاعتماد إن كان على الواو فالواو لا تفيد الترتيب وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة قل هو الله أحد الحجة السادسة عشرة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة الحجة السابعة عشرة أن نتكلم في جبريل ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فنقول إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد والدليل عليه قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( التكوير 19 22 ) وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال أحدها كونه رسولاً لله وثانيها كونه كريماً على الله تعالى وثالثها كونه ذا قوة عند الله وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره ورابعها كونه مكيناً عند الله وخامسها كونه مطاعاً في عالم السموات وسادسها كونه أميناً في كل الطاعات مبرءاً عن أنواع الخيانات ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ولو كان محمد مساوياً لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارناً له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصاً من منصب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتحقيراً لشأنه وإبطالاً لحقه وذلك غير جائز على الله فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال إنه ليس بمجنون وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام قلنا لأن قوله وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ يبطل ذلك ولقائل أن يقول إنا توافقنا جميعاً على أنه قد كان لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئاً من تلك الفضائل في هذا الموضع فإذن
عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل ههنا لا يدل على عدمها بالإجماع أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل سوى الأمور المذكورة ههنا فلم لا يجوز أن يقال إن محمداً عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة ههنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام ههنا بهذه الصفات الست وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً بصفات ست وهي قوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 45 46 ) فالوصف الأول كونه نبياً والثاني كونه رسولاً والثالث كونه شاهداً والرابع كونه مبشراً والخامس كونه نذيراً والسادس كونه داعياً إلى الله تعالى بإذنه والسابع كونه سراجاً والثامن كونه منيراً وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني الحجة الثامنة عشرة الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل فالملك أفضل إنما قلنا إن الملك أعلم من البشر لأن جبريل عليه السلام كان معلماً لمحمد عليه السلام بدليل قوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى والمعلم لا بدّ وأن يكون أعلم من المتعلم وأيضاً فالعلوم قسمان أحدهما العلوم التي يتوصل إليها بالعقول كالعلم بذات الله تعالى وصفاته فلا يجوز وقوع التقصير فيها لجبريل عليه السلام ولا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التقصير في ذلك جهل وهو قادح في معرفة الله تعالى وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى وما فيها من العجائب والعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المغاور والجبال والبحار فلا شك أن جبريل عليه السلام أعلم بها لأنه عليه السلام أطول عمراً وأكثر مشاهدة لها فكان علمه بها أكثر وأتم وثانيها العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالوحي لا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا لسائر الأنبياء عليهم السلام إلا من جهة جبريل عليه السلام فيستحيل أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام فضيلة فيها على جبريل عليه السلام وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالماً بكل الشرائع الماضية والحاضرة وهو أيضاً عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ومحمد عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بذلك فثبت أن جبريل عليه السلام كان أكثر علماً من محمد عليه الصلاة والسلام وإذا ثبت هذا وجب أن يكون أفضل منه لقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) ولقائل أن يقول لا نسلم أنهم أعلم من البشر والدليل عليه أنهم اعترفوا بأن آدم عليه السلام أكثر علماً منهم بدليل قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب فإنا نرى الرجل المبتدع محيطاً بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئاً من الثواب فضلاً عن أن يكون ثوابه أكثر وسببه ما نبهنا مراراً عليه أن كثرة الثواب إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر الحجة التاسعة عشرة قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) فهذه
الآية دالة على أنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم أما قوله إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثواباً من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك الحجة العشرون قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى ( وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه ) وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضاً فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى الحجة الأولى قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه الاعتراض عليه لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعاً للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجوداً للملائكة ومن جه آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم الحجة الثانية الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به الاعتراض لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضاً فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين هم أعداء الله أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضاً فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا أكمل من درجاتهم حين قالت أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة 30 ) وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى ( لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين )
الحجة الثالثة الروحانيات مبرأة عن طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها التي في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) ولا شك أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة الاعتراض لا نسلم أنها بالفعل التام فلعلها بالقوة في بعض الأمور ولهذا قيل إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل وهذه التحريكات بالنسبة إليها كالتحريكات العارضة للأرواح الحاملة لقوى الفكر والتخيل عند محاولة استخراج التعقلات التي هي بالقوة إلى الفعل الحجة الرابعة الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن طبيعة التغير والقوة والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك الاعتراض المقدمتان ممنوعتان أليس أن الروحانيات ممكنة الوجود لذواتها واجبة الوجود بمادتها فهي محدثة سلمنا ذلك فلا نسلم أن الأرواح البشرية حادثة بل هي عند بعضهم أزلية وهؤلاء قالوا هذه الأرواح كانت سرمدية موجودة كالأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن المبدىء الأول أمرها حتى نزلت إلى عالم الأجسام وسكنات المواد فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها فبعث من تلك الأظلال أكملها وأشرفها إلى هذا العالم ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن تلك السكنات وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في ( كتاب كليلة ودمنة ) الحجة الخامسة الروحانيات نورانية علوية لطيفة والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة والعلوي خير من السفلي واللطيف أكمل من الكثيف الاعتراض هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سببب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول وقد قيل له ما قيل الحجة السادسة الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور وأيضاً فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة وعلوم البشر على الضد في كل ذلك وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائماً يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا غفلة الأبدان طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله متجردون من العلائق البدنية غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآحر الاعتراض لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن ههنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أياماً كثيرة فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم على سبيل الدوام ولذلك قالت الأطباء إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائة لأن
كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر الحجة السابعة الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليباً وتصريفاً لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) والعقول أيضاً دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك فأين أحد القسمين من الآخر والذي يقال أن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور فأين أحدهما من الآخر الاعتراض لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس الحجة الثامنة الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عزّ وجلّ متوجهة إلى الخيرات مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها البتة شائبة الشر والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه الاعتراض هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم والأنبياء مترددون بين الطرفين والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك الحجة التاسعة الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأروح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادىء لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض وذلك هو الرتق فحينئذٍ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم السفلى لاسيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم فهذه هي الآثار وهناك المبدأ والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة الاعتراض كل ما ذكرتموه
منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باقٍ بعد لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر الحجة العاشرة قالوا الروحانيات الفلكية مبادىء لروحانيات هذا العالم ومعادلها والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالاً من الواجب وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها وأيضاً فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية الاعتراض هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد الحجة الحادية عشرة أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم لوط وفي يوم بدر وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة نوح في نجر السفينة فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور الحجة الثانية عشرة التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة أو تكون خيرة من وجه شريرة من وجه فالخير المحض هو النوع الملكي والشرير المحض هو النوع الشيطاني والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري وأيضاً فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران أحدهما الناطق الذي لا يكون مائتاً وهو الملك والآخر المائت الذي لا يكون ناطقاً وهم البهائم فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود الاعتراض أن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثواباً فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية وبالله التوفيق واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور أحدهما أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة وثانيها أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مقامه في الولاية والتصرف وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية 12 ) ثم أكد هذا التعميم بقوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات فالدنيا خلقت متعة لبقائه والآخرة مملكة
لجزائه وصارت الشياطين معلونين بسبب التكبر عليه والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال وثالثها أن آدم عليه السلام كان أعلم والعلم أفضل أم إنه أعلم فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( البقرة 32 ) فعند ذلك قال الله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ورابعها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علماً على الله ودالاً عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ منعاه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة فإن قيل يشكل هذا بقوله تعالى راجِعُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذا ههنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( آل عمران 42 ) ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا ههنا قلنا الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجوداً في ذلك الزمان ولما لم يكن موجوداً لم يكن من العالمين لأن المعدوم لا يكون من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجوداً حين قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام وأيضاً فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم وخامسها قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم وسادسها أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل وإنما قلنا إنها أشق لوجوه الأول أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة والفعل مع المعارض القوى أشد منه بدون المعارض فإن قيل الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة
واحدة الثاني أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) وقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وقال معاذ اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص الثالث أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسباباً لحوادث هذا العالم فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون لأنهم ساكنون في عالم السموات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع الرابع أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً بالنص فقوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا ههنا وسابعها أن الله تعالى خلق الملائكة عقولاً بلا شهوة وخلق البهائم شهوات بلا عقل وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئاً بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر وثامنها أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة وتاسعها ما روى أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أركبه على البراق ليلة المعراج وهذا يدل على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل منه ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) وعاشرها قوله عليه الصلاة والسلام ( إن لي وزيرين في السماء وزيرين في الأرض أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر ) فدل هذا الخبر على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمداً أفضل من الملك هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الحجة الأولى فقالوا قد سبق بيان أن من الناس من قال المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض ومنهم من سلم أنه عبارة عن وضع الجبهة على الأرض لكنه قال السجود لله وآدم قبلة السجود وعلى هذين القولين لا إشكال أما إذا سلمنا أن السجود كان لآدم عليه السلام فلم قلتم إن ذلك لا يجوز من الأشرف في حق الشريف وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كثيراً من حب الأشرف وإظهار النهاية في الانقياد والطاعة فإن للسلطان أن يجلس أقل عبيده في الصدر وأن يأمر الأكابر بخدمته ويكون غرضه من ذلك إظهار كونهم مطيعين له في كل الأمور منقادين له في جميع الأحوال فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك وأيضاً أليس
من مذهبنا أنه ( يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ) وأن أفعاله غير معللة ولذلك قلنا إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ثم في تعذيبه عليه أبد الآباد وإذا كان كذلك فكيف يعترض عليه في أن يأمر الأعلى بالسجود للأدنى وأما الحجة الثانية فجوابها أن آدم عليه السلام إنما جعل خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدل على كونه أشرف من ملائكة السماء فإن قيل فلم لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض قلنا لوجوه منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل ومنها أن الملائكة في نهاية الطهارة والعصمة وهذا هو المراد بقوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وأما الحجة الثالثة فلا نسلم أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم أكثر ما في الباب أن آدم عليه السلام كان عالماً بتلك اللغات وهم ما علموها لكن لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أن آدم عليه السلام ما كان عالماً بها والذي يحقق هذا أنا توافقنا على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من آدم عليه السلام مع أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان عالماً بهذه اللغات بأسرها وأيضاً فإن إبليس كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم عن الجنة وآدم عليه السلام لم يكن عالماً ذلك ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم عليه السلام والهدهد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به ولم يلزم أن يكون الهدهد أفضل من سليمان سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال إن طاعاتهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم فلا جرم كان ثوابهم أكثر أما الحجة الرابعة فهي أقوى الوجوه المذكورة أما الحجة الخامسة وهي قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) فلا يلزم من كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) ولا يمتنع أن يكون هو عليه الصلاة والسلام رحمة لهم من وجه وهم يكونون رحمة له من وجه آخر وأما الحجة السادسة وهي أن عبادة البشر أشق فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصوفية يتحمل في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأنه عليه السلام لم يتحمل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الكل وما ذاك إلا أن كثرة الثواب مبنية على الإخلاص في النية ويجوز أن يكون الفعل أسهل إلا أن إخلاص الآتي به أكثر فكان الثواب عليه أكثر أما الحجة السابعة فهي جمع بين الطرفين من غير جامع وأما الحجة الثامنة وهي أن المحفوظ أشرف من الحافظ فهذا ممنوع على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند وأما الوجهان الآخران فهما من باب الآحاد وهما معارضان بما رويناه من شدة تواضع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا آخر المسألة وبالله التوفيق
