كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
وثانيها أن العلم إما أن يكون دينياً أو غير ديني ولا شك أن العلم الديني أشرف من غير الديني وأما العلم الديني فإما أن يكون هو علم الأصول أو ما عداه أما ما عداه فإنه تتوقف صحته على علم الأصول لأن المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى وذلك فرع على وجود الصانع المختار المتكلم وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك فرع على ثبوت نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) والفقيه إنما يبحث عن أحكام الله وذلك فرع على التوحيد والنبوة فثبت أن هذه العلوم مفتقرة إلى علم الأصول والظاهر أن علم الأصول غني عنها فوجب أن يكون علم الأصول أشرف العلوم وثالثها أن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده فكلما كان ضده أخس كان هو أشرف وضد علم الأصول هو الكفر والبدعة وهما من أخس الأشياء فوجب أن يكون علم الأصول أشرف الأشياء ورابعها أن شرف الشيء قد يكون بشرف موضوعه وقد يكون لأجل شدة الحاجة إليه وقد يكون لقوة براهينه وعلم الأصول مشتمل على الكل وذلك لأن علم الهيئة أشرف من علم الطب نظراً إلى أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب وإن كان الطب أشرف منه نظراً إلى أن الحاجة إلى الطب أكثر من الحاجة إلى الهيئة وعلم الحساب أشرف منهما نظراً إلى أن براهين علم الحساب أقوى أما علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات ولا شك أن ذلك أشرف الأمور وأما الحاجة إليه فشديدة لأن الحاجة إما في الدين أو في الدنيا أما في الدين فشديدة لأن من عرف هذه الأشياء استوجب الثواب العظيم والتحق بالملائكة ومن جهلها استوجب العقاب العظيم والتحق بالشياطين وأما في الدنيا فلأن مصالح العالم إنما تنتظم عند الإيمان بالصانع والبعث والحشر إذ لو لم يحصل هذا الإيمان لوقع الهرج والمرج في العالم وأما قوة البراهين فبراهين هذا العلم يجب أن تكون مركبة من مقدمات يقينية تركيباً يقينياً وهذا هو النهاية في القوة فثبت أن هذا العلم مشتمل على جميع جهات الشرف والفضل فوجب أن يكون أشرف العلوم وخامسها أن هذا العلم لا يتطرق إليه النسخ ولا التغيير ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم فوجب أن يكون أشرف العلوم وسادسها أن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية بدليل أنه جاء في فضيلة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) و الرَّسُولُ بِمَا ( البقرة 285 ) وآية الكرسي ما لم يجيء مثله في فضيلة قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) وقوله يُظْلَمُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ( البقرة 282 ) وذلك يدل على أن هذا العلم أفضل وسابعها أن الآيات الواردة في ا لأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة الله تعالى وقدرته على ما قال لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 ) فدل ذلك على أن هذا العلم أفضل ونشير إلى معاقد الدلائل أما الذي يدل على وجود الصانع فالقرآن مملوء منه أولها ما ذكر ههنا من الدلائل الخمسة وهي خلق المكلفين وخلق من قبلهم وخلق السماء وخلق
الأرض وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض وكل ما ورد في القرآن من عجائب السماوات والأرض فالمقصود منه ذلك وأما الذي يدل على الصفات أما العلم فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء ثم أردفه بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ( آل عمران 5 6 ) وهذا هو عين دليل المتكلمين فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال واتقانها على علم الصانع وههنا استدل الصانع سبحانه بتصوير الصور في الأرحام على كونه عالماً بالأشياء وقال أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( االملك 14 ) وهو عين تلك الدلالة وقال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وذلك تنبيه على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات لأنه تعالى مخبر عن المغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر فلولا كونه عالماً بالمغيبات وإلا لما وقع كذلك وأما صفة القدرة فكل ما ذكر سبحانه من حدوث الثمار المختلفة والحيوانات المختلفة مع استواء الكل في الطبائع الأربع فذاك يدل على كونه سبحانه قادراً مختاراً لا موجباً بالذات وأما التنزيه فالذي يدل على أنه ليس بجسم ولا في مكان قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فإن المركب مفتقر إلى أجزائه والمحتاج محدث وإذا كان أحداً وجب أن لا يكون جسماً وإذا لم يكن جسماً لم يكن في المكان وأما التوحيد فالذي يدل عليه قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا و ( الأنبياء 22 ) قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الأَسراء 42 ) وقوله وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( المؤمنون 91 ) وأما النبوة فالذي يدل عليها قوله ههنا وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) وأما المعاد فقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) وأنت لو فتشت علم الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها الله أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة ما أرى أن عاقلاً مسلماً يقول ذلك ويرضى به وثانيها أن الله تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء أما الملائكة فلأنهم لما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا ( البقرة 30 ) من يفسد فيها كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح والحكيم لا يفعل القبيح فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والمراد إني لما كنت عالماً بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم ولا شك أن هذا هو المناظرة وأما مناظرة الله تعالى مع إبليس فهي أيضاً ظاهرة وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام وقد أظهر الله تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء وأما إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات أحدها مع نفسه وهو قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) وهذا هو طريقة المتكلمين في الاستدلال بتغيرها على حدوثها ثم إن الله تعالى مدحه على ذلك فقال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ( الأنعام 82 )
وثانيها حاله مع أبيه وهو قوله ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وثالثها حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل أما بالقول فقوله مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( الأنبياء 52 ) وأما بالفعل فقوله فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ( الأنبياء 58 ) ورابعها حاله مع ملك زمانه في قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ ( البقرة 258 ) إلى آخره وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليسي إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ وأما بحثه في المعاد فقال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) إلى آخره وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام وذلك لأن الله تعالى حكى في سوطه طه قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 49 50 ) وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وقال في سورة الشعراء رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وهذا هو الذي قاله إبراهيم رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 28 ) فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين وأما استدلال موسى على النبوة بالمعجزة ففي قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل فإن القرآن مملوء منه ولقد كان عليه السلام مبتلى بجميع فرق الكفار فالأول الدهرية الذين كانوا يقولون وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) والله تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل والثاني الذين ينكرون القادر المختار والله تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات وأصناف الحيوانات مع اشتراك الكل في الطبائع وتأثيرات الأفلاك وذلك يدل على وجود القادر والثالث الذين أثبتوا شريكاً مع الله تعالى وذلك الشريك إما أن يكون علوياً أو سفلياً أما الشريك العلوي فمثل من جعل الكواكب مؤثرة في هذا العالم والله تعالى أبطله بدليل الخليل في قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ وأما الشريك السفلي فالنصارى قالوا بإلاهية المسيح وعبدة الأوثان قالوا بإلاهية الأوثان والله تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم الرابع الذين طعنوا في النبوة وهم فريقان أحدهما الذين طعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) والثاني الذين سلموا أصل النبوة وطعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم اليهود والنصارى والقرآن مملوء من الرد عليهم ثم إن طعنهم من وجوه تارة بالطعن في القرآن فأجاب الله بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً ( البقرة 26 ) وتارة بالتماس سائر
المعجزات كقوله وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وتارة بأن هذا القرآن نزل نجماً نجماً وذلك يوجب تطرق التهمة إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 )
الخامس الذين نازعوا في الحشر والنشر والله تعالى أورد على صحة ذلك وعلى إبطال قول المنكرين أنواعاً كثيرة من الدلائل السادس الذين طعنوا في التكليف تارة بأنه لا فائدة فيه فأجاب الله عنه بقوله إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) وتارة بأن الحق هو الجبر وأنه ينافي صحة التكليف وأجاب الله تعالى عنه بأنه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وإنما اكتفينا في هذا المقام بهذه الإشارات المختصرة لأن الاستقصاء فيها مذكور في جملة هذا الكتاب وإذا ثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل علمنا أن الطاعن فيها إما أن يكون كافراً أو جاهلاً المقام الثاني في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات ويدل عليه المعقول والمنقول أما المعقول فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي فأما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفاً بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر وإما أن لا يجوز التقليد أصلاً وهو المطلوب فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار أما الآيات فأحدها قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) ولا شك أن المراد بقوله بالحكمة أي بالبرهان والحجة فكانت الدعوة بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأموراً بها وقوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة فكان الجدال فيه مأموراً به ثم إنا مأمورون باتباعه عليه السلام لقوله فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) ولقوله لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ ( الأحزاب 21 ) فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال وثانيها قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الحج 3 8 لقمان 20 ) ذم من يجادل في الله بغير علم وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً وأيضاً حكى الله تعالى ذلك عن نوح في قوله قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) وثالثها أن الله تعالى أمر بالنظر فقال أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ ( النساء 82 ) أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( الغاشية 17 ) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الرعد 41 ) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( يونس 10 ) أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ورابعها أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال ورابعها أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( الزمر 21 ) إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( آل عمران 13 ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاِوْلِى
( طه 54 128 ) وأيضاً ذم المعرضين فقال وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ( يوسف 105 ) لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وخامسها أنه تعالى ذم التقليد فقال حكاية عن الكفار وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 23 ) وقال بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( لقمان 21 ) وقال بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( الشعراء 74 ) وقال إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ( الفرقان 42 ) وقال عن والد إبراهيم عليه السلام لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار وأما الأخبار ففيها كثرة ولنذكر منها وجوهاً أحدها ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال ( جاء من بني فزارة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إن امرأتي وضعت غلاماً أسود فقال له هل لك من إبل فقال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال فهل فيها من أورق قال نعم قال فأنى ذلك قال عسى أن يكون قد نزعه عرق قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ) واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس وثانيها عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول خلقه بأهون على من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الله الأَحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد ) فانظر كيف احتج الله تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء على القدرة على الإعادة وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية وثالثها روى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) فقالت عائشة يا رسول الله إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء الله فقال عليه السلام ( لا ولكن المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه والكافر كره لقاء الله فكره الله لقاءه وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به واعلم أن للخصم مقامات أحدها أن النظر لا يفيد العلم وثانيها أن النظر المفيد للعلم غير مقدور وثالثها أنه لا يجوز الإقدام عليه ورابعها أن الرسول ما أمر به وخامسها أنه بدعة
أما المقام الأول فاحتج الخصم عليه بأمور أحدها أنا إذا تفكرنا وحصل لنا عقيب فكرنا اعتقاد فعلمنا بكون ذلك الاعتقاد علماً إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً والأول باطل لأن الإنسان إذا تأمل في اعتقاده في كون ذلك الاعتقاد علماً وفي اعتقاده في أن الواحد نصف الاثنين وأن الشمس مضيئة والنار محرقة وجد الأول أضعف من الثاني وذلك يدل على أن تطرق الضعف إلى الأول والثاني باطل لأن الكلام في ذلك الفكر الثاني كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال
وثانيها إنا رأينا عالماً من الناس قد تفكروا واجتهدوا وحصل لهم عقيب فكرهم اعتقاد وكانوا جازمين بأنه علم ثم ظهر لهم أو لغيرهم أن ذلك كان جهلاً فرجعوا عنه وتركوه وإذا شاهدنا ذلك في الوقت الأول جاز أن يكون الاعتقاد الحاصل ثانياً كذلك وعلى هذا الطريق لا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من الفكر والنظر وثالثها أن المطلوب إن كان مشعوراً به استحال طلبه لأن تحصيل الحاصل محال وإن كان غير مشعور به كان الذهن غافلاً عنه و المغفول عنه يستحيل أن يتوجه الطلب إليه ورابعها أن العلم يكون النظر مفيداً للعلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً وجب اشتراك العقلاء فيه وليس كذلك وإن كان نظرياً لزم إثبات جنس الشيء بفرد من أفراده وذلك محال لأن النزاع لما وقع في الماهية كان واقعاً في ذلك الفرد أيضاً فيلزم إثبات الشيء بنفسه وهو محال لأنه من حيث أنه وسيلة الإثبات يجب أن يكون معلوماً قبل ومن حيث أنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوماً قبل فيلزم اجتماع النفي والإثبات وهو محال وخامسها أن المقدمة الواحدة لا تنتج بل المنتج مجموع المقدمتين لكن حضور المقدمتين دفعة واحدة في الذهن محال لأنا جربنا أنفسنا فوجدنا أنا متى وجهنا الخاطر نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر وربما سلم بعضهم أن النظر في الجملة يفيد العلم لكنه يقول النظر في الإلاهيات لا يفيد واحتج عليه بوجهين الأول أن حقيقة الإله غير متصورة وإذا لم تكن الحقيقة متصورة استحال التصديق لا بثبوته ولا بثبوت صفة من صفاته بيان الأول أن المعلوم عند البشر كون واجب الوجود منزهاً عن الحيز والجهة وكونه موصوفاً بالعلم والقدرة أما الوجوب والتنزيه فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب فلم يكن العلم بهذا السلب علماً بحقيقته وأما الموصوفية بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هذه الصفات وليست ذاته نفس هذا الانتساب فالعلم بهذا الانتساب ليس علماً بذاته بيان الثاني أن التصديق موقوف على التصور فإذا فقد التصور امتنع التصديق ولا يقال ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له لكنها متصورة بحسب لوازمها أعني أنا نعلم أنه شيء ما يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام فيحكم على هذا المتصور قلنا هذه الأمور المعلومة إما أن يقال إنها نفس الذات وهو محال أو أمور خارجة عن الذات فلما لم نعلم الذات لا يمكننا أن نعلم كونها موصوفة بهذه الصفات فإن كان التصور الذي هو شرط إسناد هذه الصفات إلى ذاته هو أيضاً تصور بحسب صفات آخر فحينئذٍ يكون الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال الوجه الثاني أن أظهر الأشياء عندنا ذاتنا وحقيقتنا التي إليها نشير بقولنا أنا ثم الناس تحيروا في ماهية المشار إليه يقول أنا فمنهم من يقول هو هذا البنية ومنهم من يقول هو المزاج ومنهم من يقول بعض الأجزاء الداخلة في هذه البنية ومنهم من يقول شيء لا داخل هذا البدن ولا خارجه فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا
أما المقام الثاني وهو أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا فقد احتجوا عليه بوجوه أحدها أن تحصيل التصورات غير مقدور فالتصديقات البديهية غير مقدورة فجميع التصديقات غير مقدورة وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن طالب تحصيلها إن كان عارفاً بها استحال منه طلبها لأن تحصيل الحاصل محال فإن كان غافلاً عنها استحال كونه طالباً لها لأن الغافل عن الشيء لا يكون طالباً له فإن قيل لم لا يجوز أن يكون معلوماً من وجه ومجهولاً من وجه قلنا لأن الوجه الذي يصدق عليه أنه معلوم غير الوجه الذي يصدق عليه أنه غير معلوم وإلا فقد صدق النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال وحينئذٍ نقول الوجه المعلوم استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل والوجه الذي هو غير معلوم استحال طلبه لأن المغفول عنه لا يكون مطلوباً وإنما قلنا إن التصورات لما كانت غير كسبية استحال كون التصديقات البديهية كسبية وذلك لأن عند حضور طرفي الموضوع والمحمول في الذهن من القضية البديهية إما أن يلزم من مجرد حضورهما جزم الذهن بإسناد أحدهما إلى الآخر بالنفي أو الإثبات أو لا يلزم فإن لم يلزم لم تكن القضية بديهية بل كانت مشكوكة وإن لزم كان التصديق واجب الحصول عند حضور ذينك التصورين وممتنع الحصول عند عدم حضورهما وما يكون واجب الدوران نفياً وإثباتاً مع ما لا يكون مقدوراً نفياً وإثباتاً وجب أن يكون أيضاً كذلك فثبت أن التصديقات البديهية غير كسبية وإنما قلنا إن هذه التصديقات لما لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبياً لأن التصديق الذي لا يكون بديهياً لا بدّ وأن يكون نظرياً فلا يخلو إما أن يكون واجب اللزوم عند حضور تلك التصديقات البديهية أو لا يكون فإن لم يكن واجب اللزوم منها لم يلزم من صدق تلك المقدمات صدق ذلك المطلوب فلم يكن ذلك استدلالاً يقينياً بل إما ظناً أو اعتقاداً تقليدياً وإن كان واجباً فكانت تلك النظريات واجبة الدوران نفياً وإثباتاً مع تلك القضايا الضرورية فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدوراً للعبد أصلاً وثانيها أن الإنسان إنما يكون قادراً على إدخال الشيء في الوجود لو كان يمكنه أن يميز ذلك المطلوب عن غيره والعلم إنما يتميز عن الجهل بكونه مطابقاً للمعلوم دون الجهل وإنما يعلم ذلك لو علم المعلوم على ما هو عليه فإذن لا يمكنه إيجاد العلم بذلك الشيء إلا إذا كان عالماً بذلك الشيء لكن ذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل فوجب أن لا يكون العبد متمكناً من إيجاد العلم ولا من طلبه وثالثها أن الموجب للنظر إما ضرورة العقل أو النظر أو السمع والأول باطل لأن الضروري لم يشترط العقل فيه ووجوب الفكر والنظر ليس كذلك بل كثير من العقلاء يستقبحونه ويقولون إنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل فوجب الاحتراز منه والثاني أيضاً باطل لأنه إذا كان العلم بوجوبه يكون نظرياً فحينئذٍ لا يمكنه العلم بوجوب النظر قبل النظر فتكليفه بذلك يكون تكليف ما لا يطاق وأما بعد النظر فلا يمكنه النظر لأنه لا فائدة فيه والثالث باطل لأنه قبل النظر لا يكون متمكناً من معرفة وجوب النظر وبعد النظر لا يمكنه إيجابه أيضاً لعدم الفائدة وإذا بطلت الأقسم ثبت نفي الوجوب المقام الثالث وهو أن بتقدير كون النظر مفيداً للعلم ومقدوراً للمكلف لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به وبيانه من وجوه أحدها أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالباً إلى الجهل وما يكون كذلك يكون قبيحاً فوجب أن يكون الفكر
قبيحاً والله تعالى لا يأمر بالقبيح وثانيها أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه وأن الباطل مع خصمه ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا وجدوا الكلمات متعارضة وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق وثالثها أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكاً في تلك المقدمة وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكاً فيه صارت النتيجة ظنية لأن المظنون لا يفيد اليقين فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث ورابعها أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب الدين بالكلام تزندق وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه المقام الرابع أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو إما أن يكون العلم بدلائلها علماً ضرورياً غنياً عن التعلم والاستفادة وإما أن لا يكون كذلك بل يحتاج في تحصيلها إلى التأمل والتدبر والاستفادة والأول باطل وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة فلو كان الدين مبنياً عليه لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ولما لم يشتهر بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين فإن قيل معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين قلنا هذا ضعيف لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة وذلك لأن الدليل إذا كان مبنياً على مقدمات عشرة فإن كان الرجل جاز ما بصحة تلك المقدمات كان عارفاً بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها لأن الزيادة عل تلك العشرة إن كان معتبراً في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط وإلا لم يكن معتبراً لم يكن العلم به علماً بزيادة شيء في الدليل بل يكون علماً منفصلاً فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضاً لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينياً لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنياً فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال مثاله إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافياً قال سبحان الله فمن الناس من قال إن قوله سبحان الله يدل على أنه عرف الله بدليله وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفاً بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بدّ له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم والطبيعة والعلة الموجبة فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقداً
لهذه المقدمة الثانية من غير دليل فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليداً لا يقيناً فثبت بهذا فساد ما قلتموه المقام الخامس أن نقول الاشتغال بعلم الكلام بدعة والدليل عليه القرآن والخبر والإجماع وقول السلف والحكم أما القرآن فقوله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) ذم الجدل وقال أيضاً وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) قالوا فأمر بالإعراض عنهم عند خوضهم في آيات الله تعالى وأما الخبر فقوله عليه السلام ( تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ) وقوله عليه السلام ( عليكم بدين العجائز ) وقوله ( إذا ذكر القدر فأمسكوا ) وأما الإجماع فهو أن هذا علم لم تتكلم فيه الصحابة فيكون بدعة فيكون حراماً أما أن الصحابة ما تكلموا فيه فظاهر لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نصب نفسه للاستدلال في هذه الأشياء بل كانوا من أشد الناس إنكاراً على من خاض فيه وإذا ثبت هذا ثبت أنه بدعة وكل بدعة حرام بالاتفاق أما الأثر قال مالك بن أنس إياكم والبدع قيل وما البدع يا أبا عبد الله قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون وسئل سفيان بن عيينة عن الكلام فقال اتبع السنة ودع البدعة وقال الشافعي رضي الله عنه لأن يبتلي الله العبد بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وقال لو أوصى رجل بكتبه العلمية لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل تلك الكتب في الوصية وأما الحكم فهو أنه لو أوصى للعلماء لا يدخل المتكلم فيه والله أعلم فهذا مجموع كلام الطاعنين في النظر والاستدلال والجواب أما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر لا يفيد العلم فهي فاسدة لأن الشبه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه وهو متناقض وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة لأنهم مختارون في استخراج تلك الشبه فيبطل قولهم إنها ليست اختيارية وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعاويل على النظر قبيح فهي متناقضة لأنه يلزمهم أن يكون إيرادهم لهذه الشبه التي أوردوها قبيحاً وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن الرسول ما أمر بذلك فهو باطل لأنا بينا أن الأنبياء بأسرهم ما جاءوا إلا بالأمر بالنظر والاستدلال وأما قوله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ فهو محمول على الجدل بالباطل توفيقاً بينه وبين قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ وأما قوله وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ( الأنعام 68 ) فجوابه أن الخوض ليس هو النظر بل الخوض في الشيء هو اللجاح وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخالق ) فذاك إنما أمر به ليستفاد منه معرفة الخالق وهو المطلوب وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( عليكم بدين العجائز ) فليس المراد إلا تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأمور على الله على ما قلنا وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا ذكر القدر فأمسكوا ) فضعيف لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي وأما الإجماع فنقول إن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين فمسلم لكنه لا يلزم منه القدح في الكلام كما أنهم لم يستعلموا ألفاظ الفقهاء ولا يلزم منه القدح في الفقه البتة وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله تعالى ورسوله بالدليل فبئس ما قلتم وأما تشديد السلف على الكلام فهو محمول على أهل البدعة وأما مسألة الوصية فهي معارضة بما أنه لو أوصى لمن كان عارفاً بذات اللهوصفاته وأفعاله وأنبيائه ورسله لا يدخل فيه الفقيه ولأن مبنى الوصايا
على العرف فهذا إتمام هذه المسألة والله أعلم
المسألة الثانية أما حقيقة العبادة فذكرناها في قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وأما الخلق فحكى الأزهري صاحب ( التهذيب ) عن ابن الأنباري أنه التقدير والتسوية واحتجوا فيه بالآية والشعر والاستشهاد أما الآية فقوله تعالى أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) أي المقدرين وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( العنكبوت 17 ) أي تقدرون كذباً وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ ( المائدة 110 ) أي تقدر وأما الشعر فقول زهير
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال آخر فولا يئط بأيدي الخالقين ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس ومنه قول العرب للأحاديث التي لا يصدق بها أحاديث الخلق ومنه قوله تعالى إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 137 ) والخلاق المقدار من الخير وهو خليق أي جدير كأنه الذي منه الخلاق والصخرة الخلقاء الملساء لأن في الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ومنه ( أخلق الثوب ) لأنه إذا بلي صار أملس واستوى نتوه واعوجاجه فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والاستواء قال القاضي عبد الجبار الخلق فعل بمعنى التقدير واللغة لا تقتضي أن ذلك لا يتأتى إلا من الله تعالى بل الكتاب نطق بخلافه في قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ طِينٍ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) لكنه تعالى لما كان يفعل الأفعال لعلمه بالعواقب وكيفية المصلحة ولا فعل له إلا كذلك لا جرم اختص بهذا الاسم وقال أستاذه أبو عبد الله البصري إطلاق اسم خالق على الله محال لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والنظر والحسبان وذلك في حق الله محال وقال جمهور أهل السنّة والجماعة الخلق عبارة عن الإيجاد والإنشاء واحتجوا عليه بقول المسلمين لا خالق إلا الله ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك
المسألة الثالثة اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده ولما لم يكن العلم بوجوده ضرورياً بل استدلالياً لا جرم أورد ههنا ما يدل على وجوده واعلم أننا بينا في ( الكتب العقلية ) أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان وإما الحدوث وإما مجموعهما وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها أحدها الاستدلال بإمكان الذوات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) وبقوله حكاية عن إبراهيم فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) وبقوله وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وثانيها الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وبقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء على ما سيأتي تقريره وثالثها الاستدلال بحدوث الأجسام وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ورابعها الاستدلال بحدوث الأعراض وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وذلك محصور في أمرين
دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ( والكتب الإلهية ) في الأكثر مشتملة على هذين البابين والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين أما دلائل الأنفس فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً قبل ذلك وأنه صار الآن موجوداً وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بدّ له من موجد وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة فلا بدّ من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص إلا أن لقائل أن يقول ههنا لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم ولما كان هذا السؤال محتملاً ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وهو المراد من دلائل الآفاق ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأَشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات فلا بدّ وأن يكون لأمر منفصل وذلك الأمر إن كان جسماً عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام وإن لم يكن جسماً فإما أن يكون موجباً أو مختاراً والأول باطل وإلا لم يكن اختصاص بعضالأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بدّ وأن يكون قادراً فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم ولا بجسماني وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات وإذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين الأول أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقاً بالعقول وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك الثاني أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الخالق علينا فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع واعلم أن للسلف طرقاً لطيفة في هذا الباب أحدها يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق رضي الله عنه فقال جعفر هل ركبت البحر قال نعم قال هل رأيت أهواله قال بلى هاجت يوماً رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل فقال جعفر قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد قال بل رجوت السلامة قال ممن كنت ترجوها فسكت الرجل فقال جعفر إن الصانع هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت وهو
الذي أنجاك من الغرق فأسلم الرجل على يده وثانيها جاء في ( كتاب ديانات العرب ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمران بن حصين ( كم لك من إله ) قال عشرة قال فمن لغمك وكربك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم قال الله قال عليه السلام ( مالك من إله إلا الله ) وثالثها كان أبو حنيفة رحمه الله سيفاً على الدهرية وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه فبينما هو يوماً في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله فقال لهم أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم فقالوا له هات فقال ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها هل يجوز ذلك في العقل قالوا لا هذا شيء لا يقبله العقل فقال أبو حنيفة يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ فبكوا جميعاً وقالوا صدقت وأغمدوا سيوفهم وتابوا ورابعها سألوا الشافعي رضي الله عنه ما الدليل على وجود الصانع فقال ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم قالوا نعم قال فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم والنحل فيخرج منها العسل والشاة فيخرج منها البعر ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وكان عددهم سبعة عشر وخامسها سئل أبو حنيفة رضي الله عنه مرة أخرى فتمسك بأن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى وبالعكس فدل على الصانع وسادسها تمسك أحمد بن حنبل رضي الله عنه بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ظاهرها كالفضة المذابة وباطنها كالذهب الإبريز ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير فلا بدّ من الفاعل عنى بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ وسابعها سأل هرون الرشيد مالكاً عن ذلك فاستدل باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات وثامنها سئل أبو نواس عنه فقال فتأمل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
وأزهار كما الذهب السبيك
على قضب الزبر جد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
وتاسعها سئل أعرابي عن الدليل فقال البعرة تدل على البعير والروث على الحمير وآثار الأقدام على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير
وعاشرها قيل لطبيب بم عرفت ربك قال باهليلج مجفف أطلق ولعاب ملين أمسكا وقال آخر عرفته بنحلة بأحد طرفيها تعسل والآخر تلسعا والعسل مقلوب اللسع وحادي عشرها حكم البديهية في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزخرف 87 ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( غافر 87 )
المسألة الرابعة قال القاضي الفائدة في قوله الَّذِى خَلَقَكُمْ أن العبادة لا تستحق إلا بذلك فلما ألزم عباده بالعبادة بين ماله ولأجله تلزم العبادة فإن قيل فما الفائدة في قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم قلنا الجواب من وجهين الأول إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة الثاني أن من قبلهم كالأصول لهم وخلق الأصول يجري مجرى الأنعام على الفروع فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم كأنه تعالى يقول لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقاً لأصولك وآبائك
المسألة الخامسة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بجثان البحث الأول أن كلمة لعل للترجي والإشفاق تقول لعل زيداً يكرمني وقال تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) ألا ترى إلى قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ( الشورى 18 ) والترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وذلك على الله تعالى محال فلا بدّ فيه من التأويل وهو من وجوه أحدها أن معنى ( لعل ) راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى فقوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره وثانيها أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا لعل وعسى ونحوهما من الكلمات أو للظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب فعلى هذاالطريق ورد لفظ لعل في كلام الله تعالى وثالثها ما قيل أن لعل بمعنى كي قال صاحب ( الكشاف ) ولعل لا يكون بمعنى كي ولكن كلمة لعل للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا السبب قيل لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي ورابعها أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود فالمراد من لفظة لعل فعل ما لو فعله غيره لكان موجباً للرجاء خامسها قال القفال لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللاً بعد نهل واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد فأصل لعل عل لأنهم يقولون علك أن تفعل كذا أي لعلك فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه البحث الثاني أن لقائل أن يقول إذا كانت العبادة تقوى فقوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جار مجرى قوله اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون والجواب من وجهين الأول
لا نسلم أن العبادة نفس التقوى بل العبادة فعل يحصل به التقوى لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار والعبادة فعل المأمور به ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز فكأنه تعالى قال اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه وإذا قيل في نفس الفعل إنه اتقاء فذلك مجاز لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه الثاني أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة
المسألة السادسة قرأ أبو عمرو خلقكم بالإدغام وقرأ أبو السميفع وخلق من قبلكم وقرأ زيد بن علي والذين من قبلكم قال صاحب ( الكشاف ) الوجه فيه أنه أفحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً كما أقحم جرير في قوله يا تيم تيم عدي لا أبا لكموا تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه
أما قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( الذي ) وهو موصول مع صلته إما أن يكون في محل النصب وصفاً للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم وإما أن يكون رفعاً على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح
المسألة الثانية ( الذي ) كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق فأبوه منطلق قضية معلومة فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي وهو تحقيق قولهم إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل إذا ثبت هذا فقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناء وذلك تحقيق قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 الزممر 38 )
المسألة الثالثة أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق فبدأ أولاً بقوله خَلَقَكُمْ وثانياً بالآباء والأمهات وهو قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وثالثاً بكون الأرض فراشاً ورابعاً بكون السماء بناء وخامساً بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض وهو قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ولهذا الترتيب أسباب الأول أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة وكان أولى بالذكر فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان ثم ثناه بآبائه وأمهاته ثم ثلث بالأرض لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء الثاني هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع
الثالث أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى فلما كانت وجوه الدلائل له ههنا أتم كان أولى بالتقديم واعلم أنا كما ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر في كل واحد من هذه الثلاثة من المنافع
المسألة الرابعة اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشاً ونظيره قوله أَم مَّنْ جَعَلَ الاْرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً ( النحل 61 ) وقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مِهَاداً ( الزخرف 10 ) واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور الشرط الأول كونها ساكنة وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالإستقامة أو بالاستدارة فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشاً لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية وذلك الإنسان هاوٍ والأرض أثقل من الإنسان والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأَبطأ لا يلحق الأسرع فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشاً أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها لأن حركة الأرض مثلاً إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه أحدها أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام وثانيها الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل وذلك السطح موضوع على الماء والهواء ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء وإن جمعت رسبت وهذا باطل الوجهين الأول أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض والثاني لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطاً حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدباً وثالثها الذين قالوا سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط وهذا باطل لوجهين الأول أن الأصغر أسرع انجذاباً من الأكبر فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك الثاني الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود ورابعها قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب وهذا أيضاً باطل من وجوه خمسة الأول الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا الثاني ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها الثالث ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق الرابع يجب أن يكون الثقيل كلما كان
أعظم أن تكون حركته أبطأ لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر أبطأ من اندفاع الأصغر الخامس يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء لأنه عند الابتداء أبعد من الفلك وخامسها أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك وهو قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه وهذا أيضاً ضعيف لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لا بدّ وأن يكون جائزاً فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار وسادسها قال أبو هاشم النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف والسؤال عليه أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى وعند هذا نقول انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لا بدّ من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ولهذا قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ ( فاطر 41 ) الشرط الثاني في كون الأرض فراشاً لنا أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن وأيضاً فلو كانت الأرض من الذهب مثلاً لتعذرت الزراعة عليها ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد وأن لا تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرجل الشرط الثالث أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية فإن الشفاف لا يستقر النور عليه وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس فكان يبرد جداً فجعل الله كونه أغبر ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات الشرط الرابع أن تكون بارزة من الماء لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة وهذا بعيد جداً لأن الكرة إذا عظمت جداً كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه والذي يزيده تقريراً أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها فهذا أولى والله أعلم
المسألة الخامسة في سائر منافع الأرض وصفاتها فالمنفعة الأولى الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى الثانية أن يتخمر الرطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات الثالثة اختلاف بقاع الأرض فمنها أرض رخوة وصلبة ورملة وسبخة وحرة
وهي قوله تعالى وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ ( الرعد 4 ) وقال وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ( الأعراف 58 ) الرابعة اختلاف ألوانها فأحمر وأبيض وأسود ورمادي اللون وأغبر على ما قال تعالى وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ الخامسة انصداعها بالنبات قال تعالى وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ( الطارق 12 ) السادسة كونها خازنة للماء المنزل من السماء وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون 18 ) وقوله قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( الملك 30 ) السابعة العيون والأنهار العظام التي فيها وإليه الإشارة بقوله ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً الثامنة ما فيها من المعادن والفلزات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ ( الحجر 19 ) ثم بين بعد ذلك تمام البيان فقال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) التاسعة الخبء الذي تخرجهالأرض من الحب والنوى قال تعالى إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ( الأنعام 95 ) وقال يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( النحل 25 ) ثم إن الأر لها طبع الكرم لأنك تدفع إليها حبة واحدة وهي تردها عليك سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) العاشرة حياتها بعد موتها قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ( السجدة 27 ) وقال وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( ي س 33 ) الحادية عشرة ما عليها من الدواب المختلفة الألوان والصور والخلق وإليه الإشارة بقوله خَلَقَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( لقمان 10 ) والثانية عشر ما فيها من النبات المختلف ألوانه وأنواعه ومنافعه وإليه الإشارة بقوله وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ق 7 ) فاختلاف ألوانها دلالة واختلاف طعومها دلالة واختلاف روائحها دلالة فمنها قوت البشر ومنها قوت البهائم كما قال كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( طه 54 ) أما مطعوم البشر فمنها الطعام ومنها الأدام ومنها الدواء ومنها الفاكهة ومنها الأنواع المختلفة في الحلاوة والحموضة قال تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 ) وأيضاً فمنها كسوة البشر لأن الكسوة إما نباتية وهي القطن والكتان وإما حيوانية وهي الشعر والصوف والإبريسم والجلود وهي من الحيوانات التي بثها الله تعالى في الأرض فالمطعوم من الأرض والملبوس من الأرض ثم قال وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى
ثم إنه سبحانه وتعالى جعل الأرض ساترة لقبائحك بعد مماتك فقال أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( المرسلات 25 ) ثم إنه سبحانه وتعالى جمع هذه المنافع العظيمة للسماء والأرض فقال وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاْرْضِ ( الجاثية 13 ) الثالثة عشرة ما فيها من الأحجار المختلفة ففي صغارها ما يصلح للزينة فتجعل فصوصها للخواتم وفي كبارها ما يتخذ للأبنية فانظر إلى الحجر الذي تخرج النار منه مع كثرته وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته ثم انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الشريف الرابعة عشرة ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة ثم تأمل فإن البشر استخرجوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمكة من قعر البحر واستنزلوا الطير من أوج الهواء ثم عجزوا عن إيجاد الذهب والفضة والسبب فيه أنه لا فائدة في وجودهما إلا الثمينة وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة فالقادر على إيجادهما يبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً إظهار لهذه الحكمة وإبقاء لهذه النعمة ولذلك فإن ما لا مضرة على الخلق فيه مكنهم منه فصاروا متمكنين من اتخاذ الشبه من النحاس والزجاج من الرمل وإذا تأمل العاقل في هذه اللطائف والعجائب اضطر في افتقار هذه التدابير إلى صانع حكيم مقتدر عليم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً الخامسة عشرة كثرة ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار التي تصلح للبناء والسقف ثم الحطب وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ قد نبه الله تعالى على دلائل الأرض ومنافعها بألفاظ لا يبلغها البلغاء ويعجز عنها الفصحاء فقال وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( الرعد 3 ) وأما الأنهار فمنها العظيمة كالنيل وسيحون وجيحون والفرات ومنها الصغار وهي كثيرة وكلها تحمل مياهاً عذبة للسقي والزراعة وسائر الفوائد
المسألة السادسة في أن السماء أفضل أم الأرض قال بعضهم السماء أفضل لوجوه أحدها أن السماء متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصى الله فيها أحد وثانيها لما أتى آدم عليه السلام في الجنة بتلك المعصية قيل له اهبط من الجنة وقال الله تعالى لا يسكن في جواري من عصاني وثالثها قوله تعالى وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ( المؤمنون 32 ) وقوله تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) ولم يذكر في الأرض مثل ذلك ورابعها أن في أكثر الأمر ورد ذكر السماء مقدماً على الأرض في الذكر وقال آخرون بل الأرض أفضل لوجوه ( ا ) أنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً ( آل عمران 96 ) ( ب ) فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ ( القصص 30 ) ( ج ) إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) ( د ) وصف أرض الشام بالبركة فقال مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا ( الأعراف 137 ) وخامسها وصف جملة الأرض بالبركة فقال قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ ( فصلت 9 ) إلى قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ( فصلت 10 ) فإن قيل وأي بركة في الفلوات الخالية والمفاوز المهلكة قلنا إنها مساكن للوحوش ومرعاها ثم إنها مساكن للناس إذا احتاجوا إليها فلهذه البركات قال تعالى وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ( الذاريات 20 ) وهذه الآيات وإن كانت حاصلة لغير الموقنين لكن لما لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للموقنين تشريفاً لهم
كما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وسادسها أنه سبحانه وتعالى خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( طه 55 ) ولم يخلق من السموات شيئاً لأنه قال وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ( الأنبياء 32 ) وسابعها أن الله تعالى أكرم نبيه بها فجعل الأرض كلها مساجد له وجعل ترابها طهوراً أما قوله السَّمَاء بِنَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر أمر السماوات والأرض في كتابه في مواضع ولا شك أن إكثار ذكر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض يدل على عظم شأنهما وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسراراً عظيمة وحكماً بالغة لا يصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم
المسألة الثانية في فضائل السماء وهي من وجوه الأول أن الله تعالى زينها بسبعة أشياء بالمصابيح وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ( الملك 5 ) وبالقمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وبالشمس وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوج 16 ) وبالعرش رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 29 ) وبالكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 255 ) وباللوح فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) وبالقلم ن وَالْقَلَمِ ( القلم 1 ) فهذه سبعة ثلاثة منها ظاهرة وأربعة خفية ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار الثاني أنه تعالى سمى السموات بأسماء تدل على عظم شأنها سماء وسقفاً محفوظاً وسبعاً طباقاً وسبعاً شداداً ثم ذكر عاقبة أمرها فقال وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ( المرسلات 9 ) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ( التكوير 11 ) يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( الأنبياء 104 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( المعارج 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً ( الطور 9 ) فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) وذكر مبدأها في آيتين فقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ ( فصلت 11 ) وقال أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ( الأنبياء 30 ) فهذا الاستقصاء الشديد في كيفية حدوثهما وفنائهما يدل على أنه سبحانه خلقهما لحكمة بالغة على ما قال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) والثالث أنه تعالى جعل السماء قبلة الدعاء فالأيدي ترفع إليها والوجوه تتوجه نحوها وهي منزل الأنوار ومحل الصفاء والأضواء والطهارة والعصمة عن الخلل والفساد الرابع قال بعضهم السماوات والأرضون على صفتين فالسماوات مؤثرة غير متأثرة والأرضون متأثرة غير مؤثرة والمؤثر أشرف من القابل فلهذا السبب قدم ذكر السماء على الأرض في الأكثر وأيضاً ففي أكثر الأمر ذكر السموات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد فإنه لا بدّ من السموات الكثيرة ليحصل بسببها الاتصالات المختلفة للكواكب وتغير مطارح الشعاعات وأما الأرض فقابلة فكانت الأرض الواحدة كافية الخامس تفكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وتقوية له حتى أن الأطباء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزرقة فانظر كيف جعل الله تعالى أديم
السماء ملوناً بهذا اللون الأزرق لتنتفع به الأبصار الناظرة إليها فهو سبحانه وتعالى جعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ولهذا قال أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا لَهَا مِن فُرُوجٍ يعني ما فيها من فصول ولو كانت سقفاً غير محيط بالأرض لكانت الفروج حاصلة
المسألة الثالثة في بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها وهي الشمس والقمر والنجوم أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله فكيف كان الناس يسعون في معايشهم ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة ولكن تأمل النفع في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) وأيضاً فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً والثالث أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ويهلك ما عليها من نبات على ما قال أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( لفرقان 45 ) فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سبباً لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتنحل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للبناء والعمارات وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلاً قليلاً إلى الشتاء فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظاً من شعاع الشمس وأيضاً كأن الله تعالى يقول لو وقفت في جانب الشرق والغنى قد رفع بناءه على كوة الفقير فكان لا يصل النور إلى الفقير لكنه تعالى يقول إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه وأما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى
وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم يكن عودات متتالية وكانت الكواكب تتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الأفراط وكان يعرض قريباً مما لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية هذا أما القمر وهو المسمى بآية الليل فاعلم أنه سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة وجعل طلوعه في وقت مصلحة وغروبه في وقت آخر مصلحة أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو ولولا الظلام لأدركه العدو وهو المراد من قول المتنبي فوكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وأما طلوعه ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام وأظهره القمر ومن الحكايات أن أعرابياً نام عن جمله ليلاً ففقده فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر وقال إن الله صورك ونورك وعلى البروج دورك فإذا شاء نورك وإذا شاء كورك فلا أعلم مزيداً أسأله لك ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ثم أنشأ يقول فماذا أقول وقولي فيك ذو قصر
وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا
أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
ولقد كان في العرب من يذم القمر ويقول القمر يقرب الأجل ويفضح السارق ويدرك الهارب ويهتك العاشق ويبلي الكتان ويهرم الشبان وينسى ذكر الأحباب ويقرب الدين ويدني الحين وكان فيهم أيضاً من يفضل القمر على الشمس من وجوه أحدها أن القمر مذكر والشمس مؤنث لكن المتنبي طعن فيه بقوله ففما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
وثانيها أنهم قالوا القمران فجعلوا الشمس تابعة للقمر ومنهم من فضل الشمس على القمر بأن الله تعالى قدمها على القمر في قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن ) والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ( الشمس 21 ) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله ( الشمس 21 ) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( التغابن 2 ) وقال لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الحشر 20 ) وقال خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وقال إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( الشرح 6 ) وقال فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ الآية أما النجوم ففيها منافع المنفعة الأولى كونها رجوماً للشياطين والثانية معرفة القبلة بها والثالثة أن يهتدي بها المسافر في البر والبحر قال تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الأنعام 97 ) ثم النجوم على ثلاثة أقسام غاربة لا تطلع كالكواكب الجنوبية وطالعة لا تغرب كالشمالية ومنها ما يغرب تارة ويطلع أخرى وأيضاً منها ثوابت ومنها سيارات ومنها شرقية ومنها غربية والكلام فيها طويل أما الذي تدعيه الفلاسفة من معرفة الأجرام والأبعاد
فدع عنك بحراً ضل فيه السوابح
قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( الجن 26 27 ) وقال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ( هود 31 ) وقال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ( الكهف 51 ) فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك قال قائلهم فوأعرف ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال لبيد ففوالله ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
المسألة الرابعة في شرح كون السماء بناء قال الجاحظ إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعة وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحة فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال أَنَاْ صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً ( عبس 25 26 ) فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن فكيف الحال في الجنة فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم لأن الأم تسقيك لوناً واحداً من اللبن والأرض تطعمك كذا وكذا لوناً من الأطعمة ثم قال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( طه 55 ) معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة فضلاً عن أن تكون لك كبيرة بل كنت مطيعاً لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ومن أنواع الثمار رزقاً لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ويعرفوا أن شيئاً من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليفها إلا من كان مخالفاً لها في الذات والصفات وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى وههنا سؤالات
السؤال الأول هل تقولون إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة أو تقولون إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة وفي الأرض طبيعة قابلة فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى والجواب لا شك أن على كلا القولين لا بدّ من الصانع الحكيم وأما التفصيل فنقول لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة والجسم قابل لهذه الصفات وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث أو الإمكان وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادراً على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بدّ فيه من دليل السؤال الثاني لما كان قادراً على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة والجواب يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوهاً أحدها أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلباً للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالاً بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعاً لضرر المرض فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعاً لضرر العقاب كان أولى وثانيها أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذٍ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق وفكر غامض فيستوجب الثواب ولهذا قيل لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وثالثها أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة السؤال الثالث قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء يقتضي نزول المطر من السماء وليس الأمر كذلك فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر والجواب من وجوه أحدها أن السماء إنما سميت سماء لسموها فكل ما سماك فهو سماء فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء وثانيها أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء وثالثها أن قول الله هو الصدق وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض السؤال الرابع ما معنى من في قوله مِنَ الثَّمَراتِ الجواب فيه وجهان أحدهما التبعيض لأن المنكرين أعني ماء ورزقاً يكتنفانه وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم والثاني أن يكون للبيان كقولك أنفقت من الدراهم
