كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
لا بد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة والحاصل أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس فلهذا السبب قال تعالى والله أخرجكم نت بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات وقال المفسرون وجعل لكم السمع لتسمعوا مواعظ الله والأبصار لتبصروا دلائل الله والأفئدة لتعقلوا عظمة الله والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب قال لازجاج ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد وما قيل فيه فئدان كما قيل غراب غران وأقول لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة
فإن قيل قوله تعالى وجعل لكم السمع والأبصار عطف على قوله أخرجكم وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ومعلوم أنه ليس كذلك
والجواب أن حرف الواو لا يوجب الترتيب وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال والله أعلم
أما قوله ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ بن عامر وحمزة والكسائي ألم تروا بالتاء وبالباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار
المسألة الثانية هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء وخلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا وأما قوله تعالى ما يمسكهن إلا الله فالمعنى أن جسد الطير جسم ثقيل والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوهر الله تعالى ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى قال القاضي إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى
والجواب أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز لا سيما والدلائل العقليلة ذلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
ثم قال تعالى في آخر الآية إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وخص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات لكل العقلاء والله اعلم
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الاٌّ نْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وأقسام النعم والفضل والسكن والمسكن وأنشد الفراء جاء الشتاء ولما اتخذ سكنا
يا ريح كفي من حفر القراميص
والسكن ما سكنت إليه وما سكنت فيه قال صاحب الكشاف السكن فعل بمعنى مفعول وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو ألف
واعلم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين
القسم الأول البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت وإليها الإشارة بقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله لا الإنسان ينتقل إليه
والقسم الثاني القباب والخيام والفساطيط وإليها الإشارة بقوله وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تسخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى مكان واعلم أن المراد الأنطاع وقد تعمل العرب البيوت من الأدم وهي جلود الأنعام أي يخف عليكم حملها في أسفاركم قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يوم ظعنكم بفتح العين والباقون ساكنة العين قال الواحدي وهما لغتان كالشعر والشعر والنهر والنهر
واعلم أن الظعن سير البادية لنجعة أو حضور ماء أو طلب مرتع وقد يقال لكل شاخص لسفر ظاعن وهو ضد الخافض وقوله ويوم إقامتكم بمعنى لا يثقل عليكم في الحالين وقوله ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها قال المفسرون وأهل اللغة الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز وقوله أثاثا الأثاث أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية قال الفراء ولا واحد له كما أن المتاع لا واحد له قال ولو جمعت فقلت آثثة في القليل وأثث في الكثير لم يبعد وقال أبو زيد وأحدها أثاثة قال ابن عباس في قوله أثاثا يريد طنافس وبسطا وثيابا وكسوة قال الخليل وأصله من قولهم أث النبات والشعر إذا كثر وقوله متاعا أي ما يتمتعون به وقوله إلى حين يريد إلى حين البلا وقيل إلى حين الموت وقيل إلى حين بعد حين وقيل إلى يوم القيامة
فإن قيل عطف المتاع على الأثاث والعطف يقتضي المغايرة وما الفرق بين الأثاث والمتاع
قلنا الأقرب أن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء والمتاع ما يفرش في المنازل ويزين به
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيما أو مسافرا والمسافر إما أن يكون غنيا يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة
أما القسم الأول فإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا
وأما القسم الثاني فإليه الإشارة بقوله وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا
أما القسم الثالث فإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال وظللنا عليكم الغمام البقرة 57
ثم قال وجعل لكم من الجبال أكنانا واحد الأكنان كن على قياس أحمال وحمل ولكن المراد كل شيء وقى شيئا ويقال استكن وأكن إذا صار في كن
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة وأيضا البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جدا والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه فكان الإنعام بتحصيله عظيما ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكره بعدع أمر الملبوس فقال وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم السرابيل القمص واحدها سربال قال الزجاج كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين أحدهما ما يكون واقيا من الحر والبرد والثاني ما يتقى به عن البأس والحروب وذلك هو الجوشن وغيره وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل
فإن قيل لم ذكر الحر ولم يذكر البرد
أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول قال عطاء الخرساني المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع الأول لأنه كان إلفتهم بها أشد واعتيادهم للبسها أكثر ولذلك قال وينزل من السماء من جبال فيها برد النور 43 لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه
والوجه الثاني في الجواب قال المبرد إذا ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضا البرد وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعا للشعور بالآخر كان ذكر أحدهما مغنيا غن ذكر الآخر
والوجه الثالث قال الزجاج ما وقى من الحر وقى من البرد فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر
فإن قيل هذا بالضد أولى لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكلف زائد
قلنا القميص الواحد لما كان دافعا للحر كان الاستكثار من القميص نافعا للبرد فصح ما ذكرناه وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم يعني دروع الحديد ومعنى البأس الشدة ويريد ههنا شدة الطعن والضرب والرمي
واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال كذلك يتم نعمته عليكم أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم لعلكم تسلمون قال ابن عباس لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه ونقل عن ابن عباس أنه قرأ لعلكم تسلمون بفتح التاء والمعنى أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن بأس الحرب وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله
ثم قال تعالى فإن تولوا فإنما عليكم البلاغ المبين أي فإن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام ثم إنه تعالى ذمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وذلك نهاية في كفران النعمة
فإن قيل ما معنى ثم
قلنا الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر وفي المراد بهذه النعمة وجوه الأول قال القاضي المراد بها جميع ما ذكره الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم ومعنى أنهم انكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى بالشكر والعبادة بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى ولأنهم قالوا إنما حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام والثاني أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حق ثم ينكرونها ونبوته نعمة عظيمة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107
الثالث يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى
ثم قال تعالى وأكثرهم الكافرون
فإن قيل ما معنى قوله وأكثرهم الكافرون مع أنه كان كلهم كافرين
قلنا الجواب من وجوه الأول إنما قال وأكثرهم لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن لم يبلغ حد التكليف أو كان ناقص العقل معتوها فأراد بالأكثر البالغبن الأصحاء الثاني أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند وحينئذ نقول إنما قال وأكثرهم لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا بل كان جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله الثالث أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل فذكر الأكثر كذكر الجميع وهذا كقوله الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون النحل 75 والله أعلم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة فقال ويوم نبعث من كل أمة شهيدا وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإنكار وبذلك الكفر والمراد بهؤلاء الشهداء الأنبياء كما قال تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء 41 وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا فيه وجوه أحدها لا يؤذن لهم في الاعتذار لقوله ولا يؤذن لهم فيعتذرون المرسلات 36 وثانيها لا يؤذن لهم في كثرة الكلام وثالثها لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف ورابعها لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود وخامسها لا يؤذن لهم في كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ثم قال ولا هم يستعتبون الاستعتاب طلب العتاب والرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان على جزم أنه إذا عاتبه رجع إلى الرضا فإذا لم يطلب العتاب منه دل على أنه راسخ في غضبه وسطوته ثم إنه تعالى أكد هذا الوعيد فقال وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم والمعنى أن المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه فعند ذلك لا يخفف عنهم العذاب ولا هم أيضا ينظرون أي لا يؤخرون ولا يمهلون لأن التوبة هناك غير موجودة وتحقيقه ما يقوله المتكلمون من أن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد من قوله لا يخفف عنهم العذاب ويجب أن يكون العذاب دائما وهو المراد من قوله ولا هم ينظرون
وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن هذا أيضاً من بقية وعيد المشركين وفي الشركاء قولان
القول الأول أنه تعالى يبعث الأصنام التي كان يعبدها المشركون والمقصود من إعادتها أن المشركين يشاهدونها في غاية الذلة والحقارة وأيضاً أنها تكذب المشركين وكل ذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم وإنما وصفهم الله بكونهم شركاء لوجهين الأول أن الكفار كانوا يسمونها بأنها شركاء الله والثاني أن الكفار جعلوا لهم نصيباً من أموالهم
والقول الثاني أن المراد بالشركاء الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وهو قول الحسن وإنما ذهب إلى هذا القول لأنه تعالى حكى عن أولئك الشركاء أنهم ألقوا إلى الذين أشركوا إنهم لكاذبون والأصنام جمادات فلا يصح منهم هذا القول فوجب أن يكون المراد من الشركاء الشياطين حتى يصح منهم هذا القول وهذا بعيد لأنه تعالى قادر على خلق الحياة في تلك الأصنام وعلى خلق العقل والنطق فيها وحينئذ يصح منها هذا القول ثم حكى تعالى عن المشركين أنهم إذا رأوا تلك الشركاء قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك
فإن قيل فما فائدتهم في هذا القول
قلنا فيه وجهان الأول قال أبو مسلم الأصفهاني مقصود المشركين إحالة الذنب على هذه الأصنام وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم فعند هذا تكذبهم تلك الأصنام قال القاضي هذا بعيد لأن الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم وأنه لا نصرة ولا فدية ولا شفاعة
والقول الثاني أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا مخطئين في عبادتها ثم حكى تعالى أن الأصنام يكذبونهم فقال فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول وقوله إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ بدل من القول والتقدير فألقوا إليهم إنكم لكاذبون
فإن قيل إن المشركين ما قالوا إلا أنهم لما أشاروا إلى الأصنام قالوا إن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك وقد كانوا صادقين في كل ذلك فكيف قالت الأصنام إنكم لكاذبون
قلنا فيه وجوه والأصح أن يقال المراد من قولهم هؤلاء شركاؤنا هو أن هؤلاء الذين كنا نقول إنهم
شركاء الله في المعبودية فالأصنام كذبوهم في إثبات هذه الشركة وقيل المراد إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة ويدل عليه قوله تعالى كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ( مريم 82 )
ثم قال تعالى وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قال الكلبي استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وفيه وجهان وقيل ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان من أن لله شريكاً وصاحبة وولداً وقيل بطل ما كانوا يأملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين كفروا أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد الغير عن سبيل الله وفي تفسير قوله وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وجهان قيل معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح أنه يتناول جملة الإيمان بالله والرسول وبالشرائع لأن اللفظ عام فلا معنى للتخصيص وقوله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ فالمعنى أنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان فهم في الحقيقة ازدادوا كفراً على كفر فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذاباً على عذاب وأيضاً أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) ولقوله عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ومن المفسرين من ذكر تفصيل تلك الزيادة فقال ابن عباس المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنهار وقال بعضهم زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخث فيستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر لكل عقرب ثلثمائة فقرة في ثلثمائة قلة من سلم وقيل عقارب لها أنياب كالنخل الطوال
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ أي هذه الزيادة من العذاب إنما حصلت معللة بذلك الصد وهذا يدل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال فقد عظم عذابه فكذلك إذا دعا إلى الدين واليقين فقد عظم قدره عند الله تعالى والله أعلم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي واعلم أن الأمة عبارة عن الفرن والجماعة
إذا ثبت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته والثاني أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيداً عليهم أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو الرسول بدليل قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وثبت أيضاً أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصراً من الإعصار لا يخلو من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة قال أبو بكر الأصم المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان قال والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم
أجاب القاضي عنه من وجوه الأول أنه تعالى قال شَهِيدًا عَلَيْهِمْ أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم الثاني أنه قال مِن كُلّ أمَّة ٍ فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه
ثم قال تعالى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآء بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة
المسألة الثانية من الناس من قال القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه وأما علوم الدين فإما الأصول وإما الفروع أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلاً وكان القرآن وافياً ببيان كل الأحكام وأما الفقهاء فإنهم قالوا القرآن إنما كان تبياناً لكل شيء لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأوصل كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف والله أعلم
المسألة الثالثة روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال تبياناً في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء وروى ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهم قالوا لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبياناً وتلقاء وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أتبعه بقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضاً ونفلاً وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان فضائل هذه الآية روي عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال ما أسلمت أولاً إلا حياء من محمد عليه السلام ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال ( بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يميني فقال يا محمد إن الله يأمر بالعدل والإحسان العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان القيام بالفراض وإيتاء ذي القربى أي صلة ذي القرابة وينهى عن الفحشاء والزنا والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي الاستطالة ) قال عثمان فوقع الإيمان في قلبي فأتيت أبا طالب فأخبرته فقال يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا ولئن كان صادقاً أو كاذباً فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عمه اللين قال يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه فأبى أن يسلم فنزل قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ( القصص 56 ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية وعن قتادة ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية وليس من خلق سيء إلا نهى الله عنه في هذه الآية وروى القاضي في ( تفسيره ) عن ابن ماجه عن علي عليه السلام أنه قال أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج وأنا معه وأبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الشهادتين وإلى أن ينصروه فإن قريشاً كذبوه فقال مقرون بن عمرو إلام تدعونا أخا قريش فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ الآية فقال مقرون بن عمرو دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وعن عكرمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية على الوليد فاستعاده ثم قال إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير هذه الآية أكثر الناس في تفسير هذه الآية قال ابن عباس في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا اًّ والإحسان أداء الفرائض وقال في رواية أخرى العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك فإن كان مؤمناً أحببت أن يزداد إيماناً وإن
كان كافراً أحببت أن يصير أخاك في الإسلام وقال في رواية ثالثة العدل هو التوحيد والإحسان الإخلاص فيه وقال آخرون يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وقوله وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى يريد صلة الرحم بالمال فإن لم يكن فبالدعاء روى أبو مسلم عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم إن أهل البيت لكونوا فجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم ) وقوله وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء قيل الزنا وقيل البخل وقيل كل الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة وسواء كانت في القول أو في الفعل وأما المنكر فقيل إنه الكفر بالله تعالى وقيل المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وأما البغي فقيل الكبر والظلم وقيل أن تبغي على أخيك
واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضاً كثرة وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس فثبت أن هذه الوجود التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء هي الفحشاء والمنكر والبغي فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة لأن العطف يوجب المغايرة فنقول أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء ولا بد من تفصيل القول فيه فنقول الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح أما الاعتقادات فالعدل في كلها واجب الرعاية فأحدها قال ابن عباس إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه وهما مذمومان والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول لا إله إلا الله وثانيها أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء ومختص بالمكان تشبيه محض والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزهاً عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان وثالثها أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض والقول بأن صفاته حادثة متغيرة تشبيه محض والعدل هو إثبات أن الإله عالم قادر حي مع الإعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة ورابعها أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض والقول بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض وهما مذمومان والعدل أن يقال إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه وخامسها القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فنذكر ستة أمثلة منها أحدها أن قوماً من نفاة التكاليف يقولون لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي وليس لله عليه تكليف أصلاً وقال قوم من الهند ومن المانوية إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب
نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ويحترزون عن أكل الطعام الطيب والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل فهذان الطريقان مذمومان والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن التشديد في دين موسى عليه السلام غالب جداً والتساهل في دين عيسى عليه السلام غالب جداً والوسط العدل شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قيل كان شرع موسى عليه السلام في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة وفي شرع عيسى عليه السلام العفو أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة وإن شاء استوفى الدية وإن شاء عفا وأيضاً شرع موسى يقتضي الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازاً عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار وثالثها أنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور وقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) ولما بالغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العبادات قال تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى ( طه 1 2 ) ولما أخذ قوم في المساهلة قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) والمراد من الكل رعاية العدل والوسط ورابعها أن شريعتنا أمرت بالختان والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس فيعظم الإلتذاذ أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عارياً فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعياً في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم لأنه إفراط وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة والعدل الوسط هو الإتيان بالختان فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال ومن الكلمات المشهورة قولهم وبالعدل قامت السموات والأرض ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما في هذا العالم ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم وبالعدل قامت السموات والأرض فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحساناً وقد تكون إساءة مثاله أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات أما الزيادة على الواجبات فهي أيضاً طاعات وذلك من باب الإحسان وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان والدليل عليه أن جبريل لما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان قال ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
فإن قالوا لم سمي هذا المعنى بالإحسان
قلنا كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية فهذا هو الإحسان
واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي دكرنا دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة وأشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها وأما الثلاثة التي نهى الله عنها وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والعصبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه القوة الرابعة أعني العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها لأنها من جواهر الملائكة ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى أما القوة الشهوانية فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وهذا النوع مخصوص باسم الفحش إلا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً ( النساء 22 ) فقوله تعالى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة وأما القوة الغضبية السبعية فهي أبداً تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاب إلى سائر الناس ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم وذلك هو المراد من البغي فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ فإن يك صواباً فمن الرحمن وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان إنه الملك الديان
ثم قال تعالى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمراد بقوله تعالى يَعِظُكُمُ أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة والنهي عن هذه الثلاثة كان ذك تنبيهاً على أن المراد بكون القرآن تبياناً لكل شيء هو هذه التكاليف الستة وهي في الحقيقة كذلك لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ومن نتائج الأرواح العالية القدسية إلا أنه دخل في هذا العالم خالياً عارياً عن التعلقات فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة وتلك المعارف والأعمال هي التي
ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي تصدها عن تلك السعادات وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة ونهى عن هذه الثلاثة فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة
المسألة الثانية قال الكعبي الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وذلك من وجوه الأول أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل والثاني أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 2 3 ) الثالث أن قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ليس المراد منه الترجي والتمني فإن ذلك محال على الله تعالى فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل الرابع أنه تعالى لو صرح وقال إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ولكنه تمنع منه ويصد عنه ولا يمكن العبد منه ثم قال وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى وأراده منه ومنعه من تركه ومن الاحتراز عنه لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب وذلك يدل على كونه سبحانه متعالياً عن فعل القبائح
واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير وقد مر الجواب عنه والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم والله أعلم
المسألة الثالثة اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل لله لا من فعل العبد والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل والحاصل لا يطلب تحصيله وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصوراً محال
إذا ثبت هذا فنقول قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر فإذا لم يكن التذكر فعلاً له فكيف طلب منه تحصيله وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك والله أعلم
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاٌّ يْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّة ٌ هِى َ أَرْبَى مِنْ أُمَّة ٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير قوله بِعَهْدِ اللَّهِ وجوهاً الأول قال صاحب ( الكشاف ) عهد الله هي البيعة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام لقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها أي بعد توثيقها باسم الله الثاني أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس والوعد من العهد وقال ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلماً كان أو كافراً فإنما العهد ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى الثالث قال الأصم المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الرابع عهد الله هو اليمين بالله وقال هذا القائل إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه لأنه عليه السلام قال ( من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر ) الخامس قال القاضي العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله إِذَا عَاهَدتُّمْ يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبراً ولأنه تعالى قال في آخر الآية وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول وأيضاً يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا تكراراً لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيهاً على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين وفي قوله وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا مباحث
البحث الأول قال الزجاج يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان والأصل الواو والهمزة بدل منها
البحث الثاني قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يمين اللغو هي يمين الغموس والدليل عليه أنه تعالى قال لا تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله قال إنما قال تعالى بَعْدَ تَوْكِيدِهَا للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين
البحث الثالث قوله وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا عام دخله التخصيص لأنا بينا أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها
ثم قال وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً هذه واو الحال أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالوفاء وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلاً بالوفاء بسبب ذلك الحلف
ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وفيه ترغيب وترهيب والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيراً فخير وإن شراً فشر ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض وقال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا وفيه مسائل
المسألة الأولى في المشبه به قولان
القول الأول أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة وقيل ريطة وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن
والقول الثاني أن المراد بالمثل الوصف دون التعين لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً والدعاء إليه إذا كان حسناً وذلك يتم به من دون التعيين
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها
المسألة الثالثة قوله أَنكَاثًا قال الأزهري واحدها نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية والنكث المصدر ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه
المسألة الرابعة في انتصاب قوله أَنكَاثًا وجوه الأول قال الزجاج أنكاثاً منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت وهذا غلط منه لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله أَنكَاثًا بمعنى المصدر الثاني قال الواحدي أنكاثاً مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا قوله نقضت غزلها أنكاثاً أي جعلت غزلها أنكاثاً الثالث إن قوله أَنكَاثًا حال مؤكدة
المسألة الخامسة قال ابن قتيبة هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثاً
ثم قال تعالى تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ قال الواحدي الدخل والدغل الغش والخيانة قال الزجاج كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل وقال غيره الدخل ما أدخل في الشيء على فساد
ثم قال أَن تَكُونَ أُمَّة ٌ هِى َ أَرْبَى مِنْ أُمَّة ٍ أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف قال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك وقوله أَن تَكُونَ
معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف فقوله تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي بما يأمركم وينهاكم وقد تقدم ذكر الأمر والنهي وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب والله أعلم
وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء أما المعتزلة فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه إلا أن ذلك يبطل التكليف فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر وهذه المناظرة قد تكررت مراراً كثيرة وروى الواحدي أن عزيراً قال يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء فقال يا عزيز أعرض عن هذا فأعاده ثانياً فقال أعرض عن هذا فأعاده ثالثاً فقال أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة قالت المعتزلة ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء أنه تعالى قال بعده وَلَوْ شَآء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثاً والجواب عنه قد سبق مراراً والله أعلم
وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّو ءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيِّبَة ً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حذر فء الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق حذر في هذه الآية فقال وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نقض عهده لأن هذا الوعيد هو قوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا لا يليق بنقض عهده قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإيمان به وشرائعه وقوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة ويدل على هذا قوله تعالى وَتَذُوقُواْ الْسُّوء أي العذاب بِمَا صَدَدتُّمْ أي بصدكم عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد ثم أكد هذا التحذير فقال وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً يريد عرض الدنيا وإن كان كثيراً إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيراً من خيرات الدنيا فلا تلتفتوا إليه لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وفيه بحثان
البحث الأول الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية والباقي خير من المنقطع والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال إنه كان خيراً عالياً شريفاً أو كان خيراً دنياً خسيساً فإن قلنا إنه كان خيراً عالياً شريفاً فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصاً حال حصوله وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها وأما إن قلنا إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع فثبت بهذا أن قوله تعالى مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا
البحث الثاني أن قوله وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع وقال جهم بن صفوان إنه منقطع والآية حجة عليه
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان وحينئذ يجب عليه أمران أحدهما أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته والثاني أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه فقال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أي على ما الزموه من شرائع الإسلام بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي يجزيهم
على أحسن أعمالهم وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات فلهذا قال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لفظة ( من ) في قوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى
والجواب أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح
والجواب نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء
السؤال الثالث ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان فظاهر قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه
والجواب أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان
السؤال الرابع هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة
والجواب فيه ثلاثة أقوال
القول الأول قال القاضي الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة
ولقائل أن يقول لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه
فإن قيل بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي
والجواب ذكروا فيه وجوهاً قيل هو الرزق الحلال الطيب وقيل عبادة الله مع أكل الحلال وقيل القناعة وقيل رزق يوم بيوم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في دعائه ( قنعني بما رزقني ) وعن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يدعو ( أللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ) قال الواحدي وقول من يقول إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبداً في الكد والعناء
واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضياً بكل ما قضاه وقدره وعلم أن مصلحته في ذلك أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء وثانيها أن المؤمن أبداً يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه وثالثها أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءاً من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءاً من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا ورابعها أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها وخامسها أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه
واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته فعند وصوله إليه يكون أيضاً واجب التغير فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزناً بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا
والقول الثاني وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر
والقول الثالث وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ( الإنشقاق 6 ) فبين أن هذا الكدح باقٍ إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا شقاء فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وقد سبق تفسيره والله أعلم
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
اعلم أنه لما قال قبل هذه الآية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النحل 97 ) أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة
المسألة الثانية قوله فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المراد به الكل لأن الرسول لما كان محتاجاً إلى الاستعاذة عند القراءة فغير الرسول أولى بها
المسألة الثالثة الفاء في قوله فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ للتعقيب فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال الواحدي وهو قول أبي هريرة ومالك وداود قالوا والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثواباً عظيماً فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه وتلك الوسوسة تحبط ثواب القراءة أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصوناً عن الإحباط أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة وقالوا معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ وليس معناه استعذ بعد القراءة ومثله إذا أكلت فقل بِسْمِ اللَّهِ وإذا سافرت فتأهب ونظيره قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ ( المائدة 6 ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وأيضاً لما ثبت أن الشيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرسول بدليل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) ومن الظاهر أنه تعالى إنما أمر الرسول بالاستعاذة عند القراءة لدفع تلك الوساوس فهذا المقصود إنما يحصل عند تقديم الإستعاذة
المسألة الرابعة مذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت القراءة في الصلاة أو غيرها وسائر الفقهاء اتفقوا على أنه ليس كذلك لأنه لا خلاف بينهم أنه إن لم يتعوذ قبل القراءة في الصلاة فصلاته ماضية وكذلك حال القراءة في غير الصلاة لكن حال القراءة في الصلاة آكد
المسألة الخامسة المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس والأقرب أنه للجنس لأن لجميع المردة من الشياطين حظاً في الوسوسة
واعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس فأزال الله تعالى هذا الوهم وبين أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة فقال إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى ولهذا المعنى قال المحققون لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
ثم قال إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قال ابن عباس يطيعونه يقال توليته أي أطعته وتوليت عنه أي أعرضت عنه وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير في قوله ( به ) إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه
راجع إلى ربهم والثاني أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها فكذلك قوله وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين
وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَة ً مَّكَانَ ءَايَة ٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
اعلم أنه تعالى شرع من هذا الموضوع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغداً ينهى عنه وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى قوله وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ اعتراض دخل في الكلام والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف أي هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد وهذا توبيخ للكفار على قوله إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ أي إذا كان هو أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ وقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل وأن ذلك لمصالح العباد كما أن الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدة ينهاه عنها ويأمره بضد تلك الشربة وقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ تفسير روح القدس مر ذكره في سورة البقرة وقال صاحب ( الكشاف ) روح القدس جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وزيد الخير والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخير والمقدس المطهر من الماء و ( من ) في قوله مِن رَبّكَ صلة للقرآن أي أن جبريل نزل القرآن من ربك ليثبت الذين آمنوا أي ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب وَهُدًى وَبُشْرَى مفعول لهما معطوف على محل ليثبت والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم
المسألة الثانية قد ذكرنا أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة فقال المراد ههنا إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل أنه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قال المشركون أنت مفتر في هذا التبديل وأما سائر المفسرين فقالوا النسخ واقع في هذه الشريعة والكلام فيه على الاستقصاء في سائر السور
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله القرآن لا ينسخ بالسنة واحتج على صحته بقوله تعالى
وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى وهذا ضعيف لأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية وأيضاً فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية وأيضاً فالسنة قد تكون مثبتة للآية وأيضاً فهذا حكاية كلام الكفار فكيف يصح التعلق به والله أعلم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِى ٌّ مُّبِينٌ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلائِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمداً إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التعلم منه قيل هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب وقيل عداس غلام عتبة بن ربيعة وقيل عبد لبني الحضرمي صاحب كتب وكان اسمه جبرا وكانت قريش تقول عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمداً وقيل كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ويقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية وقيل سلمان الفارسي وبالجملة فلا فائدة في العديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه
ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِى ٌّ مُّبِينٌ ومعنى الإلحاد في اللغة الميل يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد وقرأ حمزة والكسائي يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء والباقون بضم الياء وكسر الحاء قال الواحدي والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن والدليل عليه قوله وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( الحج 25 ) والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ومنه يقال ألحدت له لحداً إذا حفرته في جانب القبر مائلاً عن الاستواء وقبر ملحد وملحود ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها لم يمله عن دين إلى دين آخر وفسر الإلحاد في هذه الآية بالقولين قال الفراء يميلون من الميل وقال الزجاج يميلون من الإمالة أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي وأما قوله أَعْجَمِى ٌّ فقال أبو الفتح الموصلي تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد الباين والإيضاح ومنه قولهم رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين لأن
القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر فأما قولهم أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم أشكيت فلاناً إذا أزلت ما يشكوه فهذا هو الأصل في هذه الكلمة ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجمياً قال الفراء وأحمد بن يحيى الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ألا ترى أنهم قالوا زيادة الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله الاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ( التوبة 97 ) وقال الفراء والزجاج في هذه الآية يقال عرب لسانه عرباة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا القرآن إنما كان معجزاً لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود إذ القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر وقال القاضي أقوى ما قيل في ذلك إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة ولذلك قال بعده وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح فيه المقصود ثم إنه تعالى في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه الأول أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم والثاني أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومدداً متباعدة ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمداً عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان الثالث أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ظاهرة باهرة فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكية
المسألة الثانية في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش والدليل عليه أن كلمة ( إنما ) للحصر والمعنى أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله
تعالى وإلا من كان كافراً وهذا تهديد في النهاية
فإن قيل قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فعل وقوله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسم وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية قبيح فما السبب في حصوله ههنا
قلنا الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً والدليل عليه قوله تعالى ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( يوسف 35 ) ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك السجن لا يدوم وقال فرعون لموسى عليه السلام لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( الشعراء 29 ) ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدوام وقال أصحابنا إنه تعالى قال وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) ولا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ وغاوٍ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام وصيغة الاسم تفيده
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول قوله إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ذكر ذلك تنبيهاً على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر ثم قال وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ تنبيهاً على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة وهذا كما تقول كذبت وأنت كاذب فيكون قولك وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب ومعناه أن عادتك أن تكون كاذباً
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله والأمر كذلك لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء وهذا الإنكار مشتمل على الكذب والافتراء وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له هل يكذب المؤمن قال ( لا ) ثم قرأ هذه الآية والله أعلم
مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَة ِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ
اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلاً في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه ومن يكفر بلسان وقلبه معاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ مبتدأ خبره غير مذكور فلهذا السبب اختلف المفسرون وذكروا فيه وجوهاً الأول أن يكون قوله مَن كَفَرَ بدلاً من قوله الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
والتقدير إنما يفتري من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء وعلى هذا التقدير فقوله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ اعتراض وقع بين البدل والمبدل منه الثاني يجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الخبر الذي هو الكاذبون والتقدير وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه والثالث يجوز أن ينتصب على الذم والتقدير وأولئك هم الكاذبون أعني من كفر بالله من بعد إيمانه وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها عن التعسف والرابع أن يكون قوله مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ شرطاً مبتدأ ويحذف جوابه لأن جواب الشرط المذكور بعده يدل على جوابه كأنه قيل من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله
المسألة الثانية أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر يدل عليه وجوه أحدها أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد روي ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان منهم عمار وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا فأما سمية فقيل ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة وقالوا إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل ياسر وهما أول قتيلين قتلاً في الإسلام وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فقيل يا رسول الله إن عماراً كفر فقال كلا إن عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يبكي فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح عينيه ويقول ( ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ) ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا
المسألة الثالثة قوله إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ليس باستثناء لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة
المسألة الرابعة يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية قال مجاهد أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وسمية أما الرسول عليه السلام فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ثم أجلسوا في الشمس فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ويشتم سمية ثم طعن الحربة في فرجها وقال الآخرون ما نالوا منهم غير بلال فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول أحد أحد حتى ملوا فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه فتركوه قال عمار كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فهانت عليه نفسه فتركوه قال خباب لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري
المسألة الخامسة أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات مثل أن يقول إن محمداً كذاب ويعني عند الكفار أو يعني به محمداً آخر أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار وههنا بحثان
البحث الأول أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر
هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع
البحث الثاني لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئاً منها وما أراد إلا ذلك المعنى فههنا يتعين إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للقتل فمن الناس من قال يباح له الكذب هنا ومنهم من يقول ليس له ذلك وهو الذي اختاره القاضي قال لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ولا بوعيده لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى
المسألة السادسة أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ويدل عليه وجوه أحدها أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد ولم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بئيس ما صنعت بل عظمه عليه فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر وثانيها ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما قتلو في محمد فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تقول في قال أنت أيضاً فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول الله قال ما تقول في قال أنا أصم فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( أما الأول فقد أخذ برخصة الله وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ) وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة والثاني أنه عظم حال من أمسك عنه حتى فتل وثالثها أن بذل النفس في تقرير الحق أشق فوجب أن يكون أكثر ثواباً لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها ورابعها أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة فوجب أن يكون حال الأول أفضل والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أن للإكراه مراتب
المرتبة الأولى أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى فوجب أن يجب لقوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 )
المرتبة الثانية أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه
المرتبة الثالثة أن لا يجب ولا يباح بل يحرم وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا قال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان الأول أنه قتله عمداً عدواناً فيجب عليه القصاص لقوله تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) والثاني أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدراً كان أولى والله أعلم
المسألة الثامنة من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه
المسألة التاسعة قال الشافعي رحمه الله طلاق المكره لا يقع وقال أبو حنيفة رحمه الله يقع وحجة الشافعي رحمه الله قوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به وأيضاً قوله عليه السلام ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وأيضاً قوله عليه السلام ( لا طلاق في إغلاق ) أي إكراه فإن قالوا طلقها فتدخل تحت قوله فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ ( البقرة 230 ) فالجواب لما تعارضت الدلائل وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا والله أعلم
المسألة العاشرة قوله وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ يدل على أنه محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد وإما كلام النفس فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس والله أعلم
ثم قال تعالى وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدراً على أنه مفعول لشرح والتقدير ولكن من شرح بالكفر صدره وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة
ثم قال فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ أي رجحوا الدنيا على الآخرة والمعنى أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر قال القاضي المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف لأن قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ معطوف على قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ فوجب أن يكون قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ علة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علة له بل مسبباً عنه ومعلولاً له فبطل هذا التأويل ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قال القاضي الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه والثاني أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمناً فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب والثالث وصفهم بالغفلة ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ قال ابن عباس أي عما يراد بهم في الآخرة
ثم قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة
الصفة الأولى أنهم استوجبوا غضب الله
والصفة الثانية أنهم استحقوا العذاب الأليم
والصفة الثالثة أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة
والصفة الرابعة أنه تعالى حرمهم من الهداية
والصفة الخامسة أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم
والصفة السادسة أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه فلهذا السبب قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ أي هم الخاسرون لا غيرهم والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم والله أعلم
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ
المسألة الثانية قرأ ابن عامر فَتَنُواْ بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله أما وجه القراءة الأولى فأمور الأول أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم والثاني أن فتن وأفتن بمعنى واحد كما يقال مان وأمان بمعنى واحد والثالث أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية
فكأنهم فتنوا أنفسهم وإنما جعل ذلك فتنة لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا قال الحسن هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم وقيل نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد فلما كان يوم الفتح أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه أسلم وحسن إسلامه وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية فقوله مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة وليس في اللفظ ما يدل على التعيين
إذا عرفت هذا فنقول إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة فالهاء في قوله مِن بَعْدِهَا تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل وهي الهجرة والجهاد والصبر
أما قوله يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ففيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج ( يوم ) منصوب على وجهين أحدهما أن يكون المعنى إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِى يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران والثاني أن يكون التقدير وذكرهم أو اذكر يوم كذا وكذا لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير
البحث الثاني لقائل أن يقول النفس لا تكون لها نفس أخرى فما معنى قوله كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا
والجواب النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته فالنفس الأولى هي الجثة والبدن والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره قال تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) وعن بعضعهم تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم هَؤُلاء أَضَلُّونَا ( الأعراف 38 ) وقولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
ثم قال تعالى وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ فيه محذوف والمعنى توفى كل نفس جزاء ما عملت من
غير بخس ولا نقصان وقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قال الواحدي معناه لا ينقضون قال القاضي هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد حقه من غير نقصان ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك
والجواب لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع وأيضاً فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ( البقرة 81 ) أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة والله أعلم
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة ً كَانَتْ ءَامِنَة ً مُّطْمَئِنَّة ً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف كما ذكره في هذه الآية
المسألة الثانية المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثرون من المفسرين على أنها مكة والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة يكون غير مكة
المسألة الثالثة ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات
الصفة الأولى كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) والأمر في مكة كان كذلك لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض أما أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم
واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها كما يقال طيب وحار وبارد
والصفة الثانية قوله مُّطْمَئِنَّة ً قال الواحدي معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق أقول إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف فهذا هو معنى كونها آمنة وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق فهذا هو معنى قوله يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار
والجواب أن العقلاء قالوا
ثلاثة ليس لها نهاية
الأمن والصحة والكفاية قوله ءامِنَة ً إشارة إلى الأمن وقوله مُّطْمَئِنَّة ً إشارة إلى الصحة لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه وقوله يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ إشارة إلى الكفاية قال المفسرون وقوله مّن كُلّ مَكَانٍ السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( إبراهيم 37 ) ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال وهو أن الأنعم جمع قلة فكان المعنى أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله وكان اللائق أن يقال إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب فما السبب في ذكر جمع القلة
والجواب المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاد قال المفسرون عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد أما الخوف فهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب هل يذاق اللباس قال ابن الأعرابي لا باس ولا لباس يا أيها النسناس هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال فكساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع وأقول جوابه من وجوه
الوجه الأول أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان أحدهما أن المذوق هو الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والثاني أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين فقال فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
والوجه الثاني أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار تقول ناظر فلاناً وذق ما عنده قال الشاعر
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان كذلك يجوز أن تقول ذقت لباس الجوع والخوف على فلان
والوجه الثالث أن يحمل لفظ اللبس على المماسة فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ قال ابن عباس يريد بفعلهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله قال الفراء ولم يقل بما صنعت ومثله في القرآن كثير ومنه قوله تعالى فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( الأعراف 4 ) ولم يقل قائلة وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله فكل هذه الصفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية إلا أن المراد في الحقيقة أهلها فلا جرم قال في آخر الآية بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ والله أعلم
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال وَلَقَدْ جَاءهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مّنْهُمْ يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني الجوع الذي كان بمكة وقيل القتل يوم بدر وأقول قول ابن عباس أولى لأنه تعالى قال بعده فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني أن ذلك الجوع إنما كان بسبب كفركم فاتركوا الكفر حتى تأكلوا فلهذا السبب قال فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما فكلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله يريد من الغنائم وقال الكلبي إن رؤساء مكة كلموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين جهدوا وقالوا عاديت الرجال فما بال النسوان والصبيان وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأذن في حمل الطعام إليهم فحمل إليهم العظام فقال الله تعالى فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيّباً والقول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ ( النحل 115 ) الآية يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن هذه الآية إلى آخرها مذكورة في سورة البقرة مفسرة هناك ولا فائدة في الإعادة وأقول إنه تعالى حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة في هذه السورة لأن لفظة إِنَّمَا تفيد الحصر وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة الأنعام في قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ ( الأنعام 145 )
وهاتان السورتان مكيتا وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة البقرة لأن هذه الآية بهذه اللفظة وردت في سورة البقرة وحصرها أيضاً في سورة المائدة فإنه تعالى قال في أول هذه السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( المائدة 1 ) فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم وأجمعوا على أن المراد بقوله عَلَيْكُمْ هو قوله تعالى في تلك السورة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( المائدة 3 ) فذكر تلك الأربعة المذكورة في تلك السور الثلاثة ثم قال وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) وهذه الأشياء داخلة في الميتة ثم قال وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو أحد الأقسام الداخلة تحت قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فثبت أن هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان فإن سورة البقرة مدنية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعاً ثابتاً في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة والله أعلم
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأربع وفي النقصان عنها أخرى فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة وبين أن الأشياء التي يقولون إن هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب وأقول إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر والله أعلم
المسألة الثانية في انتصاب الكذب في قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ وجهان الأول قال الكسائي والزجاج ( ما ) مصدرية والتقدير ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال لا تقولوا لكذا كذا وكذا
فإن قالوا حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار لأن قوله تعالى لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ عين ذلك
والجواب أن قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة الثاني أن تكون ( ما ) موصولة والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً
المسألة الثالثة قوله تعال تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته وهذا مبالغ في وصف كلامهم بكونه كذباً ونظيره قول أبي العلاء المعري
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا والمعنى أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ المعنى أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون إنه أمرنا بذلك وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) قال الواحدي وقوله لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بدل من قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى ثم أوعد المفترين وقال إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ثم بيّن أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب فقال مَتَاعٌ قَلِيلٌ قال الزجاج المعنى متاعهم متاع قليل وقال ابن عباس بل متاع كل الدنيا متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص اليهود به من المحرمات فقال وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وتفسيره هو المذكور في قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّو ءَ بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن المقصود بيان أن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة ولفظ السوء يتناول كل ما لا ينبغي وهو الكفر والمعاصي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً فإنه ما لم يعتقد كون ذلك المذهب حقاً وصدقاً فإنه لا يختاره ولا يرتضيه وأما المعصية فما لم تصر الشهوة غالبة للعقل والعلم لم تصدر عنه تلك المعصية فثبت أن كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة فقال تعالى إنا قد بالغنا في تهديد أولئك الكفار الذين يحللون ويحرمون بمقتضى السهوة والفرية على الله تعالى ثم إنا بعد ذلك نقول إن ربك في حق الذين عملوا السوء بسبب الجهالة ثم تابوا من بعد ذلك أي من بعد تلك السيئة وقيل من بعد تلك الجهالة ثم إنهم بعد التوبة عن تلك السيئات أصلحوا أي آمنوا وأطاعوا الله
ثم أعاد قوله إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا على سبيل التأكيد ثم قال لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ والمعنى إنه لغفور رحيم لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة وحاصل الكلام أن الإنسان وإن كان قد أقدم على الكفر والمعاصي دهراً دهيراً وأمداً مديداً فإذا تاب عنه وآمن وأتى بالأعمال الصالحة فإن الله غفور رحيم يقبل توبته ويخلصه من العذاب
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لانْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلمأنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام وقولهم لو أرسل الله رسولاً لكان ذلك الرسول من الملائكة ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله وتحريم أشياء أباحها الله تعالى فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات
الصفة الأول أنه كان أمة وفي تفسيره وجوه الأول أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير كقوله
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
الثاني قال مجاهد كان مؤمناً وحده والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في زيد بن عمرو بن نفيل ( يبعثه الله أمة وحدة ) الثالث أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية فالأمة هو الذي يؤتم به ودليله قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) الرابع أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحقا ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده
الصفة الثانية كونه قانتاً لله والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه كونه مطيعاً لله
الصفة الثالثة كونه حنيفاً والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى وهذه صفة الحنيفية
الصفة الرابعة قوله وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معناه أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقاً في بحر التوحيد
الصفة الخامسة قوله شَاكِراً لاّنْعُمِهِ روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال الآن يجب عليّ مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء
فإن قيل لفظ الأنعم جمع قلة ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة فلم قال شَاكِراً لاّنْعُمِهِ
قلنا المراد أنه كان شاكراً لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة
الصفة السادسة قوله اجْتَبَاهُ أي اصطفاه للنبوة والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت وأصله جمع المال في الحوض والجابية هي الحوض
الصفة السابعة قوله وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل نظيره قوله تعالى وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( الأنعام 153 )
الصفة الثامنة قوله وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً قال قتادة إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) وقال
آخرون هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وقيل الصدق والوفاء والعبادة
الصفة التاسعة قوله وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
فإن قيل لم قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ولم يقل وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين
قلنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( البقرة 130 ) فقال ههنا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 )
واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وفيه مباحث
البحث الأول قال قوم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان على شريعة إبراهيم عليه السلام وليس له شرع هو به منفرد بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين فلما قال اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ كان المراد ذلك
فإن قيل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له فيمتنع حمل قوله إِنْ أَتَّبِعُ على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها
قلنا يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) لفظة ( ثم ) في قوله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ تدل على تعظيم منزلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملته من قبل إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بمتابعة إبراهيم عليه السلام وكان محمد عليه السلام اختار يوم
الجمعة فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة وعند هذا لسائل أن يقول فلم اختار اليهود يوم السبت
فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وفي الآية قولان
القول الأول روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد )
إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله وليس معنى قوله اخْتَلَفُواْ فِيهِ أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله اخْتَلَفُواْ فِيهِ بهذا بل الصحيح ما قدمناه
فإن قال قائل هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة فكان يوم السبت يوم الفراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال فعينوا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيداً لنا فهذان الوجهان معقولان فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيداً لنا
قلنا يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه والله أعلم
والقول الثاني في اختلافهم في السبت أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة
ثم قال تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ والمعنى أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بإتباع إبراهيم عليه السلام بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه فقال ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ
واعلم أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى فقال وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة متباينة وما رأيت للمفسرين فيه كلاماً ملخصاً مضبوطاً
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة والمقصود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه
أما القسم الأول فينقسم أيضاً إلى قسمين لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض وإما أن لا تكون كذلك بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل فظهر بهذا التقسيم إنحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة أولها الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وذلك هو المسمى بالحكمة وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات وهي التي قال الله في صفتها وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وثانيها الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وهي الموعظة الحسنة وثالثها الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم وذلك هو الجدل ثم هذا الجدل على قسمين
القسم الأول أن يكون دليلاً مركباً من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن
القسم الثاني أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة والطرق الفاسدة وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول وذلك هو المراد بقوله تعالى وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول أهل العلم ثلاث طوائف الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام وهذان القسمان هما الطرفان فالأول هو طرف الكمال والثاني طرف النقصان
وأما القسم الثاني فهو الواسطة وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا
بالموعظة الحسنة وأدناها المجادلة وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققو وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة وفيهم الكثيرة والغلبة وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة فقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل
ومن لطائف هذه الآية أنه قال يَخْتَلِفُونَ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة أما الجدل فليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فهلذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة وإنما الغرض منه شيء آخر والله أعلم
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ والمعنى أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاية فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية فبعضها نفوس مشرقة صافية قلية التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها فلهذا قال تعالى اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة كما قال فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( الروم 30 ) والله أعلم
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي هذه الآية فيها ثلاثة أقوال
القول الأول وهو الذي عليه العامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال ( والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك ) فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمسك عما أراد
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث
والقول الثاني أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( البقرة 190 ) وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا
والقول الثالث أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله وأقول إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال المراد أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور ويحمل أكثر المستعمين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه
فإن قيل فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية
قلنا لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنا نقول تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب
المرتبة الأولى قوله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ يعني إن رغبتم في استقباء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن كما أنك إذا قلت للمريض إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه
والمرتبة الثانية الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام
المرتبة الثالثة وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله وَاصْبِرْ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ولما كان الصبر في هذا المقام شاقاً شديداً ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصلو جميع أنواع الطاعات ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين أحدهما فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قيل معناه ولا تحزن على قتلى أحد ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء ويرجع حاصله إلى فوت النفع والسبب الثاني لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل وإليه الإشارة بقوله وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ بكسر الضاد وفي النمل مثله والباقون بفتح الضاد في الحرفين أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور قال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن وما كان في القلب فإنه الضيق وقال أبو عمرو الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم وقال القتيبي ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين وبهذا الطريق قلنا إنه تصح قراءة ابن كثير
البحث الثاني قرىء وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ
البحث الثالث هذا من كلام المقلوب لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك إلا أن الفائدة في قوله وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإسنان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم
المرتبة الرابعة قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ عن استيفاء الزيادة وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ في ترك أصل الانتقام فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ولما قال الله لرسوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ذكر هذه المراتب الأربعة تنبيهاً على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له
المسألة الثالثة قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ معيته بالرحمة والفضل والرتبة وقوله الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وقوله وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وذلك
يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وعبر عنه بعض المشايخ فقال كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق وقال الحكماء كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص فقال إنما الوصية من المال ولا مال لي ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل
المسألة الرابعة قال بعهضم إن قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ منسوخ بآية السيف وهذا في غاية البعد لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وترك التعدي وطلب الزيادة ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب
سورة الإسراء
مكية إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57 ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنيةوآياتها 111 نزلت بعض القصص
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاٌّ قْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءْايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
سورة بني إسرائيل
عددها مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية غير قوله
سورة بني إسرائيل
عددها مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية غير قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ ( الإسراء 71 ) إلى قوله وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( الإسراء 80 ) فإنها مدنيات نزلت حين جاء وفد ثقيف
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال النحويون سُبْحَانَ اسم علم للتسبيح يقال سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً فالتسبيح هو المصدر وسبحان اسم علم للتسبيح كقولك كفرت اليمين تكفيراً وكفراناً وتفسيره تنزيه الله تعالى من كل سوء قال صاحب ( النظم ) السبح في اللغة التباعد يدل عليه قوله تعالى إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً ( المزمل 7 ) أي تباعداً فمعنى سبح الله تعالى أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلبية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد وقد جاء في لفظ التسبيح معان آخرى أحدها أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة ومنه قوله تعالى فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( الصفات 143 ) أي من المصلين والسبحة الصلاة النافلة وإنما قيل للمصلي مسبح
لأنه معظم لله بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي وثانيها ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( القلم 28 ) أي تستثنون وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله تعالى في الاستثناء بمشيئته وثالثها جاء في الحديث ( لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء ) قيل معناه نور وجهه وقيل سبحات وجهه نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال سبحان الله وقوله أَسْرَى قال أهل اللغة أسرى وسرى لغتان وقوله بِعَبْدِهِ أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في العارج أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم أشرفك قال ( رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية ) فأنزل الله فيه سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ وقوله لَيْلاً نصب على الظرف
فإن قيل الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل
قلنا أراد بقوله لَيْلاً بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة ونقل صاحب ( الكشاف ) عن أنس والحسن أنه كان ذلك قبل البعثة وقوله مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق ) وقيل أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به وعن ابن عباس الحرم كله مسجد وهذا قول الأكثرين وقوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ قيل بالثمار والأزهار وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة
واعلم أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية فمدلول قوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى أنه وصل إلى حد ذلك المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه وقوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى
فإن قالوا قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأن كلمة مِنْ تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قلنا الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض والذي رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعض آيات الله تعالى ولا شك أن آيات الله أفضل
ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد البصير بأفعاله العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء مقرونة بالصدق والصفاء فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات وقيل المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر بصير بما يعملون في هذه الواقعة
المسألة الثانية اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأقلون قالوا إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما أسري بروحه وحكي هذا القول أيضاً عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين أحدهما في إثبات الجواز العقلي الثاني في الوقوع
أما المقام الأول وهو إثبات الجواز العقللي فنقول الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين
المقدمة الأولى في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان والله أعلم
الوجه الثاني وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه
الوجه الثالث أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم فإن كان القول بمرعاج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعاً ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعناً في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة ممن العرش إلى مكة ولما كان ذلك باطلاً كان ما ذكروه أيضاً باطلاً
فإن قالوا نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلياً في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام
قلنا تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه
الصلاة والسلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة وإذاكان كذلك كان الإلزام المذكور قوياً روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر إن كان قد قال ذلك فهو صادق ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر شيئاً قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر أشهد أنك رسول الله حقاً فقال له الرسول وأنا أشهد أنك الصديق حقاً وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا
الوجه الرابع أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني فهذا الإلزام غير وارد عليهم إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل
فإن قالوا هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه
قلنا نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
الوجه الخامس أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفلا مسير سليمان عليه الصلاة والسلام غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) بل نقول الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة وذلك أيضاً يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة
الوجه السادس أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بقليس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 40 ) وإذاكان ممكناً في حق بعض الناس علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود
الوجه السابع إن من الناس من يقول الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه
المقدمة الثانية في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممتنعاً والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمر ممكن الوجود في نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممكن فوجب كونه تعالى قادراً عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام بل هو حاصل في جميع المعجزات فانقلات العصا ثعباناً تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع والله أعلم
المقام الثاني في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر أما القرآن فهو هذه الآية وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح فوجب أن يكون الإسراء حاصلاً لمجموع الجسد والروح
واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده فقد احتجوا عليه بوجوه أحدها أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال والباقي غير متبدل فالإنسان مغاير لهذا البدن وثانيها إن الإنسان قد يكون عارفاً بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلاً عن جميع أجزائه البدنية والمعلوم مغاير للمغفول عنه فالإنسان مغاير لهذا البدن وثالثها أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء
فإن قالوا أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته وهذا محال
قلنا نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه بل إنما نتمسك بمحض العقل فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد وذلك الشيء الواحد يأخذ بآله اليد ويبصر بآلة العين ويسمع بآلة الأذن فالإنسان شيء واحد وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والآلات فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد
إذا ثبت هذا فنقول سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقرير فلم
يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد
فإن قالوا فالإسرا بالروح ليس بأمر مخالف للعادة فلا يليق به أن يقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ
قلنا هذا أيضاً بعيد لأنه لا يبعد أن يقال إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره ألبتة فلا جرم كان هذا الكلام لائقاً به فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معاً
والجواب أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد والدليل عليه قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( العلق 9 10 ) ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد وقال أيضاً في سورة الجن وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات واحتج المنكرون له بوجوه أحدها بالوجوه العقلية وهي ثلاثة أولها أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة وثانيها أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول وثالثها أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك وذلك محال
والشبهة الثانية أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد فإنه يكون ذلك عبثاً وذلك لا يليق بالحكيم
والشبهة الثالثة تمسكوا بقوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ ( الإسراء 60 ) وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج وإنما كان فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر به فكان حديث المعراج سبباً لفتنة الناس فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام الشبهة الرابعة أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك فأي حاجة إلى البراق ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يزل يتردد بين الله تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام قال القاضي وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره وأنه يوجب البداء وذلك على الله تعالى محال فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما يجوز قبوله فكان مردوداً
والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها
والجواب عن الشبهة الثانية ما ذكره الله تعالى وهو قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه الأول أن خيرات الجنة عطيمة وأهوال النار شديدة فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال
النار أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما وحينئذ يتفرغ للشفاعة الثاني لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة صارت سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم الثالث أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين
واعلم أن قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين
والجواب عن الشبهة الثالثة أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام
والجواب عن الشبهة الرابعة لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد والله أعلم
المسألة الرابعة أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش فهذه الآية لا تدل عليه ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ ( الإنشقاق 19 ) وتفسيرهما مذكور في موضعه وأما دلالة الحديث فكما سلف والله أعلم
وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً ذُرِّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة لأن قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ يدل على الغيبة وقوله وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات
المسألة الثانية ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن أسرى به وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ يعني التوراة وَجَعَلْنَاهُ هُدًى
أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوه أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ أبو عمرو أَلاَّ تَتَّخِذُواْ بالياء خبراً عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب أي قلنا لهم لا تتخذوا
البحث الثاني قال أبو علي الفارسي إن قوله أَلاَّ تَتَّخِذُواْ فيه ثلاثة أوجه أحدها أن تكون ( أن ) ناصبة للفعل فيكون المعنى وجعلناه هدى لئلا تتخذوا وثانيها أن تكون ( أن ) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب والأمر في قوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله أَلاَّ تَتَّخِذُواْ وثالثها أن تكون ( أن ) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلاً
البحث الثالث قوله وَكِيلاً أي رباً تكلون أموركم إليه أقول حاصل الكلام في الآية أنه تعالى ذكر تشريف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالإسراء ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه ثم وصف التوراة بكونها هدى ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلاً وذلك هو التوحيد فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقاً في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله فإن نطق نطق بذكر الله وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى وإن طلب طلب من الله فيكون كله لله وبالله ثم قال ذُرّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وفي نصب ذُرّيَّة ِ وجهان
الوجه الأول أن يكون نصباً على النداء يعني يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال هذا نداء قال الواحدي وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك فكان قوله يا ذرية من حملنا مع نوح قائماً مقام قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
الوجه الثاني في نصب قوله ذُرّيَّة ِ أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) والتقدير لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( الإسراء 3 ) أي كان كثير الشكر روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال ( الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني ) وإذا شرب قال ( الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني ) وإذا اكتسى قال ( الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ) وإذا احتذى قال ( الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ) وإذا قضى حاجته قال ( الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ) وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثره به
فإن قيل قوله إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ما وجه ملايمته لما قبله
قلنا التقدير كأنه قال لا تتخذوا من دوني وكيلاً ولا تشركوا بي لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان عبداً شكوراً وإنما يكون العبد شكوراً لو كان موحداً لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام كما أن آباءكم اقتدوا به والله أعلم
وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا
اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد فقال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام ومنه قوله فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت 12 ) وقول الشاعر
وعليهما مسرودتان قضاهما داود
فقوله وَقَضَيْنَا أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم ولفظ إِلَى صلة للإيحاء لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا وقوله لَتُفْسِدُنَّ يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله فِى الاْرْضِ يعني أرض مصر وقوله وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيماً لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم ثم قال فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا يعني أولى المرتين بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ والمعنى أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوماً أولى بأس شديد ونجدة وشدة والبأس القتال ومنه قوله تعالى وَحِينَ الْبَأْسِ ( البقرة 177 ) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم قيل إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا فهو قوله ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ
والقول الثاني إن المراد من قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة
والقول الثالث إن قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم
ثم قال تعالى فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ قال الليث الجوس والجوسان التردد خلال الديار والبيوت في الفساد والخلال هو الانفراج بين الشيئين والديار ديار بيت المقدس واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة طلبوا من فيها وقال ابن قتيبة عاثوا وأفسدوا وقال الزجاج طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه قال الواحدي الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه
ثم قال تعالى وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزماً حتماً لا يقبل النقض والنسخ ثم قال تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه والنفير والنافر واحد كالقدير والقادر وذكرنا معنى نفر عند قوله فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ ( التوبة 122 ) وقوله انْفِرُواْ خِفَافًا ( التوبة 41 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه الأول أنه تعالى قال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً جزماً لا يقبل النسخ لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً
إذا ثبت هذا فنقول عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وانقلاب حكمه الجازم باطلاً وانقلاب علمه الحق جهلاً وكل ذلك محال فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً فكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً لا يقبل النسخ والرفع مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله وذلك يدل على قولنا إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية
الوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني
إسرائيل ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله ثُمَّ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى
أجاب الجبائي عنه من وجهين الأول المراد من بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر والثاني أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع
واعلم أن الجواب الأول ضعيف لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى والجواب الثاني أيضاً ضعيف لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع والأول فعل والثاني ترك فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَة ِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأن الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
المسألة الثانية قال الواحدي لا بد ههنا من إضمار والتقدير وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم والمعنى إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات
المسألة الثالثة قال النحويون إنما قال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا للتقابل والمعنى فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 4 5 ) أي إليها
المسألة الرابعة قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك
ثم قال تعالى فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون معناه وعد المرة الأخيرة وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام قال الواحدي فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام
المسألة الثانية جواب قوله فَإِذَا جَاء محذوف تقديره فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ( الإسراء 5 ) ثم قال فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال ساءه يسوءه أي أحزنه وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ونظير هذا المعنى كثير في القرآن
المسألة الثانية قرأ العامة ليسوؤا على صيغة المغايبة قال الواحدي وهي موافقة للمعنى وللفظ أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة ليسوء على إسناد الفعل إلى الواحد وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله ثم ردنا وأمددنا وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله أُولَاهُمَا بَعَثْنَا والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ( آل عمران 18 ) وقال الزجاج ليسوء الوعد وجوهكم وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله بعثنا عليكم وأمددنا
ثم قال تعالى وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا يقال تبر الشيء تبراً إذا هلك وتبره أهلكه قال الزجاج كل شيء جعلته مكسراً ومفتتاً فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره ومنه قوله تعالى إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأعراف 139 )
وقوله وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ ( نوح 28 ) وقوله وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل وقوله تَتْبِيرًا ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) أي حقاً والمعنى وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه
ثم قال تعالى عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ والمعنى لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل
ثم قال وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا يعني أن بعثنا عليكم من بعثنا ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى قال القفال إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ ( الأعراف 167 ) ثم قال وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه إما بالموت وإما بطريق آخر وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً
إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم كان ذلك تنبيهاً على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة لا جرم أثنى على القرآن فقال إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ
واعلم أن قوله تعالى دِينًا قِيَمًا مّلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ( إبراهيم 161 ) يدل على كون هذا الدين مستقيماً وقوله في هذه الآية لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان وأقول قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيماً كونه حقاً وصدقاً ودخول التفاوت في كون الشيء حقاً وصدقاً محال فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي الله كبير وقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف والله أعلم
البحث الثاني قوله لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ نعت لموصوف محذوف والتقدير يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( فصلت 34 ) أي بالخصلة التي هي أحسن
أما قوله وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى أنه يهدي للتي هي أقوم وقد مر تفسيره
والصفة الثانية أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هادياً إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم
والصفة الثالثة قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل
واعلم أن قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ عطف على قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ونظيره قوله بشرت زيداً أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع
فإن قيل كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب
قلنا مذكور على سبيل التهكم أو يقال إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
فإن قيل هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة فكيف يليق بهذا الموضع قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
قلنا عنه جوابان أحدهما أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين والثاني أن بعضهم قال لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة والله أعلم
وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
وفي الآية مباحث
البحث الأول اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ
البحث الثاني اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال
القول الأول المراد منه النضر بن الحرث حيث قال اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الأنفال 32 ) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته فكان بعضهم يقول ائتنا بعذاب الله وآخرون يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمداً كاذب فيما يقول
والقول الثاني المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له ما لك تئن فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه فلما نامت أخرج يده وهرب فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه فقال عليه الصلاة والسلام ( اللهم اقطع يدها ) فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذاباً من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون فلترد سودة يدها )
والقول الثالث أقول يحتمل أن يكون المراد أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها
البحث الرابع القياس إثبات الواو في قوله وَيَدْعُ إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة لأنه لا يظهر في اللفظ أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع ونظيره سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 18 ) وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ( المؤمنين 146 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ الْمُنَادِ ( ق 41 ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( القمر 5 ) ولو كان بالواو والياء لكان صواباً هذا كلام الفراء وأقول إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله
ثم قال تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً وفي هذا الإنسان قولان
القول الأول آدم عليه السلام وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
والقول الثاني أنه محمول على الجنس لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا وأقول بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول كان المقصود عائداً إلى
القول الثاني لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفاً بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل فكان المقصود عائداً إلى القول الثاني والله أعلم
وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَى ْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه فكذلك الدهر مركب من النهار والليل فالمحكم كالنهار والمتشابه كالليل وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل
والوجه الثاني في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد وهو عجائب العالم العلوي والسفلي
الوجه الثالث أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد والله أعلم
المسألة الثانية في قوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ قولان
القول الأول أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار والمعنى أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له مع كونهما متعاقبين على الدوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار فلولا الليل لما حصل السكون والراحة ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش
ثم قال تعالى فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وعلى هذا القول تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين والتقدير فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة ونظيره قولنا نفس الشيء
وذاته فكذلك آية الليل هي نفس الليل ويقال أيضاً دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان فكذلك ههنا
القول الثاني أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيتين يريد الشمس والقمر فمحونا آية الليل وهي القمر وفي تفسير محو القمر قولان
القول الأول المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدراً كاملاً ثم يأخذ في الانتقاص قليلاً قليلاً وذلك هو المحو إلى أن يعود إلى المحاق
والقول الثاني المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء ومعنى المحو في اللغة إذهاب الأثر تقول محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره وأقول حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى وذلك لأن اللام في قوله لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ متعلق بما هو مذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم وأيضاً بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى وأقول أيضاً لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر فهو أيضاً برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة فوجب أن يكون متشابه الصفات فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي وبعض أجزائه بالنور الضعيف وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذت وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان وهذا لا يفيد مقصود الخصم لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات والله أعلم
أما قوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ففيه وجهان الأول أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن
الإضاءة سبب لحصول الإبصار فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب والثاني قال أبو عبيدة يقال قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه كقوله رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافاً فكذا قوله والنهار مبصراً أي أهله بصراء
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 و 11 ) وقال أيضاً جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( القصص 73 )
ثم قال تعالى وَلِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب الساعات والأيام والشهور والسنون فالعدد للسنين والحساب لما دون السنين وهي الشهور والأيام والساعات وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف وليس بعدها إلا التكرار والله أعلم
ثم قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً والمعنى أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً فلا جرم قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم فقد فصلناه وشرحناه وهو كقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ( الأنعام 38 ) وقوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وقوله تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( الأحقاف 25 ) وإنما ذكر المصدر وهو قوله تَفْصِيلاً لأجل تأكيد الكلام وتقريره كأنه قال وفصلناه حقاً وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه والله أعلم
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكوراً وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقد صار مذكوراً وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
الوجه الثاني أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بأعظم وجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله
الوجه الثالث في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار كان المعنى إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة أو تمرد وعصى وبغى فهذا هو الوجه في تقرير النظم
المسألة الثانية في تفسير لفظ الطائر قولان
القول الأول أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى ازعاجه وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ( يس 18 ) إلى قوله قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ( يس 19 ) فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
القول الثاني قال أبو عبيدة الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم وتقريره من وجهين
الوجه الأول أن تقدير الآية وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له وما كان لازماً للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود
والوجه الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه لأن قوله أَلْزَمْنَاهُ تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه ونظيره قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فِى عُنُقِهِ كناية عن اللزوم كما يقال جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ويقال قلدتك كذا وطوقتك كذا أي صرفته إليك وألزمته إياك ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق ومنه يقال فلان يقلد فلاناً أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه قال أهل المعاني وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه أو شراً يشينه وما يزين يكون كالطوق والحلي والذي يشين فهو كالغل فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته
ثم قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً قال الحسن يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة قوله وَنُخْرِجُ لَهُ أي من قبره يجوز أن يكون معناه نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر وقرأ يعقوب ( ويخرج له يوم القيامة كتاباً ) أي يخرج له الطائر أي عمله كتاباً منشوراً كقوله تعالى وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( التكوير 10 ) وقرأ ابن عمر ( يلقاه ) من قولهم لقيت فلاناً الشيء أي استقبلته به قال تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الإنسان 11 ) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد
ثم قال تعالى اقْرَأْ كَتَابَكَ والتقدير يقال له وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة اقْرَأْ كَتَابَكَ قال الحسن يقرؤه أمياً كان أو غير أمي وقال بكر بن عبد الله يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى ( اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك ) فيعظم سروره ويصير من الذين قال في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) ثم يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقة 19 )
وأما قوله كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي محاسباً قال الحسن عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك قال السدي يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا والله أعلم
المسألة الرابعة قال حكماء الإسلام هذه الآية في غاية الشرف وفيها أسرار عجيبة في أبحاث
البحث الأول أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقداراً من الخير والشر فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولاً لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طئر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية
والبحث الثاني أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثاً متقدماً عليه لحصول الحادث المتأخر فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله وعند هذا يتخيل الإنسان طيوراً لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب وأنها صارت وطارت طيراناً لا بداية له ولا غاية له وكان كل واحد منها متوجهاً إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة وهذا هو المراد من قوله أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
البحث الثالث أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظاً ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له
إذا عرفت هذا فنقول لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثراً ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفاً قليلاً وإن كانت الكتابة أيضاً في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة فعلى هذا دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت ممتنعة الزوال كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيراً كان أو قليلاً قوياً كان أو ضعيفاً فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص فإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات وإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقاً بالبدن لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي فإذا انقطع ذلك التعلق قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء وقيل له فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( ق 22 ) وقوله وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً معناه ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتاباً مشتملاً على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشوراً لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية وظاهرة بعد أن كانت مخفية وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة اقْرَأْ كَتَابَكَ ثم يقال له كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة
حصلت السعادة لا محالة وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية
واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضاً والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل والله أعلم بحقائق الأمور
مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 ) ومعناه أن كل أحد مختص بعمل نفسه عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ولا يتعدى منه إلى غيره ويتأكد هذا بقوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( النجم 39 40 ) قال الكعبي الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأن قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد أما المجبور على أحد الطرفين الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به
المسألة الثانية أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى قال الزجاج يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة ومعناه أثم يأثم إثماً قال وفي تأويل الآية وجهان الأول أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره وأيضاً غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه والثاني أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم لأن غيره عمله كما قال الكفار وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 32 )
واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة
الحكم الأول
قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم وإلا لكان الطفل مؤاخذاً بذنب أبيه وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية
الحكم الثاني
روى ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله ) فعائشة طعنت في صحة هذا
الخبر واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره وذلك خلاف هذه الآية
الحكم الثالث
قال القاضي دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى وبيانه من وجوه أحدها أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره وثانيها أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلاً لأن الوازر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختاراً يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا
الحكم الرابع
أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة وقالوا لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير وذلك على مضادة هذه الآية
وأجيب عنه بأن المخطىء ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى
المسألة الثالثة قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع والدليل عليه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وبقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 )
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال ضعيف وبيانه من وجهين الأول أن نقول لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي ألبتة وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه أحدها أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبياً من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشرع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان وثانيها أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب ألبتة وهذا باطل فذاك باطل وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب
العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال الوجوب حاصل بمحض العقل
فإن قالوا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم
قلنا إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه
وإذا ثبت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن نجري الآية على ظاهرها ونقول العقل هو رسول الله إلى الخلق بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء فالعقل هو الرسول الأصلي فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل والثاني أن نخصص عموم الآية فنقول المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي والله أعلم
واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر فلا جرم كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقنا والله تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل والله أعلم
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا في تفسير هذا الأمر قولان
القول الأول أن المراد منه الأمر بالفعل ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب ( الكشاف ) ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأن قوله فَفَسَقُواْ يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن
المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنا نقول إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب ( الكشاف ) على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق
القول الثاني في تفسير قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي أكثرنا فساقها قال الواحدي العرب تقول أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذ كثرهم وآمرهم أيضاً بالمد روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم أي كثرهم واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة ) والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام ( مهر مأمورة ) على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة وأما المترف فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُواْ فِيهَا أي خرجوا عما أمرهم الله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يريد استوجبت العذاب وهذا كالتفسير لقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص 59 ) وقوله ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( الأنعام 131 ) فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر فعند ذلك استوجبوا الأهلاك المعبر عنه بقوله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ وقوله فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا أي أهلكناها إهلاك الاستئصال والدمار هلاك على سبيل الاستئصال
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه الأول أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق الثاني أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق والثالث أنه تعالى قال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بالتعذيب والكفر ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال قال الكعبي إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك لقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد 11 ) وقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ ( النساء 147 ) وقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص 59 ) فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدىء بالإضرار وأيضاً ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة وكذا الآية التي نحن في تفسيرها فيجب حمل هذه الآية
على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي واعلم أن أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة القفال فإنه ذكر فيه وجهين
الوجه الأول قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحداً بما يعلمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا معناه وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها والحاصل أن المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم بل أمرنا مترفيها ففسقوا فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به
والوجه الثاني في التأويل أن نقول وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي وإنما خص المترفين بذلك الأمر لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم الله عليه كان قيامه بالشكر أوجب فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالاً بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق فحينئذ يصب الله البلاء عليهم صباً ثم قال القفال وهذان التأويلان راجعان إلى أن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم كما قال في قوم نوح وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 ) وقال وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) وقال في غيرهم فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ( يونس 74 ) فأخبر تعالى أولاً أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أخبر ثانياً في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضاً فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله
وأجاب الجبائي بأن قال ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا وذلك لأنه ظلم وهو على الله محال بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدة وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة وليس المراد أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا ههنا
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليماً عن الطعن والله أعلم
المسألة الثالثة المشهور عند القراء السبعة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بالتخفيف غير ممدودة الألف وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس أَمْرُنَا بالمد وعن أبي عمرو أَمْرُنَا بالتشديد فالمد على الكثير يقال أمر
القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم الله والتشديد على التسليط أي سلطنا مترفيها ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر والله أعلم
أما قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح وهم عاد وثمود وغيرهم ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطاباً لغيره وردعاً وزجراً للكل فقال وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا وفيه بحثان
البحث الأول أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادراً على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه وأيضاً أنه منزه عن العبث والظلم ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام والقدرة الكاملة والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية
البحث الثاني قال الفراء لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك كفاك به وأكرم به رجلاً وطاب بطعامك طعاماً وجاد بثوبك ثوباً أما إذا لم يكن مدحاً أو ذماً لم يجز دخولها فلا يجوز أن يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك والله أعلم
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَة َ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الاٌّ خِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلا ءِ وَهَاؤُلا ءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاٌّ خِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله هذه الآية داخلة في معنى قوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 ) ومعناه أن الكمال في الدنيا قسمان فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم اشفاقاً من زوال الرياسة عنه فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً
مطروداً من رحمة الله تعالى وفي لفظ هذه الآية فوائد
الفائدة الأولى أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا إشارة إلى المضرة العظيمة وقوله مَذْمُومًا إشارة إلى الإهانة والذم وقوله مَّدْحُورًا إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص
الفائدة الثانية أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب
الفائدة الثالثة قوله تعالى لِمَن نُّرِيدُ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
وأما القسم الثاني وهو قوله تعالى وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة
الشرط الأول أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته
والشرط الثاني قوله وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان ولهم فيه تأويلان
التأويل الأول يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق إلا أنه لما كان فاسداً في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به
والتأويل الثاني لهم أنهم قالوا نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى وهذا الطريق أيضاً فاسد وأيضاً نقل عن الهند أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى
إلا أنه لما كان الطريق فاسداً لا جرم لم ينتفع به وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب
والشرط الثالث قوله تعالى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وهذا الشرط معتبر لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال والثناء عليه بالقول والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عن ذلك الشاكر والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح قال الله تعالى وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( آل عمران 188 ) فعجز الحاضرون عن الجواب فدخل ثمامة بن الأشرس وقال إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان قال تعالى فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا قال فضحك جعفر بن حرب وقال صعب المسألة فسهلت
واعلم أن قولنا مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجباً للسعادة التامة صار العبد أيضاً مشكوراً ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الثانية اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا أو تحصيل خيرات الآخرة أو يقصد به مجموعهما أو لم يقصد به واحداً منهما هذا هو التقسيم الصحيح أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية
أما القسم الثالث فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين
أما القسم الأول وهو أن يكون طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى فيه بحث يحتمل أن يقال إنه غير مقبول لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكى عن رب العزة أنه قال ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشريكه ) وأيضاً فطلب رضوان الله إما أن يقال إنه كان سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل أو داعياً إليه وإما أن يقال ما كان كذلك فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأن الحكم إذا حصل مسنداً إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره
مدخل فيه وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايراً لكل واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايراً لطلب رضوان الله تعالى فوجب أن يكون مقبولاً ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة
وأما القسم الرابع وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله أعلم
ثم قال تعالى كَلاَّ أي كل واحد من الفريقين والتنوين عوض من المضاف إليه نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمناً كان أو كافراً لأن الكل مخلوقون في دار العمل فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور أي غير ممنوع يقال حظره يحظره وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك
ثم قال تعالى انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وفيه قولان
القول الأول المعنى انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ( الزخرف 32 ) وقال في آخر سورة الأنعام وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( الأنعام 165 )
ثم قال وَلَلاْخِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً والمعنى أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى
القول الثاني أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين ونظيره قوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 )
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان وجه النظم فنقول إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة أولها إرادة الآخرة وثانيها أن يعمل عملاً ويسعى سعياً موافقاً لطلب الآخرة وثالثها أن يكون مؤمناً لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها والمشتغل بها ساعياً سعياً يليق بطلب الآخرة وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم
المسألة الثانية قال المفسرون هذا في الظاهر خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهاً آخر وهذا الاحتمال عندي أولى لأنه تعالى عطف عليه قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) إلى قوله إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ( الإسراء 23 ) وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان
المسألة الثالثة معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموماً مخذولاً والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه الأول أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان الثاني أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى مع أن الحق أن كلها من الله فحينئذ يستحق الذم لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان لأنه لما أثبت شريكاً لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك فلما كان ذلك الشريك معدوماً بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين وذلك عين الخذلان الثالث أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحاً منصوراً والله أعلم
المسألة الرابعة القعود المذكور في قوله فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً فيه وجوه الأول أن معناه المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب هو قاعد بأسوأ حال معناه المكث سواء كان قائماً أو جالساً الثاني إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه الثالث أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها والسعي إنما يتأتى بالقيام وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالساً قاعداً عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات والقعود كناية عن العجز والضعف
المسألة الخامسة قال الواحدي قوله ( فتقعد ) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار ( أن ) كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك والتقدير لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر قعدت مذموماً مخذولاً
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع
النوع الأول أن يكون الإنسان مشتغلاً بعبادة الله تعالى وأن يكون محترزاً عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو المراد من قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وفيه بحثان
البحث الأول القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال إنه قضى عليه أما إذا أمره أمراً جزماً وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع فههنا يقال قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء وانقطاعه وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرىء وَقَضَى رَبُّكَ ثم قال ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير وهو قراءة علي وعبد الله
واعلم أن هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين
البحث الثاني قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة الله تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو الحق وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة والقدرة والشهوة والعقل وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو الله تعالى لا غيره وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره فثبت بالدليل العقلي صحة قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاٌّ وَّابِينَ غَفُوراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه
الوجه الأول أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهري هو الأبوان فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري
الوجه الثاني أن الموجود إما قديم وإما محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إشارة إلى الشفقة على خلق الله
الوجه الثالث أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون أحد من المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله عليه السلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله ) وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه أحدها أن الولد قطعة من الوالدين قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) وثانيها أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان وثالثها أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز يكون في إنعام الأبوين فاصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعاً على هذا الوجه كان موقعه عظيماً ورابعها أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين
فإن قيل الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام للأبوين على الولد حكي أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك قال اكتبوا عليه
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد
وتركت أولادي وهم في نعمة ال
عدم التي سبقت نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة
ترمي بهم في موبقات الآجل وقيل للإسكندر أستاذك أعظم منة عليك أم والدك فقال الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد ومن الكلمات المشهورة المأثورة خير الآباء من علمك
والجواب هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات فسقطت هذه الشبهات والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً قال أهل اللغة تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا أو يقال وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحساناً قال صاحب ( الكشاف ) ولا يجوز أن تتعلق الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلاً على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته وقال الواحدي في ( البسيط ) الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه والمثال المذكور ليس كذلك
المسألة الثالثة قال القفال لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة وبحرف إلى أخرى وكذلك الإساءة يقال أحسنت به وإليه وأسأت به وإليه قال الله تعالى وَقَدْ أَحْسَنَ بَى ( يوسف 100 ) وقال القائل
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين أحدها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة وثانيها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة وثالثها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام ورابعها أنه قال إِحْسَاناً بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم والمعنى وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً عظيماً كاملاً وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ
ثم قال تعالى إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( إما ) لفظة مركبة من لفظتين إن وما أما كلمة إن فهي للشرط وأما كلمة ( ما ) فهي أيضاً للشرط كقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ ( البقرة 106 ) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع لأن قول القائل الشيء إما كذا وإما كذا فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد
وجوابه أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع والله أعلم
المسألة الثانية قرأ الأكثرون أَمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا وعلى هذا التقدير فقوله يَبْلُغَنَّ فعل وفاعله هو قوله أَحَدُهُمَا وقوله أَوْ كِلاَهُمَا عطف عليه كقولك ضرب زيد أو عمرو ولو أسند قوله يَبْلُغَنَّ إلى قوله كِلاَهُمَا جاز لتقدم الفعل تقول قال رجل وقال رجلان وقالت الرجال وقرأ حمزة والكسائي يبلغان وعلى هذه القراءة فقوله رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً
فإن قيل لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيداً لا بدلاً فلم زعمتم أنه بدل
قلنا لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله في كونه بدلاً
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال قوله أَحَدُهُمَا بدل وقوله أَوْ كِلاَهُمَا توكيد ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل
قلنا العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل والله أعلم
المسألة الثالثة قال أبو الهيثم الرازي وأبو الفتح الموصلي وأبو علي الجرجاني إن كلاً اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلى الرجلين بكسر الياء كما تقول بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل ويا صاحبي السجن وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً ( مريم 95 ) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائماً قال الله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا ( الكهف 33 ) ولم يقل آتتا والله أعلم
المسألة الرابعة قوله يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء
النوع الأول قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج فيه سبع لغات كسر الفاء وضمها وفتحها وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج أُفّ بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و أُفّ بضم الألف وتسكين الفاء
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء والتنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء أُفّ لَّكُمْ ( الأنبياء 67 ) وفي الأحقاف أُفّ لَّكُمَا ( الأحقاف 17 ) وأقول البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة واقتصروا على وجوه قليلة منها
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوهاً الأول قال الفراء تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها معناه يقول أف أف الثاني قال الأصمعي الأف وسخ الأذن والتف وسخ الظفر يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به الثالث قال بعضهم أف معناه قلة وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له كقولهم شيطان ليطان خبيث نبيث الرابع روى ثعلب عن ابن الأعرابي الأف الضجر الخامس قال القتبي أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم السادس قال الزجاج أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف
المسألة الرابعة قول القائل لا تقل لفلان أف مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا للفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس قال بعضهم إنها دلالة لفظية لأن أهل العرف إذا قالوا لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئاً
والقول الثاني أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف والضرب أولى بالمنع من التأفيف وثانيها أن يكون الحكم في محل السكوت مساوياً للحكم في محل الذكر وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل وضربوا لهذا مثلاً وهو قوله عليه
السلام ( من أعتق نصيباً له من عبد قوم عليه الباقي ) فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان وثالثها أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات
إذا عرفت هذا فنقول المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى والدليل عليه أن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب وأيضاً المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً عظيماً كان عدواً له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته وإذا كان هذا معقولاً في الجملة علمنا أن المنع من التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلاً في الجملة إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى والله أعلم
النوع الثاني من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله وَلاَ تَنْهَرْهُمَا يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 10 )
فإن قيل المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثاً أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيداً حسناً لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف فما السبب في رعاية هذا الترتيب
قلنا المراد من قوله فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير والمراد من قوله وَلاَ تَنْهَرْهُمَا المنه من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له
النوع الثالث قوله تعالى وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمراً بالقول الطيب لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أن يقول له يا أبتاه يا أماه وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال هو قول العبد المذنب للسيد الفظ وعن عطاء أن يقال هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم
فإن قيل إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلماً وكرماً وأدباً فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ بالضم إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 ) فخاطبه بالاسم وهو إيذاء ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء
قلنا إن قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى على حق الأبوين
النوع الرابع قوله وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ والمقصود منه المبالغة في التواضع وذكر
القفال رحمه الله في تقريره وجهين الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية فكأنه قال للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك والثاني أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه
فإن قيل كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له
قلنا فيه وجهان الأول أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد واخفض لهما جناحك الذليل أي المذلول والثاني أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحاً وأثبت لذلك الجناح ضعفاً تكميلاً لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله مِنَ الرَّحْمَة ِ معناه ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما
والنوع الخامس قوله وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا وفيه مباحث
البحث الأول قال القفال رحمه الله تعالى إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول رَّبّ ارْحَمْهُمَا ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا ثم يقول كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي والتربية هي التنمية وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع ومنه قوله تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( فصلت 39 )
البحث الثاني اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال
القول الأول أنها منسوخة بقوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ولا يقول رب ارحمهما
والقول الثاني أن هذه الآية غير منسوخة ولكنها مخصوصة في حق المشركين وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ
والقول الثالث أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان
البحث الثالث ظاهر الأمر للوجوب فقوله وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة فقال نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكما أن الله تعالى قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) فهم يكررون في أدبار الصلوات
ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال وإذا كان الأمر كذلك كان عالماً بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص
ثم قال تعالى إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جماداً يزعمون أنه يشفع لهم ولفظ الأواب على وزن فعال وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم
وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة ٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتِ خطاب مع من فيه قولان
القول الأول أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المثالين
والقول الثاني أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) والمعنى أنك بعد فراغك من بر الوالدين يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل
واعلم أن قوله تعالى وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين وقال قوم يجب الإنفاق على المحارم بقدر
الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده
ثم قال تعالى وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف قال عثمان بن الأسود كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان من المسرفين وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وعن عبد الله بن عمر قال مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد فقال أو في الوضوء سرف قال نعم وإن كنت على نهر جارٍ ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له فيقولون فلان أخو الكرم والجود وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال وقيل قوله إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الأعراف 36 ) وقال تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) أي قرناءهم من الشياطين ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا ومعنى كون الشيطان كفوراً لربه هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض والإضلال للناس وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفوراً لنعمة الله تعالى والمقصود أن المبذرين إخوان الشياطين بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضاً كفوراً لربه وقال بعض العلماء خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أعمالهم في هذا الباب
ثم قال تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا والمعنى أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا أي سهلاً ليناً وقوله ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا كناية عن الفقر لأن فاقد المال يطلب رحمة الله وإحسانه فلما كان فقد المال سبباً لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله تعالى والمعنى أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال أو تقول لهم الله يسهل وفي تفسير القول الميسور وجوه الأول القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن والثاني القول الميسور اللين السهل قال الكسائي يسرت أيسر له القول أي لينته له الثالث قال بعضهم القول الميسور مثل قوله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة ٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَة ٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ( البقرة 363 ) قالوا والميسور هو المعروف لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف والله أعلم
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء وحاصل الكلام أن الحكماء ذكروا في كتب ( الأخلاق ) أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا
ثم قال تعالى فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً أما تفسير تقعد فقد سبق في الآية المتقدمة وأما كونه ملوماً فلأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة وأما كونه محسوراً فقال الفراء تقول العرب للبعير هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها ومنه قوله تعالى يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4 ) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى وقال القفال المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ والمقصود أنه عرف رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) كونه رباً والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض والقدر في اللغة التضييق ومنه قوله تعالى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الطلاق 7 ) وقوله تعالى وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( الفجر 16 ) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ( الشورى 27 )
ثم قال تعالى إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا
يعطيه إلا ذلك القدر فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح
وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ( الإسراء 30 ) أتبعه بقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم
الوجه الثاني أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد ولهذا قال بعضهم إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين
الوجه الثالث أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين
الوجه الرابع أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى والثاني ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم والله أعلم
الوجه الخامس أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية وهي من أعظم الموجبات للمحبة فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح وقسوة في القلب وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة
المسألة الثانية العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد فقال تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ وهذا لفظ عام للذكور والإناث والمعنى أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين
ثم قال تعالى نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء
المسألة الثالثة الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيراً أي إثماً كبيراً يقال خطىء يخطأ خطأ مثل
أثم يأثم إثماً قال تعالى إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( يوسف 97 ) أي آثمين وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد ويكون الخطأ اسماً للمصدر والمعنى على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب قال القفال رحمه الله وقرأ ابن كثير خطاء بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَآءَ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها وحاصلها يرجع إلى شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله أتبعها بذكر النهي عن أشياء أولها أنه تعالى نهى عن الزنا فقال وَلاَ تَقْرَبُواْ قال القفال إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك وقال المنكرون لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهياً عنه وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال فوجب أن يقال كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها ويدل أيضاً على أن نهي الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه وهذا الاستدلال قريب والأولى أن يقال إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة والضرب المؤلم مفسدة وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع
وإذا ثبت هذا فنقول تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها
إذا عرفت هذا فنقول الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد أولها اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده وذلك يوجب ضياع الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم وثانيها أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا وثالثها أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم وكل خاطر مستقيم وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق ورابعها أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم
فرق في هذا الباب وخامسها أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية وسادسها أن الوطء يوجب الذل الشديد والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع ولولا أن الوطء يوجب الذل وإلا لما كان الأمر كذلك وأيضاً فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن ولولا أن الوطء ذل وإلا لما كان كذلك
وإذا ثبت هذا فنقول لما كان الوطء ذلاً كان السعي في تقليله موافقاً للعقول فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل وأيضاً ما فيه من الذل يصير مجبوراً بالمنافع الحاصلة في النكاح أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبوراً بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح
وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة ومقتاً في آية أخرى وَسَاء سَبِيلاً أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضاً يوجب خراب العالم وأما المقت فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه وأما أنه ساء سبيلاً فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث وأيضاً يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبوراً بشيء من المنافع فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة والله أعلم بمراده
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولاً بذكر النهي عن الزنا وثانياً بذكر النهي عن القتل
وجوابه أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده فلهذا السبب ذكر الله تعالى
الزنا أولاً ثم ذكر القتل ثانياً
المسألة الثانية اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة والحل إنما يثبت بسبب عارضي فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقاً بناء على حكم الأصل ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال إِلاَّ بِالْحَقّ فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم والذي يدل عليه وجوه الأول أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ولا يريد بكم العسر ولا ضرر ولا ضرار الثاني قوله عليه السلام ( الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب ) الثالث أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) ولقوله عليه السلام ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل الرابع أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ ( الأعراف 85 ) الخامس أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجح وهو محال السادس أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنساناً عاقلاً حكمنا فيه بتحريم قتله وما لم نعرف شيئاً زائداً على كونه إنساناً لم نحكم فيه بحل دمه ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية
وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ فقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ نهي وتحريم وقوله حَرَّمَ اللَّهُ إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال إِلاَّ بِالْحَقّ ثم ههنا طريقان
الطريق الأول أن مجرد قوله إِلاَّ بِالْحَقّ مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ثم إنه تعالى قال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً أي في استيفاء القصاص من القاتل وهذا الكلام يصلح جعله بياناً لذلك المجمل وتقريره كأنه تعالى قال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وذلك الحق هو أن من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً في استيفاء القصاص وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط فصار تقدير الآية ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصاً صريحاً في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة
والطريق الثاني أن نقول دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة وهو قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق )
واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد فإن قلنا إن قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً تفسير لقوله إِلاَّ بِالْحَقّ كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصاً لهذه الآية ويصير ذلك فرعاً لقولنا إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وأما إن قلنا إن قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً ليس تفسيراً لقوله إِلاَّ بِالْحَقّ فحينئذ يصير هذا
الخبر مفسراً للحق المذكور في الآية وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعاً على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فلتكن هذه الدقيقة معلومة والله أعلم
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه وهو الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 ) ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر قال تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 29 ) وقال وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا فعند الشافعي رحمه الله يقتل وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل وثانيها أن فعل اللواط هل يوجب القتل فعند الشافعي يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب وثالثها أن الساحر إذا قال قتلت بسحري فلاناً فعند الشافعي يوجب القتل وعند أبي حنيفة لا يوجب ورابعها أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص فعند الشافعي يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب وخامسها أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا اختلفوا فيه في زمان أبي بكر وسادسها أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل فعند أكثر الفقهاء لا يوجب وعند قوم يوجب حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم ففيما عدا هذا السببب الواحد وجب البقاء على أصل الحرمة ثم قالوا وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض وذلك المعارض إما أن يكون نصاً متواتراً أو نصاً من باب الآحاد أو يكون قياساً أما النص المتواتر فمفقود وإلا لما بقي الخلاف وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة وأما القياس فلا يعارض النص فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فيه بحثان
البحث الأول أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطاناً فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً دلالة عليه ثم ههنا طريقان الأول أنه تعالى لما قال بعده فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه والثاني أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) إلى قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 178 ) وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيراً بين القصاص وبين الدية وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح ( من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ) وعلى هذا الطريق فقوله فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ معناه أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء
وسلطنة استيفاء الدية إن شاء قال بعده فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة ( في ) محمولة على الباء والمعنى فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 )
البحث الثاني أن في قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملاً في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص قال الشافعي رحمه الله قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه إنما قلنا إنه مشرك لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئاً مغايراً للشرك لوجب أن يصير مغفوراً في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية فلما لم يصر مغفوراً في حق أحد دل على أن كفرهم شرك ولأنه تعالى قال لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( البقرة 73 ) فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء إما أن يكون تثليثاً في الصفات وهو باطل لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثاً للكفر وإما أن يكون تثليثاً في الذوات وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك فثبت أن الذمي مشرك وإنما قلنا إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 ) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت أنه ليس كاملاً في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وأما الحر إذا قتل عبداً فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ( البقرة 178 ) يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً والخاص مقدم على العام فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد والله أعلم
أما قوله تعالى فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ففيه مباحث
البحث الأول فيه وجوه الأول المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحداً من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده الثاني هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل والثالث هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه قال القفال ولا يبعد حمله على الكل لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً
البحث الثاني قرأ الأكثرون فَلاَ يُسْرِف بالياء وفيه وجهان الأول التقدير فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل الثاني أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة
عن إقدامه على ذلك القتل الظلم وقرأ حمزة والكسائي فَلا بالتاء على الخطاب وهذه القراءة تحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب للمبتدىء القاتل ظلماً كأنه قيل له لا تسرف أيها الإنسان وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض والمعنى لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوماً استوفى القصاص منك والآخر أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير لا تسرف في القتل أيها الولي أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة وأما قوله الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ففيه ثلاثة أوجه الأول كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك فإن ذلك المقتول يكون منصوراً في الدنيا والآخرة أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله
والقول الثاني أن هذا الولي يكون منصوراً في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصوراً فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه لأن من يكون منصوراً من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة
والقول الثالث أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة
واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان لأن الله تعالى يقول وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وقال الحسن والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً والله أعلم
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( النساء 6 ) وفي تفسير قوله إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ وجهان الأول إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره الثاني المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه وروى مجاهد عن ابن عباس قال إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه فإن لم يوسر فلا شيء عليه
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح كما بينه الله تعالى
في آية أخرى وهو قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ( النساء 6 ) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه والله أعلم وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية والله أعلم
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولاً ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا وعن القتل إلا بالحق وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ نظير لقوله تعالى عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) فدخل في قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة وعقد اليمين والنذر وعقد الصلح وعقد النكاح وحاصل القول فيه أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( البقرة 177 ) وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ( البقرة 275 ) وقوله لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء 29 ) وقوله وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( البقرة 282 ) وقوله عليه السلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه ) وقوله ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد ) وقوله ( من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه ) فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا بالصحة في الكل وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان وتصير الشريعة مضبوطة معلومة
ثم قال تعالى إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ وفيه وجوه أحدها أن يراد صاحب العهد كان مسؤلاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وثانيها أن العهد كان مسؤلا أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به وثالثها أن يكون هذا تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة بِأَى ّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( التكوير 9 ) وكقوله قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن ( المائدة 116 ) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره
النوع الثاني من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( المطففين 1 3 )
النوع الثالث من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ فالآية المتقدمة في إتمام الكيل وهذه الآية في إتمام الوزن ونظيره قوله تعالى وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( الرحمن 9 ) وقوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ ( هود 85 )
واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم فوجب على العاقل الاحتراز منه وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان سعياً في إبقاء الأموال على الملاك ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين وأجمعوا على جواز اللغتين فيه ضم القاف وكسرها فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم
ثم قال تعالى ذالِكَ خَيْرٌ أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر خَيْرٌ مَّرَدّاً ( مريم 76 ) خَيْرٌ عُقْبًا ( الكهف 46 ) خَيْرٌ أَمَلاً ( الكهف 44 ) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أولها قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وقوله تَقْفُ مأخوذ من قولهم قفوت أثر فلان أقفو قفواً وقفواً إذا اتبعت أثره وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان وقال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا ( الحديد 27 ) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله وَلاَ تَقْفُ أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه
الوجه الأول المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء ضِيزَى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ ( النجم 23 ) وقال في إنكارهم البعث بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ( النمل 66 ) وحكي عنهم أنهم قالوا إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( الجاثية 32 ) وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ ( القصص 50 ) وقال وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ ( النحل 116 ) الآية وقال هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 )
والقول الثاني نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور وقال ابن عباس لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك
والقول الثالث المراد منه النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه
والقول الرابع المراد منه النهي عن الكذب قال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم
والقول الخامس أن القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه وفي بعض الأخبار من قفا مسلماً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد والله أعلم
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
أجيب عنه من وجوه الأول أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة
أحدها أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز وثانيها العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز وثالثها الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز ورابعها قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز وخامسها الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز وسادسها كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم وبناء الحكم عليه جائز وسابعها قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا ( النساء 35 ) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم وثامنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاماً كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما وتاسعها جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز وعاشرها قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن
والجواب الثاني أن الظن قد يسمى بالعلم والدليل عليه قوله تعالى إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ( الممتحنة 10 ) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن وذلك لا يفيد إلا الظن فههنا الله تعالى سمى الظن علماً
والجواب الثالث أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس وكان ذلك الدليل دليلاً على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فههنا الظن وقع في طريق الحكم فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن
أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا قوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة ثم نقول الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له وذلك متعذر فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم
إذا عرفت هذا فنقول التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق
وأما الجواب الثاني وهو قولهم الظن قد يسمى علماً فنقول هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم وهذا معلوم وغير مظنون وذلك يدل على حصول المغايرة ثم الذي يدل عليه قوله تعالى
قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 ) نفي العلم واثبات للظن وذلك يدل على حصول المغايرة وأما قوله تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ( الممتحنة 10 ) فالمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم
وأما الجواب الثالث فهو أيضاً ضعيف لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلاً أن يكون حجة والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمراً عقلياً محضاً لامتنع ذلك والثاني أيضاً باطل لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعياً لو كان منقولاً نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه المسألة دليل سمعي قاطع فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضاً فسقط الاستدلال به والله أعلم وللمجيب أن يجيب فيقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ فيه بحثان
البحث الأول أن العلوم إما مستفادة من الحواس أو من العقول أما القسم الأول فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر فإن الإنسان إذا سمع شيئاً ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه وأما القسم الثاني فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان البديهية والكسبية وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه
الوجه الأول أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان فهو كقوله تعالى حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لايحل لك سماعه ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه
والوجه الثاني أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية وكذلك القول في بقية الأعضاء وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب
والوجه الثالث أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها
وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى المرح شدة الفرح يقال مرح يمرح مرحاً فهو مرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة قال الزجاج لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال في سورة لقمان وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ( لقمان 19 ) وقال أيضاً فيها وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( لقمان 18 )
المسألة الثانية قال الأخفش ولو قرى مَرَحاً بالكسر كان أحسن في القراءة قال الزجاج مرحاً مصدر ومرحاً اسم الفاعل وكلاهما جائز إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد تقول جاء زيد ركضاً وراكضاً فركضاً أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال والمراد التنبيه على كونه ضعيفاً عاجزاً فلا يليق به التكبر الثاني المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد وأنت أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي
ثم قال تعالى كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الأكثرون قرؤا سيئه بضم الهاء والهمزة وقرى نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئه منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين
الوجه الأول قال الحسن إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضا ونهى عن بعضها فلو حكم على الكل بكونه سيئه لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام
والوجه الثاني أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئه لوجب أن يقال إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال مَكْرُوهًا أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيىء تلك الأقسام يكون مكروهاً وحينئذ يستقيم الكلام أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو فيها وجوه الأول أن الكلام تم عند قوله ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء 59 ) ثم ابتدأ وقال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 )
ثم قال كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها والثاني أن المراد بقوله كُلُّ ذالِكَ أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم وأما قوله مَكْرُوهًا فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوهاً الأول التقدير كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً الثاني قال صاحب ( الكشاف ) السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه ألا ترى أنك تقول الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث الثالث فيه تقديم وتأخير والتقدير كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك الرابع أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر
المسألة الثانية قال القاضي دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى والمكروه لا يكون مراداً له فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها وأيضاً معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر وأيضاً فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهياً عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار
والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ولا يليق بهذا الموضع أن يقال إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال
والجواب أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد والله أعلم
المسألة الثالثة قال القاضي دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريداً فكذلك أيضاً موصوف بكونه كارهاً وقال أصحابنا الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم والله أعلم
ذَالِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة ِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَة ِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا
اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف فأولها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ ( الإسراء 22 ) وقوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) مشتمل على تكليفين الأمر بعبادة الله تعالى والنهي عن عبادة غير الله فكان المجموع ثلاثة وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) هو الرابع ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي قوله فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا ( الإسراء 23 24 ) فيكون المجموع تسعة ثم قال وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر ثم قال وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا ( الإسراء 26 ) فيصير ثلاثة عشر ثم قال وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وهو الرابع عشر ثم قال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ ( الإسراء 28 29 ) إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ثم قال وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ ( الإسراء 31 ) وهو السادس عشر ثم قال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وهو السابع عشر ثم قال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وهو الثامن عشر ثم قال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( الإسراء 33 ) وهو التاسع عشر ثم قال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( الإسراء 34 ) وهو العشرون ثم قال وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وهو الحادي والعشرون ثم قال وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ( الإسراء 35 ) وهو الثاني والعشرون ثم قال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وهو الثالث والعشرون ثم قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 ) وهو الرابع والعشرون ثم قال وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ وهو الخامس والعشرون فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( الإسراء 22 ) وخاتمتها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا
إذا عرفت هذا فنقول ههنا فوائد
الفائدة الأولى قوله ذالِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه أحدها أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والعقول تدل على صحتها فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( الشعراء 221 222 ) وثانيها أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار وثالثها أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة وعن ابن عباس أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام أولها وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ قال تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَى ْء مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء ( الأعراف 145 )
والفائدة الثانية من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك
وختمها بعين هذا المعنى والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول وبين الملوم المدحور فنقول أما الفرق بين المذموم وبين الملوم فهو أن كونه مذموماً معناه أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك وهذا هو اللوم فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً وآخره أن يصير ملوماً وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت وأما المدحور فهو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً وآخره أن يصير مدحوراً والله أعلم بمراده
وأما قوله أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَئِكَة ِ إِنَاثًا فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان فأشرف القسمين البنون وأخسهما البنات ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) وقوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( النجم 21 ) وقوله أَفَأَصْفَاكُمْ يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي قال أبو عبيدة في قوله أَفَأَصْفَاكُمْ أفخصكم وقال المفضل أخلصكم قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة
ثم قال تعالى إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وبيان هذا التعظيم من وجهين الأول أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام والثاني أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله وهذا أيضاً جهل عظيم
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَة ٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه أحدها ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروباً من كل مثل وثانيها أن تكون لفظة ( في ) زائدة كقوله وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى ( الأحقاف 15 ) أي أصلح لي ذريتي أما قوله لّيَذْكُرُواْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الجمهور لّيَذْكُرُواْ بفتح الذال والكاف وتشديدهما والمعنى ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي والتذكر ههنا أشبه من الذكر لأن المراد منه التدبر والتفكر وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان ثم قال وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان الأول أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ( البقرة 63 ) والمعنى وافهموا ما فيه والثاني أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه
المسألة الثانية قال الجبائي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الأصم شبههم بالدواب النافرة أي ما ازدادوا من الحق إلا بعداً وهو كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار وقالوا إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لمزيد النفرة والنبوة عنه فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم والله أعلم
أما قوله تعالى قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره وجهان
الوجه الأول أن المراد من قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضاً وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فلا فائدة في الإعادة
الوجه الثاني أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعالى وسبيلاً إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله
المسألة الثانية قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ( آل عمران 12 ) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء والأخير بالتاء وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء
ثم قال تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى لما أقام الدليل القاطع على كونه منزهاً عن الشركاء وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال سُبْحَانَهُ وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ثم قال وَتَعَالَى والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة فعلمنا أن لفظ التعالي في حق الله تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة
المسألة الثانية جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى عُلُوّاً كَبِيراً وكان يجب أن يقال تعالى تعالياً كبيراً إلا أن نظيره قوله تعالى وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 )
فإن قيل ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير
قلنا لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير
ثم قال تعالى تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين الأول بالقول كقوله باللسان سبحان الله والثاني بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته فأما الذي لا يكون مكلفاً مثل البهائم ومن لا يكون حياً مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا
مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر فإنه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه ومن الناس من قال إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم
إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة فلهذا المعنى قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
والوجه الثاني هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل ولهذا المعنى قال تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هذا المعنى
والوجه الثالث أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه بل نقول إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا فذكر الحليم