كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
رحمه الله هذا إنما يحسن لو جازت قراءة أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ بكسر ( إنما ) وقراءة إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً بالفتح ولم توجد هذه القراءة ألبتة وثالثها أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الاملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع
وأما السؤال الخامس وهو قوله هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع وأيضاً قوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان اليهم والقوم لا يقولون بذلك فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه
وأما السؤال السادس وهو المعارضة بفعل الله تعالى
فالجواب أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه فلم يمكن أن يكون العلم مانعاً عن القدرة أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه فصلح أن يكون هذا العلم مانعاً للعبد عن الفعل فهذا تمام المناظرة في هذه الآية
المسألة السادسة اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية اختلف فيه قول أصحابنا فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية وقالوا هذه الآية دالة على أن أطالة العمر وإيصاله الى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة لانه تعالى نص على أن شيئاً من ذلك ليس بخير والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فانه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما فاذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد فأخبر تعالى ان الاحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة ثم دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اياهم مع ما كان بهم من الجراحات الى الخروج لطلب العدو ثم دعائه اياهم مرة أخرى الى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال
صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود الى الجهاد فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ بالتشديد وكذلك في الافعال والباقون يَمِيزَ بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة قال الواحدي رحمه الله وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا او أميزه تمييزاً ومنه الحديث ( من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة ) وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف في اللفظ فكان أولى وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول التشديد للكثرة فاما واحد من واحد فيميز بالتخفيف والله تعالى قال حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ فذكر شيئين وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق وأيضا قال تعالى وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ ( ي س 59 ) وهو مطاوع الميز وحجة من قرأ بالتشديد أن التشديد للتكثير والمبالغة وفي المؤمنين والمنافقين كثرة فلفظ التمييز ههنا أولى ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما
المسألة الثانية قد ذكرنا أن معنى الآية ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق واشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب أي المنافق من المؤمن واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها أحدها بالقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره وثانيها أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين فلما قوي الإسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله وعند ذلك حصل هذا الامتياز وثالثها القرائن الدالة على ذلك مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك
المسألة الثالثة ههنا سأل وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين وان لم يظهر لم يحصل موعود الله
وجوابه أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني لا الامتياز القطعي
ثم قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول إن فلانا منافق وفلانا مؤمن وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار فان سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم الى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات حتى يتميز عندها الموافق من المنافق فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء أي ولكن الله يصطفى من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان ويحتمل أيضا أن يكون المعنى وما كان الله
ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل
ثم قال مَّا كَانَ اللَّهُ والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بوقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد فبين الله تعالى انه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال مَّا كَانَ اللَّهُ يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله وإنما قال وَرُسُلِهِ ولم يقل ورسوله لدقيقة وهي أن الطريق الذي به يتوصل الى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء فلهذه الدقيقة قال وَرُسُلِهِ والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وهو ظاهر
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وَلاَ تَحْسَبَنَّ بالتاء والباقون بالياء أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان الأول أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ ضمير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو ضمير أحد والتقدير ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم الثاني أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ هم الذين يبخلون وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا وتقديره ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم وانما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه كقوله من كذب كان شراً له أي الكذب ومثله
إذا نهى السفيه جرى إليه
أي السفه وأنشد الفراء
هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول
فقوله به يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك
المسألة الثانية هو في قوله هُوَ خَيْراً لَّهُمْ تسميه البصريون فصلا والكوفيون عماداً وذلك لأنه لما ذكر ( يبخلون ) فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل فكأنه قيل ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة وللخبر حقيقة وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر فاذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة ( هو )
المسألة الثالثة اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا وأن يكون علما
فالقول الأول ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال والمعنى لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم بل هو شر لهم وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم وهو المراد من قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
والقول الثاني أن المراد من هذا البخل البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفته فكان ذلك الكتمان بخلا يقال فلان يبخل بعلمه ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل فاذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك بخلا
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى قال سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا الى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ولو فسرناها بالمال لم نحتج الى المجاز فكان هذا أولى الثاني أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم إلا على سبيل التكلف فكان الأول أولى
المسألة الرابعة أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب وان منع التطوع لا يكون بخلا واحتجوا عليه بوجوه أحدها ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل والوعيد لا يليق إلا الواجب وثانيها أنه تعالى ذم البخل وعابه ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به وثالثها وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه فيكون لا محالة تاركا التفضل فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا ورابعها قال عليه الصلاة والسلام ( وأي داء أدوأ من البخل ) ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف وخامسها أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل وسادسها أنه تعالى قال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 ) وكلمة ( من ) للتبعيض فكان المراد من هذه الآية الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ثم إنه تعالى قال في صفتهم أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 )
فوصفهم بالهدى والفلاح ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فانه يجب عليه أن يدفع اليه مقدار ما يستبقي به رمقه فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل والله أعلم
ثم قال تعالى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذا الوعيد وجوه الأول أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم قيل انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالاطواق تلتوي في أعناقهم ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى وجهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ونظيره قوله تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي
القول الثاني في تفسير قوله سَيُطَوَّقُونَ قال مجاهد سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ ( البقرة 184 ) قال المفسرون يكلفونه ولا يطيقونه فكذا قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 180 ) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا
والقول الثالث أن قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ أي سيلزمون إثمه في الآخرة وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا يقال منه فلان كالطوق في رقبة فلان والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق ومنه يقال قلدتك هذا الأمر وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 )
القول الرابع إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى سَيُطَوَّقُونَ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار قال عليه الصلاة والسلام ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة ) والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غير بعيد وذلك لأن اليهود والنصارى
موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به قال تعالى في صفتهم أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ( النساء 53 ) وقال أيضا فيهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( النساء 37 ) وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 ) وذلك من أقوال اليهود ولا يبعد أيضاً أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم وفي البخل بالمال ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة أما قوله بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار وأما قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فهو صريح بالوعيد
واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة
ثم قال تعالى وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه وجهان الأول وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونظيره قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( الحديد 7 ) والثاني وهو قول الأكثرين المراد أنه يفنى أهل السموات والأرض وتبقى الاملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الاملاك فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى فيصير كالميراث قال ابن الانباري يقال ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه وقال تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 16 ) وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بِمَا يَعْمَلُونَ بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( آل عمران 179 ) والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه والغيبة أقرب اليه من الخطاب قال صاحب الكشاف الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد
لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاٌّ نبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس
وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته
فالشبهة الأولى أنه تعالى لما أمر بانفاق الأموال في سبيله قالت الكفار انه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا ولما كان الفقر على الله تعالى محالا كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى
الوجه الثاني في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبياً لما طلبت الأموال لهذا الغرض فانه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في اصلاح دينه إلى أموالنا بل لو كنت نبياً لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي فهذا هو وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول ان الله فقير ونحن أغنياء بل الانسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الالزام وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسنا فقال فنحاص اليهودي إن الله فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجحد ما قاله فنزلت هذه الآية تصديقاً لأبي بكر رضي الله عنه وقال آخرون لما أنزل الله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً ( البقرة 245 ) قالت اليهود نرى إله محمد يستقرض منا فنحن إذن أغنياء وهو فقير وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا وأرادوا قوله فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً
واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا إن يد الله مغلولة يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية وثانيها ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر وثالثها أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير
والوجه الرابع أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا لما كان الاله قادرا فأي حاجة به الى جهادنا وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا لما كان الاله غنيا فأي حاجة به الى أموالنا فكان إسنادهم هذه الشبهة الى اليهود لائقا من هذا الوجه وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعني لو صدق محمد في أن الاله يطلب المال من عبيده لكان
فقيرا ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الاخبار أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال ونظيره قوله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ ( المجادلة 1 )
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة لأنه تعالى قال الَّذِينَ قَالُواْ وظاهر هذا القول يفيد الجميع وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك
ثم قال تعالى سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم والباقون بالنون وفتح اللام إضافة اليه تعالى قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء وتسمية الفاعل
المسألة الثانية هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها أحدها أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغي ولا يطرح وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم الثاني سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة والثالث عندي فيه احتمال آخر وهو أن المراد سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق الى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكل ما قدروا عليه
ثم قال اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق وفيه مسألتان
المسألة الأولى الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصاً بهذا الوقت بل هم منذ كانوا مصرون على الجهالات والحماقات
المسألة الثانية في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان أحدهما سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله كقوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا أي قتلها أسلافكم وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ ( البقرة 49 ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معاً أقوالهم وأفعالهم
والوجه الثاني سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنه عثمان رضي الله عنه وحسن قتله فقال الشعبي صرت شريكا في دمه ثم قرأ الشعبي قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ( آل عمران 183 ) فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة
ثم قال تعالى وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة سيكتب على لفظ ما لم يسم فاعله اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء برفع اللام وَيِقُولُ ذُوقُواْ بالياء المنقطة من تحت والباقون سَنَكْتُبُ وَنَقُولُ بالنون
المسألة الثانية المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق كما أذقت المسلمين الغصص والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم
المسألة الثالثة يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد وإن لم يكن هناك قول
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال فوجب أن يقال إنه لم يطلب المال من عبيده وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها
فنقول إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الاغنياء
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد منها أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب وذلك من أعظم المنافع فانه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة ومنها أن يتوسل بذلك الانفاق الى الثواب المخلد المؤبد ومنها أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فانه يقوى في حب الله وذلك رأس السعادات وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مراراً وأطوارا كما قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( الكهف 46 ) وقال وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) وقال وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 ) وقال فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( يونس 58 ) فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب وفيه بطلان قول المجبرة ان الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا
والجواب ان ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مراراً وأطوارا
المسألة الثالثة لقائل أن يقول وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) يفيد نفي كونه ظلاما ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب اليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين
المسألة الرابعة اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الانسان لا اليد إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجاز ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) والكل حسن متعارف في اللغة
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
قوله تعالى الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وتقريرها أنهم قالوا ان الله عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء فهذا بيان وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوب وفنحاص بن عازوراء وغيرهم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً وقد عهد الينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء فان جئتنا بهذا صدقناك فنزلت هذه الآية قال عطاء كانت بنو اسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان
واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين الأول وهو قول السدى أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط وذلك أنه تعالى قال في التوراة من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام فانهما إذا أتيا فآمنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان تأكله النار قال وكانت هذه العادة باقية الى مبعث المسيح عليه السلام فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت
القول الثاني ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ويدل عليه وجوه أحدها أنه لو كان ذلك
حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان وثانيها أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر وثالثها أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار أو شيء آخر والأول باطل لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة
وأما الثاني فانه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة لا على ظهور هذه المعجزة المعينة فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية والله أعلم
المسألة الثانية في محل الَّذِينَ وجوه أحدها قال الزجاج الجر وهذا نعت العبيد والتقدير وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا وثانيها أن التقدير لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا وثالثها أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير هم الذين قالوا ذلك
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله القربان البر الذي يتقرب به إلى الله وأصله المصدر من قولك قرب قربانا كالكفران والرجحان والخسران ثم سمى به نفس المتقرب به ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة ( يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان ) أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد بل على سبيل التعنت وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام وهم أظهروا هذا المعجز ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين واذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة
المسألة الثانية إنما قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه
المسألة الثالثة المراد بقوله وَبِالَّذِى قُلْتُمْ هو ما طلبوه منه وهو القربان الذي تأكله النار
واعلم أنه تعالى لم يقل قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم بل قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ والفائدة أن القوم قالوا ان الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم ان الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا أما لما قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ كان الالزام واردا لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق ولما أتوا بهذا القربان فقد اتوا بالشرط وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا فثبت أنه لولا قوله جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 28 ) لم يكن الالزام واردا على القوم والله أعلم
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
في قوله فَإِن كَذَّبُوكَ وجوه أحدها فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم فقد كذب رسل من قبلك نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم والثاني ان المراد فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ولعل هذا الوجه أوجه لأنه تعالى لم يخصص ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ومع هذا فانهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت فأما البينات فهي الحجج والمعجزات وأما الزبر فهي الكتب وهي جمع زبور والزبور الكتاب بمعنى المزبور أي المكتوب يقال زبرت الكتاب أي كتبته وكل كتاب زبور قال الزجاج الزبور كل كتاب ذي حكمة وعلى هذا
الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر يقال زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ وقرأ ابن عباس وَبِالزُّبُرِ أعاد الباء للتأكيد وأما ( المنير ) فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم فالتوراة والانجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام
المسألة الثانية عطف ( الكتاب المنير ) على ( الزبر ) مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر فحسن العطف كما في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) وقال مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة أو كونه باقياً على وجه الدهر ويحتمل أن يكون المراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والانجيل والزبور
قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ
اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين أحدهما أن عاقبة الكل الموت وهذه الغموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه والثاني ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ سؤال وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات وأيضا قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء وهذا العموم يقتضي موت الكل وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس
وجوابه أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة
المسألة الثانية ذَائِقَة ُ فاعلة من الذوق واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر كقولك زيد ضارب عمرو أمس فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب
تقول هو ضارب زيد غدا وضارب زيدا غدا قال تعالى هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ ( الزمر 38 ) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال وروي عن الحسن أنه قرأ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ بالتنوين ونصب ( الموت ) وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ بطرح التنوين مع النصب كقوله
ولا ذاكر الله إلا قليلا
وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النساء 97 النحل 28 ) ان شاء الله تعالى