المسألة الخامسة اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذوراً في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله أبى لأن الأباء هو الامتناع مع
الاختيار أما من لم يكن قادراً على الفعل لا يقال له إنه أبى ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه أحدها أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه وثانيها أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه وثالثها قال تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لا يفعل ما لا يقدرعليه ورابعها أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة والجواب عنه أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب فنقول له نحن أيضاً صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذٍ يلزمك كل ما أوردته علينا أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه فيا أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك ويستأصل عروق كلامك ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح وحينئذٍ ينسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا
المسألة السادسة للعقلاء في قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قولان أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً وفي تقرير هذاالقول وجهان أحدهما حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى ( بالملل والنحل ) عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس للملائكة إني أسلم أن لي إلهاً هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة الأولى ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالماً بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام الثاني ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف الثالث هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم الرابع ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر الخامس ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام ثم لما فعلت ذلك فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم
وإضلالهم السابع ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم أن العالم لو كان خالياً عن الشر لكان ذلك خيراً قال شارح الأناجيل فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء يا إبليس إنك ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا عتراض على في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصاً وكان الكل لازماً أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات إذ لو افتقر لكان فقيراً لا غنياً فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهى الرغبات ومن عنده نيل الطلبات وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته وما أحسن ما قال بعضهم جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال فهذا القائل أجرى قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ على ظاهره وقال إنه كان كافراً منافقاً منذ كان الوجه الثاني في تقرير أنه كان كافراً أبداً قول أصحاب الموافاة وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق العقاب الدائم والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر فأما أن يبقى الاستحقاقان معاً وهو محال على ما بيناه أو يكون الطارىء مزيلاً للسابق وهو أيضاً محال لأن القول بالإحباط باطل فلم يبق إلا أن يقال إن هذا الفرض محال وشرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط فإذا كانت الخاتمة على الكفر علمنا أن الذي صدر عنه أولاً ما كان إيماناً إذا ثبت هذا فنقول لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمناً قط القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك وهؤلاء اختلفوا في تفسير قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فمنهم من قال معناه وكان من الكافرين في علم الله تعالى أي كان عالماً في الأزل بأنه سيكفر فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم والوجه الثاني أنه لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً قبل ذلك فبعد مضى كفره صدق عليه في ذلك الوقت أنه كان في ذلك الوقت من الكافرين ومتى صدق عليه ذلك وجب أن يصدق عليه أنه كان من الكافرين جزء من مفهوم قولنا كان من الكافرين في ذلك الوقت ومتى صدق المركب صدق المفرد لا محالة الوجه الثالث المراد من كان صار أي وصار من الكافرين وههنا أبحاث البحث الأول اختلفوا في أن قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين قال قوم إنه يدل عليه لأن كلمة من للتبعيض فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضاً لهم والذي يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال ( إن الله تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فقالوا لا نفعل ذلك فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا ) وقال آخرون هذه الآية لا تدل على ذلك ثم لهم في تفسير الآية وجهان أحدهما معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك وهو قول الأصم وذكر في مثاله قوله تعالى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( التوبة 67 ) فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين فكذا ههنا
لما كان الكفر ظاهراً من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله وكان من الكافرين وثانيها أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية وواحد من آحاد هذه الحقيقة واعلم أنه يتفرع على هذا البحث أن إبليس هل كان أول من كفر بالله والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله
البحث الثاني أن المعصية عند المعتزلة وعندنا لا توجب الكفر أما عندنا فلأن صاحب الكبيرة مؤمن وأما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر وأما عند الخوارج فكل معصية كفر وهم تمسكوا بهذه الآية قالوا إن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية فدل على أن المعصية كفر الجواب إن قلنا إنه كافر من أول الأمر فهذا السؤال زائل وإن قلنا إنه كان مؤمناً فنقول إنه إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد واستدلاله على ذلك بقوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ والله أعلم
المسألة السابعة قال الأكثرون إن جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين الأول أن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ الثاني هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلاً في ذلك الحكم ومن الناس من أنكر ذلك وقال المأمورون بهذا السجود هم ملائكة الأرض واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات
بداية الجزء الثالث من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله اسْكُنْ أمرتكليف أو إباحة فالمروي عن قتاده أنه قال إن الله تعالى ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود وذلك لأنه كلفه بأن يكون في الجنة يأكل منها حيث شاء ونهاه عن شجرة واحدة إن يأكل منها فما زالت به البلايا حتى وقع فيم نهى عنه فبدت سوأته عند ذلك وأهبط من الجنة وأسكن موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع أن منعه من تناوله من أشد التكاليف وقال آخرون إن ذلك إباحة لأن الاستقرار في المواضع الطيبة النزهة التي يتمتع فيها يدخل تحت التعبد كما أن أكل الطيبات لا يدخل تحت التعبد ولا يكون قوله كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( الأعراف 16 ) أمراً وتكليفاً بل إباحة والأصح أن ذلك الإسكان مشتمل على ما هو إباحة وعلى ما هو تكليف أما الإباحة فهو أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذوناً في الانتفاع بجميع نعم الجنة وأما التكليف فهو أن المنهى عنه كان حاضراً وهو كان ممنوعاً عن تناوله قال بعضهم لو قال رجل لغيره أسكنتك داري لا تصير الدار ملكاً له فههنا لم يقل الله تعالى وهبت منك الجنة بل قال أسكنتك الجنة وإنما لم يقل ذلك لأنه خلقه لخلافة الأرض فكان إسكان الجنة كالتقدمة على ذلك
المسألة الثانية أن الله تعالى لما أمر الكل بالسجود لآدم وأبى إبليس السجود صيره الله ملعوناً ثم أمر آدم بأن يسكنها مع زوجته واختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه فذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فبقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها من أنت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إليّ فقالت الملائكة ما اسمها قالوا حواء ولم سميت حواء قال لأنها خلقت من شيء حي وعن
عمر وابن عباس رضي الله عنهما قال بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلا الجنة فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخال آدم الجنة والخبر الأول يدل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بالحقيقة
المسألة الثالثة أجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك وأنها مخلوقة منه كما قال الله تعالى في سورة النساء الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) وفي الأعراف وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( الأعراف 189 ) وروى الحسن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن المرأة خلقت من ضلع الرجل فإن أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها انتفعت بها واستقامت )
المسألة الرابعة اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى قعة كما في قوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا ( البقرة 61 ) واحتجا عليه بوجوه أحدها أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( طه 120 ) ولما صح قوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) وثانيها أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ( الحجر 48 ) وثالثها أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد ورابعها أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ( الرعد 35 ) ولقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا إلى أن قال عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( هود 108 ) أي غير مقطوع فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت لكنها تفنى لقوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ولما خرج منها آدم عليه السلام لكنه خرج منها وانقطعت تلك الراحات وخامسها أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم فيها ولا تكليف لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل ولأنه لا يهمل عباده بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد وسادسها لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم فدل ذلك على أنه لم يحصل وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى له اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ جنة أخرى غير جنة الخلد القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك الجنة كانت في السماء السابعة والدليل عليه قوله تعالى اهْبِطُواْ مِنْهَا ( البقرة 38 ) ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى والإهباط الثاني كان من السماء إلى
الأرض القول الثالث وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليه أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيدان العموم لأن سكنى جميع الجنان محال فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ إليها والقول الرابع أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم
المسألة الخامسة قال صاحب الكشاف السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار و ( أنت ) تأكيد للمستكن في ( اسكن ) ليصح العطف عليه و ( رغداً ) وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و ( حيث ) للمكان المبهم أي أي مكان من الجنة شئتما فالمراد من الآية إطلاق الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة من بين أشجارها الكثيرة
المسألة السادسة لقائل أن يقول إنه تعالى قال ههنا وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا وقال في الأعراف فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ( الأعراف 19 ) فعطف كَلاَّ على قوله اسْكُنْ في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة والجواب كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط وذلك الشيء بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى وَإِذَا قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ( البقرة 58 ) فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها فالدخول موصل إلى الأكل والأكل متعلق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ( الأعراف 161 ) فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه وإن كان مجتازاً فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء إذا ثبت هذا فنقول إن اسْكُنْ يقال لمن دخل مكاناً فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه ويقال أيضاً لمن لم يدخل اسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه ففي سورة البقرة هذه الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء والله أعلم
المسألة السابعة قوله وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ لا شبهة في أنه نهى ولكن فيه بحثان الأول أن هذا نهي تحريم أو نهي تنزيه فيه خلاف فقال قائلون هذه الصيغة لنهي التنزيه وذلك لأن هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه وأخرى في التحريم والأصل عدم الاشتراك فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وما ذلك إلا أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل أو على الإطلاق فيه لكن الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل فإن الأصل في المنافع الإباحة فإذا ضممنا مدلول اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه قالوا وهذا هو الأولى بهذا المقام لأن على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى ومعلوم أن كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام كان أولى بالقبول وقال آخرون بل هذا النهي نهي
تحريم واحتجوا عليه بأمور أحدها أن قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ كقوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( البقرة 222 ) وقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول وثانيها أنه قال فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ( البقرة 35 ) معناه إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ألا تراهما لما أكلا قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وثالثها أن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة ولما وجبت التوبة عليه والجواب عن الأول نقول إن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه ولكنه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة وعن الثاني أن قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ أي فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنة التي لا تظمآن فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان إلى موضع ليس لكما فيه شيء من هذا وعن الثالث أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنة كان لهذا السبب وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
البحث الثاني قال قائلون قوله وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ يفيد بفحواه النهي عن الأكل وهذا ضعيف لأن النهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى في غير هذا الموضع فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا ( الأعراف 22 ) ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال الْجَنَّة َ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل وسائر الانتفاعات ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة
المسألة الثامنة اختلفوا في الشجرة ما هي فروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها البر والسنبلة وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الشجرة فقال هي الشجرة المباركة السنبلة وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود أنها الكرم وعن مجاهد وقتادة أنها التين وقال الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين فلا حاجة أيضاً إلى بيانه لأنه ليس المقصود من هذا الكلام أن يعرفنا عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصوداً في الكلام لا يجب على الحكيم أن يبينه بل ربما كان بيانه عبثاً لأن أحدنا لو أراد أن يقيم العذر لغيره في التأخر فقال شغلت بضرب علماني لإساءتهم الأدب لكان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين هذا الغلام ويذكر اسمه وصفته فليس لأحد أن يظن أنه وقع ههنا تقصير في البيان ثم قال بعضهم الأقرب في لفظ الشجرة أن يتناول ماله ساق وأغصان وقيل لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مّن يَقْطِينٍ ( الصافات 146 ) مع أنها كالزرع والبطيخ فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً قال المبرد وأحسب أن كل ما تفرعت له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً في وقت تشعبه وأصل هذا أنه كل ما شجر أي أخذ يمنه ويسرة يقال رأيت فلاناً في شجرته الرماح وقال تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) وتشاجر الرجلان في أمر كذا
