كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
أن يقال إن الطارىء يزيل السابق وهذا محال لوجوه أحدها أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارىء فليس كون الطارىء مزيلاً للسابق أولى من كون السابق دافعاً للطارىء بل الثاني أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وثانيها أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين كان شرط طريان الطارىء زوال السابق فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال وثالثها أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارىء إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع وإن ازداد أحدهما على الآخر فلنفرض أن السابق أزيد فعند طريان الطارىء لا يزول إلا ما يساويه فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية فيكون ذلك ترجيحاً من غير مرجح وهو محال لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارىء الزائد يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارىء دون البعض وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحاً للمثل من غير مرجح وهو محال فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمناً ثم كفر فذلك الإيمان السابق وإن كنا نظنه إيماناً إلا أنه ما كان عند الله إيماناً فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيماناً والكفر كفراً وهذا هو الذي دلت الآية عليه فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة
أما البحث الفروعي فهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت قال الشافعي رحمه الله لا إعادة عليه وقال أبو حنيفة رحمه الله لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه قوله تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ شرط في حبوط العمل أن يموت وهو كافر وهذا الشخص لم يوجد في حقه هذا الشرط فوجب أن لا يصير عمله محبطاً فإن قيل هذا معارض بقوله وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) وقوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( المائدة 5 ) لا يقال حمل المطلق على المقيد واجب
لأنا نقول ليس هذا من باب المطلق والمقيد فإنهم أجمعوا على أن من علق حكماً بشرطين وعلقه بشرط أن الحكم ينزل عند أيهما وجه كمن قال لعبده أنت حر إذا جاء يوم الخميس أنت حر إذا جاء يوم الخميس والجمعة لا يبطل واحد منهما بل إذا جاء يوم الخميس عتق ولو كان باعه فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه ثم اشتراه ثم جاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق الأول
والسؤال الثاني عن التمسك بهذه الآية أن هذه الآية دلت على أن الموت على الردة شرط لمجموع الأحكام المذكورة في هذه الآية ونحن نقول به فإن من جملة هذه الأحكام الخلود في النار وذلك لا يثبت إلا مع هذا الشرط وإنما الخلاف في حبط الأعمال وليس في الآية دلالة على أن الموت على الردة شرط فيه
والجواب أن هذا من باب المطلق والمقيد لا من باب التعليق بشرط واحد وبشرطين لأن التعليق بشرط وبشرطين إنما يصح لو لم يكن تعليقه بكل واحد منهما مانعاً من تعليقه بالآخر وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً في شيء من الأوقات فعلمنا أن
هذا ليس من باب التعليق بشرط وبشرطين بل من باب المطلق والمقيد
وأما السؤال الثاني فجوابه أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة وإنما توجب الخلود في النار بشرط الموت على الردة وعلى هذا التقدير فذلك السؤال ساقط
أما قوله تعالى فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث ( وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم ) فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه
المسألة الثانية المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال ثم اختلف المتكلمون فيه فقال المثبتون للإحباط والتكفير المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولاً بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعاً بل يستفيد منه أعظم المضار يقال إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط وإما أن لا يكون فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه وإن كان مجازاً وجب المصير إليه لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال
المسألة الثالثة أما حبوط الأعمال في الدنيا فهو أنه يقتل عند الطفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين ويجوز أن يكون المعنى في قوله حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالإنتقال عن دينهم يبطل كله فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بأعمالهم السالفة وعند المنكرين لذلك معناه أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثواباً ونفعاً في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة َ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة َ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن عبد الله بن جحش قال يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت هذه الآية لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً والثاني أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد
المسألة الثانية هَاجَرُواْ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل ومنه قيل للكلام القبيح هجر لأنه مما ينبغي أن يهجر والهاجرة وقت يهجر فيه العمل والمهاجرة مفاعلة من الهجرة وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو وعند فعل العدو ومثل ذلك فتصير مفاعلة
ثم قال تعالى أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة َ اللَّهِ وفيه قولان الاْوَّلِ أن المراد منه الرجاء وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالفوز والثواب في عمله بل كان يتوقعه ويرجوه
فإن قيل لم جعل الوعد مطلقاً بالرجاء ولم يقع به كما في سائر الآيات
قلنا الجواب من وجوه أحدها أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلاً بل بحكم الوعد فلذلك علقه بالرجاء وثانيها هب أنه واجب عقلاً بحكم الوعد ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها أن المذكور ههنا هو الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء كما قال وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ ( المؤمنون 60 )
القول الثاني أن المراد من الرجاء القطع واليقين في أصل الثواب والظن إنما دخل في كميته وفي وقته وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح وأنه غفور رحيم غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم
الحكم الثالث
في الخمر
يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعاً عن الحل والحرمة
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالوا نزلت في الخمر أربع آيات نزل بمكة قوله تعالى وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ( النحل 67 ) وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيها قوله تعالى قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون فنزلت لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) فقل من شربها ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) فقال عمر انتهينا يا رب قال القفال رحمه الله والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ثم نزل قوله تعالى لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر فكان المنع من ذلك منعاً من الشرب ضمناً ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر
المسألة الثانية اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر
أما المقام الأول في بيان أن الخمر ما هو قال الشافعي رحمه الله كل شرب مسكر فهو خمر وقال أبو حنيفة الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد حجة الشافعي على قوله وجوه أحدها ما روى أبو داود في ( سننه ) عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة والخمر ما خامر العقل وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه أحدها أن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمراً وثانيها أنه قال حرمت الخمر يوم حرمت وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمر وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة وثالثها أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب ولا شك أن عمر كان عالماً باللغة وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره
الحجة الثانية روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً وإن من العسل خمراً وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً ) والاستدلال به من وجهين أحدهما أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر والثاني أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب فوجب أن يكون ثابتاً في هذه الأشربة قال الخطابي رحمه الله وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة فحكمها حكم هذه الخمسة كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها
الحجة الثالثة روى أبو داود أيضاً عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) قال الخطابي قوله عليه السلام ( كل مسكر خمر ) دل على وجهين أحدهما أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر وكان مسمي الخمر مجهولاً للقوم حسن من الشارع أن يقال مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية أو على سبيل أن يضع اسماً شرعياً على سبيل الاحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمراً فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازاً على المشابهة في الحكم الذي هو خاصية ذلك الشيء
الحجة الرابعة روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن البتع فقال ( كل شراب أسكر فهو حرام ) قال الخطابي البتع شراب يتخذ من العسل وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة وإفساد لقول من قال إن القليل من المسكر مباح لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس فيدخل فيه القليل والكثير منها ولو كان هناك تفصيل في شيء
من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله
الحجة الخامسة روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )
الحجة السادسة روى أيضاً عن القاسم عن عائشة قالت سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) قال الخطابي ( الفرق ) مكيال يسع ستة عشر رطلاً وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب
الحجة السابعة روى أبو داود عن شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن كل مسكر ومفتر قال الخطابي المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر وهو حرام
النوع الثاني من الدلائل على أن كل مسكر خمر التمسك بالاشتقاقات قال أهل اللغة أصل هذا الحرف التغطية سمي الخمار خماراً لأنه يغطي رأس المرأة والخمر ما واراك من شجر وغيره من وهدة وأكمة وخمرت رأس الإناء أي غطيته والخامر هو الذي يكتم شهادته قال ابن الأنباري سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه يقال خامره الداء إذا خالطه وأنشد لكثير هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
ويقال خامر السقام كبده وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل أي تحجزه وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً إذا ستره للمبالغة ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر لأن السكر يغطي العقل ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز لأنا نقول ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات ومسمى الصوم هو الإمساك ويثبتونه بالاشتقاقات
النوع الثالث من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما هذه الآية والثانية آية المائدة والثالثة وردت في السكر وهو قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر
النوع الرابع من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذاً قالا يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل مذهبة للمال فبين لنا فيه فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل فوجب أن يكون كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في هذا الحكم
النوع الخامس من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ ( المائدة 91 ) ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر وهذا التعليل يقيني فعلى هذا تكون هذه الآية نصاً في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر وكل من أنصف وترك العناد علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها قوله تعالى وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ( النحل 67 ) من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن وما نحن فيه سكر ورزق حسن فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح
والحجة الثانية ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها وقال اسقوني فقال العباس ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا فقال ما تسقي الناس فجاءه بقدح من نبيذ فشمه فقطب وجهه ورده فقال العباس يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم فقال ردوا على القدح فردوه عليه فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب وقال إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا منتها بالماء
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص ولأن اغتلام الشراب شدته كاغتلام البعير سكره
الحجة الثالثة التمسك بآثار الصحابة
والجواب عن الأول أن قوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا نكرة في الإثبات فلم قلتم إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة أو مخصصة لها
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماءً نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلاً إلى الحموضة وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم فلذلك قطب وجهه وأيضاً كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر
المقام الثاني في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم والإثم حرام لقوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى َ ( الأعراف 33 ) فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر الثاني أن الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث أنه تعالى قال وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا صرح برجحان الإثم والعقاب وذلك يوجب التحريم
فإن قيل الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم بل تدل على أن فيه إثماً فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراماً
قلنا لأن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر فلما بين تعالى أن فيه إثماً كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرمة ومستلزم المحرم محرم فوجب أن يكون الشرب محرماً ومنهم من قال هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر واحتج عليه بوجوه أحدها أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة الثالث أنه تعالى أخبر أن فيهما إثماً كبيراً فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلاً ما داما موجودين فلو كان ذلك الإثم الكبير سبباً لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع
والجواب عن الأول أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرماً ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعاً من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام
والجواب عن الثاني أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكوناً وطمأنينة
والجواب عن الثالث أن قوله فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ إخبار عن الحال لا عن الماضي وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب
المسألة الثالثة في حقيقة الميسر فنقول الميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما يقال يسرته إذا قمرته واختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها قال مقاتل اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب كانوا يقولون يسروا لنا ثمن الجزور أو من اليسار لأنه سبب يساره وعن ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله وثانيها قال ابن قتيبة الميسر من التجزئة والاقتسام يقال يسروا الشيء أي اقتسموه فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة والياسر الجازر لأنه يجزىء لحم الجزور ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور إنهم ياسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزؤن لحم الجزور وثالثها قال الواحدي إنه من قولهم يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسراً إذا وجب والياسر الواجب بسبب القداح هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة
وأما صفة الميسر فقال صاحب ( الكشاف ) كانت لهم عشرة قداح وهي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس بفتح الحاء وكسر اللام وقيل بكسر الحاء وسكون اللام والمسبل والمعلي والنافس والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء وقيل ثمانية وعشرين جزءاً إلا ثلاثة وهي المنيح والسفيح والوعد ولبعضهم في هذا المعنى شعر
لي في الدنيا سهام
ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد
وسفيح ومنيح
فللفذ سهم وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمسبل ستة وللمعلي سبعة يجعلونها في الربابة وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم
المسألة الرابعة اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين أو هو اسم لجميع أنواع القمار روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم ) وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز وأما الشطرنج فروي عن علي عليه السلام أنه قال النرد والشطرنج من الميسر وقال الشافعي رضي الله عنه إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو أخذ مال وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً والله أعلم أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه
المسألة الخامسة الإثم الكبير فيه أمور أحدها أن عقل الإنسان أشرف صفاته والخمر عدو العقل وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور وتقريره أن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يجري مجرى عقال الناقة فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح كان عقله مانعاً له من الإقدام عليه فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل المانع منها والتقريب بعد ذلك معلوم ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ويقول الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسى سفيههم وثانيها ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وثالثها أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى بخلاف سائر المعاصي مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم بخلاف الشرب فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه أكثر ورغبته فيه أتم فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقاً في اللذات البدنية معرضاً عن تذكر الآخرة والمعاد حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وبالجملة فالخمر يزيل العقل وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الخمر أم الخبائث ) وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة وأيضاً لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضاً يورث العداوة لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجاناً أبغضه جداً وهو أيضاً يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة وأما المنافع المذكورة في قوله تعالى وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فمنافع الخمر أنهم
كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه ويسلي المحزون ويشجع الجبان ويسخي البخيل ويصفي اللون وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير فيحصل له مال من غير كد وتعب ثم يصرفه إلى المحتاجين فيكتسب منه المدح والثناء
المسألة السادسة قرأ حمزة والكسائي كَثِيرٍ بالثاء المنقوطة من فوق والباقون بالباء المنقوطة من تحت حجة حمزة والكسائي أن الله وصف أنواعاً كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( المائدة 91 ) فذكر أعداداً من الذنوب فيهما ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعن عشرة بسبب الخمر وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال فيهما إثم ومنافع وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيراً يدل عليه قوله تعالى كَبَائِرَ الإثْمِ ( النجم 32 ) كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) وأيضاً القراء اتفقوا على قوله وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ بالباء المنقوطة من تحت وذلك يرجح ما قلناه
الحكم الرابع
في الإنفاق
قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ
اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية قال القفال قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا فيقول هو رجل من مذهبه كذا ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه فأعلمهم الله أن العفو مقبول وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله أصل العفو في اللغة الزيادة قال تعالى خُذِ الْعَفْوَ ( الأعراف 199 ) أي الزيادة وقال أيضاً حَتَّى عَفَواْ ( الأعراف 95 ) أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلاً عن الكفاية يقال خذ ما عفا لك أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسر والتسهيل قال عليه الصلاة والسلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم ) معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق ويقال أعفى فلان فلاناً بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة وهو راجع إلى التخفيف ويقال أعطاه كذا عفواً صفواً إذا لم يكدر عليه بالأذى ويقال خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر ومنه قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ ( الأعراف 199 ) أي ما سهل لك من الناس ويقال للأرض السهلة العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ ( الإسراء 26 27 ) وقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ وقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول وهكذا وهكذا ) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الصدقة ما أبقت غني ولا يلام على كفاف ) وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أتاه من بين يديه فقال هاتها مغضباً فأخذها منه ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته ثم قال يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يحبس لأهله قوت سنة وقال الحكماء الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط فالإنفاق الكثير هو التبذير والتقليل جداً هو التقتير والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله قُلِ الْعَفْوَ ومدار شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة وشرع النصارى على المسامحة التامة وشرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) متوسط في كل هذه الأمور فلذلك كان أكمل من الكل
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو ( العفو ) بضم الواو والباقون بالنصب فمن رفع جعل ذَا بمعنى الَّذِى وينفقون صلته كأنه قال ما الذي ينفقون فقال هو العفو ومن نصب كان التقدير ما ينفقون وجوابه ينفقون العفو
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع أما القائلون بأنه هو
الإنفاق الواجب فلهم قولان الأول قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها ههنا على سبيل الإجمال وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم ثم ينفقوا الباقي ثم صار هذا منسوخاً بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة
القول الثاني أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضاً لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض
وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئاً على سبيل الإجمال ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر
أما قوله كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون
وقوله لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ فيه وجوه الأول قال الحسن فيه تقديم وتأخير والتقدير كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون والثاني كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا الثالث يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا
واعلم أنه لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولاً عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز
الحكم الخامس
في اليتامى
فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده ثم إن الله تعالى أنزل قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُواْ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وأنزل في الآيات وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقوله وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا
( النساء 127 ) وقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم فثقل ذلك على الناس وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم استعدوا للوعيد الشديد وإن تركوا وأعرضوا عنهم اختلت معيشة اليتامى فتحير القوم عند ذلك
ثم ههنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة يحتمل أن السؤال كان في قلبهم وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب فأنزل الله تعالى هذه الآية ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً وطعاماً وشراباً فعظم ذلك على ضعفة المسلمين فقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله مالكنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاماً وشراباً يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قوله قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ فيه وجوه أحدها قال القاضي هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة ويدخل فيه أيضاً معنى قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ ( النساء 2 ) ومعنى قوله خَيْرٌ يتناول حال المتكفل أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم ويتناول حال اليتيم أيضاً أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي
فإن قيل ظاهر قوله قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم
قلنا ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحاً له فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها قول من قال الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً له والثالث أن يكون الخبر عائداً إلى اليتيم والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم والقول الأول أولى لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي وإلى اليتيم في إصلاح النفس وإصلاح المال وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه واليتيم في ماله وفي نفسه فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية
أما قوله تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى المخالطة جمع يتعذر فيه التمييز ومنه يقال للجماع الخلاط ويقال خولط الرجل
إذا جن والخلاط الجنون لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله
المسألة الثانية في تفسير الآية وجوه أحدها المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم والمعنى أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين والاجتماع في المسكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنياً أو فقيراً ومنهم من قال إذا كان القيم غنياً لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز واحتجوا عليه بقوله تعالى وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وأما إن كان القيم فقيراً فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثم قضيت وعن مجاهد أنه إذا كان فقيراً وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه
القول الثالث أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي
والقول الرابع وهو اختيار أبي مسلم أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح على نحو قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ ( النساء 3 ) وقوله عز من قائل وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء ( النساء 127 ) قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها أن الشركة داخلة في قوله قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها أن قوله تعالى فَإِخوَانُكُمْ يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً فوجب أن تكون الإشارة بقوله فَإِخوَانُكُمْ إلى نوع آخر من المخالطة ورابعها أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك
المسألة الثالثة قوله فَإِخوَانُكُمْ أي فهم إخوانكم قال الفراء ولو نصبته كان صواباً والمعنى فإخوانكم تخالطون
أما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فقيل المفسد لأموالهم من المصلح لها وقيل يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح يعني إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضاً آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم وهذا تهديد عظيم والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه وليس له أحد يراعيها
فكأنه تعالى قال لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه وقيل والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئاً من غير إصلاح منكم لمالهم
أما قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( الإعنات ) الحمل على مشقة لا تطاق يقال أعنت فلان فلاناً إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتاً إذا لبس عليه في سؤاله وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل الْعَنَتَ من المشقة وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدوداً ومنه قوله تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ( التوبة 128 ) أي شديد عليه ما شق عليكم ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً وقال عطاء ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم وقال الزجاج ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية فقال إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه لأن قوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف ولو كان مكلفاً بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق
واعلم أن وجه هذا الاستدلال أن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأيضاً فولى هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه ولا سبيل له إلى فعله وأيضاً فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق فأما من لا يتمكن البتة فذلك لا يصح فيه وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ
والجواب عنه المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى والله أعلم
الحكم السادس
فيما يتعلق بالنكاح
وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَة ٌ مُّؤْمِنَة ٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَة ٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ
إِلَى الْجَنَّة ِ وَالْمَغْفِرَة ِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن هذه الآية نظير قوله وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وقرىء بضم التاء أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع أو هو متعلق بما تقدم فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم وقال أبو مسلم بل هو متعلق بقصة اليتامى فإنه تعالى لما قال وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد حليفاً لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناساً من المسلمين بها سراً فعند قدومه جاءته امرأته يقال لها عناق خليلة له في الجاهلية أعرضت عنه عند الإسلام فالتمست الخلوة فعرفها أن الإسلام يمنع من ذلك ثم وعدها أن يستأذن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يتزوج بها فلما انصرف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عرفه ما جرى في أمر عناق وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية اختلف الناس في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله إنه حقيقة في العقد واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا نكاح إلا بولي وشهود ) وقف النكاح على الولي والشهود والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء والثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء فلو كان النكاح اسماً للوطء لامتنع كون النكاح مقابلاً للسفاح وثالثها قوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ( النور 32 ) ولا شك أن لفظ أنكحوا لا يمكن حمله إلا على العقد ورابعها قول الأعشى أنشده الواحدي في ( البسيط ) فلا تقربن من جارة إن سرها
عليك حرام فانكحن أو تأيما
وقوله فانكحن لا يحتمل إلا الأمر بالعقد لأنه قال ( لا تقربن جارة ) يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة أنه حقيقة في الوطء واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله تعالى الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه
الصلاة والسلام ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام ( ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون ) أثبت النكاح مع عدم العقد وثالثها أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء يقال نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ونكح النعاس عينه وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى وقال الشاعر التاركين على طهر نساءهم
والناكحين بشطي دجلة البقرا
وقال المتنبي أنكحت صم حصاها خف يعملة
تعثرت بي إليك السهل والجبلا
ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد فوجب حمله عليه ومن الناس من قال النكاح عبارة عن الضم ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعاً قال ابن جني سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة فقال فرقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس فإذا قالوا نكح فلان فلانة أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا غير المجامعة لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة فهذا تمام ما في هذا اللفظ من البحث وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله وَلاَ تَنْكِحُواْ في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح
المسألة الثالثة اختلفوا في أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب فأنكر بعضهم ذلك والأكثرون من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب وهو المختار ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى صَاغِرُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) ثم قال في آخر الآية سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( التوبة 31 ) وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك وثانيها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة ولما كان كان ذلك باطلاً علمنا أن كفرهما شرك وثالثها قوله تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( المائدة 73 ) فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة والأول باطل لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً ومن كونه حياً وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذواتاً ثلاثة قديمة مستقلة ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك وقول بإثبات الآلهة فكانوا مشركين وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق ورابعها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أميراً وقال إذا لقيت عدداً من المشركين فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم سمي
من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك وخامسها ما احتج به أبو بكر الأصم فقال كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين لأنهم كانوا يقولون فيها إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين فالقوم قد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر فوجب القطع بكونهم مشركين لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادراً على خلق هذه الأشياء واعترض القاضي فقال إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الأمور الخارجة عن قدرة البشر فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركاً أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب ذلك إلى غير الله تعالى
والجواب أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركاً كما أن إنساناً لو قال إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ثم أسند حلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركاً فكذا ههنا فهذا مجموع ما يدل على أن اليهودي والنصراني يدخلان تحت اسم المشرك واحتج من أباه بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك وإنما قلنا أنه تعالى فصل لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( الحج 17 ) وقال أيضاً مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ( البقرة 105 ) وقال لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ( البينة 1 ) ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر وذلك يوجب التغاير
والجواب أن هذا مشكل بقوله تعالى أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) وبقوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيهاً على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور قلنا فههنا أيضاً إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الإسم تنبيهاً على كمال درجتهم في هذا الكفر فهذا جملة ما في هذه المسألة ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين فقال قوم وقوع هذا الإسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك وقال الجبائي والقاضي هذا الإسم من جملة الأسماء الشرعية واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمى كل من كان كافراً بالمشرك ومن كان في الكفار من لا يثبت إلهاً أصلاً أو كان شاكاً في وجوده أو كان شاكاً في وجود الشريك وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكراً للبعث والقيامة فلا جرم كان منكراً للبعثة والتكليف وما كان يعبد شيئاً من الأوثان والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم بل كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية بل من الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة وغيرهما وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الإسم فهذا جملة الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق
المسألة الرابعة الذين قالوا إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا إن قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ نهى عن نكاح الوثنية أما الذين قالوا إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا ظاهر قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلاً سواء كانت من أهل الكتاب أو لا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام حجة الجمهور قوله تعالى في سورة المائدة وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد منه من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب
قلنا هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أو لا أحل المحصنات من المؤمنات وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر ومن كن على الإيمان من أول الأمر ولأن قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( البقرة 101 ) يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك فكان هذا إجماعاً على الجواز
نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه أتزعم أنها حرام فقال لا ولكنني أخاف
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا ) ويدل عليه أيضاً الخبر المشهور وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الإستثناء عبثاً واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أولها أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ صريح في تحريم نكاح الكتابية والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر فوجب المصير إليه ثم قالوا وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ والوصف إذا ذكر عقيب الحكم وكان الوصف مناسباً للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار وهذه العلة قائمة في الكتابية فوجب القطع بكونها محرمة
والحجة الثانية لهم أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل ووجه الاستدلال أن الأصل في الإبضاع الحرمة فلما تعارض دليل الحرمة تساقطاً فوجب بقاء حكم الأصل وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية فحكمتم عند ذلك بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا ههنا
الحجة الثالثة لهم حكى محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن ابن عباس تحريم أصناف النساء إلا المؤمنات واحتج بقوله تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( المائدة 5 ) وإذا كان كذلك كانت كالمرتدة في أنه لا يجوز إيراد العقد عليها
الحجة الرابعة التمسك بأثر عمر حكى أن طلحة نكح يهودية وحذيفة نصرانية فغضب عمر
رضي الله عنه عليهما غضباً شديداً فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب فقال إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن ولكن أنتزعهن منكم
أجاب الأولون عن الحجة الأولى بأن من قال اليهودي والنصراني لا يدخل تحت اسم المشرك فالإشكال عنه ساقط ومن سلم ذلك قال إن قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) أخص من هذه الآية فإن صحت الرواية أن هذه الحرمة ثبتت ثم زالت جعلنا قوله وَالْمُحْصَنَاتُ ناسخاً وإن لم تثبت جعلناه مخصصاً أقصى ما في الباب أن النسخ والتخصيص خلاف الأصل إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التوفيق بين الآيتين إلا بهذا الطريق وجب المصير إليه أما قوله ثانياً أن تحريم نكاح الوثنية إنما كان لأنها تدعو إلى النار وهذا المعنى قائم في الكتابية قلنا الفرق بينهما أن المشركة متظاهرة بالمخالفة والمناصبة فلعل الزوج يحبها ثم أنها تحمله على المقاتلة مع المسلمين وهذا المعنى غير موجود في الذمية لأنها مقهورة راضية بالذلة والمسكنة فلا يفضي حصول ذلك النكاح إلى المقاتلة أما قوله ثالثاً إن آية التحريم والتحليل قد تعارضتا فنقول لكن آية التحليل خاصة ومتأخرة بالإجماع فوجب أن تكون متقدمة على آية التحريم وهذا بخلاف الآيتين في الجمع بين الأختين في ملك اليمين لأن كل واحدة من تينك الآيتين أخص من الأخرى من وجه وأعم من وجه آخر فلم يحصل سبب الترجيح فيه
أما قوله ههنا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) أخص من قوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مطلقاً فوجب حصول الترجيح
وأما التمسك بقوله تعالى فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ( المائدة 5 )
فجوابه أنا لما فرقنا بين الكتابية وبين المرتدة في أحكام كثيرة فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم
وأما التمسك بأثر عمر فقد نقلنا عنه أنه قال ليس بحرام وإذا حصل التعارض سقط الاستدلال والله أعلم
المسألة الخامسة اتفق الكل على أن المراد من قوله حَتَّى يُؤْمِنَّ الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار وقالوا إن الله تعالى جعل الإيمان ههنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم ههنا الإقرار فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار واحتج أصحابنا على فساد هذا المذهب بوجوه أحدها أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وثانيها قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم ( البقرة 11 ) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإفراد لكان قوله تعالى مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ كذباً وثالثها قوله قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( الحجرات 14 ) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ كذباً ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الإطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب
المسألة السادسة نقل عن الحسن أنه قال هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتاً من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة
أما قوله تعالى وَلامَة ٌ مُّؤْمِنَة ٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَة ٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم اللام في قوله وَلامَة ٌ في إفادة التوكيد تشبه لام القسم
المسألة الثانية الخير هو النفع الحسن والمعنى أن الشركة لو كانت ثابة في المال والجمال والنسب فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حركة مشركة واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما أن اللفظ مطلق والثاني أن قوله وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يدل على صفة الحرية لأن التقدير ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها فكل ذلك داخل تحت قوله وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
المسألة الثالثة قال الجبائي إن الآية دالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة وذلك لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بالأمة لكن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الكفر والإيمان لا يتفاوت بقدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة وهذا استدلال لطيف في هذه المسألة
المسألة الرابعة في الآية إشكال وهو أن قوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ يقتضي حرمة نكاح المشركة ثم قوله وَلامَة ٌ مُّؤْمِنَة ٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَة ٍ يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الفة ولأحدهما مزية
قلنا نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعاً إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى فاندفع السؤال والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة
وقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ فالكلام فيه على نحو ما تقدم
أما قوله أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية نظير قوله مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواة ِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ( غافر 41 )
فإن قيل فكيف يدعون إلى النار وربما لم يؤمنوا بالنار أصلاً فكيف يدعون إليها
وجوابه أنهم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه
فإن قيل احتمال المحبة حاصل من الجانبين فكما يحتمل أن يصير المسلم كافراً بسبب الألفة والمحبة يحتمل أيضاً أن يصير الكافر مسلماً بسبب الألفة والمحبة وإذا تعارض الإحتمالان وجب أن يتساقطا فيبقى أصل الجواز
قلنا إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع وبين أن يلحقه ضرر عظيم وفي مثل هذه الصورة يجب الإحتراز عن الضرر فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق
التأويل الثاني أن في الناس من حمل قوله أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وبين غيرها فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق
التأويل الثالث أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّة ِ حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّة ِ وَالْمَغْفِرَة ِ بِإِذْنِهِ ففيه قولان
القول الأول أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة فكأنه قيل أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة والثاني أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها قال وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّة ِ وَالْمَغْفِرَة ِ لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة
أما قوله بِإِذْنِهِ فالمعنى بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة ونظيره قوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( يونس 100 ) وقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) وقوله وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( البقرة 102 ) وقرأ الحسن وَالْمَغْفِرَة ِ بِإِذْنِهِ بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسيره
أما قوله تعالى وَيُبَيِنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فمعناه ظاهر
الحكم السابع
في المحيض
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى جمع في هذا الموضع ستة من الأسئلة فذكر الثلاثة الأول بغير الواو وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ وسألو عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا والسؤال عن كذا
المسألة الثانية روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس فلما نزلت هذه الآية أخذ المسلمون بظاهر الآية فأخرجوهن من بيوتهن فقال ناس من الأعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرناها هلكت الحيض فقال عليه الصلاة والسلام إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم فلما سمع اليهود ذلك قالوا هذا الرجل يريد أن لا يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه ثم جاء عباد بن بشير وأسيد بن حضير إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبراه بذلك وقالا يا رسول الله أفلا ننكحهن في المحيض فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى ظننا أنه غضب عليها فقاما فجاءته هدية من لبن فأرسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما
المسألة الثالثة أصل الحيض في اللغة السيل يقال حاض السيل وفاض قال الأزهري ومنه قيل للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل إليه والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو لأنهما من جنس واحد
إذا عرفت هذا فنقول إن هذا البناء قد يجيء للموضع كالمبيت والمقيل والمغيب وقد يجيء أيضاً بمعنى المصدر يقال حاضت محيضاً وجاء مجيئاً وبات مبيتاً وحكى الواحدي في ( البسيط ) عن ابن السكيت إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل وحاض يحيض وأشباهه فإن الإسم منه مكسور والمصدر مفتوح من ذلك مال ممالا وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم وبالفتح إلى المصدر
ولو فتحهما جميعاً أو كسرهما في المصدر والاسم لجاز تقول العرب المعاش والمعيش والمغاب والمغيب والمسار والمسير فثبت أن لفظ المحيض حقيقة في موضوع الحيض وهو أيضاً اسم لنفس الحيض وإذا ثبت هذا فاعلم أن أكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض ههنا الحيض وعندي أنه ليس كذلك إذ لو كان المراد بالمحيض ههنا الحيض لكان قوله فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ معناه فاعتزلوا النساء في الحيض ويكون المراد فاعتزلوا النساء في زمان الحيض فيكون ظاهره مانعاً من الإستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة ولما كان هذا المنع غير ثابت لزم القول بتطرق النسخ أو التخصيص إلى الآية ومعلوم أن ذلك خلاف الأصل أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض كان معنى الآية فاعتزلوا النساء في موضع الحيض ويكون المعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء وعلى هذا التقدير لا يتطرق إلى الآية نسخ ولا تخصيص ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور فإن حمل اللفظ على المعنى الذي لا يوجب المحذور أولى هذا إذا سلمنا أن لفظ المحيض مشترك بين الموضع وبين المصدر مع أنا نعلم أن استعمال هذا اللفظ في موضع أكثر وأشهر منه في المصدر
فإن قيل الدليل على أن المراد من المحيض الحيض أنه قال هُوَ أَذًى أي المحيض أذى ولو كان المراد من المحيض الموضع لما صح هذا الوصف
قلنا بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض فالحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص والأذى كيفية مخصوصة وهو عرض والجسم لا يكون نفس العرض فلا بد وأن يقولوا المراد منه أن الحيض موصوف بكونه أذى وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضاً أن نقول المراد أن ذلك الموضع ذو أذى وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد من المحيض الأول هو الحيض ومن المحيض الثاني موضع الحيض وعلى هذا التقدير يزول ما ذكرتم من الإشكال فهذا ما عندي في هذا الموضع وبالله التوفيق
أما قوله تعالى قُلْ هُوَ أَذًى فقال عطاء وقتادة والسدي أي قذر واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ الاعتزال التنحي عن الشيء قدم ذكر العلة وهو الأذى ثم رتب الحكم عليه وهو وجوب الإعتزال
فإن قيل ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة
قلنا العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذر أما دم الاستحاضة فليس كذلك بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى هذا ما عندي في هذا الباب وهو قاعدة طيبة وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية أما الصفات الحقيقية فأمران أحدهما المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم قال تعالى وَلاَ
يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ ( البقرة 228 ) قيل في تفسيره المراد منه الحيض والحمل وأما دم الاستحاضة فإنه لا يخرج من الرحم لكن من عروق تنقطع في فم الرحم قال عليه والسلام في صفة دم الاستحاضة ( إنه دم عرق انفجر ) وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع للنقض عن تعليل القرآن
والنوع الثاني من صفات دم الحيض الصفات التي وصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دم الحيض بها أحدها أنه أسود والثاني أنه ثخين والثالث أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته الرابعة أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلاناً والخامسة أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة السادسة أنه بحراني وهو شديد الحمرة وقيل ما تحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية
ثم من الناس من قال دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفاً بهذه الصفات فهو دم الحيض وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان ومن الناس من قال هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن وتصير المرأة به بالغة والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه
المسألة الخامسة اختلف الناس في مدة الحيض فقال الشافعي رحمه الله تعالى أقلها يوم وليلة وأكثرها خمسة عشر يوماً وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحق رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة والثوري أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد وأكثره عشرة أيام قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً ثم تركه وقال مالك لا تقدير لذلك في القلة والكثرة فإن وجد ساعة فهو حيض وإن وجد أياماً فكذلك واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال لو كان المقدار ساقطاً في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إني أستحاض فلا أطهر وأيضاً روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهما إن جميع ذلك حيض بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة فبطل هذا القول والله أعلم
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن لقائل أن يقول إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات التي ذكرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لدم الحيض فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض وإذا ترددنا في الأمرين كان طريقان الحيض مجهولاً وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم
والمشكوك لا يعارض المعلوم فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زمان معين وحجة مالك من وجهين الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين علامة دم الحيض وصفته بقوله ( دم الحيض هو الأسود المحتدم ) فمتى كان الدم موصوفاً بهذه الصفة كان الحيض حاصلاً فيدخل تحت قوله تعالى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ وتحت قوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة )
الحجة الثانية أنه تعالى قال في دم الحيض هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ذكر وصف كونه أذى في معرض بيان العلة لوجوب الإعتزال وإنما كان أذى للرائحة المنكرة التي فيه واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه وإذا كان وجوب الاعتزال معللاً بهذه المعاني فعند حصول هذه المعاني وجب الاحتراز عملاً بالعلة المذكورة في كتاب الله تعالى على سبيل التصريح وعندي أن قول مالك قوي جداً أما الشافعي فاحتج على أبي حنيفة وجهين
الحجة الأولى أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته وفي الزائد على العشرة بدليل أنه عليه السلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم فإذا وجد ذلك فقد حصل الحيض فيدخل تحت عموم قوله تعالى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ تركنا العمل بهذا الدليل في الأقل من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً بالاتفاق بيني وبين أبي حنيفة فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدة
الحجة الثانية للشافعي في جانب الزيادة ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما وصف النسوان بنقصان الدين فسر ذلك بأن قال تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي وهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً لأن على هذا التقدير يكون الطهر أيضاً خمسة عشر يوماً فيكون الحيض نصف عمرها ولو كان الحيض أقل من ذلك لما وجدت امرأة لا تصلي نصف عمرها أجاب أبو بكر الرازي عنه من وجهين الأول أن الشطر ليس هو النصف بل هو البعض والثاني أنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها
والجواب عن الأول أن الشطر هو النصف يقال شطرت الشيء أي جعلته نصفين ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه وعن الثاني أن قوله عليه السلام ( تمكث إحداهن شطر عمرها لا نصلي ) إنما يتناول زمان هي تصلي فيه وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة من وجوه
الحجة الأولى ما روى عن أبي أمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشر أيام ) قال أبو بكر فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد
الحجة الثانية ما روى عن أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص الثقفي أنهما قالا الحيض ثلاثة أيام وأربعة أيام إلى عشرة أيام وما زاد فهو استحاضة والاستدلال به من وجهين أحدهما أن القول إذا ظهر عن الصحابي ولم يخالفه أحد كان إجماعاً والثاني أن التقدير مما لا سبيل إلى العقل إليه متى روى عن الصحابي فالظاهر أنه سمعه من الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
الحجة الثالثة قوله عليه السلام لحمنة بنت جحش ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض
النساء في كل شهر ) مقتضاه أن يكون حيض جميع النساء في كل شهر هذا القدر خالفنا هذا الظاهر في الثلاثة إلى العشرة فيبقى ماعداه على الأصل
الحجة الرابعة قوله عليه السلام في حق النساء ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن فقيل ما نقصان دينهن قال تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي ) وهذا الخبر يدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليال وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة لأنه لا يقال في الواحد والإثنين لفظ الأيام ولا يقال في الزائد على العشرة أيام بل يقال أحد عشر يوماً أما الثلاثة إلى العشرة فيقال فيها أيام وأيضاً قال ( صلى الله عليه وسلم ) لفاطمة بنت أبي حبيش دعى الصلاة أيام أقرائك ولفظ الأيام مختص بالثلاثة إلى العشرة وفي حديث أم سلمة في المرأة التي سألته أنها تهرق الدم فقال لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر فلتترك الصلاة ذلك القدر من الشهر ثم لتغتسل ولتصل
فإن قيل لعل حيض تلك المرأة كان مقدراً بذلك المقدار
قلنا إنه عليه السلام ما سألها عن قدر حيضها بل حكم عليها بهذا الحكم مطلقاً فدل على أن الحيض مطلقاً مقدر بما ينطلق عليه لفظ الأيام وأيضاً قال في حديث عدي بن ثابت المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها وذلك عام في جميع النساء
الحجة الخامسة وهي حجة ذكرها الجبائي من شيوخ المعتزلة في ( تفسيره ) فقال إن فرض الصوم والصلاة لازم يتعين للعمومات الدالة على وجوبهما ترك العمل بها في الثلاثة إلى العشرة فوجب بقاؤها على الأصل فيما دون الثلاثة وفوق العشرة وذلك لأن فيما دون الثلاثة حصل اختلاف للعلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضاً وما زاد على العشرة ففيه أيضاً اختلاف العلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضاً فأما من الثلاثة إلى العشرة فهو متفق عليه فجعلناه حيضاً فهذا خلاصة كلام الفقهاء في هذ المسألة وبالله التوفيق
المسألة السادسة اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة فنقول إن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه بل من يقول إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع أما من يفسر المحيض بالحيض كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة وبالله التوفيق
أما قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ اللَّهِ فاعلم أن قوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ أي ولا تجامعوهن يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها وهذا كالتأكيد لقوله تعالى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ويمكن أيضاً حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ نهياً عن المباشرة في موضع الدم وقوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ يكون نهياً عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب الحضرمي وأبو بكر عن عاصم ( حتى يطهرن ) خفيفة من الطهارة وقرأ حمزة والكسائي يَطْهُرْنَ بالتشديد وكذلك حفص عن عاصم فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها وذلك إذا انقطع الحيض فالمعنى لا تقربون حتى يزول عنهم الدم ومن قرأ يَطْهُرْنَ بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( المزمل 1 ) ويا أيها المدثر ( المدثر 1 ) أي المتزمل والمتدثر وبالله التوفيق
المسألة الثانية أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال حجة الشافعي من وجهين
الحجة الأولى أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وأمكن الجمع بينهما وجب الجمع بينهما
إذا ثبت هذا فنقول قرىء حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف وبالتثقيل ويطهرن بالتخفيف عبارة عن انقطاع الدم وبالتثقيل عبارة عن التطهر بالماء والجمع بين الأمرين ممكن وجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين وإذا كان وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين
الحجة الثانية أن قوله تعالى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ علق الإتيان على التطهر بكلمة إِذَا وكلمة إِذَا للشرط في اللغة والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ نهى عن قربانهن وجعل غاية ذلك النهي أن يطهرن بمعنى ينقطع حيضهن وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي وجب أن لا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض أجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله حَتَّى يَطْهُرْنَ لكان ما ذكرتم لازماً أما لما ضم إليه قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ صار المجموع هو الغاية وذلك بمنزلة أن يقول الرجل لا تكلم فلاناً حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً وإذا ثبت أنه لا بد بعد انقطاع الحيض من التطهر فقد اختلفوا في ذلك التطهر فقال الشافعي وأكثر الفقهاء هو الاغتسال وقال بعضهم وهو غسل الموضع وقال عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ والصحيح هو الأول لوجهين الأول أن ظاهر قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ حكم عائد إلى ذات المرأة فوجب أن يحصل هذا التطهر في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها والثاني أن حمله على التطهر الذي يختص الحيض بوجوبه أولى من التطهر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحيض فهذا يوجب أن المراد به الاغتسال وإذا أمكن بوجود الماء وإن تعذر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمم يقوم مقامه وإنما أثبتنا التيمم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع وإلا فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلا عند الاغتسال بالماء
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد بقوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وفيه وجوه الأول وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به ولا تؤتوهن في غير المأتي وقوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي في حيث أمركم الله كقوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِى َ لِلصَّلَواة ِ أي في يوم الجمعة الثاني قال الأصم والزجاج أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات الثالث وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور والأقرب هو القول الأول لأن لفظة حَيْثُ حقيقة في المكان مجاز في غيره
أما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ فالكلام في تفسير محبة الله تعالى وفي تفسير التوبة قد تقدم فلا نعيده إلا أنا نقول التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة
فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقاً والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب فمن لم يكن مذنباً وجب أن لا تحسن منه التوبة
والجواب من وجهين الأول أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير فتلزمه التوبة دفعاً لذلك التقصير المجوز الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني التَّوْبَة ُ في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي والترك في الحاضر والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية لئلا يتوجه الطعن والسؤال
أما قوله تعالى وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ففيه وجوه أحدها المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه ولا ثالث لهذين القسمين واللفظ محتمل لذلك لأن الذنب نجاسة روحانية ولذلك قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) فتركه يكون طهارة روحانية وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزهاً عن العيوب والقبائح ويقال فلان طاهر الذيل
والقول الثاني أن المراد لا يأتيها في زمان الحيض وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ومن قال بهذا القول قال هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( الأعراف 82 ) فكان قوله وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ترك الإتيان في الأدبار
والقول الثالث أنه تعالى لما أمرنا بالتطهر في قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فلا جرم مدح المتطهر فقال وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ والمراد منه التطهر بالماء وقد قال تعالى رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( التوبة 108 ) فقيل في التفسير أنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم
الحكم الثامن
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها روي أن اليهود قالوا من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلاً وزعموا أن ذلك في التوراة فذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال كذبت اليهود ونزلت هذه الآية وثانيها روي عن ابن عباس أن عمر جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله هلكت وحكى وقوع ذلك منه فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك فأنكرت الأنصار ذلك عليهم فنزلت الآية
المسألة الثانية حَرْثٌ لَّكُمْ أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالنبات الخارج والحرث مصدر ولهذا وحد الحرث فكان المعنى نساؤكم ذوات حرث لكم فيهن تحرثون للولد فحذف المضاف وأيضاً قد يسمى موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة كقوله فإنما هي إقبالي وإدبار
ويقال هذا أمر الله أي مأموره وهذا شهوة فلان أي مشتهاه فكذلك حرث الرجل محرثة
المسألة الثالثة ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها فقوله أَنَّى شِئْتُمْ محمول على ذلك ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن وسائر الناس كذبوا نافعاً في هذه الرواية وهذا قول مالك واختيار السيد المرتضى من الشيعة والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه وحجة من قال إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه
الحجة الأولى أن الله تعالى قال في آية المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة
الحجة الثانية قوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( البقرة 222 ) وظاهر الأمر للوجوب ولا يمكن أن يقال إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن
يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولاً على القبل وذلك هو المطلوب
الحجة الثالثة روى خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن إتيان النساء في أدبارهن فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلال فلما ولى الرجل دعاه فقال كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين أو من قبلها في قبلها فنعم أمن دبرها في قبلها فنعم أمن دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحي من الحق ( لا تؤتوا النساء في أدبارهن ) وأراد بخربتها مسلكها وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها والخرزة هي التي يثقبها الخراز كنى به عن المأتي وكذلك الخصفة من قولهم خصفت الجلد إذا خرزته حجة من قال بالجواز وجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية من وجهين الأول أنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة فقال نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين فلما قال بعده فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه فيدخل فيه محل النزاع
الوجه الثاني أن كلمة إِنّى معناها أين قال الله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( الأعراف 37 خ والتقدير من أين لك هذا فصار تقدير الآية فأتوا حرثكم أين شئتم وكلمة أين شئتم تدل على تعدد الأمكنة اجلس أين شئت ويكون هذا تخييراً بين الأمكنة
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها أو من دبرها في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان واللفظ اللائق به أن يقال اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور ههنا لفظة كيف بل لفظة إِنّى ويثبت أن لفظة إِنّى مشعرة بالتخيير بين الأمكنة ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه
الحجة الثانية لهم التمسك بعموم قوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولاً به في حق النسوان
الحجة الثالثة توافقنا على أنه لو قال للمرأة دبرك على حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقاً وهذا يقتضي كون دبرها حلالاً له هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب
أجاب الأولون فقالوا الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه الأول أن الحرث اسم لموضع الحراثة ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعاً للحراثة فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة ويقتضي هذا الدليل أن لايطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه وهذه الصورة مفقودة في قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ فوجب حمل الحرث ههنا على موضع الحراثة على التعيين فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتى
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين أحدهما قوله قُلْ هُوَ أَذًى ( البقرة 222 ) والثاني قوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعاً بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد والأصل أنه لا يجوز
الوجه الثالث الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها وسبب نزول الآية لا يكون خارجاً عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل
أما الوجه الأول فقد بينا أن قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ معناه فأتوه موضع الحرث
وأما الثاني فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ذلك الموضع المعين لم يكن حمل أَنَّى شِئْتُمْ على التخيير في مكان وعند هذا يضمر فيه زيادة وهي أن يكون المراد من أَنَّى شِئْتُمْ فيضمر لفظة من لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول بل هذا أولى لأن الأصل في الإبضاع الحرمة
وأما الثالث فجوابه أن قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) عام ودلائلنا خاصة والخاص مقدم على العام
وأما الرابع فجوابه أن قوله دبرك على حرام إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة فصار ذلك كقوله يدك طالق والله أعلم
المسألة الرابعة اختلف المفسرون في تفسير قوله أَنَّى شِئْتُمْ والمشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها ومن دبرها في قبلها والثاني أن المعنى أي وقت شئتم من أوقات الحل يعنى إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضاً والثالث أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة أو مضطجعة بعد أن يكون في الفرج الرابع قال ابن عباس المعنى إن شاء وإن شاء لم يعزل وهو منقول عن سعيد بن المسيب الخامس متى شئتم من ليل أو نهار
فإن قيل فما المختار من هذه الأقاويل
قلنا قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم فكان الأولى حمل اللفظ عليه وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب لأن إِنّى يكون بمعنى مَتَى ويكون بمعنى كَيْفَ وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت إِنّى لأن حال الجماع لا يختلف بذلك فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا
أما قوله وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ فمعناه افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره قدم لنفسك عملاً صالحاً وهو كقوله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة 197 ) ونظير لفظ
التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( ص 60 )
فإن قيل كيف تعلق هذا الكلام بما قبله
قلنا نقل عن ابن عباس أنه قال معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد والذي عندي فيه أن قوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء كأنه قيل هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث فأتوا حرثكم ولاتأتوا غير موضع الحرث فكان قوله فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ دليلاً على الإذن في ذلك الموضع والمنع من غير ذلك الموضع فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر لا جرم قال وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ ثم أكده ثالثاً بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل وما بعدها أيضاً دال على تحريمه فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين
أما قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ فاعلم أن الكلام في التقوى قد تقدم والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) واعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة أولها وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ والمراد منه فعل الطاعات وثانيها قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ والمراد منه ترك المحظورات وثالثها قوله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وفيه إشارة إلى أنى إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثاً وما أحسن هذا الترتيب ثم قال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن وهو أن يجعل مع كل وعيد وعداً والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهم كالمعلوم فصار كقوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً ( الأحزاب 47 )
الحكم التاسع
في الأيمان
وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاًّيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية وأجود ما ذكروه وجهان الأول وهو الذي ذكره أبو مسلم
الأصفهاني وهو الأحسن أن قوله وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل قد جعلتني عرضة للومك وقال الشاعر ولا تجعلني عرضة للوائم
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ( القلم 10 ) وقال تعالى وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ( المائدة 89 ) والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير
قليل الألا يا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية
وأما قوله تعالى بعد ذلك أَن تَبَرُّواْ فهو علة لهذا النهي فقوله أَن تَبَرُّواْ أي إرادة أن تبروا والمعنى إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين
فإن قيل وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس
قلنا لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه
التأويل الثاني قالوا العرضة عبارة عن المانع والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعاً للناس من السلوك والمرور ويقال اعترض فلان على كلام فلان وجعل كلامه معارضاً لكلام آخر أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه إذا عرفت أصل الاستقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة فيكون اسماً لما يجعل معرضاً دون الشيء ومانعاً منه فثبت أن العرضة عبارة عن المانع وأما اللام في قوله لاِيْمَانِكُمْ فهو للتعليل
إذا عرفت هذا فنقول تقدير الآية ولا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره قالوا وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم أو إصلاح ذات البين أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر ولكن لا فائدة فيها فتركناها ثم قال في
آخر الآية وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي إن حلفتم يسمع وإن تركتم الحلف تعظيماً لله وإجلالاً له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأعراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم
لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اللَّغْوَ الساقط الذي لا يعتد به سواء كان كلاماً أو غيره أما ورود هذه اللفظة في الكلام فيدل عليه الآية والخبر والرواية أما الآية فقوله تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( القصص 55 ) وقوله لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( الواقعة 25 ) وقوله لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ ( فصلت 26 ) وقوله عَالِيَة ٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) أما قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) فيحتمل أن يكون المراد وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغواً وأن يكون المراد وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغواً
وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا )
وأما الرواية فيقال لغا الطائر يلغو لغواً إذا صوت ولغو الطائر تصويته وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل لغو قال جرير يعد الناسبون بني تميم
بيوت المجد أربعة كباراً
وتخرج منهم المرئى لغوا
كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج ورب أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء اللغا مصدر للغيت و اللَّغْوَ مصدر للغوت فهذا ما يتعلق باللغة
أما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً الأول قال الشافعي رضي الله عنه إنه قول العرب لا والله وبلى والله مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف ولو قيل لواحد منهم سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك ولعله قال لا والله ألف مرة والثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة والشعبي وعكرمة وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله وبلى والله ولا والله ) وروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مر
بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال أصبت والله ثم أخطأ ثم قال الذي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حنث الرجل يا رسول الله فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة ) وعن عائشة أنها قالت أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة
الحجة الثانية أن قوله لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ولكن المراد من قوله بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد ولا يربط قلبه به وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام لا والله بلى والله فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلاً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك فلم يكن ذلك لغواً ألبتة بل كان ذلك حاصلاً بكسب القلب
الحجة الثالثة أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ ( البقرة 224 ) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف فذكر تعالى عقيب قوله وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف وبين أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية فأما الذي قال أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه ) الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل
الحجة الثانية أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس لا والله بلى والله إذا حصل الحنث ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلاً للتقوية وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها والخالي عن المطلوب يكون لغواً فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغواً
القول الثالث في تفسير يمين اللغو هو أنه إذا حلف على ترك طاعة أو فعل معصية فهذا هو يمين اللغوا وهو المعصية قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ( القصص 55 ) فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان ثم قال وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية قالوا وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر ) وهذا التأويل ضعيف من وجهين الأول هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ ( المائدة 89 ) ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وههنا الكفارة واجبة علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة الثاني أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب
القول الرابع في تفسير يمين اللغو أنها اليمين المكفرة سميت لغواً لأن الكفارة أسقطت الإثم فكأنه قيل لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم وهذا قول الضحاك
القول الخامس وهو قول القاضي أن المراد به ما يقع سهواً غير مقصود إليه والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي يؤاخذكم إذا تعمدتم ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو
المسألة الثانية احتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس قال إنه تعالى ذكر ههنا وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وقال في آية المائدة وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل فلما ذكر ههنا قوله بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب وأيضاً ذكر المؤاخذة ههنا ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي وبينها في آية المائدة بقوله وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ فبين أن المؤاخذة هي الكفارة فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب فالكفارة واجبة فيها واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها
أما قوله تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فقد علمت أن الغفور مبالغة في ستر الذنوب وفي إسقاط عقوبتها وأما الحليم فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون يقال ضع الهودج على أحلم الجمال أي على أشدها تؤدة في السير ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون وحلمة الثدي ومعنى الحليم في صفة الله الذي لا يعجل بالعقوبة بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار
الحكم العاشر فيما يتعلق بالإيلاء والطلاق
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى آلى يؤالي إيلاء وتألى يتألى تألياً وائتلى يأتلي ائتلاء والإسم منه ألية وألوة كلاهما بالتشديد وحكى أبو عبيدة الوة والوة والوة ثلاثة لغات وبالجملة فالألية والقسم واليمين والحلف كلها عبارات عن معنى واحد وفي الحديث حكاية عن الله تعالى ( آليت أفعل خلاف المقدرين ) وقال كثير قليل الألايا حافظ ليمينه
فإن سبقت منه الألية برت
هذا هو معنى اللفظ بحسب أصل اللغة أما في عرف الشعر فهو اليمين على ترك الوطء كما إذا قال والله لا أجامعك ولا أباضعك ولا أقربك ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم إلا أنه حذف لدلالة الباقي عليه وأنا أقول هذا الإضمار إنما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللغوي أما إذا حملناه على المتعارف في الشرع استغنينا عن هذا الإضمار
المسألة الثانية روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً قال سعيد بن المسيب كان الرجل لا يريد المرأة ولا يجب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل والغرض منه مضارة المرأة ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً فأزال الله تعالى ذلك وأمهل للزوج مدة حتى يتروى ويتأمل فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها
المسألة الثالثة قرأ عبد الله يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما يَقْسِمُونَ مِن نّسَائِهِمْ
أما قوله مِن نّسَائِهِمْ ففيه سؤال وهو أنه يقال المتعارف أن يقال حلف فلان على كذا أو آلى على كذا فلم أبدلت لفظة عَلَى ههنا بلفظة مِنْ
والجواب من وجهين الأول أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال لي منك كذا والثاني أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين
أما قوله تعالى تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال تربصت الشيء
تربصاً ويقال ما لي على هذا الأمر ربصة أي تلبث وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله بينهما مسيرة يوم أي مسيرة في يوم ومثله كثير
أما قوله فَإِن فَآءوا فمعناه فإن رجعوا والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود فيء وفرق أهل العربية بين الفيء والظل فقالوا الفيء ما كان بالعشي لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء لأنه لا شمس فيها قال الله تعالى وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) وأنشدوا فلا الظل من برد الضحى يستطيعه
ولا الفيء من برد العشي يذوق
وقيل فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب أي سريع الرجوع عن الغصب إلى الحالة المتقدمة وقيل لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله فَإِن فَآءوا معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين
أما قوله تعالى وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فاعلم أن العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يعوم عزماً وعزيمة وعزمت عليك لتفعلن أي أقسمت والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقاً وقال الليث طلقت بضم اللام وقال ابن الأعرابي طلقت بضم اللام من الطلاق أجود ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالاً في الشرع وأصله من الإنطلاق وهو الذهاب فالطلاق عبارة عن انطلاق المرأة فهذا ما يتعلق بتفسير لفظ الآية
أما الأحكام فكثيرة ونذكر هاهنا بعض ما دلت الآية عليه في مسائل
المسألة الأولى كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبراً في الشرع فإنه يصح منه الإيلاء وهذا القيد معتبر طرداً وعكساً أما الطرد فهو أن كل من كان كذلك صح إيلاؤه ويتفرع عليه أحكام الأول يصح إيلاء الذمي وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقال أبو يوسف ومحمد لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق لنا قوله تعالى لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ وهذا العموم يتناول الكافر والمسلم
الحكم الثاني قال الشافعي رضي الله عنه مدة الإيلاء لا تختلف بالرق والحرية فهي أربعة أشهر سواء كان الزوجان حرين أو رقيقين أو أحدهما كان حراً والآخر رقيقاً وعند أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما تتنصف بالرق إلا أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا إن ظاهر قوله تعالى لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ يتناول الكل والتخصيص خلاف الظاهر لأن تقدير هذه المدة إنما كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج فيستوي فيه الحر والرقيق كالحيض ومدة الرضاع ومدة العنة
الحكم الثالث يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب وقال مالك لا يصح إلا في حال الغضب لنا ظاهر هذه الآية
الحكم الرابع يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح أو كانت مطلقة طلقة رجعية بدليل أن الرجعية يصدق عليها أنها من نسائه بدليل أنه لو قال نسائي طوالق وقع الطلاق عليها وإذا ثبت أنها من نسائه دخلت تحت الآية لظاهر قوله لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ
أما عكس هذه القضية وهو أن من لا يتصور منه الوقاع لا يصح إيلاؤه ففيه حكمان
الحكم الأول إيلاء الخصي صحيح لأنه يجامع كما يجامع الفحل إنما المفقود في حقه الإنزال وذلك لا أثر له ولأنه داخل تحت عموم الآية
الحكم الثاني المجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يجامع به صح إيلاؤه وإن لم يبق ففيه قولان أحدهما أنه لا يصح إيلاؤه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه والثاني أنه يصح لعموم هذه الآية لأن قصد المضارة باليمين قد حصل منه
القيد الثاني أن يكون زوجاً فلو قال لأجنبية والله لا أجامعك ثم نكحها لم يكن مؤلياً لأن قوله تعالى لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ يفيد أن هذا الحكم لهم لا لغيرهم كقوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ( الكافرون 6 ) أي لكم لا لغيركم
المسألة الثانية المحلوف به والحلف إما أن يكون بالله أو بغيره فإن كان بالله كان مولياً ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء وهل تجب كفارة اليمين فيه قولان الجديد وهو الأصح وقول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب كفارة اليمين والقديم أنه إذا فاء بعد مضي المدة أو في خلال المدة فلا كفارة عليه حجة القول والله لا أقربك ثم يقربها وبين أن يقول والله لا أكلمك ثم يكلمها وحجة القول القديم قوله تعالى فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والاستدلال به من وجهين أحدهما أن الكفارة لو كانت واجبة لذكرها الله ههنا لأن الحاجة ههنا داعية إلى معرفتها وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والثاني أنه تعالى كما لم يذكر وجوب الكفارة نبه على سقوطها بقوله فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والغفران يوجب ترك المؤاخذة وللأولين أن يجيبوا فيقولوا إنما ترك الكفارة ههنا لأنه تعالى بينها في القرآن وعلى لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سائر المواضع
أما قوله غَفُورٌ رَّحِيمٌ فهو يدل على عدم العقاب لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال إن وطئتك فعبدي حر أو أنت طالق أو ضرتك طالق أو ألزم أمراً في الذمة فقال إن وطئتك فلله علي عتق رقبة أو صدقة أو صوم أو حج أو صلاة فهل يكون مولياً للشافعي رضي الله عنه فيه قولان قال في القديم لا يكون مولياً وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله وأيضاً روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال من حلف فليحلف بالله فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله وقال في الجديد وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون مولياً لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقاً أو طلاقاً فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج وفيه أقوال أصحها أن عليه كفارة اليمين والثاني عليه الوفاء بما سمى والثالث أنه يتخير بين
كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون مولياً فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا لا يكون مولياً لا يضيق عليه الأمر
المسألة الثالثة اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول قول ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أبداً والثاني قول الحسن البصري وإسحق إن أي مدة حلف عليها كان مولياً وإن كانت يوماً وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم إنه لا يكون مواالياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة وهذه المدة تكون حقاً للزوج فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه وعن أبي حنيفة إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه حجة الشافعي من وجوه
الحجة الأولى أن الفاء في قوله فَانٍ فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخياً عن انقضاء الأربعة أشهر
فإن قيل ما ذكرتموه ممنوع لأن قوله فَانٍ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ تفصيل لقوله الَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ والتفصيل يعقب المفصل كما تقول أنا أنزل عندكم هذا الشهر فإن أكرمتموني بقيت معكم وإلا ترحلت عنكم
قلنا هذا ضعيف لأن قوله لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ هذه المدة يدل على الأمرين والفاء في قوله فَانٍ ورد عقيب ذكرهما فيكون هذا الحكم مشروعاً عقيب الإيلاء وعقيب حصول التربص في هذه المدة بخلاف المثال الذي ذكره وهو قوله أنا أنزل عندكم فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحلت لأن هناك الفاء متأخرة عن ذلك النزول أما ههنا فالفاء مذكورة عقيب ذكر الإيلاء وذكر التربص فلا بد وأن يكون ما دخل الفاء عليه واقعاً عقيب هذين الأمرين وهذا كلام ظاهر
الحجة الثانية للشافعي رضي الله عنه أن قوله رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج وعلى قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقع الطلاق بمضي المدة لا بإيقاع الزوج
فإن قيل الإيلاء الطلاق في نفسه فالمراد من قوله وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ الإيلاء المتقدم
قلنا هذا بعيد لأن قوله وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ لا بد وأن يكون معناه وإن عزم الذين يؤلون الطلاق فجعل المؤلى عازماً وهذا يقتضي أن يكون الإيلاء والعزم قد اجتمعا وأما الطلاق فهو متعلق العزم ومتعلق العزم متأخر عن العزم فإذاً الطلاق متأخر عن العزم لا محالة والإيلاء إما أن يكون مقارناً للعزم أو متقدماً وهذا يفيد القطع بأن الطلاق في هذه الآية مغاير لذلك الإيلاء وهذا كلام ظاهر
الحجة الثالثة أن قوله تعالى وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقتضي أن يصدر من الزوج شيء يكون مسموعاً وما ذاك إلا أن نقول تقدير الآية فإن عزموا الطلاق وطلقوا فإن الله سميع لكلامهم عليم بما في قلوبهم
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء
قلنا هذا يبعد لأن هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء بل إنما حصل على شيء حصل بعد الإيلاء وهو كلام غيره حتى يكون فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديداً عليه
الحجة الرابعة أن قوله تعالى فَانٍ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ ظاهره التخيير بين الأمرين وذلك يقتضي أن يكون وقت ثبوتهما واحداً وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك
الحجة الخامسة أن الإيلاء في نفسه ليس بطلاق بل هو حلف على الامتناع من الجماع مدة مخصوصة إلا أن الشرع ضرب مقداراً معلوماً من الزمان وذلك لأن الرجل قد يترك جماع المرأة مدة من الزمان لا بسبب المضارة وهذا إنما يكون إذا كان الزمان قصيراً فأما ترك الجماع زماناً طويلاً فلا يكون إلا عند قصد المضارة ولما كان الطول والقصر في هذا الباب أمراً غير مضبوط بين تعالى حداً فاصلاً بين القصير والطويل فعند حصول هذه تبين قصد المضارة وذلك لا يوجب ألبتة وقوع الطلاق بل اللائق بحكمة الشرع عند ظهور قصد المضارة أنه يؤمر إما بترك المضارة أو بتخليصها من قيد الإيلاء وهذا المعنى معتبر في الشرع كما قلنا في ضرب الأجل في مدة العنين وغيره حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن عبد الله بن مسعود قرأ فإن فاؤا فيهن
والجواب الصحيح أن القراءة الشاذة مردودة لأن كل ما كان قرآناً وجب أن يثبت بالتواتر فحيث لم يثبت بالتواتر قطعنا أنه ليس بقرآن وأولى الناس بهذا أبو حنيفة فإنه بهذا الحرف تمسك في أن التسمية ليست من القرآن وأيضاً فقد بينا أن الآية مشتملة على أمور ثلاثة دلت على أن هذه الفيئة لا تكون في المدة فالقراءة الشاذة لما كانت مخالفة لها وجب القطع بفسادها
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُو ءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَالِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة ٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ
قوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِمْ ثَلَاثَة َ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ
اعلم أنه تعالى ذكر في هذا الموضع أحكاماً كثيرة للطلاق
فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة اعلم أن المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع والعدة غير واجبة عليها بالإجماع وأما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون فإن لم تكن مدخولاً بها لم تجب العدة عليها قال الله تعالى إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ تَعْتَدُّونَهَا ( الأحزاب 49 ) وأما إن كانت مدخولاً بها فهي إما أن تكون حائلاً أو حاملاً فإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل لا بالإقراء قال الله تعالى وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( الطلاق 4 ) وأما إن كانت حائلاً فأما أن يكون الحيض ممكناً في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالإقراء قال الله تعالى وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وأما إذا كان الحيض في حقها ممكناً فإما أن تكون رقيقة وإما أن تكون حرة فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة أما إذا كانت المرأة منكوحة وكانت مطلقة بعد الدخول وكانت حائلاً وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالإقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث أنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب يقال في الثوب إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد أو حصل فيه بياض قليل فأما إذا كان الغالب عليه البياض وكان السواد قليلاً كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذباً فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصاً أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسماً واحداً فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى
والجواب أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها إنها مطلقة وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل وأما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالإقراء إنما يكون حيث تحصل الإقراء وهذان القسمان لم تحصل الإقراء في حقهما وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم
السؤال الثاني قوله يَتَرَبَّصْنَ لا شك أنه خبر والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافياً في المقصود لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم وعرف أنه مهماً انقضت هذه العدة حصل المقصود سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب الثاني قال صاحب ( الكشاف ) التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ونظيره قولهم في الدعاء رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها
السؤال الثالث لو قال يتربص المطلقات لكان ذلك جملة من فعل وفاعل فما الحكمة في ترك
ذلك وجعل المطلقات مبتدأ ثم قوله يتربص إسناد الفعل إلى الفاعل ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المبتدأ
الجواب قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب ( دلائل الإعجاز ) إنك إذا قدمت الاسم فقلت زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك فعل زيد وذلك لأن قولك زيد فعل يستعمل في أمرين أحدهما أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل كقولك أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان والمراد دعوى الإنسان الانفراد الثاني أن لا يكون المقصود ذلك بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل كقولهم هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ ( النحل 20 ) ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى وَإِذَا جَاءوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ( المائدة 61 ) وقول الشاعر هما يلبسان المجد أحسن لبسة
شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما
والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت عبد الله فقد أشعرت بأنك تريد الاخبار عنه فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة
السؤال الرابع هلا قيل يتربصن ثلاثة قروء كما قيل تَرَبُّصُ أَرْبَعَة ِ أَشْهُرٍ ( البقرة 226 ) وما الفائدة في ذكر الأنفس
الجواب في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص
السؤال الخامس لفظ أنفس جمع قلة مع أنهن نفوس كثيرة والقروء جمع كثرة فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة
والجواب أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية أو لعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الإقراء
السؤال السادس لم لم يقل ثلاث قروء كما يقال ثلاثة حيض
الجواب لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر فهذا ما يتعلق بالسؤالات في هذه الآية وبقى من الكلام في هذه الآية مسألة واحدة في حقيقة القروء فنقول القروء جمع قرء وقرء ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر قال أبو عبيدة الإقراء من الأضداد في كلام العرب والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعاً وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر ومنهم من عكس الأمر وقال قائلون إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول أن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي
وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي
والقول الثاني وهو قول أبي عبيد أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة
والقول الثالث وهو قول أبي عمرو بن العلاء أن القرء هو الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت وأقرأت إذا أفلت ويقال هذا قارىء الرياح لوقت هبوبها وأنشدوا للهذلي إذا هبت لقارئها الرياح
وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر لأن لكل واحد منهما وقتاً معيناً واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار روى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة والفقهاء السبعة ومالك وربيعة وأحمد رضي الله عنهم في رواية وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وإسحاق رضي الله عنهم وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر وعندهم أطول حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي من وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) ومعناه في وقت عدتهن لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن كما يقول لثلاث بقين من الشهر يريد مستقبلاً لثلاث وأقول هذا الكلام يقوى استدلال الشافعي رضي الله عنه لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه فكذا ههنا قوله فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه ولما كان الأمر حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة وذلك هو المطلوب
الحجة الثانية ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت هل تدرون الأقراء الأقراء الأطهار ثم قال الشافعي رضي الله عنه والنساء بهذا أعلم لأن هذا إنما يبتلي به النساء
الحجة الثالثة القرء عبارة عن الجمع يقال ما قرأت الناقة نسلاً قط أي ما جمعت في رحمها ولداً قط ومنه قول عمرو بن كلثوم هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال الأخفش يقال ما قرأت حيضة أي ما ضمت رحمها على حيضة وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء واقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب وسمي القرآن قرآناً لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه وقرأ القارىء أي جمع الحروف بعضها إلى بعض
إذا ثبت هذا فنقول وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم
قلنا الدماء لا تجتمع في الرحم ألبتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً في الدم آخر الطهر إذ لو تمتلىء بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين
الحجة الثالثة أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه وهو أقل ما يسمى بالإقراء الثلاثة وهي الأطهار لأن الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع
الحجة الرابعة أن ظاهر قوله تعالى عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء أن تخرج عن العهدة وكل واحد من الطهر ومن الحيض يسمى بهذا الاسم فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة وإذا كان كذلك كانت متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل وكل ما كان كذلك لم يكن واجباً فأذن الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب وذلك يقتضي أن لا يكون الاعتداد بمدة الحيض واجباً وهو المطلوب حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن في الشرع غلب استعمالها في الحيض لما روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) وإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكورة في القرآن إلى الحيض أولى
الحجة الثانية أن القول بأن الأقراء حيض يمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها لأن هذا القائل يقول إن المطلقة يلزمها تربص ثلاث حيض وإنما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثالثة ومن قال إنه طهر يجعلها خارجة من العدة بقرأين وبعض الثالث لأن عنده إذا طلقها في آخر الطهر تعتد بذلك قرءاً فإذا كان في أحد القولين تكمل الأقراء الثلاثة دون القول الآخر كان القول الأول أليق بالظاهر أجاب الشافعي رضي الله عنه عن ذلك أن الله قال الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( الحج 197 ) والأشهر جمع وأقله ثلاثة ثم إنا حملنا الآية على شهرين وبعض الثالث وذلك هو شوال وذو القعدة وبعض ذو الحجة فكذا ههنا جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين وبعض طهر أجاب الجبائي من شيوخ المعتزلة عن هذا الجواب من وجهين الأول أنا تركنا الظاهر في تلك الآية لدليل فلم يلزمنا أن نترك الظاهر ههنا من غير دليل والثاني أن في
العدة تربصاً متصلاً فلا بد من استيفاء الثلاثة وليس كذلك أشهر الحج لأنه ليس فيها فعل متصل فكأنه قيل هذه الأشهر وقت الحج لا على سبيل الإستغراق وإجاب المتأخرون من أصحابنا عن هذه الحجة من وجهين الأول كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب النقصان عن الثلاثة فحمله على الحيض يوجب الزيادة لأنه إذا طلقها في أثناء الطهر كان ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة فتحصل الزيادة وعذرهم عنه أن هذه لا بد من تحملها لأجل الضرورة لأنه لو جاز الطلاق في الحيض لأمرناه بالطلاق في آخر الحيض حتى تعتد بأطهار كاملة وإذا اختص الطلاق بالطاهر صارت تلك الزيادة متحملة للضرورة فنحن أيضاً نقول لما صارت الأقراء مفسرة بالأطهار والله تعالى أمرنا بالطلاق في الطهر صار تقدير الآية يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار طهر الطلاق فيه
والوجه الثاني في الجواب أنا بينا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنما يحصل في آخر الطهر قرءاً تاماً وعلى هذا التقدير لم يلزم دخول النقصان في شيء من القرء
الحجة الثالثة لهم أنه تعالى نقل إلى الشهور عند عدم الحيض فقال وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ ( الطلاق 4 ) فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأيضاً لما كان الأشهر شرعت بدلاً عن الأقراء والبدل يعتبر بتمامها فإن الأشهر لا بد من إتمامها وجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل فلا بد وأن تكون الأقراء الكاملة هي الحيض أما الأطهار فالواجب فيها قرءان وبعض
الحجة الرابعة لهم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ) وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض
الحجة الخامسة أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة فكذا العدة تكون بالحيضة لأن المقصود من الاستبراء والعدة شيء واحد
الحجة السادسة لهم أن الغرض الأصلي في العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر فوجب أن يكون المعتبر هو الحيض دون الطهر
الحجة السابعة لهم أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض فحينئذ يحرم للغير التزوج بها وإن جعلنا القرء طهراً فحينئذ يحل للغير التزوج بها وجانب التحريم أولى بالرعاية لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال ) ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط فكان أولى لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فهذا جملة الوجوه في هذا الباب
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه
أما قوله تعالى وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى علم ذلك
للرجال متعذراً جعلت المرأة أمينة في العدة وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوماً وساعة لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة ثم حاضت يوماً وليلة وهو أقل الحيض ثم طهرت خمسة عشر يوماً وهو أقل الطهر مرة أخرى يوماً وليلة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأيت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت أنها أسقطت كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها
واعلم أن للمفسرين في قوله مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ ثلاثة أقوال الأول أنه الحبل والحيض معاً وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زماناً من انقضاء عدتها بوضع الحمل فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزوج الأول وربما أحبت التزوج بزوج آخر أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني فلهذه الأغراض تكتم الحبل وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول وقد تحب تقصير عتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولاً فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها فثبت أنه كما أن لها غرضاً في كتمان الحبل فكذلك في كتمان الحيض فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين
القول الثاني أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء وثانيها أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها أن حمل قوله تعالى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ على الولد الذي هو جوهر شريف أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح فوجب حمل اللفظ على الكل
القول الثالث المراد هو النهي عن كتمان الحيض لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الإقراء ولم يتقدم ذكر الحمل وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم
أما قوله تعالى إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم إن كنت مؤمناً فلا تظلم تريد إن كنت مؤمناً فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء وهو كما قال في الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) وقال فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ( البقرة 283 ) والآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد
قوله تعالى
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم
اعلم أن هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية وفي البعولة قولان أحدهما أنه جمع بعل كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب فلا يقال في كعب كعوبه ولا في كلب كلابة واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان كما أنهما زوجان وأصل البعل السيد المالك فيما قيل يقال من بعل هذه الناقة كما يقال من ربها وبعل اسم صنم كانوا يتخدونه رباً وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسودد
القول الثاني أن العبولة مصدر يقال بعل الرجل يبعل بعولة إذا صار بعلاً وباعل الرجل امرأته إذا جامعها وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في أيام التشريق ( أنها أيام أكل وشرب وبعال ) وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ومنه الحديث ( إذا أحسنتن ببعل أزواجكن ) وعلى هذا الوجه كان معنى الآية وأهل بعولتهن
وأما قوله أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ فالمعنى أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص وههنا سؤالات
السؤال الأول ما فائدة قوله أَحَقُّ مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك
الجواب من وجهين الأول أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ كان تقدير الكلام فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر فبين أن الزوج الأول أحق منه وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة الثاني إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة
السؤال الثاني ما معنى الرد
الجواب يقال رددته أي رجعته قال تعالى في موضع وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى ( الكهف 36 ) وفي موضع آخر وَلَئِن رُّجّعْتُ
السؤال الثالث ما معنى الرد في المطلقة الرجعية وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت
الجواب أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك فلا جرم سميت الرجعة رداً لا سيما ومذهب
الشافعي رضي الله عنه أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة ففي الرد على مذهبه شيئان أحدهما ردها من التربص إلى خلافه الثاني ردها من الحرمة إلى الحل
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله تعالى فِي ذالِكَ
الجواب أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة
أما قوله تعالى إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً فالمعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة ونظيره قوله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ ( البقرة 231 ) والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة فنهوا عن ذلك وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح وهو قوله إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً
فإن قيل إن كلمة ءانٍ للشرط والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه فيلزم إذا لم توجد أرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة
والجواب أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم
أما قوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ فاعلم أنه تعالى لما بين أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقاً على الآخر
واعلم أن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعياً حق الآخر وتلك الحقوق المشتركة كثيرة ونحن نشير إلى بعضها فأحدها أن الزوج كالأمير والراعي والزوجة كالمأمور والرعية فيجب على الزوج بسبب كونه أميراً وراعياً أن يقوم بحقها ومصالحها ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج وثانيها روي عن ابن عباس أنه قال ( إني لأتزين لأمرأتي كما تتزين لي ) لقوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ وثالثها ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن وهذا أوفق لمقدمة الآية
أما قوله تعالى وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة ٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال رجل بين الرجلة أي القوة وهو أرجل الرجلين أي أقواهما وفرس رجيل قوي على المشي والرجل معروف لقوته على المشي وارتجل الكلام أي قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية وترجل النهار قوي ضياؤه وأما الدرجة فهي المنزلة وأصلها من درجت الشيء أدرجه درجاً وأدرجته إدراجاً إذا طويته ودرج القوم قرناً بعد قرن أي فنوا ومعناه أنهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً والمدرجة قارعة الطريق لأنها تطوي منزلاً بعد منزل والدرجة المنزلة من منازل الطريق ومنه الدرجة التي يرتقي فيها
المسألة الثانية اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمر معلوم إلا أن ذكره ههنا يحتمل وجهين الأول أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها العقل والثاني في الدية والثالث في المواريث والرابع في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة والخامس له أن يتزوج عليها وأن يتسرى عليها وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج والسادس أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه والسابع أن الزوج قادر على تطليقها وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها شاءت المرأة أم أبت أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضاً على أن تمنع الزوج من المراجعة والثامن أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان ) وفي خبر آخر اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن أكثر فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح واستحقاقه للزجر أشد
والوجه الثاني أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال إن نصيب المرأة فيها أوفر ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها عن مواقع الآفات فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوباً رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ( النساء 34 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ) ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي غالب لا يمنع مصيب أحكامه وأفعاله لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
قوله تعالى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
اعلم أن هذا هو الحكم الثالث من أحكام الطلاق وهو الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له فجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك فذكرت عائشة رضي الله عنها ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل قوله تعالى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
المسألة الثانية اختلف المفسرون في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله قال قوم إنه حكم مبتدأ ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال
دفعة واحدة وهذا التفسير هو قول من قال الجمع بين الثلاث حرام وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة
والقول الأول في تفسير الآية أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه
حجة القائلين بالقول الأول أن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق فصار تقدير الآية كل الطلاق مرتان ومرة ثالثة ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع
فإن قيل هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون وعندي الجمع مباح لا مسنون
قلنا ليس في الآية بيان صفة السنة بل كان تفسير الأصل الطلاق ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أن معناه هو الأمر أي طلقوا مرتين يعني دفعتين وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين الأول وهو اختيار كثير من علماء الدين أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثاً لا يقع إلا الواحدة وهذا القول هو الأقيس لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة والقول بالوقوع سعى في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز فوجب أن يحكم بعدم الوقوع
والقول الثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد
القول الثالث في تفسير هذه الآية أن نقول أنها ليست كلاماً مبتدأ بل هي متعلقة بما قبلها وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت ألبتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله الطلاق للمعهود السابق يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه الأول أن قوله وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ( البقرة 228 ) إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص وإن لم يكن عاماً فهو مجمل لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة فيكون مفتقراً إلى البيان فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة بما قبلها كان المخصص حاصلاً مع العام المخصوص أو كان البيان حاصلاً مع المجمل وذلك أولى من أن لا يكون كذلك لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزاً إلا أن الأرجح أن لا يتأخر
الحجة الثانية إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ كان قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع لا يقال إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة وهو قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فصار تقدير الآية الطلاق مرتان ومرة لأنا نقول إن قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ متعلق بقوله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ لا بقوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز
الحجة الثالثة ما روينا في سبب نزول هذه الآية إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيراً بسبب المضارة وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجاً عن عموم الآية فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه
أما قوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى الإمساك خلاف الإطلاق والمساك والمسكة اسمان منه يقال إنه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلاً قال الفراء يقال إنه ليس بمساك غلمانه وفيه مساكة من جبر أي قوة وأما التسريح فهو الإرسال وتسريح الشعر تخليصك بعضه من بعض وسرح الماشية إذا أرسلها ترعى
المسألة الثانية تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج هو أن يوجد مرتان ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح والإنفاع وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن توقع عليها الطلقة الثالثة روى أنه لما نزل قوله تعالى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ قيل له ( صلى الله عليه وسلم ) فأين الثالثة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هو قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ والثاني أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة وهو مروي عن الضحاك والسدي
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها أن الفاء في قوله فَإِن طَلَّقَهَا ( البقرة 230 ) تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أو يطلقها وهو المراد بقوله فَإِن طَلَّقَهَا فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقاً آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها أنه قال بعد ذكر التسريح وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا والمراد به الخلع ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه
واعلم أن المراد من الإحسان هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها
المسألة الثالثة الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده
قوله تعالى وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا
واعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقروناً بالإحسان بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها وذلك لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها فلا يجوز أن يأخذ منها شيئاً ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ ( النساء 19 خ وقوله ههنا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ هو كقوله هناك إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق ونظيره قوله تعالى لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ( الطلاق 1 ) فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضاً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( النساء 20 ) فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء
فإن قيل لمن الخطاب في قوله وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئاً
قلنا الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطاباً للأزواج وآخرها خطاباً للأئمة والحكام وذلك غير غريب في القرآن ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ
والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فاعلم أنه تعالى لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئاً استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب فأنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت فرق بيني وبينه فإني أبغضه ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً وأشدهم سواداً وإني أكره الكفر بعد الإسلام فقال ثابتٍ يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها فقال لها ما تقولين قالت نعم وأزيده فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا حديقته فقط ثم قال لثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية
المسألة الثانية اختفلوا في أن قوله تعالى إلا أن يخافا هو استثناء متصل أو منقطع وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية وهي أن أكثر المجتهدين قالوا يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب وقال الأزهري والنخعي وداود لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئاً ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف وأما جمهور المجتهدين فقالوا الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى وأما كلمة إِلا فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( النساء 92 ) أي لكن إن كان خطأ مّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ ( النساء 92 )
المسألة الثالثة الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف وهو الإشفاق مما يكره وقوعه ويمكن حمله على الظن وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره قد خرج غلامك بغير إذنك فتقول قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته وأنشد الفراء إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكذ هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ( البقرة 230 )
المسألة الرابعة اعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة ولا بد ههنا من مزيد بحث فنقول الأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة فقط أو من قبل الزوج فقط أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما أو يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً
أما القسم الأول وهو أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لها الخلع ولثابت الأخذ
فإن قيل فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معاً فكيف قلتم إنه يكفي حصول الخوف منها فقط
قلنا سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلاً لهما جميعاً فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه أو لمرض منفر منه وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج ويكون الزوج خائفاً من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها
القسم الثاني أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط بأن يضربها ويؤذيها حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية وبدليل سائر الآيات كقوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ إلى قوله أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ( النساء 19 20 ) وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال
القسم الثالث أن لا يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل الزوج ولا من قبل الزوجة وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين أن هذا الخلع جائز والمال المأخوذ حلال وقال قوم إنه حرام
القسم الرابع أن يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً فهذا المال حرام أيضاً لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلاً من قبل الزوج وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا الآية ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة واعلم أن هذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء
المسألة الخامسة قرأ حمزة إِلاَّ أَن يَخَافَا بضم الياء والباقون بفتحها قال صاحب ( الكشاف ) وجه قراءة حمزة إبدال أن لا يقيما من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال كقولك خيف زيد تركه إقامة حدود الله وهذا المعنى متأكد بقراءة عبد الله إِلا أَنْ يَخَافُواْ وبقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ ولم يقل خافا فجعل الخوف لغيرهما وجه قراءة العامة إضافة الخوف إليهما على ما بينا أن المرأة تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أنها إن لم تطعه يعتدي عليها
المسألة السادسة اختلفوا في قدر ما يجوز وقوع الخلع به فقال الشعبي والزهري والحسن البصري وعطاء وطاوس لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سعيد بن المسيب بل ما دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له وأما سائر الفقهاء فإنهم جوزوا المخالعة بالأزيد والأقل والمساوي واحتج الأولون بالقرآن والخبر والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ثم قال بعد ذلك فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله تعالى إلا قدر ما آتاها من المهر وأما الخبر روينا أن ثابتاً لما طلب من جميلة أن ترد عليه حديقته فقالت جميلة وأزيده فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا حديقته فقط ولو كان الخلع بالزائد جائزاً لما جاز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يمنعها منه وأما القياس فهو أنه استباح بعضها فلو أخذ منها أزيد مما دفع إليها لكان ذلك إجحافاً بجانب المرأة وإلحاقاً للضرر بها وأنه غير جائز وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا الخلع عقد معاوضة فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين فكما أن للمرأة أن لا ترضى عند النكاح إلا بالصداق الكثير فكذا للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته ويتأكد هذا بما روي أن عمر رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحبسها في بيت الزبل ليلتين ثم قال لها كيف حالك فقالت ما بت أطيب من هاتين الليلتين فقال عمر اخلعها ولو بقرطها والمراد اخلعها حتى بقرطها وعن ابن عمر أنه جاءته امرأة قد اختلعت من زوجها بكل شيء وبكل ثوب عليها إلا درعها فلم ينكر عليها
المسألة الرابعة الخلع تطليقة بائنة وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري وهو قول أبي حنيفة وسفيان وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنهم وقال ابن عباس وطاوس وعكرمة رضي الله عنهم إنه فسخ للعقد وهو القول الثاني للشافعي وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور
( حجة من قال إنه طلاق ) أن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق فإذا بطل كونه فسخاً ثبت أنه طلاق وإنما قلنا إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع وأيضاً لو كان الخلع فسخاً فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق
حجة من قال إنه ليس بطلاق وجوه
الحجة الأولى أنه تعالى قال فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثم ذكر الطلاق فقال فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس
الحجة الثانية وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام فلو كان الخلع طلاقاً لكان يجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستكشف الحال في ذلك فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً دل على أن الخلع ليس بطلاق
الحجة الثالثة روى أبو داود في ( سننه ) عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت
منه جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدتها حيضة قال الخطابي وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق لأن الله تعالى قال وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء ( البقرة 228 ) فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد
أما قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع فَلاَ تَعْتَدُوهَا أي فلا تتجاوزوا عنها ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد فقال وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه وجوه أحدها أنه تعالى ذكره في سائر الآيات أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) فذكر الظلم ههنا تنبيهاً على حصول اللعن وثانيها أن الظالم اسم ذم وتحقير فوقوع هذا الاسم يكون جارياً مجرى الوعيد وثالثها أنه أطلق لفظ الظلم تنبيهاً على أنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية وظلم أيضاً للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة ففي كل هذه المواضع يكون ظالماً للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالماً لنفسه وظالماً لغيره وفيه أعظم التهديدات
فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين قالوا إن قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 229 ) إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله فَإِن طَلَّقَهَا تفسير لقوله تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وهذا قول مجاهد إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ الطلقة الثالثة وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالاً ثلاثة أحدها أن يراجعها وهو المراد بقوله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( البقرة 229 ) والثاني أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ والثالث أن يطلقها طلقة ثالثة وهو المراد بقوله فَإِن طَلَّقَهَا فإذا كانت الأقسام ثلاثة والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة فأما إن جعلنا قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار وأهملنا القسم الثالث ومعلوم أن الأول أولى
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي ونظم الآية الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
فإن قيل فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين
قلنا السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة ثم أتبعه بحكم الخلع ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط تعتد منه وتعقد للثاني ويطؤها ثم يطلقها ثم تعتد منه وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب تحل بمجرد العقد واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة أو بالكتاب قال أبو مسلم الأصفهاني الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار
وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة قال عثمان بن جني سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة فقال فرقت العرب بالاستعمال فإذا قالوا نكح فلان فلانة أرادوا أنه عقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة وأقول هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين فإذا قيل نكح فلان زوجته فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته ثم الزوجة ليست اسماً لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسماً لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب
إذا ثبت هذا فنقول إذا قلنا نكح فلان زوجته فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة تقدم المفرد على المركب وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية إذا ثبت هذا كان قوله حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية فكل من قال بذلك قال إنه الوطء فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء فقوله تَنْكِحَ يدل على الوطء وقوله زَوْجًا يدل على العقد وأما قول من يقول إن الآية غير دالة على الوطء وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية وهي قوله حَتَّى تَنْكِحَ وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز أما إذا حملنا النكاح على الوطء وحملنا قوله زَوْجًا على العقد لم يلزم هذا الإشكال وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها فطلقها ثلاثاً فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثواب وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت إن زوجي مسني فكذبها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر فلبثت حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتت أبا بكر فاستأذنت فقال لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك وفي قصة
رفاعة نزل قوله فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعاً وزاجراً
المسألة الثانية قال الشافعي إذا طلق زوجته واحدة أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر وأصابها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت له من الطلقات الأولى وقال أبو حنيفة بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث حجة الشافعي أن هذه طلقة ثالثة فوجب أن تحصل الحرمة الغليظة إنما قلنا إنها طلقة ثالثة لأنها طلقة وجدت بعد الطلقتين والطلقة الثالثة موجبة للحرمة الغليظة لقوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ الآية وقوله فَإِن طَلَّقَهَا أعم من أن يطلقها الطلقة الثالثة مسبوقاً بنكاح غيره أو غير مسبوق بنكاح غيره فكان الكل داخلاً فيه
المسألة الرابعة مذهب الشافعي رضي الله عنه إذا تزوج بالمطلقة ثلاثاً للغير على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا نكاح متعة بأجل مجهول وهو باطل ولو تزوجها بشرط أن لا يطلقها إذا أحلها للأول ففيه قولان أحدهما لا يصح والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة ولو تزوجها مطلقاً معتقداً بأنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به وقال مالك والثوري وأحمد هذا النكاح باطل دليلنا أن الآية تدل على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد وقد وجدت فوجب القول بانتهاء الحرمة وحيث حكمنا بفساد النكاح فوطئها هل يقع به التحليل قولان والأصح أنه لا يقع به التحليل
أما قوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فالمعنى إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي بقي في الآية مسألتان
المسألة الأولى ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول إلا أنه مخصوص بقوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء ( البقرة 228 ) لأن المقصود من العدة استبراء الرحم وهذا المعنى حاصل ههنا وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة وهذه الآية تدل على سقوط العدة لأن الفاء في قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا
المسألة الثانية قال الخليل والكسائي موضع أَن يَتَرَاجَعَا خفض بإضمار الخافض تقديره في أن يتراجعا وقال الفراء موضعه نصب بنزع الخافض
أما قوله تعالى إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال كثير من المفسرين إِن ظَنَّا أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد والثاني أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه والثالث أنه بمنزلة قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً ( البقرة 228 ) فإن المعتبر هناك الظن فكذا ههنا وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن أي متى حصل هذا الظن وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم
المسألة الثانية كلمة ءانٍ في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة لكنه ليس الأمر كذلك فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره ثم قال بعد ذلك وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما بينها من التكاليف وقوله يُبَيّنُهَا إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كقوله تعالى لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 )
المسألة الثانية قرأ عاصم في رواية أبان نبينها بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى
والمسألة الثالثة إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه أحدها أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به وهو كقوله فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والثاني أنه خصهم بالذكر كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) والثالث يعني به العرب لعلمهم باللسان والرابع يريد من له عقل وعلم كقوله وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ( العنكبوت 43 ) والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلاً عالماً بما يكلفه لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف والخامس أن قوله تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أول ما يجب تقديمه في هذه الآية أن لقائل أن يقول لا فرق بين هذه الآية وبين قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 229 ) فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريراً لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز
والجواب أما أصحاب أبي حنيفة فهم الذين حملوا قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع وإنما المشروع هو التفريق فهذا السؤال ساقط عنهم لأن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة وأما أصحاب الشافعي رحمهم الله وهم الذين حملوا تلك الآية على كيفية الرجعة فهذا السؤال وارد عليهم ولهم أن يقولوا إن من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وههنا كذلك وذلك لأن قوله الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 229 ) فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيهاً على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالاً على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها
المسألة الثانية قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إشارة إلى المراجعة واختلف العلماء في كيفية المراجعة فقال الشافعي رضي الله عنه لما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام لم تكن الرجعة إلا بكلام وقال أبو حنيفة والثوري رضي الله عنهما تصح الرجعة بالوطء وقال مالك رضي الله عنه إن نوى الرجعة بالوطء كانت رجعة وإلا فلا
حجة الشافعي رضي الله عنه ما روى أن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ( مره فليراجعها ثم ليمسكها ) حتى تطهر أمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمراجعة مطلقاً وقيل درجات الأمر الجواز فنقول إنه كان مأذوناً بالمراجعة في زمان الحيض وما كان مأذوناً بالوطء في زمان الحيض فيلزم أن لا يكون الوطء رجعة وحجة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه تعالى قال فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أمر بمجرد الإمساك وإذا وطئها فقد أمسكها فوجب أن يكون كافياً أما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه لما قال إنه لا بد من الكلام فظاهر مذهبه أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا يجب وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما وقال في ( الإملاء ) هو واجب وهو اختيار
محمد بن جرير الطبري والحجة فيه قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا يكون معروفاً إلا إذا عرفه الغير وأجمعنا على أنه لا يجب عرفان غير الشاهد فوجب أن يكون عرفان الشاهد واجباً وأجاب الأولون بأن المراد بالمعروف هو المراعاة وإيصال الخير لا ما ذكرتم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إنه تعالى أثبت عند بلوغ الأجل حق المراجعة وبلوغ الأجل عبارة عن انقضاء العدة وعند انقضاء العدة لا يثبت حق المراجعة
والجواب من وجهين أحدهما المراد ببلوغ الأجل مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ وبالجملة فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر وهو كقول الرجل إذا قارب البلد قد بلغنا الثاني أن الأجل اسم للزمان فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة إليه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة الرجعة وعلى هذا التأويل فلا حاجة بنا إلى المجاز
أما قوله تعالى وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول فلا فرق بين أن يقول فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وبين قوله وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار
والجواب الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة فلا يتناول كل الأوقات أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات فلعله يمسكها بمعروف في الحال ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل فلما قال تعالى وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات
المسألة الثانية قال القفال الضرار هو المضارة قال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا ( التوبة 107 ) أي اتخذوا المسجد ضراراً ليضاروا المؤمنين ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها أحدها ما روي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها وهكذا يفعل بها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر والثاني في تفسير الضرار سوء العشرة والثالث تضييق النفقة واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها
أما قوله تعالى لّتَعْتَدُواْ ففيه وجهان الأول المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك وهو كقوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) أي فكان لهم وهي لام العاقبة والثاني أن يكون المعنى لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فحينئذٍ تصيرون عصاة الله وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي
أما قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ففيه وجوه أحدها ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وثانيها ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه
أما قوله تعالى وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ففيه وجوه الأول أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب
نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها كان كالمستهزىء بها وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة وثانيها المراد ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث والثالث قال أبو الدرداء كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول طلقت وأنا لاعب ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( من طلق أو حرر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جد ) والرابع قال عطاء المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله كان كالمستهزىء بآيات الله تعالى والأقرب هو الوجه الأول لأن قوله وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا تهديد والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديداً على تركها لا على شيء آخر غيرها واعلم أنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم فبدأ أولاً بذكرها على سبيل الإجمال فقال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا فقال وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ أي في أوامره كلها ولا تخالفوه في نواهيه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو الحكم السادس من أحكام الطلاق وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول الآية وجهان الأول روى أن معقل بن يسار زوج أخته جميل بن عبد الله بن عاصم فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم ندم فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك فقال لها معقل إنه طلقك ثم تريدين مراجعته وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معقل بن يسار وتلا عليه هذه الآية فقال معقل رغم أني لأمر ربي اللهم رضيت وسلمت لأمرك وأنكح أخته زوجها والثاني روي عن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فأنزل الله تعالى هذه الآية وكان جابر يقول في نزلت هذه الآية
المسألة الثانية العضل المنع يقال عضل فلان ابنته إذا منعها من التزوج فهو يعضلها ويعضلها بضم الضاد وبكسرها وأنشد الأخفش وإن قصائدي لك فاصطنعني
كرائم قد عضلن عن النكاح
وأصل العضل في اللغة الضيق يقال عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها وكذلك عضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت لهم لكثرتهم قال أوس بن حجر ترى الأرض منا بالفضاء مريضة
معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل المريض الأطباء أي أعياهم وسميت العضلة عضلة لأن القوى المحركة منشؤها منها ويقال داء عضال للأمر إذا اشتد ومنه قول أوس وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمك إن ولى ويرضيك مقبلاً
ولكنه النائي إذا كنت آمنا
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في أن قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ خطاب لمن فقال الأكثرون إنه خطاب للأولياء وقال بعضهم إنه خطاب للأزواج وهذا هو المختار الذي يدل عليه أن قوله تعالى وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء فالشرط قوله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ والجزاء قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ولا شك أن الشرط وهو قوله وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء خطاب مع الأزواج فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ خطاباً معهم أيضاً إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحيئنذٍ لا يكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلاً وذلك يوجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله عن مثله واجب فهذا كلام قوي متين في تقرير هذا القول ثم إنه يتأكد بوجهين آخرين الأول أن من أول آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كله مع الأزواج والبتة ما جرى للأولياء ذكر فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم والثاني ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة فإذا جعلنا هذه الآية خطاباً لهم في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدة كان الكلام منتظماً والترتيب مستقيماً أما إذا جعلناه خطاباً للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى
حجة من قال الآية خطاب للأولياء وجوه الأول وهو عمدتهم الكبرى أن الروايات المشهورة في سبب نزول الآية دالة على أن هذه الآية خطاب مع الأولياء لا مع الأزواج ويمكن أن يجاب عنه بأنه لما وقع التعارض بين هذه الحجة وبين الحجة التي ذكرناها كانت الحجة التي ذكرناها أولى بالرعاية لأن المحافظة على نظم الكلام أولى من المحافظة على خبر الواحد وأيضاً فلأن الروايات متعارضة فروي عن معقل أنه كان يقول إن هذه الآية لو كانت خطاباً مع الأزواج لكانت إما أن تكون خطاباً قبل انقضاء العدة أو مع انقضائها والأول باطل لأن ذلك مستفاد من الآية فلو حملنا هذه الآية على مثل ذلك المعنى كان تكراراً من غير فائدة وأيضاً فقد قال تعالى لا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ فنهى
عن العضل حال حصول التراضي ولا يحصل التراضي بالنكاح إلا بعد التصريح بالخطبة ولا يجوز التصريح بالخطبة إلا بعد انقضاء العدة قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ( البقرة 235 ) والثاني أيضاً باطل لأن بعد انقضاء العدة ليس للزوج قدرة على عضل المرأة فكيف يصرف هذا النهي إليه ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل قد يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة بعد انقضاء عدنها وتلحقه الغيرة إذا رأى من يخطبها وحينئذٍ يعضلها عن أن ينكحها غيره إما بأن يجحد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد أو يسيء القول فيها وذلك بأن ينسبها إلى أمور تنفر الرجل عن الرغبة فيها فالله تعالى نهى الأزواج عن هذه الأفعال وعرفهم أن ترك هذه الأفعال أزكى لهم وأطهر من دنس الآثام
الحجة الثالثة لهم قالوا قوله تعالى أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ معناه ولا تمنعوهن من أن ينكحن الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك وهذا الكلام لا ينتظم إلا إذا جعلنا الآية خطاباً للأولياء لأنهم كانوا يمنعونهن من العود إلى الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك فأما إذا جعلنا الآية خطاباً للأزواج فهذا الكلام لا يصح ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قوله يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ من يريدون أن يتزوجوهن فيكونون أزواجاً والعرب قد تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه فهذا جملة الكلام في هذا الباب
المسألة الرابعة تمسك الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولي لا يجوز وبنى ذلك الاستدلال على أن الخطاب في هذه الآية مع الأولياء قال وإذا ثبت هذا وجب أن يكون التزويج إلى الأولياء لا إلى النساء لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل عن العضل وحيث نهاه عن العضل كان قادراً على العضل وإذا كان الولي قادراً على العضل وجب أن لا تكون المرأة متمكنة من النكاح واعلم أن هذا الاستدلال بناءً على أن هذا الخطاب مع الأولياء وقد تقدم ما فيه من المباحث ثم إن سلمنا هذه المقدمة لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أن يخليها ورأيها في ذلك وذلك لأن الغالب في النساء الأيامى أن يركن إلى رأي الأولياء في باب النكاح وإن كان الاستئذان الشرعي لهن وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم وحينئذٍ يكونون متمكنين من منعهن لتمكنهم من تزويجهن فيكون النهي محمولاً على هذا الوجه وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل لا يبقى لعضله أثر وعلى هذا الوجه فصدور العضل عنه غير معتبر وتمسك أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ على أن النكاح بغير ولي جائز وقال إنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره ونهى الولي عن منعها من ذلك ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه قالوا وهذا النص متأكد بقوله تعالى حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) وبقوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 234 ) وترويجها نفسها من الكفء فعل بالمعروف فوجب أن يصح وحقيقة هذه الإضافة على المباشر دون الخطاب وأيضاً قوله تعالى وَامْرَأَة ً مُّؤْمِنَة ً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى ّ إِنْ أَرَادَ النَّبِى ُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ( الأحزاب 250 ) دليل واضح مع أنه لم يحضر هناك ولي البتة وأجاب أصحابنا بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر قد يضاف أيضاً إلى المتسبب
يقال بنى الأمير داراً وضرب ديناراً وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح
المسألة الخامسة قوله تعالى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ محمول في هذه الآية على انقضاء العدة قال الشافعي رضي الله عنه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين ومعنى هذا الكلام أنه تعالى قال في الآية السابقة فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولو كانت عدتها قد انقضت لما قال فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لأن إمساكها بعد انقضاء العدة لا يجوز ولما قال أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ لأنها بعد انقضاء العدة تكون مسرحة فلا حاجة إلى تسريحها وأما هذه الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزوج بالأزواج وهذا النهي إنما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوج فيه بالأزواج وذلك إنما يكون بعد انقضاء العدة فهذا هو المراد من قول الشافعي رضي الله عنه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين
أما قوله تعالى إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ففيه مسائل
المسألة الأولى في التراضي وجهان أحدهما ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز وشهود عدول وثانيها أن المراد منه ما يضاد ما ذكرناه في قوله تعالى وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ ( البقرة 231 ) فيكون معنى الآية أن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه حتى تحصل الصحبة الجميلة وتدوم الألفة
المسألة الثانية قال بعضهم التراضي بالمعروف هو مهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية وهي أنها إذا زوجت نفسها ونقصت عن مهر مثلها نقصاناً فاحشاً فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة وللولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر وقال أبو يوسف ومحمد ليس للولي ذلك
حجة أبي حنيفة رحمه الله في هذه الآية هو قوله تعالى إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ وأيضاً أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء لأن الأولياء يتضررون بذلك لأنهم يعيرون بقلة المهور ويتفاخرون بكثرتها ولهذا يكتمون المهر القليل حياء ويظهرون المهر الكثير رياء وأيضاً فإن نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك وينوبوا عن نساء العشيرة ثم أنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد فقال ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وذلك لأن من حق الوعظ أن يتضمن التحذير من المخالفة كما يتضمن الترغيب في الموافقة فكانت الآية تهديداً من هذا الوجه
وفي الآية سؤالان
السؤال الأول لم وحد الكاف في قوله تعالى ذالِكَ مع أنه يخاطب جماعة
والجواب هذا جائز في اللغة والتثنية أيضاً جائزة والقرآن نزل باللغتين جميعاً قال تعالى ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى ( يوسف 37 ) وقال فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ ( يوسف 32 ) وقال يُوعَظُ بِهِ وقال أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ ( الأعراف 22 )
السؤال الثاني لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم
الجواب لوجوه أحدها لما كان المؤمن هو المنتفع به حسن تخصيصه به كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وهو هدى للكل كما قال هُدًى لّلنَّاسِ وقال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( يس 11 ) مع أنه كان منذراً للكل كما قال لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 ) وثانيها احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين قالوا والدليل عليه أن قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من بيان الأحكام فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) وثالثها أن بيان الأحكام وإن كان عاماً في حق المكلفين إلا أن كون ذلك البيان وعظاً مختص بالمؤمنين لأن هذه التكاليف إنما توجب على الكفار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها فإنها إنما تذكر له وتشرح له على سبيل التنبيه والتحذير ثم قال ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يقال زكا الزرع إذا نما فقوله أَزْكَى لَكُمْ إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم وقوله وَأَطْهَرُ إشارة إلى إزالة الذنوب والمعاصي التي يكون حصولها سبباً لحصول العقاب ثم قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ والمعنى أن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة إلا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير لأنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات فلما كان كذلك صح أن يقول وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ويجوز أن يراد به والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد
الحكم الثاني عشر
في الرضاع
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ
اعلم أن في قوله تعالى وَالْوالِداتُ ثلاثة أقوال الأول أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات سواء كن مزوجات أو مطلقات والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه
والقول الثاني المراد منه الوالدات المطلقات قالوا والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان أحدها أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهراً وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق والثاني أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم فقال وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ والمراد المطلقات
الحجة الثانية لهم ما ذكره السدي قال المراد بالوالدات المطلقات لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه فلم يجب تعلقها بما قبلها وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق المرأة قدراً من المال لمكان الزوجية وقدراً آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين
القول الثالث قال الواحدي في ( البسيط ) الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة
فإن قيل إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع
قلنا النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع هذا كله كلام الواحدي رحمه الله
أما قوله تعالى يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبراً إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين الأول تقدير الآية والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه والثاني أن يكون معنى يرضعن ليرضعن إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام
المسألة الثانية هذا الأمر ليس أمر إيجاب ويدل عليه وجهان الأول قوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن ( الطلاق 6 ) ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني أنه تعالى قال بعد ذلك وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( الطلاق 6 ) وهذا نص صريح ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ( البقرة 233 ) والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع فلو كان الإرضاع واجباً عليها لما وجب ذلك وفيه البحث الذي قدمناه إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال
في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم أو لا يرضع الطفل إلا منها فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام
أما قوله تعالى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين وإنما أقام حولاً وبعض الآخر ويقولون اليوم يومان مذ لم أره وإنما يعنون يوماً وبعض اليوم الآخر
المسألة الثانية اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى قال بعد ذلك لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني أنه تعالى قال فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار بل فيه وجوه الأول وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك
الوجه الثاني في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكماً خاصاً في الشريعة وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه مدة الرضاع ثلاثون شهراً
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى أنه ليس المقصود من قوله لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة
الحجة الثانية روي عن علي رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا رضاع بعد فصال ) وقال تعالى وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ ( لقمان 14 )
الحجة الثالثة ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين )
والوجه الثالث في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً وقال آخرون الحولان هذا
الحد في رضاع كل مولود وحجة ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى قال وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( الأحقاف 15 ) دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من الزمان فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى
المسألة الثالثة روي أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه فقال تزوجت جارية بكراً وما رأيت بها ريبة ثم ولدت لستة أشهر فقال علي رضي الله عنه قال الله وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً وقال تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فالحمل ستة أشهر الولد ولدك وعن عمر أنه جىء بامرأة وضعت لستة أشهر فشاور في رجمها فقال ابن عباس إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر
أما قوله تعالى لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ءانٍ مّنَ الرَّضَاعَة ِ وقرىء الرَّضَاعَة ِ بكسر الراء
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن تقدير الآية هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية والثاني أن اللام متعلقة بقوله يُرْضِعْنَ كما تقول أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه
أما قوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الْمَوْلُودِ لَهُ هو الوالد وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد وإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللآباء أبناء
الثاني أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الولد للفراش ) فكأنه قال إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه وجب عليه رعاية مصالحه فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر الثالث أنه قيل في تفسير قوله قَالَ ابْنَ أُمَّ ( طه 94 ) أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة فكذا ههنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيهاً على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب فكان نقصه عائداً إليه ورعاية مصالحه لازمة له كما قيل كلمة لك وكلمة عليك
المسألة الثانية أنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف والمعرف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن
كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها من الجوع والعري فضررها يتعدى إلى الولد
المسألة الثالثة أنه تعالى وصى الأم برعاية الطفل أولاً ثم وصى الأب برعايته ثانياً وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة البتة أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة ثم قال تعالى لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى التكليف الإلزام يقال كلفه الأمر فتكلف وكلف وقيل إن أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه من السواد فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه من سعة الملك أي العرض ولو ضاق لعجز عنه والسعة بمنزلة القدرة فلهذا قيل الوسع فوق الطاقة
المسألة الثانية المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه إلا ما تتسع له قدرته لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة ولا يبلغ استغراقها وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك وهو نظير قوله في سورة الطلاق أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن ثم قال وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله لِيُنفِقْ ذُو سَعَة ٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ( الطلاق 6 7 )
المسألة الثالثة المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما يقدرون عليه لأنه أخبر أنه لا يكلف أحداً إلا ما تتسع له قدرته والوسع فوق الطاقة فإذا لم يكلفه الله تعالى ما لا تتسع له قدرته فبأن لا يكلفه ما لا قدرة له عليه أولى
ثم قال لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي لاَ تُضَارَّ بالرفع والباقون بالفتح أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله لاَ تُكَلَّفُ قال علي بن عيسى هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو ضربت زيداً لا عمراً فأما أن يقال يقوم زيد لا يقعد عمرو فهو غير جائز على النسق بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال لا يضرب زيد لا تقتل عمراً وأما النصب فعلى النهي والأصل لا تضار فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين يقال يضارر رجل زيداً وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى فصار لا تضار كما تقول لا تردد ثم تدغم فتقول لا ترد بالفتح قال تعالى خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ( المائدة 54 ) وقرأ الحسن لاَ تُضَارَّ بالكسر وهو جائز في اللغة وقرأ أبان عن عاصم لاَ تُضَارَّ مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها
المسألة الثانية قوله لاَ تُضَارَّ يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة وإنما احتمل الوجهين نظراً لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعوله
بها الضرار وعلى الوجه الأول يكون المعنى لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة فتلقى الولد عليه وعلى الوجه الثاني معناه لا تضارر أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له وقوله وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ أي ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقى الولد عليه والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد
فإن قيل لم قال تُضَارَّ والفعل لواحد
قلنا لوجوه أحدها أن معناه المبالغة فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك والثاني لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها والثالث أن المقصود لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر فكان ذلك في الحقيقة مضارة
المسألة الثالثة قوله لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع وترك التعهد والحفظ
وقوله وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ يتناول كل المضار وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم
أما قوله تعالى وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فاعلم أنه لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى واحد من هؤلاء والعلماء لم يدعوا وجهاً يمكن القول به إلا وقال به بعضهم
فالقول الأول وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد وارث الأب وذلك لأن قوله وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ معطوف على قوله وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وما بينهما اعتراض لبيان المعروف والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضاً وارثه أدى إلى وجوب نفقته على غيره حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالاً فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف ويدفع الضرار عنه وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب
القول الثاني أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو فقيل هو العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث وهو قول قتادة وابن أبي ليلى قالوا النفقة على قدر الميراث وقيل الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي الرحم كما أن البعيد كالقريب والنساء كالرجال ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق لها لصح أيضاً دخولها تحت الكلام لأنها قد تكون وارث كغيرها
القول الثالث المراد من الوارث الباقي من الأبوين وجاء في الدعاء المشهور واجعله الوارث منا أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة
القول الرابع أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان وهو قول مالك والشافعي
أما قوله تعالى مِثْلُ ذالِكَ فقيل من النفقة والكسوة عن إبراهيم وقيل من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك وقيل منهما عن أكثر أهل العلم
أما قوله تعالى فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فاعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في الفصال قولان الأول أنه الفطام لقوله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( الأحقاف 15 ) وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات قال المبرد يقال فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً وقرىء بهما في قوله وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ والفصال أحسن لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال والضراب وسمي الفصيل فصيلاً لأنه مفصول عن أمه ويقال فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ( البقرة 249 ) واعلم أن حمل الفصال ههنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين
واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز وبعده أيضاً جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضاً دليلاً على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط
وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفاً فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب والله أعلم
القول الثاني في تفسير الفصال وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال ويحتمل معنى آخر وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد
المسألة الثانية التشاور في اللغة استجماع الرأي وكذلك المشورة والمشورة مفعلة منه كالمعونة وشرت العسل استخرجته وقال أبو زيد شرت الدابة وأشرتها أي أجريتها لاستخراج جريها والشوار متاع البيت لأنه يظهر للناظر وقالوا شورته فتشور أي خجلته والشارة هيئة الرجل لأنه ما يظهر من زيه ويبدو من زينته والإشارة إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع فقد يحاول الفطام دفعاً لذلك لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعاً للمضار عنه ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن بل قال لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفاً كانت رحمة الله معه أكثر وعنايته به أشد
اعلم أنه تعالى لما بين حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) استرضع منقول من أرضع يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي فتعديه إلى مفعولين كما تقول أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه كما تقول استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول وقال الواحدي أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاءً بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلا للأولاد ولا يجوز دعوت زيداً وأنت تريد لزيد لأنه تلبيس ههنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع ونظير حذف اللام قوله تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ( المطففين 3 ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم
المسألة الثانية اعلم أنا قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها منها ما إذا تزوجت آخر فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشاً له ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى
وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم
أما قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحده مَّا ءاتَيْتُم مقصورة الألف والباقون مَّا ءاتَيْتُم ممدودة الألف أما المد فتقديره ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره ما آتيتم به فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة بِهِ في الثاني لحصول العلم بذلك وروى شيبان عن عاصم مَا أُوتِيتُمْ أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ونظيره قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( الحديد 7 )
المسألة الثانية ليس التسليم شرطاً للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يداً بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سبباً لصلاح حال الصبي والاحتياط في مصالحه ثم إنه تعالى ختم الآية بالتحذير فقال وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ
الحكم الثالث عشر
عدة الوفاة
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً فمن مات فقد وجد عمره وافياً كاملاً ويقال توفي فلان وتوفي إذا مات فمن قال توفي كان معناه قبض وأخذ ومن قال توفى كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء
وأما قوله وَيَذَرُونَ معناه يتركون ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر استغناءً عنه يترك تركاً ومثله يدع في رفض مصدره وماضيه فهذان الفعلان العابر والأمر منهما موجودان يقال فلان يدع كذا ويذر ويقال دعه وذره أما الماضي والمصدر فغير موجودين منهما والأزواج ههنا النساء والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له وربما ألحقوا بها الهاء
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ مبتدأ ولا بد له من خبر واختلفوا في خبره على أقوال الأول أن المضاف محذوف والتقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن والثاني وهو قول الأخفش التقدير يتربصن بعدهم إلا أنه أسقط لظهوره كقوله السمن منوان بدرهم وقوله تعالى وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 43 ) والثالث وهو قول المبرد والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً أزواجهم يتربصن قال وإضمار المبتدأ ليس بغريب قال تعالى قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ ( الحج 72 ) يعني هو النار وقوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ( يوسف 18 )
فإن قيل أنتم أضمرتم ههنا مبتدأ مضافاً وليس ذلك شيئاً واحداً بل شيئان والأمثلة التي ذكرتم المضمر فيها شيء واحد
قلنا كما ورد إضمار المبتدأ المفرد فقد ورد أيضاً إضمار المبتدأ المضاف قال تعالى لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ( آل عمران 196 197 ) والمعنى تقلبهم متاع قليل الرابع وهو قول الكسائي والفراء أن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ مبتدأ إلا أن الغرض غير متعلق ههنا ببيان حكم عائد إليهم بل ببيان حكم عائد إلى أزوجهم فلا جرم لم يذكر لذلك المبتدأ خبراً وأنكر المبرد والزجاج ذلك لأن مجىء المبتدأ بدون الخبر محال
المسألة الثالثة قد بينا فيما تقدم معنى التربص وبينا الفائدة في قوله بِأَنفُسِهِنَّ وبينا أن هذا وإن كان خبراً إلا أن المقصود منه هو الأمر وبينا الفائدة في العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر
المسألة الرابعة قوله وَعَشْرًا مذكور بلفظ التأنيث مع أن المراد عشرة أيام وذكروا في العذر عنه وجوهاً الأول تغليب الليالي على الأيام وذلك أن ابتداء الشهر يكون من الليل فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت لأن الأوائل أقوى من الثواني قال ابن السكيت يقولون صمنا خمساً من الشهر فيغلبون الليالي على الأيام إذ لم يذكروا الأيام فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا خمسة أيام الثاني أن هذه الأيام أيام الحزن والمكروه ومثل هذه الأيام تسمى بالليالي على سبيل الاستعارة كقولهم خرجنا ليالي الفتنة وجئنا ليالي إمارة الحجاج والثالث ذكره المبرد وهو أنه إنما أنث العشر لأن المراد به المدة معناه وعشر مدد وتلك المدة كل مدة منها يوم وليلة الرابع ذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية فقال إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج فيتأول العشرة بالليالي وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم
المسألة الخامسة روي عن أبي العالية أن الله سبحانه إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة وهو أيضاً منقول عن الحسن البصري
المسألة السادسة اعلم أن هذه العدة واجبة في كل امرأة مات عنها زوجها إلا في صورتين أحداهما أن تكون أمة فإنها تعتد عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرة وقال أبو بكر الأصم عدتها عدة الحرائر وتمسك بظاهر الآية وأيضاً الله تعالى جعل وضع الحمل في حق الحامل بدلاً عن هذه المدة ثم وضع الحمل مشترك فيه الحرة والرقيقة فكذا الاعتداد بهذه المدة يجب أن يشتركا فيه وسائر الفقهاء قالوا التنصيف في هذه المدة ممكن وفي وضع الحمل غير ممكن فظهر الفرق
الصورة الثانية أن يكون المراد إن كانت حاملاً فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل فإذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة وعن علي عليه السلام تتربص أبعد الأجلين والدليل عليه القرآن والسنة
أما القرآن فقوله تعالى وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ( الطلاق 4 ) ومن الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا والشافعي لم يقل بذلك لوجهين الأول أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى والثاني أن قوله وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ إنما ورد عقيب ذكر المطلقات فربما يقول قائل هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن وإنما عول على السنة وهي ما روى أبو داود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب فقال لها بعض الناس ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزوج إن بدا لي إذا عرفت هذا الأصل فههنا تفاريع الأول لا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وقال ابن عباس لا عدة عليها قبل الدخول وهذا قول متروك لأن الآية عامة في حق الكل
الحكم الثاني إذا تمت أربعة أشهر وعشر انقضت عدتها وإن لم تر عادتها من الحيض فيها وقال مالك لا تنقضي عدتها حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام مثلاً إن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة فعليها حيضة واحدة وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا تكفيها الشهور حجة الشافعي رحمه الله أن هذه الآية دلت على أنه تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزد على هذا القدر فوجب أن يكون هذا القدر كافياً ثم قال الشافعي إنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة كما أن ذات الإقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط
الحكم الثالث إذا مات الزوج فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام فالشهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلة سواء خرجت كاملة أو ناقصة ثم تكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوماً ثم تضم إليها عشرة أيام وإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلة وكمل العشر من الشهر السادس
المسألة السابعة أجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني فإنه أبى نسخها وسنذكر كلامه من بعد إن شاء الله تعالى والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول وإنما ترتيب التلاوة في المصاحف هو ترتيب جبريل بأمر الله تعالى
المسألة الثامنة اختلفوا في أن هذه العدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة فقال بعضهم ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة واحتجوا بأنه تعالى قال يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ولا يحصل إلا إذا قصدت هذا التربص والقصد إلى التربص لا يحصل إلا مع العلم بذلك والأكثرون قالوا السبب هو
الموت فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى قالوا والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة
المسألة التاسعة المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول الامتناع عن النكاح مجمع عليه وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة وأما ترك التزين فهو واجب لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ) وقال الحسن والشعبي هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه والله أعلم
واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وتلبثي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت )
المسألة العاشرة احتج من قال إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع بقوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ فقوله مّنكُمْ خطاب مع المؤمنين فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط
وجوابه أن المؤمنين لما كانوا هم العاملين بذلك خصهم بالذكر كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) مع أنه كان منذراً للكل لقوله تعالى لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 )
وأما قوله تعالى فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فالمعنى إذا انقضت هذه المدة التي هي أجل العدة فلا جناح عليكم قيل الخطاب مع الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد وقيل الخطاب مع الحكام وصلحاء المسلمين وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة أنه لا يؤمن اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول وفي الآية وجه ثالث وهو أنه لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ تقديره لا جناح على النساء وعليكم ثم قال فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي ما يحسن عقلاً وشرعاً لأنه ضد المنكر الذي لا يحسن وذلك هو الحلال من التزوج إذا كان مستجمعاً لشرائط الصحة ثم ختم الآية بالتهديد فقال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى تمسك بعضهم في وجوب الإحداد على المرأة بقوله تعالى فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ فإن ظاهره يقتضي أن يكون المراد منه ما تنفرد المرأة بفعله والنكاح ليس كذلك فإنه لا يتم إلا مع الغير فوجب أن يحمل ذلك على ما يتم بالمرأة وحدها من التزين والتطيب وغيرهما
المسألة الثانية تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي قالوا إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزاً لقوله تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة وتمسك أصحاب الشافعي رضي الله تعالى
عنه في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطباً بقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وبالله التوفيق
الحكم الرابع عشر
في خطبة النساء
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَة ِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
قوله تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَة ِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ وفي مسائل
المسألة الأولى التعريض في اللغة ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا وحسبك بالتسليم مني تقاضياً
والتعريض قد يسمى تلويحاً لأنه يلوح منه ما يريد والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه كقولك فلان طويل النجاد كثير الرماد والتعريض أن تذكر كلاماً يحتمل مقصودك ويحتمل غير مقصودك إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك وأما الخطبة فقال الفراء الخطبة مصدر بمنزلة الخطب وهو مثل قولك أنه الحسن العقدة والجلسة تريد العقود والجلوس وفي اشتقاقه وجهان الأول أن الخطب هو الأمر والشأن يقال ما خطبك أي ما شأنك فقولهم خطب فلان فلانة أي سألها أمراً وشأناً في نفسها الثاني أصل الخطبة من الخطاب الذي هو الكلام يقال خطب المرأة خطبة لأنه خاطب في عقد النكاح وخطب خطبة أي خاطب بالزجر والوعظ والخطب الأمر العظيم لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير
المسألة الثانية النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام أحدها التي تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها بل يستثنى عنه صورة واحدة وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه ) ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقاً لكن فيه ثلاثة أحوال
الحالة الأولى إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحاً ههنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث
الحالة الثانية إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها
الحالة الثالثة إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي ههنا قولان أحدهما أنه يجوز
للغير خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا والثاني وهو القديم وقول مالك أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضاً على الكراهة فربما كانت الرغبة حاصله من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة
القسم الثاني التي لا تجوز خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً وهي ما إذا كانت منكوحة للغير لأن خطبته إياها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها من حيث أنها إذا علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج والتسبب إلى هذا حرام وكذا الرجعة فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظاهرها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان
القسم الثالث أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية وهي أيضاً على ثلاثة أقسام
القسم الأول التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً أما جواز التعريض فلقوله تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَة ِ النِسَاء وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية أما أنه لا يجوز التصريح فقال الشافعي لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب
القسم الثاني المعتدة عن الطلاق الثلاث قال الشافعي رحمه الله في ( الأم ) ولا أحب التعريض لخطبتها وقال في ( القديم ) و ( الإملاء ) يجوز لأنها ليست في النكاح فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما ههنا تنقضي عدتها بالإقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي
القسم الثالث البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان أحدهما يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثاً والثاني وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية
المسألة الثالثة قال الشافعي والتعريض كثير وهو كقوله رب راغب فيك أو من يجد مثلك أو لست بأيم وإذا حللت فأدريني وذكر سائر المفسرين من ألفاظ التعريض إنك لجميلة وإنك لصالحه وإنك لنافعه وإن من عزمي أن أتزوج وإني فيك لراغب
أما قوله تعالى أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ فاعلم أن الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى ومنه و مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ( النحل 74 )
بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( الصافات 49 ) وفرق قوم بينهما فقالوا كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستوراً يقال در مكنون وجارية مكنونة وبيض مكنون مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره وهو ضد أعلنت وأظهرت والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها
فإن قيل إن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من أن يميل قلبه إليها ولا يذكر شيئاً فلما قدم جواز التعريض بالخطبة كان قوله بعد ذلك أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ جارياً مجرى إيضاح الواضحات
قلنا ليس المراد ما ذكرتم بل المراد منه أنه أباح التعريض وحرم التصريح في الحال ثم قال أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ والمراد أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى إباحة للتعريض في الحال وتحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ثم أنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك فقال عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم والتمني فلما كان دفع هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط تعالى عنه هذا الحرج وأباح له ذلك
ثم قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا وفيه سؤالان
السؤال الأول أين المستدرك بقوله تعالى وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا الجواب هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه تقديره عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ
السؤال الثاني ما معنى السر
والجواب أن السر ضد الجهر والإعلان فيحتمل أن يكون السر ههنا صفة المواعدة على شيء ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا توعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفاً بوصف كونه سراً أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات وههنا احتمالات الأول أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة الثاني أن يواعدها بذكر الجماع والرفث لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز قال تعالى لأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ( الأحزاب 32 ) أي لا تقلن من أمر الرفث شيئاً فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ ( الأحزاب 32 ) الثالث قال الحسن وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه وقال إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى
والجواب روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة وهو يعرض بالنكاح فيقول لها دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك فالله تعالى نهى عن ذلك الرابع أن يكون ذلك نهياً عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها الخامس أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحداً سواها
أما إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه الأول السر الجماع قال امرؤ القيس
وأن لا يشهد السر أمثالي
وقال الفرزدق
موانع للأسرار إلا من أهلها ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد لا يصف نفسه لها فيقول آتيك الأربعة والخمسة الثاني أن يكون المراد من السر النكاح وذلك لأن الوطء يسمى سراً والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ففيه سؤال وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء
وجوابه أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض والله أعلم
قوله تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ
اعلم أن في لفظ العزم وجوهاً الأول أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال قال تعالى فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( آل عمران 159 ) واعلم أن العزم إنما يكون عزماً على الفعل فلا بد في الآية من إضمار فعل وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف عَلَى فيقال فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية ولا تعزموا على عقدة النكاح قال سيبويه والحذف في هذه الأشياء لا يقاس فعلى هذا تقدير الآية ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكداً عن الإقدام على المعزوم عليه أولى
القول الثاني أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب يقال عزمت عليكم أي أوجبت عليكم ويقال هذا من باب العزائم لا من باب الرخص وقال عليه الصلاة والسلام ( عزمة من عزمات ربنا ) وقال ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى وبالوجه الأول لا يجوز
إذا عرفت هذا فنقول الإيجاب سبب الوجود ظاهراً فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه ولا تفرغوا منه فعلاً حتى يبلغ الكتاب أجله وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين
القول الثالث قال القفال رحمه الله إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح لأن المعنى لا تعزموا عليهن عقدة النكاح أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح كما تقول عزمت عليك أن تفعل كذا
فأما قوله تعالى عُقْدَة َ النّكَاحِ فاعلم أن أصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقوداً لأنها تعقد كما يعقد الحبل
أما قوله تعالى حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ففي الكتاب وجهان الأول المراد منه المكتوب والمعنى تبلغ العدة المفروضة آخرها وصارت منقضية والثاني أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته وإنما حسن أن يعبر عن معنى فرض بلفظ كِتَابَ لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله حَتَّى هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله
ثم إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالماً بالسر والعلانية وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد فقال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
الحكم الخامس عشر
حكم المطلقة قبل الدخول
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن أقسام المطلقات أربعة أحدها المطلقة التي تكون مفروضاً لها ومدخولاً بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر وأن عدتهن ثلاثة قروء
والقسم الثاني من المطلقات ما لا يكون مفروضاً ولا مدخولاً بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وذكر أنه ليس لها مهر وأن لها المتعة بالمعروف
والقسم الثالث من المطلقات التي يكون مفروضاً لها ولكن لا يكون مدخولاً بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله سبحانه وتعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها ألبتة فقال إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة ٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ ( الأحزاب 49 )
القسم الرابع من المطلقات التي تكون مدخولاً بها ولكن لا يكون مفروضاً لها وحكم هذا القسم مذكور في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( النساء 24 ) أيضاً القياس الجلي دال عليه وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطئة بالشبهة لها مهر المثل فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم فهذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى فيقال إن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور فإن كان البدل مذكوراً فإن حصل الدخول استقر كله وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجىء عقيب هذه الآية فإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية وحكمها أنه لا مهر لها ولا عدة عليها ويجب عليه لها المتعة وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل ولما نبهنا على هذا التقسيم فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء فهذا نص في أن الطلاق جائز واعلم أن كثيراً من أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام قالوا لأن قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء يتناول جميع أنواع التطليقات بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح قالوا وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فثبت أن قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء يتناول جميع أنواع التطليقات أعني حال الإفراد وحال الجمع وهذا الاستدلال عندي ضعيف وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة ولهذا قلنا إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولهذا قلنا إنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين مع أنه يصح أن يقال صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني والله أعلم
أما قوله تعالى مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي تماسوهن بالألف على المفاعلة وكذلك في الأحزاب والباقون لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بغير ألف حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعاً وأيضاً يدل على ذلك قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( المجادلة 3 ) وهو إجماع وحجة الباقين إجماعهم على قوله وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ( آل عمران 47 ) ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ( الرحمن 56 ) وكقوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ( النساء 25 ) وأيضاً المراد من هذا المس الغشيان وذلك فعل الرجل ويدل في الآية الثانية على أن المراد من هذا المس الغشيان وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار وبعض من قرأ تماسوهن قال إنه بمعنى لَمْ تَمَسُّوهُنَّ لأن فاعل قد يراد به فعل كقوله طارقت النعل وعاقبت اللص وهو كثير
المسألة الثانية لقائل أن يقول ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس
وجوابه من وجوه الأول أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض ولا في الطهر الذي جامعها فيه فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس صح ظاهر اللفظ
الوجه الثاني في الجواب قال بعضهم إن مَا في قوله مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بمعنى الَّذِى والتقدير لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن إلا أن مَا اسم جامد لا ينصرف ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ مَا شرطاً فزال السؤال
الوجه الثالث في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله وحاصله يرجع إلى ما أقوله وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر فتقدير الآية لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة بمعنى لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله لاَّ جُنَاحَ معناه لا مهر فنقول إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل والدليل دل عليه فوجب المصير إليه وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل يقال أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحاً لما فيه من الثقل قال تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) إذا ثبت أن الجناح هو الثقل ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحاً فثبت أن اللفظ محتمل له وإنما قلنا إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين الأول أنه تعالى قال لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ءانٍ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً نفى الجناح محدوداً إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض والتقدير فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر الثاني أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين أحدهما الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر وهو المذكور في هذه الآية والثاني الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً ( البقرة 237 ) ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت ههنا فلما كان المثبت ههنا هو لزوم المهر وجب أن يقال الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر والله أعلم
واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها لأنه لما صار تقدير الآية لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها لا يجب لها المهر وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضاً لها والتي تكون مفروضاً لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة
وأما القسم الرابع وهي التي تكون ممسوسة ومفروضاً لها فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام وهذا من لطائف الكلمات والحمد لله على ذلك
المسألة الثالثة قال أبو بكر الأصم والزجاج هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير المهر جائز وقال القاضي إنها لا تدل على الجواز لكنها تدل على الصحة أما بيان دلالتها على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً ولم تكن المتعة لازمة وأما أنها لا تدل على الجواز فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ومع ذلك واقع وصحيح
المسألة الرابعة اتفقوا على أن المراد من المسيس في هذه الآية الدخول قال أبو مسلم وإنما كنى تعالى بقوله تَمَسُّوهُنَّ عن المجامعة تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به والله أعلم
أما قوله تعالى أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فالمعنى يقدر لها مقداراً من المهر يوجبه على نفسه لأن الفرض في اللغة هو التقدير وذكر كثير من المفسرين أن أَوْ ههنا بمعنى الواو ويريد ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة كقوله أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف بل خطأ قطعاً والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ فاعلم أنه تعالى لما بين أنه لا مهر عند عدم المسيس والتقدير بين أن المتعة لها واجبة وتفسير لفظ المتعة قد تقدم في قوله فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ ( البقرة 196 )
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المطلقات قسمان مطلقة قبل الدخول ومطلقة بعد الدخول أما المطلقة قبل الدخول ينظر إن لم يكن فرض لها مهر فلها المتعة بهذه الآية التي نحن فيها وإن كان قد فرض لها فلا متعة لأن الله تعالى أوجب في حقها نصف المهر ولم يذكر المتعة ولو كانت واجبة لذكرها وقال ابن عمر لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر وأما المطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض فهل تستحق المتعة فيه قولان قال في ( القديم ) وبه قال أبو حنيفة لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول وقال في ( الجديد ) بل لها المتعة وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن بن علي وابن عمر والدليل عليه قوله تعالى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 241 ) وقال تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ ( الأحزاب 28 ) وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وليس كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة استباحة عوض فلم تستحق المتعة والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة استباحة البضع فتجب لها المتعة للإيحاش بالفراق
المسألة الثانية مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن المتعة واجبة وهو قول شريح والشعبي والزهري وروي عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة وهو قول مالك لنا قوله تعالى وَمَتّعُوهُنَّ وظاهر الأمر للإيجاب وقال وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ فجعل ملكاً لهن أو في معنى الملك وحجة مالك أنه تعالى قال في آخر الآية حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فجعل هذا من باب الإحسان وإنما يقال هذا الفعل إحسان إذا لم يكن واجباً فإن وجب عليه أداء دين فأداه لا يقال إنه أحسن وأيضاً قال تعالى
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) وهذا يدل على عدم الوجوب والجواب عنه أن الآية التي ذكرتموها تدل على قولنا لأنه تعالى قال حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فذكره بكلمة عَلَى وهي للوجوب ولأنه إذا قيل هذا حق على فلان لم يفهم منه الندب بل الوجوب
المسألة الثالثة أصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً غير باق بل منقضياً عن قريب ولهذا يقال الدنيا متاع ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة وقلة لبث
أما قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الْمُوسِعِ الغني الذي يكون في سعة من غناه يقال أوسع الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله ويقال أوسعه كذا أي وسعه عليه ومنه قوله تعالى وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( الذاريات 47 ) وقوله قَدْرِهِ أي قدر إمكانه وطاقته فحذف المضاف والمقتر الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير وأقتر إذا افتقر
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم قَدْرِهِ بسكون الدال والباقون قدره بفتح الدال وهما لغتان في جميع معاني القدر يقال قدر القوم أمرهم يقدرونه قدراً وهذا قدر هذا واحمل على رأسك قدر ما تطيق وقدر الله الرزق يقدره ويقدره قدراً وقدرت الشيء بالشيء أقدره قدراً وقدرت على الأمر أقدر عليه قدرة كل هذا يجوز فيه التحريك والتسكين يقال هم يختصمون في القدر والقدر وخدمته بقدر كذا وبقدر كذا قال الله تعالى فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ( الرعد 17 ) وقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) ولو حرك لكان جائزاً وكذلك إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) ولو خفف جاز
المسألة الثالثة أن قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبين أن الموسع يخالف المقتر وقال الشافعي المستحب على الموسع خادم وعلى المتوسط ثلاثون درهماً وعلى المقتر مقنعة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل قال لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى والله أعلم
أما قوله تعالى مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الآية أنه يجب أن يكون على قدر حال الزوج في الغنى والفقر ثم اختلفوا فمنهم من يعتبر حالهما وهو قول القاضي ومنهم من يعتبر حال الزوج فقط قال أبو بكر الرازي رحمه الله في المتعة يعتبر حال الرجل وفي مهر المثل حالها وكذلك في النفقة واحتج أبو بكر بقوله وَعَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ واحتج القاضي بقوله بِالْمَعْرُوفِ فإن ذلك يدل على حالهما لأنه ليس من المعروف أن يسوى بين الشريفة والوضيعة
المسألة الثانية مَّتَاعًا تأكيد لمتعوهن يعني متعوهن تمتيعاً بالمعروف و حَقّاً صفة لمتاعاً أي
متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً على المحسنين وقيل نصب على الحال من قدره لأنه معرفة والعامل فيه الظرف وقيل نصب على القطع
وأما قوله عَلَى الْمُحْسِنِينَ ففي سبب تخصيصه بالذكر وجوه أحدها أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) والثاني قال أبو مسلم المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه والمحسن هو المؤمن فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين الثالث حَقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المطلقة غير الممسوسة إذا لم يفرض لها مهر تكلم في المطلقة غير الممسوسة إذا كان قد فرض لها مهر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر وقال أبو حنيفة الخلوة الصحيحة تقرر المهر ويعني بالخلوة الصحيحة أن يخلوا بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً والشرعي نحو الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق سواء كان فرضاً أو نقلاً حجة الشافعي أن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر وههنا وجد الطلاق قبل المسيس فوجب القول بسقوط نصف المهر
بيان المقدمة الأولى قوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فقوله فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ليس كلاماً تاماً بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام فأما أن يضمر فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ساقط أو يضمر فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ثابت والأول هو المقصود والثاني مرجوح لوجوه أحدها أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهراً فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق لأنه غير منفي قبله أما لو حملناه على السقوط عملنا بقضية التعليق لأنه منفي قبله وثانيها أن قوله تعالى وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً يقتضي وجوب كل المهر عليه لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضاً لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف لأن عند قيام المقتضى لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان فكان
حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب وثالثها أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ( البقرة 129 ) فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف ورابعها وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس وكون الطلاق واقعاً قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر ولا يناسب وجوب شيء فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال إن معنى الآية فنصف ما فرضتم واجب وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر إلا من حيث دليل الخطاب وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال
بيان المقدمة الثانية وهي أن ههنا وجد الطلاق قبل المسيس هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله حجة أبي حنيفة قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( النساء 20 ) إلى قوله وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( النساء 21 ) وجه التمسك به من وجهين الأول هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة ومن ادعى التخصيص ههنا فعليه البيان والثاني أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء وهي الخلوة والإفضاء مشتق من الفضاء وهو المكان الخالي فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر
وجوابنا عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً حال من مفعول طَلَّقْتُمُوهُنَّ والتقدير طلقتموهن حال ما فرضتم لهن فريضة
أما قوله تعالى إَّلا أَن يَعْفُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما لم تسقط النون من يَعْفُونَ وإن دخلت عليه ءانٍ الناصبة للأفعال لأن يَعْفُونَ فعل النساء فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم والنون في يَعْفُونَ إذا كان الفعل مسنداً إلى النساء ضمير جمع المؤنث وإذا كان الفعل مسنداً إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر والساقط في يَعْفُونَ إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في يَعْفُونَ لا الواو التي هي ضمير الجمع والله أعلم
المسألة الثانية المعنى إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر وتقول المرأة ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً
أما قوله تعالى أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أنه الزوج وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام وسعيد بن المسيب وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة
والقول الثاني أنه الولي وهو قول الحسن ومجاهد وعلقمة وهو قول أصحاب الشافعي
حجة القول الأول وجوه الأول أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي والثاني أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح فإذا عقد حصلت العقدة لأن بناء الفعلة يدل على المفعول كالأكلة واللقمة وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي والثالث أن قوله تعالى الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره كما أن قوله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 40 ) أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره كانت الجنة ثابتة له فتكون مأواه الرابع ما روي عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل الصداق وقال أنا أحق بالعفو وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج
حجة من قال المراد هو الولي وجوه الأول أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفواً أجاب الأولون عن هذا من وجوه أحدها أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها وثانيها سماه عفواً على طريق المشاكلة وثالثها أن العفو قد يراد به التسهيل يقال فلان وجد المال عفواً صفواً وقد بينا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات والله تعالى ندب إلى العفو مطلقاً وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل وأجابوا عن السؤال الثاني أن العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمى عفواً
وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل لكان كل من سهل على إنسان شيئاً يقال إنه عفا عنه ومعلوم أنه ليس كذلك
الحجة الثانية للقائلين بأن المراد هو الولي هو أن ذكر الزوج قد تقدم بقوله عز وجل وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فلو كان المراد بقوله أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ هو الزوج لقال أو تعفو على سبيل المخاطبة فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة علمنا أن المراد منه غير الزواج
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو والمعنى إلا أن يعفو أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها
الحجة الثالثة للقائلين بأنه هو الولي هو أن الزوج ليس بيده البتة عقدة النكاح وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبياً عن المرأة ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه فلا يكون له قدرة على إنكاحها البتة وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قدرة على إزالة النكاح والله
تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح ثبت أنه ليس المراد هو الزوج أما الولي فله قدرة على إنكاحها فكان المراد من الآية هو الولي لا الزوج ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال المراد هو الزوج
أما الحجة الأولى فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال بنى الأمير داراً وضرب ديناراً والظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء والظاهر أن كل ما يتعلق بأمر التزوج فإن المرأة لا تخوض فيه بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وبسعيه فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء
وأما الحجة الثانية وهي قولهم الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح قلنا العقدة قد يراد بها العقد قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ سلمنا أن العقدة هي المعقودة لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداءً فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضاً بواسطة كونها من نتائج العقد ومن آثاره
وأما الحجة الثالثة وهي قوله إن المراد من الآية الذي بيده عقدة النكاح لنفسه فجوابه أن هذا التقييد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض فلا يراد به أن الذي في يده الأمر نفسه ونهى نفسه بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره فكذا ههنا
المسألة الثانية للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ إما الزوج وإما الولي وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له البتة على عقدة النكاح فوجب حمله على الولي
إذا ثبت هذا فنقول قوله بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره قال تعالى لَكُمْ دِينَكُمْ ( الكافرون 6 ) أي لا لغيركم فكذا ههنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب والله أعلم
قوله تعالى وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فيه مسائل
المسألة الأولى هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى أما في اللفظ فلأنك تقول قائم ثم تريد التأنيث فتقول قائمة فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل والدال على المؤنث فرع عليه وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلباً
المسألة الثانية موضع ءانٍ رفع بالابتداء والتقدير والعفو أقرب للتقوى واللام بمعنى إِلَى
المسألة الثالثة معنى الآية عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى وإنما كان الأمر كذلك لوجهين الأول أن من سمح بترك حقه فهو محسن ومن كان محسناً فقد استحق الثواب ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله والثاني أن هذا الصنع يدعوه إلى ترك
الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقرباً إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق ثم قال تعالى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وليس المراد منه النهى عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك فقال تعالى ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهراً من غير أن انتفع بها البتة صار ذلك سبباً لتأذيه منها فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذى عن قلب الآخر فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجرى مجرى التهديد على العادة المعلومة فقال إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
الحكم السادس عشر
حكم المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى
حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه أحدها أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد عن الطبع وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه كما قال اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) والثاني أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) والثالث أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة خمسة وهذه الآية التي نحن في تفسيرها دالة على ذلك لأن قوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ يدل على الثلاثة من حيث أن أقل الجمع ثلاثة ثم إن قوله تعالى حَافِظُواْ عَلَى يدل على شيء أزيد من الثلاثة وإلا لزم التكرار والأصل عدمه ثم ذلك الزائد يمتنع أن يكون أربعة وإلا فليس لها وسطى فلا بد وأن ينضم إلى تلك الثلاثة عدد آخر يحصل به للمجموع وسط وأقل ذلك أن يكون خمسة فهذه الآية دالة على وجوب الصلوات الخمسة بهذا الطريق واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا بينا أن المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة ونبين ذلك بالدليل إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآية وإن دلت على وجوب الصلوات الخمس لكنها لا تدل على أوقاتها والآيات الدالة على تفصيل الأوقات أربع
الآية الأولى قوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وهذه الآية أبين آيات المواقيت فقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ أي سبحوا الله معناه صلوا لله حين تمسون أراد به صلاة المغرب والعشاء
وَحِينَ تُصْبِحُونَ أراد صلاة الصبح وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) أراد به صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( الروم 18 ) صلاة الظهر
الآية الثانية قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) أراد بالدلوك زوالها فدخل فيه صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم قال أَقِمِ الصَّلَواة َ أراد صلاة الصبح
الآية الثالثة قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ( طه 130 ) فمن الناس من قال هذه الآية تدل على الصلوات الخمس لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها فالليل والنهار داخلان في هاتين اللفظتين
الآية الرابعة قوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) فالمراد بطرفي النهار الصبح والعصر وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ المغرب والعشاء وكان بعضهم يتمسك به في وجوب الوتر لأن لفظ زلفاً جمع فأقله الثلاثة
المسألة الثانية اعلم أن الأمر بالمحافظة على الصلاة أمر بالمحافظة على جميع شرائطها أعني طهارة البدن والثوب والمكان والمحافظة على ستر العورة واستقبال القبلة والمحافظة على جميع أركان الصلاة والمحافظة على الاحتراز عن جميع مبطلات الصلاة سواء كان ذلك من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان أو من أعمال الجوارح وأهم الأمور في الصلاة رعاية النية فإنها هي المقصود الأصلي من الصلاة قال تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) فمن أدى الصلاة على هذا الوجه كان محافظاً على الصلاة وإلا فلا
فإن قيل المحافظة لا تكون إلا بين اثنين كالمخاصمة والمقاتلة فكيف المعنى ههنا
والجواب من وجهين أحدهما أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب كأنه قيل له احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وهذا كقوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 ) وفي الحديث ( احفظ الله يحفظك ) الثاني أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة فكأنه قيل احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة واعلم أن حفظ الصلاة للمصلي على ثلاثة أوجه الأول أن الصلاة تحفظه عن المعاصي قال تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن الفحشاء والثاني أن الصلاة تحفظه من البلايا والمحن قال تعالى وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 153 ) وقال تعالى وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ ( المائدة 12 ) ومعناه إني معكم بالنصرة والحفظ إن كنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة والثالث أن الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع لمصليها قال تعالى وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءاتُواْ الزَّكَواة َ وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 ) ولأن الصلاة فيها القراءة والقرآن يشفع لقارئه وهو شافع مشفع وفي الخبر ( إنه تجىء البقرة وآل عمران كأنهما عمامتان فيشهدان ويشفعان ) وأيضاً في الخبر ( سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه ) والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في الصلاة الوسطى على سبعة مذاهب
فالقول الأول أن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها ولم يبين لنا أنها أي صلاة هي وإنما قلنا إنه لم يبين
لأنه لو بين ذلك لكان إما أن يقال إنه تعالى بينها بطريق قطعي أو بطريق ظني والأول باطل لأنه بيان إما أن يكون بهذه الآية أو بطريق آخر قاطع أو خبر متواتر ولا يمكن أن يكون البيان حاصلاً في هذه الآية لأن عدد الصلوات خمس وليس في الآية ذكر لأولها وآخرها وإذا كان كذلك أمكن في كل واحدة من تلك الصلوات أن يقال إنما هي الوسطى وإما أن يقال بيان حصل في آية أخرى أو في خبر متواتر وذلك مفقود وأما بيانه بالطريق الظني وهو خبر الواحد والقياس فغير جائز لأن الطريق المفيد للظن معتبر في العمليات وهذه المسألة ليست كذلك فثبت أن الله تعالى لم يبين أن الصلاة الوسطى ما هي ثم قالوا والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في رمضان وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً من الموت في كل الأوقات فيكون آتياً بالتوبة في كل الأوقات وهذا القول اختاره جمع من العلماء قال محمد بن سيرين إن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال حافظ على الصلوات كلها تصبها وعن الربيع بن خيثم أنه سأله واحد عنها فقال يا ابن عم الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظاً على الوسطى ثم قال الربيع لو علمتها بعينها لكنت محافظاً لها ومضيعاً لسائرهن قال السائل لا قال الربيع فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى
القول الثاني هي مجموع الصلوات الخمس وذلك لأن هذه الخمسة هي الوسطى من الطاعات وتقريره أن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والصلوات المكتوبات دون الإيمان وفوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين
القول الثالث أنها صلاة الصبح وهذا القول من الصحابة قول علي عليه السلام وعمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي أمامة الباهلي ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على صحة هذا القول وجوه الأول أن هذه الصلاة تصلى في الغلس فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار الثاني أن هذه الصلاة تؤدى بعد طلوع الصبح وقبل طلوع الشمس وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة ولا يكون الضوء أيضاً تاماً فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما الثالث أنه حصل في النهار التام صلاتان الظهر والعصر وفي الليل صلاتان المغرب والعشاء وصلاة الصبح كالمتوسط بين صلاتي الليل والنهار
فإن قيل فهذه المعاني حاصلة في صلاة المغرب قلنا إنا نرجح صلاة الصبح على المغرب بكثرة فضائل صلاة الصبح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الرابع أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بالاتفاق وفي السفر عند الشافعي وكذا المغرب والعشاء وأما صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتاً واحداً ووقت المغرب والعشاء وقتاً واحداً ووقت الفجر متوسطاً بينهما قال القفال رحمه الله وتحقيق هذا الاحتجاج يرجع إلى أن الناس يقولون فلان وسط إذا لم يمل إلى أحد الخصمين فكان منفرداً بنفسه عنهما والله أعلم الخامس قوله تعالى إن قرآن الفجر كان مشهودا ( الإسراء 78 )
وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر وإنما جعلها مشهوداً لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار
إذا عرفت هذا فوجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين أحدهما أن الله تعالى أفرد صلاة الفجر بالذكر فدل هذا على مزيد فضلها ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد فيغلب على الظن أن صلاة الفجر لما ثبت أنها أفضل بتلك الآية وجب أن تكون هي المراد بالتأكيد المذكور في هذه الآية والثاني أن الملائكة تتعاقب بالليل والنهار فلا تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت واحد إلا صلاة الفجر فثبت أن صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه فكانت كالشيء المتوسط السادس أنه تعالى قال بعد ذكر الصلاة الوسطى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ قرن هذه الصلاة بذكر القنوت وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا الصبح فدل على أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الصبح السابع لا شك أنه تعالى إنما أفردها بالذكر لأجل التأكيد ولا شك أن صلاة الصبح أحوج الصلوات إلى التأكيد إذ ليس في الصلاة أشق منها لأنها تجب على الناس في ألذ أوقات النوم حتى إن العرب كانوا يسمون نوم الفجر العسيلة للذتها ولا شك أن ترك النوم اللذيذ الطيب في ذلك الوقت والعدول إلى استعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد والتأهب للصلاة شاق صعب على النفس فيجب أن تكون هي المراد بالصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد الثامن أن صلاة الصبح أفضل الصلوات وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الصلاة الوسطى صلاة الصبح إنما قلنا إنها أفضل الصلوات لوجوه أحدها قوله تعالى الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ إلى قوله تعالى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغفرين بالأسحار ثم يجب أن يكون أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض لقوله عليه الصلاة والسلام حاكياً عن ربه تعالى ( لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وذلك يقتضي أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح وثانيها ما روي فيها أن التكبيرة الأولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها وثالثها أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالأذان مرتين مرة قبل طلوع الفجر ومرة أخرى بعده وذلك لأن المقصود من المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء ورابعها أن الله تعالى سماها بأسماء فقال في بني إسرائيل أَقِمِ الصَّلَواة َ ( الإسراء 78 ) وقال في النور مّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ ( النور 58 ) وقال في الروم وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وقال عمر بن الخطاب المراد من قوله وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( الطور 49 ) صلاة الفجر وخامسها أنه تعالى أقسم به فقال وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ ( الفجر 1 2 ) ولا يعارض هذا بقوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 1 2 ) فإنا إذا سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر لكن في صلاة الفجر تأكيد وهو قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ ( هود 114 ) وقد بينا أن هذا التأكيد لم يوجد في العصر وسادسها أن التثويب في أذان الصبح معتبر وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين الصلاة خير من النوم مرتين ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات وسابعها أن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه كان معدوماً ثم صار موجوداً أو كان ميتاً ثم صار حياً بل كأن الخلق كانوا في الليل كلهم أمواتاً فصاروا أحياء فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة العجز والخيرة وأبدل الكل بالإحسان فملأ العالم من
النور والأبدان من قوة الحياة والعقل والفهم والمعرفة فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات فكان حمل الوسطى عليها أولى التاسع ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال كنا نرى أنها الفجر وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الصبح ثم قال هذه هي الصلاة الوسطى العاشر أن سنن الصبح آكد من سائر السنن ففرضها يجب أن يكون أقوى من سائر الفروض فصرف التأكيد إليها أولى فهذا جملة ما يستدل به على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح
القول الرابع قول من قال إنها صلاة الظهر ويروى هذا القول عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد رضي الله عنهم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واحتجوا عليه بوجوه الأول أن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى وعن زيد بن ثابت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال عليه الصلاة والسلام ( لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم ) فنزلت هذه الآية والثاني صلاة الظهر تقع وسط النهار وليس في المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها والثالث أنها بين صلاتين نهاريتين الفجر والعصر الرابع أنها صلاة بين البردين برد الغداة وبرد العشي الخامس قال أبو العالية صليت مع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر فلما فرغوا سألتهم عن الصلاة الوسطى فقالوا التي صليتها السادس روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) وجه الاستدلال أنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى والمعطوف عليه قبل المعطوف والتي قبل العصر هي الظهر السابع روي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال هي صلاة الظهر كانت تقام في الهاجرة الثامن روي في الأحاديث الصحيحة أن أول إمامة جبريل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت في صلاة الظهر فدل هذا على أنها أشرف الصلوات فكان صرف التأكيد إليها أولى التاسع أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات وهي صلاة الظهر فصرف المبالغة إليها أولى
القول الخامس قول من قال إنها صلاة العصر وهو من الصحابة مروى عن علي عليه السلام وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروى عن أبي حنيفة واحتجوا عليه بوجوه الأول ما روي عن علي عليه السلام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم الخندق ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة وهو عظيم الوقع في المسألة وفي صحيح مسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ومن الفقهاء من أجاب عنه فقال العصر وسط ولكن ليس هي المذكورة في القرآن فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر وأحدهما ثبت بالقرآن والآخر بالسنة كما أن الحرم حرمان حرم مكة بالقرآن وحرم المدينة بالسنة وهذا الجواب متكلف جداً الثاني قالوا روي في صلاة العصر من التأكيد ما لم يرو في غيرها قال عليه الصلاة والسلام ( من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) وأيضاً أقسم الله تعالى بها فقال وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 1 2 ) فدل على أنها أحب الساعات إلى الله تعالى الثالث أن العصر بالتأكيد أولى من حيث إن المحافظة
على سائر أوقات الصلاة أخف وأسهل من المحافظة على صلاة العصر والسبب فيه أمران أحدهما أن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات لأن دخول صلاة الفجر بطلوع الفجر المستطير ضوؤه ودخول الظهر بظهور الزوال ودخول المغرب بغروب القرص ودخول العشاء بغروب الشفق أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل فلما كانت معرفته أشق لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر الثاني أن أكثر الناس عند العصر يكونون مشتغلين بالمهمات فكان الإقبال على الصلاة أشق فكان صرف التأكيد إلى هذه الصلاة أولى
الحجة الرابعة في أن الوسطى هي العصر أشبه بالصلاة الوسطى لوجوه أحدها أنها متوسطة بين صلاة هي شفع وبين صلاة هي وتر أما الشفع فالظهر وأما الوتر فالمغرب إلا أن العشاء أيضاً كذلك لأن قبلها المغرب وهي وتر وبعدها الصبح وهو شفع وثانيها العصر متوسطة بين صلاة نهارية وهي الظهر وليلية وهي المغرب وثالثها أن العصر بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار
والقول السادس أنها صلاة المغرب وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب والحجة فيه من وجهين الأول أنها بين بياض النهار وسواد الليل وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصبح إلا أن المغرب يرجح بوجه آخر وهو أنه أزيد من الركعتين كما في الصبح وأقل من الأربع كما في الظهر والعصر والعشاء فهي وسط في الطول والقصر
الحجة الثانية أن صلاة الظهر تسمى بالصلاة الأولى ولذلك ابتدأ جبريل عليه السلام بإمامة فيها وإذا كان الظهر أول الصلوات كان الوسطى هي المغرب لا محالة
القول السابع أنها صلاة العشاء قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران المغرب والصبح وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة ) فهذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلاً عظيماً والله أعلم
المسألة الرابعة احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب قال الوتر لو كان واجباً لكانت الصلوات الواجبة ستة ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى والآية دلت على حصول الوسطى لها
فإن قيل الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) أي عدولاً وقال تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( القلم 28 ) أي أعدلهم وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الإثنين وبين الأربع وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء
الجواب أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطاً لا من حيث إنه خلق فاضل بل من حيث إنه يكون متوسطاً بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطاً بحسب العدد ومجاز في الخلق
الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطاً بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز
أما قوله نحمله على ما يكون وسطاً في الزمان وهو الظهر
فجوابه أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة لأنها تؤدى بعد الزوال وهنا قد زال الوسط
وأما قوله نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطاً بين وقت الظلمة وبين وقت النور أو على المغرب لكون عددها متوسطاً بين الإثنين والأربعة
فجوابه أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضاً محتمل فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان والله أعلم
أما قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ففيه وجوه أحدها وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر واحتج عليه بوجهين الأول أن قوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ أمر بما في الصلاة من الفعل فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر فمعنى الآية وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء بدليل قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( الزمر 9 ) وهو المعنى بالقنوت في صلاة الصبح والوتر وهو المفهوم من قولهم قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه
والقول الثاني قَانِتِينَ أي مطيعين وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل الدليل عليه وجهان الأول ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كل قنوت في القرآن فهو الطاعة ) الثاني قوله تعالى في أزواج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 34 ) وقال في كل النساء فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ ( النساء 34 ) فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزىء وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأساً لأنه يقال كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال
القول الثالث قَانِتِينَ ساكتين وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ويسألهم كم صليتم كفعل أهل الكتاب فنزل الله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام
القول الرابع وهو قول مجاهد القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء من جسده ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف
القول الخامس القنوت هو القيام واحتجوا عليه بحديث جابر قال سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي الصلاة أفضل قال طول القنوت ) يريد طول القيام وهذا القول عندي ضعيف وإلا صار تقدير الآية وقوموا لله قائمين
اللهم إلا أن يقال وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذٍ يصير القنوت مفسراً بالإدامة لا بالقيام
القول السادس وهو اختيار علي بن عيسى أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصاً بالمداومة على طاعة الله تعالى والمواظبة على خدمة الله تعالى وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون ويحتمل أن يكون المراد وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه والله تعالى أعلم
فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف فقال قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى يروى فَرِجَالاً بضم الراء و رِجَالاً بالتشديد و رَجُلاً
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله معنى الآية فإن خفتم عدواً فحذف المفعول لإحاطة العلم به قال صاحب الكشاف فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف سواء كان الخوف من العدو أو من غيره وفيه قول ثالث وهو أن المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود
المسألة الثالثة في الرجال قولان أحدهما رجالاً جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشياً كان أو وافقاً ويقال في جمع راجل رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال
والقول الثاني ما ذكره القفال وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع لأن راجلاً يجمع على راجل ثم يجمع رجل على رجال والركبان جمع راكب مثل فرسان وفارس قال القفال ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس والله أعلم
المسألة الرابعة رجالاً نصب على الحال والعامل فيه محذوف والتقدير فصلوا رجالاً أو ركباناً
المسألة الخامسة صلاة الخوف قسمان أحدهما أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ ( النساء 102 ) وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين
إذا عرفت هذا فنقول إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم
يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة لا يصلي الماشي بل يؤخر واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول قال ابن عمر فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
الوجه الثاني وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال فصار قوله فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يدل على الترخص في ترك التوجه وأيضاً يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود فصح بما ذكرنا دلالة رجالاً أو ركباناً على جواز ترك الاستقبال وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود
إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط فنقول لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها فعل القلب وهو النية وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني فعل اللسان وهي القراءة وهي لا تسقط عند الخوف ولا يجوز له أيضاً أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث أعمال الجوارح فنقول أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع لأن هذا القدر ممكن وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه والأصح أنه يجوز لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضاً
والجواب أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخرى الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل
المسألة السادسة اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول الخوف إما أن يكون في القتال أو في غير القتال أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب أو مباح أو محظور أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف وفيه نزلت الآية ويلتحق به قتال أهل البغي قال تعالى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ( الحجرات 9 ) وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالاً بحق الإسلام
إذا عرفت هذا فنقول أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم فإنه يجوز فيه صلاة الخوف أما قصد أخذ ماله أو إتلاف حاله فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف فيه قولان الأصح أن يجوز واحتج الشافعي بقوله عليه السلام ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) فدل هذا على أن الدفع عن