المسألة الثالثة زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة قالوا وقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن لأنه جعل النفس ذائقة الموت والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن وهذا يدل على أن النفس غير البدن وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن وأيضا لفظ النفس مختص بالأجسام وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية فأما الأرواح المجردة فلا وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك فانه روي عن ابن عباس أنه قال لما نزل قوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) قالت الملائكة مات أهل الأرض ولما نزل قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ قالت الملائكة متنا
المسألة الرابعة قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف
ثم قال تعالى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم والأمن بلا خوف واللذة بلا ألم والسعادة بلا خوف الانقطاع وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة بل يمتزج به راحات وتخفيفات وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة نعوذ بالله منه
ثم قال تعالى فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ الزحزحة التنحية والابعاد وهو تكرير الزح والزح هو الجذب بعجلة وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن )
واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين الخلاص عن العذاب والوصول الى الثواب فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) وقرأ قوله تعالى فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه )
ثم قال فَازَ وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الغرور مصدر من قولك غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور وعن سعيد بن جبير أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع والله أعلم
واعلم أن فساد الدنيا من وجوه أولها أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا وثانيها أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته وثالثها أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال لين مسها قاتل سمها وقال بعضهم الدنيا ظاهرها مطية السرور وباطنها مطية الشرور
لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ
اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ ( آل عمران 185 ) زاد في تسليته بهذه الآية فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فاذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه أما إذا كان عالما بأنه سينزل فاذا نزل لم يعظم وقعه عليه
أما قوله لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله اللام لام القسم والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم ومثله اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ ( البقرة 16 )
المسألة الثانية لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد وقال الحسن المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال وهي الصلاة والزكاة والجهاد قال القاضي والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما
وأما قوله وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ولقد هجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويجمعون العساكر على محاربة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويثبطون المسلمين عن نصرته فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني
ثم قال عطفا على الأمرين وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون بعث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر الى فنحاص اليهودي يستمده فقال فنحاص قد احتاج ربك الى أن نمده فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له حين بعثه لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية
المسألة الثانية للآية تأويلان الأول أن المراد منه أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب الى دخول المخالف في الدين كما قال فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقال قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام وقال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 35 ) وقال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) قال الواحدي رحمه الله كان هذا قبل نزول آية السيف قال القفال رحمه الله الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه واعلم أن قول الواحدي ضعيف والقول ما قاله القفال
الوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد من الصبر والتقوى الصبر على مجاهدة الكفار
ومنابذتهم والانكار عليهم فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار والسكوت عن إظهار الانكار
المسألة الثالثة الصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي وفيه وجه آخر وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الاساءة فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة
المسألة الرابعة قوله مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه فتأخذ نفسه لا محالة به والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون معناه فان ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به والله أعلم
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والانجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل كيف يليق بكم ايراد الطعن في نبوته ودينه مع ان كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه الثاني أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) احتمال الأذى من أهل الكتاب وكان من جملة ايذائهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والانجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق أي فقال لهم لتبيننه ونظير هذه الآية قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ( البقرة 83 ) بالتاء
والياء وأيضا قوله وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ ( الأسراء 4 )
المسألة الثانية الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أورودا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق وعن سعيد بن جبير قلت لابن عباس ان أصحاب عبدالله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ( آل عمران 81 ) فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم واعلم أن الزام هذا الاظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب والله أعلم
المسألة الثالثة الضمير في قوله لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ إلى ماذا يعود فيه قولان قال سعيد بن جبير والسدي هو عائد إلى محمد عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور وقال الحسن وقتادة يعود إلى الكتاب في قوله أُوتُواْ الْكِتَابَ أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والانجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الرابعة اللام لام التأكيد يدخل على اليمين تقديره استحلفهم ليبيننه
المسألة الخامسة إنما قال ولا تكتمونه ولم يقل ولا تكتمنه لأن الواو واو الحال دون واو العطف والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين
فان قيل البيان يضاد الكتمان فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان
قلنا المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من التوراة والانجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة
المسألة السادسة اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فانه لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال ما الذي بلغني عنك فقال ما كل الذي بلغنك عني قلته ولا كل ما قلته بلغك قال أنت الذي قلت إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً فقال نعم فقال وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه قال لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وقال قتادة مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب وكان يقول طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فوعاه قال عليه الصلاة والسلام ( من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار ) وعن علي رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
ثم قال تعالى فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد ونقيضه جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا
فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم أو لجر منفعة أو لتقية وخوف أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة ٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) فبين تعالى ان من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة ولا شك أن الانسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها وبين ما لهم من الوعيد الشديد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت وكذا في قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ أما القراءة الأولى ففيها وجهان أحدهما أن يقرأ كلاهما بفتح الباء والثاني أن يقرأ كلاهما بضم الباء فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون والثاني بمفازة وقوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة ٍ تأكيد للأول وحسنت اعادته لطول الكلام كقولك لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله لا يَحْسَبَنَّ ففيها أيضا وجهان الأول بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والباقي كما علمت
والوجه الثاني بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه ثم أعاد قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّ بضم الباء وقوله هُمْ رفع باسناد الفعل اليه والمفعول الأول محذوف والتقدير ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا والمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب وهو قول ابن عباس وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان
مطلوبهم ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين والثاني روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك فأطلع رسول الله على هذا السر والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء والثالث يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه الرابع أنه نزل في المنافقين فانهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم الخامس قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الغزو ويفرحون بقعودهم عنه فاذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين السادس المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالاقرار بنبوته ودينه ثم أنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد وهو أن الانسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله
المسألة الثالثة في قوله بِمَا أَتَوْاْ بحثان الأول قال الفراء قوله بِمَا أَتَوْاْ يريد فعلوه كقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( النساء 16 ) وقوله لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( مريم 27 ) أي فعلت قال صاحب ( الكشاف ) أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ( مريم 61 ) لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ويدل عليه قراءة أبي يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُواْ
البحث الثاني قرىء آتوا بمعنى أعطوا وعن علي رضي الله عنه بِمَا أُوتُواْ
المسألة الرابعة قوله بِمَفَازَة ٍ مّنَ الْعَذَابِ أي بمنجاة منه من قولهم فاز فلان إذا نجا وقال الفراء أي ببعد من العذاب لأن الفوز معناه التباعد من المكروه وذكر ذلك في قوله فَقَدْ فَازَ ثم حقق ذلك بقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ولا شبهة أن الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر على أذاهم
ثم قال وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب
إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاّيَاتٍ لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ
اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد الى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والالهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية قال ابن عمر قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فبكت وأطالت ثم قالت كل أمره عجب أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال لي يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي فقلت يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك فقام الى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها وعن علي رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر الى السماء ويقول إن في خلق السموات والارض وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى من فتيانهم فما اظلته السحابة فقالت له أمه لعل فرطة صدرت منك في مدتك قال ما أذكر قالت لعلك نظرة مرة الى السماء ولم تعتبر قال نعم قالت فما أتيت إلا من ذلك
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة وذكرها هنا أيضا وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) وختمها ههنا بقوله لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة وهي السموات والأرض والليل والنهار فهذه أسئلة ثلاثة
السؤال الأول ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين
والسؤال الثاني لم اكتفي ههنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية
والسؤال الثالث لم قال هناك لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) وقال ههنا لاِوْلِى الاْلْبَابِ
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر فكذلك ههنا إذا حدق الانسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر فعلى هذا السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل فاذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله فالسالك في أول أمره كان طالباً لتكثير الدلائل فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالباً لتقليل الدلائل حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله واليه الاشارة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( طه 12 )
والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما وقيل له إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل
إذا عرفت هذه القاعدة فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات الى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية التنبيه على ما ذكرناه ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية التي هي الدلائل الارضية وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر وانتقال القلب منها الى عظمة الله وكبريائه أشد ثم ختم تلك الآية بقوله لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وختم هذه الآية بقوله لاِوْلِى الاْلْبَابِ لأن العقل له ظاهر وله لب ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الالهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية وأصناف العبودية ثلاثة أقسام التصديق بالقلب والاقرار باللسان والعمل بالجوارح فقوله تعالى يَذْكُرُونَ اللَّهَ إشارة إلى عبودية اللسان وقوله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ إشارة الى عبودية الجوارح والاعضاء وقوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة الى عبودية القلب والفكر والروح والانسان ليس إلى هذا المجموع فاذا كان اللسان مستغرقا في الذكر والأركان في الشكر والجنان في الفكر كان هذا العبد مستغرفا بجميع أجزائه في العبودية فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية وهذه الآية دالة على كمال العبودية فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور الى جناب الملك الغفور ونقول في الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين في هذه الآية قولان الأول أن يكون المراد منه كون الانسان دائم الذكر لربه فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة
والقول الثاني أن المراد من الذكر الصلاة والمعنى أنهم يصلون في حال القيام فان عجزوا ففي حال القعود فان عجزوا ففي حال الاضطجاع والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله )
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعاً وجب أن يصلي على جنبه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه بل يصلى مستلقياً حتى إذا وجد خفة قعد وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب فكان هذا الوضع أولى
واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الانسان مستلقياً على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر وأما كونه مضطجعاً على الجنب فانه غير مانع منه وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق فكان هذا الوضع أولى لكونه أقرب إلى اليقظة وإلى الاشتغال بالذكر
المسألة الرابعة محل عَلَى جُنُوبُهُمْ نصب على الحال عطفاً على ما قبله كأنه قيل قياماً وقعوداً ومضطجعين
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر لا جرم قال بعده وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق ) والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة فاذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل وقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف نفسه عرف ربه ) معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فاذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في الجهة ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالفكر في مخلوقاته
المسألة الثانية اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجمالياً أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة ودقائق لطيفة فانه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل
إذا عرفت هذا فنقول دلائل التوحيد محصورة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم وكيف لا نقول ذلك ولو أن الانسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحداً ممتدا في وسطها ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسراراً عجيبة وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم أن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ولو أراد الانسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه فاذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم فاذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض واذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الاحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها فعند هذا يقول سبحانكا والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول فقنا عذاب النار وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله اليه فغفر له ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا عبادة كالتفكر ) وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تفضلوني على يونس بن متى فانه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض ) قالوا وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض
المسألة الثالثة دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات اليه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء
النوع الأول قوله رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية إضمار وفيه وجهان قال الواحدي رحمه الله التقدير يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا وقال صاحب ( الكشاف ) انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين
المسألة الثانية هذا في قوله مَا خَلَقْتَ هَذا كناية عن المخلوق يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا وفي كلمة هَاذَا ضرب من التعظيم كقوله إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 )
المسألة الثالثة في نصب قوله بَاطِلاً وجوه الأول أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا الثاني أنه بنزع الخافض تقديره بالباطل أو للباطل الثالث قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون ( باطلا ) حالا من ( هذا )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الاحسان إلى البعيد البعيد ولأجل الحكمة والمراد منها رعاية مصالح العباد واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السموات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا وذلك ضد هذه الآية قالوا وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة ان الله تعالى أراد بخلق السموات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها وذلك رد لهذه الآية قالوا وقوله سُبْحَانَكَ تنزيه له عن خلقه لهما باطلا وعن كل قبيح وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء وخلق السموات والأرض خلق متقن محكم ألا ترى إلى قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( الملك 3 ) وقال وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) فكان المراد من قوله رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً هذا المعنى لا ما ذكره المعتزلة
فان قيل هذا الوجه مدفوع بوجوه الأول لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق ومعلوم أن ذلك باطل الثاني أنه إنما يحسن وصل قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك فقنا عذاب النار لأنه جزاء من عصي ولم يطع فثبت أنا إذا فسرنا قوله وَمَا خَلَقْتُ هَذا بَاطِلاً بما ذكرنا حسن هذا النظم أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم الثالث أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقال في آية أخرى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 38 39 ) وقال في آية أخرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً إِلَى ( المؤمنون 115 ) قوله فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ( المؤمنون 116 ) أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عباث وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى
والجواب اعلم ان بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته وشاهده أن كل ممكن لذاته فانه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته وليس في هذه القضية تخصيص
بكون ذلك الممكن مغايرا لافعال العباد بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله واذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح إذا عرفت هذا فنقول لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي قوله ولو كان كذلك لكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما وقوله سُبْحَانَكَ معناه انك وان خلقت السموات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج اليه والانتفاع به فيكون قوله سُبْحَانَكَ معناه هذا قوله ثانيا إنما حسن وصل قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ به إذا فسرناه بقولنا قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال سُبْحَانَكَ اعترف بكونه غنياً عن كل ما سواه فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة اليه في الدنيا والآخرة فقال فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا ونحن نقول بموجبه وان أفعال الله كلها حكمة وصواب لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه فكان حكمه صوابا على الاطلاق فهذا ما في هذه المناظرة والله أعلم
المسألة الخامسة احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الافلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية قالوا لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة وذلك رد للآية قالوا وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الافلاك والكواكب في هذا المعنى فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص
أجاب المتكلمون عنه بأن قالوا لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسباباً على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة
أما قوله تعالى سُبْحَانَكَ فقيه مسألتان
المسألة الأولى هذا إقرار بعجز العقول عن الاحاطة بآثار حكمة الله في خلق السموات والأرض يعني أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر وهو أن خالقها ما خلقها باطلا بل خلقها لحكم عجيبة وأسرار عظيمة وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها
المسألة الثانية المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية
أما قوله تعالى فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثاً فان كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في
أنه لا يقبح من الله شيء أصلا ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )
النوع الثاني من دعواتهم قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ليكون موقع السؤال أعظم لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد والدعاء لا يتصل بالاجابة إلا إذا كان مقروناً بالاخص فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء
المسألة الثانية قال الواحدي الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض قال الزجاج أخزى الله العدو أي أبعده وقال غيره أخزاه الله أي أهانه وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله وفي القرآن وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى ( هود 78 ) وقال المفضل أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الانباري الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء وكل هذه الوجوه متقاربة ثم قال صاحب ( الكشاف ) فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال من سبق فلاناً فقد سبق ومن تعلم من فلان فقد تعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا
والجواب أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الاثبات في وقت آخر هذا هو الذي صح عندي في الجواب وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه أحدها أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مخصوص بمن يدخل النار للخلود وهذا الجواب عندي ضعيف لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فانما دخلها للخلود فهذا لا يكون سؤالا عنهم ثانيها قال المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الاطلاق وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة وثالثها قال الاخزاء يحتمل وجهين أحدهما الاهانة والاهلاك والثاني التخجيل يقال خزي خزاية إذا استحيا وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه
واعلم أن حاصل هذا الجواب أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الاهلاك واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والاثبات على معنييه جميعا واذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ غير المثبت في قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وعلى هذا يسقط الاستدلال إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد سقط هذا الجواب لأن قوله لا إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ لنفي الجنس وقوله فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ لاثبات النوع وحينئذ يحصل بينهما منافاة
المسألة الرابعة احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي وكل من دخل النار فانه يخزي فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً والبغي من الكبائر بالاجماع وأيضا قال تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمناً فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) ولقوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 )
ثم قال تعالى فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار وإنما قلنا إن كل من دخل النار فانه يخزى لقوله تعالى إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار
والجواب عنه ما تقدم أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) لا يدل على نفي الاخزاء مطلقاً بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر
المسألة الخامسة قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ عام دخله الخصوص في مواضع منها أن قوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 71 72 ) يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار وأهل الثواب يصانون عن الخزي وثانيها أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار وهم أيضا يصانون عن الخزي قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 )
المسألة السادسة احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني قالوا لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة
المسألة السابعة احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين وقالوا الخزي هو الهلاك فقوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ معناه فقد أهلكته ولو كانوا يخرجون من النار الى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك والجواب أنا لا نفسر الخزي بالاهلاك بل نفسره بالاهانة والتخجيل وعند هذا يزول كلامكم
أما قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ونفي الجنس يقتضي نفي النوع
والجواب من وجوه الأول أن القرآن دل على أن الظالم بالاطلاق هو الكافر قال تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ وثانيها إن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا باذن الله قال تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) واذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الاذن واذا حصل الاذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر وليس الحكم إلا لله فقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وقال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) لا يقال فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة لأنا نقول بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب فلهم يوم القيامة هذه الحجة اما الفساق فليس لهم ذلك فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الاطلاق الثالث أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار قالوا لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة
والجواب المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة
النوع الثالث من دعواتهم
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَأامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاٌّ بْرَارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في المنادى قولان أحدهما أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين
والدليل عليه قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ( الأحزاب 46 ) أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ( يوسف 108 ) والثاني أنه هو القرآن قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ ( الجن 1 2 ) قالوا والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه قالوا وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك فصار كأنه يدعو الى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل كما قيل في جهنم تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( المعارج 17 ) إذ كان مصيرهم اليها والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان قال الشاعر
يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية في قوله يُنَادِى لِلإِيمَانِ وجوه الأول ان اللام بمعنى ( إلى ) كقوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( المجادلة 3 ) ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ( المجادلة 8 ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 5 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ( الأعراف 43 ) ويقال دعاه لكذا والى كذا وندبه له واليه وناداه له وإليه وهداه للطريق واليه والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا الثاني قال أبو عبيدة هذا على التقديم والتأخير أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا كما يقال جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا والثالث أن هذه اللام لام الأجل والمعنى سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ألا تراه قال رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا أي لتؤمن الناس وهو كقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 )
المسألة الثالثة قوله سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى نظيره قولك سمعت رجلا يقول كذا وسمعت زيدا يتكلم فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فاغناك عن ذكره ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه وانه يقال سمعت كلام فلان أو قوله
المسألة الرابعة ههنا سؤال وهو أن يقال ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي
وجوابه ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان ونظيره قولك مررت بهاد يهدي للاسلام وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم الى مناد للحرب أو لاطفاء النائرة أو لاغاثة المكروب أو الكفاية لبعض النوازل وكذلك الهادي وقد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي فاذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته
المسألة الخامسة قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ فيه حذف أو إضمار والتقدير آمنوا أو بأن آمنوا ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء أولها غفران
الذنوب وثانيها تكفير السيئات وثالثها أن تكون وفاتهم مع الأبرار أما الغفران فهو الستر والتغطية والتكفير أيضا هو التغطية يقال رجل مكفر بالسلاح أي مغطى به والكفر منه أيضا وقال لبيد
في ليلة كفر النجوم ظلامها
اذا عرفت هذا فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها أحدها أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب وثانيها المراد بالأول ما تقدم من الذنوب وبالثاني المستأنف وثالثها أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة ورابعها أن يكون المراد بالاول ما أتى به الانسان مع العلم بكونه معصية وذنبا وبالثاني ما أتى به الانسان مع جهله بكونه معصية وذنبا
وأما قوله وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ ففيه بحثان الأول أن الأبرار جمع بر أو بار كرب وأرباب وصاحب وأصحاب الثاني ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين الأول أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد والثاني يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا والثالث أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم ومنه قوله فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( النساء 69 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ( آل عمران 16 ) والاستدلال به من وجهين الأول أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ثم ان الله تعالى أجابهم اليه لأنه قال في آخر الآية فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة والثاني وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا فعند هذا قالوا فاغفر لنا ذنوبنا والفاء في قوله فَاغْفِرْ فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ثم ان الله تعالى أجابهم اليه بقوله فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فدلت هذه الآية على ان مجرد الايمان سبب لحصول الغفران إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فاذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب فلأن يقبل شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيه كان أولى
النوع الرابع من دعائهم
رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وثانيها وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للايمان وهو الرسول وعقيب قوله مِنَ وهو التصديق
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن الخلف في وعد الله محال فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع
والجواب عنه من وجوه الأول أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة كقوله قُل رَّبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) وقوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 )
والوجه الثاني في الجواب أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم فانه تعالى وعد المتقين بالثواب ووعد الفساق بالعقاب فقوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا معناه وفقنا للاعمال التي بها نصير أهلا لوعدك واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية
الوجه الثالث ان الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم فهم طلبوا تعجيل ذلك وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
المسألة الثالثة الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك وفي آخر الكلام قالوا إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق
المسألة الرابعة ههنا سؤال آخر وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة فقوله أَتَانَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ طلب للثواب فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب وهو قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما
والجواب من وجهين الأول أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله أَتَانَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ المراد منه المنافع وقوله وَلاَ تُخْزِنَا المراد منه التعظيم الثاني أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل وفقنا للطاعات واذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك والحاصل كأنه قيل وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك واذا
وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك وهو إشارة الى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال ولا فعل من الأفعال ولا لمحة ولا حركة إلا باعانة الله وتوفيقه
المسألة الخامسة قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ شبيه بقوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) فانه ربما ظن الانسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد ثم قال حكماء الإسلام وذلك هو العذاب الروحاني قالوا وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) إلى قوله لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وعلى التفكر وهو قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ( آل عمران 191 ) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) إلى قوله إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف يقال استجابه واستجاب له قال الشاعر وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال تعالى مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 34 )
المسألة الثالثة أني لا أضيع قرىء بالفتح والتقدير بأني لا أضيع وبالكسر على إرادة القول وقرىء لاَ أُضِيعُ بالتشديد
المسألة الرابعة من في قوله مّن ذِكْرِ قيل للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وقيل إنها مؤكدة للنفي بمعنى عمل عامل منكم ذكر أو أنثى
المسألة الخامسة اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله لاَ أُضِيعُ نفي للنفي فيكون اثباتا فيصير المعنى اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا وبمعصيته استحق عقابا فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب
المسألة السادسة جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم
فان قيل القوم أولا طلبوا غفران الذنوب وثانيا إعطاء الثواب فقوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ إجابة لهم في إعطاء الثواب فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب
قلنا إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ اجابة لدعائهم في المطلوبين وعندي في الآية وجه آخر وهو أن المراد من قوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ أني لا أضيع دعاءكم وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه
وأما قوله تعالى مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى فالمعنى أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال لا بسائر صفات العاملين لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ومثله قوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية
أما قوله تعالى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ ففيه وجوه أحسنا أن يقال مِنْ بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية قال القفال هذا من قولهم فلان مني أي على خلقي وسيرتي قال تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من غشنا فليس منا ) وقال ( ليس منا من حمل علينا السلاح ) فقوله بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه
ثم قال تعالى فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ والمراد من قوله الَّذِينَ هَاجَرُواْ الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد من الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم الذين ألجأهم الكفار الى الخروج ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار فكانوا أفضل وقوله وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى أي من أجله وسببه وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لان المقاتلة تكون قبل القتال قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وَقَاتِلُواْ بالالف أولا وَقُتّلُواْ مخففة والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقَاتِلُواْ أولا وَقُتّلُواْ مشددة قيل التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ ( ص 50 ) وقيل قطعوا عن الحسن وقرأ حمزة والكسائي وَقُتّلُواْ بغير ألف أولا وَقَاتِلُواْ بالالف بعده وفيه وجوه الأول أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله وَاسْجُدِى وَارْكَعِى ( آل عمران 43 ) والثاني على قولهم قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل أو إذا قتل قومه وعشائره والثالث باضمار ( قد ) أي قتلوا وقد قاتلوا
ثم ان الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة أولها محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وذلك هو الذي طلبوه بقولهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا ( آل عمران 193 ) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وهو الذي طلبوه بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وثالثها أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله مِنْ عِندِ اللَّهِ وهو الذي قالوه وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته واذا قال السلطان العظيم لعبده اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله ثَوَاباً مصدر مؤكد والتقدير لأثيبنهم ثوابا من عند الله أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم ثم قال وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات عالما بكل المعلومات غنياً عن الحاجات كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان فكان عنده حسن الثواب روي عن جعفر الصادق أنه قال من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية قال لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
واعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة والكفار كانوا في النعم ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة فقال لاَ يَغُرَّنَّكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه فيقول غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه رددته على غرة
المسألة الثانية المخاطب في قوله لاَ يَغُرَّنَّكَ من هو فيه قولان الأول أنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد هو الأمة قال قتادة والله ما غروا نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قبضه الله والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره ويمكن أن يقال السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه كما قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) فسقط قول قتادة ونظيره قوله وَلاَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( هود 42 ) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) وَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( القلم 8 ) والثاني وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين كأنه قيل لا يغرنك أيها السامع
المسألة الثالثة تقلب الذين كفروا في البلاد فيه وجهان الأول نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية والثاني قال الفراء كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد تصرفهم في التجارات والمكاسب أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب
ثم قال تعالى مَتَاعٌ قَلِيلٌ قيل أي تقلبهم متاع قليل وقال الفراء ذلك متاع قليل وقال الزجاج ذلك الكسب والربح متاع قليل وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد فاذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل
ثم قال تعالى ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة وهو كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) وقوله وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( الأعراف 183 )
ثم قال وَبِئْسَ الْمِهَادُ أي الفراش والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر 16 ) فهم بين أطباق النيران ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ
اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل والنزل ما يهيأ للضيف وقوله لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ يتناول جميع الطاعات لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات وعن ترك المأمورات واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من الرؤية لتكون خلعة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) وقوله نُزُلاً نصب على الحال من جَنَّاتُ لتخصيصها بالوصف والعامل اللام ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم وقال الفراء هو نصب على التفسير كما تقول هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال وَمَا عِندَ اللَّهِ من الكثير الدائم خَيْرٌ لّلابْرَارِ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش نُزُلاً بسكون الزاي وقرأ يزيد بن القعقاع لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بالتشديد
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ واختلفوا في نزولها فقال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المنافقون إنه يصلي على نصراني لم يره قط وقال ابن جريج وابن زيد نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا وقال مجاهد نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أولها الايمان بالله وثانيها الايمان بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام ورابعها كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل يُؤْمِنُ لأن مَن يُؤْمِنُ في معنى الجمع وخامسها أنهم لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته
ثم قال تعالى في صفتهم أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ والفائدة في كونه
سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب
قوله تعالى الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب وذلك لأن أحوال الانسان قسمان منها ما يتعلق به وحده ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة
أما الصبر فيندرج تحته أنواع أولها أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين وثانيها أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات وثالثها أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات ورابعها الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف فقوله اصْبِرُواْ يدخل تحته هذه الأقسام وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء اليك كما قال وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان المقدم عليه ربما وصل اليه بسببه ضرر ويدخل فيه الجهاد فانه تعريض النفس للهلاك ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين وحل شكوكهم والجواب عن شبههم والاحتيال في إزالة تلك الاباطيل عن قلوبهم فثبت ان قوله اصْبِرُواْ تناول كل ما تعلق به وحده وَصَابِرُواْ تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره
واعلم أن الانسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة فلهذا قال وَرَابِطُواْ ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للانسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض وجب أن يكون للانسان في هذه المجاهدة غرض وباعث وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح فلهذا قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة وذلك عبارة عن الاتيان بالافعال الحسنة والاحتراز عن الافعال الذميمة ولما كانت الافعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الافعال الذميمة وذلك هو المراد بالمرابطة ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات وذلك هو تقوى الله ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والاخلاق وهو الفلاح فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والاسرار الروحانية وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه
ولنذكر ما قاله المفسرون قال الحسن اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد وقال الفراء اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم وقال الأصم لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء
وأما قوله وَرَابِطُواْ ففيه قولان الأول أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضاً بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعداً لقتال الآخر قال تعالى وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( الأنفال 60 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة ) االثاني أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان الأول ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال لم يكن في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة الثاني ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال ( فذلكم الرباط ) ثلاث مرات
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل وأصل الرباط من الربط وهو الشد يقال لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه وقال آخرون الرباط هو اللزوم والثبات وهذا المعنى أيضاً راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم
قال الامام رضي الله تعالى عنه تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة
سورة النساء
مائة وسبعون وست آيات مدنيةيَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاٌّ رْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام والرأفة بهم وإيصال حقوقهم اليهم وحفظ أموالهم عليهم وبهذا المعنى ختمت السورة وهو قوله يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة وهي تقوى الرب الذي خلقنا والاله الذي أوجدنا فلهذا قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روى الواحدي عن ابن عباس في قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أن هذا الخطاب لأهل مكة وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين وهذا هو الأصح لوجوه أحدها أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق وثانيها أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقاً لهم من نفس واحدة وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما وثالثها أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة بل هو عام في حق جميع العالمين وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل وكانت علة هذا التكليف وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق
الكل كان القول بالتخصيص في غاية البعد وحجة ابن عباس أن قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون أسألك بالله وبالرحم وأنشدك الله والرحم وإذا كان كذلك كان قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختصا بالعرب فكان أول الآية وهو قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مختصا بهم لأن قوله في أول الآية اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقوله بعد ذلك وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ وردا متوجهين إلى مخاطب واحد ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها فكان قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عاما في الكل وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ خاصاً بالعرب
المسألة الثانية أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن إحداهما هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الاول من القرآن والثانية سورة الحج وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد وهو قوله إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد وتحت هذا البحث أسرار كثيرة
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف فنقول قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة مشتمل على قيدين أحدهما أنه تعالى خلقنا والثاني كيفية ذلك التخليق وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس واحدة ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى
أما القيد الأول وهو أنه تعالى خلقنا فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه وبيان ذلك من وجوه الأول أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق الثاني أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان فانك كنت معدوما فأوجدك وميتا فأحياك وعاجزا فأقدرك وجاهلا فعلمك كما قال إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين ) فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم باظهار الخضوع والانقياد وترك التمرد والعناد وهذا هو المراد بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 ) الثالث وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقاً وإلها وربا لنا وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر هذا إذا سلمنا
أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء فكيف وهذا محال لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة وخلق الداعية على الطاعة ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده والمولى إذا خص عبده بانعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاماً آخر فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه
وأما القيد الثاني وهو أن خصوص كونه خالقاً لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية فبيانه من وجوه الأول أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الانسان الواحد أدل على كمال القدرة من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الانسان الواحد لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار لا طبيعة مؤثرة ولا علة موجبة ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فكان ارتباط قوله اتَّقُواْ رَبَّكُمُ بقوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ في غاية الحسن والانتظام
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه ويحزن بذمهم والطعن فيهم وقال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وإذا كان الأمر كذلك فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض
الوجه الثالث أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق
الوجه الرابع أن هذا يدل على المعاد لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 )
الوجه الخامس قال الأصم الفائدة فيه أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمياً ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا فالحاصل أن قوله خَلَقَكُمْ دليل على معرفة التوحيد وقوله مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ دليل على معرفة النبوة
فان قيل كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس
قلنا قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا جازت إضافة الخلق أجمع الى آدم
المسألة الرابعة أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس ونظيره قوله تعالى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ ( الكهف 74 ) وقال الشاعر أبوك خليفة ولدته أخرى
فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة
قوله تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فيه مسائل
المسألة الأولى المراد من هذا الزوج هو حواء وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه واحتجوا عليه بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها )
والقول الثاني وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن المراد من قوله وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي من جنسها وهو كقوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ( النحل 72 ) وكقوله إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) وقوله لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) قال القاضي والقول الأول أقوى لكي يصح قوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم
المسألة الثانية قال ابن عباس إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي فلا جرم سميت بحواء
المسألة الثالثة احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا قوله تعالى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة وقوله وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا يدل على أن زوجها مخلوقة منها ثم قال في صفة آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) فدل على أن آدم
مخلوق من التراب ثم قال في حق الخلائق مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( طه 55 ) وهذه الآيات كلها دالة على ان الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال
أجاب المتكلمون فقالوا خلق الشيء من الشيء محال في العقول لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة واذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر وان قلنا ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول وأما كلمة مِنْ في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار بل على وجه الوقوع فقط
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا بلفظ اسم الفاعل وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خالق
قوله تعالى وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي بث منهما يريد فرق ونشر قال ابن المظفر البث تفريقك الأشياء يقال بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض وبثثت البسط إذا نشرتها قال الله تعالى وَزَرَ أَبِى مَبْثُوثَة ٌ قال الفراء والزجاج وبعض العرب يقول أبث الله الخلق
المسألة الثانية لم يقل وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
فان قيل لم لم يقل وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء
قلنا السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر فلا جرم خصوا بوصف الكثرة وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول
المسألة الثالثة الذين يقولون إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام حملوا قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء على ظاهره والذين أنكروا ذلك قالوا المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين فكان الكل مضافا اليهما على سبيل المجاز
قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي تَسَاءلُونَ بالتخفيف والباقون بالتشديد فمن شدد أراد تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالادغام وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالادغام
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده وَالاْرْحَامَ بجر الميم قال القفال رحمه الله وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم وقال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَالاْرْحَامَ بالحركات الثلاث أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة قالوا لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز واحتجوا على عدم جوازه بوجوه أولها قال أبو علي الفارسي المضمر المجرور بمنزلة الحرف فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه الأول أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل وذلك ان الهاء والكاف في قوله به وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين الثاني أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد وذلك كقولهم يا غلام فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف وثانيها قال علي بن عيسى انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع فلا يجوز أن يقال اذهب وزيد وذهبت وزيد بل يقولون يا غلام فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف وثانيها قال علي بن عيسى انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع فلا يجوز أن يقال اذهب وزيد وذهبت وزيد بل يقولون اذهب أنت وزيد وذهبت أنا وزيد قال تعالى فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا مع ان المضمر المرفوع قد ينفصل فاذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع انه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى وثالثها قال أبو عثمان المازني المعطوف والمعطوف عليه متشاركان وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول وههنا هذا المعنى غير حاصل وذلك لأنك لا تقول مررت بزيدوك فكذلك لا تقول مررت بك وزيد
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه بل رواها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت وأيضا فلهذه القراءة وجهان أحدهما أنها على تقدير تكرير الجار كأنه قيل تساءلون به وبالارحام وثانيها أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد أيضا نعلق في مثل السواري سيوفنا
وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تحلفوا بآبائكم ) فاذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالارحام ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون أسألك بالله والرحم وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل وأيضاً فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط وههنا ليس كذلك بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث فهذا جملة الكلام في قراءة قوله وَالاْرْحَامَ بالجر أما قراءته بالنصب ففيه وجهان الأول وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني وهو قول أكثر المفسرين أن التقدير واتقوا الأرحام أن تقطعوها وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله اللَّهِ أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالاغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك الأسد الأسد وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم ويدل على وجوب صلتها وأما القراءة بالرفع فقال صاحب ( الكشاف ) الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به
المسألة الثالثة أنه تعالى قال أولا اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ثم قال بعده وَاتَّقُواْ اللَّهَ وفي هذا التكرير وجوه الأول تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك اعجل الثاني أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض الثالث قال أولا اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقال ثانيا وَاتَّقُواْ اللَّهَ والرب لفظ يدل على التربية والاحسان والاله لفظ يدل على القهر والهيبة فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( السجدة 16 ) وقال وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ( الأنبياء 90 ) كأنه قيل انه رباك وأحسن اليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة
المسألة الرابعة اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال بالله أسألك وبالله أشفع اليك وبالله أحلف عليك الى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى والتقدير واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول أسألك بالله والرحم وربما أفرد ذلك فقال أسألك بالرحم وكان يكتب المشركون الى رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) نناشدك الله والرحم أن لا تبعث الينا فلانا وفلانا وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع الى ذلك والتقدير واتقوا الله واتقوا الأرحام قال القاضي وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والافضال والاحسان ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
المسألة الخامسة قال بعضهم اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة واحتج بما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي ) ووجه التشبيه ان لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض وقال آخرون بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الانعام وانه الأصل وقال بعضهم بل كل واحد منهما أصل بنفسه والنزاع في مثل هذا قريب
المسألة السادسة دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى روى مجاهد عن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سألكم بالله فأعطوه ) وعن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسبع منها ابرار القسم
المسألة السابعة دل قوله تعالى وَالاْرْحَامَ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ( محمد 22 ) وقال لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً قيل في الأول إنه القرابة وقال وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وقال وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ( النساء 36 ) وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة ) وعن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) قيل الكاشح العدو فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والاخت والعم والخال قال لانه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالاجماع لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم وذلك حرام بناء على هذا الاصل فوجب أن لا يبقى الملك وثانيهما أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لان ذلك الرجوع ايحاش يورث قطيعة الرحم فوجب أن لا يجوز والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات
ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك ومن هذا صفته فانه يجب أن يخاف ويرجى فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى وانه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك
وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه محترزا عن مساخطه شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف
فالنوع الأول ما يتعلق بأموال اليتامى وهو هذه الآية وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الاشفاق عليهم ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم واليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة وقيل اليتم في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات قال وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال فاذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره زال عنه هذا الاسم وكانت قريش تقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتيم أبي طالب إما على القياس وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتم بعد حلم ) فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة يعني إذا احتلم فانه لا تجرى عليه أحكام الصغار وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب الى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب اليه إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه وفي بعض الروايات أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد ثم قال أبو بكر واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تستأمر اليتيمة ) وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة قال الشاعر ان القبور تنكح الأيامى
النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن يقال كيف جمع اليتيم على يتامى واليتيم فعيل والفعيل يجمع على فعلى كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى قال صاحب ( الكشاف ) فيه وجهان أحدهما أن يقال جمع اليتيم يتمى ثم يجمع فعلى على فعالى كأسير وأسرى وأسارى والثاني أن يقال جمع يتيم يتائم لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ثم يقلب اليتائم يتامى قال
القفال رحمه الله ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف
المسألة الثالثة ههنا سؤال ثان وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله اليه وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماليه إليه لم يبق يتيما فكيف قال وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ والجواب عنه على طريقين الأول أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا او كبروا ثم فيه وجهان أحدهما أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة والثاني أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وان كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ ( الأعراف 120 ) أي الذين كانوا سحرة قبل السجود وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الاجل في قوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ ( الطلاق 2 ) والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ( النساء 6 ) والاشهاد لا يصح قبل البلوغ وانما يصح بعد البلوغ
الطريق الثاني أن نقول المراد باليتامى الصغار وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان أحدهما ان قوله وَأْتُواْ أمر والامر انما يتناول المستقبل فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم وعلى هذا الوجه زالت المناقضة والثاني المراد وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون اليه لنفقتهم وكسوتهم والفائدة فيه انه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا فأباح الله تعالى ذلك وفيه إشكال وهو انه لو كان المراد ذلك لقال وآتوهم من أموالهم فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك
المسألة الرابعة نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم فشكوا ذلك الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( البقرة 220 ) قال أبو بكر الرازي وأظن أنه غلط من الراوي لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أنزل الله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( البقرة 152 ) و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فاشتد ذلك على اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى شرابه فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم قال المفسرون الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فتراجعا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع ماله اليه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره ) أي جنته فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثبت الأجر وبقي الوزر ) فقالوا يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله فقال ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده
المسألة الخامسة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين قال لأن قوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال اليه وهذا الاجماع لم يوجد بعد هذا السن فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الآية عامة لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ( النساء 6 ) وبقوله وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ ( النساء 5 ) حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ولا شك أن الخاص مقدم على العام
ثم قال تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ولا تتبدلوا أي ولا تستبدلوا والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار وقال الواحدي رحمه الله يقال تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه
المسألة الثانية في تفسير هذا التبدل وجوه
الوجه الأول قال الفراء والزجاج لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه الثاني لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون يجعل الزائف بدل الجيد والمهزول بدل السمين وطعن صاحب ( الكشاف ) في هذا الوجه فقال ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي الرابع هو أن هذا التبدل معناه أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب
ثم قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ وفيه وجهان الأول معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها والثاني أن يكون ( إلى ) بمعنى ( مع ) قال تعالى مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( آل عمران 52 ) أي مع الله والأول أصح
واعلم أنه تعالى وان ذكر الأكل فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل فثبت ان المراد منه التصرف وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف
فان قيل انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم
قلنا لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى كان القبح أبلغ والذم أحق
واعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك ان أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً قال الواحدي رحمه الله الكناية تعود إلى الأكل وذلك لأن قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ دل على الأكل والحوب الاثم الكبير قال عليه الصلاة والسلام ( ان طلاق أم أيوب لحوب ) وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء الحوب لأهل الحجاز والحاب لتميم ومعناه الاثم قال عليه الصلاة والسلام ( رب تقبل توبتي واغسل حوبتي ) قال صاحب ( الكشاف ) الحوب والحاب كالقول والقال قال القفال وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه وقال البصريون الحوب بفتح الحاء مصدر والحوب بالضم الاسم والحوبة المرة الواحدة ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فانه اسم ثم يقال قد كلمته كلاما فيصير مصدرا قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن حوبا وقرىء حابا
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ
اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الاقساط العدل يقال أقسط الرجل إذا عدل قال الله تعالى بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الحجرات 9 ) والقسط العدل والنصفة قال تعالى كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ( النساء 135 ) قال الزجاج وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب فاذا قالوا قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ألا ترى أنهم قالوا قاسطته إذا غلبته على قسطه فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه
المسألة الثانية اعلم أن قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ شرط وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء جزاء ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه الأول روي عن عروة أنه قال قلت لعائشة ما معنى قول الله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها فقال تعالى ( وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء قالت عائشة رضي الله عنها ثم إن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء قالت وقوله تعالى وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء ( النساء 127 ) المراد منه هذه الآية وهي قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ
الوجه الثاني في تأويل الآية انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى فتحرجوا من ولايتهم وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء فقالوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج
الوجه الثالث في التأويل أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات
الوجه الرابع في التأويل ما روي عن عكرمة أنه قال كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوالَ الْيَتَامَى عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه تعالى قال فان خفتم من الأربع فثلاث فان خفتم فاثنتان فان خفتم فواحدة وهذا القول أقرب فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير
أما قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَن لا تَعُولُواْ
ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أصحاب الظاهر النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية وذلك لأن قوله فَانكِحُواْ أمر وظاهر الأمر للوجوب وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 25 ) الى قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بمندوب فضلا عن أن يقال إنه واجب
المسألة الثانية إنما قال مَا طَابَ ولم يقل من طاب لوجوه أحدها أنه أراد به الجنس تقول ما عندك فيقول رجل أو امرأة والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك وما تلك الحقيقة التي عندك وثانيها أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر وتقديره فانكحوا الطيب من النساء وثالثها ان ( ما ) و ( من ) ربما يتعاقبان قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقال وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 2 )
وحكى أبو عمرو بن العلاء سبحان ما سبح له الرعد وقال فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ ( النور 45 ) ورابعها إنما ذكر ( ما ) تنزيلا للاناث منزلة غير العقلاء ومنه قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 30 )