المسألة التاسعة اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما لأن الأكل من الشجرة ظلم الغير وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره
فظلم النفس أعم وأعظم ثم اختلف الناس ههنا على ثلاثة أقوال الأول قول الحشوية الذين قالوا إنه أقدم على الكبيرة فلا جرم كان فعله ظلماً الثاني قوله المعتزلة الذين قالوا إنه أقدم على الصغيرة ثم لهؤلاء قولان أحدهما قول أبي علي الجبائي وهو أنه ظلم نفسه بأن ألزمها ما يشق عليه من التوبة والتلافي وثانيهما قول أبي هاشم وهو أنه ظلم نفسه من حيث أحبط بعض ثوابه الحاصل فصار ذلك نقصاً فيما قد استحقه الثالث قول من ينكر صدور المعصية منهم مطلقاً وحمل هذا الظلم على أنه فعل ما الأولى له أن لا يفعله ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها واشتغل بالحياكة فإنه يقال له يا ظالم نفسه لم فعلت ذلك فإن قيل هل يجوز وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ظالمين أو بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم والجواب أن الأولى أنه لا يطلق ذلك لما فيه من إيهام الذم
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
قال صاحب الكشاف فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها ولفظة عَنْ في هذه الآية كهي في قوله تعالى وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ( الكهف 82 ) قال القفال رحمه الله هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزل عنه ويصير متحولاً عن ذلك الموضع ومن قرأ فأزالهما فهو من الزوال عن المكان وحكي عن أبي معاذ أنه قال يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد أي حولتك عنه وقال بعض العلماء أزلهما الشيطان أي استنزلهما فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه واعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام وضبط القول فيه أن يقال الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة أحدها ما يقع في باب الاعتقاد وثانيها ما يقع في باب التبليغ وثالثها ما يقع في باب الأحكام والفتيا ورابعها ما يقع في أفعالهم وسيرتهم أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة وقالت الفضيلية من الخوارج إنهم قد وقعت منهم الذنوب والذنب عندهم كفر وشرك فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية
أما النوع الثاني وهو ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً كما لا يجوز أيضاً سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن
وأما النوع الثالث وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون
وأما النوع الرابع وهو الذي يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال أحدها قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية والثاني قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف وهذا قول أكثر المعتزلة القول الثالث أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة على جهة العمد البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي القول الرابع أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم القول الخامس أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبيرة ولا الصغيرة لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ وهو مذهب الرافضة واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال أحدها قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة وثانيها قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة وهو قول كثير من المعتزلة وثالثها قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة أما قبل النبوة فجائز وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة البتة لا الكبيرة ولا الصغيرة ويدل عليه وجوه أحدها لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ألا ترى إلى قوله تعالى عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة فذاك بالإجماع وثانيها أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ( الحجرات 6 ) لكنه مقبول الشهادة وإلا كان أقل حالاً من عدول الأمة وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك وأيضاً فهو يوم القيامة شاهد على الكل لقوله لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وثالثها أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها فلم يكن إيذاؤه محرماً لكنه محرم لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( الأحزاب 57 ) ورابعها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله تعالى فَاتَّبِعُونِى فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال وإذا ثبت ذلك حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثبت أيضاً في سائر الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق وخامسها أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحاً للذته غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده هذا معلوم القبح بالضرورة وسادسها أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ( الجن 23 ) ولا استحقوا اللعن لقوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) وأجمعت الأمة على أن أحداً من الأنبياء لم يكن مستحقاً للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه وسابعها أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( البقرة 44 ) وقال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ( هود 88 ) فما لا يلق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام وثامنها قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( الأنبياء 90 ) ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه وذلك ينافي صدور الذنب عنهم وتاسعها قوله تعالى وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 47 ) وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال فلاناً من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته فثبت أنهم كانوا أخياراً في كل الأمور وذلك ينافي صدور الذنب عنهم وقال اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) وقال في إبراهيم وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( البقرة 130 ) وقال في موسى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف 144 ) وقال وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 45 47 ) فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالأصطفاء والخيرية وذلك ينافي صدور الذنب عنهم عاشرها أنه تعالى حكى عن إبليس قوله فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام قال تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( ص 46 ) وقال في يوسف إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت وجوبها في حق الكل لأنه لا قائل بالفرق والحادي عشر قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال إنه ما صدر الذنب عنهم إلا فقد كانوا متبعين له وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنيباء أو غيرهم فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب وإن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق فيكون غير النبي أفضل من النبي وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم الثاني عشر أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ وقال في الصنف الآخر أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 22 ) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه
من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله وأنهم من المفلحين فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول وهذا لا يقوله مسلم الثالث عشر أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لايصدر الذنب من الرسول وإنما قلنا أنه أفضل لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر وإنما قلنا إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب فقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) وقال لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك لقوله تعالى أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
الرابع عشر روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وفق دعواه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف شهدت لي ) فقال يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات أفلا أصدقك في هذا القدر فصدقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة
الخامس عشر قال في حق إبراهيم عليه السلام إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب وذلك يفضي إلى التناقض
السادس عشر قوله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا نثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به ويقتدى به والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنباً أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناه بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة أولها تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( الأعراف 189 ) إلى آخر الآية قالوا لا شك أن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما فقوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عما يشركون هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى يقتضي صدور الشرك عنهما والجواب لا نسلن أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول الخطاب لقريش وهم آل قصي والمعنى خلقكم من تفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها فلما آتاها ما طلبا من الولد الصالح سيما أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما فهذا الجواب هو المعتمد
وثانيها قالوا إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالما بالله ولا باليوم الآخر أما الأول فلأنه قال في الكواكب هذا ربي الأنعام 77 وأما الثاني فقوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي ( البقرة 260 ) والجواب أما قوله هَاذَا رَبّى فهو استفهام على سبيل الإنكار وأما قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة وثالثها تمسكوا بقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( يونس 94 ) فدلت الآية على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان في شك مما أوحى إليه والجواب أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل
أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة أحدها قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( الأعلى 6 8 ) فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان في الوحي الجواب ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك فنحمله على ترك الأولى وثانيها قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء وثالثها قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ( الجن 26 28 ) قالوا فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة والجواب لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن إلقاء الوسوسة أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة أحدها قوله وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ ( الأنبياء 78 ) وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء وثانيها ( قوله في أسارى بدر حين فاداهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ ( الأنفال 67 ) فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب وثالثها قوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) والجواب عن الكل أنا نحمله على ترك الأولى
أما الآيات التي تمسكوا بها في الأفعال فكثيرة أولها قصة آدم عليه السلام تمسكوا بها من سبعة أوجه الأول أنه كان عاصياً والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة وإنما قلنا إنه كان عاصياً لقوله تعالى وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) وإنما قلنا أن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين الأول أن النص يقتضي كونه معاقباً لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) فلا معنى لصاحب الكبيرة إلا ذلك الثاني أن صاحب الكبيرة الوجه الثاني في التمسك بقصة آدم أنه كان غاوياً لقوله تعالى فَغَوَى العاصي اسم ذم فوجب أن لا يتناول إلا والغي ضد الرشد لقوله تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) فجعل الغي مقابلاً للرشد الوجه الثالث أنه تائب والتائب مذنب وإنما قلنا إنه تائب لقوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) وقال ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ ( طه 122 ) وإنما قلنا التائب مذنب لأن التائب
هو النادم على فعل الذنب والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلاً الذنب فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب بالكذب وإن صدق فيه فهو المطلوب الوجه الرابع أنه ارتكب المنهي عنه في قوله أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ ( الأعراف 22 ) وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( الأعراف 19 ) وارتكاب المنهى عنه عين الذنب الوجه الخامس سماه ظالماً في قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ( البقرة 35 ) وهو سمى نفسه ظالماً في قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) والظالم معلون لقوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة الوجه السادس أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله إياه وإلا لكان خاسراً في قوله وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة وسابعها أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان وذلك يدل على كونه صاحب الكبيرة ثم قالوا هب أن كل واحد من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعلاً للكبيرة لكن مجموعها لا شك في كونه قاطعاً في الدلالة عليه ويجوز أن يكون كل واحد من هذه الوجوه وإن لم يدل على الشيء لكن مجموع تلك الوجوه يكون دالاً على الشيء والجواب المعتمد عن الوجوه السبعة عندنا أن نقول كلامكم إنما يتم لو أتيتم بالدلالة على أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال إن آدم عليه السلام حالما صدرت عنه هذه الزلة ما كان نبياً ثم بعد ذلك صار نبياً ونحن قد بينا أنه لا دليل على هذا المقام وأما الاستقصاء في الجواب عن كل واحد من الوجوه المفصلة فسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات ولنذكر ههنا كيفية تلك الزلة ليظهر مراد الله تعالى من قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) فنقول لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم عليه السلام بعد النبوة فإقدامه على ذلك الفعل إما أن يكون حال كونه ناسياً أو حال كونه ذاكراً أما الأول وهو أنه فعله ناسياً فهو قول طائفة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) ومثلوه بالصائم يشتغل بأمر يستغرقه ويغلب عليه فيصير ساهياً عن الصوم ويأكل في أثناء ذلك السهو ( لا ) عن قصد لا يقال هذا باطل من وجهين الأول أن قوله تعالى مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ وقوله وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 20 21 ) يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام وروى عن ابن عباس ما يدل على أن آدم عليه السلام تعمد لأنه قال لما أكلا منها فبدت لهما سوآتهما خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى أفراراً مني فقال بل حياء منك فقال له أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك قال بلى يا رب ولكني وعزتك ما كنت أرى أن أحداً يحلف بك كاذباً فقال وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا كداً الثاني وهو أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 276 ) وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث ) فلما عوتب عليه دل على أن ذلك لم يكن على سبيل