إنفاقاً فإن قيل فيم انتصب رزقاً قلنا إن كان من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له وإن كا نت مبينة كان مفعولاً لأخرج السؤال الخامس الثمر المخرج بماء السماء كثير فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار الجواب تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا وإشعاراً بتعظيم أمر الآخرة والله أعلم
أما قوله تعالى فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ففيه سؤالات السؤال الأول بم تعلق قوله فَلاَ تَجْعَلُواْ الجواب فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يتعلق بالأمر أي أعبدوا فلا تجعلوا لله أنداداً فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد وثانيها بلعل والمعنى خلقكم لكي تنقوا وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له نداً فإنه من أعظم موجبات العقاب وثالثها بقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء السؤال الثاني ما الند الجواب أنه المثل المنازع وناددت الرجل نافرته من ند ندوداً إذا نفر كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه أي ينافره ويعانده فإن قيل إنهم لم يقولوا إن الأصنام تنازع الله قلنا لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصلح أن يكون له ند قط وقرأ محمد بن السميفع فلا تجعلوا لله نداً السؤال الثالث ما معنى وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ الجواب معناه إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله تعالى فلا تقولوا ذلك فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة وهذا مما لم يوجد إلى الآن لكن الثنوية يثبتون إلهين أحدهما حليم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشر وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة الفريق الأول عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم قالوا فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى والفريق الثاني النصارى الذين يعبدون المسيح عليه السلام والفريق الثالث عبدة الأوثان واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام وهو إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله تعالى عن قومه في قوله وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( نوح 23 ) فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح عليه السلام وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يكون بحيث يعرف فساده بالضرورة لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السموات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك والعلماء ذكروا فيه وجوهاً
أحدها ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن الله تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه وثانيها ما ذكره أكثر العلماء وهو أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة والفريق الثاني أنها هي الوسائط بين الله تعالى وبين البشر فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية ومتقربين إلى أشباحها الغائبة ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب وثالثها أن أصحاب الأحكام كانوا يعينون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ولما طالت مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر ورابعها أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنماً على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وخامسها لعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها وسادسها لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حت ى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل
المسألة الثانية فإن قال قائل لما رجع حاصل مذهب عبدة الأوثان إلى هذه الوجوه التي ذكرتموها فمن أين يلزم من إثبات خالق العالم أن لا يجوز عبادة الأوثان الجواب قلنا إنه تعالى إنما نبه على كون الأرض والسماء مخلوقتين بما بينا أن الأرض والسماء يشاركون سائر الأجسام في الجسمية فلا بدّ وأن يكون اختصاص كل واحد منهما بما اختص به من الأشكال والصفات والأخبار بتخصيص مخصص وبينا أن ذلك المخصص لو كان جسماً لافتقر هو أيضاً إلى مخصص آخر فوجب أن لا يكون جسماً إذا ثبت هذا فنقول أما قول من ذهب إلى عبادة الأوثان بناءً على اعتقاد الشبه فلما دللنا بهذه الدلالة على نفي الجسمية فقد بطل قوله وأما القو ل الثاني وهو أن هذه الكواكب هي المدبرة لهذا العالم فلما أقمنا الدلالة على أن كل جسم يفتقر في اتصافه بكل ما اتصف به إلى الفاعل المختار بطل كونها آلهة وثبت أنها عبيد لا أرباب وأما القول الثالث وهو قول أصحاب الطلسمات فقد بطل أيضاً لأن تأثير الطلسمات إنما يكون بواسطة قوى الكواكب فلما دللنا على حدوث الكواكب ثبت قولنا وبطل قولهم وأما القول الرابع والخامس فليس في العقل ما يوجه أو يحيله لكن الشرع لما منع منه وجب الامتناع عنه وأما القول السادس فهو أيضاً بناءً على التشبيه فثبت بما قدمنا أن إقامة الدلالة على افتقار العالم إلى الصانع المختار المنزه عن الجسمية يبطل القول بعبادة الأوثان على كل التأويلات والله أعلم
المسألة الثالثة اعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتخذوها معبوداً لهم على حدة وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي وهيكل العقل الصريح وهيكل السياسة المطلقة وهيكل النفس والصورة مدورات كلها وكان هيكل زحل مسدساً وهيكل المشتري مثلثاً وهيكل المريخ مستطيلاً وهيكل الشمس مربعاً وكان هيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل وهيكل القمر مثمناً فزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب نستنصر بها فننصر ونستستقي بها فنسقى فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف واعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة ( غمدان ) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ومنها ( نوبهار بلخ ) الذي بناه منهو شهر الملك على اسم القمر ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ( ود ) بدومة الجندل لكلب و ( سواع ) لبني هذيل و ( يغوث ) لبني مذحج و ( يعوق ) لهمدان و ( نسر ) بأرض حمير لذي الكلاع و ( اللات ) بالطائف لثقيف و ( مناة ) بيثرب للخزرج و ( العزى ) لكنانة بنواحي مكة و ( أساف ) ونائلة ) على الصفا والمروة وكان قصي جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل وهو الذي يقول فأربا واحداً أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الرجل البصير
الكلام في النبوة
وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام الدلائل القاهرة على إثبات الصانع وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدل على النبوة وذلك يدل على فساد قول التعليمية الذين جعلوا معرفة الله مستفادة من معرفة الرسول وقول الحشوية الذين يقولون لا تحصل معرفة الله إلا من القرآن والأخبار ولما كانت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين الأول أن يقال إن هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون مساوياً لسائر كلام الفصحاء أو زائداً على سائر كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة أو زائداً عليه بقدر ينقض والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث وإنما قلنا إنهما باطلان لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه إما مجتمعين أو منفردين فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحكام يزيلون الشبهة وذلك نهاية في الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية وكانوا في محبة أبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال وارتكبوا ضروب المهالك والمحن وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل وكل ذلك يوجب الاتيان بما يقدح في قوله والمعارضة أقوى القوادح فلما لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً فهو إذن تفاوت ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزاً فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته ومع ذلك فإنه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزاً أحدها أن فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم وثانيها أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه وكل شاعر ترك الكذب والتزم
الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي وأن الله تعالى مع ما تنزه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحاً كما ترى وثالثها أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك وليس كذلك القرآن لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته ورابعها أن كل من قال شعراً فصيحاً في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول وفي القرآن التكرار الكثير ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً وخامساً أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة وسادسها أنهم قالوا إن شعر امرىء القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل وشعر النابغة عند الخوف وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر وشعر زهير عند الرغبة والرجاء وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن أما القرآن فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على غاية الفصاحة ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 ) وقال تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) وقال في الترهيب أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ الاْيَاتِ ( الإسراء 68 ) وقال مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاْرْضَ فَإِذَا هِى َ تَمُورُ أَمْ أَمْ أَمِنتُمْ ( الملك 16 17 ) الآية وقال وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( إبراهيم 15 ) إلى قوله فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ إلى قوله وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ( العنكبوت 40 ) وقال في الوعظ ما لا مزيد عليه أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ وقال في الإلهيات اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى مَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ( الرعد 8 ) إلى آخره وسابعها أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن وكذا علم أصول الفقه وعلم النحو واللغة وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة واستعمال مكارم الأخلاق ومن تأمل ( كتابنا في دلائل الإعجاز ) علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى الطريق الثاني أن نقول القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغاً في الفصاحة إلى حد الإعجاز أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزاً فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب
المسألة الثانية إنما قال وسابعها أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن وكذا علم أصول الفقه وعلم النحو واللغة وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة واستعمال مكارم الأخلاق ومن تأمل ( كتابنا في دلائل الإعجاز ) علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى الطريق الثاني أن نقول القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغاً في الفصاحة إلى حد الإعجاز أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزاً فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب
المسألة الثانية إنما قال نَزَّلْنَا على لفظ التنزيل دون الإنزال لأن المراد النزول على سبيل التدريج وذكر هذا اللفظ هو اللائق بهذا المكان لأنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند الله ومخالفاً لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة على حسب النوازل ووقوع الحوادث وعلى سنن ما
نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأَنزله على خلاف هذه العادة جملة وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَة ً واحِدَة ً ( الفرقان 32 ) والله سبحانه وتعالى ذكر ههنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون فإن كان الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرىء ( على عبادنا ) يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته
المسألة الثالثة السورة هي طائفة من القرآن وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسور أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السورة بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء وهي أيضاً في أنفسها طوال وأوساط وقصار أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه فإن قيل فما فائدة تقطيع القرآن سوراً قلنا من وجوه أحدها ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبواباً وفصولاً وثانيها أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن وثالثها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نفس ذلك عنه ونشطه للسير ورابعها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل
المسألة الرابعة قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يدل على القرآن أن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حد ما أنزله الله تعالى بخلاف قول كثير من أهل الحديث إنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن
المسألة الخامسة اعلم أن التحدي بالقرآن جاء على وجوه أحدها قوله فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى ( القصص 49 ) وثانيها قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) وثالثها قوهل فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ( هود 13 ) ورابعها قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ونظير هذا كمن يتحدى صاحبه بتصنيفه فيقول ائتني بمثله ائتني بنصفه ائتني بربعه ائتني بمسألة منه فإن هذا هو النهاية في التحدي وإزالة العذر فإن قيل قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وسورة قل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر كان ذلك مكابرة والإقدام على أمثال هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين قلنا فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعحاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن الأمر كذلك كان امتناعهم عن المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً فعلى هذين
التقديرين يحصل المعجز
المسألة السادسة الضمير في قوله مّن مّثْلِهِ إلى ماذا يعود وفيه وجهان أحدهما أنه عائد إلى ( ما ) في قوله مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم والثاني أنه عائد إلى ( عبدنا ) أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء والأول مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين ويدل على الترجيح له وجوه أحدها أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في يونس فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وثانيها أن البحث إنما وقع في المنزل لأنه قال وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا فوجب صرف الضمير إليه ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا شيئاً مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقال وإن ارتبتم في أن محمد منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله وثالثها أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين محصلين أما لو كان عائداً إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذلك لا يقتضي إلا كون أحدهم من الأميين عاجزين عنه لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد لأن الجماعة لا تماثل الواحد والقارىء لا يكون مثل الأمي ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ورابعها أنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة أما لو صرفناه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم وهذا وإن كان معجزاً أيضاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حق محمد عليه السلام كان الأول أولى وخامسها أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد عليه السلام لكان ذلك يوهم أن صدور مثله القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثل من الأمي وغير الأمي ممتنع فكان هذا أولى
المسألة السابعة في المراد من الشهداء وجهان الأول المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان فكأنه قيل لهم إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر فيكون في الكلام محاجة من وجهين أحدهما في إبطال كونها آلهة والثاني في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قبله الثاني المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه السلام والمعنى وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر فإن قيل هل يمكن
حمل اللفظ عليهما معاً وبتقدير التعذر فأيهما فأولى قلنا أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة فيمكن جعله مجازاً عن المعين والناصر وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً لهم وأعواناً وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه وأما الثاني فنقول الأولى حمله على الأكابر وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهراً إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان أو يقال المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم والإضمار خلاف الأصل أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام لأنه يصير كأنه قال وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز
المسألة الثامنة أما ( دون ) فهو أدنى مكان من الشيء ومنه الشيء الدون وهو الحقير الدني ودوَّن الكتب إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ويقال هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلاً ودونك هذا أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حداً إلى حد قال الله تعالى لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( آل عمران 28 ) أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فإن قيل فما متعلق من دون الله قلنا فيه وجهان أحدهما أن متعلقه ( شهداءكم ) وهذا فيه احتمالان الأول المعنى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم والثاني ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة وثانيهما أن متعلقه هو الدعاء والمعنى ادعوا من دون الله شهداءكم يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينه تصحح بها الدعاوى عند الحكام وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم الله يشهد إنا لصادقون
المسألة التاسعة قال القاضي هذا التحدي يبطل القول بالجبر من وجوه أحدها أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدي أصلاً وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز وثانيها أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجبة ويستوي في ذلك ما يكون معجزاً وما لا يكون فلا يصح معنى التحدي على قولهم
وثالثها أن ما يضاف إلى العبد فالله تعالى هو الخالق له فتحديه تعالى لهم يعود في التحقيق إلى أنه متحد لنفسه وهو قادر على مثله من غير شك فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول ورابعها أن المعجز إنما يدل بما فيه من نقض العادة فإذا كان قولهم إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق فلا يصح الاستدلال بالمعجز وخامسها أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يحتج بأنه تعالى خصه بذلك تصديقاً له فيما ادعاه ولو لم يكن ذلك من قبله تعالى لم يكن داخلاً في الإعجاز وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلا من قبله والجواب أن المطلوب من التحدي إما أن يأتي الخصم بالمتحدى به قصداً أو أن يقع ذلك منه اتفاقاً والثاني باطل لأن الاتفاقيات لا تكون في وسعه فثبت الأول وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالتحدي موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه فذلك القصد إن كان منه لزم التسلسل وهو محال وإن كان من الله تعالى فحينئذٍ يعود الجبر ويلزمه كل ما أورده علينا فيبطل كل ما قال
أما قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاعلم أن هذه الآية دالة على المعجز من وجوه أربعة أحدها أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي غاية الحرص على إبطال أمره لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به فحيث ما أتوا به ظهر المعجز وثانيها وهو أنه عليه السلام وإن كان متهماً عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته بل كان يكون وجلاً خائفاً مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره حاشاه من ذلك ( صلى الله عليه وسلم ) فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق وثالثها أنه عليه السلام لو لم يكن قاطعاً بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله لأنه إذا لم يكن قاطعاً بصحة نبوته كان يجوز خلافه وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام ولا يجزم به فلما جزم دل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً في أمره ورابعها أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأن من أيامه عليه الصلاة والسلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية وذلك يدل على فساد قول الجهال الذين يقولون إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال وههنا سؤالات السؤال الأول انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون ( إن ) الذي للشك الجواب فيه وجهان أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم فإنهم كانوا بعد غير جازمين
بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام الثاني أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه إن غلبتك وهو يعلم أنه غالبه تهكماً به السؤال الثاني لم قال فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ولم يقل فإن لم تأتوا به الجواب لأن هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله السؤال الثالث وَلَن تَفْعَلُواْ ما محلها الجواب لا محل لها لأنها جملة اعتراضية السؤال الرابع ما حقيقة لن في باب النفي الجواب لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في ( لن ) توكيداً وتشديداً تقول لصاحبك لا أقيم غداً عندك فإن أنكر عليك قلت لن أقيم غداً ثم فيه ثلاثة أقوال أحدها أصله لا أن وهو قول الخليل وثانيها لا أبدلت ألفها نوناً وهو قول الفراء وثالثها حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل السؤال الخامس ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله الجواب إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندم صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار فاتقاء النار يوجب ترك العناد فأقيم المؤثر مقام الأثر وجعل قوله فَاتَّقُواْ النَّارَ قائماً مقام قوله فاتركوا العناد وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة وفيه تهويل لشأن العناد لإنابة اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار السؤال السادس ما الوقود الجواب هو ما يوقد به النار وأما المصدر فمضوم وقد جاء فيه الفتح قال سيبويه وسمعنا من العرب من يقول وقدنا النار وقوداً عالياً ثم قال والوقود أكثر والوقود الحطب وقرأ عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده السؤال السابع صلة الذي يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة الجواب لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب أو سمعوه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ ( التحريم 6 ) السؤال الثامن فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وههنا معرفة الجواب تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولاً السؤال التاسع ما معنى قوله وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ الجواب أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة وذلك يدل على قوتها من وجهين الأول أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إجماء الحجارة أوقدت أولاً بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما تحرق الثاني أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر
السؤال العاشر لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً الجواب لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناماً وجعلوها للهأنداداً وعبدوها من دونه قال تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) وهذه الآية مفسرة لها فقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معنى وقودها ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكاً بهم وجعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً وإغراباً في تحسرهم ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم وقيل هي حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل بل فيه ما يدل على فساده وذلك لأن الغرض ههنا تعظيم صفة هذه النار والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا أما قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فإنه يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين وليس فيه ما يدل على أن هناك نيراناً أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة
الكلام في المعاد
وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَة ٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة تكلم بعدهما في المعاد وبين عقاب الكافر وثواب المطيع ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر آية في الوعيد أن يعقبها بآية في الوعد وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن مسألة الحشر والنشر من المسائل المعتبرة في صحة الدين والبحث عن هذه المسألة إما أن يقع عن إمكانها أو عن وقوعها أما الإمكان فيجوز إثباته تارة بالعقل وبالنقل أخرى وأما الوقوع فلا سبيل إليه إلا بالنقل وإن الله ذكر هاتين المسألتين في كتابه وبين الحق فيهما من وجوه الوجه الأول أن كثيراً ما حكى عن المنكرين إنكار الحشر والنشر ثم إنه تعالى حكم بأنه واقع كائن من غير ذكر الدليل فيه وإنما جاز ذلك لأن كل ما لا يتوقف صحة نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عليه أمكن إثباته بالدليل النقلي وهذه المسألة كذلك فجاز إثباتها بالنقل مثاله ما حكم ههنا بالنار للكفار والجنة للأَبرار وما أقام عليه دليلاً بل اكتفى بالدعوى وأما في إثبات الصانع وإثبات النبوة فلم يكتف فيه بالدعوى بل ذكر فيه الدليل وسبب الفرق ما ذكرناه وقال في سورة النحل وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى عَلَيْهِ حَقّا
وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( النحل 38 ) وقال في سورة التغابن زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ( التغابن 7 ) الوجه الثاني أنه تعالى أثبت إمكان الحشر والنشر بناءً على أنه تعالى قادر على أمور تشبه الحشر والنشر وقد قرر الله تعالى هذه الطريقة على وجوه فأجمعها ما جاء في سورة الواقعة فإنه تعالى ذكر فيها حكاية عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون فأجابهم الله تعالى بقوله قُلْ إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( الواققعة 49 ) ثم إنه تعالى احتج على إمكانه بأمور أربعة أولها قوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة 58 ) وجه الاستدلال بذلك أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في آفاق أطراف الأعضاء ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع بحصول الانحلال عنها كلها ثم إن الله تعالى سلط قوة الشهوة على البقية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الطلية فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً أولاً في أطراف العالم ثم أنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان ثم إنها كانت متفرقة في أطراف بدن ذلك الحيوان فجمعها الله سبحانه وتعالى في أوعية المني ثم إنه تعالى أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها ذلك الشخص فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى فهذا تقرير هذه الحجة وإن الله تعالى ذكرها في مواضع من كتابه منها في سورة الحج السَّعِيرِ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ إلى قوله وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً ثم قال ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ ( الحج 6 7 ) وقال في سورة قد أفلح المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ ( المؤمنون 15 16 ) وقال في سورة لا أقسم أَلَمْ يَكُ نُطْفَة ً مّن مَّنِى ّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَة ً فَخَلَقَ فَسَوَّى ( القيامة 37 38 ) وقال في سورة الطارق فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ إلى قوله إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( الطارق 5 8 ) وثانيها قوله أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ إلى قوله بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( الواقعة 67 ) وجه الاستدلال به أن الحب وأقسامه من مطول مشقوق وغير مشقوق كالأرز والشعير ومدور ومثلث ومربع وغير ذلك على اختلاف أشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة ففيهما جميعاً أولى ثم إنه لا يفسد بل يبقى محفوظاً ثم إذا ازدادت الرطوبة تنفلق الحبة فلقتين فيخرج منها ورقتان وأما المطول فيظهر في رأسه ثقب وتظهر الورقة الطويلة كما في الزرع وأما النوى فما فيه من الصلابة العظيمة التي بسببها يعجز عن فلقه أكثر الناس إذا وقع في الأرض الندية ينفلق بإذن الله ونواة التمر تنفلق من نقرة على ظهرها ويصير مجموع النواة من نصفين يخرج من أحد النصفين الجزء الصاعد ومن الثاني الجزء الهابط أما الصاعد فيصعد وأما الهابط فيغوص في أعماق الأرض والحاصل أنه يخرج من النواة الصغيرة شجرتان إحداهما خفيف صاعد والأخرى ثقيل هابط مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والهواء والتربة أفلا يدل ذلك على قدرة كاملة وحكمة شاملة فهذا القادر كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء ونظيره قوله تعالى في الحج وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) وثالثها قوله تعالى أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 68 69 ) وتقديره أن الماء جسم ثقيل بالطبع وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع فلا بدّ من قادر
قاهر يقهر الطبع ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول وثانيها أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها وثالثها تسييرها بالرياح ورابعها إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز وكل ذلك يدل على جواز الحشر أما صعود الثقيل فلأنه قلب الطبيعة فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء والثاني لما قدر على جمع تلك الذرات المائية بعد تفرقها فلم لا يجوز جمع الأجزاء الترابية بعد تفرقها والثالث تسيير الرياح فإذا قدر على تحريك الرياح التي تضم بعض تلك الأجزاء المتجانسة إلى بعض فلم لا يجوز ههنا والرابع أنه تعالى أنشأ السحاب لحاجة الناس إليه فههنا الحاجة إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوه من الثواب والعقاب أولى واعلم أن الله تعالى عبر عن هذه الدلالة في موضع آخر من كتابه فقال في الأعراف لما ذكر دلالة التوحيد إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى إلى قوله قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ ( الأعراف 56 ) ثم ذكر دليل الحشر فقال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ إلى قوله كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأعراف 57 ) ورابعها قوله أَفَرَءيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ وجه الاستدلال أن النار صاعدة والشجرة هابطة وأيضاً النار لطيفة والشجرة كثيفة وأيضاً النار نورانية والشجرة ظلمانية والنار حارة يابسة والشجرة باردة رطبة فإذا أمسك الله تعالى في داخل تلك الشجرة الأجزاء النورانية النارية فقد جمع بقدرته بين هذه الأشياء المتنافرة فإذا لم يعجز عن ذلك فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها والله تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة ي س فقال الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً ( ي س 58 )
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة أمر الماء والنار وذكر في النمل أمر الهواء بقوله أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ إلى قوله مِن اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( النمل 64 ) وذكر الأرض في الحج في قوله وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً ( الحج 5 ) فكأنه سبحانه وتعالى بين أن العناصر الأربعة على جميع أحوالها شاهدة بإمكان الحشر والنشر النوع الثاني من الدلائل الدالة على إمكان الحشر هو أنه تعالى يقول لما كنت قادراً على الإيجاد أولاً فلأن أكون قادراً على الإعادة أولى وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر وأنه تعالى ذكرها في مواضع من كتابه منها في البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( البقرة 28 ) ومنها قوله في سبحان الذي وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً ( الإسراء 49 50 ) إلى قوله قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ومنها في العنكبوت أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( العنكبوت 19 ) ومنها قوله في الروم وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( الروم 27 ) ومنها في ي س قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) النوع الثالث الاستدلال باقتداره على السموات على اقتداره على الحشر وذلك في آيات منها في سورة سبحان أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ( الأَسراء 99 ) وقال في ي س أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( ي س 81 ) وقال في الأحقاف أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ ( الأحقاف 33 ) ومنها في سورة ق أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً إلى قوله
رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذالِكَ الْخُرُوجُ ( ق 11 ) ثم قال أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( ق 15 ) النوع الرابع الاستدلال على وقوع الحشر بأنه لا بدّ من إثابة المحسن وتعذيب العاصي وتمييز أحدهما من الآخر بآيات منها في يونس إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ( يونس 4 ) ومنها في طاه إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) ومنها في ص وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 27 28 ) النوع الخامس الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر فمنها خلقه آدم عليه الصلاة والسلام ابتداء ومنها قصة البقرة وهي قوله فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) ومنها قصة إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) ومنها قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( البقرة 259 ) ومنها قصة يحيى وعيسى عليهما السلام فإنه تعالى استدل على إمكانهما بعين ما استدل به على جواز الحشر حيث قال وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ( مريم 9 ) ومنها في قصة أصحاب الكهف ولذلك قال لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الكهف 21 ) ومنها قصة أيوب عليه السلام وهي قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ يدل على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا ومنها ما أظهر الله تعالى على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى حيث قال وَيُحْى ِ الْمَوْتَى ( الحج 6 ) وقال وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى ( المائدة 110 ) ومنها قوله أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( مريم 67 ) فهذا هو الإشارة إلى أصول الدلائل التي ذكرها الله تعالى في كتابه على صحة القول بالحشر وسيأتي الاستقصاء في تفسير كل آية من هذه الآيات عند الوصول إليها إن شاء الله تعالى ثم إنه تعالى نص في القرآن على أن منكر الحشر والنشر كافر والدليل عليه قوله وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ووجه إلزام الكفر أن دخول هذا الشيء في الوجود ممكن الوجود في نفسه إذ لو كان ممتنع الوجود لما وجد في المرة الأولى فحيث وجد في المرة الأولى علمنا أنه ممكن الوجود في ذاته فلو لم يصح ذلك من الله تعالى لدل ذلك إما على عجزه حيث لم يقدر على إيجاد ما هو جائز الوجود في نفسه أو على جهله حيث تعذر عليه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن المكلف الآخر ومع القول بالعجز والجهل لا يصح إثبات النبوة فكان ذلك موجباً للكفر قطعاً والله أعلم
المسألة الثانية هذه الآيات صريحة في كون الجنة والنار مخلوقتين أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فهذا صريحة في أنها مخلوقة وأما الجنة فلأنه تعالى قال في آية أخرى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ولأنه تعالى قال ههنا وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله وحصول الملك في الحال
يقتضي حصول المملوك في الحال فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان
المسألة الثالثة اعلم أن مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ والمطعم بقوله كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَة ٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ والمنكح بقوله وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصاً فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر ولنتكلم الآن في ألفاظ الآية
أما قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه سؤالات الأول علام عطف هذا الأمر والجواب من وجوه أحدها أنه ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والضرب وبشر عمراً بالعفو والإطلاق وثانيها أنه معطوف على قوله فَاتَّقُواْ كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم وثالثها قرأ زيد بن علي وَبَشّرِ على لفظ المبني للمفعول عطفاً على أعدت السؤال الثاني من المأمور بقوله وبشر والجواب يجوز أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأن يكون كل أحد كما قال عليه الصلاة والسلام ( بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة ) لم يأمر بذلك واحد بعينه وإنما كل أحد مأمور به وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن هذا الأمر لعظمته وفخامته حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به السؤال الثالث ما البشارة الجواب أنها الخبر الذي يظهر السرور ولهذا قال الفقهاء إذا قال لعبيده أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أفاد خبره السرور ولو قال مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه ومنه البشرة لظاهر الجلد وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه وأما فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فمن الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك أما قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان لأنه لما ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح وجب التغاير وإلا لزم التكرار وهو خلاف الأصل
المسألة الثانية من الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة فإذا قيل له ما قولك فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم كفر قال إن هذا ممتنع لأن فعل الإيمان والطاعة يوجب استحقاق الثواب الدائم وفعل الكفر استحقاق العقاب الدائم والجمع بينهما محال والقول أيضاً بالتحابط محال فلم يبق إلا أن يقال هذا الفرض الذي فرضتموه ممتنع وإنما قلنا إن القول بالتحابط محال لوجوه
أحدها أن الاستحقاقين إما أن يتضادا أو لا يتضادا فإن تضادا كان طريان الطارىء مشروطاً بزوال الباقي فلو كان زوال الباقي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال وثانيها أن المنافاة حاصلة من الجانبين فليس زوال الباقي لطريان الطارىء أولى من اندفاع الطارىء بقيام الباقي فإما أن يوجدا معاً وهو محال أو يتدافعا فحينئذٍ يبطل القول بالمحابطة وثالثها أن الاستحقاقين إما أن يتساويا أو كان المقدم أكثر أو أقل فإن تعادلا مثل أن يقال كان قد حصل استحقاق عشرة أجزاء من الثواب فطرأ استحقاق عشرة أجزاء من العقاب فنقول استحقاق كل واحد من أجزاء العقاب مستقل بإزالة كل واحد من أجزاء استحقاق الثواب وإذا كان كذلك لم يكن تأثير هذا الجزء في إزالة هذا الجزء أولى من تأثيره في إزالة ذلك الجزء ومن تأثير جزء آخر في إزالته فأما أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء الطارئة مؤثراً في إزالة كل واحد من الأجزاء المتقدمة فيلزم أن يكون لكل واحد من العلل معلولات كثيرة ولكل واحد من المعلولات علل كثيرة مستقلة وكل ذلك محال وإما أن يختص كل واحد من الأجزاء الطارئة بواحد من الباقي من غير مخصص فذلك محال لامتناع ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وأما إن كان المقدم أكثر فالطارىء لا يزيل إلا بعض أجزاء الباقي فلم يكن بعض أجزاء الباقي أن يزول به أولى من سائر الأجزاء فأما أن يزول الكل وهو محال لأن الزائل لا يزول إلا بالناقص أو يتعين البعض للزوال من غير مخصص وهو محال أو لا يزول شيء منها وهو المطلوب وأيضاً فهذا الطارىء إذا أزال بعض أجزاء الباقي فإما أن يبقى الطارىء أو يزول أما القول ببقاء الطارىء فلم يقل به أحد من العقلاء وأما القول بزواله فباطل لأنه إما أن يكون تأثير كل واحد منهما في إزالة الآخر معاً أو على الترتيب والأول باطل لأن المزيل لا بدّ وأن يكون موجوداً حال الإزالة فلو وجد الزوالان معاً لوجد المزيلان معاً فيلزم أن يوجدا حال ما عدما وهو محال وإن كان على الترتيب فالمغلوب يستحيل أن ينقلب غالباً وأما إن كان المتقدم أقل فأما أن يكون المؤثر في زواله بعض أجزاء الطارىء وذلك محال لأن جميع أجزائه صالح للإزالة واختصاص البعض بذلك ترجيح من غير مرجح وهو محال وإما أن يصير الكل مؤثراً في الإزالة فيلزم أن يجتمع على المعلول الواحد علل مستقلة وذلك محال فقد ثبت بهذه الوجوه العقلية فساد القول بالإحباط وعند هذا تعين في الجواب قولان الأول قول من اعتبر الموافاة وهو أن شرط حصول الإيمان أن لا يموت على الكفر فلو مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولاً كان كفراً وهذا قول ظاهر السقوط الثاني أن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً وهو قول أهل السنّة واختيارنا وبه يحصل الخلاص من هذه الظلمات
المسألة الثالثة احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازاً
المسألة الرابعة الجنة البستان من النخل والشجر المتكاتف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره كأنها سترة
واحدة لفرط التفافها وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان فإن قيل لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار الجواب أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس كما يقال لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ( محمد 15 ) وأما قوله كُلَّمَا رُزِقُواْ فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا وههنا سؤالات السؤال الأول ما وقع من ثمرة الجواب فيه وجهان الأول هو كقولك كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير وإنما المراد النوع من أنواع الثمار الثاني وهو أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك رأيت منك أسداً تريد أنت أسد وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة السؤال الثاني كيف يصح أن يقولوا هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل الجواب لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال هذا هو ذاك أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا إنه الأب السؤال الثالث الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا أم من أرزاق الجنة والجواب فيه وجهان الأول أنه من أرزاق الدنيا ويدل عليه وجهان الأول أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولاً عظم ابتهاجه وفرحه به فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا والدليل الثاني أن قوله كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا يتناول جميع المرات فيتناول المرة الأولى فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بدّ وأن يقولوا هذا الذي رزقنا من قبل ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا القول الثاني أن المشبه به رزق الجنة أيضاً والمراد تشابه أرزاقهم ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين الأول المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص الثاني المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ومنهم من يقول إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم قال الحسن يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم
مختلف وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السموات وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرورة وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق أما قوله وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ففيه سؤالان السؤال الأول إلام يرجح الضمير في قوله وَأُتُواْ بِهِ الجواب إن قلنا المشبه به هو رزق الدنيا فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة يعني أتوا بذلك النوع متشابهاً يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلاً منه في الدنيا وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنة أيضاً فإلى الشيء المرزوق في الجنة يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضاً السؤال الثاني كيف موقع قوله وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً من نظم الكلام والجاب أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله قَالُواْ هَاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً أما قوله وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة ولا سيما ما يختص بالنساء وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك قال أهل الإشارة وهذا يدل على أنه لا بدّ من التنبه لمسائل أحدها أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثاً بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى وثانيها أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها وثالثها من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته وههنا سؤالان الأول هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف الجواب هما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلن والنساء فعلت ومنه بيت الحماسة فوإذا العذارى بالدخان تقنعت
واستعملت نصب القدور فملت
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة وقرأ زيد بن علي مطهرات وقرأ عبيد بن عمير مطهرة يعني متطهرة السؤال الثاني هلا قيل طاهرة الجواب في المطهرة إشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله تعالى وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن لأهل الثواب أما قوله وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فقالت المعتزلة الخلد ههنا هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع واحتجوا عليه بالآية والشعر أما الآية فقوله وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( الأنبياء 34 ) فنفي الخلد عن البشر مع أنه تعالى أعطى بعضهم العمر الطويل والمنفي غير المثبت فالخلد هو البقاء الدائم وأما الشعر فقول امرىء القيس فوهل يعمن إلا سعيد مخلد
قليل هموم ما يبيت بأوجال
وقال أصحابنا الخلد هو الثبات الطويل سواء دام أو لم يدم واحتجوا فيه بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد لكان ذلك تكراراً وأما العرف فيقال حبس فلان فلاناً حبساً مخلداً ولأنه يكتب في صكوك الأوقاف وقف فلان وقفاً مخلداً فهذا هو الكلام في أن هذا اللفظ هل يدل على دوام الثواب أم لا وقال آخرون العقل يدل على دوامه لأنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة لأن النعمة كلما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القلب وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الثواب البتة من الغم والحسرة والله تعالى أعلم
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً فأجاب الله تعالى عنه بأن
صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها ثم في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى عن ابن عباس أنه لما نزل الْمَصِيرُ يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ ( الحج 73 ) فطعن في أصنامهم ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت قالت اليهود أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما فنزلت هذه الآية والقول الثاني أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق في قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً والقول الثالث أن هذا الطعن كان من المشركين قال القفال الكل محتمل ههنا أما اليهود فلأنه قيل في آخر الآية وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وهذا صفة اليهود لأن الخطاب بالوفاء وبالعهد فيما بعد إنما هو لبني إسرائيل وأما الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء الآية فأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون والذين كفروا يحتمل المشركين لأن السورة مكية فقد جمع الفريقان ههنا إذا ثبت هذا فنقول احتمال الكل ههنا قائم لأن الكافرين والمنافقين واليهود كانوا متوافقين في إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد مضى من أول السورة إلى هذا الموضع ذكر اليهود وذكر المنافقين وذكر المشركين وكلهم من الذين كفروا ثم قال القفال وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب لأن معناه في نفسه مفيد
المسألة الثانية اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقول نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة كما قالوا فلان هلك حياء من كذا ومات حياء ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء وذاب حياء وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم ولكنه وارد في الأحاديث روى سلمان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً ) وإذا كان كذلك وجب تأويله وفيه وجهان الأول وهو القانون في أمثال هذه الأشياء أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته وكذلك الغضب له علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب وشهوة الانتقام وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب بل المراد تلك النهاية وهو أنزل العقاب فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب الثاني يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال وهذا فن بديع من الكلام ثم
قال القاضي ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه وإنما يقال إنه لا يوصف به فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وكذلك قولك وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزاً أن يطلق في المخاطبة فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال ولقائل أن يقول لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقاً فوجب أن يجوز بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه فنقول هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضاً كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً
المسألة الثالثة اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه أحدها إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء فقالوا في التمثيل بالذرة أجمع من ذرة وأضبط من ذرة وأخفى من الذرة وفي التمثيل بالذباب أجرأ من الذباب وأخطأ من الذباب وأطيش من الذباب وأشبه من الذباب بالذباب وألح من الذباب وفي التمثيل بالقراد أسمع من قراد وأصغر من قراد وأعلق من قراد وأغم من قراد وأدب من قراد وقالوا في الجراد أطير من جرادة وأحطم من جرادة وأفسد من جرادة وأصفى من لعاب الجراد وفي الفراشة أضعف من فراشة وأطيش من فراشة وأجهل من فراشة وفي البعوضة أضعف من بعوضة وأعز من مخ البعوضة وكلفني مخ البعوضة في مثل تكليف ما لا يطاق وأما العجم فيدل عليه ( كتاب كليلة ودمنة ) وأمثاله وفي بعضها قالت البعوضة وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك وثانيها أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة قال مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان فقال عبيد الزراع يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك قال بلى قالوا فمن أين هذا الزوان قال لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر والقرية هي العالم والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الأثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء وصريف الأسنان ويكون الأبرار هنالك في ملكوت
ربهم من كانت له أذن تسمع فليسمع وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء لو أن رجلاً أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره ونجى من اقتدى به وقال لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم وقال قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله وقال نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون وقال لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضاً فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبيناً مكشوفاً وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان أما قولهم ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى قلنا هذا جهل لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح
المسألة الرابعة قال الأصم ( ما ) في قوله مثلاً ماصلة زائدة كقوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقال أبو مسلم معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو والأصح قول أبي مسلم لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً وكونه لغواً ينافي ذلك وفي بعوضة قراءتان إحداهما النصب وفي لفظة ما على هذه القراءة وجهان الأول أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شيوعاً وبعداً عن الخصوصية بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه أعطني كتاباً أنظر فيه فأعطاه بعض الكتب صح له أن يقول أردت كتاباً آخر ولم أرد هذا ولو قاله مع ما لم يصح له ذلك لأن تقدير الكلام أعطني كتاباً أي كتاب كان الثاني أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة أما على قراءة الرفع ففيها وجهان الأول أنها موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف المبتدأ كما حذف في ( تماماً على الذي أحسن ) الثاني أن تكون استفهامية فإنه لما قال إِنَّ للَّهِ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً كأنه قال بعده ما بعوضة فما فوقها حتى يضرب المثل به بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيراً كما يقال فلان لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) ضرب المثل اعتماده وتكوينه من ضرب اللبن وضرب الخاتم
المسألة السادسة انتصب بعوضة بأنه عطف بيان لمثلاً أو مفعول ليضرب ومثلاً حال من النكرة مقدم عليه أو ثاني مفعولين ليضرب مضمناً معنى يجعل وهذا إذا كانت ما صلة أو إبهامية فإن كانت مفسرة ببعوضة فهي تابعة لما هي تفسير له والمفسر والمفسر معاً لمجموعهما عطف بيان أو مفعول ومثلاً حال مقدمة وأما رفعها فبكونها خبر مبتدأ أما إذا كانت ما موصولة أو موصوفة أو استفهامية فأمرها ظاهر فإذا كانت إبهامية فهي على الجواب كأن فائلاً قال ما هو فقيل بعوضة
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) اشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت اسميته وعن بعضهم اشتقاقه من بعض الشيء سمي به لقلة جرمه وصغره ولأن بعض الشيء قليل بالقياس إلى كله والوجه القوي هو الأول قال وهو من عجائب خلق الله تعالى فإنه صغير جداً وخرطومه في غاية الصغر ثم إنه مع ذلك مجوف ثم ذلك الخرطوم مع فرط صغره وكونه جوفاً يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم
المسألة الثامنة في قوله فَمَا فَوْقَهَا وجهان أحدهما أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب فإن القوم أنكروا تمثيل الله تعالى بكل هذه الأشياء والثاني أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها والمحققون مالوا إلى هذا القول لوجوه أحدها أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولاً وثانيها أن الغرض ههنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول يقال إن فلاناً يتحمل الذل في اكتساب الدينار وفي اكتساب ما فوقه يعني في القلة لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار وثالثها أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير واحتج الأولون بوجهين الأول بأن لفظ ( فوق ) يدل على العلو فإذا قيل هذا فوق ذاك فإنما معناه أنه أكبر منه ويروى أن رجلاً مدح علياً رضي الله عنه والرجل متهم فيه فقال علي أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك أراد بهذا أعلى مما في نفسك الثاني كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر والجواب عن الأول أن كل شيء كان ثبوت صفة فيه أقوى من ثبوتها في شيء آخر كان ذلك الأقوى فوق الأضعف في تلك الصفة يقال إن فلاناً فوق فلان في اللؤم والدناءة أي هو أكثر لؤماً ودناءة منه وكذا إذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغراً منه والجواب عن الثاني أن جناح البعوضة أقل منها وقد ضربه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثلاً للدنيا
المسألة التاسعة ( أما ) حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء وهذا يفيد التأكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب قلت أما زيد فذاهب إذا ثبت هذا فنقول إيراد
الجملتين مصدرتين به أحماد عظيم لأمر المؤمنين وا عتداد بعلمهم أنه الحق وذم عظيم للكافرين على ما قالوه وذكروه
المسألة العاشرة ( الحق ) الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب وحقت كلمة ربك وثوب محقق محكم النسج
المسألة الحادية عشرة ( ماذا ) فيه وجهان أن يكون ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي فيكون كلمتين وأن يكون ذا مركبة مع ما مجعولين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة فهو على الوجهين الأول مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته وعلى الثاني منصوب المحل في حكم ما وحده كما لو قلت ما أراد الله
المسألة الثانية عشرة الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة ا لبديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف وقال المتكلمون إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية وإما أن تكون معنوية وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعرية أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى وهو قول الكرامية أو قائماً بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد أو يكون موجوداً لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما
المسألة الثالثة عشرة الضمير في ( أنه الحق ) للمثل أو لأن يضرب وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو بن العاص يا عجبا لابن عمرو هذا
المسألة الرابعة عشرة ( مثلاً ) نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ماذا أردت بهذا جواباً ولمن حمل سلاحاً رديئاً كيف تنتفع بهذا سلاحاً أو على الحال كقوله هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَة ً
المسألة الخامسة عشرة اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكي عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً أجاب عنه بقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ونريد أن نتكلم ههنا في الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يرجع إليه في كل ما يجيء في هذا المعنى من الآيات فنتكلم أولاً في الإضلال فنقول إن الهمزة تارة تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى التعدي كقولك خرج فإنه غير متعدٍ فإذا قلت أخرج فقد جعلته معتدياً وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك كببته فأكب وقد تجيء لمجرد الوجدان حكي عن عمرو بن معد يكرب أنه قال لبني سليم قاتلناكم فما أجبناكم وهاجيناكم فما أفحمناكم وسألناكم فما أبخلناكم أي فما وجدناكم جبناء
ولا مفحمين ولا بخلاء ويقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة قال المخبل فتمنى حصين أن يسود خزاعة
فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
أي وجد ذليلاً مقهوراً ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال الهمزة لا تفيد إلا نقل الفعل من غير المتعدي إلى المتعدي فأما قوله كببته فأكب فلعل المراد كببته فأكب نفسه على وجهه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين وهذا ليس بعزيز وأما قوله قاتلناكم فما أجبناكم فالمراد ما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء وما أثر هجاؤنا لكم في صيرورتكم مفحمين وكذا القول في البواقي وهذا القول الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك إذا ثبت هذا فنقول قولنا أضله الله لا يمكن حمله إلا على وجهين أحدهما أنه صيره ضالاً والثاني أنه وحده ضالاً أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالاً فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالاً عما ذا وفيه وجهان أحدهما أنه صيره ضالاً عن الدين والثاني أنه صيره ضالاً عن الجنة أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالاً عن الدين فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( القصص 15 ) وقال وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ ( النساء 119 ) و قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ( فصلت 29 ) وقال فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ( النمل 24 العنبكوت 38 ) ) وقال الشيطان إلى قوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وأيضاً أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالاً كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجاً وداخلاً وقالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه أحدها أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه أضله بل يقال منعه منه وصرفه عنه وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له وثانيها أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال
وثالثها أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال وأما بحسب الدلائل العقلية فمن وجوه أحدها أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم وقال تعالى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقال لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وقال وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( االحج 78 ) وثانيها لو كان تعالى خالقاً للجهل وملبساً على المكلفين لما كان مبيناً لما كلف العبد به وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبيناً وثالثها أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثاً وسفهاً ورابعها أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر وقال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ ( الكهف 55 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( لبقرة 28 ) وقال إِنّى تُصْرَفُونَ وقال إِنّى تُؤْفَكُونَ فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة وخامسها أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ إلى قوله مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ( المؤمنين 97 ) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( النحل 98 ) فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم ولوجب أن يتخذوه عدواً من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدواً لأجل ذلك قالوا بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعاً بالكلية عن إبليس وعائداً إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين وسادسها أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك فقال وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( طه 79 ) وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ( طه 85 ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( الأنعام 116 ) إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ ( ص 26 ) وقوله تعالى حاكياً عن إبليس وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ ( النساء 119 ) فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ
قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه والله متعالٍ عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركاً لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساوٍ لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله تعالى وسابعها أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوباً إلى العصاة على ما قال وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( المائدة 67 ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ( غافر 34 ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( غافر 28 ) فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه كان كذلك إثباتاً للثابت وهذا محال وثامنها أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث أنهم لا يهدون إلى الحق قال أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن مَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى ( يونس 35 ) فنفي ربوبية تلك الأشياء من حيث أنها لا تهدي وأوجب ربوبية نفسه من حيث أنه سبحانه وتعالى يهدي فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم بل كان قد أربى عليهم لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل وتاسعها أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديداً بأمرهم له ملابسون وعليه مقبولون وبه ملتذون ومغتبطون ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر وهذا لا يجوز وعاشرها أن قوله تعالى وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ( البقرة 26 27 ) صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقاً وناقضاً للعهد مغاير لفسقه ونقضه وحادي عاشرها أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه إما بكونه ابتلاءً وامتحاناً أو بكونه عقوبة ونكالاً فقال في الابتلاء وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ أي امتحاناً إلى أن قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ( المدثر 31 ) فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلاً متشابهاً لا يعرف حقيقة الغرض فيه والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ( آل عمران 7 ) وأما العقوبة والنكال فكقوله إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ( غافر 71 ) إلى أن قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ فبين أن إضلاله لا يعدوا أحد هذين الوجهين وإذا كان الإضلال مفسراً بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسراً بغيرهما دفعاً للاشتراك فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال وإذا ثبت ذلك فنقول بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات أحدها أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في
إضلاله فيقال لذلك الشيء إنه أضله قال تعالى في حق الأصنام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) أي ضلوا بهن وقال وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً ( نوح 23 24 ) أي ضل كثير من الناس بهم وقال وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ( المائدة 64 ) وقال فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فراراً وقال فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ( المؤمنون 110 ) وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم الله ويدعوهنم إليه ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سبباً لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم وقال في براءة وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ( التوبة 124 125 ) فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيماناً ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفراً فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضاً فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم وقال في سورة المدثر وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ ( لمدثر 31 ) فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ( المدثر 31 ) فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معاً فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ويقال في العرف أيضاً أمرضني الحب أي مرضت به ويقال قد أفسدت فلانة فلاناً وهي لم تعلم به وقال الشاعر دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
أي يغري الملوم باللوم والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات ففي هذه الآية الكفار لما قالوا ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها واشتد عليهم هذا الامتحان حسنت هذه الإضافة وثانيها أن الإضلال هو التسمية بالضلال فيقال أضله أي سماه ضالاً وحكم عليه به وأكفر فلان فلاناً إذا سماه كافراً وأنشدوا بيت الكميت
فوطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقال طرفة فوما زال شربي الراح حتى أضلني صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالاً وهذا الوجه مما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة ومن أهل اللغة من أنكره وقال إنما يقال ضللته تضليلاً إذا سميته ضالاً وكذلك فسقته وفجرته إذا سميته فاجراً فاسقاً وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالاً لزمه أن يصير محكوماً عليه بالضلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضاً لأن الرجل إذا قال لآخر فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالاً ويكون المعنى لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على
الحكم والتسمية وثالثها أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر فيقال أضله إذا خلاه وضلاله قالوا ومن مجازه قولهم أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه إذا لم يتعهده بالتأديب ومثله قول العرجي فأضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدىء أفسدت سيفك وأصدأته ورابعها الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 47 48 ) فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلا عذابهم وقال تعالى إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( غافر 71 74 ) فسر ذلك الضلا بالعذاب وخامسها أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( محمد 1 ) قيل أبطلها وأهلكها ومن مجازه قولهم ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً فيه ويقال أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم ومنه يقال أضل القوم ميتهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى قال النابغة فوآب مضلوه بعين جلية
وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال تعالى وَقَالُواْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( السجدة 10 ) أي أئذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا فيحتمل على هذا المعنى يضل الله إنساناً أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين وسادسها أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة قالت المعتزلة وهذا في الحقيقة ليس تأويلاً بل حملاً للفظ على ظاهره فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل وهو اختيار الجبائي قال تعالى كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أي يضله عن الجنة وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية وسابعها أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان على ما تقدم في أول هذه المسألة بيانه فيقال أضل فلان بعيره أي ضل عنه فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين وثامنها أن يكون قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا من تمام قول الكفار فإنهم قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ثم قالوا يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وذكروه على سبيل التهكم فهذا من قول الكفار ثم قال تعالى جواباً لهم وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ أي ما أضل به إلا الفاسق هذا مجموع كلام المعتزلة وقالت الجبرية لقد سمعنا كلامكم واعترفنا لكم بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام ولكن ماذا نعمل ولكم أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسن والدلائل اللطيفة أحدها مسألة الداعي وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والإضلال لم فعل أحدهما دون الآخر
وثانيها مسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وما رأينا لكم في دفع هذين الكلامين كلاماً محيلاً قوياً ونحن لا شك نعلم أنه لا يخفى عليكم مع ما معكم من الذكاء الضعف عن تلك الأجوبة التي تكلموا بها فكما أنصفنا واعترافنا لكم بحسن الكلام الذي ذكرتموه فأنصفوا أيضاً واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء وثالثها أن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا الذي قصد إيجاده لكن أحداً لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال فكيف يحصل الجهل والإضلال للعبد مع أنه ما قصد إلا تحصيل العلم والاهتداء فإن قيل إنه اشتبه عليه الكفر بالإيمان والعلم بالجهل فظن في الجهل أنه علم فقصد إيقاعه فلذلك حصل له الجهل قلنا ظنه في الجهل أنه علم ظن خطأ فإن كان اختاره أولاً فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه وذلك غير ممكن وإن قلنا إنه اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه لزم أن يكون قبل كل ظن ظن لا إلى نهاية وهو محال ورابعها أن التصورات غير كسبية والتصديقات البديهية غير كسبية والتصديقات بأسرها غير كسبية فهذه مقدمات ثلاثة
المقدمة الأولى في بيان أن التصورات غير كسبية وذلك لأن من يحاول اكتسابها فإما أن يكون متصوراً لها أو لا يكون متصوراً لها فإن كان متصوراً لها استحال أن يطلب تحصيل تصورها لأن تحصيل الحاصل محال وإن لم يكن متصوراً لها كان ذهنه غافلاً عنها والغافل عن الشيء يستحيل أن يكون طالبه
المقدمة الثانية في بيان أن التصديقات البديهية غير كسبية لأن حصول طرفي التصديق إما أن يكون كافياً في جزم الذهن بذلك التصديق أولاً يكون كافياً فإن كان الأول كان ذلك التصديق دائراً مع ذينك التصورين على سبيل الوجوب نفياً وإثباتاً وما كان كذلك لم يكن مقدوراً وإن كان الثاني لم يكن التصديق بديهياً بل متوقفاً فيه
المقدمة الثالثة في بيان أن التصديقات بأسرها غير كسبية وذلك لأن هذه النظريات إن كانت واجبة اللزوم عن تلك البديهيات التي هي غير مقدورة كانت تلك النظريات أيضاً غير مقدورة وإن لم تكن واجبة اللزوم عن تلك البديهيات لم يمكن الاستدلال بتلك البديهيات على تلك النظريات فلم تكن تلك الاعتقادات الحاصلة في تلك النظريات علوماً بل لا تكون إلا اعتقاداً حاصلاً للمقلد وليس كلامنا فيه فثبت أن كلامكم في عدم إسناد الاهتداء والضلال إلى الله تعالى معارض بهذه الوجوه العقلية القاطعة التي لا جواب عنها ولنتكلم الآن فيما ذكروه من التأويلات أما التأويل الأول فساقط لأن إنزال هذه المتشابهات هل لها أثر في تحريك الدواعي أو ليس لها أثر في ذلك فإن كان الأول وجب على قولكم أن يقبح لوجهين الأول أنا قد دللنا في تفسير قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ على أنه متى حصل الرجحان فلا بدّ وأن يحصل الوجوب وأنه ليس بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض واسطة فإذا أثر إنزال هذه المتشابهات في الترجيح وثبت أنه متى حصل الترجيح فقد حصل الوجوب فحينئذٍ جاء الجبر وبطل ما قلتموه الثاني هب أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب إلا أن المكلف ينبغي أن يكون مزاح العذر والعلة وإنزال هذه المتشابهات عليه مع أن
لها أثراً في ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كالعذر للمكلف في عدم الإبقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من الله تعالى وأما إن لم يكن لذلك أثر في إقدامهم على ترجيح جانب الضلال على جانب بالاهتداء كانت نسبة هذه المتشابهات إلى ضلالهم كصرير الباب ونعيق الغراب فكما أن ضلالهم لا ينسب إلى هذه الأمور الأجنبية كذلك وجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما وحينئذٍ يبطل تأويلهم أما التأويل الثاني وهو التسمية والحكم فهو وإن كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باقٍ لأنه إذا سماه الله بذلك وحكم به عليه فلو لم يأتِ المكلف به لانقلب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلاً وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال فكان عدم إتيان المكلف به محالاً وإتيانه به واجباً وهذا عين الجبر الذي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة وههنا ينتهي البحث إلى الجوابين المشهورين لهما في هذا المقام وكل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط ذلك وأما التأويل الثالث وهو التخلية وترك المنع فهذا إنما يسمى إضلالاً إذا كان الأنول والأحسن بالوالد أن يمنعه عن ذلك فأما إذا كان الولد بحيث لو منعه والده عن ذلك لوقع في مفسدة أعظم من تلك المفسدة الأولى لم يقل أحد أنه أفسد ولده وأضله وههنا الأمر بخلاف ذلك لأنه تعالى لو منع المكلف جبراً عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أخرى أعظم من الأولى فكيف يقال إنه تعالى أفسد المكلف وأضله بمعنى أنه ما منعه عن الضلال مع أنه لو منعه لكانت تلك المفسدة أعظم وأما التأويل الرابع فقد اعتراض القفال عليه فقال لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب أما قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 47 ) فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر أي في عذاب جهنم في الآخرة ويكون قوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ من صلة سعر وأما قوله تعالى إِذَا الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ إلى قوله كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ فمعنى قوله ضلوا عنا أي بطلوا فلم ينتفع بهم في هذا اليوم الذي كنا نرجو شفاعتهم فيه ثم قوله كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ قد يكون على معنى كذلك يضل الله أعمالهم أي يحبطها يوم القيامة ويحتمل كذلك يخذلهم الله تعالى في الدنيا فلا يوفقهم لقبول الحق إذ ألفوا الباطل وأعرضوا عن التدبر فإذا خذلهم الله تعالى وأتوا يوم القيامة فقد بطلت أعمالهم التي كانوا يرجون الانتفاع بها في الدنيا وأما التأويل الخامس وهو الإهلاك فغير لائق بهذا الموضع لأن قوله تعالى وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا يمنع من حمل الإضلال على الإهلاك وأما التأويل السادس وهو أنه يضله عن طريق الجنة فضعيف لأنه تعالى قال يُضِلُّ بِهِ أي يضل بسبب استماع هذه الآيات والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع هذه الآيات بل بسبب إقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه وأما التأويل السابع وهو أن قوله يُضِلُّهُ أي يجده ضالاً قد بينا أن إثبات هذه اللغة لا دليل عليه وأيضاً فلأنه عدى الإضلال بحرف الباء فقال يُضِلُّ بِهِ والإضلال بمعنى الوجدان لا يكون معدى بحرف الباء
وأما التأويل الثامن فهو في هذه الآية يوجب تفكيك النظم لأنه إلى قوله يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً من كلام الكفار ثم قوله وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ كلام الله تعالى من غير فصل بينهما بل مع حرف العطف وهو الواو ثم هب أنه ههنا كذلك لكنه في سورة المدثر وهو قوله كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء لا شك أنه قول الله تعالى فهذا هو الكلام في الإضلال
أما الهدى فقد جاء على وجوه أحدها الدلالة والبيان قال تعالى أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا ( السجدة 26 ) وقال فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( البقرة 38 ) وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان وقال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( النجم 23 ) وقال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ( الإنسان 3 ) أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين وقال وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) وقال ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 154 ) وهذا لا يقال للمؤمن وقال تعالى حكاية عن خصوم داود عليه السلام وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصّراطِ ( ص 22 ) أي أرشدنا وقال إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( محمد 25 ) وقال أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) إلى قوله أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( الزمر 57 ) إلى قوله بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ الزمر 59 ) أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات وقال أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وَهُدًى ( الأنعام 157 ) وهذه مخاطبة للكافرين وثانيها قالوا في قوله عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) أي لتدعو وقوله وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ ( الرعد 7 ) أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى وثالثها التوفيق من الله بالألطاف المشروطة بالإيمان يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته فهذا ثواب لهم وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم والدليل على هذا الوجه قوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 ) وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( آل عمران 86 ) يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( آل عمران 86 ) فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات فهذا الهدى غير البيان لا محالة وقال تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ( التغابن 11 ) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ( المجادلة 22 ) ورابعها الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى ( المجادلة 22 ) ورابعها الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 175 ) وقال قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ
( المائدة 15 16 ) وقال وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ ( محمد 4 6 ) والهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الجنة وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ ( يونس 90 ) وهذا تأويل الجبائي وخامسها الهدى بمعنى التقديم يقال هدى فلان فلاناً أي قدمه أمامه وأصل هدى من هداية الطريق لأن الدليل يتقدم المدلول وتقول العرب أقبلت هوادي الخيل أي متقدماتها ويقال للعنق هادي وهوادي الخيل أعناقها لأنها تتقدمها وسادسها يهدي أي يحكم بأن المؤمن مهتد وتسميته بذلك لأن حقيقة قول القائل هداه جعله مهتدياً وهذا اللفظ قد يطلق على الحكم والتسمية قال تعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ ( المائدة 103 ) أي ما حكم ولا شرع وقال إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ( آل عمران 73 ) معناه أن الهدى ما حكم الله بأنه هدى وقال مَن يَهْدِ اللَّهُ أي من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق لأن يسمى مهتدياً فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة وقد تكلمنا عليها فيما تقدم في باب الإضلال قالت الجبرية وههنا وجه آخر وهو أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم قال الله تعالى وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) قالت القدرية هذا غير جائز لوجوه أحدها أنه لا يصح في اللغة أن يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه هداه إليه وإنما يقال رده إلى الطريق المستقيم وحمله عليه وجره إليه فأما أن يقال إنه هداه إليه فلا وثانيها لو حصل ذلك بخلق الله تعالى لبطل الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب فإن قيل هب أنه خلق الله تعالى إلا أنه كسب العبد قلنا هذا الكسب مدفوع من وجهين الأول أن وقوع هذه الحركة إما أن يكون بتخليق الله تعالى أو لا يكون بتخليقه فإن كان بتخليقه فمتى خلقه الله تعالى استحال من العبد أن يمتنع منه ومتى لم يخلقه استحال من العبد الإتيان به فحينئذٍ تتوجه الإشكالات المذكورة وإن لم يكن بتخليق الله تعالى بل من العبد فهذا هو القول بالاعتزال الثاني أنه لو كان خلقاً لله تعالى وكسباً للعبد لم يخل من أحد وجوه ثلاثة إما أن يكون الله بخلقه أولاً ثم يكتسبه العبد أو يكتسبه العبد أولاً ثم يخلقه الله تعالى أو يقع الأمران معاً فإن خلقه الله تعالى كان العبد مجبوراً على اكتسابه فيعود الإلزام وإن اكتسبه العبد أولاً فالله مجبور على خلقه وإن وقعا معاً وجب أن لا يحصل هذا الأمر إلا بعد اتفاقهما لكن هذا الاتفاق غير معلوم لنا فوجب أن لا يحصل هذا الاتفاق وأيضاً فهذا الاتفاق وجب أن لا يحصل إلا باتفاق آخر لأنه من كسبه وفعله وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من الاتفاق وهو محال هذا مجموع كلام المعتزلة قالت الجبرية إنا قد دللنا بالدلائل العقلية التي لا تقبل الاحتمال والتأويل على أن خالق هذه الأفعال هو الله تعالى إما بواسطة أو بغير واسطة والوجوه التي تمسكتم بها وجوه نقلية قابلة للاحتمال والقاطع لا يعارضة المحتمل فوجب المصير إلى ما قلناه وبالله التوفيق
المسألة السادسة عشرة لقائل أن يقول لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم لقوله وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقليل ما هم ولحديث ( الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ) وحديث ( الناس أخبر قلة ) والجواب أهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها
بالقياس إلى أهل الضلال وأيضاً فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة فسموا بالكثير ذهاباً إلى الحقيقة
المسألة السابعة عشرة قال الفراء الفاسق أصله من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت فكأن الفاسق هو الخارج عن الطاعة وتسمى الفأرة فويسفة لخروجها لأجل المضرة واختلف أهل القبلة في أنه هل هو مؤمن أو كافر فعند أصحابنا أنه مؤمن وعند الخوارج أنه كافر وعند المعتزلة أنه لا مؤمن ولا كافر واحتج المخالف بقوله تعالى بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( الحجرات 11 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( التوبة 17 ) وقال حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ الحجرات 7 ) وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام
المسألة الثامنة عشرة اختلفوا في المراد من قوله تعالى الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وذكروا وجوهاً أحدها أن المراد بهذا الميثاق حججه القائمة على عباده الدالة لهم على صحة توحيده وصدق رسله فكان ذلك ميثاقاً وعهداً على التمسك بالتوحيد إذا كان يلزم بهذه الحجج ما ذكرنا من التمسك بالتوحيد وغيره ولذلك صح قوله وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وثانيها يحتمل أن يعني به ما دل عليه بقوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاْمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 ) فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه وصفهم بنقض عهده وميثاقه والتأويل الأول يمكن فيه العموم في كل من ضل وكفر والثاني لا يمكن إلا فيمن اختص بهذا القسم إذا ثبت هذا ظهر رجحان التأويل الأول على الثاني من وجهين الأول أن على التقدير الأول يمكن إجراء الآية على عمومها وعلى الثاني يلزم التخصيص الثاني أن على التقدير الأول يلزمهم الذم لأنهم نقضوا عهداً أبرمه الله وأحكمه بما أنزل من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وأوضحها وأزال التلبيس عنها ولما أودع في العقول من دلائلها وبعث الأنبياء وأنزل الكتب مؤكداً لها وأما على التقدير الثاني فإنه يلزمهم الذم لأجل أنهم تركوا شيئاً هم بأنفسهم التزموه ومعلوم أن ترتيب الذم على الوجه الأول أولى وثالثها قال القفال يحتمل أن يكون المقصود بالآية قوماً من أهل الكتاب قد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته ورابعاً قال بعضهم إنه عنى به ميثاقاً أخذه من الناس وهم على صورة الذر وأخرجهم من صلب آدم كذلك وهو معنى قوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) قال المتكلمون هذا ساقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك وخامسها عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار
بربوبيته وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وعهد خص به العلماء وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه ورسله
المسألة التاسعة عشرة اختلفوا في المراد من قوله تعالى وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فذكروا وجوهاً أحدها أراد به قطيعة الرحم وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها وهو كقوله تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القرابة وعلى هذا التأويل تكون الآية خاصة وثانيها أن الله تعالى أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار فذاك هو المراد من قوله وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وثالثها أنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن وهم كانوا مشتغلين بذلك
المسألة العشرون أما قوله تعالى وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ فالأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه ويترك التعدي إلى الغير ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السموات والأرض قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) ثم إنه سبحانه وتعالى أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر فقال أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وفي هذا الخسران وجوه أحدها أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل فإن أطاع الله وجده وإن عصاه ورثه المؤمنون فذلك قوله تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( المؤمنون 10 11 ) وقال إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وثانيها أنهم خسروا حسناتهم التي عملوها لأنهم أحبطوها بكفرهم فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب والآية في اليهود ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر ما يعمله المخلصون فحبط ذلك كله وثالثها أنهم إنما أصروا على الكفر خوفاً من أن تفوتهم اللذات العاجلة ثم إنها تفوتهم إما عند ما يصير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مأذوناً في الجهاد أو عند موتهم وقال القفال رحمه الله تعالى وبالجملة أن الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملاً لا يجزي عليه فيقال له خاسر كالرجل الذي إذا تعنى وتصرف في أمر فلم يحصل منه على نفع قيل له خاب وخسر لأنه كمن أعطى شيئاً ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه فسمى الكفار الذين يعملون بمعاصي الله خاسرين قال تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 2 3 ) وقال قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 103 104 ) والله أعلم
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذا الموضع إلى قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين وهي أربعة أولها نعمة الأحياء وهي المذكورة في هذه الآية واعلم أن قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت والتعنيف لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان كانت معصيته لأبيه أعظم فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الأحياء فهذا هو المقصود الكلي فإن قيل لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم قلنا لأن الأحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ وأما الموت فقد تراخى عن الأحياء والأحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً وههنا مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن الكفر من قبل العباد من وجوه أحدها أنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ موبخاً لهم كما لا يجوز أن يقول كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم وثانيها إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار وما أراد بخلقهم إلا الكفر وإرادة الوقوع في النار فكيف يصح أن يقول موبخاً لهم كيف تكفرون وثالثها أنه كيف يعقل من الحكيم أن يقول لهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ حال ما يخلق الكفر فيهم ويقول وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ حال ما منعهم عن الإيمان ويقول فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاقق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وهو يخلق فيهم الأعراض ويقول إِنّى تُؤْفَكُونَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ويخلق فيهم الإفك والصرف ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية أولى من أن يذكر في باب إلزام الحجة على العباد ورابعها أن الله تعالى إذا قال للعبيد كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فهل ذكر هذا الكلام توجيهاً للحجة على العبد وطلباً للجواب منه أو ليس كذلك فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة فكان هذا الخطاب عبثاً وإن ذكره لتوجيه الحجة على العبد فللعبد أن يقول حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر فالأول أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر والثاني أنك أردت الكفر مني وهذه الإرادة موجبة له والثالث أنك خلقت الكفر في وأنا لا أقدر على إزالة فعلك والرابع أنك خلقت في
قدرة موجبة للكفر والخامس أنك خلقت في إرادة موجبة للكفر والسادس أنك خلقت في قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر ثم لما حصلت هذه الأسباب الستة في حصول الكفر والإيمان يوقف على حصول هذه الأسباب الستة في طرف الإيمان وهي بأسرها كانت مفقودة فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً كل واحد منها مستقل بالمنع من الإيمان ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال كيف تكفرون بالله وخامسها أنه تعالى قال لرسوله قل لهم كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة أعني نعمة الحياة وعلى قول أهل الجبر لا نعمة له تعالى على الكافر وذلك لأن عندهم كل ما فعله الله تعالى بالكافر فإنما فعله ليستدرجه إلى الكفر ويحرقه بالنار فأي نعمة تكون لله على العبد على هذا التقدير وهل يكون ذلك إلا بمنزلة من قدم إلى غيره صحفة فالوذج مسموم فإن ظاهره وإن كان لذيذاً ويعد نعمة لكن لما كان باطنه مهلكاً فإن أحداً لا يعده نعمة ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضرراً من ذلك السم فلا يكون لله تعالى نعمة على الكافر فكيف يأمر رسوله بأن يقول لهم كيف تكفرون بمن أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة والجواب أن هذه الوجوه عند البحث يرجع حاصلها إلى التمسك بطريقة المدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب فنحن أيضاً نقابلها بالكلام المعتمد في هذه الشبهة وهو أن الله سبحانه وتعالى علم أنه لا يكون فلو وجد لانقلب علمه جهلاً وهو محال ومستلزم المحال محال فوقوعه محال مع أنه قال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال وإن كان من الله فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر وإذا حصل ذلك المرجح وجب وعلى هذا كيف لا يعقل قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ واعلم أن المعتزلي إذا طول كلامه وفرع وجوهه في المدح والذم فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين فإنهما يهدمان جميع كلامه ويشوشان كل شبهاته وبالله التوفيق
المسألة االثانية اتفقوا على أن قوله وَكُنتُمْ أَمْواتًا المراد به وكنتم تراباً ونطفاً لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف لكنهم اختلفوا في أن إطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز والأكثرون على أنه مجاز لأنه شبه الموات بالميت وليس أحدهما من الآخر بسبيل لأن الميت ما يحل به الموت ولا بدّ وأن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة فيكون اللحمية والرطوبة وقال الأولون هو حقيقة فيه وهو مروي عن قتادة قال كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى ثم أخرجهم ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها ثم أحياهم بعد الموت فهما حياتان وموتتان واحتجوا بقوله خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ والموت المقدم على الحياة هو كونه مواتاً فدل على أن إطلاق الميت على الموات ثابت على سبيل الحقيقة والأول هو الأقرب لأنه يقال في الجماد إنه موات وليس بميت فيشبه أن يكون استعمال أحدهما في الآخر على سبيل التشبيه قال القفال وهو كقوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) فبين سبحانه وتعالى أن الإنسان كان لا شيء يذكر فجعله الله حياً وجعله سميعاً بصيراً ومجازه من قولهم فلان ميت الذكر وهذا أمر ميت وهذه سلعة ميتة إذا لم يكن لها طالب ولا ذاكر قال المخبل السعدي فوأحييت لي ذكرى وما خاملا
ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فكذا معنى الآية وَكُنتُمْ أَمْواتًا أي خاملين ولا ذكر لكم لأنكم لم تكونوا شيئاً فَأَحْيَاكُمْ أي فجعلكم خلقاً سميعاً بصيراً
المسألة الثالثة احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر قالوا لأنه تعالى بين أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة ولم يذكر حياة القبر ويؤكده قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ ( المؤمنون 15 16 ) ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين قالوا ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 ) لأنه قول الكفار ولأن كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذر في حلب آدم عليه السلام حين استخرجهم وقال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر فالجواب لم يلزم من عدم الذكر في هذه الآية أن لا تكون حاصلة وأيضاً فلقائل أن يقول إن الله تعالى ذكر حياة القبر في هذه الآية لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لما صح أن يقول ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن كلمة ثم تقتضي التراخي والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة الدائمة من غير تراخ فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً
المسألة الرابعة قال الحسن رحمه الله قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ يعني به العامة وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات نحو ما حكى في قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( البقرة 259 ) إلى قوله فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وكقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ( البقرة 243 ) وكقوله فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ وكقوله فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وكقوله وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الكهف 21 ) وكقوله في قصة أيوب عليه السلام فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أماتهم
المسألة الخامسة تمسك المجسمة بقوله تعالى ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ على أنه تعالى في مكان وهذا ضعيف والمراد أنهم إلى حكمة يرجعون لأنه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى وإنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم رجع أمره إلى الأمير أي إلى حيث لا يحكم غيره
المسألة السادسة هذه الآية دالة على أمور الأول أنها دالة على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله تعالى فيبطل به قول أهل الطبائع من أن المؤثر في الحياة والموت كذا وكذا من الأفلاك والكواكب والأركان والمزاجات كما حكى عن قوم في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) الثاني أنها تدل على صحة الحشر النشر مع التنبيه على الدليل العقلي الدال عليه لأنه تعالى بين أنه أحيا هذه الأشياء بعد موتها في المرة الأولى فوجب أن يصح ذلك في المرة الثانية الثالث أنها تدل على التكليف والترغيب والترهيب الرابع أنها دالة على الجبر والقدر كما تقدم بيانه الخامس أنها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فبين أنه لا بدّ من الموت ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بدّ من الرجوع إليه أما أنه لا بدّ من الموت فقد بين سبحانه وتعالى
أنه بعد ما كان نطقة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وصيره بصيراً بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ( المؤمنون 100 ) ينادي فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون كما قال يحيى بن معاذ الرازي فيمر أقاربي بحذاء قبري
كأن أقاربي لم يعرفوني
وقال أيضاً إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها وانصرف المشيعون عن تشييعها وبكى الغريب عليها لغربتها وناداها من شفير القبر ذو مودتها ورحمتها الأعادي عند جزعتها ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها فما رجائي إلا أن نقول ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون ووحيد قد جفاه المحبون أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران وأما أنه لا بدّ من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) وقال يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( المعارج 43 ) ثم يعرضون على الله كما قال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( الكهف 48 ) فيقومون خاشعين خاضعين كما قال وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ ( طه 108 ) وقال بعضهم إلهنا إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا ومن شدة الخوف شاحبة وجوهنا ومن هول القيامة مطرقة رؤوسنا وجائعة لطول القيامة بطوننا وبادية لأهل الموقف سوآتنا وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا وبقينا متحيرين في أمورنا نادمين على ذنوبنا فلا تضعف المصائب بإعراضك عنا ووسع رحمتك وغفرانك لنا يا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة
هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أن هذا هو النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب فإن الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولاً ثم أتبعه بذكر السماء والأرض أما قوله خُلِقَ فقد مر تفسيره في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وأما قوله لَكُمْ فهو يدل على أن المذكور بعد قوله خلق لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها وجمع بقوله
مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً جميع المنافع فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها كما قال وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فكأنه سبحانه وتعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعاً فكيف يعجز عن إعادتكم ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سورة مختلفة كما قال أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً وقال في أول سورة أتى أمر الله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ( النحل 5 ) إلى آخره وههنا مسائل
المسألة الأولى قال أصحابنا إنه سبحانه وتعالى لا يفعل فعلاً لغرض لأنه لو كان كذلك كان مستكملاً بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال فإن قيل فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره قلنا عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضاً لله تعالى فلا يكون مؤثراً فيه وثانيها أن من فعل فعلاً لغرض كان عاجزاً عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل والعجز على الله تعالى محال وثالثها أنه تعالى لو فعل فعلاً لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان محدثاً كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال ورابعها أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن ثم إنهم تكلموا في اللام في قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وفي قوله إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فقالوا إنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة
المسألة الثانية احتج أهل الإباحة بقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد والتعيين يستفاد من دليل منفصل والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة الثالثة قيل إنها تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جمعاً للموضعين ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه
المسألة الرابعة قوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً يقتضي أنه لا تصح الحاجة على الله تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضاً لا لغيره وأما قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فيه مسائل
المسألة الأولى الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الإعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام فالله تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله
ثُمَّ اسْتَوَى يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أولاً ولو كان حاصلاً أولاً لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض لكن قوله ثُمَّ اسْتَوَى يقتضي التراخي ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض
المسألة الثانية قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء مفسر بقوله قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 9 10 ) بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ
المسألة الثالثة قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ إلى قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وقال في سورة النازعات أَءنتُمْ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 27 30 ) وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً أحدها يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط ولقائل أن يقول هذا أمر مشكل من وجهين الأول أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضاً لا محالة متأخراً عن خلق السماء الثاني أن قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذٍ يتحقق التناقض والجواب أن قوله تعالى وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض وعلى هذا التقدير يزول التناقض ولقائل أن يقول قوله تعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم على تدحية الأرض ولكن تدحية الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض فإن ذات السماء وتسويتها متقدمة على ذات الأرض وحينئذٍ يعود السؤال وثالثها وهو الجواب الصحيح أن قوله ( ثم ) ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم مثاله قول الرجل لغيره أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الرابعة الضمير في فسواهن ضمير مبهم وسبع سموات تفسير له كقوله ربه رجلاً وفائدته أن المبهم إذا تبين كان أفخم وأعظم من أن يبين أولاً لأنه إذا أبهم تشوفت النفوس إلى الاطلاع عليه وفي البيان
بعد ذلك شفاء لها بعد التشوف وقيل الضمير راجع إلى السماء والسماء في معنى الجنس وقيل جمع سماءة والوجه العربي هو الأول ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وإخلاؤه من العوج والفطور وإتمام خلقهن
المسألة الخامسة اعلم أن القرآن ههنا قد دل على وجود سبع سموات وقال أصحاب الهيئة أقربها إلينا كرة القمر وفوقها كرة عطارد ثم كرة الزهرة ثم كرة الشمس ثم كرة المريخ ثم كرة المشتري ثم كرة زحل قالوا ولا طريق إلى معرفة هذا الترتيب إلا من وجهين الأول الستر وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يصيران ككوكب واحد ويتميز الساتر عن المستور بكونه الغالب كحمرة المريخ وصفرة عطارد وبياض الزهرة وزرقة المشتري وكدورة زحل كما أن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة وكوكب عطارد يكسف الزهرة والزهرة تكسف المريخ وهذا الترتيب على هذا الطريق يدل على كون الشمس فوق القمر لانكسافها به ولكن لا يدل على كونها تحت سائر الكواكب أو فوقها لأنها لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال سائر الكواكب عند طلوعها فعند هذا ذكروا طريقين أحدهما ذكر بعضهم أنه رأى الزهرة كشامة في صحيفة الشمس وهذا ضعيف لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة كما أن حصل في وجه القمر المحو الثاني اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل وأما في حق الشمس فإنه قليل جداً فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين هذا ما قاله الأكثرون إلا أن أبا الريحان قال في ( تلخيصه لفصول الفرغاني ) إن اختلاف المنظر لا يحس إلا في القمر فبطلت هذه الوجوه وبقي موضع الشمس مشكوكاً واعلم أن أصحاب الأرصاد وأرباب الهيئة زعموا أن الأفلاك تسعة فالسبعة هي هذه التي ذكرناها والفلك الثامن هو الذي حصلت هذه الكواكب الثابتة فيه وأما الفلك التاسع فهو الفلك الأعظم وهو يتحرك في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب واحتجوا على إثبات الفلك الثامن بأنا وجدنا لهذه الكواكب الثابتة حركات بطيئة وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة فلكها والأَفلاك الحاملة لهذه السيارات تتحرك حركات سريعة فلا بدّ من جسم آخر يتحرك حركة بطيئة ويكون هو الحامل لهذه الثوابت وهذه الدلالة ضعيفة من وجوه أولها لم لا يجوز أن يقال الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر وهذا الاحتمال لا يفسد إلا بإفساد المختار ودونه خرط القتاد وثانيها سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن هذه الكواكب مركوزة في ممثلات السيارات والسيارات مركوزة في حواملها وعند ذلك لا يحتاج إلى إثبات الفلك الثامن وثالثها لم لا يجوز أن يكون ذلك الفلك تحت فلك القمر فيكون تحت كرات السيارات لا فوقها فإن قيل إنا نرى هذه السيارات تكسف هذه الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة قلنا هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة فأما الثوابت القريبة من القطبين فلا فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرة زحل وهذه الثوابت القريبة من القطبين التي لا يمكن انكسافها بالسيارات مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر وهذا الاحتمال لا دافع له ثم نقول هب أنكم أثبتم هذه الأفلاك التسعة فما الذي دلكم على نفي الفلك العاشر أقصى ما في الباب أن الرصد ما دل
إلا على هذا القدر إلا أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول والذي يحقق ذلك أنه قال بعض المحققين منهم إنه ما تبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطو بعضها على بعض وأقول هذا الاحتمال واقع لأن الذي يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال إن حركاتها متشابهة ومتى كان الأمر كذلك كانت مركوزة في كرة واحدة ولكتا المقدمتين غير يقينتيني أما الأولى فلأن حركاتها وإن كانت في الحس واحدة ولكن لعلها لا تكون في الحقيقة واحدة لأنا لو قدرنا أن واحداً منها يتمم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة والآخر يتمم الدورة في مثل هذه المدة بنقصان سنة واحدة فإذا وزعنا ذلك النقصان على هذه السنين كان الذي هو حصة السنة الواحدة ثلاثة عشر جزءاً من ألف ومائتي جزء من واحد وهذا القدر مما لا يحس به بل العشر سنين والمائة والألف مما لا يحس به البتة وإذا كان ذلك محتملاً سقط القطع البتة عن استواء حركات الثوابت وأما الثانية فلأن استواء حركات الثوابت في مقادير حركاتها لا يوجب كونها بأسرها مركوزة في كرة واحدة لاحتمال كونها مركوزة في كرات متباينة وإن كانت مشتركة في مقادير حركاتها وهذا كما يقولون في ممثلات أكثر الكواكب فإنها في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا ههنا وأقول إن هذا الاحتمال الذي ذكره هذا القائل غير مختص بفلك الثوابت فلعل الجرم المتحرك بالحركة اليومية ليس جرماً واحداً بل أجراماً كثيرة إما مختلفة الحركات لكن بتفاوت قليل لا تفي بإدراكها أعمارنا وأرصادنا وإما متساوية على الإطلاق ولكن تساويها لا يوجب وحدتها ومن أصحاب الهيئة من قطع بإثبات أفلاك أخر غير هذه التسعة فإن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل عليه من وجوه الأول أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار فكل من كان رصده أقدم وجد مقدار الميل أعظم فإن بطليموس وجده ( لح يا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كح له ) ثم وجد بعد المأمون قد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن المنطقتين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل وتكون كرة الثوابت يدور قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب عندما يرتفع قطب فلك الثوابت إلى الجنوب وتارة إلى الشمال كما هو الآن الثاني أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار سير الشمس على ما هو مشروح في ( كتب النجوم ) حتى أن بطليموس حكى عن أبرخيس أنه كان شاكاً في أن هذه العودة تكون في أزمنة متساوية أو مختلفة وأنه يقول في بعض أقاويله إنها مختلفة وفي بعضها إنها متساوية في إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطة الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله الثاني قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء الروم ومصر والشام إن السبب فيه انتقال فلك
البروج وارتفاع قطبه وانحطاطه وحكي عن أبرخيس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر بارياء الإسكندراني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك وأن نقطة فلك البروج تتقدم عن موضعها وتتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل واعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها فوجب الاقتصار فيه على الدلائل السمعية فإن قال قائل فهل يدل التنصيص على سبع سموات على نفي العدد الزائد قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلياتها وذلك يدل على أمور أحدها فساد قول الفلاسفة الذين قالوا إنه لا يعلم الجزئيات وصحة قول المتكلمين و ذلك لأن المتكلمين استدلوا على علم الله تعالى بالجزئيات بأن قالوا إن الله تعالى فاعل لهذه الأجسام على سبيل الأحكام والاتقان وكل فاعل على هذا الوجه فإن لا بدّ وأن يكون عالماً بما فعله وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع لأنه ذكر خلق السموات والأرض ثم فرع على ذلك كونه عالماً فثبت بهذا أن قول المتكلمين في هذا المذهب وفي هذا الاستدلال مطابق للقرآن وثانيها فساد قول المعتزلة وذلك لأنه سبحانه وتعالى بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لا بدّ وأن يكون عالماً به وبتفاصيله لأن خالقه قد خصه بقدر دون قدر والتخصيص بقدر معين لا بدّ وأن يكون بإرادة وإلا فقد حصل الرجحان من غير مرجح والإرادة مشروطة بالعلم فثبت أن خالق الشيء لا بدّ وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها وبتفاصيلها في العدد والكمية والكيفية فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد نفسه وثالثها قالت المعتزلة إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ظهر أنه تعالى عالم بذاته والجواب قوله تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ عام وقوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ خاص والخاص مقدم على العام والله تعالى أعلم
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَة ً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذه الآية دالة على كيفية خلقة آدم عليه السلام وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه فيكون ذلك إنعاماً عاماً على جميع بني آدم فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامة التي أوردها في هذا الموضع ثم فيه مسائل
المسألة الأولى في إذ قولان أحدهما أنه صلة زائدة إلا أن العرب يعتادون التكلم بها والقرآن نزل بلغة العرب الثاني وهو الحق أنه ليس في القرآن ما لا معنى له وهو نصب بإضمار اذكر والمعنى أذكر لهم قال ربك للملائكة فأضمر هذا لأمرين أحدهما أن المعنى معروف والثاني أن الله تعالى قد كشف ذلك في كثير من المواضع كقوله وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاْحْقَافِ ( الأحقاف 21 ) وقال وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ( ص 17 ) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَة ِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ( يس 13 14 ) والقرآن كله كالكلمة الواحدة ولا يبعد أن تكون هذه المواضع المصرحة نزلت قبل هذه السورة فلا جرم ترك ذلك ههنا اكتفاء بذلك المصرح قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن ينتصب ( إذ ) بقالوا
المسألة الثانية الملك أصله من الرسالة يقال ألكني إليه أي أرسلني إليه والمألكة والألوكة الرسالة وأصله الهمزة من ( ملأكة ) حذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها طلباً للخفة لكثرة استعمالها قال صاحب ( الكشاف ) الملائك جمع ملأك على الأصل كالشمائل في جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع
المسألة الثالثة من الناس من قال الكلام في الملائكة ينبغي أن يكون مقدماً على الكلام في الأنبياء لوجهين الأول أن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالرسل في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( المؤمنون 285 ) ولقد قال عليه السلام ( ابدؤا بما بدأ الله به ) الثاني أن الملك واسطة بين الله وبين الرسول في تبليغ الوحي والشريعة فكان مقدماً على الرسول ومن الناس من قال الكلام في النبوات مقدم على الكلام في الملائكة لأنه لا طريق لنا إلى معرفة وجود الملائكة بالعقل بل بالسمع فكان الكلام في النبوات أصلاً للكلام في الملائكة فلا جرم وجب تقديم الكلام في النبوات والأولى أن يقال الملك قبل النبي بالشرف والعلية وبعده في عقولنا وأذهاننا بحسب وصولنا إليها بأفكارنا واعلم أنه لا خلاف بين العقلاء في أن شرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه كما أن شرف الرتبة للعالم السفلى هو وجود الإنسان فيه إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتهم وطريق ضبط المذاهب أن يقال الملائكة لا بدّ وأن تكون ذوات قائمة بأنفسها ثم إن تلك الذوات إما أن تكون متحيزة أولا تكون أما الأول وهو أن تكون الملائكة ذوات متحيزة فهنا أقوال أحدها أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهذا قول أكثر المسلمين وثانياً قول طوائف من عبدة الأوثان وهو أن الملائكة هي الحقيقة في هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والأنحاس فإنها بزعمهم أحياء ناطقة وأن المسعدات منها ملائكة الرحمة والمنحسات منها ملائكة العذاب وثالثها قول معظم المجوس والثنوية وهو أن هذا العالم مركب من أصلين أزليين وهما النور والظلمة وهما في الحقيقة جوهران شفافان مختاران قادران متضادا النفس والصورة مختلفا الفعل والتدبير فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى وجوهر الظلمة على ضد ذلك ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه لا على سبيل التناكح فهذه أقوال من جعل الملائكة
أشياء متحيزة جسمانية القول الثاني أن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ولا بأجسام فههنا قولان أحدهما قول طوائف من النصارى وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين وثانيهما قول الفلاسفة وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة البتة وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية وأنها أكمل قوة منها وأكثر علماً منها وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء ثم إن هذه الجواهر على قسمين منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته ومشتغلة بطاعته وهذا القسم هم الملائكة المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السموات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة وإن كانت شريرة فهم الشياطين فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة ولنا معهم في تلك الدلائل أبحاث دقيقة عميقة ومن الناس من ذكر في ذلك وجوهاً عقلية اقناعية ولنشر إليها أحدها أن المراد من الملك الحي الناطق الذي لا يكون ميتاً فنقول القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة فإن الحي إما أن يكون ناطقاً وميتاً معاً وهو الإنسان أو يكون ميتاً ولا يكون ناطقاً وهو البهائم أو يكون ناطقاً ولا يكون ميتاً وهو الملك ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق وأوسطها الناطق الميت وأشرفها الناطق الذي ليس بميت فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى وثانياً أن الفطرة تشهد بأن عالم السموات أشرف من هذا العالم السفلي وتشهد بأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها ومقابلتها فيبعد في العقل أن تحصل الحياة والعقل والنطق في هذا العالم الكدر الظلماني ولا تحصل البتة في ذلك العالم الذي هو عالم الضوء والنور والشرف وثالثها أن أصحاب المجاهدات أثبتوها من جهة المشاهدة والمكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من جهة أخرى وهي ما يشاهد من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة التريقات ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة فهذه وجوه إقناعية بالنسبة إلى من سمعها ولم يمارسها وقطعية بالنسبة إلى من جربها وشاهدها واطلع على أسرارها وأما الدلائل النقلية فلا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة بل ذلك كالأمر المجمع عليه بينهم والله أعلم
المسألة الرابعة في شرح كثرتهم قال عليه الصلاة والسلام ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها
موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع ) وروي أن بني آدم عشر الجن والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر وهؤلاء كلهم عشر الطيور وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثالثة وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام وهم كلهم سامعون مطيعون لا يفترون مشتغلون بعبادته سبحانه وتعالى رطاب الألسن بذكره وتعظيمه يتسابقون في ذلك مذ خلقهم لا يستكبرون عن عبادته آناء الليل والنهار ولا يسألمون لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى وهذا تحقيق حقيقة ملكوته جل جلاله على ما قال وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وأقول رأيت في بعض كتب التذكير أنه عليه الصلاة والسلام حين عرج به رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيهم إلى أين يذهبون فقال جبريل عليه السلام لا أدري إلا أني أراهم مذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألوا واحداً منهم وقيل له مذ كم خلقت فقال لا أدري غير أن الله تعالى يخلق كوكباً في كل أربعمائة ألف سنة فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجل كماله واعلم أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن أصنافهم وأوصافهم أما الأصناف فأحدها حملة العرش وهو قوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) وثانيها الحافون حول العرش على ما قال سبحانه وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 ) وثالثها أكابر الملائكة فمنهم جبريل وميكائيل صلوات الله عليهما لقوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( البقرة 98 ) ثم إنه سبحانه وتعالى وصف جبريل عليه السلام بأمور الأول أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) الثاني أنه تعالى ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ ( البقرة 97 ) ولأن جبريل صاحب الوحي والعلم وميكائيل صاحب الأرزاق والأغذية والعلم الذي هو الغذاء الروحاني أشرف من الغذاء الجسماني فوجب أن يكون جبريل عليه السلام أشرف من ميكائيل الثالث أنه تعالى جعله ثاني نفسه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ الرابع سماه روح القدس قال في حق عيسى عليه السلام إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) الخامس ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه مع ألف من الملائكة مسومين السادس أنه تعالى مدحه بصفات ست في قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 ) فرسالته أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جميع الأنبياء فجميع
الأنبياء والرسل أمته وكرمه على ربه أنه جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء وقوته أنه رفع مدائن قوم لوط إلى السماء وقلبها ومكانته عند الله أنه جعله ثاني نفسه في قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وكونه مطاعاً أنه إمام الملائكة ومقتداهم وأما كونه أميناً فهو قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 193 ) ومن جملة أكابر الملائكة إسرافيل وعزرائيل صلوات الله عليهما وقد ثبت وجودهما بالأخبار وثبت بالخبر أن عزرائيل هو ملك الموت على ما قال تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ( السجدة 11 ) وأما قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فذلك يدل على وجود ملائكة موكلين بقبض الأرواح ويجوز أن يكون ملك الموت رئيس جماعة وكلوا على قبض الأرواح قال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَة ُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( الأنفال 50 ) وأما إسرافيل عليها السلام فقد دلت الأخبار على أنه صاحب الصور على ما قال تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) ورابعها ملائكة الجنة قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وخامسها ملائكة النار قال تعالى عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ ( المدثر 30 ) وقوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً ( المدثر 31 ) ورئيسهم مالك وهو قوله تعالى وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) وأسماء جملتهم الزبانية قال تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 17 18 ) وسادسها الموكلون ببني آدم لقوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 17 18 ) وقوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 ) وقوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً ( الأنعام 61 ) وسابعها كتبة الأعمال وهو قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( اونفطار 10 12 ) وثامنها الموكلون بأحوال هذا العالم وهم المرادون بقوله تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ( الصافات 1 ) وبقوله وَالذرِيَاتِ ذَرْواً إلى قوله فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 1 4 ) وبقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ( النازعات 1 ) وعن ابن عباس قال إن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الأشجار فإذا أصاب أحدكم حركة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله يرحمكم الله وأما أوصاف الملائكة فمن وجوه أحدها أن الملائكة رسل الله قال تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) أما قوله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( الحج 75 ) فهذا يدل على أن بعض الملائكة هم الرسل فقط وجوابه أن من للتبيين لا للتبعيض وثانيها قربهم من الله تعالى وذلك يمتنع أن يكون بالمكان والجهة فلم يبق إلا أن يكون ذلك القرب هو القرب بالشرف وهو المراد من قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وقوله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) وقوله يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) وثالثها وصف طاعاتهم وذلك من وجوه الأول قوله تعالى حكاية عنهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وقال في موضع آخر
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( الصافات 166 ) والله تعالى ما كذبهم في ذلك فثبت بها مواظبتهم على العبادة الثاني مبادرتهم إلى امتثال أمر الله تعظيماً له وهو قوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ) الثالث أنهم لا يفعلون شيئاً إلا بوحيه وأمره وهو قوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) ورابعها وصف قدرتهم وذلك من وجوه الأول أن حملة العرش وهم ثمانية يحملون العرش والكرسي ثم إن الكرسي الذي هو أصغر من العرش أعظم من جملة السموات السبع لقوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 255 ) فانظر إلى نهاية قدرتهم وقوتهم الثاني أن علو العرش شيء لا يحيط به الوهم ويدل عليه قوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ ( المعارج 4 ) ثم إنهم لشدة قدرتهم ينزلون منه في لحظة واحدة الثالث قوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) فصاحب الصور يبلغ في القوة إلى حيث أن بنفخة واحدة منه يصعق من في السموات والأرض وبالنفخة الثانية منه يعودون أحياء فاعرف منه عظم هذه القوة والرابع أن جبريل عليه السلام بلغ في قوته إلى أن قلع جبال آل لوط وبلادهم دفعة واحدة وخامسها وصف خوفهم ويدل عليه وجوه الأول أنهم مع كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على الزلات البتة يكونون خائفين وجلين حتى كأن عبادتهم معاصي قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وقال وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 ) الثاني قوله تعالى حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ ( سبأ 23 ) روي في التفسير أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي سمعه أهل السموات مثل صوت السلسلة على الصفوان ففزعوا فإذا انقضى الوحي قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير الثالث روى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن ابن عباس قال بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بناحية ومعه جبريل إذ انشق أفق السماء فأقبل جبريل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويخيرك بين أن تكون نبياً ملكاً وبين أن تكون نبياً عبداً قال عليه السلام فأشار إلى جبريل بيده أن تواضع فعرفت أنه لي ناصح فقلت عبداً نبياً فعرج ذلك الملك إلى السماء فقلت يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل فقال هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافاً قدميه لا يرفع طرفه وبين الرب وبينه سبعون نوراً ما منها نور يدنو منه إلا احترق وبين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله له في شيء من السماء أو من الأرض ارتفع ذلك اللوح بقرب جبينه فينظر فيه فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به قلت يا جبريل على أي شيء أنت قال على الرياح والجنود قلت على أي شيء ميكائيل قال على النبات قلت على أي شيء ملك الموت قال على قبض الأنفس وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفاً من قيام الساعة واعلم أنه ليس بعد كلام الله وكلام رسوله كلام في وصف الملائكة أعلى وأجل من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام قال في بعض خطبه ثم فتق ما بين السموات العلى فملأهن أطواراً من ملائكة فمنهم سجود لا يركعون وركوع لا ينتصبون وصافون لايتزايلون ومسبحون لا يسأمون لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ومنهم الثابتة في الأرضين
السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العليا أعناقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلفعون بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر
المسألة الخامسة اختلفوا في أن المراد من قوله وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً كل الملائكة أو بعضهم فروى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه وتعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين أنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص لأن لفظ الملائكة يفيد العموم فيكون التخصيص خلاف الأصل
المسألة السادسة جاعل من جعل الذي له مفعولان دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله فِى الارْضِ خَلِيفَة ً فكانا مفعولين ومعناه مصير في الأرض خليفة
المسألة السابعة الظاهر أن الأرض التي في الآية جميع الأرض من المشرق إلى المغرب وروى عبد الرحمن بن سابط عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت وهم أول من طاف به وهو في الأرض التي قال الله تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً والأول أقرب إلى الظاهر
المسألة الثامنة الخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه قال الله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ ( يونس 14 ) وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء ( الأعراف 69 ) فأما أن المراد بالخليفة من ففيه قولان أحدهما أنه آدم عليه السلام وقوله أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا المراد ذريته لا هو والثاني أنه ولد آدم أما الذين قالوا المراد آدم عليه السلام فقد اختلفوا في أنه تعالى لم سماه خليفة وذكروا فيه وجهين الأول بأنه تعالى لما نفى الجن من الأرض وأسكن آدم الأرض كان آدم عليه السلام خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه يروى ذلك عن ابن عباس الثاني إنما سماه الله خليفة لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي وهذا الرأي متأكد بقوله إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) أما الذين قالوا المراد ولد آدم فقالوا إنما سماهم خليفة لأنهم يخلف بعضهم بعضاً وهو قول الحسن ويؤكده قوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى وقرىء خليقة بالقاف فإن قيل ما الفائدة في أن قال الله تعالى للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً مع أنه منزه عن الحاجة إلى المشورة والجواب من وجهين الأول أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أوردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب الوجه الثاني أنه تعالى علم عباده المشاورة وأما قوله تعالى قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا إلى آخر الآية ففيه مسائل
المسألة الأولى الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب ومن الحشوية من خالف في ذلك ولنا وجوه
الأول قوله تعالى لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) إلا أن هذه الآية مختصة بملائكة النار فإذا أردنا الدلالة العامة تمسكنا بقوله تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) فقوله ويفعلون ما يؤمرون يتناول جميع فعل المأمورات وترك المنهيات لأن المنهي عن الشيء مأمور بتركه فإن قيل ما الدليل على أن قوله ويفعلون ما يؤمرون يفيد العموم قلنا لأنه لا شيء من المأمورات إلا ويصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل على ما بيناه في أصول الفقه والثاني قوله تعالى بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 26 27 ) فهذا صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم متوقفين في كل الأمور إلا بمقتضى الأمر والوحي والثالث أنه تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في البشر بالمعصية ولو كانوا من العصاة لما حسن منهم ذلك الطعن الرابع أنه تعالى حكى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه واحتج المخالف بوجوه الأول أنه تعالى حكيى عنهم أنهم قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وهذا يقتضي صدور الذنب عنهم ويدل على ذلك وجوه أحدها أن قولهم أتجعل فيها هذا اعتراض على الله تعالى وذلك من أعظم الذنوب وثانيها أنهم طعنوا في بني آدم بالفساد والقتل وذلك غيبة والغيبة من كبائر الذنوب وثالثها أنهم بعد أن طعنوا في بني آدم مدحوا أنفسهم بقولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وأنهم قالوا وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( الصافات 165 166 ) وهذا للحصر فكأنهم نفوا كون غيرهم كذلك وهذا يشبه العجب والغيبة وهو من الذنوب المهلكة قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات وذكر فيها إعجاب المرء بنفسه ) وقال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) ورابعها أن قولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا يشبه الاعتذار فلولا تقدم الذنب وإلا لما اشتغلوا بالعذر وخامسها أن قوله أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 31 ) يدل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه أو لا وسادسها أن قوله أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ( البقرة 33 ) يدل على أن الملائكة ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة وأنهم كانوا شاكين في كون الله تعالى عالماً بكل المعلومات وسابعها أن علمهم يفسدون ويسفكون الدماء إما أن يكون قد حصل بالوحي إليهم في ذلك أو قالوه استنباطاً والأول بعيد لأنه إذا أوحى الله تعالى ذلك إليهم لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة فثبت أنهم قالوه عن الاستنباط والظن والقدح في الغير على سبيل الظن غير جائز لقوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وقال إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا ( يونس 36 ) وثامنها روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الله سبحانه وتعالى قال للملائكة الذين كانوا جند إبليس في محاربة الجن إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً فقالت الملائكة مجيبين له سبحانه أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ثم علموا غضب الله عليهم فَقَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا وروي عن الجن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق فلن يخلق خلقاً إلا كنا أعظم منه وأكرم عليه فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 31 ) في أني لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ففزع القوم عند ذلك إلى التوبة و قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا وفي بعض الروايات أنهم لما قالوا أتجعل فيها أرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم الشبهة الثانية تمسكوا بقصة هاروت وماروت وزعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض فأوحى الله تعالى إليهما إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني فقالا يا رب لو ابتليتنا لم نفعل فجربنا فأهبطهما إلى الأرض وابتلاهما الله بشهوات بني آدم فمكثا في الأرض وأمر الله الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض فجعلت الزهرة في صورة امرأة والملك في صورة رجل ثم إن الزهرة اتخذت منزلاً وزينت نفسها ودعتهما إلى نفسها ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا إلى منزلها ودعواها إلى الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا خمراً فقالا لا نشرب الخمر ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها قالا وما هي قالت تسجدان لهم الصنم فقالا لا نشرك بالله ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا نفعل ثم نستغفر فسجدا للصنم فارتفعت الزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذٍ أنه إنما أصابهما ذلك بسبب تعيير بني آدم وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض وإنما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت المرأة بذلك الاسم وعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة ثم إن الله تعالى عرفت هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلاً وبين عذاب الدنيا عاجلاً فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة وتعلقوا في ذلك بقوله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ( البقرة 102 ) الشبهة الثالثة أن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم إنه عصى الله تعالى وكفر وذلك يدل على صدور المعصية من جنس الملائكة الشبهة الرابعة قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً ( المدثر 31 ) قالوا فدل هذا على أن الملائكة يعذبون لأن أصحاب النار لا يكونون إلا ممن يعذب فيها كما قال أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والجواب عن الشبهة الأولى أن نقول أما الوجه الأول وهو قولهم أنهم اعترضوا على الله تعالى وهذا من أعظم الذنوب فنقول إنه ليس غرضهم من ذلك السؤال تنبيه الله على شيء كان غافلاً عنه فإن من اعتقد ذلك في الله فهو كافر ولا الإنكار على الله تعالى في فعل فعله بل المقصود من ذلك السؤال أمور
أحدها أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رأى أن ذلك الغير يفعل فعلاً لا يقف على وجه الحكمة فيه فيقول له أتفعل هذاا كأنه يتعجب من كمال حكمته وعلمه ويقول إعطاء هذه النعم لمن يفسد من الأمور التي لا تهتدي العقول فيها إلى وجه الحكمة فإذا كنت تفعلها وأعلم أنك لا تفعلها إلا لوجه دقيق وسر غامض أنت مطلع عليه فما أعظم حكمتك وأجل علمك فالحاصل أن قوله أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا كأنه تعجب من كمال علم الله تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء وثانيها أن إيراد الإشكال طلباً للجواب غير محذور فكأنهم قالوا إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه البتة ونحن نرى في العرف أن تمكين السفيه من السفه سفه فإذا خلقت قوماً يفسدون ويقتلون وأنت مع علمك أن حالهم كذلك خلقتهم ومكنتهم وما منعتهم عن ذلك فهذا يوهم السفه وأنت الحكيم المطلق فكيف يمكن الجمع بين الأمرين فكأن الملائكة أوردوا هذا السؤال طلباً للجواب وهذا جواب المعتزلة قالوا وهذا يدل على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى وكانوا على مذهب أهل العدل قالوا والذي يؤكد هذا الجواب وجهان أحدهما أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق والثاني أنهم قالوا وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لأن التسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه وثالثها أن الشرور وإن كانت حاصلة في تركيب هذا العالم السفلي إلا أنها من لوازم الخيرات الحاصلة فيه وخيراتها غالبة على شرورها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا تلك الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني أن الخيرات الحاصلة من أجل تراكيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيها والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه وهذا جواب الحكماء ورابعها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه وخامسها أن قول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً فكأنهم قالوا يا إلهنا إجعل الأرض لنا لا لهم كما قال موسى عليه السلام أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ( الأعراف 155 ) والمعنى لا تهلكنا فقال تعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من صلاحكم وصلاح هؤلاء الذين أجعلهم في الأرض فبين ذلك أنه اختار لهم السماء خاصة ولهؤلاء الأرض خاصة لعلمه بصلاح ذلك في أديانهم ليرضى كل فريق بما اختاره الله له وسادسها أنهم طلبوا الحكمة التي لأجلها خلقهم مع هذا الفساد والقتل وسابعها قال القفال يحتمل أن الله تعالى لما أخبرهم أنه يجعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها أي ستفعل ذلك فهو إيجاب خرج مخرج الاستفهام قال جرير فألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم كذلك ولو كان استفهاماً لم يكن مدحاً ثم قالت الملائكة إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك ونقدس لما أنا نعلم أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فلما قالوا ذلك قال الله تعالى لهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ كأنه قال والله أعلم نعم ما فعلتم حيث لم تجعلوا ذلك قادحاً في حكمتي فإني أعلم ما لا تعلمون فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل وما علمتم باطنهم وأنا أعلم ظاهرهم وباطنهم
فأعلم من بواطنهم أسراراً خفية وحكماً بالغة تقتضي خلقهم وإيجادهم أما الوجه الثاني وهو أنهم ذكروا بني آدم بما لا ينبغي وهو الغيبة فالجواب أن محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد والقتل ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره فلهذا السبب ذكروا من بني آدم هاتين الصفتين وما ذكروا منهم عبادتهم وتوحيدهم لأن ذلك ليس محل الإشكال أما الوجه الثالث وهو أنهم مدحوا أنفسهم وذلك يوجب العجب وتزكية النفس فالجواب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً لقولاه وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ وأيضاً فيحتمل أن يكون قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ليس المراد مدح النفس بل المراد بيان أن هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به في حكمتك يا رب فإنا نسبح بحمدك ونعترف لك بالإلهية والحكمة فكأن الغرض من ذلك بيان أنهم ما أوردوا السؤال للطعن في الحكمة والإلهية بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل أما الوجه الرابع وهو أن قولهم لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا يشبه الاعتذار فلا بدّ من سبق الذنب قلنا نحن نسلم أن الأولى للملائكة أن لا يوردوا ذلك السؤال فلما تركوا هذا الأولى كان ذلك الاعتذار اعتذاراً من ترك الأولى فإن قيل أليس أنه تعالى قال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) فهذا السؤال وجب أن يكون بإذن الله تعالى وإذا كانوا مأذونين في هذا السؤال فكيف اعتذروا عنه قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص أما الوجه الخامس وهو أن إخبار الملائكة عن الفساد وسفك الدماء إما أن يكون حصل عن الوحي أو قالوه استنباطاً وظناً قلنا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال إنهم ذكروا ذلك ظناً ثم ذكروا فيه وجهين الأول وهو مروي عن ابن عباس والكلبي أنهم قاسوه على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض الثاني أنهم عرفوا خلقته وعرفوا أنه مركب من هذه الأخلاط الأربعة فلا بّد وأن تتركب فيه الشهوة والغضب فيتولد الفساد عن الشهوة وسفك الدماء عن الغضب ومنهم من قال إنهم قالوا ذلك على اليقين وهو مروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وثانيها أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء وثالثها قال ابن زيد لما خلق الله تعالى النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا ربنا لمن خلقت هذه النار قال لمن عصاني من خلقي ولم يكن لله يومئذٍ خلق إلا الملائكة ولم يكن في الأرض خلق البتة فلما قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً عرفوا أن المعصية تظهر منهم ورابعها لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك وخامسها إذا كان معنى الخليفة من يكون نائباً لله تعالى في الحكم والقضاء والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الأخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق
الالتزام قال أهل التحقيق والقول بأنه كان هذا الأخبار عن مجرد الظن باطل لأنه قدح في الغير بما لا يأمن أن يكون كاذباً فيه وذلك ينافي العصمة والطهارة أما الوجه السادس هو الأخبار التي ذكروها فهي من باب أخبار الآحاد فلا تعارض الدلائل التي ذكرناها
أما الشبهة الثانية وهي قصة هاروت وماروت فالجواب عنها أن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه أحدها أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب لله تعالى وتجهيل له وذلك من صريح الكفر والحشوية سلموا أنهما كانا قبل الهبوط إلى الأرض معصومين وثانيها في القصة أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وذلك فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره وبالغ في إيذاء أنبيائه وثالثها في القصة أنهما يعلمان السحر حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما معاقبان على المعصية ورابعها أن المرأة الفاجرة كيف يعقل أنها لما فجرت صعدت إلى السماء وجعلها الله تعالى كوكباً مضيئاً وعظم قدره بحيث أقسم به حيث قال فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ( التكوير 15 ) فهذه القصة قصة ركيكة يشهد كل عقل سليم بنهاية ركاكتها وأما الكلام في تعليم السحر فسيأتي في تفسير تلك الآية في موضعها إن شاء الله تعالى
وأما الشبهة الثالثة فسنتكلم في بيان أن إبليس ما كان من الملائكة
وأما الشبهة الرابعة وهي قوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً ( المدثر 31 ) فهذا لا يدل على كونهم معذبين في النار وقوله أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يدل أيضاً على كونهم معذبين بالنار بمجرد هذه الآية بل إنما عرف ذلك بدليل آخر فقوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً يريد به خزنة النار والمتصرفين فيها والمدبرين لأمرها والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أن الملائكة هل هم قادرون على المعاصي والشرور أم لا فقال جمهور الفلاسفة وكثير من أهل الجبر إنهم خيرات محض ولا قدرة لهم البتة على الشرور والفساد وقال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنهم قادرون على الأمرين واحتجوا على ذلك بوجوه أحدها أن قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا إما أن يكون معصية أو ترك الأولى وعلى التقديرين فالمقصود حاصل وثانيها قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) وذلك يقتضي كونهم مزجورين ممنوعين وقال أيضاً لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأعراف 206 ) والمدح بترك الاستكبار إنما يجوز له كان قادراً على فعل الاستكبار وثالثها أنهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها لأن الملجأ إلى الشيء ومن لا يقدر على ترك الشيء لا يكون ممدوحاً بفعل ذلك الشيء ولقد استدل بهذا بعض المعتزلة فقلت له أليس أن الثواب والعوض واجبان على الله تعالى ومعنى كونه واجباً عليه أنه لو تركه للزم من تركه إما الجهل وإما الحاجة وهما محالان والمفضي إلى المحال محال فيكون ذلك الترك محالاً من الله تعالى وإذا كان الترك محالاً كان الفعل واجباً فيكون الله تعالى فاعلاً للثواب والعوض واجب وتركه محال مع أنه تعالى ممدوح على فعل ذلك فثبت أن امتناع الترك لا يقدح في
حصول المدح فانقطع وما قدر على الجواب
المسألة الثالثة الواو في وَنَحْنُ للحال كما تقول أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان والتسبيح تبعيد الله تعالى من السوء وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد واعلم أن التبعيد إن أريد به التبعيد عن السوء فهو التسبيح وإن أريد به التبعيد عن الخيرات فهو اللعن فنقول التبعيد عن السوء يدخل فيه التبعيد عن السوء في الذات والصفات والأفعال أما في الذات فأن لا تكون محلاً للإمكان فإن منع السوء وإمكانه هو العدم ونفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة والوجوب الذاتي وأما في الصفات فأن يكون منزهاً عن الجهل فيكون محيطاً بكل المعلومات وقادراً على كل المقدورات وتكون صفاته منزهة عن التغييرات وأما في الأفعال فأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار وأن لا يستكمل بشيء منها ولا ينتقص بعدم شيء منها فيكون مستغنياً عن كل الموجودات والمعدومات مستولياً بالإعدام والإيجاد على كل الموجودات والمعدومات وقال أهل التذكير التسبيح جاء تارة في القرآن بمعنى التنزيه وأخرى بمعنى التعجب أما الأول فجاء على وجوه ( ا ) أنا المنزه عن النظير والشريك هو الله الواحد القهار ( ب ) أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض ( ج ) أنا المدبر لكل العالمين سبحان الله رب العالمين ( د ) أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( ه ) أنا المستغني عن الكل سبحانه هو الغني ( و ) أنا السلطان الذي كل شيء سوائي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ( ز ) أنا العالم بكل شيء سبحان الله عما يصفون عالم الغيب ( ح ) أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ( ط ) أنا المنزه عن وصفهم وقولهم سبحانه وتعالى عما يشركون عما يقولون عما يصفون أما التعجب فكذلك ( ا ) أنا الذي سخرت البهائم القوية للبشر الضعيف سبحان الذي سخر لنا هذا ( ب ) أنا الذي خلقت العالم وكنت منزهاً عن التعب والنصب سبحانه إذا قضى أمراً ( ج ) أنا الذي أعلم لا بتعليم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( د ) أنا الذي أزيل معصية سبعين سنة بتوبة ساعة فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ثم يقول إن أردت رضوان الله فسبح وسبحوه بكرة وأصيلاً وإن أردت الفرج من البلاء فسبح لا إله أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وإن أردت رضا الحق فسبح ومن الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وإن أردت الخلاص من النار فسبح سبحانك فقنا عذاب النار أيها العبد واظب على تسبيحي فسبحان الله فسبح وسبحوه فإن لم تفعل تسبيحي فالضرر عائد إليك لأن لي من يسبحني ومنهم حملة العرش فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ ( فصلت 38 ) ومنهم المقربون قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا ( سبأ 41 ) ومنهم سائر الملائكة قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( الفرقان 18 ) ومنهم الأنبياء كما قال ذو النون لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( يونس 1 ) وقال موسى سُبْحَانَكَ إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) والصحابة يسبحون في قوله سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) والكل يسبحون ومنهم الحشرات والدواب والذرات وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وكذا الحجر والمدر والرمال والجبال والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام على ما قال سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ ( الحديد 1 ) ثم يقول
أيها العبد أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح فقد صار ثواب هذه التسبيحات ضائعاً وذلك لا يليق بي وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك ليعرف كل أحد أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته والنكتة الأخرى أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّة ِ ( الصافات 180 ) فإنك إذا ذكرتني بالتسبيح طهرتك عن المعاصي وَسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الأحزاب 42 ) أقرضني وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( الحديد 18 ) وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( البقرة 245 ) كن معيناً لي وإن كنت غنياً عن إعانتك وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفتح 4 ) وأيضاً فلا حاجة بي إلى العسكر وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ لكنك إذا نصرتني نصرتك إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( محمد 7 ) كن مواظباً على ذكرى وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) ولا حاجة بي إلى ذكرك لأن الكل يذكروني وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) لكنك إذا ذكرتني ذكرتك فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 ) اخدمني قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 189 ) وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الرعد 15 ) ولكن انصرف إلى خدمتي هذه الأيام القليلة لتنال الراحات الكثيرة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 )
المسألة الرابعة قوله بِحَمْدِكَ قال صاحب ( الكشاف ) بحمدك في موضع الحال أي نسبح لك حامدين لك ومتلبسين بحمدك وأما المعنى ففيه وجهان الأول أنا إذا سبحناك فنحمدك سبحانك يعني ليس تسبيحنا تسبيحاً من غير استحقاق بل تستحق بحمدك وجلالك هذا التسبيح الثاني أنا نسبحك بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك كما قال داود عليه السلام يا رب كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك إلا بنعمتك فأوحى الله تعالى إليه ( الآن قد شكرتني حيث عرفت أن كل ذلك مني ) واختلف العلماء في المراد من هذا التسبيح فروي أنا أبا ذر دخل بالغداة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو بالعكس فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أي الكلام أحب إلى الله قال ما اصطفاه الله لملائكته سبحان الله وبحمد رواه مسلم وروى سعيد بن جبير قال ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين فقال له رسول الله يصلي وأنت جالس لا تصلي فقال له امضِ إلى عملك إن كان لك عمل فقال ما أظن إلا سيمر بك من ينكر عليك فمر عليه عمر بن الخطاب قال يا فلان إن رسول الله يصلي وأنت جالس فقال له مثلها فوثب عليه فضربه وقال هذا من عملي ثم دخل المسجد وصلى مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فرغ رسول الله من صلاته قام إليه عمر فقال يا نبي الله مررت آنفاً على فلان وأنت تصلي وهو جالس فقلت له نبي الله يصلي وأنت جالس فقال لي مر إلى عملك فقال عليه الصلاة والسلام هلا ضربت عنقه فقام عمر مسرعاً ليلحقه فيقتله فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا عمر إرجع فإن غضبك عز ورضاك حكم إن لله في السموات ملائكة له غنى بصلاتهم عن صلاة فلان فقال عمر يا رسول الله وما صلاتهم فلم يرد عليه شيئاً فأتاه جبريل فقال يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء قال نعم قال أقرئه مني السلام وأخبره بأن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم
القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي العزة والجبروت وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحي الذي لا يموت فهذا هو تسبيح الملائكة )
القول الثاني أن المراد بقوله نُسَبّحُ أي نصلي والتسبيح هو الصلاة وهو قول ابن عباس وابن مسعود
المسألة الخامسة التقديس التطهير ومنه الأرض المقدسة ثم اختلفوا على وجوه أحدها نطهرك أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وثانيها قول مجاهد نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك وثالثها قول أبي مسلم نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون خالصة لك ورابعها نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك قالت المعتزلة هذه الآية تدل على العدل من وجوه أحدها قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم فلو كانت أفعالاً لله تعالى لما حسن التمدح بذلك ولا فضل لذلك على سفك الدماء إذ كل ذلك من فعل الله تعالى وثانيها لو كان الفساد والقتل فعلاً لله تعالى لكان يجب أن يكون الجواب أن يقول إني مالك أفعل ما أشاء وثالثها أن قوله أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يقتضي التبري من الفساد والقتل لكن التبري من فعل نفسه محال ورابعها إذا كان لا فاحشة ولا قبح ولا جور ولا ظلم ولا فساد إلا بصنعه وخلقه ومشيئته فكيف يصح التنزيه والتقديس وخامسها أن قوله أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يدل على مذهب العدل لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا فلما لم يرضى بهذا الجواب سقط هذا المذهب وسادسها لو كان الفساد والقتل من فعل الله تعالى لكان ذلك جارياً مجرى ألوانهم وأجسامهم وكما لا يصح التعجب من هذه الأشياء فكذا من الفساد والقتل والجواب عن هذه الوجوه المعارضة بمسألة الداعي والعلم والله أعلم
المسألة السادسة إن قيل قوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ كيف يصلح أن يكون جواباً عن السؤال الذي ذكروه قلنا قد ذكرنا أن السؤال يحتمل وجوهاً أحدها فيكون قوله أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ جواباً له من حيث إنه قال تعالى لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعاً من الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون وثانيها أنه للغم فيكون الجواب لا تغتموا بسبب وجود المفسدين فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتقين ومن لم أقسم علي لأبره وثالثها أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم ورابعها أنه التماس لأن يتركهم في الأرض وجوابه إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض وفيه وجه خامس وهو أنهم لما قالوا نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال تعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهو أن معكم إبليس وأن في قلبه حسداً وكبراً و نفاقاً ووجه سادس وهو أني أعلم ما لاتعلمون فإنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فقد استعظمتم أنفسكم فكأنكم أنتم بهذا الكلام في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي ولكن اصبروا حتى يظهر البشر فيتضرعون إلى الله بقولهم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وبقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى وبقوله وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ
وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَاؤُلا ءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الأجمال بقوله تعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أراد تعالى أن يزيدهم بياناً وأن يفصل لهم ذلك المجمل فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوماً لهم وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الأشعري والجبائي والكعبي اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني واحتجوا عليه بقوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاْرْضِ أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم ورابعها أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلا بدّ وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات وإلا لم يحصل العلم بصدقه وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدماً على ذلك التعليم والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعاً وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل فلم لا يجوز أن
يقال إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد وعن الثاني لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها وعن الثالث لا شك إن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء وعن الرابع ماسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم
المسألة الثانية من الناس من قال قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها فصح أن يكون المراد من الأسماء الصفات وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول فكان الدليل أسمى في الحقيقة فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره لوجوه أحدها أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة أولى من حمله على ما ليس كذلك وثانيها أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة فإن من كان عالماً باللغة والفصاحة يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي تكلم بلغتي وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم فإن حصل التعليم حصل العلم به وإلا فلا أما العلم بحقائق الأشياء فالعقل متمكن من تحصيله فصحَّ وقوع التحدي فيه القول الثاني وهو الشمهور أن المراد أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات فغلب عليه ذلك اللسان فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام قال أهل المعاني قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء لا بدّ فيه من إضمار فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء قالوا لكن الأول أولى لقوله أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء وقوله تعالى فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم فإن قيل فلما علمه الله تعالى أنواع جميع المسميات وكان في المسميات ما لا يكون عاقلاً فلم قال عرضهم ولم يقل عرضها قلنا لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء فغلب الأكمل لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا
المسألة الثالثة من الناس من تمسك بقوله تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ويدل على ذلك قوله تعالى إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزاً وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة وأيضاً فأما أن يقال الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذٍ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ إسماً لكل واحد من تلك المسميات واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين الأول ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزاً الثاني لا يمتنع أن يقال إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزاً سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان وحينئذٍ يصير الكلام في هذه المسألة فرعاً على الكلام فيهما واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت بوجوه أحدها أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة وذلك غير جائز فوجب أن لا يكون نبياً في ذلك الزمان أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة وثانيها لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد أو لا يكون فإن كان مبعوثاً إلى أحد فإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة أو الإنس أو الجن والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضاً فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ولهذا قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء وأن حواء إنماعرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( الأعراف 19 ) شافههما بهذا التكليف وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن
في جعله رسولاً فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة وثالثها قوله تعالى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فهذه الآية دل على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولاً لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله الله رسولاً فقد خصه بذلك لقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
المسألة الخامسة ذكروا في قوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وجوهاً أحدها معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الأعلام وثانيها معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم وثالثها إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود ورابعها إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء
المسألة السادسة هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول أما الكتاب فوجوه الأول أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدل على عظم شأن العلم بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل أنه قال تفسر الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها مواعظ القرآن قال في البقرة وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ ( البقرة 231 ) يعني مواعظ القرآن وفي النساء وَأَنزَلَ عَلَيْكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ يعني المواعظ ومثلها في آل عمران وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وفي لقمان وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ ( لقمان 12 ) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ( الأنعام 89 ) وثالثها الحكمة بمعنى النبوة في النساء فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ يعني النبوة وفي ص وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ يعني النبوة وفي البقرة وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ورابعها القرآن في النحل ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النساء 54 ) وفي البقرة وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وسمى الدنيا بأسرها قليلاً قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) فما سماه قليلاً لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيراً ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة والعلم لا نهاية لقدره وعدده ومدته ولا للسعادات الحاصلة منه وذلك ينبهك على فضيلة العلم الثاني قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) وقد فرق بين سبع نفر
في كتابه فرق بين الخبيث والطيب فقال قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ ( المائدة 100 ) يعني الحلال والحرام وفرق بين الأعمى والبصير فقال قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( الأنعام 50 ) وفرق بين النور والظلمة فقال أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ( الرعد 16 ) وفرق بين الجنة والنار وبين الظل والحرور وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل الثالث قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( النساء 59 ) والمراد من أولى الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) وقال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ( آل عمران 7 ) وقال قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) الرابع يَرْفَعُ لِلَّهِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ( المجادلة 11 ) واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف وألها للمؤمنين من أهل بدر قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الأنفال 2 ) إلى قوله لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ ( الأنفال 4 )
والثانية للمجاهدين قال وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ ( النساء 95 ) والثالثة للصالحين قال وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً وَقَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى الرابعة للعلماء قال وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس الخامس قوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فإن الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب أحدها الإيمان وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وثانيها التوحيد والشهادة شَهِدَ اللَّهُ إلى قوله وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ وثالثها البكاء وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ ( الإسراء 109 ) ورابعها الخشوع إن الذين أوتوا العلم من قبله ( الإسراء 107 ) الآية وخامسها الخشية ( الإسراء 107 ) الآية وخامسها الخشية إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء أما الأخبار فوجوه أحدها روى ثابت عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنّة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفوراً له وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار ) وثانيها عن أنس قال قال عليه السلام ( من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير من
أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله ) وثالثها عن الحسن مرفوعاً ) من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة ) ورابعها أبو موسى الأشعري مرفوعاً ( يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا فقد غفرت لكم ) وخامسها قال عليه السلام ( معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور ) وسادسها أبو هريرة مرفوعاً ( من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء ) وسابعها ابن عمر مرفوعاً ( فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاماً وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها ) وثامنها الحسن مرفوعاً قال عليه السلام ( رحمة الله على خلفائي فقيل من خلفاؤك يا رسول الله قال الذين يحيون سنّتي ويعلمونها عباد الله ) وتاسعها قال عليه السلام ( من خرج يطلب باباً من العلم ليرد به باطلاً إلى حق أو ضلالاً إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاماً ) وعاشرها قال عليه السلام لعلي حين بعثه إلى اليمن ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب ) الحادي عشر ابن مسعود مرفوعاً ( من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه أجر سبعين نبياً ) الثاني عشر عامر الجهني مرفوعاً ( يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر ) وفي رواية فيرجح مداد العلماء الثالث عشر أبو وافد الليثي أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فإنه رجع وفر فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال أخبركم عن النفر الثلاثة أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله وأما الثاني فاستحيا من الله فاستحيا الله منه وأما الثالث فأعرض عن الله فأعرض الله عنه ) رواه مسلم وأما الآثار فمن وجوه ( ا ) العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم لأن الآباء والأمهات يحفظونه من نار الدنيا وآفاتها والعلماء يحفظونه من نار الآخرة وشدائدها ( ب ) قيل لابن مسعود بم وجدت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول ( ج ) قال بعضهم سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس ( د ) مصعب بن الزبير قال لابنه يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان العلم لك جمالاً وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً ( ه ) قال علي بن أبي طالب لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل ( و ) قال بعض المحققين العلماء ثلاثة عالم
بالله غير عالم بأمر الله وعالم بأمر الله غير عالم بالله وعالم بالله وبأمر الله أما الأول فهو عبد قد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقاً بمشاهدة نور الجلال وصفحات الكبرياء فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بدّ منه الثاني هو الذي يكون عالماً بأمر الله وغير عالم بالله وهو الذي عرف الحلال والحرام وحقائق الأحكام لكنه لا يعرف أسرار جلال الله أما العالم بالله وبأحكام الله فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات فهو تارة مع الله بالحب له وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف الله وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق فهذا سبيل المرسلين والصديقين وهذا هو المراد بقوله عليه السلام ( سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء ) فالمراد من قوله عليه السلام سائل العلماء أي العلماء بأمر الله غير العالمين بالله فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى الله استفتاء منهم وأما الحكماء فهم العالمون بالله الذين لا يعلمون أوامر الله فأمر بمخالطتهم وأما الكبراء فهم العالمون بالله وبأحكام الله فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة ثم قال شقيق البلخي لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاث علامات أما العالم بأمر الله فله ثلاث علامات أن يكون ذاكراً باللسان دون القلب وأن يكون خائفاً من الخلق دون الرب وأن يستحي من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السر وأما العالم بالله فإنه يكون ذاكراً خائفاً مستحيياً أما الذكر فذكر القلب لا ذكر اللسان وأما الخوف فخوف الرياء لا خوف المعصية وأما الحياء فحياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر وأما العالم بالله وبأمر الله فله ستة أشياء الثلاثة التي ذكرناها للعالم بالله فقط مع ثلاثة أخرى كونه جالساً على الحد المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة وكونه معلماً للقسمين الأولين وكونه بحيث يحتاج الفريقان الأولان إليه وهو يستغني عنهما ثم قال مثل العالم بالله وبأمر الله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص ومثل العالم بالله فقد كمثل القمر يكمل تارة وينقص تارة أخرى ومثل العالم بأمر الله فقد كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره ( ز ) قال فتح الموصلي أليس المريض إذا امتنع عنه الطعام والشراب والدواء يموت فكذا القلب إذا امتنع عنه العلم والفكر والحكمة يموت ( ح ) قال شقيق البليح الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف كافر محض ومنافق محض ومؤمن محض وذلك لأني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول فمن لا يصدقني فهو كافر محض ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمناً محضاً وقال أيضاً ثلاثة من النوم يبغضها الله تعالى وثلاثة من الضحك النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة والنوم في الصلاة والنوم عند مجلس الذكر والضحك خلف الجنازة والضحك في المقابر والضحك في مجلس الذكر ( ط ) قال بعضهم في قوله تعالى فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ( الرعد 17 ) السيل ههنا العلم شبهه الله تعالى بالماء لخمس خصال أحدها كما أن المطر ينزل من السماء كذلك العلم ينزل من السماء والثاني كما أن إصلاح الأرض بالمطر فإصلاح الخلق بالعلم الثالث كما أن الزرع والنبات لا يخرج بغير المطر كذلك الأعمال والطاعات لا تخرج بغير العلم والرابع كما أن المطر فرع الرعد والبرق كذلك العلم فإنه فرغ الوعد والوعيد الخامس كما أن المطر نافع وضار كذلك العلم نافع
وضار نافع لمن عمل به ضار لمن لم يعمل به ( ي ) كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من مقرب إلى الله بعيد عن الله وكم من داع إلى الله فار من الله وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله ( يا ) الدنيا بستان زينت بخمسة أشياء علم العلماء وعدل الأمراء وعبادة العباد وأمانة التجار ونصيحة المحترفين فجاء إبليس بخمسة أعلام فأقامها بجنب هذه الخمس جاء بالحسد فركزه في جنب العلم وجاء بالجور فركزه بجنب العدل وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة ( يب ) فضل الحسن البصري على التابعين بخمسة أشياء أولها لم يأمر أحداً بشيء حتى عمله والثاني لم ينه أحداً عن شيء حتى انتهى عنه والثالث كل من طلب منه شيئاً مما رزقه الله تعالى لم يبخل به من العلم والمال والرابع كان يستغني بعلمه عن الناس والخامس كانت سريرته وعلانيته سواء ( يج ) إذا أردت أن تعلم أن علمك ينفعك أم لا فاطلب من نفسك خمس خصال حب الفقر لقلة المؤنة وحب الطاعة طلباً للثواب وحب الزهد في الدنيا طلباً للفراغ وحب الحكمة طلباً لصلاح القلب وحب الخلوة طلباً لمناجاة الرب ( يد ) اطلب خمسة في خمسة الأول أطلب العز في التواضع لا في المال والعشيرة والثاني أطلب الغنى في القناعة لا في الكثرة والثالث أطلب الأمن في الجنة لا في الدنيا والرابع اطلب الراحة في القلة لا في الكثرة والخامس أطلب منفعة العلم في العمل لا في كثرة الرواية ( يه ) قال ابن المبارك ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة العلماء والغزاة والزهاد والتجار والولاة أما العلماء فهم ورثة الأنبياء وأما الزهاد فعماد أهل الأرض وأما الغزاة فجند الله في الأرض وأما التجار فأمناء الله في أرضه وأما الولاة فهم الرعاة فإذا كان العالم للدين واضعاً وللمال رافعاً فبمن يقتدي الجاهل وإذا كان الزاهد في الدنيا راغباً فبمن يقتدي التائب وإذا كان الغازي طامعاً مرائياً فكيف يظفر بالعدو وإذا كان التاجر خائنا فكيف تحصل الأمانة وإذا كان الراعي ذئباً فكيف تحصل الرعاية ( يو ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلم أفضل من المال بسبعة أوجه أولها العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة الثاني العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص والثالث يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه والرابع إذا مات الرجل يبقى ماله والعلم يدخل مع صاحبه قبره والخامس المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن والسادس جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال السابع العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه ( يز ) قال الفقيه أبو الليث إن من يجلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات أولها ينال فضل المتعلمين والثاني ما دام جالساً عنده كان محبوساً عن الذنوب والثالث إذا خرج من منزله طلباً للعلم نزلت الرحمة عليه والرابع إذا جلس في حلقة العلم فإذا نزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب والخامس ما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة والسادس إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك الغم وسيلة له إلى حضرة الله تعالى لقوله عزّ وجّل ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) والسابع يرى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق فيرد قلبه
عن الفسق ويميل طبعه إلى العلم فلهذا أمر عليه الصلاة والسلام بمجالسة الصالحين ( يح ) قيل من العلماء من يضن بعلمه ولا يحب أن يوجد عند غيره فذاك في الدرك الأول من النار ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من حقه غضب فذاك في الدرك الثاني من النار ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى الفقراء له أهلاً فذاك في الدرك الثالث من النار ومن العلماء من كان معجباً بنفسه إن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذاك في الدرك الرابع من النار ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي خطأ فذاك في الدرك الخامس من النار ومن العلماء من يتعلم كلام المبطلين فيمزجه بالدين فهو في الدرك السادس من النار ومن العلماء من يطلب العلم لوجوه الناس فذاك في الدرك السابع من النار ( يط ) قال الفقيه أبو الليث من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده الله ثمانية أشياء من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها ومن جلس مع الفقراء جعل الله له الشكر والرضا بقسمة الله ومن جلس مع السلطان زاده الله القسوة والكبر ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل والشهوة ومن جلس مع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح ومن جلس مع الفساق ازداد من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع ( يي ) إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء ( ا ) علم آدم الأسماء وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( ب ) علم الخضر الفراسة وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) ( ج ) وعلم يوسف علم التعبير رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 ) ( د ) علم داود صنعة الدرع وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ ( الأنبياء 80 ) ( ه ) علم سليمان منطق الطير وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( النمل 16 ) ( و ) علم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 48 ) ( ز ) وعلم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الشرع والتوحيد وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( البقرة 129 ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ الرحمن 1 ) فعلم آدم كان سبباً له في حصول السجدة والتحية وعلم الخضر كان سبباً لأن وجد تلميذاً مثل موسى ويوشع عليهما السلام وعلم يوسف كان سبباً لوجدان الأهل والمملكة وعلم داود كان سبباً لوجدان الرياسة والدرجة وعلم سليمان كان سبباً لوجدان بلقيس والغلبة وعلم عيسى كان سبباً لزوال التهمة عن أمه وعلم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان سبباً لوجود الشفاعة ثم نقول من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل يجد تحية الرب سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ ( النساء 69 ) ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا فمن كان عالماً بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشهوات وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) وأيضاً فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 ) فأنت يا عالم أما تذكر منة الله على نفسك حيث علمك تفسير كتابه فأي نعمة أجل مما أعطاك الله حيث جعلك مفسراً لكلامه وسمياً لنفسه ووارثاً لنبيه وداعياً لخلقه وواعظاً لعباده وسراجاً لأهل بلاده وقائداً للخلق إلى جنته وثوابه وزاجراً لهم عن ناره وعقابه كما جاء في الحديث العلماء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة ( كا ) المؤمن لا يرغب في طلب العلم حتى يرى ست خاصل من نفسه أحدها أن يقول إن الله
أمرني بأداء الفرائض وأنا لا أقدر على أدائها إلا بالعلم الثانية أن يقول نهاني عن المعاصي وأنا لا أقدر على اجتنابها إلا بالعلم الثالثة أنه تعالى أوجب على شكر نعمه ولا أقدر عليه إلا بالعلم والرابعة أمرني بإنصاف الخلق وأنا لا أقدر أن أنصفهم إلا بالعلم والخامسة أن الله أمرني بالصبر على بلائه ولا أقدر عليه إلا بالعلم والسادسة إن الله أمرني بالعداوة مع الشيطان ولا أقدر عليها إلا بالعلم ( كب ) طريق الجنة في أيدي أربعة العالم والزاهد والعابد والمجاهد فالزاهد إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الأمن والعابد إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الخوف والمجاهد إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الثناء والحمد والعالم إذا كان صادقاً في دعواه يرزقه الله الحكمة ( كج ) أطلب أربعة من أربعة من الموضع السلامة ومن الصاحب الكرامة ومن المال الفراغة ومن العلم المنفعة فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه وإذا لم تجد من صاحبك الكرامة فالكلب خير منه وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه ( كد ) لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء لا يتم الدين إلا بالتقوى ولا يتم القول إلا بالفعل ولا تتم المروءة إلا بالتواض عولا يتم العلم إلا بالعمل فالدين بلا تقوى على الخطر والقول بلا فعل كالهدر والمروءة بلا تواضع كشجر بلا ثمر والعلم بلا عمل كغيث بلا مطر ( كه ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لجابر بن عبد الله الأنصاري قوام الدنيا بأربعة بعالم يعمل بعلمه وجاهل لا يستنكف من تعلمه وغني لا يبخل بماله وفقير لا يبيع آخرته بدنياه فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه فالويل لهم والثبور سبعين مرة ( كو ) قال الخليل الرجال أربعة رجل يدري ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهو مسترشد فأرشدوه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه ( كز ) أربعة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميراً قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته لضيفه وخدمته للعالم الذي يتعلم منه والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه ( كح ) إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال حار العوام آكلين للشبهات وإذا صال العالم آكلاً للشبهات صار العامي آكلاً للحرام وإذا صار العالم آكلاً للحرام صار العامي كافراً يعني إذا استحلوا أما الوجوه العقلية فأمور أحدها أن الأمور على أربعة أقسام قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة وقسم ترضاه الشهوة ولا يرضاه العقل وقسم يرضاه العقل والشهوة معاً وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة أما الأول فهو الأمراض والمكاره في الدنيا وأما الثاني فهو المعاصي أجمع وأما الثالث فهو العلم وأما الرابع فهو الجهل فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة فكل من اختار العلم
يقال له تعودت المقام في الجنة فأدخل الجنة ومن اكتفى بالجهل يقال له تعودت النار فأدخل النار والذي يدل على أن العلم جنة والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب وكمال الألم في البعد عن المحبوب والجراحة إنما تؤلم لأنها تبعد جزءاً من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده فلا جرم كان ذلك مؤلماً والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاماً من الجرح لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزا فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن وكذلك لذة النظر إنما تحصل لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب والألم عبارة عن إدراك المكروه وإذا عرفت هذا فنقول كلما كان الإدراك أغوص وأشد والمدرك أشرف وأكمل والمدرك أنقى وأبقى وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل ولا شك أن محل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأيُّ معلوم أشرف من ذلك فثبت أنه لا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به وأن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء واعلم أن ههنا وجوهاً أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا الوجه الأول أن أول ما نزل قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( العلق 1 5 ) فقيل فيه إنه لا بدّ من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ وبين قوله اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان وهو كونه علقة مع أنها أخس الأشياء وآخر حاله وهي صيرورته عالماً وهو أجل المراتب كأنه تعالى قال كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى الثاني أنه قال اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره