كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قالوا نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبره الله عزّ وجلّ بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء من دلائلك وتقريراتك ونصائحك وتذكيراتك
المسألة الثانية الباء في قوله دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ خَرَجُواْ بِهِ يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه البتة كما تقول دخل زيد بثوبه وخرج به أي بقي ثوبه حال الخروج كما كان حال الدخول
المسألة الثالثة ذكر عند الدخول كلمة قَدْ فقال وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وذكر عند الخروج كلمة هُمْ فقال وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ قالوا الفائدة في ذكر كلمة ( قد ) تقريب الماضي من الحال والفائدة في ذكر كلمة ( هم ) التأكيد في إضافة الكفر إليهم ونفى أن يكون من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفراً د فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إنه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذم وبالغ في تقرير تلك الاضافة بقوله وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ فدل هذا على أنه من العبد لا من الله
والجواب المعارضة بالعلم والداعي
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى
وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة قيل الإثم الكذب والعدوان الظلم وقيل الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم وأما أكل السحت فهو أخذ الرسوة وقد تقدم الاستقصاء في
تفسير السحت وفي الآية فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى قال وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك بل كان بعضهم يستحيي فيترك
الفائدة الثانية أن لفظ المسارعة إنما يستعملل في أكثر الأمر في الخير قال تعالى يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( آل عمران 114 ) وقال تعالى نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ ( المؤمنون 56 ) فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه
الفائدة الثالثة لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات فلما ذكر الله تعالى بعده العدوان وأكل السحت دلّ هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم ثم قال تعالى
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
معنى لَوْلاَ هاهنا التخصيص والتوبيخ وهو بمعنى هلا والكلام في تفسير الربانيين والأحبار قد تقدم قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد بل نقول إن ذم تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد بل نقول إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( المائدة 62 ) وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقراً راسخاً متمكناً فجعل جرم العاملين ذنباً غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنباً راسخاً والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة وعن ابن عباس هي أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة وأيضاً المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بدّ وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل لأن قولنا ( الله ) اسم لموجود قديم وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة وإلا فكيف يمكنه مع اللقدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره
إذا ثبت هذا فنقول حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول عندنا فيه وجوه الأول لعلّ القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قاوله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) قالوا لو احتاج إلى القرض لكان فقيراً عاجزاً فلما حكموا بأن الإل ه الذي يستقرض شيئاً من عباده فقير مغلول اليدين لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام الثاني لعلّ القوم لما رأوا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء إن إل ه محمد فقير مغلول اليد فلما قالوا ذلك حكى الله عنهم هذا الكلام الثالث قال المفسرون اليهود كانوا أكثر الناس مالاً وثروة فلما بعث الله محمداً وكذبوا به ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالت اليهود يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ الرابع لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة وهو أنه تعالى مموجب لذاته وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد وأنهه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد الخامس قال بعضهم المراد هو قول اليهود إن الله لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب وهذا قول الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه والله أعلم
المسألة الثانية غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود ومنه قوله تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) قالوا والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد وبسط البنان تره الأنامل ويقال للبخيل كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل
فإن قيل فلما كان قوله يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ المراد منه البخل وجب أن يكون قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ المراد منه أيضاً البخل لتصح المطابقة والبخل من الصفات المذمومة التي نهى الله تعالى عنها فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك
قلنا قوله يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء ثم إن عدم المكنة من الاعطاء تارة يكون لأجلل البخل وتارة يكون لأجل الفقر وتارة يكون لأجل العجز فكذلك قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء
عليهم بعدم القدرة والمكنة سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل وعلى هذا التقدير فإنه يزول الاشكال
المسألة الثالثة قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ فيه وجهان الأول أنه دعاء عليهم والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاسثناء في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وكما علمنا الدعاء عللى المنافقين في قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ( البقرة 10 ) وعلى أبي لهب في قوله تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) الثاني أنه إخبار قال الحسن غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة أي شدت إلى أعناقهم جزاءً لهم على هذا القول
فإن قيل فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاءً لهم على هذا القول فكان ينبغي أن يقال فغلت أيديهم
قلنا حذف العطف وإن كان مضمراً إلا أنه حذف لفائدة وهي أنه لما حذف كان قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) ولم يقل فقالوا أتتخذنا هزواً وأما قوله وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار
ثم قال تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد قال تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) وتارة بإثبات اليدين لله تعالى منها هذه الآية ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وتارة بإثبات الأيدي قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( ي س 71 )
إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى فقالت المجسمة إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد واحتجوا عليه بقوله تعالى لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ( الأعراف 195 ) وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إل هية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إل هاً ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضاً اسم اليد موضوع لهذا العضو فحمله على شيء آخر ترك للغة وإنه لا يجوز
واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار وكل ما كان متناهياً في المقدار فهو محدث ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء وكل ما كان كذلك كان قابلاً للتركيب والانحلال وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركّبه ويؤلفه وكل ما كان كذلك فهو محدث فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسماً فيمتنع أن تكون يده عضواً جسمانياً
وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان الأول قول من يقول القرآن لما دلّ على إثباب اليد لله تعالى آمنا به والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى وهذا هو طريقة السلف
وأما المتكلمون فقالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه أحدها الجارحة وهو معلوم وثانيها النعمة قوله لفلان عندي يد أشكره عليها وثالثها القوة قال تعالى أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ ( ص 45 ) فسروه بذوي القوى والعقول وحكى سيبويه أنهم قالوا لا يد لك بهذا والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه قال تعالى الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) أي يملك ذلك وخامسها شدة العناية والاختصاص قال تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات ويقال يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئاً
إذا عرفت هذا فنقول اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني فكلها حاصلة وههنا قول آخر وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة
فإن قيل إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة وبإثبات الأيدي أخرى وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) ( النحل 18 )
والجواب إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الاشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ كناية عن البخل فأجيبوا على وفق كلامهم فقيل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل بل هو جواد على سبيل الكمال فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الاشكال المذكور من وجهين الأول أنه نسبة بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها فقيل نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدينا أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن أو نعمة النفع ونعمة الدفع أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء الثاني أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة ألا ترى أن قولهم ( لبيك ) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وكذلك ( سعديك ) معناه مساعدة بعد مساعدة وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين فكذلك الآية المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة
ثم قال تعالى يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء أي يرزق ويخلق كيف يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع وقال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ( الشورى 27 ) وقال يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ( الرعد 26 )
وقال قل الّلهم مالك الملك إلى قوله قل الّلهم مالك الملك إلى قوله إلى قوله وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( آل عمران 26 )
واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة وذلك لأنهم قالوا يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع ويجب عليه أن لا يعاقبه ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه وليس لأحد عليه استحقاق ولا لأحد عليه اعتراض كما قال قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المائدة 17 ) فقوله سبحانه بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بالكثير علماء اليهود يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلواً في الانكار كما يقال ما زادتك موعظتي إلا شراً وقيل إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر
المسألة الثانية قال أصحابنا دلّت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفراً وضلالاً فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد ونظيره قوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 )
فإن قالوا علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر فلهذا حسن منه تعالى إنزالها
قلنا فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد اكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلاً وذلك تكذيب لنص القرآن
ثم قال تعالى وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ
واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة
ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين فكذلك حرمهم سعادة الدينا لأن كل فريق منهم بقي مصراً على مذهبه ومقالته يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضاً ويغزو بعضهم بعضاً وفي قوله وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء قولان الأول المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ( المائدة 51 ) وهو قول الحسن ومجاهد الثاني أن المراد وقوع العداوة
بين فرق اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم موحدة وبعضهم مشبهة وكذلك بين فرق النصارى كالملكانية والنسطورية واليعقوبية
فإن قيل فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيباً على اليهود والنصارى
قلنا هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلاً فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى
ثم قال تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ ( آل عمران 112 ) قال قتادة لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس
ثم قال تعالى وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة إلا أنهم يسعون في الأرض فساداً وذلك بأن يخدعوا ضعيفاً ويستخرجوا نوعاً من المكر والكيد على سبيل الخفية وقيل إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى ثم قال تعالى
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاٌّ دْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
واعلم أنه تعالى لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين أحدهما رفع العقاب والثاني إيصال الثواب أما رفع العقاب فهو المراد بقوله لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ وأما إيصال الثواب فهو المراد بقوله سَيّئَاتِهِمْ وَلاْدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
فإن قيل الإيمان وحده سبب مستقل باقتضاء تكفير السيآت وإعطاء الحسنات فلم ضم إليه شرط التقوى
قلنا المراد كونه آتياً بالإيمان لغرض التقوى والطاعة لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة مثل ما يفعله المنافقون ثم قال تعالى
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة بيّن في هذه الآية أيضاً أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه أحدها أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود الله فيها ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال أقام الصلاة إذا قام بحقوقها ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها أنه أقامها وثالثها أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن
وأما قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ففيه قولان الأول أنه القرآن والثاني أنه كتب سائر الأنبياء مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق وكتاب دانيال فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام
وأما قوله تعالى لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة وبلغوا إلى حيث قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ فالله تعالى بيّن أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة وفي قوله لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم وجوه الأول أن المراد منه المبالفة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا وتحتا والمعنى لأكلوا أكلاً متصلاً كثيراً وهو كما تقول فلان في الخير من فرقه إلى قدمه تريد تكاثف الخير وكثرته عنده الثاني أن الأكل من فوق نزول القطر ومن تحت الأرجل حصول النبات كما قال تعالى في سورة الأعراف وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الأعراف 96 ) الثالث الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة ومن تحت الأرجل الزروع المغلة والرابع المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم والخامس يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم
ثم قال تعالى مّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ معنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير وأصله القصد وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصداً له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيراً تارة يذهب يميناً وأخرى يساراً فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان أحدهما أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام من اليهود والنجاشي من النصارى فهم على القصد من دينهم وعلى المنهج المستقيم منه ولم يميلوا إلى طرفي الافراط والتفريط والثاني المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولاً في دينهم ولا يكون فيهم عناد
شديد ولا غلظة كاملة كما قال وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ ( آل عمران 75 )
ثم قال تعالى وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ وفيه معنى التعجب كأنه قيل وكثير منهم ما أسوأ عملهم والمراد منهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا ينجع فيهم القول
يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
قوله تعالى يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال بَلَغَ أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم فإن الله يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية زال الخوف بالكلية ) وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ أي لا تراقبن أحداً ولا تترك شيئاً مما أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه
ثم قال تعالى وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع رسالاته في هذه الآية وفي الأنعام حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) على الجمع وفي الأعراف النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ( الأتراف 144 ) على الواحد وقرأ حفص عن عاصم على الضد ففي المائدة والأنعام على الواحد وفي الأعراف على الجمع وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع
حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فهي رسالة فحسن لفظ الجمع وأما من أفرد فقال القرآن كله رسالة واحدة وأيضاً فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( الفرقان 14 ) فوقع الاسم الواحد على الجمع وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن قوله وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فأي فائدة في هذا الكلام
أجاب جمهور المفسرين بأن المراد أنك ءن لم تلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها وهذا الجواب عندي ضعيف لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل إنه ترك الكل لكان كذباً ولو قيل أيضاً إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضاً محال ممتنع فسقط هذا الجواب
والأصح عندي أن يقال إن هذا خرج على قانون قوله
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه فكذا ههنا فإن لم تبلغ تنبيهاً على غاية التهديد والوعيد والله أعلم
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً الأول أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود الثاني نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنيبي سكت عنهم فنزلت هذه الآية الثالث لما نزلت آية التخيير وهو قوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدينا فنزلت الرابع نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ( الأحزاب 37 ) الخامس نزلت في الجهاد فإن المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً عن حثهم على الجهاد السادس لما نزل قوله تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت الآية وقال بَلَغَ يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم والله يعصمك منهم السابع نزلت في حقوق المسلمين وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك ( هل بلغت ) قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام ( الّلهم فاشهد ) الثامن روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال يا محمد من يمنعك مني فقال ( الله ) فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس التاسع كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية العاشر نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال ( من كنت مولاه فعلي مولاه الّلهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فلقيه عمر رضي الله عنه فقال هنيئاً لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي
واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها
المسألة الرابعة في قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سؤال وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته
والجواب من وجيهن أحدهما أن المراد بعصمه من القتل وفين التنبيه على أنه يجب عليه أن
يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلاما وثانيها أنها نزلت بعد يوم أحد
وأعلم أن المراد من النَّاسِ ههنا الكفار بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون وعن أنس رضي الله عنه كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة أدم وقال ( انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس )
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَى ْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
وأعلم أنه تعالى لما أمره بالتبليغ سواء طاب للسامع أو ثقل عليه أمر بأن يقول لأهل الكتاب هذا الكلام وإن كان مما يشق عليهم جداً فقال قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ من اليهود والنصارى لَسْتُمْ عَلَى شَى ْء من الدين ولا في أيديكم شيء من الحق والصواب كما تقول هذا ليس بشيء إذا أردت تحقيره وتصغير شأنه
وقوله حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً
وهذا مذكور فيما قبل والتكرير للتأكيد
ثم قال تعالى فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وفيه وجهان الأول لا تأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين الثاني لا تتأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك روى ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود وقالوا يا محمد ألست تقر أن التوراة حق من الله تعالى قال بلى قالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها فنزلت هذه الآية
إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وبقي ههنا مسائل
المسألة الأولى ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال والصائبين وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه الأول وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء علي نية التأخير كأنه قيل إن الذين رمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصائبون كذلك فحذف خبره والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصائبين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً فكأنه قيل كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأنزل ذنبهم حتى الصائبون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك
الوجه الثاني وهو قول الفراء أن كلمة ءانٍ ضعيفة في العمل ههنا وبيانه من وحوه الأول أن كلمة ءانٍ إنما تعمل كلونها مشابهة للفعل ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة الثاني أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعلم في اللاسم فقط أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير وهذا مذهب الكوفيين وقد بيناه بلادليل في سورة البقرة في تفسير قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ ( البقرة 6 ) الثالث أنها ءنما يظهر أثرها في بعض الأسماء أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها والأمر ههنا كذلك لأن الاسم ههنا هو قوله الَّذِينَ وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض
إذا ثبت هذا فنقول إنه إذا كان اسم ءانٍ بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف والرفع على إسقاط عمله فلا يجوز أن يقال إن زيداً وعمرو قائمان لأن زيداً ظهر فيه أثر الإعراب لكن إنما يجوز أن يقال إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا وإن هذا نفسه شجاع وإن قطام وهند عندنا والسبب في جواز ذلك أن كلمة ءانٍ كانت في الأصل ضعيفة العمل وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه وهو كونه مبتدأ فهذا تقرير قول الفراء وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين لأن الذي قالواه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح وإنما تحصل الصحة عند تفكيل هذا النظم وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه فكان ذلك أولى
المسألة الثانية قال بعض النحويين لا شك أن كلمة ( إن ) من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبراً وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله وكونه مبتدأ يقتضي الرفع
إذا ثبت هذا فنقول المعطوف على اسم ( إن ) يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف ويجوز ارتفاعه أيضاً لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثً عنه ومخبراً عنه
طعن صاحب ( الكشاف ) فيه وقال إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل ( إن واسمها ) بعد ذكر الخبر وتقول إن زيداً منطلق وعمراً وعمرون بالنصب على اللفظ والرفع على موضع ( إن ) واسمها لأن الخبر قد تقدم وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز لأنا لو رفعناه على محل ( إن واسمها ) لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معاً وحينئذٍ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعاً بحرف ( إن ) وبمعنى الاتبداء فيجتمع على المرفوع
الواحد رافعان مختلفان وأنه محال
وأعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن هذه الأشياء التي تسميها االنحويون رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها فإن هذا لا يقوله عاقل بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى
والوجه الثاني في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة ( أن ) مؤثرة في نصب الإسم ورفع الخبر والكوفيون ينكرون ذلك ويقولن لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة
والوجه الثالث وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبراً عنها لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة
وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحداً إلا أنه في التقدير متعدد وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعاً بالحرف والبعض بالابتداء وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبراً وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالاتبداء
وإذا ثبت هذا فنقول إن قبل ذكر الخبر إذ عطفنا اسماً على حكم صريح العقل أنه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بيّن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بين أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وذلك لأن الإنسان له قوتان القوة النظرية والقوة العملية أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم لآخر وأفضل الخيرات في الأعمال أمران المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) ثم بيّن تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل والحزن بالماضي فقال لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم أشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا ومن كان كذلك فإنه لا يحزن طيبات الدنيا
فإن قيل كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوماً عن أهوال القيامة
والجواب من وجيهن الأول أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي والثاني أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به
المسألة الرابعة قالت المعتزلة أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة
والجواب أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة فكان الخوف والحزن حاصلاً قبل إظهار العفو
المسألة الخامسة أنه تعالى قال في أول الآية إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثم قال في آخر الآية مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وفي هذا التكرير فائدتان الأولى أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن
الفائدة الثانية أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان والإيمان يدخل تحته أقسام وأشرفها الإيمان بالله واليوم لآخر فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان وقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وكلها صالحة لهذا الموضع
المسألة السادسة لراجع إلى اسم ءانٍ محذوف والتقدير من آمن منهم إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً والله أعلم
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
أعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله وهو متعلق بما افتتح الله به السورة وهو قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) فقال لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وأرسلنا إليهم رسلاً بتعريف الشرائع والأحكام وقوله كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ
جملة شرطية وقعت صفة لقوله رُسُلاً والراجع محذوف والتقدير كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف
وههنا سؤالات
الأول أي جواب الشرط فإن قوله فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لا يصلح أن يكون جواباً لهذا الشرط لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين
والجواب أن جواب الشرط محذوف وإنما جاز حدفه لأن الكلام المذكور دليل عليه والتقدير كلما جاءهم رسول ناصبوه ثم ءنه قيل فكيف ناصبوه فقيل فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وقوله الرسول الواحد لا يكون فريقين فنقول إن قوله كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ يدل على كثرة الرسل فلا جرم جعلهم فريقين
السؤال الثاني لم ذكر أحد الفعلين ماضياً والآخر مضارعاً
والجواب أنه تعالى بيّن أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين
وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام وكانوا قد قصدوا أيضاً قتل عيسى وءن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريباً فكان كالحاضر
السؤال الثالث ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
والجواب قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح فكان التقديم لهذه الفائدة
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَنَّ فِتْنَة ً في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرون أَن لا تَكُونَ فِتْنَة ٌ برفع نون ( تكون ) والباقون بالنصب وذكر الواحدي لهذا تقريراً حسناً فقال الأفعال على ثلاثة أضرب فعل يدل علي ثبات الشيء واستقراره
نحو العلم والتيقن والتبين فما كان مثل هذا يقع بعده ( أن ) الثقيلة ولم يقع بعده ( أن ) الخفيفة الناصبة للفعل وذلك لأن النثقيلة تدل على ثبات الشيء واستقراره فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و ( إن ) الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة ومثاله من القرآن قوله تعالى وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( النور 25 ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ لِلَّهِ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( التوبة 104 ) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) والباء زائدة
والضرب الثاني فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو أطمع وأخاف وأرجو فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل قال تعالى وَالَّذِينَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ( الأنفال 26 ) فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا ( الكهف 80 )
والضرب الثالث فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو حسب وأخواتها فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتاً ومستقراً وتارة بمعنى العلم فيما يكو مستقراً
إذا عرفت هذا فنقول يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية وإذا كان اللفظ محتملاً لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه صحة كل واحدة من هاتين القراءتين فمن رفع قوله أَن لا تَكُونُ كان المعنى أنه لا تكون ثم خففت المشددة وجعلت ( لا ) عوضاً من حدف الضمير فلو قلت علمت أن يقول بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضاً من حذف الضمير نحو السين وسوف وقد كقوله عِلْمٌ إِنَّ ( المزمل 20 ) ووجه النصب ظاهر
ثم قال الواحدي وكلا الوجهين قد جاء به القرآن فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ( العنكبوت 4 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ ( الجاثية 21 ) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ ( العنكبوت 1 2 ) ومثل قراءة من رفع أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم ( الزخرف 80 ) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ ( المؤمنون 55 ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ ( القيامة 3 ) فهذه مخففة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها ( لن ) ومثل المذهبين في الظن قوله تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ ( القيامة 25 ) إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا ( البقرة 230 ) ومن الرفع قوله وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ ( الجن 5 ) وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ( الجن 7 ) فأن ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله عَلِمَ أَن سَيَكُونُ ( المزمل 20 ) لأن ( أن ) الناصبة للفعل لا تجتمع مع لن لأن ( لن ) تفيد التأكيد و ( أن ) الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه
المسألة الثانية أن باب حسب من الأفعال التي لا بدّ لها من مفعولين إلا أن قوله أَن لا تَكُونَ فِتْنَة ٌ جملة قامت مقام مفعولي حسب لأن معناه وحسبوا الفتنة غير نامزلة بهم
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في ( الفتنة ) وجوهاً وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ثم عذاب الدنيا أقسام منها القحط ومنه الوباء ومنها القتل ومنها العداوة ومنها البغضاء فيما بينهم ومنها الادبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه
وأعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين الأول أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله والثاني أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولن نحن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يعتقدون أن نبوّة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب
ثم قال تعالى فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين
واختلف المفسرون في المراد بهاتين على وجوه الأول المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان به ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان ممحمد عليه الصلاة والسلام فأن أنكرلوا نبوّته ورسالته وإنما قال كَثِيرٌ مّنْهُمْ لأن أكثر اليهود وإن أصروا على الكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام إلا أن جمعاً منهم آمنوا به مثل عبد الله بن سلام وأصحابه الثاني عموا وصموا حين عبدوا العجل ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة ونزول الملائكة الثالث قال القفال رحمه الله تعالى ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ( الإسراء 4 6 ) فهذا في معنى فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثم قال فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ( الإسراء 7 ) فهذا في معنى قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ الرابع أن قوله فَعَمُواْ وَصَمُّواْ إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما فآمنوا به فتاب الله عليهم ثم وقعت فترة فعموا وصموا مرة أخرى
المسألة الثانية قريء وَصَمُّواْ ثُمَّ بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم الله أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك وهو رمح قصير وركبته إذا ضربته بركبتك
المسألة الثالثة في قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وجوه الأول على مذهب من يقول من العرب ( أكلوني البراغيث ) والثاني أن يكون كَثِيرٌ مّنْهُمْ بدلاً عن الضمير في قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ والإبدال كثير في القرآن قال تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) وقال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( آل عمران 97 ) وهذا الإبدال هاهنا في غاية الحسن لأنه لو قال عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك فلما قال كَثِيرٌ مّنْهُمْ دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل الثالث أن قوله كَثِيرٌ مّنْهُمْ خبر مبتدأ محذوف والتقدير هم كثير منهم
المسألة الرابعة لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر فنقول إن فاعل هذا الجهل
هو الله تعالى أو العبد والأول يبطل قوله المعتزلة والثاني باطل لأن الإنسان لا يختار البتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه
فإن قالوا إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم
قلنا حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لا بدّ من انتهائها إلى الجهل الأول ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل والمقصود منه التهديد
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
قوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ
اعلم أنه تعالى لما استقصى الكلام مع اليهود شرع هاهنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون إن مريم ولدت إل هاً ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى ثم حكلى تعالى عن المسيح أنه قال وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه
ثم قال تعالى إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ وَمَأْوَاهُ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ومعناه ظاهر واحتج أصحابنا على أن عقاب الفساق لا يكون مخلداً قالوا وذلك لأنه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتهديد في حق المشركين هو أن الله حرم عليهم الجنة وجعل مأواهم النار وأنه ليس لهم ناصر ينصرهم ولا شافع يشفع لهم فلو كان حال الفساق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم قال تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ثَلَاثَة ً كسرت بالإضافة ولا يجوز نصبها لأن معناه واحد ثلاثة أما إذا قلت رابع ثلاثة فههنا يجوز الجر والنصب لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه فيهم
المسألة الثانية في تفسير قول النصارى ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ طريقان الأول قول بعض المفسرين وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) فقوله ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ أي أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم قال الواحدي ولا يكفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم لقوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 )
والطريق الثاني أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إل ه واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط الماء باللبن وزعموا أن الأب إل هة والابن إل ه والروح إل ه والكل إل ه واحد
واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى
ثم قال تعالى وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ في مِنْ قولان أحدهما أنها صلة زائدة والتقدير وما إل ه إلا إل ه واحد والثاني أنها تفيد معنى الاستغراق والتقدير وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد
ثم قال تعالى وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال الزجاج معناه ليمسن الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية ثم قال تعالى
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال الفرّاء هذا أمر في لفظ الاستفهام كقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) في آية تحريم الخمر
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة ٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ثم قال تعالى مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَة ٌ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسلل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق على يد موسى وإن كان
خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وَأُمُّهُ صِدّيقَة ٌ وفي فسير ذلك وجوه أحدها أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها قال تعالى في صفتها وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ ( التحريم 12 ) وثانيها أنه تعالى قال فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 ) فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة وثالثها أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقاً قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( النساء 69 )
ثم قال تعالى كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ
واعلم أن المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى وبيانه من وجوه الأول أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إل هاً والثاني أنهما كانا محتاجين لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة والإل ه هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إل هاً الثالث قال بعضهم إن قوله كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بدّ وأن يحدث وهذا عندي ضعيف من وجوه الأول أنه ليس كل من أكل أحدث فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون الثاني أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإل ه فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر الثالث أن الإل ه هو القادر على الخلق والايجاد فلو كان إل هاً لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إل هاً للعالمين وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل
ثم قال تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاْيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يقال أفكه يأفكه إفكاً إذا صرفه والإفك الكذب لأنه صرف عن الحق وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر ومعنى قوله أَنَّى يُؤْفَكُونَ أنى يصرفون عن الحق قال أصحابنا الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك فعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك ثم قال تعالى
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وهذاا دليل آخر على فساد قول النصارى وهو يحتمل أنواعاً من الحجة أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء فما قدر على الاضرار بهم وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إل هاً الثاني أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إل هاً الثالث أن إل ه العالم يجب أن يكون غنياً عن كل ما سواه ويكون كل ما سواه محتاجاً إليه فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى لأن الإل ه لا يعبد شيئاً إنما العبد هو الذي يبعد الإل ه ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجاً في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار
عنهم وإذا كان كذلك كان عبداً كسائر العبيد وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم علليه السلام حيث قال لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ
قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ والغلو نقيض التقصير ومعناه الخروج عن الحد وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط ودين الله بين الغلو والتقصير وقوله غَيْرَ الْحَقّ صفة المصدر أي لا تغلوا في دينكم غلواً غير الحق أي غلواً باطلاً لأن الغلو في الدين نوعان غلو حق وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا وإلى أنه كذاب والنصارى ادعوا فيه الإل هية
ثم قال تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأهواء هاهنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة قال الشعبي ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال بِالْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ص 26 ) وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ( طه 16 ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) قال أبو عبيدة لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه وقال بعضهم الهوى إل ه يعبد من دون الله وقيل سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار وأنشد في ذم الهوى
إن الهوى لهو الهوان بعينه
فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال رجل لابن عباس الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال ابن عباس كل هوى ضلالة
المسألة الثانية أنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى أنهم الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من الله والقرب من عقاب الله تعالى من هذه الحالة نعوذُ بالله منها ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الاضلال أنه إرشاد إلى الحق ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة
واعلم أنه تعالى لما خاطب أهل الكتاب بهذا الخطاب وصف أسلافهم فقال تعالى
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودُ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
قال أكثر المفسرين يعني أصحاب السبت وأصحاب المائدة أما أصحاب السبت فهو أن قوم داود وهم أهل ( ايلة ) لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان على ما ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة الأعراد قال داود اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى اللّهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي قال بعض العلماء إن اليهود كانوا يفتخرون بأنا من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية لتدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء وقيلل أن داود وعيسى عليهما السلام بشرا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولعنا من يكذبه وهو قول الأصم
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ والمعنى أن ذلك اللعن كان بسبب أنهم يعصون ويبالغون في ذلك العصيان
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
ثم أنه تعالى فسّر المعصية والاعتداء بقوله
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ وللتناهي هاهنا معنيان أحدهما وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً روى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم )
والمعنى الثاني في التناهي أنه بمعنى الانتهاء يقال انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه
ثم قال تعالى لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ اللام في لَبِئْسَ لام القسم كأنه قال أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصي والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن قيل الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولاً غير ممكن فلم ذمهم عليه
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه الثاني لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته الثالث لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه
تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
ثم قال تعالى تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
اعلم أنه تعالى لما وصف أسلافهم بما تقدم وصف الحاضرين منهم بأنهم يتولون الكفار وعبدة الأوثان والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرنا في قوله تعاللى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( النساء 51 )
ثم قال تعالى لَبِئْسَ مَّالِ قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في دار الآخرة
وقوله تعالى أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ محل ءانٍ رفع تقول بئس رجلا زيد ورفعه كرفع زيد وفي زيد وجهان الأول أن يكون مبتدأ ويكون ( بئس ) وما عملت فيه خبره والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قال بئس رجلا قتل ما هو فقال زيد أي هو زيد
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِى ِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِى ّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ والمعنى لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى عليه السلام فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ وفيه وجه آخر ذكره القفال وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء وهذا الوجه حسن في الكلام ما يدفعه
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة ً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
قوله تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى
أعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والصنارى ما كذره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العدواة بل نبه على أنهم أشد في العدواة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين ولعمري أنهم كذلك وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم
وههنا مسألتان
الأولى قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) آمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين وقال آخرون مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا هو وجه التفاوت
المسألة الثانية المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واللام في قوله وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم
وههنا مسألتان
الأولى قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) آمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين وقال آخرون مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا هو وجه التفاوت
المسألة الثانية المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام القسم والتقدير قسما إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عدواة مع المؤمنين وقد شرحت لك أن هذا التمرد والمعصية عادة قديمة لهم ففرغ خاطرك عنهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم
ثم ذكر تعالى سبب هذا التفاوت فقال ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وفي الآية مسألتان
الأولى علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصن بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( البقرة 96 ) فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد والحرص معدن الأخرلاق الذميمة لأن من كان حريصاً على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالاً أو جاهاً وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب وهو المراد بقوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
وههنا دقيقة نافعة في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوّات واليهود لا ينازعون إلا في النبوات ولا شك في أن الأول أغلظ ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرّفهم الله بقوله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا وذلك ينبهك على صحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حب الدنيا رأس كل خطيئة )
المسألة الثانية القس والقسيس اسم لرئيس النصارى والجمع القسيسون وقال عروة بن الزبير صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه م ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين وكان سمه قسيساً فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس قال قطرب القس والقسيس العالم بلغة الروم وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب وفرسان وفارس وقال بعضهم لرهبان واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين وأصله من الرهبة بمعنى المخافة
فإن قيل كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا ( الحديد 27 ) وقوله عليه لصلاة والسلام ( لا رهبانية في الإسلام )
قلنا إن ذلك صار ممدوحاً في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحاً على الإطلاق
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
ثم قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الضمير في قوله سَمِعُواْ يرجع إلى القسيسين والرهبان الذين آمنوا منهم وَمَا أَنَزلَ يعني القرآن إلى الرسول يعني محمداً عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس يريد النجاشي وأصحابه وذلك لأن جعفر الطيار قرأ عليهم سورة مريم فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال والله ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذا وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من لقراءة وأما قوله تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ففيه وجهان الأول المراد أن أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء وغيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه الثاني أن يكون المراد المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها
وأما قوله تعالى مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ أي مما نزل على محمد وهو الحق
فإن قيل أي فرق بين ( من ) وبين ( من ) في قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ
قلنا الأولى لابتداء الغاية والتقدير أن فيض الدمع إنما ابتدىء من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه والثانية للتبغيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق وهو القرآن فأبكاهم الله فكيف لو عرفوا كله
وأما قوله تعالى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا أي بما سمعنا وشهدنا أنه حق فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وفيه وجهان الأول يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين يشهدون بالحق وهو مأخوذ من قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) والثاني أي مع كل من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك وأما قوله تعالى
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ
ففيه مسألتان
الأولى قال صاحب ( الكشاف ) محل لاَ نُؤْمِنُ النصب على الحال بمعنى غير مؤمنين كقولك قائماً والواو في قوله وَنَطْمَعُ واو الحال
فإن قيل فما العامل في الحال الأولى والثانية
قلنا العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل كأنه قيل أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين وفي الثاني معنى هذا الفعل ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلته وقلت وما لنا نطمع لم يكن كلاماً ويجوز أن يكون وَنَطْمَعُ حالاً من لاَ نُؤْمِنُ على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين وأن يكون معطوفاً على قوله لاَ نُؤْمِنُ على معنى وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين
المسألة الثانية تقدير الآية ويدخلنا ربنا مع القوم الصالحين جنته ودار رضوانه قال تعالى لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ( الحج 59 ) إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً ثم قال تعالى
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
وفي مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب
وأجابوا عنه من وجهين الأول أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة وذلك هو قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان الثاني روى عطء عن ابن عباس أنه قال قوله بِمَا قَالُواْ يريد بما سألوا يعني قولهم فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( المائدة 83 )
المسألة الثانية الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلداً في النار وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى قال وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وهذا الإحسان لا بدّ وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) ومن الاقرار به وهو قوله فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ وإذ كان كذلك فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة وهذا الاقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الاقرار فوجب أن يحصل له هذا الثواب فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع أو يقال يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب
الثاني هو أنه تعالى قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فقوله أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يفيد الحصر أي أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
أعلم أن الله تعالى لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنصارى عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها
النوع الأول ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات فقال الْجَحِيمِ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب وفي الآية قولان الأول روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وصف يوم القيامة لأصحابه في بيات عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل وأن لا يناموا على الفرش ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقالوا لهم ( إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها وذلك لأنه تعالى مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة فذكر تعالى عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك
فإن قيل ما الحكمة في هذا النهي فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطبع والقلوب فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيه وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله وفي طاعته ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها فكلم كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل وحينئذٍ تتفرغ النفس لطلب معرفة الله تعالى والاستغراق في خدمته وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية
والجواب عنه من وجوه الأول أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل ولا شك أن أكمل السعادت وأعظم القربات إنما هو معرفة الله تعالى فإذا كانت الرهبانية الشديد
مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها والثاني وهو أن حاصل ما كذرتم أن اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية وهذا ملسم لكن في حق النفوس الضعيفة أما النفوس المتسعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال لحسية مانعاً لها من الاستكمال بالسعادات العقلية فإنا نشاهد النفوس قد تكنن ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلاً على نوع من الضعف والقصور وإنما الكمال في الوفاء بلجهتين والاستكمال في الناس الثالث وهو أن من استوفى اللذات الحسية كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية فإن ريضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن للذات الحسية لأن صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الاعراض عن حصة النفس بالكلية فكان الكمال في هذا أتم الربع وهو أن الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة فكانت هذه الحالة أكمل فهذا جملة الكلام في هذا الوجه
القول الثاني في تفسير هذه الآية ما ذكره القفال وهو أنه تعالى قال في أول السورة أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فبيّن أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقد حكى الله تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما فأمر الله تعالى أن لا يحرموا ما أحل الله ولا يحللوا ما حرمه الله تعالى حتى يدخلوا تحت قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ ( المائدة 1 )
المسألة الثانية قوله لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم وثانيها لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم وثالثها لا تجتنبوا عنها اجتناباً شبيه لاجتناب من المحرمات فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل ورابعها لا تحرموا على غيركم بالفتوى وخامسها لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين ونظير هذه الآية قوله تعالى عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) وسادسها أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يمكنه التمييز وحينئذٍ يحرم الكل فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالاً له وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر والآية محتملة لكل هذه الوجوه ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( البقرة 190 ) فيه وجوه الأول أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها والثاني أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى وَلاَ تَعْتَدُواْ ونظيره قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ ( الأعراف 31 ) الثالث يعني لما أحل لكم الطيبت فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم
ثم قال تعالى
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ صيغة أمر وظاهرها للوجوب لا أن المراد ههنا الإباحة والتحليل واحتج أصحاب الشافعي به في أن التطوع لا يلزم بالشروع وقالوا ظاهر هذه الآية يقتضي إباحة الأكل على الاطلاق فيتناول ما بعد الشروع في الصوم غايته أن خص في بعض الصور إلا أن العام حجة في غير محل التخصيص
المسألة الثانية قوله حَلَالاً طَيّباً يحتمل أن يكون متعلقاً بالأكل وأن يكون متعلقاً بالمأكول فعلى الأول يكون التقدير كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله وعلى التقدير الثاني كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً طيباً أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الاذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن الله تعالى في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل ما كان رزقاً كان حلالاً وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على الرزق قد يكون حراماً لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالاً طيباً ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالاً وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة
المسألة الثالثة لم يقل تعالى كلوا ما رزقكم لكن قال كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ لِلَّهِ وكلمة ( من ) للتبعيض فكأنه قال اقتصروا في الأكل على البعض وأصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك لإسراف كما قال وَلاَ تُسْرِفُواْ ( الأنعام 141 ) ( الأعراف 31 )
المسألة الرابعة وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يدل على أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد فإنه لو لم يتكفل برزقه لم قال كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وإذا تكفل الله برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعد الله تعالى وإحسانه فإنه أكرم من أن يخلف الوعد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) أما قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ فهو تأكيد للتوصية بما أمر به زاده توكيداً بقوله تعالى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاٌّ يْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
النوع الثاني من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ
قد ذكرنا أنه تعالى بيّن في هذا الموضع أنواعاً من الشرائع والأحكام بقي أن يقال أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه فنقول قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قوماً من الصحابة حرّموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا أنزل الله هذه الآية
واعلم أن الكلام في أن يمين اللغو ما هو قد سبق على الاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) فلا وجه للاعادة
ثم قال تعالى وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم عَقَّدتُّمُ بتشديد القاف بغير ألف وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم عَقَّدتُّمُ بتخفيف القاف بغير ألف وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف قال الواحدي يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقداً إذا وكده وأحكمه ومثل ذلك أيضاً عقد بالتشديد إذا وكد ومثله أيضاً عاقد بالألف
إذا عرفت هذا فنقول أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير يقال عقد زيد يمينه وعقدوا أيمانهم وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر
وأجاب الواحدي رحمه الله عنه من وجهين الأول أن بعضهم قال عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى الثاني هب أنها تفيد التكرير كما في قوله وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ ( يوسف 23 ) إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقداً وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف
المسألة الثانية ( ما ) مع الفعل بمنزلة المصدر والتقدير ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الأيمان
المسألة الثالثة في الآية محذوف والتقدير ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة
ثم قال تعالى فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ
واعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعاً ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير ومن الفقهاء من قال الواحد لا بعينه وهذا الكلام يحتمل وجهين الأول أن يقال الواجب عليه يأن يدخل في الوجود واحداً من هذه الثلاثة لا بعينه وهذامحال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معيناً في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف الثاني أن يقال الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى إلا أنه مجهول العين عند الفاعل وذلك أيضاً محال لأن كون ذلك الشيء واجباً بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله نصيب كل مسكين مد وهو ثلثا من وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب نصف صاع من الحنطة وصاع من غير الحنطة
حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام قوله مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطاً في العرف أو ما كان متوسطاً في الشرع فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا من الحنطة إذاجعل دقيقاً أو جعل خبزاً فإنه يصير قريباً من المن وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهراً وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار فقال الرجل ما أجد فأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطعم هذا وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مد ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان قدرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى قال مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه الله هو أدنى ما يكفي فأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما الله مد معه إدامه والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب
أجاب الشافعي رحمه الله بأن قوله مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جداً يكفيه الرغيف الواحد وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالباً كالسكر ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب
والخبز ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة ولما كان اللفظ محتملاً لكل واحد من الأمرين فنقول يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجيهين الأول أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام الثاني أن هذا القدر واجب بيقين والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله الواجب تمليك الطعام وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز
حجة الشافعي أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة إما الاطعام أو الكسوة أو الاعتاق ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك
حجة أبي حنيفة أن الآية دلّت على أن الواجب هو الاطعام والعغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 8 ) وقال مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك ويقال في العرف فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافياً
أجاب الشافعي رضي الله عنه أن الواجب إما المد أو الأزيد والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين والله أعلم
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه الله لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام جاز
حجة الشافعي رحمه الله أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص
المسألة الخامسة الكسوة في اللغة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله
المسألة السادسة المراد بالرقبة الجملة وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الاطلاق من الرقبة فك الرقبة ثم جرى ذلك على العتق ومذهب أهل الظاهر أن جميت الرقبات تجزيه وقال الشافعي رحمه الله الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن تكون مؤمنة ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات ولا إعتاق المكاتب ولا شرء القريب وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار
المسألة السابعة لقائل أن يقول أي فائدة لتقديم الاطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة
قلنا له وجوه أحدها أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ وثانيها قدم الاطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم
وجوداً والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف وثالثها أن الاطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته
ثم قال تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادماً
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقت عياله يوماً وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجباً فوجب أن تبقى الآية معمولاً بها في غير هذه الصورة
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة
وقال أبو حنيفة يجب التتابع
حجة الشافعي أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام فوجب أن يخرج عن العهدة
حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي في قراءة أُبي بن كعب وابن مسعود فصوم ثلاثة أيام متتابعات وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما
والجواب أن القراءة الشاذة مردودة لأنها لو كانت قرآناً لنقلت نقلاً متواتراً إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة فلا تصلح لأن تكون حجة وأيضاً نقل في قراءة أُبي بن كعب أنه قرأ ( فعدة من أيام أُخر متتابعات ) مع أن التتابع هناك ما كان شرطاً وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً قال له علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك قال بلى قال فالله أحق أن يعفو وأن يصفح )
قلنا فهذا الحديث وإن وقع جواباً عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام وتعليله عام في جميع الصيامات وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق ههنا أيضاً
المسألة الثالثة من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه وقد أتى بها فوجب أن يخرج عن العهدة
ثم قال تعالى ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وخنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوماً كما قال فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر
احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال الآية دلّت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة قال وقوله إِذَا حَلَفْتُمْ فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز
ثم قال تعالى وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ وفيه وجهان الأول المراد منه قللوا الأيمان ولا تكثروا منها قال كثير قليل الألا يا حافظ ليمينه
وإن سبقت منه الألية برت
فدل قوله ( وإن سبقت منه الألية ) على أن قوله ( حافظ ليمينه ) وصف منه له بأنه لا يحلف الثاني واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التفكير واللفظ محتمل للوجهين إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصاً بقوله عليه السلام ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه )
ثم قال تعالى كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمعنى ظاهر والكلام في لفظ لعلّ تقدم مراراً
يَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّ نصَابُ وَالاٌّ زْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع ووجه اتصاله بما قبله أنه تعالى قال فيما تقدم لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيّباً ( المائدة 87 88 ) ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر لا جرم أنه تعالى بيّن أنهما غير داخلين في المحللات بل في المحرمات
واعلم أنا قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله رِجْسٌ والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل يقال رجس الرجل رجساً ورجس إذا عمل عملاً قبيحاً وأصله من الرجس بفتح الراء
وهو شدة الصوت يقال سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد فكان الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في القبح
الوصف الثاني قوله مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وهذا أيضاً مكمل لكونه رجساً لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر والكافر نجس لقوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث لقوله الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ( النور 26 ) وأيضاً كل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد من تلك الإضافة المبالغة في كمال قبحه قال تعالى فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) ثم إنه تعالى لما وصف هذه الأربعة بهذين الوصفين قال فَاجْتَنِبُوهُ أي كونوا جانباً منه والهاء عائدة إلى ماذا فيه وجهان الأول أنها عائدة إلى الرجس والرجس واقع على الأربعة المذكورة فكان الأمر بالاجتناب متناولاً للكل الثاني أنها عائدة إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة فالأول ما يتعلق بالدنيا وهو قوله
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولاً في الخمر ثم في الميسر
أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد لأن الخمر يزيل العقل وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء
وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الأجحاف بأرباب الأموال لأن من صار مغلوباً في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالباً فيه وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيراً مسكيناً ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن وكل ذلك مضاد لمصالح العالم
فإن قيل لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية
قلنا لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال تَشْكُرُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( المائدة 90 ) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيداً لقبح الخمر والميسر لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر
أما النوع الثاني من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر المفاسد المتعلقة بالدين وهو قوله تعالى وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ فنقول أما أن شرب الخمر يمنع عن ذكر الله فظاهر لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله تعالى وأما أن الميسر مانع عن ذكر الله وعن الصلاة فكذلك لأنه إن كان غالباً صار استغراقه في لذة الغلبة مانعاً من أن يخطر بباله شيء سواه ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة
فإن قيل الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر هي هذه المعاني ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلاً وهذا يقدح في صحة هذا التعليل
قلنا هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة
ولما بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين
قال تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ روي أنه لما نزل قوله تعالى حَدِيثاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فلما نزلت هذه الآية قال عمر انتهينا يا رب
واعلم أن هذا وإن كان استفهاماً في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك فكأنه قيل له أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ جارياً مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقروناً بإقرار الملكف بوجوب الانتهاء
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه أحدها تصدير الجملة بإنما وذلك لأن هذه الكلمة للحصر فكأنه تعالى قال للا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة وثانيها أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وثالثها أنه تعالى أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب ورابعها أنه قال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة وخامسها أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الاعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وسادسها قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ وسابعها أنه تعالى قال بعد ذلك
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فظاهره أن المراد وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر وقوله وَاحْذَرُواْ أي احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف وثامنها قوله
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم الله وبيانه يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ والاعذار والانذار فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى الله تعالى ولا شك أنه تهديد شديد فصار كل واحد من هذه الوجوه الصمانية دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً في تحريم الخمر
واعلم أن من أنصف وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ ( المائدة 91 ) قال بعده فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر وهذا يفيد القطع بأن علة قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ هي كون الخمر مؤثراً في الاسكار وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام ومن أحاط عقله بهذا التقدير وبقي مصراً على قوله فليس لعناده علاج والله أعلم
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم فنزلت هذه الآية والمعنى لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك كما قال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( آل عمران 195 )
المسألة الثانية الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشرب إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات كما قال تعالى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ أي شربوا الخمر ويجوز أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب وقد تقول العرب تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعاً إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معاً
المسألة الثالثة زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بيّن في الخمر أنها محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والاحسان إلى الخلق قالوا ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنه لو كان المراد ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) ولكنه لم يقل ذلك بل قال لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ إلى قوله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي
واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي
قجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرّم الخمر وهم يطعمونها فأنزل الله هذه الآيات وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص
المسألة الرابعة أنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والايمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والاحسان واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه الأول عمل الاتقاء والثاني دوام الاتقاء والثبات عليه والثالث اتقاء ظلم العباد مع ضم الاحسان إليه
القول الثاني أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية الثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم القول الثالث اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر القول الرابع ما ذكره القفال رحمه الله تعالى قال التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى اللثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق
والقول الخامس أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الايمان والتقوى فإن قيل لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الايمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئاً من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز
قلنا ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الايمان والتقوى والاحسان ومثاله أن يقال لك هل على زيد فيما فعل جناح وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً تريد أن زيداً إن بقي مؤمناً محسناً فإنه غير مؤاخذ بما فعل
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والمعنى أنه تعالى لما جعل الاحسان شرطاً في نفي الجناح بيَّن أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط بل وفي أن يحبه الله ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات وقد تقدم تفسير محبة الله تعالى لعباده
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَى ْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله تعالى الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَى ْء مّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام ووجه النظم أنه تعالى كما قال لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( المائدة 87 ) ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحلالات وبين دخوله في المحرمات
وهاهنا مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ لام القسم لأن اللام والنون قد يكونان جواباً للقسم وإذا ترك القسم جيء بهما دليلاً على القسم
المسألة الثانية الواو في قوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ مفتوحة لالتقاء الساكنين
المسألة الثالثة ليبلونكم أي ليختبرن طاعتكم من ممعصيتكم أي ليعاملنكم معاملة المختبر
المسألة الرابعة قال مقاتل بن حيّان ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط فنهاهم الله عنها ابتلاءً قال الواحدي الذي تناله الأيدي من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش والذي تناله الرماح الكبار وقال بلعضهم هذا غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لم يمتنع
المسألة الخامسة معنى التقليل والتصغير في قوله بِشَى ْء مّنَ الصَّيْدِ أن يعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي كون التكليف فيها صعباً شاقاً كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال وإنما هو ابتلاء سهل فإن الله تعالى امتحن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بصيد البركما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر وهو صيد السمك
المسألة السادسة من في قوله مّنَ الصَّيْدِ للتبعيض من وجهين أحدهما المراد صيد البر دون البحر والثاني صيد الاحرام دون صيد الاحلال وقال الزجاج يحتمل أن تكون للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 )
المسألة السابعة أراد بالصيد المفعول بدليل قوله تعالى تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثاً وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما كان عينا
ثم قال تعالى لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذا مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب
المسألة الثانية قوله بِالْغَيْبِ فيه وجهان الأول من يخافه حال إيمانه بالغيب كما ذكر ذلك في أول كتابه وهو قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) الثاني من يخاف بالغيب أي يخافه بإخلاص وتحقيق ولا يختلف الحال بسبب حضور أحد أو غيبته كما في حق المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
المسألة الثالثة الباء في قوله بِالْغَيْبِ في محل النصب بالحال والمعنى من يخافه حال كونه غائباً عن رؤيته ومثل هذا قوله مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ( ق 33 ) وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ( الأنبياء 49 ) وأما معنى الغيب فقد ذكرناه في قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال تعالى فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمراد عذاب الآخرة والتعزيز في الدنيا قال ابن عباس هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضرباً وجيعاً وينزع ثيابه قال القفال وهذا جائز لأن اسم العذاب قد يقع على الضرب كما سمى جلد الزانيين عذاباً فقال وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ ( النور 2 ) وقال فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) وقال حاكياً عن سليمان في الهدهد لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( النمل 21 )
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قوله تعالى أَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالصيد قولان الأول أنه الذي توحش سواء كان مأكولاً أو لم يكن فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب به قيمة شاة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال
زفر يجب بالغاً ما بلغ
والقول الثاني أن الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع وهو قول الشافعي رحمه الله وسلم أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه الله القرآن والخبر أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد فوجب أن لا يضمن إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية وحل صيد البر خارج وقت الاحرام فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله فوجب أن لا يكون صيداً وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضموناً لأن الأصل عدم الضمان تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية فبقي فيما ليس بصيد على وفق اوصل وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام ( خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور ) وفي رواية أخرى والسبح الضاري والاستدلال به من وجوه أحدها أن قوله والسبع الضاري نص في المسألة وثانيها أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلالاً بذلك الوصف وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا ( قتلها وثالثها أن الشارع خصها بإباحة القتل وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء وصفة الايذاء في السباع أتم فوجب القول بجواز قتلها وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول
حجة أبي حنيفة رحمه الله أن السبع صيد فيدخل تحت قوله لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر
ليث تربى ربية فاصطيدا
ولقول علي عليه السلام فصيد الملوك أرانب وثعالب
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
والجواب قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد وذلك لا يعارضه شعر مجهول وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد لأن عندنا الثعلب حلال
المسألة الثانية حرم جمع حرام وفيه ثلاثة أقوال الأول قيل حرم أي محرمون بالحج وقيل وقد دخلتم الحرم وقيل هما مرادان بالآية وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف
اللمسألة الثالثة قوله لاَ تَقْتُلُواْ يفيد المنع من القتل ابتداء والمنع منه تسبباً فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرماً لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم وإذا قلنا وَأَنتُمْ حُرُمٌ يتناول الأمرين أعني من كان محرماً ومن كان داخلاً في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام
ثم قال تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله فَجَزَاء قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة إنما عليه جزاء الملقتول لا جزاء مثلل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى مِنَ النَّعَمِ يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل وأما سائر القراء فهم قرؤا فَجَزَاء مّثْلُ على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والتقدير ليس هو كشيء وقال أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ( الأنعام 122 ) والتقدير كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة
المسألة الثانية قال سعيد بن جبير المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً مذكور في معرض الشرط وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله وَمَنْ عَادَ المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) ولما كان ذلك حرامالً بالاحرام صار فعله محظوراً بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمداً فكذا هاهنا وأيضاً يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم وقول الصحابة في الظبي شاة وليس فيه ذكر العمد
أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول إلا أنهم اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن الصيد ضربان منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فما له مثل يضمن بمثله من النعم وما لا مثل له يضمن بالقيمة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل الواجب هو القيمة
وحجة الشافعي القرآن والخبر والإجماع والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ والاستدلال به من وجوه أربعة الأول أن جماعة من القراء قرؤا فَجَزَاء بالتنوين ومعناه فجزاء من النعم مماثل لما قتل فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص وثانيها أن قوماً آخرين قرؤا فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ بالإضافة والتقدير فجزاء ما قتل من النعم أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم فمن لم يوجبه فقد خالف النص ثالثها قراءة ابن مسعود فَجَزَاؤُهُ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وذلك صريح فيما قلناه ورابعها أن قوله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم يجب أن يكون هدياً بالغ الكعبة
فإن قيل إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى
قلنا النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هدياً وأنتم تقولون الواجب هو القيمة ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هدياً يهدي إلى الكعبة وإن شاء لم يفعل فكان ذلك على خلاف النص وأما الخبر فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الضبع أصيد هو فقال نعم وفيه كبش إذا أخذه المحرم وهذا نص صريح وأما الاجماع فهو أن الشافعي رحمه الله قال تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم فحكموا في النعامة ببدنة وفي حمار الوحش ببقرة وفي الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الظبي بشاة وفي الأرنب بجفرة وفي رواية بعناق وفي الضب بسخلة وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى حجة ابي حنيفة رحمه الله تعالى لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ هو القيمة في هذه الصورة فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد
والجواب أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة
المسألة الرابعة جماعة محرمون قتلوا صيداً قال الشافعي رحمه الله لا يجب عليهم إلا جزاء وحداً وهو قول أحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري رحمهم الله يجب على كل واحد منهم جزاء واحد حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على وجوب المثل ومثل الواحد واحد وأكد هذا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمثل قولنا حجة أبي حنيفة رحمه الله أن كل واحد منهم قاتل فوجب أن يجب على كل وحد منهم جزاء كامل بيان الأول أن جماعة لو حلف كل واحد منهم أن لا يقتل صيداً فقتلوا صيداً واحداً لزم كل واحد منهم كفارة وكذلك القصاص المتعلق بالقتل يجب على جماعة يقتلون واحداً وإذا ثبت أن كل واحد منهم قاتل وجب أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل لقوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فقوله وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً صيغة عموم فيتناول كل القاتلين أجاب الشافعي رحمه الله بأن القتل شيء واحد فيمتنع حصوله بتمامه بأكثر من قاعل واحد فإذا اجتمعوا حصل بمجموع أفعالهم قتل واحد وإذا كان كذلك امتنع كون كل واحد منهم قاتلاً في الحقيقة وإذا ثبت أن كل واحد منهم ليس بقاتل لم يدخل تحت هذه لآية وأما قتل الجماعة بالواحد فذاك ثبت على سبيل التعبد وكذ القول في إيجاب الكفارات المتعددة
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله المدلول عليه لم
يضمن الدال الجزاء وقال أبو حنيفة رحمه الله يضمن حجة الشفعي أو وجوب الجزاء معلق بالقتل في هذه الآية والدلالة ليست بقتل فوجب أن لا يجب الضمان ولأنه بدل المتلف فلا يجب بالدالة ككفارة القتل والدية وكالدلالة على مال المسلم حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عمر عن هذه المسألة فشاور عبد الرحمن بن عوف فأجمعا على أن عليه الجزاء وعن ابن عباس أنه أوجب الجزاء على الدال أجاب الشافعي رحمه الله بأن نص القرآن خير من أثر بعض الصحابة
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله إن جرح ظبياً فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة وقال داود لا يضمن ألبتة سوى القتل وقال المزني عليه شاة حجة داود أن الآية دالة على أن شرط وجوب الجزاء هو القتل فإذا لم يوجد القتل وجب أن لا يجب الجزاء ألبتة وجوابه أن المعلق على القتل وجوب مثل المقتول وعندنا أن هذا لا يجب عند عدم القتل فسقط قوله
المسألة السابعة إذا رمى من الحل والصيد في الحل فمر في السهم طائفة من الحرم قال الشافعي رحمه الله يحرم وعليه والجزاء وقال أبو حنيفة لا يحرم حجة الشافعي أن سبب الذبح مركب من أجزاء بعضها مباح وبعضها محرم وهو المرور في الحرم وما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال لا سيما في الذبح الذي الأصل فيه الحرمة وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن قوله تعالى لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نهى له عن الاصطياد حال كونه في الحرم فلما لم يوجد واحد من هذين الأمرين وجب أن لا تحصل الحرمة
المسألة الثامنة الحلال إذا اصطاد صيداً وأدخله الحرم لزمه الارسال وإن ذبحه حرم ولزمه الجزاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وقا الشافعي رحمه الله وقال اشفعي رحمه الله يحل وليس عليه ضمان حجة الشافعي قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) وحجة أبي حنيفة قوله تعالى لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نهى عن قتل الصيد حال كونه محرماً وهذا يتناول الصيد الذي اصطاده في الحل والذي اصطاده في الحرم
المسألة التاسعة إذا قتل المحرم صيداً وأدى جزاءه ثم قتل صيداً آخر لزمة جزاء آخر وقال داود لا يجب حجة الجمهور أن قوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظاهره يقتضي أن علة وجوب الجزاء هو القتل فوجب أن يتكرر الحكم عند تكرر العلة
فإن قيل إذا قال الرجل لنسائه من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين لم يقع إلا طلاق واحد
قلنا الفرق أن القتل علة لوجوب الجزاء فيلزم تكرر الحكم عند تكرر العلة أما ههنا دخول الدار شرط لوقوع الطلاق فلم يلزم تكرر الحكم عند تكرر الشرط حجة داود قوله تعالى وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة
المسألة العاشرة قال الشافعي رحمه الله إذا أصاب صيداً أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب إليّ وعلى هذا الكبير أولى من الصغير ويفدى الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى والأولى أن
لا بغير لأن نص القرآن إيجاب المثل والأنثى وإن كانت أفضل من الذكر من حيث إنها تلد فالذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أيب وصورته أحسن
ثم قال تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس يريد يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان ذوا عدل منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشباه به من النعم فيحكمان به واحتج به من نصر قول أبي حنيفة رحمه الله في إيجاب القيمة فقال التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد وأما الخلقة والصورة فظاهرة مشاهدة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد
وجوابه أن وجوه المشهابهة بين النعم وبين الصيد مختلفة وكثيرة فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف والذي يدل على صحة ما ذكرنا أنه قال ميمون بن مهران جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال إني أصبت من الصيد كذا وكذا فسأل أبو بكر رضي الله عنه أبي بن كعب فقال الأعرابي أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك فقال أبو بكر رضي الله عنه وما أنكرت من ذلك قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به وعن قبيضة بن جابر أنه حين كان محرماً ضرب ظبياً فمات فسأل عمر بن الخطاب رضي لله عنه وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف فقال عمر لعبد الرحمن ما ترى قال عليه شاة قال وأنا أرى ذلك فقال إذهب قاهد شاة قال قبيصة فخرجت إلى صاحبي وقلت له إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره قال ففاجأني عمر وعلاني بالدرة وقال أتقتل في الحرم وتسفه الحكم قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله الذي له مثل ضربان فما حكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره لأنه شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم به حجة الشافعي رحمه الله الآية دلت على أنه يجب أن يحكم به ذوا عدل فإذا حكم به إثنان من الصحابة فقد دخل تحت الآية ثم ذاك أولى لما ذكرنا أنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين إذا كان أخطأ فيه فإن تعمد لا يجوز لأنه يفسق به وقال مالك لا يجوز كما في تقويم المتلفات حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلاً فإذا حكم به هو وغيره فقد حكم به ذوا عدل وأيضاً روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فسأل عمر عنه فقال عمر احكمد فقال أنت عدل يا أمير المؤمنين فاحكم فقال عمر رضي الله عنه إنما أمرتك أن تحكم وما أمرتك أن تزكيني فقال أرى فيه جدياً جمع الماء والشجر فقال افعل ما ترى وعلى هذا التقدير قال أصحابنا يجوز أن يكونا قاتلين
المسألة الرابعة لو حكم عدلان بمثل وحكم عدلان رخران بمثل آخر فيه وجهان أحدهما
يتخير والثاني يأخذ بالأغلظ
المسألة الخامسة قال بعض مثبتي القياس دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوّض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة منها الاجتهاد في القبلة ومنها العمل بشهادة الشاهدين ومنها العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ومنها العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول كما في هذه الآية ومنها عمل العامي بالفتوى ومنها العمل بالظن في مصالح الدنيا إلا أنا نقول إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل وإن سلمتم المغايرة لم يلزم من كون الظن حجة في تلك الصور كونه حجة في مسألة القياس إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس وهو باطل وأيضاً فالفرق ظاهر بين البابين لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر وأما التنصيص عى الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر فظهر الفرق والله أعلم
ثم قال تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول أن المعنى يحكمان به هدياً يساق إلى الكعبة فينحر هناك وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئاً يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هدياً وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير الثاني أن يكون المعنى يحكمان به شيئاً يشتري به ما يكون هدياً وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ والحق هو الأول وقوله هَدْياً نصب على الحال من الكناية في قوله بِهِ والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى المثل والهدي حال منه وعند التفظن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة والله أعلم
المسألة الثانية قوله بَالِغَ الْكَعْبَة ِ صفة لقوله هَدْياً لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافاً ومثله عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( الأحقاف 24 )
المسألة الثالثة سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقاً لها ونظير هذه الآية قوله ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 )
المسألة الرابعة معنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم وإذا ذبحه في الحرم قال الشافعي رحمه الله يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً وقال أبو حنيفة رحمه الله له أن يتصدق به حيث شاء وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم
حجة الشافعي أن نفس الذبح إيلام فلا يجوز أن يكون قربة بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء فقوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هدياً بالغ الكعبة فوجب أن يخرج عن العهدة
ثم قال تعالى أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ على إضافة الكفارة إلى الطعام والباقون أَوْ كَفَّارَة ٌ بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين أما وجه القراءة الأولى فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء الهدي والصيام والطعام حسنت الإضافة فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي ولا كفارة صيام فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء وأما وجه قراءة من قرأ أَوْ كَفَّارَة ٌ بالتنوين فهو أنه عطف على قوله فَجَزَاء و طَعَامُ مَسَاكِينَ عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد
المسألة الثانية قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله كلمة أَوْ في هذه الآية للتخيير وقال أحمد وزفر إنها للترتيب
حجة الأولين أن كلمة ( أو ) في أصل اللغة للتخيير والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر
حجة الباقين أن كلمة ( أو ) قد تجيء لا لمعنى للتخيير كما في قوله تعالى أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ ( المائدة 33 ) فإن المراد منه تخصيص كل واحد من هذه الأحكام بحالة معينة فثبت أن هذا اللفظ يحتمل الترتيب فنقول والدليل دل على أن المراد هو الترتيب لأن الواجب ههنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ والتخيير ينافي التغليظ
والجواب أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل
المسألة الثالثة إذا قتل صيداً له مثل قال الشافعي رحمه الله هو مخير بين ثلاثة أشياء إن شاء أخرج المثل وإن شاء قوم المثل بدراهم ويشتري بها طعاماً ويتصدق به وإن شاء صام وأما الصيد الذي لا مثل له فهو مخير فيه بين شيئين بين أن يقوم الصيد بالدراهم ويشتري بتلك الدراهم طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم فعلى ما ذكرنا الصيد الذي له مثل إنما يشتري الطعام بقمية مثله وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إنما يشتري الطعام بقيمته حجة الشافعي أن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه فيعدل به كما يعدل عن الصوم بالطعام وأيضاً تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن مثل المتلف إذا وجب اعتبر بالمتلف لا بغيره ما أمكن والطعام إنما وجب مثلاً للمتلف فوجب أن يقدر به
المسألة الرابعة اختلفوا في موضع التقويم فقال أكثر الفقهاء إنما يقوم في المكان الذي قتل الصيد فيه وقال الشعبي يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها
المسألة الخامسة قال الفراء العدل ما عادل الشيء من غير جنسه والعدل المثل تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان عندك غلام يعدل غلاماً أو شاة تعدل شاة أما إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت عدل وقال أبو الهيثم العدل المثل والعدل القيمة والعدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به والعدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه وقال الزجاج وابن الأعرابي العدل والعدل سواء وقوله صِيَاماً نصب على التمييز كنا تقول عندي رطلان عسلا وملء بيت قتا والأصل فيه إدخال حرف من فيه فإن لم يذكر نصبته تقول رطلان من العسل وعدل ذلك من الصيام
المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يصوم لكل مد يوماً وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصوم لكل نصف صاع يوماً والأصل في هذه المسألة أنهما توافقا على أن الصوم مقدر بطعام يوم إلا أن طعام اليوم عند الشافعي مقدر بالمد وعند أبي حنيفة رحمه الله مقدر بنصف صاع على ما ذكرناه في كفارة اليمين
المسألة السابعة زعم جمهور الفقهاء أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد وقال محمد بن الحسن رحمه الله إلى الحكمين حجة الجمهور أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الثلاثة على التخيير فوجب أن يكون قاتل الصيد مخيراً بين أيها شاء وحجة محمد رحمه الله أنه تعالى جعل الخياة إلى الحكمين فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً أي كذا وكذا
وجوابنا أن تأويل الآة فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً وأما الاذي يحكم به ذوا عدل فهو تعيين المثل إما في القيمة أو في الخلقة
ثم قال تعالى لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الوبال في اللغة عبارة عما فيه من الثقل والمكروه يقال مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة وماء وبيل إذا لم يستمر أو الطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا ينهضم قال تعالى فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ( المزمل 16 ) أي ثقيلا
المسألة الثانية إنما سمى الله تعالى ذلك وبالا لأنه خيره بين ثلاثة أشياء اثنان منها توجب تنقيص المال وهو ثقيل على الطبع وهما الجزاء بالمثل والاطعام والثالث يوجب إيلام البدن وهو الصوم وذلك أيضاً ثقيل على الطبع والمعنى أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام
ثم قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول عفا الله عما مضى في الجاهلية وعما سلف قبل التحريم في الإسلام
القول الثاني وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى أما في المرة الثانية فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء فعلى هذا المراد عفا الله عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم الله منه وحجة هذا القول أن
الفاء في وقله فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فاء الجزاء والجزاء هو الكافي فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب وكونه كافياً يمنع من وجوب شيء آخر وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه
المسألة الثانية قال سيبويه في قوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وفي قوله وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ( البقرة 126 ) وفي قوله فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) إن في هذه الآيات إضماراً مقدراً والتقدير ومن عاد فهو ينتقم الله منه ومن كفر فأنا أمتعه ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف وبالجملة فلا بدّ من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبراً عنه والدليل عليه أن الفعل يصير بنفسه جزاء فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغواً أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغواً والله أعلم
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالصيد المصيد وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس الحيتان وجميع أنواعها حلال والضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين فقال أبو حنيفة رحمه الله إنه حرام وقال ابن أبي ليلى والأكثرون إنه حلال وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار
المسألة الثانية أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوهاً
الأول وهو الأحسن ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع
والوجه الثاني أن صيد البحر هو الطري وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحاً لأنه لما صار عتيقاً سقط اسم الصيد عنه وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي وهو ضعيف لأن الذي صار مالحاً فقد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار والثالث أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله السمكة الطافية في البحر محللة وقال أبو حنيفة رحمه الله محرّمة حجة الشافعي القرآن والخبر أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاماً فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )
المسألة الرابعة قوله للسيارة يعني أحلّ لكم صيد البحر للمقيم والمسافر فالطري للمقيم والمالح للمسافر
المسألة الخامسة في انتصاب قوله أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وجهان الأول قال الزجاج انتصب لكونه مصدراً مؤكداً إلا أنه لما قيل أُحِلَّ لَكُمُ كان دليلاً على أنه منعم به كما أنه لما قيل حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) كان دليلاً على أنه كتب عليهم ذلك فقال كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( النساء 24 ) الثاني قال صاحب ( الكشاف ) انتصب لكونه مفعولاً له أي أحل لكم تمتيعاً لكم
ثم قال تعالى وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة من قوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) إلى قوله وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( المائدة 2 ) ومن ثوله لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 95 ) إلى قوله وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً
المسألة الثانية صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر فعلى هذا السلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ويجب على قاتله الجزاء
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن المحرم عليه الصيد واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم فيه أربعة أقوال الأول وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس وذكره الثوري وإسحاق أنه يحرم عليه بكل حال وعولوا فيه على قوله وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال وكل ذلك صيد البر وروى أبو داود في ( سننه ) عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبدالله بن الحرث عن أبيه قال كان الحرث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاماً وصنع فيه الحجل واليعاقيل ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء فقالوا له كل فقال علي أطعمونا قوتاً حلالاً فإنا حرم ثم قال علي عليه السلام أنشد الله من كان ههنا من أجع أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله فقالوا نعم
والقول الثاني أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له وهو قول الشافعي رحمه الله والحجة فيه ما روى أبو داود في ( سننه ) عن جابر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم )
والقول الثالث أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له وهو قول أبي حنيفة رحمه الله روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فسألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال ( هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا فقال هل بقي من لحمه شيء أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والاعانة من غير تفصيل
واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والثاني في غاية الضعف
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظباً على الطاعة محترزاً عن المعصية
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْى َ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْى َ وَالْقَلَائِدَ
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى حرّم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر قَيِّماً بغير ألف ومعناه المبالغة في كونه قائماً بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى دِينًا قِيَمًا ( الأنعام 161 ) والباقون بالألف وقد استقصينا ذلك في سورة النساء
المسألة الثانية جَعَلَ فيه قولان الأول أنه بين وحكم الثاني أنه صير فالأول بالأمر والتعريف والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه
المسألة الثالثة سميت الكعبة كعبة لارتفاعها يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب وكعب الإنسان يسمى كعباً لنتوه من الساق فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه
المسألة الرابعة قوله قِيَاماً لّلنَّاسِ أصله قوام لأنه من قام يقوم وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح ثم ذكروا ههنا في كون الكعبة سبباً لقوام مصالح الناس وجوهاً الأول أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلي فالله تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات فصار ذلك سبباً لاسباغ النعم على أهل مكة الثاني أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) الثالث أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم الرابع أنه تعالى جعل الكعبة قواماً للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة وجعل تلك المناسك سبباً لحط الخطيآت ورفع الدرجات وكثرة الكرامات
واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه وذلك لأن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه وإما بدفع المضار وهو الوجه الثاني وءما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث وإما بحصول الدين وهو الوجه الرابع فلما كانت الكعبة سبباً لحصول هذه الأقسام الأربعة وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ثبت أن الكعبة سبب لقوام الناس
المسألة الخامسة المراد بقوله قِيَاماً لّلنَّاسِ أي لبعض الناس وهم العرب وإنما حسن هذا المجاز لأن أهل كل بلد إذا قالوا الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم
المسألة السادسة اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سبباً لقيام الناس وقوامهم الأول الكعبة وقد بيثنا معنى كونها سبباً لقيام الناس وأما الثاني فهو الشهر الحرام ومعنى كونه سبباً لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضاً في سائر الأشهر ويغير بعضهم على بعض فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سبباً لقوام معيشتهم في الدنيا أيضاً فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج
واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبّر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس وأما الثالث فهو الهدي وهو إنما كان سبباً لقيام الناس لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكاً للمهدي وقواماً لمعيشة الفقراء وأما الرابع فهو القلائد والوجه في كونها قياماً للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد ومن قصده من غير الشهر الحرلاام ومعه هدي وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلداً ويموت من الجوع فلا يتعرض له البتة ولم يتعرض لها صاحبها أيضاً وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمناً من جميع الآفات والمخافات فلما ذكر الله تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد لأن هذه الثلاثة إنما صارت سبباً لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام فكان ذلك دليلاً على عظمة هذا البيت وغاية شرفه
ثم قال تعالى ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ
والمعنى أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية دبر في ذلك تدبيراً لطيفاً وهو يأنه ألقى في قلوبهم اعتقاداً قوياً في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه فصار ذلك سبباً لحصول الأمن في البلد الحرام وفي الشهر الحرام فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان وفي هذا المكان فاستقامت مصالح معاشهم ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل
عالماً بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سبباً لحصول الأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان وفي ذلك الزمان وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالماً فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح وكل من كان كذلك كان عالماً ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سبباً لحصول الأمن في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة فعل في غاية الاتقان والاحكام فيكون ذلك دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات فلا جرم قال ذلك لّتَعْلَمُواْ أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن فتعلموا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم إذا عرفتم ذلك عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك امتنع أن يكون مخصوصاً بالبعض دون البعض فوجب كونه متعلقاً بجميع المعلومات وإذا كان كذلك كان الله سبحانه عالماً بجميع المعلومات فلذلك قال وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لما ذكر الله تعالى أنواع رحمته بعباده ذكر بعده أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفوراً رحيماً وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفوراً رحيماً وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة ثم قال تعالى
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة 98 ) أتبعه بالتكليف بقوله مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ يعني أنه كان مكلفاً بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون
وبما تكتمون فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم
قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة ُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاٌّ لْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ثم قال تعالى قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ
اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة 98 ) ثم أتبعه بالتكليف بقوله مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( المائدة 99 ) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان أحدهما الذي يكون جسمانياً وهو ظاهر لكل أحد والثاني الذي يكون روحانياً وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذراً عند أرباب الطباع السليمة فكذلك الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل ومنفعته طيبة مختصرة وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية وطيب الطيب الروحاني فمنفتعه عظيمة دائمة أبدية وهو القرب من جوار رب العالمين والانخراط في زمرة الملائكة المقربين والمرافقة من النبيّين والصدّيقين والشهداء الصالحين فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية
ثم قال تعالى وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة ُ الْخَبِيثِ يعني أن الذي يكون خبيثاً في عالم الرحانيات قد يكون طيباً في عالم الجسمانيات ويكون كثير المقدار وعظيم اللذة إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( الكهف 46 ) وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية
ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة والتحذيرات من المعصية أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية والتعريفات القوية ولا تقدموا على مخالفته لعلّكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
قوله تعالى تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى لما قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( المائدة 99 ) صار التقدير كأنه قال ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه الرسول إليك
فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فإنكم أن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم الثاني أنه تعالى لما قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وهذا ادعاء منه للرسالة ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكياً عنهم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسرار 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسرار 93 ) والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام اليكم والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه المعجزات وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم
الوجه الثالث أن هذا متصل بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) فاتركوا الأمور على ظواهرنا ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم
المسألة الثانية أشياء جمع شيء وأنها غير متصرفة وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه الأول قال الخليل وسيبويه قولنا شيء جمعه في الأصل شيآء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت لفعاء وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه واحد منها مذكور وإثنان خطرا ببالي
أما الأول وهو المذكور فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء مثل حمراء لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حمراء والثاني ى نها لما كانت في الأصل شيآء ثم جعلت أشياء كان ذلك تشبيهاً بالمعدول كما في عامر وعمر وزافر وزفر والعدل أحد أسباب منع الصرف الثالث وهو إنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله والكلمة من حيث إنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة ونصف الكلمة لا يقبل الاعراب ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية بل ألصقناه بأولها كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها فلا جرم منعناه بعض وجوه الاعراب دون البعض تنبيهاً على هذه الحالة فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام
الوجه الثاني في بيان السبب في منع الصرف ما ذكره الأخفش والفراء وهو أن أشياء وزنه أفعلاء كقوله أصدقاء وأصفياء ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة فلما كان أشياء في الأصل أشيياء على وزن أصدقاء وأفعلاء وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف فكذا ههنا
الوجه الثالث ما ذكره الكسائي وهو أن أشياء على وزن أفعال إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيهاً في الظاهر بحمراء وصفراء وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء لأن للكسائي أن يقول القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء إلا أنه ترك العمل به للنص لأن النص أقوى من القياس ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد ألا ترى أنا إذا قلنا الفاعلية توجب الرفع لزمنا أن نحكم
بحصول الرفع في جميع المواضع كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا بل نقول القياس ذلك فيعمل به إلا إذا عارضه نص فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي
المسألة الثالثة روى أنس أنهم سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال ( سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به ) فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال يا نبي الله من أبي فقال ( أبوك حذافة بن قيس ) وقال سراقة بن مالك ويروي عكاشة بن محصن يا رسول الله الحج علين في كل عام فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أعاد مرتين أو ثلاثة فقال عليه الصلاة والسلام ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لتركتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) وقام آخر فقال يا رسول الله أين أبي فقال ( في النار ) ولما اشتد غضب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام عمر وقال رضينا بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد نبياً فأنزل الله تعالى هذه الآية
وأعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه ( ءن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من كان سبباً لتحريم حلال إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام ) وكان عبيد بن عمير يقول إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى ثم يتلو هذه الآية وقال أبو ثعلبة الخشني ءن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها
ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن وفيه وجوه الأول أنه بيّن بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم والوجه الثاني في تأويل الآية أن السؤال على قسمين أحدهما السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه فهذا السؤال منهى عنه بقوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
والنوع الثاني من السؤال السؤال عن شيء نزل به لقرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فههنا
السؤال واجب وهو المراد بقوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزاً لهذا القسم عن ذلك القسم
فإن قيل قوله وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء فكيف يعقل في أَشْيَاء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعاً وجائزاً معاً
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعاً قبل نزول القرآن بها ومأموراً به بعد نزول القرآن بها والثاني أنهما وإن كانا نوعين مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولاً عنه شيء واحد فلهذا حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين
الوجه الثالث في تأويل الآية إن قوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء فقوله وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولاً وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا
ثم قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وفيه وجوه الأول عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها فلا تعودوا إلى مثلها الثاني ى نه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم فقال عَفَا اللَّهُ عَنْهَا يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم الثالث في الآية تقديم وتأخير والتقدير لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وهذا ضعيف لأن الكلام إذا اسقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير وعلى هذا الوجه فقوله عَفَا اللَّهُ عَنْهَا أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ) أي خففت عنكم بإسقاطها
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما كذرناه في الوجه الأول ثم قال تعالى
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
قال المفسرون يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا
قال المفسرون يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) فصار ذلك وبالاً عليهم وبنو إسرائيل قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قال تعالى فما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم و و قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ( البقرة 246 247 ) فسألوها ثم كفروا بها وقوم عيسى سألوا عن أشياء فلعلّكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك فإن قيل إنه تعالى قال أولاً لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء ( المائدة 101 ) ثم قال ههنا قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ وكان الأولى أن يقول قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك
قلنا الجواب من وجهين الأول أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله وصفة من صفاته وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه يقال سألته درهماً أي طلبت منه الدرهم ويقال سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء فهم سألوا نفس الشيء وأما أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم ما سألوا ذلك وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة أيضاً إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد وهو أنه خوض في الفضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه خطر المفسدة والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة يجب على العاقل الاحتراز عنه فبيّن تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولاً وخوضاً فيما لا فائدة فيه
الوجه الثاني في الجواب أن الهاء في قوله قَدْ سَأَلَهَا غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء والتقدير قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
قوله تعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ في الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها بيّن تعالى أن ذلك باطل فقال مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ
المسألة الثانية أعلم أنه يقال فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل وبعضها أعم من بعض وأكثرها عموماً فعل لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر وأما إنه واقع على أعمال القلوب فدليل عليه قوله تعالى لَوْ شَآء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْء نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا إلى قوله كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( النحل 35 ) وأما عمل فإنه أخص من فعل لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح ولا يقع على الهم والعزم والقصد والدليل عليه قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) جعل النية خيراً من العمل فلو كانت النية عملاً لزم كون النية خيراً من نفسها وأما جعل فله وجوه أحدها الحكم ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ عَمَّ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثانيها الخلق ومنه قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الانعام 1 ) وثالثها بمعنى التصيير
ومه قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( الزخرف 3 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله مَّا جَعَلَ اللَّهُ أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء أولها البحيرة وهي فعلية من البحر وهو الشق يقال بحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول قال أبو عبيدة والزجاج الناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسبوها لآلهتهم ولا يجز لها وبر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعبي لم يركبها تحريجاً
وأما السائبة فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية فالسائبة هي التيتركت حتى تسيب إلى حيث شاءت وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية وذكروا فيها وجوهاً أحدها ما ذكره أبو عبيدة وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها وثانيها قال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف وثالثها قال ابن عباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ورابعها السائبة هو العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث
أما الوصيلة فقال المفسرون إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها وأما الحام فيقال حماه يحميه إذا حفظه وفيه وجوه أحدها الفحل إذا ركب ولد ولده قيل حمى ظهره أي حفظه عن الركوب فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت فحينئذٍ تأكله الرجال والنساء وثانيها إذا نتجت الناقة عشرة أبطن قالوا حمت ظهرها حكاه أبو مسلم وثالثها الحامهو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها وهو قول السدي
فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد هذه البهائم من الذبح والاتعاب والايلام
قلنا الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته فإذا تمرد عن طاعة الله تعالى عوقت بضرب الرق عليه فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة الله تعالى فكان ذلك عبادة مستحسنة وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة فظهر الفرق وأيضاً الإنسان إذا كان عبداً فأعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه وأما البهيمة إذا أعتقت وتركت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
قال المفسرون إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ) والقصب المعا وجمعه الاقصاب ويروي يجر قصبه في النار قال ابن عباس قوله وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يريد عمرو بن لحي وأصحابه يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيب في تحريمهم هذه الأنعام والمعنى أن الرؤساء يفترون على الله على الكذب فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون فلا جرم يفترون على الله هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء ثم قال تعالى
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
والمعنى معلوم وهو رد على أصحاب التقليد وقد استقصينا الكلام فيه في مواضع كثيرة
وأعلم أن الواو في قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون
وأعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي وإنما يكون عالماً مهتدياً إذا بنى قوله على الحجة والدليل فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالماً مهتدياً فوجب أن لا يجوز الاقتداء به
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّة ِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَة ُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواة ِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَة َ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الاٌّ ثِمِينَ
قوله تعالى يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) إلى قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( المائدة 104 ) فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه فلا يضركم ضلالتهم
وجهالتهم فلهذا قال يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
المسألة الثانية قوله عَلَيْكَ أَنفُسَكُمْ أي احفظوا من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال تقول العرب عليك وعندك ودونك فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل وينصبون بها فيقال عليك زيداً كأنه قيل خذ زيداً فقد علاك أي أشرف عليك وعندك زيداً أي حضرك فخذه ودونك أي قرب منك فخذه فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب ( الكشاف ) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ بالرفع عن نافع
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى وثانيها أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين وثالثها أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( المائدة 104 ) ذكر تعالى هذه الآية والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه
المسألة الرابعة فإن قيل ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول وهو الذي عليه أكثر الناس إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل خطب الصديق رضي الله عنه فقال إنكم تقرؤن هذه الآية يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب )
والوجه الثاني في تأول الآية ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يكون هذا في آخر الزمان قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً ووكل كل امرىء ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية وهذا القول عندي ضعيف لأن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب عام وهو أيضاً خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب
والوجه الثالث في تأويل الآية مال ذهب إليه عبد الله بن المبارك قال هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني عليكم أهل دينكم ولا يشركم من ضل من الكفار وهذا كقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) يعني أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني بأن يعظ
بعضكم بعضاً ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمراً بأننحفظ أنفسنا فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً
والوجه الرابع أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ ولا يتركون الكفر بسبب الأمر بالمعروف فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين
الوجه الخامس أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل وكان ابن شبرمة يقول من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر
الوجه السادس لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك
الوجه السابع عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة فإنلم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم
والوجه الثامن أنه تعالى قال لرسوله فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ( النساء 84 ) وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا
المسألة الخامسة قريء لا يضركم بفتح الراء مجزوماً على جواب قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وقريء بضم الراء وفيه وجهان أحدهما على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل والثاني أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد
ثم قال تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يريد مصيركم ومصير من خالفكم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني يجازيكم بأعمالكم
يا أيها الذين آمنوا شهداة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله عليكم أنفسكم أمر بحفظ المال في قوله يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية تميما الداري وأخاه عديا كان نصرانيين خرجا
إلى الشام ومعهما بديل عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا خرجوا للتجارة فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبه بذلك ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلثمائة مثقال ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء فقالوا لتميم وعدي أين الإناء فقالا لا ندري والذي دفع إلينا دفعناه إليكم فرفعوا الواقعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية قوله شهادة بينكم يعني شهادة ما بينكم وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله شهادة بينكم جائز لظهوره ونظيره قوله هذا فراق بيني وبينك الكهف 78 أي ما بيني وبينك وقوله لقد تقطع بينكم الأنعام 94 في قراءة من نصب وقوله إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية يعني الشهادة المحتاج إليها عند حضور الموت وحين الوصية بدل من قوله إذا حضر أحدكم لأن زمان حضور الموت هو زمان حضور الوصية فعرف ذلك الرمان بهذين الأمرين الواقعين فيه كما يقال ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات وقوعه كقوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية البقرة 180 قالوا وقوله إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية دليل على وجوب الوصية لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية
ثم قال تعالى اثنان ذو عدل منكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية حذف والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم وتقدير الآية شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف هي أن يشهد اثنان ذو عدل منكم وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما
المسألة الثانية اختلف المفسرون في قوله منكم على قولين الأول وهو قول عامة المفسرين أن المراد اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين أي من أهل دينكم وملتكم وقوله أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن
جبير وسعيد بن المسيب وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج قالوا إذا كان الإنسان في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة قال الشعبي رحمه الله مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر بالله أنهما ما كذبا ولا بدلا وأجاز شهادتهما ثم إن القائلين بهذا القول منهم من قال هذا الحكم بقي محكما ومنهم من قال صار منسوخا
القول الثاني وهو قول الحسن والزهري الفقهاؤ أن قوله ذوا عدل منكم أي من أقاربكم وقوله أو آخران من غيركم أي من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض أي أن توقع الموت في السفر ولم يكن معهم أحد من أقاربكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولا لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم وأرأف واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بوجوه
الحجة الأولى أنه تعالى قال في أول الآية يا أيها الذين آمنوا فعمم بهذا الخطاب جميع المؤمنين فلما قال بعده أو آخران من غيركم كان المراد أو آخران من جميع المؤمنين لا محالة
الحجة الثانية أنه تعالى قال أو لآخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض وهذا يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر فلو كان هذان الشاهدان مسلمين لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر
الحجة الثالثة الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين
الحجة الرابعة أن سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصاريين على بديل وكان مسلما
الحجة الخامسة ما روينا أن أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا
الحجة السادسة إنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحدا من المسلمينن والضرورات قد تبيح المحذورات ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة والافطار في رمضان وأكل الميتة في حال الضرورة والضرورة حاصلة في هذه المسألة لأن المسلم إذا قرب أجله في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على نفسه ولم تكن شهادة الكفار مقبولة فإنه يضيع أكثر مهماته فإنه ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في ذمته وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة والاستهلال لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الاحوال فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة فكذا ههنا وأما قول من يقول بأن هذا الحكم صار منسوخا فبعيد لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وليس فيها منسوخ واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله وأشهدوا ذوي عدك منكم الطلاق 2 والكافر لا يكون عدلا
أجاب الأولون عنه لم لا يجوز ان يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب لا بد من كان عدلا في الدين والاعتقاد والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع مع أنهم ليسوا عدولا في مذاهبهم ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم فكذا ههنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله وأشهدوا ذوي عدل منكم عام وقول في هذه الآية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر فهذه الآية خاصة والآية التي ذكرتموها عامة والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متأخرا في النزول ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبا بالاتفاق والله أعلم