النسيان لأنا نقول أما الجواب عن الأول فهو أنا لا نسلم أن آدم وحواء قبلا من إبليس ذلك الكلام ولا صدقاه فيه لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في هذا التصديق أعظم من أكل الشجرة لأن إبليس لما قال لهما مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فقد ألقى إليهما سوء الظن بالله ودعاهما إلى ترك التسليم لأمره والرضا بحكمه وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحاً لهما وأن الرب تعالى قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد وأيضاً كان آدم عليه السلام عالماً بتمرد إبليس عن السجود وكونه مبغضاً له وحاسداً له على ما آتاه الله من النعم فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوه مع هذه القرائن وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام أو بعده ويدل على أن آدم كان عالماً بعداوته لقوله تعالى إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) وأما ما روي عن ابن عباس فهو أثر مروي بالآحاد فكيف يعارض القرآن وأما الجواب عن الثاني فهو أن العتاب إنما حصل على ترك التحفظ من أسباب النسيان وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى كَرِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 ) ثم قال مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وقال أيضاً ( إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) فإن قيل كيف يجوز أن يؤثر عظم حالهم وعلو منزلتهم في حصول شرط في تكليفهم دون تكليف غيرهم قلنا أما سمعت ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ولقد كان على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره فهذا في تقرير أنه صدر ذلك عن آدم عليه السلام على جهة السهو والنسيان ورأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد لأنه عليه السلام كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة فإذا حملنا الشجرة على البر كان مأذوناً في تناول الخمر ولقائل أن يقول إن خمر الجنة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) أما القول الثاني وهو أنه عليه السلام فعله عامداً فههنا أربعة أقوال أحدها أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم وقد تقدم الكلام في هذا القول وعلته الثاني أنه كان ذلك عمداً من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبياً وقد عرفت فساد هذا القول الثالث أنه عليه السلام فعله عمداً لكن كان معه من الوجل والفزع والأشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة وهذا القول أيضاً باطل بالدلائل المتقدمة لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً وإن فعله مع الخوف إلا أنه يكون مع ذلك عاصياً مستحقاً للعن والذم والخلود في النار ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وذلك ينافي العمدية القول الرابع وهو اختيار أكثر المعتزلة أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فلفظ هَاذِهِ
قد يشار به إلى الشخص وقد يشار به إلى النوع وروي أنه عليه السلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال ( هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم ) وأراد به نوعهما وروي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وأراد نوعه فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( البقرة 35 ) ( الأعراف 19 ) ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع إلا أنه كان مخطئاً في ذلك الاجتهاد لأن مراد الله تعالى من كلمة هَاذِهِ كان النوع لا الشخص والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا فإن قيل الكلام على هذا القول من وجوه أحدها أن كلمة هَاذَا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئاً معيناً فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع فذاك على خلاف الأصل وأيضاً فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا محالة إذا ثبت هذا فنقول المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته فآدم عليه السلام لما حمل لفظ هَاذَا على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع واعلم أن هذا الكلام متأيد بأمرين آخرين أحدهما أن قوله وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ( البقرة 35 ) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل والثاني أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذوناً له في الانتفاع بسائر الأشجار وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتاباً وأن يحكم عليه بكونه مخطئاً فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيباً لا مخطئاً وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل الوجه الثاني في الاعتراض على هذا التأويل هب أن لفظ هَاذَا متردد بين الشخص والنوع ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك فإن كان الأول فأما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان فحينئذ يكون قد أتى بالذنب وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداماً على الذنب قصداً الوجه الثالث أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية الوجه الرابع هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيراً وحينئذ يعود الإشكال وإن كانت من الظنيات فإن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقق الخطأ فيها أصلاً وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطىء فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض والجواب عن الأول
أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع والجواب عن الثاني هو أن آدم عليه السلام لعله قصر في معرفة ذلك الدليل لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال أو يقال إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة فلما طالت المدة غفل عنه لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج والجواب عن الثالث أنه لا حاجة ههنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد فأنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها لكنه قد نسيها وهو المراد من قوله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً والجواب عن الرابع يمكن أن يقال كانت الدلالة قطعية إلا أنه عليه السلام لما نسيها صار النسيان عذراً في أن لا يصير الذنب كبيراً أو يقال كانت ظنية إلا أنه ترتب عليه من التشديدات ما لم يترتب على خطأ سائر المجتهدين لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مخصوص بأمور كثيرة في باب التشديدات والتخفيفات بما لا يثبت في حق الأمة فكذا ههنا واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ونهاهما معاً فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة وأن يتناول منها لأن قوله وَلاَ تَقْرَبَا نهي لهما على الجمع ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الإنفراد فلعل الخطأ في هذا الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه فهذا جملة ما يقال في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم عليه السلام مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم كان في الجنة وذكروا فيه وجوهاً أحدها قول القصاص وهو الذي رووه عن وهب بن منبه اليماني والسدي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية وهي كأحسن الدواب بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها وصارت تمشي على بطنها وجعل رزقها في التراب وصارت عدواً لبني آدم واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة وثانيها أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة وهذا القول أقل فساداً من الأول وثالثها قال بعض أهل الأصول إن آدم وحواء عليهما السلام لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان بقرب الباب ويوسوس إليهما ورابعها هو قول الحسن أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة قال بعضهم هذا بعيد لأن الوسوسة كلام خفي والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء واختلفوا من وجه آخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه
حجة القول الأول قوله تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 21 ) وذلك يقتضي المشافهة وكذا قوله فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ( الأعراف 22 ) وحجة القول الثاني أن آدم وحواء عليهما السلام كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس بقي ههنا سؤالان السؤال الأول أن الله تعالى قد أضاف هذا الإزلال إلى إبليس فلم عاتبهما على ذلك الفعل قلنا معنى قوله فَأَزَلَّهُمَا أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل فأضيف ذلك إلى إبليس كما في قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) فقال تعالى حاكياً عن إبليس وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) هذا ما قاله المعتزلة والتحقيق في هذه الإضافة ما قررناه مراراً أن الإنسان قادر على الفعل والترك ومع التساوي يستحيل أن يصير مصدراً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الداعي إليه والداعي عبارة في حق العبد عن علم أو ظن أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحة فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلاً بالفعل فلهذا المعنى انضاف الفعل ههنا إلى الوسوسة وما أحسن ما قال بعض العارفين إن زلة آدم عليه السلام هب أنها كانت بسبب وسوسة إبليس فمعصية إبليس حصلت بوسوسة منا وهذا ينبهك على أنه ما لم يحصل الداعي لا يحصل الفعل وأن الدواعي وإن ترتب بعضها على بعض فلا بد من انتهائها إلى ما يخلقه الله تعالى ابتداء وهو الذي صرح به موسى عليه السلام في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ( الأعراف 155 ) السؤال الثاني كيف كانت تلك الوسوسة الجواب أنها هي التي حكى الله تعالى عنها في قوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) فلم يقبلا ذلك منه فلما أيس من ذلك عدل إلى اليمين على ما قال وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 21 ) فلم يصدقاه أيضاً والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات المباحة حتى صارا مستغرقين فيه فحصل بسبب استغراقهما فيه نسيان النهي فعند ذلك حصل ما حصل والله أعلم بحقائق الأمور كيف كانت
أما قوله تعالى وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى من قال إن جنة آدم كانت في السماء فسر الهبوط بالنزول من العلو إلى السفل ومن قال إنها كانت في الأرض فسره بالتحول من موضع إلى غيره كقوله اهْبِطُواْ مِصْرًا ( البقرة 61 )
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب بعد الاتفاق على أن آدم وحواء عليهما السلام كانا مخاطبين به وذكروا فيه وجوهاً الأول وهو قول الأكثرين أن إبليس داخل فيه أيضاً قالوا لأن إبليس قد جرى ذكره في قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي فأزلهما وقلنا لهم اهبطوا
وأما قوله تعالى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فهذا تعريف لأدم وحواء عليهما السلام أن إبليس عدو لهما ولذريتهما كما عرفهما ذلك قبل الأكل من الشجرة فقال فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) فإن قيل إن إبليس لما أبى من السجود صار كافراً وأخرج من الجنة وقيل له
فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ( الأعراف 13 ) وقال أيضاً فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( ص 77 ( الحجر 34 ) وإنما اهبط منها لأجل تكبره فزلة آدم عليه السلام إنما وقعت بعد ذلك بمدة طويلة ثم أمر بالهبوط بسبب الزلة فلما حصل هبوط إبليس قبل ذلك كيف يكون قوله اهْبِطُواْ متناولاً له قلنا إن الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض فلعله عاد إلى السماء مر أخرى لأجل أن يوسوس إلى آدم وحواء فحين كان آدم وحواء في الجنة قال الله تعالى لهما اهْبِطَا فلما خرجا من الجنة واجتمع إبليس معهما خارج الجنة أمر الكل فقال اهْبِطُواْ ومن الناس من قال ليس معنى قوله اهْبِطُواْ أنه قال ذلك لهم دفعة واحدة بل قال ذلك لكل واحد منهم على حدة في وقت الوجه الثاني أن المراد آدم وحواء والحية وهذا ضعيف لأنه ثبت بالإجماع أن المكلفين هم الملائكة والجن والإنس ولقائل أن يمنع هذا الإجماع فإن من الناس من يقول قد يحصل في غيرهم جمع من المكلفين على ما قال تعالى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وقال سليمان للهدهد لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( النمل 21 ) الثالث المراد آدم وحواء وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم والدليل عليه قوله اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا ( البقرة 36 38 ) ويدل عليه أيضاً قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 38 39 ) وهذا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ما عليه الناس من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض واعلم أن هذا القول ضعيف لأن الذرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف يتناولهم الخطاب أما من زعم أن أقل الجمع اثنان فالسؤال زائل على قوله
المسألة الثالثة اختلفوا في أن قوله اهْبِطُواْ أمر أو إباحة والأشبه أنه أمر لأن فيه مشقة شديدة لأن مفارقة ما كانا فيه من الجنة إلى موضع لا تحصل المعيشة فيه إلا بالمشقة والكد من أشق التكاليف وإذا ثبت هذا بطل ما يظن أن ذلك عقوبة لأن التشديد في التكليف سبب للثواب فكيف يكون عقاباً مع ما فيه من النفع العظيم فإن قيل ألستم تقولون في الحدود وكثير من الكفارات إنها عقوبات وإن كانت من باب التكاليف قلنا أما الحدود فهي واقعة بالمحدود من فعل الغير فيجوز أن تكون عقاباً إذا كان الرجل مصراً وأما الكفارات فإنما يقال في بعضها إنه يجري مجرى العقوبات لأنها لا تثبت إلا مع المأثم فأما أن تكون عقوبة مع كونها تعريضات للثواب العظيم فلا
المسألة الرابعة أن قوله تعالى اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أمر بالهبوط وليس أمراً بالعداوة لأن عداوة إبليس لآدم وحواء عليهما السلام بسبب الحسد والاستكبار عن السجود واختداعه إياهما حتى أخرجهما من الجنة وعداوته لذريتهما بإلقاء الوسوسة والدعوة إلى الكفر والمعصية وشيء من ذلك لا يجوز أن يكون مأموراً به فأما عداوة آدم لإبليس فإنها مأمور بها لقوله تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) وقال تعالى يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 27 ) إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من الآية اهبطوا من السماء وأنتم بعضكم لبعض عدو
المسألة الخامسة المستقر قد يكون بمعنى الاستقرار كقوله تعالى إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 12 ) وقد يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه كقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً
( الفرقان 24 ) وقال تعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ( الأنعام 98 ) إذا عرفت هذا فنقول الأكثرون حملوا قوله تعالى وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ ( البقرة 36 ) ( الأعراف 24 ) على المكان والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المستقر هو القبر أي قبوركم تكونون فيها والأول أولى لأنه تعالى قدر المتاع وذلك لا يليق إلا بحال الحياة ولأنه تعالى خاطبهم بذلك عند الإهباط وذلك يقتضي حال الحياة واعلم أنه تعالى قال في سورة الأعراف في هذه القصة قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( الأعراف 24 25 ) فيجوز أن يكون قوله فِيهَا تَحْيَوْنَ إلى آخر الكلام بياناً لقوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ويجوز أن يكون زيادة على الأول
المسألة السادسة اختلفوا في معنى الحين بعد اتفاقهم على أنه اسم للزمان والأولى أن يراد به الممتد من الزمان لأن الرجل يقول لصاحبه ما رأيتك منذ حين إذا بعدت مشاهدته له ولا يقال ذلك مع قرب المشاهدة فلما كانت أعمار الناس طويلة وآجالهم عن أوائل حدوثهم متباعدة جاز أن يقول وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
المسألة السابعة اعلم أن في هذه الآيات تحذيراً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه أحدها أن من تصور ما جرى على آدم عليه السلام بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي قال الشاعر يا ناظراً يرنو بعيني راقد
ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى
درك الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدما
منها إلى الدنيا بذنب واحد
وعن فتح الموصلي أنه قال كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها وثانيها التحذير عن الاستكبار والحسد والحرص عن قتادة في قوله تعالى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) قال حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال أنا ناري وهذا طيني ثم ألقى الحرص في قلب آدم حتى حمله على ارتكاب المنهى عنه ثم ألقى الحسد في قلب قابيل حتى قتل هابيل وثالثها أنه سبحانه وتعالى بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم وإبليس وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر
فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
المسألة الأولى قال القفال أصل التلقي هو التعرض للقاء ثم يوضع في موضع الاستقبال للشيء الجائي ثم يوضع موضع القبول والأخذ قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( النمل 6 )
أي تلقنه ويقال تلقينا الحجاج أي استقبلناهم ويقال تلقيت هذه الكلمة من فلان أي أخذتها منه وإذا كان هذا أصل الكلمة وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوصف بذلك فيقال كل ما تلقيته فقد تلقاك فجاز أن يقال تلقى آدم كلمات أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وجاز أن يقال تلقى كلمات بالرفع على معنى جاءته عن الله كلمات ومثله قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وفي قراءة ابن مسعود ( الظالمون )
المسألة الثانية اعلن أنه لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد وأن يعرف ماهية التوبة ويتمكن بفعلها من تدارك الذنوب ويميزها عن غيرها فضلاً عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يجب حمله على أحد الأمور أحدها التنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه صار آدم عليه السلام عند ذلك من التائبين المنيبين وثانيها أنه تعالى عرفه وجوب التوبة وكونها مقبولة لا محالة على معنى أن من أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً ثم ندم على ما صنع وعزم على أن لا يعود فإني أتوب عليه قال الله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ أي أخذها وقبلها وعمل بها وثالثها أنه تعالى ذكره بنعمه العظيمة عليه فصار ذلك من الدواعي القوية إلى التوبة ورابعها أنه تعالى علمه كلاماً لو حصلت التوبة معه لكان ذلك سبباً لكمال حال التوبة
المسألة الثالثة اختلفوا في أن تلك الكلمات ما هي فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة قال بلى قال يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك قال بلى قال ألم تسكني جنتك قال بلى قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة قال بلى فهو قوله فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ وزاد السدي فيه يا رب هل كنت كتبت علي ذنباً قال نعم وثانيها قال النخعي أتيت ابن عباس فقلت ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه قال علم الله آدم وحواء أمر الحج فحجا وهي الكلمات التي تقال في الحج فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما وثالثها قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) ورابعها قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم إنها قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم وخامسها قالت عائشة لما أراد الله تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعاً والبيت يومئذ ربوة حمراء فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي فأوحى الله تعالى إلى آدم يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها
المسألة الرابعة قال الغزالي رحمه الله التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة علم وحال وعمل فالعلم أول والحال ثان والعمل ثالث والأول موجب للثاني والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضته سنة الله
في الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب فإذا عرف ذلك معرفة محققة حصل من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر بفوات المحبوب تألم فإذا كان فواته يفعل من جهته تأسف بسبب فوات المحبوب على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات فسمي ذلك التأسف ندماً ثم إن ذلك الألم إذا تأكد حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل وبالماضي أما تعلقها بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابساً له وأما بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني به اليقين التام بأن هذه الذنوب سموم مهلكة فهذا اليقين نور وهذا النور يوجب نار الندم فيتألم به القلب حيث أبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيطلع النور عليه بانقشاع السحاب فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث من تلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول ( على التوبة ) ويطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم السابق كالمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال عليه السلام ( الندم توبة ) إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه فيكون الندم محفوفاً بطرفيه أعني مثمره وثمرته فهذا هو الذي لخصه الشيخ الغزالي في حقيقة التوبة وهو كلام حسن وقال القفال لا بد في التوبة من ترك ذلك الذنب ومن الندم على ما سبق ومن العزم على أن لا يعود إلى مثله ومن الاشفاق فيما بين ذلك كله أما أنه لا بد من الترك فلأنه لو لم يترك لكان فاعلاً له فلا يكون تائباً وأما الندم فلأنه لو لم يندم لكان راضياً بكونه فاعلاً له والراضي بالشيء قد يفعله والفاعل للشيء لا يكون تائباً عنه وأما العزم على أن لا يعود إلى مثله فلأن فعله معصية والعزم على المعصية معصية وأما الأشفاق فلأنه مأمور بالتوبة ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفاً ولهذا قال تعالى يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) وقال عليه السلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) واعلم أن كلام الغزالي رحمه الله أبين وأدخل في التحقيق إلا أنه يتوجه عليه إشكال وهو أن العلم بكون الفعل الفلاني ضرراً مع العلم بأن ذلك الفعل صدر منه يوجب تألم القلب وذلك التألم يوجب إرادة الترك في الحال والاستقبال وإرادة تلافي ما حصل منه في الماضي وإذا كان بعض هذه الأشياء مرتباً على البعض ترتباً ضرورياً لم يكن ذلك داخلاً تحت قدرته فاستحال أن يكون مأموراً به والحاصل أن الداخل في الوسع ليس إلا تحصيل العلم فأما ما عداه فليس للاختيار إليه سبيل لكن لقائل أن يقول تحصيل العلم ليس أيضاً في الوسع لأن تحصيل العلم ببعض المجهولات لا يمكن إلا بواسطة معلومات متقدمة على ذلك المجهول فتلك العلوم الحاضرة المتوسل بها إلى اكتساب ذلك المجهول إما أن تكون مستلزمة للعلم بذلك المجهول أو لم تكن مستلزمة فإن كان الأول كان ترتب المتوسل إليه على المتوسل به ضرورياً فلا يكون ذلك داخلاً في القدرة والاختيار وإن كان الثاني لم يكن استنتاج المطلوب المجهول عن تلك المعلومات الحاضرة لأن المقدمات القريبة لا بد وأن تكون بحال يلزم من تسليمها في الذهن تسليم المطلوب فإذا لم تكن كذلك لم تكن تلك المقدمات منتجة لتلك النتيجة فإن
قيل لم لا يجوز أن يقال تلك المقدمات وإن كانت حاضرة في الذهن إلا أن كيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة غير حاضرة في الذهن فلا جرم لا يلزم من العلم بتلك المقدمات العلم بتلك النتيجة لا محالة قلنا العلم بكيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة إما أن يكون من البديهيات أو من الكسبيات فإن كان من البديهيات لم يكن في وسعه وإن كان من الكسبيات كان القول في كيفية اكتسابه كما في الأول فإما أن يفضي إلى التسلسل وهو محال أو يفضي إلى أن يصير من لوازمه فيعود المحذور المذكور والله أعلم
المسألة الخامسة سأل القاضي عبد الجبار نفسه فقال إذا كانت هذه المعصية صغيرة فكيف تلزم التوبة وأجاب بأن أبا علي قال إنها تلزمه لأن المكلف متى علم أنه قد عصى لم يحد فيما بعد وهو مختار ولا مانع من أن يكون نادماً أو مصراً لكن الإصرار قبيح فلا تتم مفارقته لهذا القبيح إلا بالتوبة فهي إذن لازمة سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة وسواء ذكرها وقد تاب عنها من قبل أو لم يتب أما أبو هاشم فإنه يجوز أن يخلو العاصي من التوبة والإصرار ويقول لا يصح أن تكون التوبة واجبة على الأنبياء لهذا الوجه بل يجب أن تكون واجبة لإحدى خلال فإما أن تجب لأن بالصغيرة قد نقص ثوابهم فيعود ذلك النقصان بالتوبة وإما لأن التوبة نازلة منزلة الترك فإذا كان الترك واجباً عند الإمكان فلا بد من وجوب التوبة مع عدم الإمكان وربما قال تجب التوبة عليهم من جهة السمع وهذا هو الأصح على قوله لأن التوبة لا يجوز أن تجب لعود الثواب الذي هو المنافع فقط لأن الفعل لا يجوز أن يجب لأجل جلب المنافع كما لا تجب النوافل بل الأنبياء عليهم السلام لما عصمهم الله تعالى صار أحد أسباب عصمتهم التشديد عليهم في التوبة حالاً بعد حال وإن كانت معاصيهم صغيرة
المسألة السادسة قال القفال أصل التوبة الرجوع كالأوبة يقال توب كما يقال أوب قال الله تعالى وَقَابِلِ التَّوْبِ فقولهم تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً فهو تائب وتواب كقولهم آب يؤوب أوباً وأوبة فهو آيب وأواب والتوبة لفظة يشترك فيها الرب والعبد فإذا وصف بها العبد فالمعنى رجع إلى ربه لأن كل عاصٍ فهو في معنى الهارب من ربه فإذا تاب فقد رجع عن هربه إلى ربه فيقال تاب إلى ربه والرب في هذه الحالة كالمعرض عن عبده وإذا وصف بها الرب تعالى فالمعنى أنه رجع على عبده برحمته وفضله ولهذا السبب وقع الاختلاف في الصلة فقيل في العبد تاب إلى ربه وفي الرب على عبده وقد يفارق الرجل خدمة رئيس فيقطع الرئيس معروفه عنده ثم يراجع خدمته فيقال فلان عاد إلى الأمير والأمير عاد عليه بإحسانه ومعروفه إذا عرفت هذا فنقول قبول التوبة يكون بوجهين أحدهما أن يثيب عليها الثواب العظيم كما أن قبول الطاعة يراد به ذلك والثاني أنه تعالى يغفر ذنوبه بسبب التوبة
المسألة السابعة المراد من وصف الله تعالى بالتواب المبالغة في قبول التوبة وذلك من وجهين الأول أن واحداً من ملوك الدنيا متى جنى عليه إنسان ثم اعتذر إليه فإنه يقبل الاعتذار ثم إذا عاد إلى الجناية وإلى الاعتذار مرة أخرى فإنه لا يقبله لأن طبعه يمنعه من قبول العذر أما الله سبحانه وتعالى فإنه بخلاف
ذلك فإنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضرر بل إنما يقبلها لمحض الإحسان والتفضل فلو عصى المكلف كل ساعة ثم تاب وبقي على هذه الحالة العمر الطويل لكان الله تعالى يغفر له ما قد سلف ويقبل توبته فصار تعالى مستحقاً للمبالغة في قبول التوبة فوصف بأنه تعالى تواب الثاني أن الذين يتوبون إلى الله تعالى فإنه يكثر عددهم فإذا قبل توبة الجميع استحق المبالغة في ذلك ولما كان قبول التوبة مع إزالة العقاب يقتضي حصول الثواب وكان الثواب من جهته نعمة ورحمة وصف نفسه مع كونه تواباً بأنه رحيم
المسألة الثامنة في هذه الآية فوائد إحداها أنه لا بد وأن يكون العبد مشتغلاً بالتوبة في كل حين وأوان لما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار أما الأحاديث ( أ ) روي أن رجلاً سأل أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه عن الرجل يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر فقال أمير المؤمنين يستغفر أبداً حتى يكون الشيطان هو الخاسر فيقول لا طاقة لي معه وقال علي كلما قدرت أن تطرحه في ورطة وتتخلص منها فافعل ( ب ) وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ( ج ) وعن ابن عمر قال عليه الصلاة والسلام توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في كل يوم مائة مرة ( د ) وأبو هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام حين أنزل عليه وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئاً ) أخرجاه في الصحيح ( ه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم مائة مرة )
واعلم أن الغين شيء يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الجو فلا يحجب عن الشمس ولكن يمنع كمال ضوئها ثم ذكروا لهذا الحديث تأويلات أحدها أن الله تعالى أطلع نبيه على ما يكون في أمته من بعده من الخلاف وما يصيبهم فكان إذا ذكر ذلك وجد غيماً في قلبه فاستغفر لأمته وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فكان الاستغفار لذلك وثالثها أن الغيم عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية فإذا عاد إلى الصحو كان الاستغفار من ذلك الصحو وهو تأويل أرباب الحقيقة ورابعها وهو تأويل أهل الظاهر أن القلب لا ينفك عن الخطرات والخواطر والشهوات وأنواع الميل والإرادات فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر ( و ) أبو هريرة قال قال عمر رضي الله عنه في قوله تعالى تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) إنه هو الرجل يعمل الذنب ثم يتوب ولا يريد أن يعمل به ولا يعود وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو أن يهجر الذنب ويعزم على أن لا يعود إليه أبداً ( ز ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حاكياً عن الله تعالى يقول لملائكته ( إذا هم عبدي بالحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها وإذا هم بالسيئة فعملها فاكتبوها سيئة واحدة فإن تركها فاكتبوها له حسنة ) رواه مسلم ( ح ) روي أن جبريل عليه السلام سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول يا كريم العفو فقال جبريل أو تدري ما كريم العفو فقال لا يا جبريل
قال أن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة ( ط ) أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام ( من استفتح أول نهاره بالخير وختمه بالخير قال الله تعالى للملائكة لا تكتبوا على عبدي ما بين ذلك من الذنوب )
( ي ) عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه الصلاة والسلام ( كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قد قتل تسعة وتسعين نفساً فهل للقاتل من توبة فقال لا فقتله فكمل المائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه فقال إنه قتل مائة نفس فهل من توبة فقال نعم ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناساً يعبدون الله تعالى فاعبده معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى أتى نصف الطريق فأتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي وتوسط بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة ) رواه مسلم ( يا ) ثابت البناني بلغنا أن إبليس قال يا رب إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه وعلى ولده فقال الله سبحانه وتعالى ( جعلت صدورهم مساكن لك ) فقال رب زدني فقال لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة قال رب زدني قال تجري منه مجرى الدم قال رب زدني قال وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ ( الإسراء 6 ) قال فعندها شكا آدم إبليس إلى ربه تعالى فقال يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطه علي وعلى ذريتي وأنا لا أطيقه إلا بك فقال الله تعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها قال رب زدني قال لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ) ( يب ) أبو موسى الأشعري قال قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وبالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم ( يج ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر له ) ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ إلى قوله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( البقرة 135 ) ( يد ) أبو إمامة قال بينا أنا قاعد عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي قال فأعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك وأقيمت الصلاة فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى ثم خرج قال أبو أمامة فكنت أمشي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والرجل يتبعه ويقول يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال عليه السلام ( أليس حين خرجت من بيتك توضأت فأحسنت الوضوء قال بلى يا رسول قال وشهدت معنا هذه الصلاة قال بلى يا رسول الله قال فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذبنك ) رواه مسلم ( يه ) عبد الله قال جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال يا رسول الله إني عالجت امرأة من أقصى المدينة وإني أصبت ماء دون أن أمسها فها أنا ذا فاقض في ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك فلم يرد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً فقام الرجل فانطلق فدعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتلا عليه هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 ) فقال واحد من القوم يا نبي الله هذا له خاصة قال بل للناس عامة رواه
مسلم ( يو ) أبو هريرة قال قال عليه السلام ( إن عبداً أصاب ذنباً فقال يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر فقال يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي فقال ربه إن عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر فقال يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فقال له ربه غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ) أخرجاه في الصحيح ( يز ) أبو بكر قال قال عليه الصلاة والسلام ( لم يصر من استغفر الله ولو عاد في اليوم سبعين مرة ( يح ) أبو أيوب قال قد كنت كتمتكم شيئاً سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( لولا أنكم تذنبون فتستغفرون لخلق الله تعالى خلقاً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) رواه مسلم ( يط ) قال عبد الله بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه فقال يا رسول الله إني مررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن أمهن فلففتهن جميعاً في كسائي فهن معي فقال عليه الصلاة والسلام ضعهن عنك فوضعتهن فأبت أمهن إلا لزومهن فقال عليه السلام أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها قالوا نعم يا رسول الله فقال والذي نفس محمد بيده أو قال فوالذي بعثني بالحق نبياً لله عز وجل أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن فرجع بهن ) ( ك ) عن أبي مسلم الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن جبريل عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى قال ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أتقى رجل منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منكم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) قال وكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه إعظاماً له وأما الآثار فسئل ذو النون عن التوبة فقال إنها اسم جامع لمعان ستة أولهن الندم على ما مضى الثاني العزم على ترك الذنوب في المستقبل الثالث أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله تعالى الرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم الخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرم السادس إذاقة البدن ألم الطاعات كما ذاق حلاوة المعصية وكان أحمد بن حارس يقول يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب
الفائدة الثانية من فوائد الآية أن آدم عليه السلام لما لم يستغن عن التوبة مع علو شأنه فالواحد منا أولى بذلك
الفائدة الثالثة أن ما ظهر من آدم عليه السلام من البكاء على زلته تنبيه لنا أيضاً لأنا أحق بالبكاء من آدم عليه السلام روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح عليهما السلام إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر )
المسألة التاسعة إنما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك وقد ذكرها في قوله قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 )
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
المسألة الأولى ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين الأول قال الجبائي الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى سماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض وهذا ضعيف من وجهين أحدهما أنه قال في الهبوط الأول وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ( البقرة 36 ) عقيب الهبوط الثاني أولى وثانيهما أنه قال في الهبوط الثاني اهْبِطُواْ مِنْهَا والضمير في ( منها ) عائد إلى الجنة وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة الوجه الثاني أن التكرير لأجل التأكيد وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها بل الأمر بالهبوط باقٍ بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) فإن قيل ما جواب الشرط الأول قلنا الشرط الثاني مع جوابه كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك
المسألة الثانية روي في الأخبار أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة وإبليس بموضع من البصرة على أميال والحية بأصفهان
المسألة الثالثة في ( الهدي ) وجوه أحدها المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي وفيه تنبيه على عظم نعمة الله تعالى على آدم وحواء فكأنه قال وإن أهبطنكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع قال الحسن
لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه يا آدم أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الناس أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت نلت أجرتك وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين الناس فإن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به وثانيها ما روي عن أبي العالية أن المراد من الهدى الأنبياء وهذا إنما يتم لو كان المخاطب بقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى غير آدم وهم ذريته وبالجملة فهذا التأويل يوجب تخصيص المخاطبين بذرية آدم وتخصيص الهدي بنوع معين وهو الأنبياء من غير دليل دل على هذا التخصيص
المسألة الرابعة أنه تعالى بين أن من اتبع هداه بحقه علماً وعملاً بالإقدام على ما يلزم والاحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني لأن قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى ( البقرة 38 ) ( طه 123 ) دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكن وجميع قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( البقرة 38 ) تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ويجمع ذلك كل التكاليف وجمع قوله فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( البقرة 38 ) جميع ما أعد الله تعالى لأولياءه لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات وقدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر ولا عند البعث ولا عند حضور الموقف ولا عند تطاير الكتب ولا عند نصب الموازين ولا عند الصراط كما قال الله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) وقال قوم من المتكلمين إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكفار والفساق تصل أيضاً إلى المؤمنين لقوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وأيضاً فإذا انكشفت تلك الأهوال وصاروا إلى الجنة ورضوان الله صار ما تقدم كأن لم يمكن بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم وهذا ضعيف لأن قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ أخص من قوله يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ والخاص مقدم على العام وقال ابن زيد لا خوف عليهم أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت فأمنهم الله تعالى منه ثم سلاهم عن الدنيا فقال وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا فإن قيل قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يقتضي نفي الخوف والحزن مطلقاً في الدنيا والآخرة وليس الأمر كذلك لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصلاة والسلام ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي فخوف التقصير حاصل وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل قلنا قرائن الكلام تدل على أن المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( فاطر 43 ) أي أذهب عنا ما كنا فيه من الخوف والإشفاق في الدنيا من أن تفوتنا كرامة الله تعالى التي نلناها الآن
المسألة الخامسة قال القاضي قوله تعالى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يدل
على أمور أحدها أن الهدى قد يثبت ولا اهتداء فلذلك قال فَمَن تَبِعَ هُدَايَ وثانيها بطلان القول بأن المعارف ضرورية وثالثها أن باتباع الهدى تستحق الجنة ورابعها إبطال التقليد لأن المقلد لا يكون متبعاً للهدى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قوله تبارك وتعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن عقبه بذكر من أعد له العذاب الدائم فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سواء كانوا من الإنس أو من الجن فهم أصحاب العذاب الدائم
وأما الكلام في أن العذاب هل يحسن أم لا وبتقدير حسنه فهل يحسن دائماً أم لا فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ( البقرة 7 ) وههنا آخر الآيات الدالة على النعم التي أنعم الله بها على جميع بني آدم وهي دالة على التوحيد من حيث إن هذه النعم أمور حادثة فلا بد لها من محدث وعلى النبوة من حيث إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر عنها موافقاً لما كان موجوداً في التوراة والإنجيل من غير تعلم ولا تلمذة لأحد قدر وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلق هذه الأشياء ابتداء على خلقها إعادة وبالله التوفيق
القول في النعم الخاصة ببني إسرائيل
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً ثم عقبها بذكر الإنعامات العامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسراً لعنادهم ولجاجهم بتذكير النعم السالفة واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيهاً على ما يدل على نوبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث كونها إخباراً عن الغيب واعلم أنه سبحانه ذكرهم تلك النعم أولاً على سبيل الإجمال فقال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وفرع على تذكيرها الأمر بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به ثم ذكرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانياً بقوله مرة أخرى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تنبيهاً على شدة غفلتهم ثم أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 41 ) مقروناً بالترهيب البالغ بقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) إلى آخر الآية ثم شرع
بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع وإذ قد حققنا هذه المقدمة فلنتكلم الآن في التفير بعون الله
يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ
المسألة الأولى اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ويقولون إن معنى إسرائيل عبد الله لأن ( إسرا ) في لغتهم هو العبد و ( إيل ) هو الله وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله قال القفال قيل إن ( إسرا ) بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته فلم لا يجوز ههنا أن يكون الأمر كذلك ولنرجع إلى تفيسر الحد فنقول أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة وقولنا المفعولة على جهة الإحسان فلأنه لو كان نفعاً وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصاً مسموماً ليهلكه لم يكن ذلك نعمة فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعاً الفرع الأول اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) ثم إن النعمة على ثلاثة أوجه أحدها نعمة تفرد الله بها نحو أن خلق ورزق وثانيها نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام وخلق فيه قدرة الأنعام وداعيته ووفقه عليه وهداه إليه فهذه النعمة في الحقيقة أيضاً من الله تعالى إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكوراً ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ ( لقمان 14 ) فبدأ بنفسه وقال عليه السلام ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) وثالثها نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضاً من الله تعالى لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من الله تعالى على ما قال سبحانه وتعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ
الفرع الثاني أن نعم الله تعالى على عبيده مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وإنما لا يمكن ذلك لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق الله تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده وكل ذلك منافع لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة وجميع ما خلق الله تعالى كذلك لأن كل ما يلتذ به نعمة وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك والذي لا يكون جالباً للنفع الحاضر ولا دافعاً للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم فصح بهذا معنى قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا فإن قيل فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين ولهذا قال في ذم الأصنام هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( الشعراء 72 73 ) وقال تعالى وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ ( الفرقان 55 ) وقال أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى ( يونس 35 ) الفرع الثالث أن أول ما أنعم الله به على عبيده هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 28 29 ) إلى آخر الآية وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به هذا قول المعتزلة وقال أهل السنة إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ولا اعتراض لأحد عليه ولهذا سمى نفسه ( النافع الضار ) ولا يسأل عما يفعل الفرع الرابع قالت المعتزلة إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب وقال أهل السنة إن الله تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ثم اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا فمنهم من قال هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما
كان ذلك سبيلاً إلى الضرر العظيم ولهذا قال تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ومنهم من قال إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 21 22 ) فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق ثانيها قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا ( البقرة 28 ) إلى آخره وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شيء من النعم لما صح ذلك وثالثها قوله راجِعُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكافر إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ إلى قوله وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ وقوله وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( البقرة 53 ) وكل ذلك عد للنعم على العبيد ورابعها قوله أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ( الأنعام 6 ) وخامسها قوله قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ ( الأنعام 63 ) إلى قوله ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ وسادسها قوله وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( الأعراف 10 ) وقال في قصة إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) ولو لم يكن عليهم من الله نعمة لما كان لهذا القول فائدة وسابعها قوله وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الارْضِ ( الأعراف 86 ) الآية وقال حاكياً عن شعيب وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وقال حاكياً عن موسى قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( الأعراف 140 ) وثامنها قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ ( الأنفال 53 ) وهذا صريح وتاسعها قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) وعاشرها قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ الحادي عشر قوله ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها إلى قوله إلى قوله فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ( يونس 21 23 )
الثاني عشر قوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً ( الفرقان 47 ) وقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) الثالث عشر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( إبراهيم 28 29 ) الرابع عشر اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ( إبراهيم 32 ) الخامس عشر قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( إبراهيم 34 ) وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من الله تعالى إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور أحدها قوله تعالى في سورة أتى أمر الله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ فيبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله ثم إنه تعالى قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( النحل 2 4 ) فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع وهو انقلابه من حال إلى حال من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيماً مبيناً ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ إلى قوله هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 ) بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح ثم قال وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( إبراهيم 33 ) بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وثانيها قوله تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة ً كَانَتْ ءامِنَة ً مُّطْمَئِنَّة ً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ ( النحل 112 ) فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سبباً للتبديل وثالثها قوله في قصة قارون وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) وقال أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً ( لقمان 20 ) وقال أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة 58 ) وقال فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( يس 14 ) ( الرحمن 16 ) على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم إما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب
المسألة الثالثة في النعم المخصوصة ببني إسرائيل قال بعض العارفين عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرهم بالمنعم فقال فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ فدل ذلك على فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سائر الأمم
واعلم أن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة ( أ ) استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( القصص 5 6 ) ( ب ) جعلهم أنبياء وملوكاً بعد أن كانوا عبيداً للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 59 ) ( ج ) أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ ( المائدة 20 ) ( د ) روى هشام عن ابن عباس أنه قال من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عموداً من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه أحدها أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو التوراة والإنجيل والزبور وثانيها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن وثالثها أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة ورابعها أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة فإن قيل هذه النعم ما كانت على المخاطبين بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعماً عليهم وسبباً لعظم معصيتهم والجواب من وجوه أحدها لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء
وثانيها أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد وثالثها الأولاد متى سمعوا أن الله خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعياً إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور
أما قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فاعلم أن العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً وذكروا في هذا العهد قولين الأول أن المراد منه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض ثم فيه روايات إحداها أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهداً له عليهم من حيث يلزمهم القايم بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق وقوله أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أراد به الثواب والمغفرة فجعل الوعد بالثواب شبيهاً بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به ثانيها قال الحسن المراد منه العهد الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ إلى قوله وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( المائدة 12 ) فمن وفى لله بعهده وفى الله له بعهده وثالثها وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ إلى قوله تعالى وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ ( التوبة 111 )
القول الثاني أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ إلى قوله لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( المائدة 12 ) وقال في سورة الأعراف وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِى َّ الامّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ ( الأعراف 156 ) وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم وقال وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ ( آل عمران 81 ) الآية وقال وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) وقال ابن عباس إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل وأجراً باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( القصص 52 ) إلى قوله أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ( القصص 54 ) وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى فَاسِقُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن
رَّحْمَتِهِ ( الحديد 28 ) وتصديقه أيضاً فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فله أجران ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران ) بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول لو كان الأمر كما قلتم فكيف يجوز من جماعتهم جحده والجواب من وجهين الأول أن هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه الثاني أن ذلك النص كان نصاً خفياً لا جلياً فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه
السؤال الثاني الشخص المبشر به في هذه الكتب إما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك فإن كان ذلك النص نصاً جلياً وارداً في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان وكان يلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لاحتمال أن يقولوا إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود والجواب أن الذين حملوا قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما شرحناه في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال فأما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصاً عليه نصاً جلياً يعرفه كل أحد بل كان منصوصاً عليه نصاً خفياً فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالأول جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك ( من قبل ) الله فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت قالت أهرب من سيدتي سارة فقال لها ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه إسماعيل من أجل أن الله سمع تبتلك وخشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته
واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل الله بالظلم والجور وبأمر لا يتم إلا بالكذب على الله تعالى ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الاستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجو الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة فلو لم يكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم لهم معصية لله تعالى وخروجاً عن طاعته إلى طاعة الشيطان والله يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله والثاني جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس ( إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً مثلي من بينكم
ومن إخوانكم ) وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى ( إني مقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه ) وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه الله تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم إنه سيكون من إخوانكم إمام عقل أنه لا يكون من بني هاشم ثم إن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب وإنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشراً به وأما اسماعيل فإنه كان أخاً لإسحق والد يعقوب ثم إن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل فالنبي عليه السلام ما كان منهم لكنه كان من إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحق عليهم السلام فإن قيل قوله ( من بينكم ) يمنع من أن يكون المراد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل قلنا بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم وأيضاً فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام فإذا قام محمد بالحجاز فقد قام من بينهم وأيضاً فإنه إذا كان من إخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم والثالث قال في الفصل العشرين من هذا السفر ( إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة وجه الاستدلال أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن اسماعيل تعلم الرمي في برية فاران ومعلوم أنه إنما سكن بمكة إذا ثبت هذا فنقول إن قوله ( فمنحهم العز ) لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام قالت اليهود المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضاً ومن جبل فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق ناراً في موضع فإنه لا يقال جاء الله من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع وأيضاً ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية وتزعزعت ستور أهل مدين وركبت الخيول وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقاً ونزعاً وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيراً ورعباً ورفعت أيديها وجلاً وفرقاً وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضباً وتدوس الأمم زجراً لأنك ظهرت بخلاص
أمتك وإنقاذ تراب آبائك ) هكذا نقل عن ابن رزين الطبري أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم ( وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوى السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك ) فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة ( ظهر الرب من جبال فاران ) ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى ولهذا قال في آخر الكلام ( وإنقاذ مسيحك ) قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة أما قوله ( وإنقاذ مسيحك ) فإن محمداً عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى والرابع ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه ( قومي فأزهري مصباحك يريد مكة فقد دناوقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقاً ويظهر كرامته عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك وارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بلد بعيد لأنك أم القرى فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الأرائك والسرر حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً ) فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر وقوله ( وأحدث لبيت محمدتي حمداً ) معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكة وما ملك ثم صار في الإسلام لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته فإن قيل المراد بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم ( قد دنا وقتك ) مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه وأيضاً فإن كتاب أشعياء مملوء من ذكر البادية وصفتها وذلك يبطل قولهم والخامس روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال ( قد أجبت دعاك في إسماعيل وباركت عليه فكبرته وعظمته جداً جداً وسيلد اثني عشر عظيماً واجعله لأمة عظيمة ) والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( البقرة 129 ) ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ) وهو قوله وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) فإنه مشتق من الحمد والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود قيل إن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون والسادس قال المسيح للحواريين ( أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له ) وتصديق ذلك إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأنعام 50 ) وقوله قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَى َّ ( يونس 15 ) أما ( الفارقليط ) ففي تفسيره وجهان أحدهما أنه الشافع المشفع وهذا أيضاً صفته عليه الصلاة والسلام الثاني قال بعض النصارى الفار قليط هو
الذي يفرق بين الحق والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأما ( ليط ) فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب وهذا أيضاً صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل والسابع قال دانيال ليختنصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه رأيت أيها الملك منظراً هائلاً رأسه من الذهب الأبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعضها من خزف ورأيت حجراً يقطع من غير قاطع وصك رجل ذلك الصنم ودقها دقاً شديداً فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتاً وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلاً عالياً امتلأت به الأرض فهذا رؤياك أيها الملك وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد وأما الرجل التي كان بعضها من خزف فإن بعض المملكة يكون عزيزاً وبعضها يكون ذليلاً وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول وإنها تزيل جميع الممالك وسلطانها يبطل جميع السلاطين وتقوم هي إلى الدهر الداهر فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف والله أعلم بما يكون في آخر الزمان فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله تعالى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فقالت المعتزلة ذلك العهد هو ما دل العقل عليه من أن الله تعالى يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد لأنه بحيث يجب الوفاء به فكان ذلك أوكد من العهد بالإيجاب بالنذر واليمين وقال أصحابنا إنه لا يجب للعبد على الله شيء وفي هذه الآية ما يدل على ذلك لأنه تعالى لما قدم ذكر النعم ثم رتب عليه الأمر بالوفاء بالعهد دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية وإذا كان كذلك كان أداء العبادات أداء لما وجب بسبب النعم السالفة وأداء الواجب لا يكون سبباً لواجب آخر فثبت أن أداء التكاليف لا يوجب الثواب فبطل قول المعتزلة بل التفسير الحق من وجهين الأول أنه تعالى لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذباً والكذب عليه محال والمفضي إلى المحال محال فكان ذلك واجب الوقوع فكان ذلك آكد مما ثبت باليمين والنذر الثاني أن يقال العهد هو الأمر والعبد يجوز أن يكون مأموراً إلا أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مأموراً لكنه سبحانه وتعالى جرى في ذلك على موافقة اللفظ كقوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وأما قوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ فاعلم أن الرهبة هي الخوف قال المتكلمون الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وقد يقال في المكلف إنه خائف على وجهين أحدهما مع العلم والآخر مع الظن أما العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكل ما أمر به واحترز عن كل ما نهى عنه فإن خوفه إنما يكون عن المستقبل وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم السلام بالخوف والرهبة قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وأما الظن فإذا لم يقطع بأنه فعل
المأمورات واحترز عن المنهيات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس روى ( أنه ينادي مناد يوم القيامة وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ) وقال العارفون الخوف خوفان خوف العقاب وخوف الجلال والأول نصيب أهل الظاهر والثاني نصيب أهل القلب والأول يزول والثاني لا يزول واعلم أن في الآية دلالة على أن كثرة النعم تعظم المعصية ودلالة على ما تقدم العهد يعظم المخالفة ودلالة على أن الرسول كما كان مبعوثاً إلى العرب كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وقوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى وكما يجب ذلك في الخوف فكذا في الرجاء والأمل وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره إذ لو كان العبد مستقلاً بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد الله تعالى فوجب أن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف الله ألبتة وفيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء وأن ذلك لا بد منه في صحتها والله أعلم
وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ
اعلم أن المخاطبين بقوله وَءامَنُواْ هم بنوا اسرائيل ويدل عليه وجهان الأول أنه معطوف على قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كأنه قيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وآمنوا بما أنزلت الثاني أن قوله تعالى مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ يدل على ذلك
أما قوله بِمَا أَنزَلْتُ ففيه قولان الأقوى أنه القرآن وعليه دليلان أحدهما أنه وصفه بكونه منزلاً وذلك هو القرآن لأنه تعالى قال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 3 ) والثاني وصفه بكونه مصدقاً لما معهم من الكتب وذلك هو القرآن وقال قتادة المراد بِمَا أَنزَلَ أُنزِلَتِ من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل
أما قوله مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ ففيه تفسيران أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق وأن التوراة والإنجيل حق وأن التوراة أنزلت على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والإنجيل فكأنه قيل لهم إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن في التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل وتكذيب محمد والقرآن تكذيباً
للتوراة والإنجيل وهذا التفسير أولى لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد عليه السلام لأنه بمجرد كونه مخبراً عن كون التوراة والإنجيل حقاً لا يجب الإيمان بنبوته أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد صادقاً لا محالة ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن هذا التفسير أولى واعلم أن هذا التفسير الثاني يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من وجهين الأول أن شهادة كتب الأنبياء عليهم السلام لا تكون إلا حقاً والثاني أنه عليه السلام أخبر عن كتبهم ولم يكن له معرفة بذلك إلا من قبل الوحي أما قوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فمعناه أول من كفر به أو أول فريق أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به ثم فيه سؤلان الأول كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب والجواب من وجوه أحدها أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمستفتحون على الذين كفروا به فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( البقرة 89 ) وثانيها يجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له وثالثها ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك ورابعها ولا تكونوا أول كافر به يعني بكتابكم يقول ذلك ولعلمائهم أي كذب لا تكونوا أول أحد من أمتكم كذلك كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب تكذيبكم بكتابكم وخامسها أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعاً واحداً من الدليل والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنباً ممن بعده لقوله عليه السلام ( من سن سيئة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) فلما كان كفرهم عظيماً وكفر من كان سابقاً في الكفر عظيماً فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة وسادسها المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة وسابعها أول كافر به من اليهود لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر فكأنه قيل أول من كفر به من أهل الكتاب وهو كقوله وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 122 ) أي على عالمي زمانهم وثامنها ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه وتاسعها أن لفظ ( أول ) صلة والمعنى ولا تكونوا كافرين به وهذا ضعيف السؤال الثاني أنه كان يجوز لهم الكفر إذ لم يكونوا أولاً والجواب من وجوه أحدها أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه وثانيها أن في قوله وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور وثالثها أن قوله رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ( الرعد 2 ) لا يدل على وجود عمد لا يرونها وقوله وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ( النساء 155 ) لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق وقوله عقيب هذه الآية وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير فكذا ههنا بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) صفته ورابعها قال المبرد هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم فقيل لهم لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران أحدهما السبق إلى الكفر والثاني التفرد به ولا شك في أنه منقصة عظيمة فقوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ إشارة إلى هذا المعنى
أما قوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً فقد بينا في قوله أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) أن الاشتراء يوضع موضع الاستبدال فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء والعوض عنه فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمناً عند فاعله قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا وعلموا أنهم لو اتبعوا محمداً لانقطعت عنهم تلك الهدايا فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جداً فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا فالقليل جداً من القليل جداً أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى واعلم أن هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين وأما قوله وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ فيقرب معناه مما تقدم من قوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم
وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
أعلم أن قوله سبحانه وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ أمر بترك الكفر والضلال وقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أمر بترك الإغراء والإضلال واعلم أن إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها فقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارة إلى القسم الأول وهو تشويش الدلائل عليه وقوله وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ إشارة إلى القسم الثاني وهو منعه من الوصول إلى الدلائل واعلم أن الأظهر في الباء التي في قوله بِالْبَاطِلِ أنها باء الاستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ثم إنهم
كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات فهذا هو المراد بقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فهو المذكور في قوله وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ( غافر 5 ) أما قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة وذلك لأن ذلك التلبيس صار صارفاً للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة وداعياً لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ولا شك في أن موقعه عظيم وهذا الخطاب وإن ورد فيهم فهو تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة لكنه عام في المعنى ثم ههنا بحثان
البحث الأول قوله وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا أو منصوب بإضمار أن
البحث الثاني أن النهي عن اللبس والكتمان وإن تقيد بالعلم فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أ وباطل وما لا يعرف كونه حقاً أو باطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات بل يجب التوقف فيه وسبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح والآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه والله أعلم
وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَآتُواْ الزَّكَواة َ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أمرهم بالإيمان أولاً ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمان دلائل النبوة ثانياً ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشرائع وذكر من جملة الشرائع ما كان كالمقدم والأصل فيها وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية وههنا مسائل
المسألة الأولى القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قالوا إنما جاء الخطاب في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا بعد أن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصف لهم أركان الصلاة وشرائطها فكأنه تعالى قال وأقيموا الصلاة التي عرفتموها والقائلون بجواز التأخير قالوا يجوز أن يراد الأمر بالصلاة وإن كانوا لا يعرفون أن الصلاة ما هي ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما أنه لا نزاع في أن يحسن من السيد أن يقول لعبده إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله ويكون غرضه منه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني
المسألة الثانية قالت المعتزلة الصلاة من الأسماء الشرعية قالوا لأنها أمر حدث في الشرع فاستحال أن يكون الاسم الموضوع قد كان حاصلاً قبل الشرع ثم اختلفوا في وجه التشبيه فقال بعضهم أصلها في اللغة الدعاء قال الأعشى
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي
عينا فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال آخر وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
وقال بعضهم الأصل فيها اللزوم قال الشاعر لم أكن من جناتها علم الله
وإني بحرها اليوم صالي
أي ملازم وقال آخرون بل هي مأخوذة من المصلي وهو الفرس الذي يتبع غيره والأقرب أنها مأخوذة من الدعاء إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه وقد تكون صلاة ولا يحصل فيها متابعة الغير وإذا حصل في وجه التشبيه ما عم كل الصور كان أولى أن يجعل وجه التشبيه شيئاً يختص ببعض الصور وقال أصحابنا من المجازات المشهورة في اللغة إطلاق اسم الجزء على الكل ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة على الدعاء لا جرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز فإن كان مراد المعتزلة من كونها اسماً شرعياً هذا فذلك حق وإن كان المراد أن الشرع ارتجل هذه اللفظة ابتداء لهذا المسمى فهو باطل وإلا لما كانت هذه اللفظة عربية وذلك ينافي قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا ( يوسف 20 ) أما الزكاة فهي في اللغة عبارة عن النماء يقال زكا الزرع إذا نما وعن التطهير قال الله تعالى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً ( الكهف 74 ) أي طاهرة وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) أي تطهر وقال وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً ( النور 21 ) وقال وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ( فاطر 18 ) أي تطهر بطاعة الله ولعل إخراج نصف دينار من عشرين ديناراً سمي بالزكاة تشبيهاً بهذين الوجهين لأن في إخراج ذلك القدر تنمية للبقية من حيث البركة فإن الله يرفع البلاء عن ذلك المال بسبب تزكية تلك العطية فصار ذلك الإعطاء نماء في المعنى وإن كان نقصاناً في الصورة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليكم بالصدقة فإن فيها ست خصال ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق وتكثر المال وتعمر الديار وأما التي في الآخرة فتستر العورة وتصير ظلاً فوق الرأس وتكون ستراً في النار ) ويجوز أن تسمى الزكاة بالوجه الثاني من حيث إنها تطهر مخرج الزكاة عن كل الذنوب ولهذا قال تعالى لنبيه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 )
المسألة الثالثة قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة خطاب مع اليهود وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع أما قوله تعالى وأركعوا مع الراكعين ففيه وجوه أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم فخص الله الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين وثانيها أن المراد صلوا مع المصلين وعلى هذا يزول التكرار لأن في الأول أمر تعالى بإقانتها وأمر في الثاني بفعلها في الجماعة وثالثها أن يكون المراد من الأمر بالركوع هو الأمر بالخضوع لأن الركوع والخضوع في اللغة سواء فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم وأمرا بالتذلل كما قال للمؤمنين فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين المائدة 54 وكقوله تأديبا لرسوله عليه السلام { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } الشعراء 215 وكمدحه له بقوله فبما رحمة منك لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب القلب لانفضوا من حولك آل عمران 159 وهكذا في قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون المائدة 55
فكأنه تعالى لما أمرهم بالصلاة والزكاة أمرهم بعد ذلك بالانقياد والخضوع وترك التمرد وحكى الأصم عن بعضهم أنه إنما أمر الله تعالى بني إسرائيل بالزكاة لأنهم كانوا لا يؤتون الزكاة وهو المراد بقوله تعالى وأكلهم السحت المائدة 62 وبقوله وأكلهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل النساء 166 فأظهر الله تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوما ليحذروا أن يفضحهم في سائر أسرارهم ومعاصيهم فيصير هذا كالإخبار عن الغيب الذي هو أحد دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قوله تعالى
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
اعلم أن الهمزة في أتأمرون الناس بالبر للتقرير مع التقرير والتعجب من حالهم وأما البر فهو اسم جامع لأعمال الخير ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما ومنه عمل مبرور أي قد رضيه الله تعالى وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال بر في يمينه أي صدق ولم يحنث ويقال صدقت وبررت وقال تعالى ولكن البر من اتقى البقرة 189 فأخبر أن البر جامع للتقوى واعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم ورغبهم في ذلك بناه على مأخذ آخر وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول إذ المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام واختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه
أحدها وهو قول السدي أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونه عن معصية الله وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية
وثانيها قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما
وثالثها إنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا هو صادق فيما يقول وأمره حق فاتبعوه وهم كانوا لا يتبعونه لطعمهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم
ورابعها أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه وهذا اختيار أبي مسلم
وخامسها هو قول الزجاج كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة وكانوا يشحون بها لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت
وسادسها لهل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه
وسابعها أن اليهود كانوا يأمرون غيرهم باتباع التوراة ثم إنهم خالفوه لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم ما آمنوا به أما قوله وتنسون أنفسكم فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه فالمراد بقوله وتنسون أنفسكم أنكم تغفولن عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع أما قوله وأنتم تتلون الكتاب فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم
وأما قوله أفلا تعقلون فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون الأنبياء 67 وسبب التعجب وجوه الأول أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون الثاني أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا اصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين وذلك لا يليق بأفعال العقلاء فلهذا قال أفلا تعقلون الثالث أن نت وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء ولهذا قال علي رضي الله عنه قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك وبقي ههنا مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر واحتجوا بالآية والمعقول أما الآية فقوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ولا شك أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم وقال أيضا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون الصف 3 وأما المعقول فهو أنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن ينكر عليها في أثناء الزنا على كشفها عن وجهها ومعلوم أن ذلك مستنكر والجواب أن المكلف مأمور بشيئين أحدهما ترك المعصية والثاني منع الغير عن فعل المعصية والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر أما قوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم فهو نهي عن الجمع بينهما والنهي عن الجمع بين الشيئين يصح حمله على وجهين أحدهما أن يكون المراد هو النهي عن نسيان النفس مطلقا والآخر أن يكون المراد هو النهي عن ترغيب الناس في
البر حال كونه ناسيا للنفس وعندنا المراد من الآية هو الأول لا الثاني وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم وأما المعقول الذي ذكروه فليزمهم
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله عز وجل فقالوا قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود لم لا تبيض لما كان السواد مخلوق فيه والجواب أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه وإن حصل فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا والآخر مرجوحا والمرجوح ممتنع الوقوع لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر وحينئذ يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا ثم الجواب الحقيقي عن الكل أنه لا يسأل عما يفعل
المسألة الثالثة ( أ ) عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام { مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقلت يا أخي جبريل من هؤلاء ؟ فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم } ( ب ) وقال عليه الصلاة والسلام { إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه فقيل من هو يا رسول الله ؟ قال عالم لا ينتفع بعلمه } ( ج ) وقال عليه الصلاة والسلام { مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه } ( د ) وعن الشعبي يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من النار فيقولون لم دخلتم النار ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم فقالوا إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله كما قيل من وعظ بقوله ضاع كلامه ومن وعظ بفعله نفذت سهامه وقال الشاعر يا أيها المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إذا وعظت ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم
قيل عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل وأما من وعظ واتعظ فمحله عند الله عظيم
روي أن يزيد بن هارون مات وكان واعظا زاهدا فرؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي وأول ما سالني منكر ونكير فقالا من ربك فقلت أما تستحيان من شيخ دعا إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك وقيل للشبلي عند النزع قل لا إله إلا الله فقال إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
قوله سبحانه وتعالى
( واستيعنوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون
المسألة الأولى اختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى واستعينوا بالصبر والصلاة فقال قوم هم المؤمنون بالرسول قال لأن من ينكر الصلاة أصلا والصبر على دين محمد صلى الله عليه سلم لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يمتنع أن يكون الخطاب أولا في بني إسرائيل ثم يقع بعد ذلك خطابا للمؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم فإن قيل كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما قلنا لا نسلم كونهم منكرين لهما وذلك لأن كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن وأن الصلاة التي هي تواضع للخالق والاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها وإنما الاختلاف في الكيفية فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية وصلاة المسلمين على كيفية أخرى وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي القدر المشترك زال الإشكال المذكور وعلى هذا نقول إنه تعالى لما أمرهم بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض فقال واستعينوا بالصبر والصلاة
المسألة الثانية ذكروا في الصبر والصلاة وجوها
أحدها كأنه قيل واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر أي يحبس النفس عن اللذات فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر لأن المشتغل بالصلاة لا بد وأن يكون مشتغلا بذكر الله عز وجل وذكر جلاله وقهره وذكر رحمته وفضله فإذا تذكر رجمته صار مائلا إلى طاعته وإذا تذكر عقابه ترك معصيته فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وتركه للمعصية
وثانيها المراد من الصبر ههنا هو الصوم لأن الصائم صابر عن الطعام والشراب ومن حبس نفسه عن قضاء شهورة البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات ولأنه عليه الصلاة والسلام قال { الصوم جنة من النار } وقال الله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر العنكبوت 45 لأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا وتخشع القلب ويحصل بسببها تلاوة الكتاب والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا فيهون على الإنسان حينئذ ترك الرياسة ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق ونظير هذه الآية قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استيعنوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين البقرة 153
أما قوله تعالى وإنها ففي هذا الضمير وجوه أحدها الضمير عائد إلى الصلاة أي صلاة ثقيلة إلا على الخاشعين وثانيها الضمير عائد إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله واستعينوا وثالثها أنه عائد إلى جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إلى قوله واستعينوا والعرب قد تضمر الشيء اختصارا أو تقتصر فيه على الإيماء إذا وثقت بعلم المخاطب فيقول القائل ما عليها أفضل من فلان يعني الأرض ويقلون ما بين لابتيها أكرم من فلان يعنون المدينة وقال تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة النحل 61 ولا ذكر للأرض أما قوله لكبيرة أي لشاقة ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين فيجب أن يكون ثوابهم أكثر وثواب الخاشع أقل وذلك منكر من القول قلنا ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع وكيف يكون ذلك والخاشع يستعمل عند الصلاة جوارحه وقلبه وسمعه وبصره ولا يغفل عن تدبر ما يأتي به من الذكر والتذلل والخشوع وإذ تذكر الوعيد لم يخل من حسرة وغم وإذا ذكر الوعد فكمثل ذلك وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه بفعل الصلاة أعظم وإنما المراد بقوله وإنها ثقيلة على من لم يخشع أنه من حيث لا يعتقد في فعلها ثوابا ولا في تركها عقابا فيصعب عليه فعلها
فالحاصل أن الملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقل عليه فعلها لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفي تركها أعظم المضار لم يثقل ذلك عليه لما يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم ألا ترى إلى قوله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من العذاب الأليم ألا ترى إلى قوله والذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه مثاله إذا قيل للمريض كل هذا الشيء المر فإن اعتقد أنه له فيه شفاء سهل ذلك عليه وإن لم يعتقد ذلك فيه صعب الأمر عليه وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام { وجعلت قرة عيني في الصلاة } وصف الصلاة بذلك للوجوه التي ذكرناها لا لأنها كانت تثقل عليه وكيف وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تورمت قدماه وأما الخشوع فهو التذلل والخضوع أما قوله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم فللمفسرين فيه قولان
القول الأول أن الظن بمعنى العلم قالوا لأن الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة وذلك كفر والله تعالى مدح على هذا الظن والمدح على الكفر غير جائز فوجب أن يكون المراد من الظن ههنا العلم وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا إلا أن العلم راجح مانع من النقيض والظن راجح غير مانع من النقيض فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر قال أوس بن حجر فأرسلته مستيقن الظن أنه
مخالط ما بين الشراسيف خائف
وقال تعالى إني ظننت أني ملاق حسابيه الحاقة 20 وقال ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون المطففين 4 ذكر الله تعالى ذلك إنكارا عليهم وبعثا على الظن ولا يجوز أن يبعثهم على الاعتقاد المجوز للنقيض فثبت أن المراد بالظن ههنا العلم