المسألة الثالثة قال الواحدي وصاحب ( الكشاف ) قوله مَا طَابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ( النساء 23 ) وهذا عندي فيه نظر وذلك لأنا بينا أن قوله فَانكِحُواْ أمر إباحة فلو كان المراد بقوله مَا طَابَ لَكُمْ أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم وذلك يخرج الآية عن الفائدة وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عاما دخله التخصيص وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص والمجمل لا يكون حجة أصلا
المسألة الرابعة مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ معناه اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وهو غير منصرف وفيه وجهان الأول أنه اجتمع فيها أمران العدل والوصف أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى كما تقول عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا فكذا ههنا تريد بقولك مثنى ثنتين ثنتين فكان معدولا وأما أنه وصف فدليله قوله تعالى أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فاطر 1 ) ولا شك أنه وصف
الوجه الثاني في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه وأيضا انها معدولة عن تكررها فانك لا تريد بقولك مثنى ثنتين فقط بل ثنتين ثنتين فاذا قلت جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الاخبار عن مجيء هذا العدد فقط أما إذا قلت جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه ويدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ( النحل 75 ) فقوله لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ينفي كونه مستقلا بالنكاح وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ) فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون
العبيد وقال مالك يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية
والجواب الذي يعتمد عليه أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه الأول أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار والثاني أنه تعالى قال فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر بل يكون لسيده قال مالك إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس قالوا أجمعنا على أن للرق تأثيراً في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم
المسألة السادسة ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد واحتجوا بالقرآن والخبر أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه الأول أن قوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا والثاني أن قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ لا يصلح تخصيصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي بل نقول ان ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا فان الانسان إذا قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة اليه مطلقاً ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ولا يكون ذلك تخصيصاً للاذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر فاذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء كان ذلك تنبيها على حصول الاذن في جميع الأعداد والثالث أن الواو للجمع المطلق فقوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يفيد حل هذا المجموع وهو يفيد تسعة بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر لان قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية وأما الخبر فمن وجهين الأول أنه ثبت بالتواتر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مات عن تسع ثم ان الله تعالى أمرنا باتباعه فقال فَاتَّبَعُوهُ وأقل مراتب الأمر الاباحة الثاني أن سنة الرجل طريقته وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان ذلك سنة له ثم انه عليه السلام قال ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين الأول الخبر وهو ما روي ان غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمسك أربعا وفارق باقيهن وروي ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام ( أمسك أربعا وفارق واحدة )
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان
ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز والثاني وهو أن الخبر واقعة حال فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله
الطريق الثاني وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد وفيه سؤالان الأول أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ فكيف يقال الاجماع نسخ هذه الآية الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والاجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد
والجواب عن الأول الاجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعن الثاني أن مخالف هذا الاجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته
فان قيل فاذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع فلم جاء بواو العطف دون ( أو )
قلنا لو جاء بكلمة ( أو ) لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ونظيره أن يقول الرجل للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة فكذا ههنا الفائدة في ترك ( أو ) وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم
المسألة السابعة قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ محله النصب على الحال مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا
قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا عليك أكثرت منهم أم أقللت عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل عزلت عنهن أم لم تعزل
المسألة الثانية قرىء فَواحِدَة ً بنصب التاء والمعنى فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا فان الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتم العدل فعليكم به وقرىء فَواحِدَة ً بالرفع والتقدير فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم
المسألة الثالثة للشافعي رحمة الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات
أفضل من النكاح وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة كما إذا قال الطبيب كل التفاح أو الرمان فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض وكما أن الآية دلت على هذه التسوية فكذلك العقل يدل عليها لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت وكل ذلك حاصل بالطريقين وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري واذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان فنقول أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة
ثم قال تعالى ذَلِكَ أَدْنَى أَن لا تَعُولُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من الادنى ههنا الاقرب والتقدير ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف ( من ) لدلالة الكلام عليه
المسألة الثانية في تفسير أَن لا تَعُولُواْ وجوه الأول معناه لا تجوروا ولا تميلوا وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ قال ( لا تجوروا ) وفي رواية أخرى ( أن لا تميلوا ) قال الواحدي رحمه الله كلا اللفظين مروي وأصل العول الميل يقال عال الميزان عولا إذا مال وعال الحاكم في حكمه إذا جار لانه إذا جار فقد مال وأنشدوا لأبي طالب
بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له أتعول علي ويقال عالت الفريضة إذا زادت سهامها وقد أعلتها أنا إذا ازدت في سهامها ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ثم اختص بحسب العرف بالميل الى الجور والظلم فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب اليه الأكثرون
الوجه الثاني قال بعضهم المراد أن لا تفتقروا يقال رجل عائل أي فقير وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته واذا قلت نفقاته لم يفتقر
الوجه الثالث نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال ( ذلك أدنى أن لا تعولوا معناه ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا ولا تجوروا وثانيها أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما فأما تفسير معناه ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا ولا تجوروا وثانيها أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما فأما تفسير تَعُولُواْ بتعيلوا فانه خطأ في اللغة وثالثها أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والاماء في العيال بمنزلة النساء ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا وهو أنه تعالى قال في أول الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً ولم يقل أن تفتقروا
فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وذلك هو الجور لا كثرة العيال وأنا أقول
أما السؤال الأول فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية أن لا تجوروا ولا تميلوا ولكنه ذكر فيه وجها آخر وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف وأيضا فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين وكيف لا نقول ذلك ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ ذلك أدنى أن لا تعيلوا واذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن
وأما السؤال الثاني فنقول انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والاعلام وشدة بلادتك ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد وبيان فساده من وجوه الأول أنه يقال عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة وهذا المعنى قريب من الميل لانه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة واذا كان كذلك كان معنى الآية ذلك أدنى أن لا تكثروا واذا لم تكثروا لم يقع الانسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير الى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور
الوجه الثاني ان الانسان إذا قال فلان طويل النجاد كثير الرماد فاذا قيل له ما معناه حسن أن يقال معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض وحاصله يرجع الى حرف واحد وهو الاشارة الى الشيء بذكر لوازمه فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل الكناية والاستلزام وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب المطابقة بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه
الوجه الثالث ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة
وأما السؤال الثالث وهو قوله إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو مملوكة فجوابه من وجهين الأول ما ذكره القفال رضي الله عنه وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب وإذا
اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الامر كذلك فظهر الفرق الثاني ان المرأة إذا كانت مملوكة فاذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها أما إذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فانها لا تطالبه بالمهر فاذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة
وأما السؤال الرابع وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم فالجواب عنه من وجهين الأول ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح لانه لو حمل على الجور لكان تكراراً لانه فهم ذلك من قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى الثاني أن نقول هب أن الامر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق الى ذكر التفسير الأول لكن على سبيل الكناية والتعريض واذا كان الامر كذلك فقد زال هذا السؤال فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق
وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتُواْ النّسَاء خطاب لمن فيه قولان أحدهما ان هذا خطاب لأولياء النساء وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت هنيئا لك النافجة ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه وقال ابن الاعرابي النافجة يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق الى أهله وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة
القول الثاني ان الخطاب للأزواج أمروا بايتاء النساء مهورهن وهذا قول علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج
المسألة الثانية قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة ويحتمل أن يكون المراد الالتزام قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ ( التوبة 29 ) والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الموهوبة ثم قال رحمه الله ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا والله أعلم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) صَدُقَاتِهِنَّ مهورهن وفي حديث شريح قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ صَدُقَاتِهِنَّ بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و صَدُقَاتِهِنَّ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة وقرىء صَدُقَاتِهِنَّ بضم الصاد والدل على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة ظلمة قال الواحدي موضوع صدق على هذا الترتيب للكمال والصحة فسمي المهر صداقا وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل
المسألة الرابعة في تفسير النحلة وجوه الأول قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد فريضة وإنما فسروا النحلة بالفريضة لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب يقال فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به ونحلته كذا أي دينه ومذهبه فقوله أَتَوْا النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً أي آتوهن مهورهن فانها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة الثاني قال الكلبي نحلة أي عطية وهبة يقال نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا قال القفال وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله يقال هذا شعر منحول أي مضاف إلى غير قائله وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن فيه احتمالان أحدهما أنه عطية من الزوج وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء
والقول الثالث في تفسير النحلة قال أبو عبيدة معنى قوله نِحْلَة ً أي عن طيب نفس وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة
المسألة الخامسة إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان أحدهما أن يكون مفعولا له والمعنى آتوهن مهورهن ديانة والثاني أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان أحدهما أنه نصب على المصدر وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء فكأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم والثاني أنها نصب على الحال ثم فيه وجهان أحدهما على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء والثاني على الحال من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رضي الله عنه الخلوة الصحيحة تقرر المهر وقال الشافعي رضي الله عنه لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام
قوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى نفسا نصب على التمييز والمعنى طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسرة كما قالوا أنت حسن وجها والفعل في الأصل للوجه فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل ومثله قررت به عيناً وضقت به ذرعا
المسألة الثانية إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما قال الفراء لو جمعت كان صوابا كقوله الاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الكهف 103 )
المسألة الثالثة من في قوله مِنْهُ ليس للتبعيض بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية
المسألة الرابعة منه أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) بعد ذكر الشهوات وروي أنه لما قال رؤبة
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له الضمير في قوله ( كأنه ) ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول كأنها وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول كأنهما فقال أردت كأن ذاك وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا وفيه وجه ثالث وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق
المسألة الخامسة معنى الآية فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن أو سوء معاشرتكم معهن فكلوه وأنفقوه وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال فَإِن طِبْنَ ولم يقل فان وهبن أو سمحن إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة
المسألة السادسة الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه وقيل الهنىء ما يستلذه الآكل والمريء ما يحمد عاقبته وقيل ما ينساغ في مجراه وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران فالهنيء شفاء من الجرب قال المفسرون المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة وبالجملة فهو عبارة عن التحليل والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة
المسألة السابعة قوله هَنِيئاً مَّرِيئاً وصف للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا أو حال من الضمير أي كلوهو وهو هنيء مريء وقد يوقف على قوله فَكُلُوهُ ثم يبتدأ بقوله هَنِيئاً مَّرِيئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل هنأ مرأ
المسألة الثامنة دلت هذه الآية على أمور منها ان المهر لها ولا حق للولي فيه ومنها جواز هبتها المهر للزوج وجواز أن يأخذه الزوج لأن قوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً يدل على المعنيين ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين
وههنا بحث وهو أن قوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً يتناول ما إذ كان المهر عينا أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له فانه لا يقال لما في الذمة كله هنيئاً مريئاً
قلنا المراد بقوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ليس نفس الأكل بل المراد منه حل التصرفات وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
المسألة التاسعة قال بعض العلماء ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً وعن الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح رد عليها فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء فقال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه وروي عنه أيضا أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه فلبث شهرا ثم طلقها فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان فقال الرجل أعطتني طيبة به نفسها فقال عبد الملك فان الآية التي بعدها فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً اردد عليها وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته ان النساء يعطين رغبة ورهبة فايما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها والله أعلم
وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم فأما إذا كانوا غير بالغين أو غير عقلاء أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال أيها الأولياء لا تؤتوا
الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه
فان قيل فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال ولا تؤتوا السفهاء أموالهم فلم قال أموالكم
قلنا في الجواب وجهان الأول أنه تعالى أضاف المال اليهم لا لأنهم ملكوه لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب الثاني إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص ونظيره قوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) وقوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 36 ) وقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ وقوله ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 85 ) ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الانسان ويحتاج اليه فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء الى أوليائهم
والقول الثاني أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها اليهم لما كان في ذلك من الافساد فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال اليهم حقيقة وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها واذا قرب أجله فانه يجب عليه أن يوصي بماله الى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع الى السفهاء أموالهم واذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم الثاني أنه قال في آخر الآية وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه لان المرء مشفق بطبعه على ولده فلا يقول له إلا المعروف وإنما يحتاج الى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين قال القاضي هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله أَمْوالَكُمْ على الحقيقة والمجاز جميعا ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله أَمْوالَكُمْ يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي إلا أنه يجب تصرفه فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله أَمْوالَكُمْ واذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما
المسألة الثانية ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها الأول قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء ههنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات وهذا مذهب ابن عمر ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها )
فان قيل لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال السفائه أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة
أجاب الزجاج بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز
والقول الثاني قال الزهري وابن زيد عني بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد يقول لا تعط مالك الذي هو قيامك ولدك السفيه فيفسده
القول الثالث المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير قالوا إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده
والقول الرابع أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ويدخل فيه النساء والصبيان والايتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل ولذلك سمي الفاسق سفيها لانه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله
المسألة الثالثة أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الاموال
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال قال تعالى وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ ( الإسراء 26 27 ) وقال تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً ( الإسراء 29 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 ) وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن والعقل أيضاً يؤيد ذلك لأن الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة
المسألة الخامسة قوله تعالى الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم وقرأ نافع وابن عامر الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قَيِّماً وقد يقال هذا قيم وقيم كما قال ( دينا قيما ملة إبراهيم ) وقرأ عبدالله بن عمر ( قواما ) بالواو وقوام الشيء ما يقام به كقولك ملاك الأمر لما يملك به
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يحجر عليه حجة الشافعي أنه سفيه فوجب أن يحجر عليه إنما قلنا إنه سفيه لأن السفيه في اللغة هو من خف وزنه ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء فكان خفيف الوزن عندهم فوجب أن يسمى بالسفيه وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ
ثم قال تعالى وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء أولها قوله وَارْزُقُوهُمْ ومعناه وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال فلان رزق عياله أي أجرى عليهم وإنما قال فِيهَا ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال وثانيها قوله وَاكْسُوهُمْ والمراد ظاهر وثالثها قوله وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها أحدها قال ابن جريج ومجاهد انه العدة الجميلة من البر والصلة وقال ابن عباس هو مثل أن يقول إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله وان غنمت في غزاتي أعطيتك وثانيها قال ابن زيد انه الدعاء مثل أن يقول عافانا الله وإياك بارك الله فيك وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر وثالثها قال الزجاج المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ورابعها قال القفال رحمه الله القول المعروف هو أنه ان كان المولى عليه صبيا فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له وأنه إذا زال صباه فانه يرد المال اليه ونظير هذه الآية قوله فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ( الضحى 9 ) معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وكذا قوله وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ( الإسراء 28 ( وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والاسراف وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها
وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( النساء 2 ) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس الرشد ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه غير صحيحة احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لان قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء يقال وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فثبت أن قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال ليس المراد بقوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر لأنه لا قائل بالفرق فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي وأما الذي احتجوا به فجوابه أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء وأيضا هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء وهذا محتمل والله أعلم
المسألة الثانية المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ ( النور 59 ) وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث وهو الاحتلام والسن المخصوص ونبات الشعر الخشن على العانة واثنان منها مختصان بالنساء وهما الحيض والحبل
المسألة الثالثة أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد أما الايناس فقوله ءانَسْتُمْ أي عرفتم وقيل رأيتم وأصل الايناس في اللغة الابصار ومنه قوله مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ ( القصص 29 ) وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله بل لا بد وأن يكون هذا مراداً وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر والأول أولى ويدل عليه وجوه أحدها أن أهل اللغة قالوا الرشد هو إصابة الخير والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير وثانيها أن الرشد نقيض الغي قال تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) فجعل العاصي غويا وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين وثالثها أنه تعالى قال وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم
إذا عرفت هذا فنقول فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه
المسألة الرابعة اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فانه لا يدفع اليه ماله ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة فاذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة فاذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام ( مروهم بالصلاة لسبع ) فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال فعندها يدفع اليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ثم قال وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ ويجب أن يكون المراد فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه فانه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه فاذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة وجب أن لا يجوز دفع المال اليه والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به فاذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي فثبت أنه لا وجه لقول من يقول انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد
المسألة الخامسة إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النسار 5 ) والقياس الجلي أيضا يدل عليه لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء فوجب اعتباره والله أعلم
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن مسعود فان أحستم بمعنى أحسستم قال
أحسن به فهن اليه شوس
وقرىء رشدا بفتحتين ورشداً بضمتين
ثم قال تعالى فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال اليهم وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل
ثم قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ قال الواحدي رحمه الله استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه وقال صاحب ( الكشاف ) استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم وفي هذه المسألة أقوال أحدهما أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول أن قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة وثانيها أنه قال وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فقوله وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة وثالثها قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً فائدة وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف ورابعها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلا قال له ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله قال بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله قال أفأضربه قال مما كنت ضاربا منه ولدك وخامسها ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف سلام عليكم أما بعد فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار وربعها لعبدالله ابن مسعود وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له أفأشرب من لبن إبله قال إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها وسادسها أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم فكذا ههنا فهذا تقرير هذا القول
والقول الثاني أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا ثم إذا أيسر قضاه وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية وأكثر الروايات عن ابن عباس وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها فأما التناول من
ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال وهذا قول أبي العالية وغيره واحتجوا بأن الله تعالى قال فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فحكم في الأموال بدفعها اليهم
والقول الثالث قال أبو بكر الرازي الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنيا أو فقيرا واحتج عليه بآيات منها قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ إلى قوله إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) ومنها قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( النساء 10 ) ومنها قَوْلُهُ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ( النساء 127 ) ومنها قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) قال فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر وقوله وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي اليه أما قوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة والخاص مقدم على العام وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم وهل النزاع الا فيه وهو الجواب بعينه عن قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ أما قوله وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط والنزاع ليس إلا فيه فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك والله أعلم
ثم قال تعالى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه أحدها أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له وثانيها أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه ثالثها أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ونظيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب ) فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق وكذلك لو قال أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق قال مالك والشافعي لا يصدق وقال أبو حنيفة وأصحابه يصدق واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ أمر وظاهر الأمر الوجوب وأيضا قال الشافعي القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه فيقال له ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه أما النقض بالقاضي فبعيد لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ويلزم التسلسل ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين أحدهما
ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره فههنا يجب أن يقبل قوله والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية فيقع الخلل في هذا المهم العظيم فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة وهو قوله وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم
ثم قال بعده فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال اليه إلا عند حضور الشاهد صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله فَأَشْهِدُواْ كما أنه يجب لظاهر الايجاب فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب ثم قال هذا الرازي ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه فهو بمنزلة الودائع والمضاربات فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة فيقال له أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله ومثل هذا الفقه مسلم لك ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً قال ابن الانباري والأزهري يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب وأن يكون بمعنى الكافي فمن الأول قولهم للرجل للتهديد حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب قولنا الشريب بمعنى المشارب ومن الثاني قولهم حسيبك الله أي كافيك الله
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي
واعلم أن الباء في قوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَكَفَى بِرَبّكَ ( الإسراء 65 ) في جميع القرآن زائدة هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و حَسِيباً نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا وحال كونه كافيا
لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس ان أوس بن ثابت الانصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما سويد وعرفجة وأخذا ماله فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرت القصة وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا وما دفعا إلى بناته شيئا من المال فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك ) فنزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية فأرسل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الوصيين وقال ( لا تقربا من مال أوس شيئا ) ثم نزل بعد يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( مريم 11 ) ونزل فرض الزوج وفرض المرأة فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه اليها فهذا هو الكلام في سبب النزول
المسألة الثانية كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء فذكر في هذه الآية هذا القدر ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلاً على التدريج لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع فاذا كان دفعة عظم وقعه على القلب وإذا كان على التدريج سهل فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل
المسألة الثالثة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الارحام قال لأن العمات والخالات والاخوال وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين أحدهما انه تعالى قال في آخر الآية نَصِيباً مَّفْرُوضاً أي نصيبا مقدرا وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية وثانيهما أن هذه الآية مختصة بالأقربين فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء والأول باطل لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه وما ذاك إلا الوالدان والأولاد فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام لا يقال لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار لأنا نقول الأقرب جنس يندرج تحته نوعان الوالد والولد فثبت أنه تعالى ذكر الوالد ثم ذكر الأقربين فيكون المعنى أنه ذكر النوع ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار
المسألة الرابعة قوله نَصِيباً في نصبه وجوه أحدها أنه نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا والثاني يجوز أن ينتصب انتصاب المصدر لأن النصيب اسم في معنى المصدر كأنه قيل قسما واجبا كقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ( التوبة 60 النساء 11 ) أي قسمة مفروضة
المسألة الخامسة أصل الفرض الحز ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضاً والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضاً وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها والفرضة العلامة في مقسم الماء يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب فهذا هو أصل الفرض في اللغة ثم ان أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون قالوا لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع وأما الوجوب فانه عبارة عن السقوط يقال وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذا سقط وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( الحج 36 ) يعني سقطت فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع وأن الوجوب عبارة عن السقوط ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون
إذا عرفت هذا فنقول هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة فلم يكن توريثهم فرضاً والآية إنما تناولت التوريث المفروض فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام والله أعلم
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ ليس فيه بيان أي قسمة هي فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال الأول أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة فان تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع اليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال إن ذلك واجب ومنهم من قال إنه مندوب أما القائلون بالوجوب فقد اختلفوا في أمور أحدها أن منهم من قال الوارث إن كان كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به وإن كان صغيراً وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال ومنهم من قال إن كان الوارث كبيراً وجب عليه الاعطاء من ذلك المال وإن كان صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال
إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق وان يكبروا فسيعرفون حقكم فهذا هو القول المعروف وثانيها قال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فاذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قال لهم قولا معروفا مثل أن يقول لهم ارجعوا بارك الله فيكم وثالثها قالوا مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل ولا تقدير فيه بالاجماع ورابعها أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة قال ابن عباس في رواية عطاء وهذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة روي أن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه وعائشة حية فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه وتلا هذه الآية فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب ومنهم من قال انه ثبت على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الفرض والايجاب وهذا الندب أيضا إنما يحصل إذا كانت الورثة كباراً أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب
القول الثاني في تفسير الآية أن المراد بالقسمة الوصية فاذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا في الوقت فيكون ذلك سببا لوصول السرور اليهم في الحال والاستقبال والقول الأول أولى لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية ويمكن أن يقال هذا القول أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية
القول الثالث في تفسير الآية أن قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى فالمراد من أُوْلِى الْقُرْبَى الذين يرثون والمراد من الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ الذين لا يرثون
ثم قال فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً فقوله فَارْزُقُوهُمْ راجع الى القربى الذين يرثون وقوله وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً راجع الى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون وهذا القول محكى عن سعيد بن جبير
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف الضمير في قوله فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون وقال الواحدي الضمير عائد الى الميراث فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة لا الى لفظها كقوله ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ ( يوسف 76 ) والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث لكن أريد به المشربة فعادت الكناية الى المعنى لا الى اللفظ وعلى هذا التقدير فالمراد بالقسمة المقسوم لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة
المسألة الثالثة إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر وحاجتهم أشد فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر
المسألة الرابعة الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الجملة الشرطية وهو قوله لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ هي صلة لقوله الَّذِينَ والمعنى وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه وسنذكر وجوه المفسرين فيه
المسألة الثانية لا شك أن قوله وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ يوجب الاحتياط للذرية الضعاف وللمفسرين فيه وجوه الأول أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون ان ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا فأوص بمالك لفلان وفلان ولا يزالون يأمرونه بالوصية الى الأجانب الى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا فقيل لهم كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم عن أنس قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
والقول الثاني قال حبيب بن أبي ثابت سألت مقسما عن هذه الآية فقال هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده اتق الله وأمسك على ولدك مالك مع أن ذلك الانسان يحب أن يوصي له ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية والأولى أولى لأن قوله لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً أشبه بالوجه الأول وأقرب اليه
والقول الثالث يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث وخبر سعد يدل عليه وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )
والقول الرابع أن هذا أمر لأولياء اليتيم فكأنه تعالى قال وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا قال القاضي وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ضعفاء وضعافى وضعافى نحو سكارى وسكارى قال الواحدي قرأ حمزة ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ بالامالة فيهما ثم قال ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال وكان أوله حرفا مستعلياً مكسوراً نحو ضعاف وغلاب وخباب يحسن فيه الإمالة وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة وأما الإمالة في خَافُواْ فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ثم قال فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً وهو كالتقرير لما تقدم فكأنه قال فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل والقول السديد هو العدل والصواب من القول قال صاحب ( الكشاف ) القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني يا ولدي والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تحجف بأولادك مثل قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالاكرام
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك كقوله وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً ( النساء 9 ) ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف
المسألة الثانية قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً فيه قولان الأول أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه
وعينيه يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء فقال هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما )
والقول الثاني ان ذلك توسع والمراد ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) قال القاضي وهذا أولى من الأول لأن قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً الاشارة فيه إلى كل واحد فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى
المسألة الثالثة لقائل أن يقول الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً
وجوابه أنه كقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) والقول لا يكون إلا بالفهم وقال وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) والقلب لا يكون إلا في الصدر وقال وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) والطيران لا يكون إلا بالجناح والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة
المسألة الرابعة انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل أو بطريق آخر وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه أحدها أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها فخرج الكلام على عادتهم وثانيها أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا أنه يقال إنه أكل ماله وثالثها أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات
المسألة الخامسة قالت المعتزلة الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل سواء كان مسلما أو لم يكن لأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة ثم نقول لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) ثم قالت المعتزلة ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية وإذا كان كذلك فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله فقال أبو علي الجبائي قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة هذا جملة ما ذكره القاضي فيقال له فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما أنك زدت فيه شرط عدم التوبة والثاني أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو أقصى ما في الباب أن يقال ما وجدنا دليلا يدل على حصول العفو لكنا نجيب عنه من وجهين أحدهما أنا لا نسلم عدم دلائل العفو بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة والثاني هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا
يفيد القطع بعدم الوجود بل يبقى الاحتمال وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم والله أعلم
المسألة السادسة أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ولا شك أن هذا الوعيد أشد والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح فكان الوعيد أشد ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب أما اليتيم فانه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد
ثم قال تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء وهو صالي النار وقوم صالون وصلاء قال تعالى إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقال أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ( مريم 70 ) وقال جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ( إبراهيم 29 ص 56 المجادلة 8 ) قال الفراء الصلي اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت وإذا فتحت قصرت ومن ضم الياء فهو من قولهم أصلاه الله حر النار اصلاء قال فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( النساء 30 ) وقال تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( المدثر 26 ) قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سيصلون بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها
المسألة الثانية السعير هو النار المستعرة يقال سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة وإنما قال وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى
المسألة الثالثة روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) ومن الجهال من قال صارت هذه الآية منسوخة بتلك وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر كما في قوله وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله أعلم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة ً فَلَهَا النِّصْفُ وَلاًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّ مِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلاٌّ مِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر العهد أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الاناث وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة وأما العهد فمن وجهين الأول الحلف كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فاذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت والثاني التبني فان الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة ولما بعث الله محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية ومن العلماء من قال بل قررهم الله على ذلك فقال وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِى َ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 33 ) والمراد التوارث بالنسب ثم قال وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ( النساء 33 ) والمراد به التوارث بالعهد والأولون قالوا المراد بقوله وَالَّذِينَ عَلِيماً وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِى َ ليس المراد منه النصيب من المال بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية
وأما أسباب التوارث في الإسلام فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني وزاد فيه أمرين آخرين أحدهما الهجرة فكان المهاجر يرث من المهاجر وان كان أجنبيا عنه إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه والثاني المؤاخاة كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يؤاخي بين كل اثنين منهم وكان ذلك سببا للتوارث ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأحزاب 6 ) والذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة النسب والنكاح والولاء
المسألة الثانية روى عطاء قال استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا فأخذ الأخ المال كله فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما فقال عليه الصلاة والسلام ( ارجعي فلعل الله سيقضي فيه ) ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمهما وقال ( أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك فهذا أول ميراث قسم في الاسلام
المسألة الثالثة في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالارث ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث الثاني أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالاجمال في قوله لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 7 ) فذكر عقيب ذلك المجمل هذا المفصل فقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ
المسألة الرابعة قال القفال قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ أي يقول الله لكم قولا يوصلكم الى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم وأصل الايصاء هو الايصال يقال وصى يصي إذا وصل وأوصى يوصي إذا أوصل فاذا قيل أوصاني فمعناه أوصلني الى علم ما أحتاج إلى علمه وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج معنى قوله ههنا يُوصِيكُمُ أي يفرض عليكم لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ولا شك في كون ذلك واجبا علينا
فان قيل انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
قلنا لما كانت الوصية قولا لا جرم ذكر بعد قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ خبرا مستأنفا وقال لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ونظيره قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الفتح 29 ) أي قال الله لهم مغفرة لأن الوعد قول
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الانسان بولده أشد التعلقات ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني ) فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم
واعلم أن للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع الوالدين أما حال الانفراد فثلاثة وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والاناث معا وإما أن يخلف الاناث فقط أو الذكور فقط
القسم الأول ما إذا خلف الذكران والاناث معا وقد بين الله الحكم فيه بقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
واعلم أن هذا يفيد أحكاما أحدهما إذا خلف الميت ذكراً واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم وثانيها إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الاناث كان لكل ذكر سهمان ولك أنثى سهم وثالثها إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يفيد هذه الأحكام الكثيرة
القسم الثاني ما إذا مات وخلف الاناث فقط بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين فلهن الثلثان وإن كانت واحدة فلها النصف إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح واختلفوا فيه فعن ابن عباس أنه قال الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا وأما فرض البنتين فهو النصف واحتج عليه بأنه تعالى قال فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وكلمة ( إن ) في اللغة للاشتراط وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعداً وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين
والجواب من وجوه الأول أن هذا الكلام لازم على ابن عباس لأنه تعالى قال وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله الثاني أنا لا نسلم أن كلمة ( ان ) تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين لأن الاجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف وإما الثلثان وبتقدير أن يكون كلمة ( إن ) للاشتراط وجب القول بفسادهما فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ولأنه تعالى قال وَإِن لَّمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ ( البقرة 283 ) وقال لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات
الوجه الثالث في الجواب هو أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان قالوا وإنما عرفنا ذلك بوجوه الأول قال أبو مسلم الاصفهاني عرفناه من قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فاذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين الثاني قال أبو بكر الرازي إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فاذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى الثالث أن قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص واذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان لأنه لا قائل بالفرق والرابع أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين وذلك يدل على ما قلناه الخامس أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ولم يذكر حكم الثنتين وقال في شرح ميراث الأخوات إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه فنقول لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب الى الميت من الأختين ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب فالوجوه الثلاثة الاول مستنبطة من الآية والرابع مأخوذ من السنة والخامس من القياس الجلي
أما القسم الثالث وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول أما الابن الواحد فانه إذا انفرد أخذ كل المال وبيانه من وجوه الاول من دلالة قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 176 ) فان هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين
ثم قال تعالى في البنات وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال الثاني أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام ( ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر ) ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل الثالث ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن وليس له بالاجماع قدر معين من الميراث فاذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد فوجب أن يأخذ الكل
فان قيل حظ الانثيين هو الثلثان فقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث وذلك ينفي أن يأخذ كل المال
قلنا المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ويدل عليه وجهان أحدهما ان قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ يقتضي حصول الأولاد وقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي حصول الذكر والانثى هناك والثاني أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك وأما ثانيا فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها وأما ثالثا فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل
والجواب عنه من وجوه الأول أن خرج المرأة أقل لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج الثاني أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية مثل صلاحية القضاء والامامة وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد الثالث ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة فاذا انضاف اليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر
إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وحال الرجل بخلاف ذلك والرابع أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة نحو بناء الرباطات وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك الخامس روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل
السؤال الثاني لم لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر
والجواب من وجوه الأول لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى الثاني أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام ولو قال كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل ولهذا قال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فذكر الاحسان مرتين والاساءة مرة واحدة الثالث أنهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث وهو السبب لورود هذه الآية فقيل كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى فلا ينبغى له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية والله أعلم
المسألة السادسة لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ ( الأعراف 26 ) وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ ( البقرة 40 ) الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازاً أو حقيقة
فان قلنا إنه مجاز فنقول ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ولد الصلب وولد الابن معا
واعلم أن الطريق في دفع هذا الاشكال أن يقال انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين إما عند عدم ولد الصلب رأسا وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث فحينئذ يقتسمون الباقي وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحداً أما إذا قلنا ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الاشكال لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الانسان والفرس والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ( النساء 23 ) وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن فعلمنا أن لفظ الابن متواطىء بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الاجداد والجدات ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة فان الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ زعموا أنه مخصوص في صور أربعة أحدها أن الحر والعبد لا يتوارثان وثانيها أن القاتل على سبيل العمد لا يرث وثالثها أنه لا يتوارث أهل ملتين وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض ويتفرع عليه فرعان
الفرع الأول اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم أما المسلم فهل يرث من الكافر ذهب الأكثرون إلى أنه أيضاً لا يرث وقال بعضهم إنه يرث قال الشعبي قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث فلما أمره زياد
بذلك كان يقضي به ويقول هكذا قضى أمير المؤمنين
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) وحجة القول الثاني ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي توريث الكافر من المسلم والمسلم من الكافر إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) أخص من قوله ( لا يتوارث أهل ملتين ) فوجب تقديمه عليه بل هذا التخصيص أولى لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية والخبر الأول ليس كذلك وأقصى ما قيل في جوابه أن قوله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ليس نصا في واقعة الميراث فوجب حمله على سائر الاحوال
الفرع الثاني المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث بل يكون لبيت المال أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان قال الشافعي لا يورث بل يكون لبيت المال وقال أبو حنيفة يرثه ورثته من المسلمين حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) على عموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين فوجب أن لا يحصل التوارث
فان قيل لا يجوز أن يقال إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر
قلنا لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته والأول باطل ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) وهو بالاجماع باطل والثاني باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين وهو خلاف الخبر ولا يبقى ههنا إلا أن يقال إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه إلا أن القول بالاستناد باطل لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي وذلك باطل في بداهة العقول وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد وقد أبطلناه والله أعلم
الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون والشيعة خالفوا فيه روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ثم ان الشيعة قالوا بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا وبيانه من ثلاثة أوجه أحدها أنه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ ( مريم 6 ) وقوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 16 ) قالوا ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة بل
يكون كسباً جديداً مبتدأ إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة وثانيها أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة وثالثها يحتمل أن قوله ( ما تركناه صدقة ) صلة لقوله ( لا نورث ) والتقدير أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث
فان قيل فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك
قلنا بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم
والجواب أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال والله أعلم
المسألة الثامنة من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ معناه للذكر منهم فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم كقولك السمن منوان بدرهم والله أعلم
أما قوله تعالى فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن وقوله فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان وأن يكون صفة لقوله نِسَاء أي نساء زائدات على اثنتين وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد لا لبيان حظ الأنثيين فكيف يحسن إرادته بقوله فَإِن كُنَّ نِسَاء وهو لبيان حظ الاناث
والجواب من وجهين الأول أنا بينا أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ على معنى فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للثنتين وهو الثلثان ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت فثبت أن هذا العطف متناسب الثاني أنه قد تقدم ذكر الأنثيين فكفى هذا القول في حسن هذا العطف
السؤال الثاني هل يصح أن يكون الضميران في ( كن ) و ( كانت ) مبهمين ويكون ( نساء ) و ( واحدة ) تفسيراً لهما على ان ( كان ) تامة
الجواب ذكر صاحب ( الكشاف ) أنه ليس ببعيد
السؤال الثالث النساء جمع وأقل الجمع ثلاثة فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين
الجواب من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته ومن يقول هو ثلاثة قال هذا للتأكيد كما في قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ
أما قوله تعالى وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فنقول قرأ نافع ( واحدة ) بالرفع والباقون بالنصب أما الرفع فعلى كان التامة والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله فَإِن كُنَّ نِسَاء ( النحل 51 ) والتقدير فان كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا التقدير وإن كانت المتروكة واحدة وقرأ زيد بن علي النصف بضم النون
قوله تعالى وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الربع و الثُّمُنُ
المسألة الثانية اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال
الحالة الأولى أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية واعلم أنه لا نزاع أن اسم لولد يقع على الذكر والانثى فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه أحدها أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد أو أكثر من واحد فههنا الابوان لكل واحد منهما السدس وثانيها أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا وثالثها أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب وههنا سؤالات
السؤال الأول لا شك أن حق الوالدين على الانسان أعظم من حق ولده عليه وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق
السؤال الثاني الضمير في قوله وَلاِبَوَيْهِ إلى ماذا يعود
الجواب أنه ضمير عن غير مذكور والمراد ولأبوي الميت
السؤال الثالث ما المراد بالأبوين
والجواب هما الأب والأم والأصل في الأم أن يقال لها أبة فأبوان تثنية أب وأبة
السؤال الرابع كيف تركيب هذه الآية
الجواب قوله لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا بدل من قوله لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه
فان قيل فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس
قلنا لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيداً وتشديدا والسدس مبتدأ وخبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان
قوله تعالى وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ
وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد ولا يكون هناك وارث سواهما وهو المراد من قوله وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فههنا للأم الثلث وذلك فرض لها والباقي للأب وذلك لأن قوله وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما واذا كان كذلك كان مجموع المال لهما فاذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد ويتفرع على ما ذكرنا فرعان الأول أن الآية السابقة دلت على أن فرض الاب هو السدس وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة والنصف بالتعصيب الثاني لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد هذا كله إذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين أما إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة الى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي الى الأم ويدفع الباقي الى الأب وقال ابن عباس يدفع الى الزوج نصيبه والى الأم الثلث ويدفع الباقي الى الأب وقال لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لأنه يفضي الى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وأما في الزوجة فانه لا يفضي الى ذلك وحجة الجمهور وجوه الأول أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 176 ) وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ وأيضا الأم مع الأب كذلك لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث وللأب الثلثان إذا ثبت هذا فنقول إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين الثاني أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال فاذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول الثالث أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي الرابع أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف فلو دفعنا الثلث الى الأم والسدس الى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وهذا خلاف قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول يرجع حاصلها الى تخصيص عموم القرآن بالقياس
وأما الوجه الرابع فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي فَلاِمّهِ بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسرواً أو ياء
أما الأول فكقوله فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( الزمر 6 )
وأما الثاني فكقوله فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص 59 ) وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً وأما الباقون فانهم قرؤا بضم الهمزة أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج انهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله فَلاِمّهِ وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين فلا جرم جعلت الضمة كسرة وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللازم في حكم المنفصل والله أعلم
قوله تعالى فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلاِمِهِ السُّدُسُ
اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الاخوة والأخوات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون واختلفوا في الأختين فالأكثرون من الصحابة على القول باثبات الحجب كما في الثلاثة وقال ابن عباس لا يحجبان كما في حق الواحدة حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه فاذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب فوجب أن لا يحصل الحجب روي أن ابن عباس قال لعثمان بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس وإنما قال الله تعالى فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة فقال عثمان لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان وعثمان ما أنكره وهما كانا من صميم العرب ومن علماء اللسان فكان اتفاقهما حجة في ذلك
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين الأول أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه واحتجوا فيه بوجوه أحدها قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد وثانيها قوله تعالى فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ والتقييد بقوله فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين وثالثها قوله ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين وإنما الموجب لذلك هو القياس وتقريره أن نقول الأختان يوجبان الحجب وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا إنما
قلنا إن الأختين يحجبان وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة فثبت أن الأختين يحجبان واذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين لأنه لا قائل بالفرق فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ويمكن أن يقال لا يتمسك به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم
المسألة الثانية الاخوة إذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس سدس بالفرض والباقي بالتعصيب وقال ابن عباس الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين كما كان قبل ذلك والله أعلم
قوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين قال السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق فأما إذا لم يكن دين أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله
المسألة الثانية روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالدين قبل الوصية
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة ( أو ) لا تفيد الترتيب ألبتة
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين الأول أن الوصية مال يؤخذ
بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة ( أو ) على الوصية والدين تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية الثاني أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث وليس كذلك الدين فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا فالوصية تشبه الارب من وجه والدين من وجه آخر أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول ما معنى ( أو ) ههنا وهلا قيل من بعد وصية يوصى بها ودين والجواب من وجهين الأول أن ( أو ) معناها الاباحة كما لو قال قائل جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس فان جالست الحسن فأنت مصيب أو ابن سيرين فأنت مصيب وإن جمعتهما فأنت مصيب أما لو قال جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر فكذا ههنا لو قال من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ومعلوم أنه ليس كذلك أما إذا ذكره بلفظ ( أو ) كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده وكذلك إن كان كلاهما الثاني أن كلمة ( أو ) إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) وقوله حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ( الأنعام 146 ) فكانت ( أو ) ههنا بمعنى الواو فكذا قوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا
المسألة الرابعة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يُوصِى بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ
قوله تعالى وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه فنقول إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد
وأنصباء الأبوين وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات والانسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها فكأنه قيل أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم فقوله وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة وقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها وذكروا في المراد من قوله أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وجوها الأول المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة قال ابن عباس إن الله ليشفع بعضهم في بعض فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه فقال لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك الثاني المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد
قوله تعالى فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل اليها طباعكم لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها وهذا نظير قوله للملائكة إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 )
فان قيل لم قال كَانَ عَلِيماً حَكِيماً مع أنه الآن كذلك
قلنا قال الخليل الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان وقال سيبويه القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا فقيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل موصوفا بهذه الصفات
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً أَو امْرَأَة ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة ً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية فحصل ههنا أقسام ثلاثة أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب وذلك هو قرابة الولاد ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية وثانيها أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة وثالثها أن مخالطة الانسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الانثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الانثيين واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والانثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله يجوز للزوج غسل زوجته وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها بيان أنها زوجته قوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها وعند حصول الزوجية حل له غسلها والدوران دليل العلية ظاهرا وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ ( المؤمنون 6 ) وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل لأنه لو ثبت لثبت اما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام ( غض بصرك إلا عن زوجتك ) أو بدون حل النظر وهو باطل بالاجماع
والجواب لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول لو لم تكن زوجة لكان قوله نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى فكان الترجيح من جانبنا وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت
الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان وعند اشتغالها باداء الصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة أما حل الغسل فان ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم
المسألة الثالثة في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن
قوله تعالى وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً ءانٍ امْرَأَة ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثُّلُثِ مِن
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد وهذا هو المختار والقول الصحيح وأما عمر رضي الله عنه فانه كان يقول الكلالة من سوى الولد وروي أنه لما طعن قال كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر الكلالة من عدا الوالد والولد وعن عمر فيه رواية أخرى وهي التوقف وكان يقول ثلاثة لأن يكون بينها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لنا أحب الي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه الأول التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه الأول يقال كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه الثاني يقال كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة الثالث الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب إذا عرفت هذا فنقول من عدا الوالد والولد إنما
سموا بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد ولهذا قال الشاعر نسب تتابع كابراً عن كابر
كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات فانما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد
الحجة الثانية أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين في هذه السورة أحدهما في هذه الآية والثاني في آخر السورة وهو قوله قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ( النساء 176 ) واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط قال لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة هو أنه ليس له ولد إلا أنا نقول هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين
الحجة الثانية انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد
الحجة الرابعة قول الفرزدق ورثتم قناة الملك لا عن كلالة
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم
المسألة الثانية الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث فاذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين واذا جعلناها وصفا للمورث فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي رويناه عن الفرزدق فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث إذا عرفت هذا فنقول المراد من الكلالة في هذه الآية الميت الذي لا يختلف الوالدين والولد لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا
المسألة الثالثة يقال رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة
إذا عرفت هذا فنقول إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة كما يقول فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق
المسألة الرابعة قوله يُورَثُ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك مأخوذاً من ورثه الرجل يرثه وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه وفي انتصاب كلالة وجوه أحدها النصب على الحال والتقدير يورث حال كونه كلالة والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره يورث متكلل النسب وثانيها أن يكون قوله يُورَثُ صفة لرجل و كَلَالَة ً خبر كان والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة وثالثها أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة
الاحتمال الثاني في قوله يُورَثُ أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة
المسألة الخامسة قرأ الحسن وأبو رجاء العطاردي يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على الفاعل
أما قوله تعالى وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ههنا سؤال وهو أنه تعالى قال وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً أَو امْرَأَة ٌ ثم قال وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه
والجواب قال الفراء هذا جائز فانه إذا جاء حرفان في معنى واحد ( بأو ) جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضا تقول من كان له أخ أو أخت فليصله يذهب إلى الأخ أو فليصلها يذهب إلى الأخت وإن قلت فليصلهما جاز أيضا
المسألة الثانية أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت الأخ والأخت من الأم وكان سعد بن أبي قاص يقرأ وله أخ أو أخت من أم وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) فأثبت للأختين الثلثين وللاخوة كل المال وههنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات ههنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية فالمراد ههنا الاخوة والأخوات من الأم فقط وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب
ثم قال تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا ( النساء 11 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حق امرىء مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده ) فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد إلا أنا نقول هذه العمومات مخصوصة من وجهين الأول في قدر الوصية فانه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا أما المجمل فقوله تعالى حَسِيباً لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 7 ) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) ويدل عليه أيضا قوله تعالى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ ( النساء 9 ) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب وهو
قوله عليه الصلاة والسلام ( الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام أحدها أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث وثانيها أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله ( والثلث كثير ) وثالثها أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام ( ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) ورابعها فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة فعند عدمهم وجب الجواز
الوجه الثاني تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث قال عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث )
المسألة الثانية قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب حجة الشافعي أن الزكاة الواجبة والحج الواحب دين فيجب اخراجه بهذه الآية وإنما قلنا إنه دين لأن اللغة تدل عليه والشرع أيضاً يدل عليه أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد قيل في الدعوات المشهورة يا من دانت له الرقاب أي انقادت وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحج الذي كان على أبيها فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزىء فقالت نعم فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يقضي ) إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ قال أبو بكر الرازي المذكور في الآية الدين المطلق والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمى الحج دينا لله والاسم المطلق لا يتناول المقيد
قلنا هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب والله أعلم
المسألة الثالثة اعلم أن قوله تعالى غَيْرَ مُضَارّ نصب على الحال أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه أحدها أن يوصي بأكثر من الثلث وثانيها أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي وثالثها أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة ورابعها أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه وخامسها أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة وسادسها أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة فهذا هو وجه الاضرار في الوصية
واعلم أن العلماء قالوا الأولى أن يوصى بأقل من الثلث قال علي لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث وقال النخعي قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يوص وقبض أبو بكر فوصى فان أوصى الانسان فحسن وإن لم يوص فحسن أيضا
واعلم أن لأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم
المسألة الرابعة روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال الاضرار في الوصية من الكبائر واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول أما القرآن فقوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 13 ) قال ابن عباس في الوصية وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 14 ) قال في الوصية وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الاضرار في الوصية من الكبائر ) وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة ) ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه وذلك من أكبر الكبائر
ثم قال تعالى وَصِيَّة ً مّنَ اللَّهِ وفيه سؤالان
السؤال الأول كيف انتصاب قوله وَصِيَّة ٍ
والجواب فيه من وجوه الأول أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية كقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ( النساء 11 ) الثاني أن تكون منصوبة بقوله غَيْرَ مُضَارّ ( النساء 12 ) أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث الثالث أن يكون التقدير وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية وينصر هذا الوجه قراءة الحسن غير مضار وصية بالاضافة
السؤال الثاني لم جعل خاتمة الآية الأولى فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ وخاتمة هذه الآية وَصِيَّة ً مّنَ اللَّهِ
الجواب ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد والله أعلم
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول ان قوله تِلْكَ إشارة إلى ماذا فيه قولان الأول أنه إشارة إلى أحوال المواريث
القول الثاني أنه إشارة الى كل ما ذكره من أول السورة الى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم حجة القول الأول أن الضمير يعود الى أقرب المذكورات وحجة القول الثاني أن عوده الى الأقرب إذا لم يمنع من عوده الى الأبعد مانع يوجب عوده الى الكل
البحث الثاني أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره ومنه حدود الدار والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حداً له لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه وغيره هو كل ما سواه
المسألة الثانية قال بعضهم قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة وقال المحققون بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل أقصى ما في الباب ان هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص ثم يقول احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن عامر إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا بالنون في الحرفين والباقون بالياء
أما الأول فعلى طريقة الالتفات كما في قوله بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ثم قال سَنُلْقِى بالنون
وأما الثاني فوجهه ظاهر
المسألة الرابعة ههنا سؤال وهو أن قوله يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد ذلك خَالِدِينَ فِيهَا إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما
الجواب أن كلمة ( من ) في قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان
المسألة الخامسة انتصب ( خالدين ) ( وخالدا ) على الحال من الهاء في ( ندخله ) والتقدير ندخله خالدا في النار
المسألة السادسة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار وذلك لأن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي
سبق ذكرها وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد وعلى ان الوعيد مخلد ولا يقال هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر فانه هو الذي تعدى جميع حدود الله فانا نقول هذا مدفوع من وجهين الأول انا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية فتعدى جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال فثبت أن تعدى جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة فعلمنا ان المراد منه أي حد كان من حدود الله الثاني هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث فيكون المراد من قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال هذا منتهى تقرير المعتزلة وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول أجمعنا على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على انه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو فان بتقدير قيام الدلالة على حصول العف امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو ثم نقول هذا العموم مخصوص بالكافر ويدل عليه وجهان الأول انا إذا قلنا لكم ما الدليل على أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم قلتم الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه فنقول ان صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مختص بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر والا في الفسق وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فهذا يقتضي أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر وقوله الاتيان بجميع المعاصي محال لأن الاتيان باليهودية والنصرانية معا محال فنقول ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوى ما ذكرناه
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب وقوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار وهو خلاف الأصل فوجب حمله على الكفر وقوله بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث
قلنا هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث فهذا ما يختص بهذه الآية من المباحث وأما بقية الأسئلة فقد تقدم ذكرها في سورة البقرة والله أعلم
وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالاحسان الى النساء ومعاشرتهن بالجميل وما يتصل بهذا الباب ضم الى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة فان ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن وأيضا ففيه فائدة أخرى وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالاحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك وأيضا فيه فائدة ثالثة وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة وأن مدار هذا الشرع الانصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الافراط والتفريط فقال وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اللاتي جمع التي وللعرب في جمع ( التي ) لغات اللاتي واللات واللواتي واللوات قال أبو بكر الانباري العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي ومن الحيوان اللاتي كقوله أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وقال في هذه اللاتي واللائي والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأما جمع الحيوان فليس كذلك بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فهذا هو الفرق ومن العرب من يسوي بين البابين فيقول ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا والأول هو المختار
المسألة الثانية قوله يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ أي يفعلنها يقال أتيت أمرا قبيحا أي فعلته قال تعالى لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( مريم 27 ) وقال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ( مريم 89 ) وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها بل المكلف كأنه ذهب اليها من عند نفسه واختارها بمجرد طبعه فلهذه الفائدة يقال إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب اليها إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة وفي قراءة ابن مسعود يأتين بالفاحشة وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح
فان قيل الكفر أقبح منه وقتل النفس أقبح منه ولا يسمى ذلك فاحشة
قلنا السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الانسان ثلاثة القوة الناطقة والقوة الغضبية والقوة
الشهوانية ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وأخس هذه القوى الثلاثة القوة الشهوانية فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة في المراد بقوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ قولان الأول المراد منه الزنا وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا فاذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا وهذا قول جمهور المفسرين
والقول الثاني وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن المراد بقوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ السحاقات وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( النساء 16 ) أهل اللواط وحدهما الأذى بالقول والفعل والمراد بالآية المذكورة في سورة النور الزنا بين الرجل والمرأة وحده في البكر الجلد وفي المحصن الرجم واحتج ابو مسلم عليه بوجوه الأول أن قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ مخصوص بالنسوان وقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ مخصوص بالرجال لأن قوله وَاللَّذَانَ تثنية الذكور
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله وَاللَّذَانَ الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر
قلنا لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ سقط هذا الاحتمال الثاني هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقرراً وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ فكان هذا القول أولى والثالث أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ في الزنا وقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ يكون أيضا في الزنا فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى الرابع أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالرجم والجلد والتغريب وهذا لا يصح لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وأما نحن فانا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح ثم قال أبو مسلم ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) واحتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه الأول أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا والثاني أنه روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال ( قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد ) وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة الثالث أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة
والجواب عن الأول أن هذا اجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد وهو من أكابر المفسرين ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز
والجواب عن الثاني أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز
والجواب عن الثالث أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالاثبات فلهذا لم يرجعوا إليها
المسألة الرابعة زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة وقال أبو مسلم إنها غير منسوخة أما المفسرون فقد بنوا هذا على أصلهم وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين فالأول أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم ) ثم ان هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي لا ينسخ واحد منهما بالآخر
والقول الثاني أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد
واعلم أن أبا بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله ( خذوا عني ) فائدة فوجب أن يكون قوله ( خذوا عني ) متقدما على آية الجلد وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر
واعلم أن كلام الرازي ضعيف من وجهين الأول ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة وذلك لأن قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً يدل على أن امساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا فلما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى ) صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لاحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى أولى من الحكم بوقوع النسخ مراراً وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فانه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو فلا بد لها من المبين وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية الحبس مخصصا لآية الجلد وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه الأول آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه
الوجه الثاني في دفع كلام الرازي انك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله ( خذوا عني ) فلم قلت انه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه ولم لا يجوز أن يقال إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك وتقديره أن قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ مخصوص بالاجماع في حق الثيب المسلم وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة لما أنه يوهم التلبيس واذا كان كذلك فثبت أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وعلى هذا التقدير سقط قولك ان الحديث كان متقدما على آية الجلد هذا كله تفريع على قول من يقول هذه الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة
فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم
المسألة الخامسة القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات
السؤال الأول ما المراد من قوله مّن نِّسَائِكُمُ
الجواب فيه وجوه أحدها المراد من زوجاتكم كقوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) وقوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ( النساء 23 ) وثانيها من نسائكم أي من الحرائر كقوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ ( البقرة 282 ) والغرض بيان أنه لا حد على الاماء وثالثها من نسائكم أي من المؤمنات ورابعها من نسائكم أي من الثيبات دون الأبكار
السؤال الثاني ما معنى قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ
الجواب فخلدوهن محبوسات في بيوتكم والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فاذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا
السؤال الثالث ما معنى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ والموت والتوفي بمعنى واحد فصار في التقدير أو يميتهن الموت
الجواب يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت كقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ( النحل 38 قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن
السؤال الرابع انكم تفسرون قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم ) وهذا بعيد لأن هذا السبيل عليها لا لها فان الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس
والجواب أن النبي عليه الصلاة والسلام فسر السبيل بذلك فقال ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) ولما فسر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السبيل بذلك وجب القطع بصحته وأيضا له وجه في اللغة فان المخلص من الشيء هو سبيل له سواء كان أخف أو أثقل
( 16 )
وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وَاللَّذَانَ مشددة النون والباقون بالتخفيف وأما أبو عمرو فانه
وافق ابن كثير في قوله الرَّهْبِ فَذَانِكَ أما وجه التشديد قال ابن مقسم إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين أحدهما الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة والآخر أن ( الذي وهذا ) مبنيان على حرف واحد وهو الذال فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها وقال غيره سبب التشديد فيها ان النون فيها ليست نون التثنية فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنية وقيل زادوا النون تأكيدا كما زادوا اللام وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم فكان استحقاقها العوض أشد
المسألة الثانية الذين قالوا ان الآية الأولى في الزناة قالوا هذه الآية أيضا في الزناة فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه وذكروا فيه وجوها الأول أن المراد من قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ ( النساء 15 ) المراد منه الزواني والمراد من قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الزناة ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الايذاء بالرجل والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فاذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية وأما الرجل فانه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى فاذا تاب ترك إيذاؤه ويحتمل أيضاً أن يقال إن الايذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة والحبس كان من خواص المرأة فاذا تابا أزيل الايذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة وهذا أحسن الوجوه المذكورة الثاني قال السدي المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء وبالآية الأولى الثيب وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين قالوا ويدل على هذا التفسير وجوه الأول أنه تعالى قال وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فأضافهن إلى الأزواج والثاني أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب والثالث أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب والرابع قال الحسن هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ثم نزل قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( النساء 15 ) يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن وهذا القول عندي في غاية البعد لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات الخامس ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره والسادس أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الامام والحد فان تابا قبل الرفع إلى الامام فاتركوهما
المسألة الثالثة اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الايذاء من الايذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير مثل أن يقال بئس ما فعلتما وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الايذاء وذلك حاصل بمجرد الايذاء باللسان ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير اليه
ثم قال تعالى فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا يعني فاتركوا ايذاءهما