ثم قال تعالى أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله أو آخران عطف على قوله اثنان والتقدير شهادة بينكم أن يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم
المسألة الثانية قوله إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت المقصود منه بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيرهم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافرا ضاربا في الأرض وحضرت علامات نزول الموت به
ثم قال تعالى وتحسبونهما من بعد الصلاة وفيه مسألتان
المسألة الأولى تحسبونهما أي توقفونهما كما يقول الرجل مر بي فلان على فرس فحبس علي دابته أي أوقفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته
فإن قيل ما موقع تحبسونهما
قلنا هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن حصلت الريبة فيهما فقيل تحبسونهما
المسألة الثانية قوله من بعد الصلاة فيه أقوال الأول قال ابن عباس من بعد صلاة أهل دينهما والثاني قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر
فإن قيل كيف عرف أن المراد هو صلاة العصر مع أن المذكور هو الصلاة المطلقة
قلنا إنما عرف هذا التعيين بوجوه أحدها أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ وثانيها ما روي أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد وثالثها أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها
والقول الثالث قال الحسن المراد بعد الظهر أو بعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما
القول الرابع أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في أشرف المساجد وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان وهذا على خلاف الآية ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه أقوى
ثم قال تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فيقسمان بالله للجزاء يعني تحسبونهما فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم قوله وإن ارتبتم اعتراض بين القسم والمقسم عليه والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة
المسألة الثالثة قوله لا نشتري به ثمنا يعني يقسمان بالله أنا لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا قائلين لا نشتري به ثمنا وهو كقوله إن الذين يشرون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا آل عمران 77 أي لا نأخذ ولا نستبدل ومن باع شيئا فقد اشترى ثمنه وقوله ولو كان ذا قربى أي لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولو كان ذلك الشيء حبوة ذي قربى أو نفسه وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بسببهم أعظم وهو كقوله كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين النساء 135
ثم قال تعالى ولا نكتم شهادة الله وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا عطف على قوله لا نشتري به ثمنا يعني أنهما يقسمان حال ما يقولان لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمر الله بحفضها وإظهارها
المسألة الثانية نقل عن الشعبي أنه وقف على قوله شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وروي عنه بغير مد على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول الله لقد كان كذا والمعنى تالله
ثم قال تعالى إنا إذا لمن الآثمين يعني إذا كتمناها كنا من الآثمين
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاٌّ وْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
ثم قال تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً قال الليث رحمه الله عثر الرجل يعثر عثوراً إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وأعثرت فلاناً على أمري أي أطلعته عليه وعثر الرجل يعثر عثرة إذا وقع على شيء قال أهل اللغة وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفياً عليه قد عثر عليه وأعثر غيره إذا أطلعه عليه ومنه قوله تعالى وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ( الكهف 21 ) أي اطلعنا ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة
ثم قال تعالى فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معنى الآية فإن عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثماً أي حنثاً في اليمين بكذب في قول أو خيانة في ممال قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا وروي أنه لما نزلت الآية الأولى صلّى رسولل الله ( صلى الله عليه وسلم ) العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إل ه إلا هو أنه لم يوجد منال خيانة في هذا المال ولما حلفا خلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبيلهما وكتما الإناء مدة ثم ظهروا واخلفوا فقيل وجد بمكة
وقيل لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا كنا قد اشتريناه منه فقالوا ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئاً فقلتما لا فقالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا فرفعوا القصة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأننزل الله تعالى فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري يقول بعدما أسلم صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فلما أسلم أخبر بذلك وقال حلفت كاذباً وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت
المسألة الثانية قوله فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما وقوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ المراد به موالي الميت وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق
عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعلياً على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال
المسألة الثالثة أما قوله الأليان ففيه وجوه الأول أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير هما الأليان وذلك لأنه لما قال إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا فكأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان والثاني أن يكون بدلاً من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان والثالث أجاز الأخفش أن يكون قوله الاْوْلَيَانِ صفة لقوله فَآخَرَانِ وذلك لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله تعالى كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ( النور 35 ) فمصباح نكرة قم قال الْمِصْبَاحُ ثم قال في زُجَاجَة ٍ ثم قال الزُّجَاجَة ُ وهذا مثل قولك رأيت رجلاً ثم يقول إنسان من الرجل فصار بالعود إلى ذكره معرفة الرابع يجوز أن يكون قوله الاْوْلَيَانِ بدلاً من قوله آخران وإبدال المعرفة من النكرة كثير
المسألة الرابعة إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين الأول معنى الأوليان الأقربان إلى الميت الثاني يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك فكان اليمين حقاً لهما وهذا كما أن إنساناً أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولاً لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه
المسألة الخامسة القراءة المشهورة للجمهور استحق بضم التاء وكسر الحاء والأليان تثنية الأولى وقد ذكرنا وجهه وقراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الأولين بالجمع وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم مالهم وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر ألا ترى أنه قد تقدم تَعْمَلُونَ يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ ( المائدة 106 ) وكذلك اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ ( المائدة 106 ) ذكرا في اللفظ قبل قوله يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَة ُ وقرأ حفص وحده بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان وقرأ الحسن الأولان ووجهه ظاهر مما تقدم
ثم قال تعالى فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
والمعنى ظاهر أي وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الخيانة وقوله إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ أي إنا إذا حلفنا موقنين بالكذب معتقدين الزور والباطل
ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَة ِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
ثم قال تعالى ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَة ِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ
والمعنى ذلك الحكم الذي ذكرناه والطريق الذي شرعناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وأن يأتوا بالشهادة لا على وجهها ولكنهم يخافون أن يحلفوا على ما ذكروه لخوفهم من أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم ويفتضحون فيما بين الناس
ثم قال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
والمعنى اتقوا الله أن تخونوا في اومانات واسمعوا مواقظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم الله وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً وروى الواحدي رحمه الله في ( البسيط ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء والله أعلم بأسرار كلامه
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ
اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات وءما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعاً كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولاً ثم ذكر أحوال عيسى أما وصف أحوال القيامة فهو قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول قال الزجاج تقديره واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على المفعول له الثاني قال القفال رحمه الله يجوز أن يكون التقدير والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( النساء 168 169 )
والقول الثاني أنها منقطعة عما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه أيضاً وجهان الأول أن التقدير اذكر يوم يجمع الله الرسل والثاني أن يكون التقدير يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله ماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي أجابه أجبتم إجابة إنكار أم إجابة إقرار ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم فإن قيل وأي فائدة في هذا السؤال قلنا توبيخ قومهم كما أن قوله وَإِذَا الْمَوْءودَة ُ سُئِلَتْ بِأَى ّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( التكوير 8 9 ) المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل
المسألة الثالثة ظاهر قوله تعالى قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم والجمع بين هذا وبين قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 )
مشكل وأيضاً قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك
والجواب عنه من وجوه الأول قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالاً بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون لا علم لنا فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) وقال أيضاً وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) بل إنه تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ ( البقرة 62 ) فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون ألبتة والوجه الثاني أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان فيقول أنت أعلم به مني كأنه قيل لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره وهذا أيضاً ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تردي الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم
والوجه الثالث في الجواب وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أطهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم
والوجه الرابع في الجواب أنهم قالوا لا علم لنا إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يشهد بصحة هذين الجوابين
الوجه الخامس وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إنكم لتختصمون لدي ولعلّ بعضكم ألحن بحجته فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار ) أو لفظ هذا معناه فالأنبياء قالوا لا علام لنا ألبتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ولم يذكروا ألبتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة
الوجه السادس أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل حكيم لا يسفه عادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيراً ولا يدفع شراً فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت
المسألة الرابعة قريء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بالنصب قال صاحب ( الكشاف ) والتقدير أن الكلام قد تمّ بقوله إِنَّكَ أَنتَ أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب عَلَّامُ الْغُيُوبِ على الاختصاص أو على النداء أو وصفاً لاسم إن
المسألة الخامسة دلّت على جواز إطلاق لفظ العلام عليه كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه أما العلاّمة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِى ءُ الاٌّ كْمَهَ وَالاٌّ بْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
قوله تعالى إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل مَاذَا أَجَبْتُمُ ( المائدة 109 ) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ والملاملا النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإل ه به وهو اتخاذ الزوجة والولد فلا جرم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم
المسألة الثانية موضع إِذْ يجوز أن يكون رفعاً بالابتداء على معنى ذاك إذ بقال الله ويجوز أن يكون المعنى اذكر إذ قال الله
المسألة الثالثة خرج قوله إِذَا قَالَ اللَّهُ على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه
الأول الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم قال الله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) الثاني أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته ونظيره من القرآن قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ( سبأ 51 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنفال 50 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ ( سبأ 31 ) والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال
المسألة الرابعة وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يجوز أن يكون عِيسَى في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا
جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو ويا زيد بن عمرو وأنشد النحويون
يا حكم بن المنذر بن الجارود
برفع الأول ونصبه على ما بيناه
المسألة الخامسة قوله نِعْمَتِى عَلَيْكَ أراد الجمع كقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس
واعلم أن الله تعالى فسّر نعمته عليه بأمور أولها قوله إِذَا أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وفيه وجهان الأول روح القدس هو جبريل عليه السلام الروح جبريل والقدس هو الله تعالى كأنه أضافه إلى نفسه تعظيماً له الثاني أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية ومنها مشرقة ومنها كدرة ومنها خيرة ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة ) فالله تعالى خصّ عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة ولقائل أن يقول لما دلّت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوّة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل فيلزم الدور وجوابه ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله وبه يندفع هذا السؤال
وثانيها قوله تعالى تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً أما كلام عيسى في المهد فهو قوله إِنّى ءاتَانِى َ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى ( مريم 30 ) وقوله تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً في موضع الحال والمعنى يكلمهم طفلاً وكهلاً من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده
وثالثها قوله تعالى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ
وفي الْكِتَابِ قولان أحدهما المراد به الكتابة وهي الخط والثاني المراد منه جنس الكتب فإن الإنسان يتعلم أولاً كتباً سهلة مختصرة ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة وأما الْحِكْمَة َ فهي عبارة عن العلوم النظرية والعلوم العملية ثم ذكر بعده التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وفيه وجهان الأول أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) وقوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) والثاني وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية لا يحصل إلا لمن صار بانياً في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء فقوله وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
ورابعها قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فَتَكُونُ والباقون عَلَيْهِمْ طَيْراً بغير ألف وطير جمع طائر كضأن وضائن وركب وراكب
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر ههنا فَتَنفُخُ فِيهَا وذكر في آل عمران فَأَنفُخُ فِيهِ ( آل عمران 49 )
والجواب أن قوله كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله فَتَنفُخُ فِيهَا الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء
إذا عرفت هذا فنقول الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث
المسألة الثالثة أنه تعالى اعتبر الأذن في خلق الطين كهيئة الطير وفي صيرورته ذلك الشيء طيراً وإنما أعاد قوله بِإِذْنِى تأكيداً لكون ذلك واقعاً بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده
وخامسها قوله تعالى وَتُبْرِىء الاْكْمَهَ وَالاْبْرَصَ بِإِذْنِى وإبراء الأكمه والأبرص معروف وقال الخليلي الأكه من ولد أعمى والأعمى من ولد بصيرا ثم عمي
وسادسها قوله تعالى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى أي وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء باذني أي بفعلي ذلك عند دعائك وعند قولك للميت أخرج بإذن الله من قبرك وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله تعالى كقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) أي إلا بخلق الله الموت فيها
وسابعها قوله تعالى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْراءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ يحتمل أن يكون المراد منه هذه البينات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالألف وللام للعهد ويحتمل أن يكون المراد منه جنس البينات
المسألة الثانية روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء
ثم قال تعالى فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي سَاحِرٌ بالألف وكذلك في يونس وهود والصف وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس بالألف فقط والباقون سَاحِرٌ فمن قرأ سَاحِرٌ أشار إلى الرجل ومن قرأ سَاحِرٌ أشار به إلى ما جاء به وكلاهما حسن لأن كل واحد منهما قد تقدم ذكره قال الواحدي رحمه الله والاختيار سَاحِرٌ لجواز وعوعه على الحدث والشخص أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص فتقول هذا سحر وتريد به ذو سحر كما قال تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ ( البقرة 177 ) أي ذا البر قال الشاعر
فإنما هي إقبال وإدبار
المسألة الثانية فإن قيل إنه تعالى شرع ههنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ليس من النعم فكيف ذكره ههنا
والجواب أن من الأمثال المشهورة أن كل ذي نعمة محسود وطعن الكفار في عيسى عليه السلام بهذا الكلام يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة فحسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
وثامنها قوله تعالى وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى وقد تقدم تفسير الوحي فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء في القلب كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ( القصص 7 ) وقوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الإنقياد والخضوع في الظاهر يعني رمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم
فإن قيل إنه تعالى قال في أول الآية اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ ( المائدة 110 ) ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام وليس لأمه بشيء منها تعلق
قلنا كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم ولذلك قال تعالى الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( المائدة 110 ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ويقول مع كل يوم رزقه ومن لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أمسى بات
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَة ً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذَا قَالَ وجهان الأول أوحيت إلى الحواريين إذ قال الحواريون الثاني اذكر إذ قال الحواريون
المسألة الثانية هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الكسائي هَلُ تَسْتَطِيعَ بالتاء رَبَّكَ بالنصب وبإدغام اللام في التاء وسبب الادغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانوا أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع وإنما قالوا هل تستطيع أن تسأل ربك وعن معاذ بن جبل أقرأني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هَلُ تَسْتَطِيعَ بالتاء رَبَّكَ بالنصب والباقون يستطيع بالياء ربك برفع الباء وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها هل تسطيع سؤال ربك قالوا وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى والثانية توجب شكهم في استطاعة الله ولا شك أن الأولى أولى وأما القراءة الثانية ففيها إشكال وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم قَالُواْ ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( المائدة 111 ) وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال إنهم بقوا شاكين في اقتدار الله تعالى على ذلك
والجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَة ً مّنَ السَّمَاء فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملاً في الإيمان وقالوا ونعلم أن قد صدقتنا وهذا يدل على مرض في القلب وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان
والوجه الثاني في الجواب أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا
والوجه الثالث في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا وذلك لأن أفعال الله تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعاً فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة وهذا الجواب
يتمشى على قول المعتزلة وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدرو لأن خلاف المعلوم غير مقدور
الوجه الرابع قال السدي هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي هل يطيعك ربك إن سألته وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة
الوجه الخامس لعلّ المراد بالرب هو جبريل عليه السلام لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال تعالى في أول الآية إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) يعني أنك تدعي أنه يريبك ويخصك بأنواع الكرامة فهل يقدر على إنزال مائدة من السماء عليك
والوجه السادس أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول هل يقدر السلطان على إشباع هذا ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح لا يجوز لعاقل أن يشك فيه فكذا ههنا
المسألة الثالثة قال الزجاج المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها وقال ابن الأنباري سميت مائدة لأنها عطية من قول العرب ماد فلان فلانا يميده ميداً إذا أحسن إليه فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى معطية وقال أبو عبيدة المائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية وأصلها مميدة ميد بها صاحبها أي أعطيها وتفضل عليه بها والعرب تقول مادني فلان يميدني إذا أحسن إليه
ثم قال تعالى قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وفيه وجهان الأول قال عيسى اتقوا الله في تعيين المعجزة فإنه جار مجرى التعنت والتحكم وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم ولأنه أيضاً اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة وهو جرم عظيم الثاني أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وقال رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ ( المائدة 35 ) وقوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادراً على إنزال المائدة فاتقوا الله لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب
ثم قال تعالى
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
والمعنى كأنهم لما طلبوا ذلك قال عليس لهم إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا الله في طلب
هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة أحدها أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاماً آخر وثانيها أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة وثالثها أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة وثالثها أنا وءن علمنا بسائر المعجزات صدقك ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة ورابعها أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ونكون عليها من الشاهدي لله بكمال القدرة ولك بالنبوة ثم قال تعالى
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَة ً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لاًّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَة ً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في اللَّهُمَّ فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( آل عمران 26 ) فقوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( آل عمران 26 ) فقوله ( آل عمران 26 ) فقوله اللَّهُمَّ نداء وقوله رَبَّنَا نداء ثان وأما قوله تَكُونُ لَنَا صفة للمائدة وليس بجواب للأمر وفي قراءة عبد الله تَكُنْ لأنه جعله جواب الأمر قال الفراء وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع ومثاله قوله تعالى فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ( مريم 5 6 ) بالجزم والرفع فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدّقُنِى ( القصص 34 ) بالجزم والرفع وأما قوله عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيداً نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود فسمي العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح جديد وقوله قَالَ عِيسَى أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك وَارْزُقْنَا أي وارزقنا طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين
المسألة الثانية تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل فقالوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ( المائدة 113 ) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال وَارْزُقْنَا وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله وَارْزُقْنَا لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فقوله رَبَّنَا ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى وقوله أُنزِلَ عَلَيْنَا انتقال من الذات إلى الصفات وقوله تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى إشارة إلى كون هذه المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال وقوله وَارْزُقْنَا إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ثم قال وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله
المسألة الثالثة في قراءة زيد يَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا والتأنيث بمعنى الآية ثم قال تعالى
قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم ونافع مُنَزّلُهَا بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل وقيل بالتشديد أي منزلها مرة بعد أخرى وبالتخفيف مرة واحدة
المسألة الثانية فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ أي بعد إنزال المائدة فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ قال ابن عباس يعني مسخهم خنازير وقيل قردة وقيل جنساً من العذاب لا يعذب به غيرهم قال الزجاج ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجلاً لهم في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخراً إلى الآخرة وقوله مّن الْعَالَمِينَ يعني عالمي زمانهم
المسألة الثالثة قيل إنهم سألوا عيسى عليه السلام هذا السؤال عند نزولهم في مفازة على غير ماء ولا طعام ولذلك قالا نريد أن نأكل منها
المسألة الرابعة اختلفوا في أن عيسى عليه السلام هل سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان قد أضافها إلى فنسه في الظاهر وكلاهما محتمل والله أعلم
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل نزلت المائدة فقال الحسن ومجاهد ما نزلت واحتجوا عليه بوجهين الأول أن القوم لما سمعوا قوله أُعَذّبُهُ عَذَاباً أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ استغفروا وقالوا لا نريدها الثاني أنه وصف المائدة بكونها عيداً لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة وقال الجمهور الأعظم من المفسرين أنها نزلت لأنه تعالى قال إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ وهذا وعد بالإنزال جزماً من غير تعليق على شرط فوجب حصول هذا النزول
والجواب عن الأول أن قوله فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ شرط وجزاء لا تعلق له بقوله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ
والجواب عن الثاني أن يوم نزولها كان عيداً لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم
المسألة السادسة روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفاً ثم قال اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم
ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها فقال شمعون رأس الحواريين أنت أولى بذلك فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون يا روح الله أمن طعام الدينا أمن طعام الآخرة فقال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزيدكم من فضله فقال الحواريون يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصوا من بعدها فمسخوا قردة وخنازير
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
فيه مسائل
المسألة الأولى هذا معطوف على قوله إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( المائدة 110 ) وعلى هذا القول فهذا الكلام إنما يذكره لعيسى يوم القيامة ومنهم من قال إنه تعالى قال هذا الكلام لعيسى عليه السلام حين رفعه إليه وتعلق بظاهر قوله وَإِذْ قَالَ اللَّهُ وإذ تستعمل للماضي والقول الأول أصح لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) والمراد به يوم القيامة وأما التمسك بكلمة إذ فقد سبق الجواب عنه
المسألة الثانية في قوله قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سؤالان أحدهما أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب وثانيهما أنه كان عالماً بأن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك فلم خاطبه به فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم فنقول إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول ينفي إلهية الله تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحداً منهم لم يقل به
والجواب عن السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار
والجواب عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم والله تعالى ما خلقها ألبتة وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالى ليس خالقها فصح أنهم أثبتوا في حق بعض
الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلهاً له فصح بهذ التأويل هذه الحكاية والرواية
ثم قال تعالى قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ أما قوله سُبْحَانَكَ فقد فسرناه في قوله سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا ( البقرة 32 )
وأعلم أن الله تعالى لما سأل عيسى أنك هل قلت كذا لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة والمقام مقام الخضوع والتواضع ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى عمله المحيط بالكل
فقال إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه
ثم قال تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المفسرون ذكروا فيه عبارات تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك وقيل تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة وقيل تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل
المسألة الثانية تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسماً
والجواب من وجهين الأول أن النفس عبارة عن الذات يقال نفس الشيى وذاته بمعنى واحد والثاني أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام
ثم قال تعالى إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وهذا تأكيد للجملتين المتقدمتين أعني قوله إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وقوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
ثم قال تعالى حكاية عن عيسى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ أن مفسرة والمفسر هو الهاء في به الراجع إلى القول المأمور به والمعنى ما قلت لهم إلا قولاً أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معاً ودلّ على
الأصل بذكر أن المفسرة
ثم قال تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ أي كنت أشهد على ما يفعلون ما دمت مقيماً فيهم
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى والمراد منه وفاة الرفع إلى السماء من قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ ( آل عمران 55 )
كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قال الزجاج الحافظ عليهم المراقب لأحوالهم
وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية ويجوز حمله على العلم ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات ثم قال تعالى
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
فيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية ظاهر وفيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ والله لا يغفر الشرك
والجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا اللكلام عنه والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز فلهذا المعنى طلب المغفرة من الله تعالى والثاني أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه فذكر عيسى هذا الكرم ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله وترك التعرض والاعتراض بالكلية ولذلك ختم الكلام بقوله فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني أنت قادر على ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب وليس في إسقاطه على الله مضرة فوجب أن يكون حسناً بل دلّ الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام
الوجه الثالث في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه فقال ءانٍ علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك وأنت قد حكمت على كل من كفر ممن عبادك بالعقوبة وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة
الوجه الرابع أنا ذكرنا أن من الناس من قال إن قول الله تعالى لعيسى أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة وعلى هذا القول فالجواب سهل
لأن قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ يعني ان توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الايمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضاً ذاك على هذا التقدير فلا إشكال
المسألة الثانية احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حق الفساق قالوا لأن قول عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم وليس أيضاً في حق الكفار لأن قوله وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل
المسألة الثالثة روى الواحدي رحمه الله أن في مصحف عبد الله ( وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول العَزِيزُ الحَكِيمُ هاهنا أولى من الغفور الرحيم لأن كونة غفوراً رحيماً يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج وأنا العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة فإن كونه عزيزاً يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه لا اعتراض عليه لأحد فإذا كان عزيزاً متعالياً عن جميع جهات الاستحقاق ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفوراً رحيماً يوجب المغفرة والرحمة فكانت عبارته رحمه الله أن يقول عز عن الكل ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل وقال قوم آخرون إنه لو قال فإنك أنت الغفور الرحيم أشعر ذلك بكونه شفيعاً لهم فلما قال فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه
قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ثم قال تعالى قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة والدليل على أن المراد ما ذكرنا أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم ألا ترى أن إبليس قال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ( إبراهيم 22 ) فلم ينفعه هذا الصدق وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ( المائدة 117 )
المسألة الثانية قرأ جمهور القرّاء يَوْمٍ بالرفع وقرأ نافع بالنصب واختاره أبو عبيدة فمن قرأ بالرفع قال الزجاج التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين وأما النصب ففيه وجوه الأول على أنه ظرف لقال والتقدير قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع الثاني أن يكون التقدير هذا الصدق واقع يوم ينفع
الصادقين صدقهم ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخباراً عن الأحداث بهذا التأويل كقولك القتال يوم السبت والحج يوم عرفة أي واقع في ذلك اليوم والثالث قال الفرّاء يَوْمٍ أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة
على حين عاتبت المشيب على الصبا
بنى ( حين ) لإضافته إلى المبنى وهو الفعل الماضي وكذلك قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ ( الإنفطار 19 ) بني لإضافته إلى ( لا ) وهي مبنية أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم
ثم قال تعالى لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب وحقيقة الثواب أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم وقوله خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة فإنه أينما ذكر الثواب قال خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد وأما قوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فهو إشارة إلى التعظيم هذا ظاهر قول المتكلمين وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله رّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها وقوله ذالِكَ الْفَوْزُ الجمهور على أن قوله يَفْعَلْ ذالِكَ عائد إلى جملة ما تقدم من قوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي إلى قوله وَرَضُواْ عَنْهُ وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصاً بقوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود وكيف والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري ولكن كل ميسر لما خلق له ثم قال تعالى
للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
قيل إن هذا جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل من يعطيهم ذلك الفوز العظيم فقيل الذي له ملك السماوات والأرض وفي هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ونحن نذكر القليل منها فالأول أنه تعالى قال للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ ولم يقل ومن فيهن فغلب غير العقلاء والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة والثاني أن مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فقال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وكمال حال المؤمن في أن يشرع في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية فالأول هو الشريعة وهو البداية والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وعزته وقدرته وعلوه وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن
المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتما والثالث أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم فمنها بيان الشرائع والأحكام والتكاليف ومنها المناظرة مع اليهود في إنكارهم شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ومنها المناظرة مع النصارى في قولهم بالتثليث فختم السورة بهذه النكتة الوافية بإثبات كل هذه المطالب فإنه قال للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ ومعناه أن كل ما سوى الحق سبحانه فانه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى وإذا كان الأمر كذلك كان مالكاً لجميع الممكنات والكائنات موجداً لجميع الأرواح والأجساد وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد فذاك ثابت لأنه سبحانه لما كان مالكاً للكل كان لله أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف شاء وأراد فصح القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى وأما الرد على اليهود فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع شرع محمد عليهما الصلاة والسلام وأما الرد على النصارى فلأن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله لأنا بينا أن الموجد إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره وعيسى ومريم لا شك في كونهما داخلين في هذا القسم فإذا دلنا على أن كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته موجود بإيجاد الله كائن بتكوين الله كان عيسى ومريم عليهما السلام كذلك ولا معنى للعبودية إلا ذلك فثبت كونهما عبدين مخلوقين فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السورة برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها والله أعلم بأسرار كلامه
سورة الأنعام
مكية إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 141 و 151 و 152 و 153فمدنية وآياتها 165 نزلت بعد سورة الحجر
قال ابن عباس رضي الله عنه إنها مكيّة نزلت جملة واحدة فامتلأ منها الوادي وشيعها سبعون ألف ملك ونزلت الملائكة فملؤوا ما بين الأخشبين فدعا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الكتاب وكتبوها من ليلتهم إلا ست آيات فانها مدنيات قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 151 ) إلى آخر الآيات الثلاث وقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) الآية وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( الأنعام 93 ) وعن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما نزل علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها وقد بعث بها إليّ مع جبريل مع خمسين ملكاً أو خمسين ألف ملك يزفونها ويحفونها حتى أقروها في صدري كما أقر الماء في الحوض ولقد أعزني الله وإياكم بها عزاً لا يذلنا بعده أبداً فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه ) وعن ابن المنكدر لما نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق )
قال الأصليون هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة والثاني أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة وأيضاً فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
اعلم أن الكلام المستقصى في قوله الْحَمْدُ للَّهِ قد سبق في تفسير سورة الفاتحة ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الفوائد وفيه مسائل
المسألة الأولى في الفرق بين المدح والحمد والشكر
اعلم أن المدح أعم من الحمد والحمد أعم من الشكر
أما بيان أن المح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل اللعاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته ويمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالتها فيقال ما أحسنه وما أصفاه وأما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فون الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر
إذا عرفت هذا فنقول إنما لم يقل المدح لله ونا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره أما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار فكان قوله الْحَمْدُ للَّهِ تصريحاً بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة وليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها ولا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين وإنما لم يقل الشكر لله لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمة بسبب انعام صدر منه ووصل إليك وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقاً للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل النعمة إليه فيكون الاخلاص أكمل واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت
المسألة الثانية الحمد لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية
إذا ثبت هذا فنقول قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد أن هذه الماهية لله وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه
فإن قيل إن شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على إحسانه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )
قلنا المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله وبيانه من وجوه الأول صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى وثانيها أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة أما جلب المنفعة فانه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سبباً لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة وأما دفع المضرة فهو أن الإنسان إذا رأى حيواناً في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسيّة فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة أما الحق سبحانه وتعالى فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع ممضرة وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله فقال الْحَمْدُ للَّهِ وثالثها أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير وأيضاً فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله تعالى فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله ولا مستحق للحمد إلا الله فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ ورابعها أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حياً قادراً عالماً ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ووصل إلى ما ألأدع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح علم أنها بحر لا ساحل له كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) فبتقدير أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة ونعم الله لا نهاية لها أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ
المسألة الثالثة إنما قال الْحَمْدُ للَّهِ ولم يقل أحمد الله لوجوه أحدها أن الحمد صفة القلب
وربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلاً بقلبه عن استحضار معنى الحمد والثناء فلو قال في ذلك الوقت أحمد الله كان كاذباً واستحق عليه الذم والعقاب حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجوداً أما إذا قال الحمد لله فمعناه أن ماهية الحمد وحقيقته مسلمة لله تعالى وهذا الكلام حق وصدق سواء كان معنى الحمد والثناء حاضراً في قلبه أو لم يكن وكان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة وطاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين وثانيها روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر فقال داود يا رب وكيف أشكرك وشكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضاً وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له فأوحى الله تعالى إلى داود لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني
إذا عرفت هذا فنقول لو قال العبد أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال أنما لو قال الحمد لله فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذني اللفظين من هذا الوجه وثالثها أنه لو قال أحمد الله كان ذلك مشعراً بأنه ذكر حمد نفسه ولم يذكر حمد غيره أما إذا قال الحمد لله فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران كما قال تعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فكان هذا الكلام أفضل وأكمل
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة أولها الفاتحة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وثانيها في يأول هذه السورة فقال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى فقوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا يدخل فيه إلا خلق السموات والأرض والظلمات والنور ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة وتفصيل لتلك الجملة وثالثها سورة الكهف فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وذلك أيضاً تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن وبالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل ورابعها سورة سبأ وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( سبأ 1 ) وهو أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وخامسها سورة فاطر فقال الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فاطر 1 ) وظاهر أيضاً أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية فلهذا السبب قال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي
بالمقصود أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه
فإن قيل ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب وأيضاً لم قال ههنا خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بصيغة فعل الماضي وقال في سورة فاطر الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بصيغة اسم الفاعل
فنقول في الجواب عن الأول الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات وأما كونه فاطراً فهو عبارة عن الإيجاد والابداع فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة وكونه تعالى رباً ومربياً مشتمل على الأمرين فكان ذلك أكمل
والجواب عن الثاني أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات والعمل بالشيء سصح تقدمه على وجود المعلوم ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل دهوله في الوجود أما إيجاد الشيء فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور فلهذا السبب قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ والمراد أنه كان عالماً بها قبل وجودها وقال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطراً لها وموجداً لها عند وجودها
المسألة الخامسة في قوله الْحَمْدُ للَّهِ قولان الأول المراد منه احمدوا الله تعالى وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد إحداها أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد تعليم اللفظ والمعنى ولو قال احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين وثانيها أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده وثالثها أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد لله قالوا والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام فحينئذ يصير هذا الأمر حاملاً للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين أحدهما أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بدّ لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره لوجب أن يكون كل واحد واصلأْ إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه ولما ثبت أنه لا بدّ لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر وهو الله سبحانه وتعالى
والنوع الثاني من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى صار ذلك التكليف حاملاً للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد فثبت أن تذكيرالنعم يفيد
هاتين الفائدتين الشريفتين إحداهما الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى وثانيهما أن الشعور بكونها نعماً يوجب ظهور حب الله في القلب ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه وهو الأرواح ثم الأجسام إما فلكية وءما عنصرية أما الفلكيات فأولها العرش المجيد ثم الكرسي الرفيع ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو وأن الكرسي ما هو وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ والقلم والرفرف والبيت المعمور وسدرة المنتهى ما هي وأن يعرف حقائقها ثم يتفكر في طبقات السموات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم وهو كل ما سوى الله تعالى ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده فعند هذا يعرف من معنى قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ذرة وهذا بحر لا ساحل له وكلام لا آخر له والله أعلم
المسألة السادسة إنا وإن ذكرنا أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أُجري مجرى قوله قولوا الحمد لله ربّ العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الاضمار أما هذه السورة وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول إن هذا يدل من بعض الوجوه على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله الْحَمْدُ للَّهِ جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق وذاته لا تشبه ذوات الخلق وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابهاً لغيره في الذات والصفات والأفعال فهو الله سبحانه واحد في ذاته لا شريك له في صفاته ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم
أما قوله سبحانه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه مسألتان الأولى في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة
السؤال الأول أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جار مجرى ما يقال جاءني الرجل الفقيه فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا ههنا قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يوهم أن هناك إلهاً لم يخلق السموات والأرض وإلا فأي فائدة في هذه الصفة
والجواب أنا بينا أن قوله ( الله ) جار مجرى اسم العلم فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الصوف التمييز بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى موصوفاً بتلك الصفة مثاله إذا قلنا الرجل العالم فقولنا الرجل اسم الماهية والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة أما إذا قلنا زيد العالم فلفظ زيد اسم علم وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ ( الله ) من باب أسماء الأعلام لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم
السؤال الثاني لم قدم ذكر السماء على الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء والجواب السماء كالدائرة والأرض كالمركز وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضاً كثيرة بدليل قوله تعالى وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ ( الطلاق 12 )
والجواب أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل فلو كانت المساء واحدة لتشابه الأثر وذلك يخل بمصالح هذا العالم أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع وتقريره أن أجرام السموات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فمن وجوه الأول أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلاً مقداراً أزيد منه أو أنقص منه والثاني أن كل فلك بمقدار مركب من
أحزاء والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجاً وبالعكس فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز والثالث أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة ولوازم الأمور الواحدة بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن والرابع أن كل حركة فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن والخامس أن كل حركة وقعت متوجهة إلى جهة فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن والسادس أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمراً ممكناً بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية فكل ما صحّ على بعضها صح على كلها فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمراً ممكناً والسابع وهو أن لحركة كل فلك أولاً لأن وجو حركة لا أول لها محال لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير والأول ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال فثبت أن لكل حركة أولاً واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن والثامن هو أن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس اختصاصاً بأمر ممكن والتاسع وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار ومتى كان كذلك فلها أول بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها فيلزم من دوام تلك العلة دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة ولما كان ذلك محالاً ثبت أن المؤثر فهيا ليس علة موجبة بالذات بل فاعلاً مختاراً وإذا كان كذلك وجب كون ذلك الفاعل متقدماً على هذه الحركات وذلك يوجب أن يكون لها بداية العاشر أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر مكن فثبت بهذه الوجوه العشرة أن أجرام السموات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال فكان يجوز في العقل حضول أضدادها ومقابلاتها فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال
وإذا ثبت هذا فنقول إنه لا معنى للخلق إلا التقدير فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة فلهذا المعنى قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والله أعلم ومن الناس من قال المقصود من ذكر السموات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع
واعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات وذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية
والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له
أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ جَعَلَ يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء وتصيير شيء شيئاً ومنه قوله تعالى وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( الأعراف 189 ) وقوله وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا ( الرعد 38 ) وقوله أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَيْهَا واحِداً ( ص 5 ) وإنما حسن لفظ الجعل ههنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأنه كل واحد منهما إنما تولد من الآخر
المسألة الثانية في لفظ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ قولان الأول أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما وأيضاً هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ أي ظلمة الشرلاك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين ونقل عن الحسن أنه قال يعني الكفر والإيمان ولا تفاوت بين هذين القولين فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقروناً بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه قال الواحدي والأولى حمل اللفظ عليهما معاً وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معاً
المسألة الثالثة إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج وجلس إنسان آخر بالبعد منه فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ويرى ذلك الهواء مظلماً فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية
وإذ ثبت هذا فنقول عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور فوجب تقديمها في اللفظ ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره
المسألة الرابعة لقائل أن يقول لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع والنور بصيغة الواحد فنقول أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان فكلامه ههنا ظاهر لأن الحق واحد والباطل كثير وأما من حملها على الكيفية المحسوسة فالجواب أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ثم إنها تقبل التناقص قليلاً قليلاً وتلك المراتب كثيرة فلهذا السبب عبّر عن الظلمات بصيغة الجمع
أما قوله تعالى ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ
فأعلم أن العدل هو التسوية يقول عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يَعْدِلُونَ يشركون به غيره
فإن قيل على أي شيء عطف قوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ
قلنا يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله الْحَمْدُ للَّهِ على معنى أن الله حقيق بالحمد على كل ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ فيكفرون بنعمته ويحتمل أن يكون معطوفاف على قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على معنى أن خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جماداً لا يقدر على شيء أصلاً
فإن قيل فما معنى ثم
قلنا الفائدة فيه استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته والله أعلم
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى ويحتمل أن لا يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر
أما الوجه الأول فتقريره أن الله تعالى لما استدل بخلقه السموات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاتسدلال بخلقه الإنسان على إثبات هذا المطلوب فقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من آدم وآدم كان مخلوقاً من طين فهلذا السبب قال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما يتوالدان من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما يحوانية وإمانباتية فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان فبقي أن تكون نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية ولا شك أنها متولدة من الطين فثبت أن كل إنسان متولد من الطين وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب
إذا عرفت هذا فنقول هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب
وأما الوجه الثاني وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد
وأما قوله تعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ففيه مباحث
المبحث الأول لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر قال تعالى دوقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( الأسرار 23 ) وبمعنى الخبر والاعلام قال تعالى ( الأسرار 23 ) وبمعنى الخبر والاعلام قال تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسرار 4 ) وبمعنى صفة الفعل إذا تم قال تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 12 ) ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولاً وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل
إذا عرفت هذا فقوله ثُمَّ قَضَى أَجَلاً معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت دي ذلك الوقت ونظير هذه الآية قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ ( المؤمنون 15 )
وأما قوله تعالى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ
فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه الأول قال أبو مسلم قوله ثُمَّ لَهُمْ أَجَلاً المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل الثاني بكونه مسمى عنده لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة فلهذا المعنى قال وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ والثاني أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى والثالث الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ والرابع أن الأول هو النوم والثاني الموت والخامس أو الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد والأجل الثاني مقدار ما بقي من عمر كل أحد والسادس وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين أحدهما الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصوناً من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة وقوله مُّسمًّى عِندَهُ أي معلوم عنده أو مذكور اسمه في اللوح المحفوظ ومعنى عنده شيبه بما يقول الرجل في المسألة عندي أن الأمر كذا وكذا أي هذا اعتقادي وقولي
فإن قيل المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ
قلنا لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
وأما قوله ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ فنقول المرية والامتراء هو الشك
وأعلم أنا إن قلنا المقصود من ذكر هذا الكلام الاستدلال على وجود الصانع كان معناه أن بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم تمترون في صحة التوحيد وإن كان المقصود تصحيح القول بالمعاد فكذلك والله أعلم
وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
واعلم أنا إن قلنا إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار
قلنا المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية وإن قلنا المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادراً مختاراً والثاني أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرون ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادراً ومختاراً لا علة موجبة وأثبا بهذه الآية كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا ويتأكد هذا أيضاً بقوله تعالى مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ( الملك 16 ) قالوا ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معاً وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل فوجب أن يبقى ظاهر قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ على ذلك الظاهر ولأن من القراء من وقف عند قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ثم يبتدىء فيقول وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله فِى الاْرْضِ صلة لقوله سِرَّكُمْ هذا تمام الكلام
وأعلم أنا نقيم الدلالة أولاً على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وذلك من وجوه الأول أنه تعالى قال في هذه السورة قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فبيّن بهذه الآية أن كل
ما في السموات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له فلو كان الله أحد الأشيء الموجودة في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه وذلك محال ونظير هذه الآية قوله في سورة طه لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ( طه 6 ) فإن قالوا قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاء والاْرْضِ هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى
قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 5 7 ) ونظيره وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 3 ) ولا شك أن المراد بكلمة ما ههنا هو الله سبحانه والثاني أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السموات أو المراد أنه موجود في سماء واحدة والثاني ترك للظاهر والأول على قسمين لأنه ءما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أو غيره والأول يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل والثاني يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وهو محال والثالث أنه لو كان موجوداً في المسوات لكان محدوداً متنايهاً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلز فهو محدث والرابع أنه لو كان في السموات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق السموات أو لا يقدر والثاني يوجب تعجيزه والأول يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم والخامس أنه تعالى قال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وقال وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ ( الزخرف 84 ) وقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه الأول أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يعني وهو الله في تدبير السموات والارض كما يقال فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته ونظيره قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ والثاني أن قوله وَهُوَ اللَّهُ كلام تام ثم ابتدأ وقال فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يَعْمَلُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن والثالث أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير وهو الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسماً مشتقاً فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه وإذا جعلنا قولنا الله لفظاً مفيداً صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم
المسألة الثانية المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف والمراد بالجهر أعمال الجوارح وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول والعلة متقدمة على المعلول والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ
المسألة الثالثة قوله وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه سؤال وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ يقتضي عطف الشيء على نفسه وأنه فاسد
والجواب يجب حمل قوله مَا تَكْسِبُونَ على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال
المسألة الرابعة الآية تدل عى كون الإنسان مكتسباً للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة ٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل والتأمل في الدلائل واجب ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل قال الواحدي رحمه الله من في قوله مّنْ ءايَة ٍ لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي كقولك ما أتاني من أحد والثانية وهي قوله مّنْ ءايَة ٍ مّنْ للتبعيض والمعنى وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
أعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب فالمرتبة الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات والمرتبة الثانية كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به بل يكون غافلاً عنه غير متعرض له فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الأعراض والمرتبة الثالثة كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الانكار فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات قال ابن مسعود انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة وقيل إنه القرآن وقيل إنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأحكام التي جاء بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنه الوعد والوعيد الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى والأولى دخول الكل فيه
وأما قوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أبنأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى لّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ص 88 ) والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب إذا نزل يحقق ذلك الخبر حتى تزول عنه الشبهة ثم المراد من هذ العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاٌّ نْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ
اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم
فإن قيل ما القرن قلنا قال الواحدي القرن القوم المقترنون في زمان من الدهر فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر والدليل عليه قوله عليه السلام ( خير القرون قرني ) واشتقاقه من الأقران ولما كان أعمار الناس في الأكثر الستين والسبعين والثمانين لا جرم قال بعضهم القرن هو الستون وقال آخرون هو السبعون وقال قوم هو الثمانون والأقرب أنه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل قد انقضى القرن
واعلم أن الله تعالى وصف القرون الماضية بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه في أرض له ومنه قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( الكهف 84 ) أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ ( القصص 57 ) وأما مكنته في الأرض فمعناه أثبته فيها ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ( الأحقاف 26 ) ولتقارب المعنيين جمع الله بينهما في قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ والمعنى لم نعط أهل مكة مثل ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا
والصفة الثانية قوله وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً يريد الغيث والمطر فالسماء معناه المطر ههنا والمدرار الكثير الدر وأصله من قولهم در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير فالمدرار يصلح أن
يكون من نعت السحاب ويجوز أن يكون من نعت المطر يقال سحاب مدرار إذا تتابع أمطاره ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه قال مقاتل مُّدْرَاراً متتابعاً مرة بعد أخرى ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث
والصفة الثالثة قوله وَجَعَلْنَا الاْنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ والمراد منه كثرة البساتين
واعلم أن المقصود من هذه الأوصاف أنهم وجدوا من منافع الدنيا أكثر مما وجده أهل مكة ثم بيّن تعالى أنهم مع مزيد العز في الدنيا بهذه الوجوه ومع كثرة العدد والبسطة في المال والجسم جرى عليهم عند الكفر ما سمعتم وهذا المعنى يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة بقي هاهنا سؤالات
السؤال الأول ليس في هذا الكرم إلا أنهم هلكوا إلا أن هذا الهلاك غير مختص بهم بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزجر عن الكفر مع أنه مشترك فيه بين الكافر وبين غيره
والجواب ليس المقصود مننه الزجر بمجرد الموت والهلاك بل المقصود أنهم باعوا الدين بالدنيا ففاتهم وبقوا في العذاب الشديد بسبب الحرمان عن الدين وهذا المعنى غير مشترك فيه بين الكافر والمؤمن
السؤال الثاني كيف قال أَلَمْ يَرَوْاْ مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضاً ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة
والجواب أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار
والسؤال الثالث ما الفائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم
والجواب أن الفائدة هي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلكهم ويخلي بلادهم منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم قوماً آخرين يعمر بهم بلادهم كقوله وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( الشمس 15 ) والله أعلم
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
اعلم أن الذين يتمردون عن قبولل دعوة الأنبياء طوائف كثيرة فالطائفة الأولى الذين بالغوا في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها إلى أن استغرقوا فيها واغتنموا وجدانها فصار ذلك مانعاً لهم عن قبول دعوة الأنبياء وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وبين أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق وليس من العقل تحممل العقاب الدائم لأجل اللذات المنقرضة الخسيسة والطائفة الثانية الذين يحملون معجزات
الأنبياء عليهم السلام على أنها من باب السحر لا من باب المعجزة هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وهاهنا مسائل
المسألة الأولى بيّن الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر ومخرقة والمراد من قوله فِى قِرْطَاسٍ أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عياناً لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر
فإن قيل ظهور الكتاب ونزوله من السماء هل هو من باب المعجزات أم لا فإن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكارهم لدلالته على النبوّة منكراً ولا يجوز أن يقال أنه من باب المعجزات لأن الملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الايمان بصدق الأنبياء والرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة وقبل الإيمان بالرسل لا شك أنا نجوز أن يكون نزول ذلك الكتاب من السماء من قبل بعض الجن والشياطين أو من قبل بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم وإذا كان هذا التجويز قائماً فقد خرج نزول الكتاب من السماء عن كونه دليلاً على الصدق
قلنا ليس المقصود ما ذكرتم بل المقصود أنهم إذا رأوه بقوا شاكين فيه وقالوا إنما سكرت أبصارنا فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الادراك البصري بالادراك اللمسي وبلغ الغاية في الظهور والقوة ثم هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة فهذا هو المقصود من الآية لا ما ذكرتم والله أعلم
المسألة الثانية قال القاضي دلت هذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يمنع العبد لطفاً علم أنه لو فعله لآمن عنده لأنه بيّن أنه إنما لا ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول ولا يجوز أن يخبر بذلك إلا والمعلوم أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة فثبت بهذا وجوب اللطف ولقائل أن يقول أن قوله لو أنزل الله عليهم هذا الكتاب لقالوا هذا القول لا يدل على أنه تعلى ينزله عليهم لو لم يقولوا هذا القول إلا على سبيل دليل الخطاب وهو عنده ليس بحجة وأيضاً فليس كل مما فعله الله وجب عليه ذلك وهذه الآية إن دلّت فإنما تدل على الوقوع لا على وجوب الوقوع والله أعلم
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاٌّ مْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوّات فإنهم يقولون لو بعث الله إلى الخلق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والشبهات والشكوك في نبوّتهم ورسالتهم أقل
والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاءً إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى فلما كان وقوع الشبهات في نبوّة الملائكة أقل وجب لو بعث الله رسولاً إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين أما الأول فقوله وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة ثم هاهنا وجوه الأول أن إنزال الملك على البشر آية باهرة فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء اللكفار فربما لم يؤمنوا كما قال وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ إلى قوله مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأنعام 111 ) وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فإن سنّة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال فهاهنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب والوجه الثاني أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون وتقريره أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر فإن كان الأول لم يبقَ الآدمي حياً ألا ترى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصاً على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكاً أو بشراً ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط وكالذين تسوروا المحراب وكجبريل حيث تمثل لمريم بشراً سوياً والوجه الثالث أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء وإزالة الاختيار وذلك مخل بصحة التكليف الوجه الرابع أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه
وأما قوله ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ فالفائدة في كلمة ثُمَّ التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأما الثاني فقوله وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً أي لجعلناه في صورة البشر والحكمة فيه أمور أحدها أن الجنس إلى الجنس أميل وثانيها أن البشر لا يطيق رؤية الملك وثالثها ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي ورابعها أن النبوّة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً أو بشراً
ثم قال وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ قال الواحدي يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً وأصله من التستر بالثوب ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشراً فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيراً لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيساً لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك وإنما كان فعلهم تلبيساً لأنهم يقولون للقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولاً من عند الله تعالى
وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن بعض الأقوام الذين كانوا يقولون إن رسول الله يجب أن يكون ملكاً من الملائكة كانوا يقولون هذا الكلام على سبيل الاستهزاء وكان يضيق قلب الرسول عند سماعه فذكر ذلك ليصير سبباً للتخفيف عن القلب لأن أحداً ما يخفف عن القلب المشاركة في سبب المحنة والغم فكأنه قيل له إن هذه الأنواع الكثيرة من سوء الأدب التي يعاملونك بها قد كانت موجودة في سائر القرون مع أنبيائهم فلست أنت فريداً في هذا الطريق وقوله فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ الآية ونظيره قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) وفي تفسيره وجوه كثيرة لأهل اللغة وهي بأسرها متقاربة قال النضر وجب عليهم قال الليث ( الحيق ) ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء يعمله فنزل ذلك به يقول أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم وقال الفرّاء ( حاق بهم ) عالد عليهم وقيل ( حاق بهم ) حل بهم ذلك وقال الزجاج ( حاق ) أي أحاط قال الأزهري فسّر الزجاج ( حاق ) بمعنى أحاط وكان مأخذخ من الحوق وهو ما استدار بالكمرة وفي الآية بحث آخر وهو أن لفظة ( ما ) في قوله مَّا كَانُوا بِهِ فيها قولان الأول أن المراد به القرآن والشرع وهو ما جاء به محمد عليه السلام وعلى هذا التقدير فتصير هذه الآية من باب حذف المضاف والتقدير فحاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزؤن
والقول الثاني أن المراد به أنهم كانوا يستهزؤن بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى هذا الإضمار
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى كما صبر رسوله بالآية الأولى فكذلك حذر القوم بهذه الآية وقال لرسوله قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بدّ وأن تشاهدوا تلك الآثار فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار
فإن قيل ما الفرق بين قوله الاْرْضِ فَانظُرُواْ ( آل عمران 137 ) وبين قوله ثُمَّ انْظُرُواْ
قلنا قوله فَانظُرُواْ يدل على أنه تعالى جعل النظر سبباً عن السير فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين
وأما قوله سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ثم نبّه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة ثُمَّ لتباعد ما بين الواجب والمباح والله أعلم
قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع وتقرير المعاد وتقرير النبوّة وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها ومتى كان كذلك فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لا بدّ وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصّه بتلك الصفة المعينة فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى
وإذا ثبت هذا ثبت كونه قادراً على الاعادة والحشر والنشر لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما فوجب صحة الاعادة ثانياً وأيضاً ثبت أنه تعالى ملك مطاع والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده ولا بد من مبلغ وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ سؤال وقوله قُل لِلَّهِ جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا يقدر على دفعه دافع ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً ليدل ذلك على أن الاقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة وأيضاً فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ثم إنه
تعالى لما بيّن بهذا الطريق كممال إلاهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه تعالى قال إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام بل أبداً ينعم وأبداً يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعالجلهم بالعقوبة في الدنيا وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لما فرغ الله من الخلق كتب كتاباً أن رحمتي سبقت غضبي )
فإن قيل الرحمة هي إرادة الخير والغضب هو إرادة الانتقام وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى والمسبوق بالغير محدث فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة
قلنا المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض فعنده تسع وتسعون رحمة وقسم رحمة واحدة بين الخلائق فبها يتعاطفون ويتراحمون فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين
أما قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ففيه أبحاث الأول ( اللام ) في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام قسم مضمر والتقدير والله ليجمعنكم
البحث الثاني اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ وذلك لأنه تعالى بيّن كمال إلهيته بقوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ثم بيّن تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال وبيّن أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أنه يمهلهم وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا
والقول الثاني أنع متعلق بما قبله والتقدير كتب ربكم على نفسه الرحمة وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة
وقيل أنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه قيل وما تلك الرحمة فقيل إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم الققيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا فكان قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كالتفسير لقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ
البحث الثالث أن قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ كلام ورد على لفظ الغيبة وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كلام ورد على سبيل المخاطبة والمقصود منه التأكيد في التهديد كأنه قيل لما علمتم أن كل ما في السماوات والأرض لله وملكه وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا