كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث فأولها قولهم سَلَامٌ عَلَيْكُمُ وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات وثانيها قولهم طِبْتُمْ والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وثالها قولهم فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ والفاء في قوله فَادْخُلُوهَا يدل على كون ذلك الدخول معللاً بالطيب والطهارة قالت المعتزلة هذا يدل على أن أحداً لا يدخلها إلا إذا كان طاهراً عن كل المعاصي قلنا هذا شعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات وحينئذٍ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى فإن قيل فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب قلنا فيه وجهان الأول أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله تعالى وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ والواو محذوف والصحيح هو الأول ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات قال المتقون عند ذلك الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ في قوله أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( فصلت 30 ) وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ والمراد بالأرض أرض الجنة وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه الأول أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام لأنه تعالى قال دوكلا منها رغداً حيث شئتما ( البقرة 35 ) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة لا جرم قالوا ( البقرة 35 ) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة لا جرم قالوا وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة الثالث أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غي منازع ولا مدافع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا والمشابهة علة حسن المجاز فإن قيل ما معنى قوله حَيْثُ نَشَاء وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره قلنا يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة عيره قال حكماء الإسلام الجنات نوعان الجنات الجسمانية والجنات الروحانية فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين ولما بيّن الله تعالى صفة أهل الجنة قال فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قال مقاتل ليس هذا من كلام أهل الجنة بل من كلام الله تعالى لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ولما قال تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه فلهذا قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محفين بالعرش قال الليث يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفاً إذا طافوا به
إذا عرفت هذا فنقول بيّن تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح وحينئذٍ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد دي درجات التنزيه ومنازل التقديس
ثم قال وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة فلكل واحد منهم في درجات المرعفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه وهو المراد من قوله وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا الحمد لله ربّ العالمين على
قضائه بيننا بالحق وههنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه رباً للعالمين فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فههنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد هذا إذا قلنا إن قوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ شرح أحوال الملائكة في الثواب أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء فبيّن تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه فكان ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد
ثم قال وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ أي بين البشر ثم قال وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ والمعنى أنهم يقدمون التسبيح والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية
وأما قوله تعالى وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فالمراد وصفه بصفات الإلهية فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال وقوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ عبارة عن الإقرار بكونه موصوفاً بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام ومجموعهما هو المذكور في قوله تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 78 ) وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) وفي قوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 )
سورة غافر
ثمانون وخمس آيات مكيةبِسمِ الَّلهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَا يُجَادِلُ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاٌّ حْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة ٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي حم بكسر الحاء والباقون بفتح الحاء ونافع في بعض الروايات وابن عامر بين الفتح والكسر وهو أن لا يفتحها فتحاً شديداً قال صاحب ( الكشاف ) قرىء بفتح الميم وتسكينها ووجه الفتح التحريك لالتقاء الساكنين وإيثار أخف الحركات نحو أين وكيف أو النصب بإضمار إقرأ ومنع الصرف إما للتأنيث والتعريف من حيث إنها اسم للسورة وللتعريف وإنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل وأما السكون فلأنا بينا أن الأسماء المجردة تذكر موقوفة الأواخر
المسألة الثانية الكلام المستقصى في هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة والأقرب ههنا أن يقال حم اسم للسورة فقوله حم مبتدأ وقوله تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ خبر والتقدير أن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب فقوله تَنزِيلَ مصدر لكن المراد منه المنزل
وأما قوله مِنَ اللَّهِ فاعلم أنه لما ذكر أن حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ وجب بيان أن المنزل من هو فقال مِنَ اللَّهِ ثم بيّن أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملاً على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه فبين أن المنزل هو اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم بالله ما هو فقال جمع عظيم أنه العلم بكونه قادراً وبعده العالم بكونه عالماً إذا عرفت هذا فنقول الْعَزِيزُ له تفسيران أحدهما الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة والثاني الذي لا مثل له ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر لأن قوله تعالى اللَّهِ يدل على كونه قادراً فوجب حمل الْعَزِيزُ على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسماً والذي لا يكون جسماً يكون منزّهاً عن الشهوة والنفرة والذي يكون كذلك يكون منزّهاً عن الحاجة وأما الْعَلِيمُ فهو مبالغة في العلم والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالماً بكل المعلومات فقوله مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق الغني المطلق العالم المطلق ومن كان كذلك كان عالماً بوجوه المصالح والمفاسد وكان عالماً بكونه غنياً عن جر المصالح ودفع المفاسد ومن كان كذلك كان رحيماً جواداً وكانت أفعاله حكمة وصواباً منزّهة عن القبيح والباطل فكأن سبحانه إنما ذكر عقيب قوله تَنزِيلَ هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقاً وصواباً وقيل الفائدة في ذكر الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أمران أحدهما أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز ولولا كونه عزيزاً عليماً لما صح ذلك والثاني أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزاً لا يغلب وبكونه عليماً لا يخفى عليه شيء ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب فقال غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فهذه ستة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله غَافِرِ الذَّنبِ قال الجبائي معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة وهذه الآية تدل على ذكل وبيانه من وجوه الأول أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد وجميع الأنبياء والألياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبقبينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب الثاني أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي
يكون باقياً موجوداً فيستر والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها فمعنى الغفر فيها غير معقول ولا يمكن حمل قوله غَافِرِ الذَّنبِ على الكبيرة بعد التوبة لأن معنى كونه قابلاً للتوب ليس إلا ذلك فلو كان المراد غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافراً للذنوب الكبائر قبل التوبة الثالث أن قوله غَافِرِ الذَّنبِ مذكور في معرض المدح العظيم فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح وذلك هو كونه غافراً للكبائر قبل التوبة وهو المطلوب
الصفة الثانية وَقَابِلِ التَّوْبِ وفيه بحثان
الأول في لفظ التوب قولان الأول أنه مصدر وهو قول أبي عبيدة والثاني أنه جماعة التوبة وهو قول الأخفش قال المبرد يجوز أن يكون مصدراً يقال تاب يتوب توباً وتوبة مثل قال يقول قولاً وقولة ويجوز أن يكون جمعاً لتوبة فيكون توبة وتوب مثل ثمرة وثمر إلا أن المصدر أقرب لأن على هذا التقدير يكون تأويله أنه يقبل هذا الفعل
الثاني مذهب أصحابنا أن قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضل وليس بواجب على الله وقالت المعتزلة إنه واجب على الله واحتج أصحابنا بأنه تعالى ذكر كونه قابلاً للتوب على سبيل المدح والثناء ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل وهو القدر الذي يحصل لجميع الصالحين عند أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات
الصفة الثالثة قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ وفيه مباحث
البحث الأول في هذه الآية سؤال وهو أن قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ يصلح أن يكون نعتاً للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتاً للمعرفة تقول مررت برجل شديد البطش ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش وقوله الله تسم علم فيكون معرفة فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفاً لنكرة قالوا وهذا بخلاف قولنا غافر الذنب وقابل التوب لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غداً وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش وأما شَدِيدُ الْعِقَابِ فمشكل لأنه في تقدير شديد عقابه فيكون نكرة فلا يصح جعله صفة للمعرفة وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه الأول أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ( البروج 14 16 ) والثاني قال الزجاج إن خفض شَدِيدُ الْعِقَابِ على البدل لأن جعل النكرة بدلاً من المعرفة وبالعكس أمر جائز واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلاً من الصفات فيه نبوّة ظاهرة الثالث أنه لا نزاع في أن قوله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ يحسن جعلهما صفة وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ يفيد معنى الدوام والاستمرار لأن صفات الله تعالى منزّهة عن الحدوث والتجدد فكونه شَدِيدُ الْعِقَابِ معناه كونه بحيث يشتد عقابه وهذا المعنى حاصل أبداً وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك فهذا ما قيل في هذا الباب
البحث الثاني هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه
بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة وهو قوله ذِى الطَّوْلِ فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقاً بتينك الصفتين وملحوقاً بهذه الصفة دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح
البحث الثالث لقائل أن يقول ذكر الواو في قوله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ولم يذكرها في قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ فما الفرق قلنا إنه لو لم يذكر الواو في قوله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلاة كونه قابل التوب أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال لأن عطف الشيء على نفسه محال أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ فاستغنى به عن ذكر الواو
الصفة الرابعة ذُكِرَ الطَّوْلِ أي ذي التفضل يقال طال علينا طولاً أي تفضل علينا تفضلاً ومن كلامهم طل علي بفضلك ومنه قوله تعالى أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ ( الزمر 86 ) ومضى تفسيره عند قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ( النساء 25 ) واعلم أنه لم يصف نفسه بكونه شَدِيدُ الْعِقَابِ لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتياً بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به بل لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتياً لفعل القبيح وإذا ثبت هذا فنقول ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول فيماذا فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره وهو فعل العقاب الحسن دفعاً للإجمال وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي حسن منه تعالى فعله وذلك يدل على أن العفو عن أصحاب الكبائر جائز وهو المطلوب
الصفة الخامسة التوحيد المطلق وهو قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ والمعنى أنه وصف نفسه بصفات ارحمة والفضل فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة أما إذا كان واحداً وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد
الصفة السادسة قوله إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وهذه الصفة أيضاً مما يقوى الرغبة في الإقرار بعبوديته لأنه بتقدير أن يكون موصوفاً بصفات الفضل والكرم وكان واحداً لا شريك له إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلاً لم يكن الخوف الشديد حاصلاً من عصيانه أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلاً كان الخوف أشد والحذر أكمل فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الالصفات واحتج أهل التشبيه بلفظة إلى وقالوا إنها تفيد انتهاء الغاية والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب
واعلم أنه تعالى لما قرر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله وإخفاء أمره فقال مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الجدال نوعان جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النمل 125 ) وقال حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 )
وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقال مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) وقال وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جدالاً في القرآن كفر ) فقوله إن جدالاً على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال لأجل تقريره والذب عنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جدالاً في القرآن كفر ) وقال ( لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر )
المسألة الثانية الجدال في آيات الله هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر وأشباه هذا مما كانوا يقولون من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق
ثم قال تعالى فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأمرالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون ثم كشف عن هذا المعنى فقال كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاْحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ فذكر من أولئك المكذبين قوم نوح والأحزاب من بعدهم أي الأمم المستمرة على الكفر كقوم عاد وثمود وغيرهم كما قال في سورة ص ( 12 13 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاْوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لئَيْكَة ِ أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ وقوله وَهَمَّتْ كُلُّ أَمَلاً بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي وعزنت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بأيراد الشبهات لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فكيف كان عقابي إياهم أليس كان مهلكاً مستأصلاً مهيباً في الذكر والسماع فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله ثم كشف عن هذا المعنى فقال وَكَذالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ أي ومثل الذي حق على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقت كلمتي أيضاً على هؤلاء الذين كفروا من قومك فهم على شرف نزول العقاب بهم قال صاحب ( الكشفا ) أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ في محل الرفع بدل من قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن قضاء الله بالسعادة والشاقوة لازم لا يمكن تغييره فقالوا إنه تعالى أخبر أنه حقت كلمة العذاب عليهم وذلك يدل على أنهم لا قدرة لهم على الإيمان لأنهم لو تمكنوا منه لتمكنوا من إبطال هذه الكلمة الحقة ولتمكنوا من إبطال علم الله وحكمته ضرورة أن المتمكن من الشيء يجب كونه متمكناً من كل ما هو من لوازمه ولأنهم لو آمنوا لوجب عليهم أن يؤمنوا بهذه الآية فحينئذ كانوا قد آمنوا بأنهم لا يؤمنون أبداً وذلك تكليف ما لا يطاق وقرأ نافع وابن عامر حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبَّكَ على الجمع والباقون على الواحد
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْءٍ رَّحْمَة ً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين بيّن أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يباالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزناً فإن حملة العرش والحافون من حول العرش معك ينصرونك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى حكى عن نوعين من فرق الملائكة هذه الحكاية
القسم الأول الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وقد حكى تعالى أن الذين يحملون العرش يوم القيامة ثمانية فيمكن أن يقال الذين يحملون في هذا الوقت هم أولئك الثمانية الذين يحملونه يوم القيامة ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم روى صاحب ( الكشاف ) أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع ولا يرفعون طرفهم وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوضع ) قيل إنه طائر صغير وروي أن الله أمر جميع الملائكة أن يغدو ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة وقيل خلق الله العرش ممن جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف وقد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا ويسبح بما لا يسبح به الآخر هذه الآثار نقلتها من ( الكشاف )
وأما القسم الثاني من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقوله تعالى وَمَنْ حَوْلَهُ والأظهر أن المراد منهم ما ذكره في قوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 )
وأقول العقل يدل على أن حملة العرش والحافين حول العرش يجب أن يكونوا أفضل الملائكة وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد وأيضاً يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعيلة لجسم العرش أرواح أُخر من جنسها وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 ) وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزّه عن أن يكون في العرش وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وقال في آية أخرى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ولا شك أن حامل العرش يكون حاملاً لكل من في العرش فلو كان إلاه العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإلاه العالم فحينئذ يكونون حافظين لإلاه العالم والحافظ القادر أولى بالإلاهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية فحينئذ ينقلب الإله عبداً والعبد إلاهاً وذلك فاسد فدل هذا على أن إلاه العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء
النوع الأول قوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ونظيره قوله حكاية عن الملائكة وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ( البقرة 30 ) وقوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 ) فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام فقوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ قريب من قوله تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 78 )
النوع الثاني مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن قيل فأي فائدة في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وقد أحسن فيه جداً فقال إن المقصود منه التنبه على أن الله تعالى لو كان حاضراً بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه ولما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضراً جالساً هناك ورحم الله صاحب ( الكشاف ) فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخراً وشرفاً
النوع الثالث مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة عللى خلق الله ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدماً على الشفقة على خلق الله فقوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ مشعر بالشفقة على خلق الله
ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن الملك أفضل من البشر قالوا لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون وهذا يدل على أنهم مستغنون على الاستغفار لأنفسهم إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ابدأ بنفسك ) وأيضاً قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) فأمر محمداً أن يذكر أولاً الاستغفار لنفسه ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَى َّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِى َ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( نوح 28 ) وهذا يدل على أن كل من كان محتاجاً إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفاار لكان اشتغالهم لأنفسهم مقدماً على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى استغفار بدليلل قوله تعالى لمحمد عليه السلام وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر والله أعلم
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين قال وذلك لأن الملائكة قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ قال وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر سواء كان مصراً عللى الفسق أو لم يكن كذلك لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعاً سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه وأيضاً إن الملائكة يقولون وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وهذا لا يليق بالفاسقين لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك فثبت أن شفاعة الملائكة لا يتناول إلا أهل الطاعة فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق والجواب أن نقول هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره الكعبي أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه الأول قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ والاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً الثاني قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان فإذا دلنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة الثالث قوله تعالى فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ طلب المغفرة للذين تابوا ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة لأن ذلك واجب على الله عند الخصم وما كان فعله واجباً كان طلبه بالدعاء قبيحاً ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر لأن ذلك أيضاً واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب لأن ذلك لا يسمى مغفرة فثبت أنه لا يمكن حممل قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا فنقول يجب أن
يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان وقوله إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائباً ولا متبعاً سبيل الله قلنا لا نسلم قوله بل يقال إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضارباً وضاحكاً صدور الضرب والضحك عنه واحدة ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه فكذا ههنا
المسألة الثالثة قال أهل التحقيق إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت وذلك لأنهم قالوا في أول تخلليق البشر أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( البقرة 30 ) فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا بيّن كيفية ذلك الاستغفار فحكى عنهم أنهم قالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الدعاء في أكثر الأمور مذكور بلفط رَبَّنَا ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا رَبَّنَا بدليل هذه الآية وقال آدم عليه السلام رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وقال نوح عليه السلام رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ ( هود 47 ) وقال أيضاً رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( نوح 5 ) وقال أيضاً رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَى َّ ( نوح 28 ) وقال عن إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 260 ) وقال رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( إبراهيم 41 ) وقال رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ ( البقرة 128 ) وقال عن يوسف رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ ( يوسف 101 ) وقال عن موسى عليه السلام رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) وقال في قصة الوكز رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ( القصص 16 17 ) وحكى تعالى عن داود فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ص 24 ) وعن سليمان أنه قال رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً ( ص 35 ) وعن ذكريا أنه نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) وعن عيسى عليه السلام أنه قال رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَة ً مّنَ السَّمَاء ( المائدة 114 ) وعن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى قال له وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ( المؤمنون 97 ) وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات وحكى أيضاً عنهم أنهم قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) إلى آخر السورة
فثبت بما ذكرنا أن من أرضى الدعاء أن ينادي العبد ربه بقوله يا رب وتمام الإشكال فيه أن يقال لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم صار لفظ الرب مختصاً بوقت الدعاء والجواب كأن العبد يقول كنت في كتم العدم والمحض والنفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك
المسألة الثانية السنة في الدعاء يبدأ في بالثناء على الله تعالى ثم يذكر الدعاء عقيبه والدليل عليه هذه الآية فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدأوا بالثناء فقالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وأيضاً أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولاً فقال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 78 82 ) فكل هذا ثناء على الله تعالى ثم بعده ذكر الدعاء فقال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 )
واعلم أن العقل يدل أيضاً على رعاية هذا الترتيب وذلك ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهباً إبريزاً فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية انقلب من ننحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقاً ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل فكان حصول الشيء المطلوب أقرب وأكمل وهذا هو السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء
المسألة الثالثة اعلم أن الملائكة وصفوا الله تعالى بثلاثة أنواع من الصفات الربوبية والرحمة والعلم أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم رَبَّنَا إشارة إلى التربية والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكل أحواله وأحسن صفاته وهذا يدل على أن هذه الممكنات كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء الله وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير لا للاضرار والشر فإن قيل قوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً فيه سؤال لأن العلم وسع كل شيء أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء لأن المضرور حال وقوعه في الضر لا يكون ذلك الضرر رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) قلنا كل وجود فقد ننال من رحمة الله تعالى نصيباً وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله فلهذا قال رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب فالمطلوب بالذات هو الرحمة والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم والمطلوب بالذات مقدم على
المطلوب بالعرض ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوباً بالذات وإزالة المرض مطلوباً بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة فكذا ههنا المطلوب بالذات هو الرحمة وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقاً على ذكر العلم
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره والجمع بين هذين الأصلين في غاية اللصعوبة فعند هذا قالت الحكماء الخير مراد مرضي والشر مراد مكروه والخير مقضي به بالذات والشر مقضي به باللعرض وفيه غور عظيم
المسألة الخامسة قوله وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً يدل على كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات وأيضاً فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن الله سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة ألبتة
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على الله تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم وهو أنهم قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ واعلم أن الملائكة طلبوا بالدعاء من الله تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين فالمطلوب الأول الغفران وقد سبق تفسيره في قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ فإن قيل لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله فاغفر لهم وبين قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ قلنا دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة واعلم أنهم لما طلبوا من الله إزالة العذاب عنهم أردفوه بأن طلبوا من الله إيصال الثواب إليهم فقالوا رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ فإن قيلل أنتم زعمتم أن هذه الشفاعة إنما حصلت للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم في جنّات عدن قلنا لا نسلم أنه ما وعدهم بذلك لأنا بينا أن الدلائل الكثيرة في القرآن دلّت على أنه تعالى لا يخلد أهل لا إلاه إلا الله محمد رسول الله في النار وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعداً من الله تعالى لهم بأن يدخلهم في جنّات عدن إما من غير دخول النار وإما بعد أن يدخلهم النار قال تعالى وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ يعني وأدخل معهم في الجنة هؤلاء الطوائف الثلاث وهم الصالحون من الآباء والأزواج والذريا وذلك لأن الرجل إذا حضر معه في وضع عيشه وسروره أهله وعشيرته كان ابتهاجه أكمل قال الفرّاء والزجاج مِنْ صَالِحٌ نصب من مكانين فإن شئت رددته على الضمير في قوله وَأَدْخِلْهُمْ وإن شئت في وَعَدْتَّهُمْ والمراد من قوله وَمَنْ صَلَحَ أهل الإيمان ثم قالوا إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين لأنه للو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما
صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة ثم قالوا بعد ذلك وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ قال بعضهم المراد وقهم عذاب السيئات فإن قيل فعللى هذا التقدير لا فرق بين قوله وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ وبين ما تقدم من قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وحينئذ يلزم التكرار الخالي عن الفائدة وإنه لا يجوز قلنا بل التفاوت حاصل من وجهين الأول أن يكون قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ دعاء مذكور للأصول وقوله وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ دعاءً مذكوراً للفروع الثاني أن يكون قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ مقصوراً على إزالة الجحيم وقوله وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة وعذاب الحساب والسؤال
والقول الثاني في تفسير وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وطلبوا إيصال ثواب الجنة إليهم بقولهم وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة وهو المراد بقولهم وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ ثم قالوا وَمَن تَقِ السَّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني ومن تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة ثم قالوا وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً وبأعمال حقيرة ملكاً لا تصل العقول إلى كنه جلالته
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى َ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِى ِّ الْكَبِيرِ
اعلم أنه تعالى لما عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله وهم الذين ذكرهم الله في قوله مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( غافر 4 ) بين أنهم في القيامة يتعرفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف وفيها أيضاً تقديم وتأخير أما الحذف فتقديره لمقت الله إياكم وما التقديم والتأخير فهو أن التقدير أن يقال لمقت الله لكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم وفي تفسير مقتهم أنفسهم وجوه الأول أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا الثاني أن الاتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى
الكفر في الدنيا والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كما أنه تعالى قال فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) والمراد قتل بعضهم بعضاً الثالث قال محمد بن كعب إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلَى قَوْلُهُ وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم واعلم أنه لا نزاع أن مقتهم أنفسهم إنما يحصل في يوم القيامة أما مقت الله لهم ففيه وجهان الأول أنه حاصل في الآخرة والمعنى لمقت الله لكم في هذا الوقت أشد من مقتكم أنفسكم في هذا الوقت والثاني وعليه الأكثرون أن التقدير لمقت الله لكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم الآن ففي تفسير الألفاظ المذكورة في الآية أوجه الأول أن الذين ينادونهم ويذكرون لهم هذا الكلام هم خزنة جهنم الثاني المقت أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال فالمراد منه أبلغ الإنكار والزجر الثالث قال الفراء يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ معناه إنهم ينادون إن مقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتأتون بالكفر أكبر من مقتكم الآن أنفسكم
ثم إنه تعالى بيّن أن الكفار إذا خاطبوا بهذا الخطاب قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إلى آخر الآية والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا لكي يشتغلوا عند الرجوع إليها بالأعمال الصالحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي يحصل عقيبها موتاً ثانياً وذلك يدل على حصول حياة في القبر فإن قيل قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك والذي يدل على أن الأمر ما ذكرناه قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ( البقرة 28 ) والمراد من قوله وَكُنتُمْ أَمْواتًا الحالة الحاصلة عند كونه نطفة وعلقة وتحقيق الكلام أن الإماتة تستعمل بمعنيين أحدهما إيجاد الشيء ميتاً والثاني تصيير الشيء ميتاً بعد أن كان حياً كقولك وسع الخياط ثوبي يحتمل أنه خاطه واسعاً ويحتمل أنه صيره واسعاً بعد أن كان ضيقاً فلم لا يجوز في هذه الآية أن يكون المراد بالإماتة خلقها مية ولا يكون المراد تصييرها ميتة بعد أن كانت حية
السؤال الثاني أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة
السؤال الثالث أن هذه الآية تدل على المنع من حصول الحياة في القبر وبيانه أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها في الدنيا وثانيها في القبر وثالثها في القيامة والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا
السؤال الرابع أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فههنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول أما المنقول فمن وجوه الأول قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَّحْمَة ِ رَبّهِ ( الزمر 9 ) فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلاً ولو كان الأمر كذلك لذكره ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل الثاني أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاْولَى ( الصافات 58 59 ) ولا شك أن كلام أهل الجنة حق وصدق ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين وذلك على خلاف قوله أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاْولَى قالوا والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها لأنه الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة والآية التي تسمكتم بها حكاية قول الاكافرين الذين دخلوا النار
وأما المعقول فمن وجوه الأول وهو أن الذي افترسه السباع وأكلته لو أعيد حياً لكان إما أن يعاد حياً بمجموعة أو بأحاد أجزائه والأول باطل لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها وذلك في غاية الاستبعاد الثاني أن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقياً على موته فلو جاوزنا مع هذه الحالة أنه يقال إنه صار حياً لكان هذا تشكيكاً في المحسوسات وإنه دخول في السفسطة ( والجواب ) قوله لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى وهي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة فنقول هذا لا يجوز وبيانه أن المذكور في الآية أن الله أماتهم ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة إذ لو كان الموت حاصلاً قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال وهذا بخلاف قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتاً وليس فيها أن الله أماتهم بخلاف الآية التي تحن في تفسيرها لأنهت تدل على أن الله تعالى أماتهم مرتين وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة فظهر الفرق
أما قوله ءن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنتُ مُشْرِكِينَ كذبهم الله في ذلك فقال انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ ( الأنعام 23 24 ) وأما قوله ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبرة إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين فنقول ( الجواب ) عنه من وجوه الأول هو أن مقصودهم تعديل أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى والحياة في القبر والموتة الثانية والحياة في القيامة فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة فلهذا السبب لم يذكروها الثاني لعلهم ذركوا الحياتين وهي الحياة في الدنيا والحياة في القيامة أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها الثالث لعلهم لما صاروا أحياء في القبول لم يموتوا بل بقوا أحياء إما في السعادة إما في لاشقاوة واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم الله بالاستثناء في قوله فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) الرابع لو لم يثبت الحياة في القبر لزم أن لا يحصل الموت إلا مرة واحدة فكان إثبات الموت مرتين كذباً وهو على خلاف لفظ القرآن أما لو أثبتنا الحياة في القبر لزمنا إثبات الحياة ثلاث مرات والمذكور في القرآن
مرتين أما المرة الثالثة فليس في اللفظ ما يدل على ثبوتها أو عدمها فثبت أن نفي حياة القبر يقتضي ترك ما دل اللفظ عليه فأما إثبات حياة القبر فإنه يقتضي إثبات شيء زائد على ما دل عليه اللفظ مع اللفظ لا إشعار فيه بثبوته ولا بعدمه فكان هذا أولى وأما ما ذكروه في المعارضة الأولى فنقول قوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ ( الزمر 9 ) تدخل فيه الحياة الآخرة سواء كانت في القبر أو في القيامة وأما المعارضة الثانية فجوابها أنا نرجح قولنا بالأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر
وأما الوجهان العقليان فمدفوعان لأنا إذا قلنا إن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو عبارة عن جسم نوراني سار في هذا البدن كانت الإشكالات التي ذكراتموها غير واردة في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أنا لما أثبتنا حياة القبر فيكون الحاصل في حق بعضهم أربعة أنواع من الحياة وثلاثة أنواع من الموت والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ( البقرة 243 ) فهؤلاء أربعة مراتب في الحياة حياتان في الدنيا وحياة في القبر وحياة رابعة في القيامة
المسألة الثالثة قوله اثْنَتَيْنِ نعت لمصدر محذوف والتقدير إماتتين اثنتين ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فإن قيل الفاء في قوله فَاعْتَرَفْنَا تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سبباً لهذا الاعتراف فبينوا هذه السببية قلنا لأنهم كانوا منكرين للبعث فلما شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن ذلك الإحياء وتلك الإماتة ثم قال فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ أي هل إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل أم اليأس وقع فلا خروج ولا سبيل إليه وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط واعلم أن الجواب الصريح عنه أن يقال لا أو نعم وهو تعالى لم يفعل ذلك بل ذكر كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج فقال ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى َ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ أي ذلكم الذي أنتم فيه وهو أن لا سبيل لكم إلى الخروج قط إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم الإشراك به فَالْحُكْمُ للَّهِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وقوله الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ دلالة على الكبرياء والعظمة وعلى أن عقابه لا يكون إلا كذلك والمشبهة استدلوا بقوله تعالى الْعَلِى ُّ على العلو الأعلى في الجهة وبقوله الْكَبِيرُ على كبر الجثة والذات وكل ذلك باطل لأنا دللنا على أن الجسمية والمكان محالان في حق الله تعالى فوجب أن يكون المراد من الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ العلو والكبرياء بحسب القدرة والإلهية
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ليصير ذلك دليلاً على أنه يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء لله تعالى في المعبودية فقال هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءايَاتِهِ واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان فالآيات لحياة الأديان والأرزاق لحياة الأبدان وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات
ثم قال وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله تعالى كالأمر المركوز في العقل إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ من الشرك ومن الإلتفات إلى غير الله وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ قال صاحب ( الكشاف ) ثلاثة أخبار لقوله هُوَ مرتبة على قوله الَّذِى يُرِيكُمُ ( غافر 13 ) أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً قرىء رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ بالنصب على المدح وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة
الصفة الأولى قوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء درجة معينة كما قال وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( المجادلة 11 ) وعين لكل جسم درجة معينة فجعل بعضها سفلية عنصرية وبعضها فلكية كوكبية وبعضها من جواهر العرش والكرسي فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل فقال وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ( الأنعام 165 ) وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات
لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي الذي هو أول لكل ما سواه وليس له أول وآخر لكل ما سواه وليس له آخر أما في العلم فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات كما قال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وأما في القدرة فهو أعلى القادرين وأرفعهم لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه وأما في الوحدانية فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير وأقول الحق سبحانه له صفتان أحدهما استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام وإن فسرناه بالرافع كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته
الصفة الثانية قوله ذُو الْعَرْشِ ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ وحملوه على أن المراد بالدرجات السموات وبقوله ذُو الْعَرْشِ أنه موجود في العرش فوق سبع سموات وقد ى عظموا الفرية على الله تعالى فأنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسماً وفي جهة محال وأيضاً فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه لأن قوله ذُو الْعَرْشِ لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكاً له ومخرجاً له من العدم إلى الوجود فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم كانت دلالته على كمال القدرة أقوى
الصفة الثانية قوله يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وفيه مباحث
البحث الأول اختلفوا في المراد بهذا الروح والصحيح أن المراد هو الوحي وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وقال أيضاً أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الانعام 122 ) وحاصل الكلام فيه أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح سمي بالروح فإن الروح سبب لحصول الحياة والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضداً للعقل فههنا أيضاً كذلك فقوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ إما أن يكون بمعنى كونه رافعاً للدرجات وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على احتلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها أو إلى كونه تعالى مرتفعاً في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات فهذا الكلام عقلي برهاني ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وءما
روحانيات فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى أما الجسمانيات فأعظمها العرش فقوله ذُو يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكداً لذلك العقول أعني قوله الْكَافِرُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه وإليه الإشارة بقوله يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي والوحي إنما يتم بأركان أربعة فأولها المرسل وهو الله سبحانه وتعالى فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال يُلْقِى الرُّوحَ والركن الثاني الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح والركن الثالث أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله مِنْ أَمْرِهِ فالركن الروحاني يسمى أمراً قال تعالى وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا ( فصلت 12 ) وقال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) والركن الرابع الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والركن الخامس تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات وإليه الإشارة بقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية
وبقي ههنا أن نبين أنه ما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق وكم الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ليوم التلاق
أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه
الأول أن الأرواح كانت متباينة عن الأجساد فإذا جاء يوم القيامة صارت الأرواح ملاقية للأجساد فكان ذلك اليوم يوم التلاق الثاني أن الخلائق يتلاقون فيه فيقف بعضهم على حال البعض الثالث أن أهل السماء ينزلون على أهل الأرض فيلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ تَنزِيلاً ( الفرقان 25 ) الرابع أن كل أحد يصل إلى جزاء عمله في ذلك اليوم فكان ذلك من باب التلاق هو مأخوذ من قولهم فلان لقي عمله الخامس يمكن أن يكون ذلك مأخوذاً من قوله فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ( الكهف 110 ) ومن قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) السادس يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون السابع يوم يلتقي فيه آدم عليه السلام وآخر ولده الثامن قال ميمون بن مهران يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم فربما ظلم الرجل رجلأْ وانفصل عنه ولو أراد أن يجده لم يقدر عليثه ولم يعرفه ففي يوم القيامة يحضران ويلقى بعضهم بعضاً قرأ ابن كثير عنه التلاقي والتنادي بإثبات الياء في الوصل والوقف وهادي وواقي بالياء في الوقف وبالتنوين في الوصل
وأما بين أن الله تعالى كم عدد من الصفات ووصف بها يوم القيامة في هذه الآية فنقول
الصفة الأولى كونن يوم التلاق وقد ذكرنا تفسيره
الصفة الثانية قوله يَوْمَ هُم بَارِزُونَ وفي تفسير هذا البروز وجوه الأول أنهم برزوا عن بواطن القبور الثاني بارزون أي ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض بارزة قاع
صفصف وليس عليهم أيضاً ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث ( يحشرون عراة حفاة غرلا ) الثالث أن يجعل كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 ) الرابع أن هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الجسمانيات وتوجهت بالكلية إلى عالم القيامة ومجمع الروحانيات فكأنها برزت بعد أن كانت كامنة في الجسمانيات مستترة بها
الصفة الثالثة قوله لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء والمقصود منه الوعيد فإنه تعالى بيّن أنهم إذا برزوا من قبورهم واجتمعوا وتلاقوا فإن الله تعالى يعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلاً بحسبه إن خيراً فخير وإن شراً فشر فهم وإن لم يعلموا تفصيل ما فعلوه فالله تعالى عالم بذلك ونظيره قوله يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ ( الحاقة 18 ) وقال يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 ) وقال إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 9 10 ) وقال يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا ( الزلزلة 4 ) فإن قيل الله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا المعنى بذلك اليوم قلنا إنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدينا قال تعالى وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ ( فصلت 22 ) وقال يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ( النساء 108 ) وهو معنى قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( إبراهيم 48 )
الصفة الرابعة قوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ والتقدير يوم ينادي فيه لمن الملك اليوم وهذا النداء في أي الأوقات يحصل فيه قولان
الأول قال المفسرون إذا هلك كل من السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى بيّن أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السموات والأرض والثاني أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير أو حال ما لا يحضر الغير والأول باطل ههنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئاً كالذي يكرر على الدرس وذلك على الله محال أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضاً على الله محال أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر وذلك أيضاً على الله محال فثبت أن قول من يقول إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له
والقول الثاني أن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فالمؤمنون يقولون تلذذاً بهذا الكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة والكفار يقولونه على الصغار والذلة على وجه التحسر والندامة على أن فاتهم هذا الذكر في الدنيا وقال القائلون بهذا القول إن صح القول الأول عن ابن عباس وغيره لم يمتنع أن يكون
المراد أن هذا النداء يذكر بعد فناء البشر إلا أنه حضر هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء وأقول أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمعاً آخرين الكل ممكن وليس على التعيين دليل فإن قيل وما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذا النداء
فنقول الناس كانوا مغرورين في الدنيا بالأسباب الظاهرة وكان الشيخ الإمام الوالد عمر رضي الله عنه يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وفي يوم القيامة زالت الأسباب وانعزلت الأرباب ولم يبق ألبتة غير حكم مسبب الأسباب فلهذا اختص النداء بيوم القيامة واعلم أنه وإن كان ظاهر اللفظ يدل على اختصاص ذلك النداء بذلك اليوم إلا أن قوله للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ يفيد أن هذا النداء حاصل من جهة المعنى أبداً وذلك لأن قولنا الله اسم لواجب الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته واحد وكل ما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ومعنى الإيجاد هو ترجيح جانب الوجود على جانب العدم وذلك الترجيح هو قهر للجانب المرجوح فثبت أن الإله القهار واحد أبداً ونداء لمن الملك اليوم إنما ظهر من كونه واحداً قهاراً فإذا كان كونه قهاراً باقياً من الأزل إلى الأبد لا جرم كان نداء لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ باقياً في جانب المعنى من الأزل إلى الأبد
الصفة الخامسة من صفات ذلك اليوم قوله الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة أولها إثبات الكسب للإنسان والثاني أن كسبه يوجب الجزاء والثالث أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب وهي أصول عظيمة الموقع في الدين وقد سبق تقرير هذه الأصول مراراً ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول أما الأول فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذكل الفعل أو الترك عنه وأما الثاني وهو بيان ترتب الجزاء عليه فاعلم أن الأفعال على قسمين منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رحمته رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ويعظم عليه البلاء ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء فهذا هو معنى الكسب ومعنى كون ذلك الكسب موجباً للجزاء فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة فهذا قانون كلي عقلي والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال والله أعلم
المسألة الثانية هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه وذلك لأنا نقول لو كان شيء من أنواع الضرر
مشروعاً لكان إما أن يكون مشروعاً لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء والقسمان باطلان فبطل القول بكونه مشروعاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروهاً ليكون جزاء على شيء من الأعمال فلأن هذا النص يقتضي تأخير الإجزية إلى يوم القيامة فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعاً للجزاء لقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ولقوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه فثبت بما ذكرنا أن الأصل في المضار والآلام التحريم فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على الشرعية قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا فهو باق على أصل التحريم وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة والله علم
الصفة السادسة من صفات ذلك اليوم قوله لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ والمقصود أنه لما قال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك نوع من أنواع الظلم قال المحققون وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام أحدها أن يستحق الرجل ثواباً فيمنع منه وثانيها أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل إُى حقه بالتمام وثالثها أن يعذب من لا يستحق العذاب ورابعها أن يكون الرجل مستحقاً للعذاب فيعذب ويزداد على قدر حقه فقوله تعالى لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة قال القاضي هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة لأن على قولهم لا ظلم غالباً وشاهداً إلا من الله ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم والجواب عنه معلوم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جداً لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال والله أعلم
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاٌّ زِفَة ِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَآئِنَة َ الاٌّ عْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَى ْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَءَاثَاراً فِى الأرض فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
اعلم أن المقصود من هذه الآية وصف يوم القيامة بأنواع أخرى من الصفات الهائلة المهيبة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير يوم الآزفة وجوهاً الأول أن يوم الآزفة هو يوم القيامة والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر لقوله في صفة يوم القيامة أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَة ٌ ( النجم 57 58 ) وقال شاعر فأزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
والمقصود منه التنبيه على أن يوم القيامة قريب ونظيره قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ ( القمر 1 ) قال الزجاج إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائن فهو قريب
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث على تقدير يوم القيامة الآزفة أو يوم المجازاة الآزفة قال القفال وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها يرجع معناها إلى الداهية والقول الثاني أن المراد بيوم الآزفة وقت الآزفة وهي مسارعتهم إلى دخول النار فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها من شدة الخوف والقول الثالث قال أبو مسلم يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل والذي يدل عليه أنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق و يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ثم قال بعده وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاْزِفَة ِ فوجب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم وأيضاً هذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( الواقعة 83 84 ) وقال كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ ( القيامة 26 ) وأيضاً فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب وأيضاً الصفات المذكورة بعد قوله الآزفة لائقة بيوم حضور الموت لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يعظم خوفه فكأن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف ويبقوا كاظمين ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف ولا يكون لهم حميم ولا شفيع يدفع ما بهم من أنواع الخوف والقلق
المسألة الثانية اختلفوا في أن المراد من قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ كناية عن شدة الخوف أو هو محمول على ظاهره قيل المراد وصف ذلك اليوم بشدة الخوف والفزع ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 ) وقال فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( الواقعة 83 84 ) وقيل بل هو محمول على ظاهره قال الحسن القلوب انتزعت من الصدور بسبب شدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا ولكنها مقبوضة كالسجال كما قال فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الملك 27 ) وقوله كَاظِمِينَ أي مكروبين والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً فإن قيل بم انتصب كَاظِمِينَ قلنا أن يكون حال عن القلوب وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر وإنما جمع الكاظمة جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء كما قال رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقال فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
( الشعراء 4 ) ويعضده قراءة من قرأ كاظمون وبالجملة فالمقصود من الآية تقرير أمرين أحدهما الخوف الشديد وهو المراد من قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ والثاني العجز عن الكلام وهو المراد من قوله كَاظِمِينَ فإن الملهوف إذا قدر على الكلام حصلت له خفقة وسكون أما إذا لم يقدر على الكلام وبث الشكوى عظم قلقه وقوي خوفه
المسألة الثالثة احتج أكثر المعتزلة في نفي الشفاعة عن المذنبين بقوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ قالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا تحصل لهم هذا الشفيع أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع ألا ترى أنك إذا قلت ما عندي كتاب يباع فهذا يقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب وقالت العرب
ولا ترى الضب بها ينجحر
ولفط الطاعة يقتضي حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه الوجه الثاني في الجواب أن المراد من الظالمين ههنا الكفار والدليل عليه أن هذه الآية وردت في زجر الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن يكون مختصاً بهم وعندنا أنه لا شفاعة في حق الكفار والثالث أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق وإما أن لا يفيد فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع لأن بعض هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيع فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفاً بهذه الصفة وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع وهم الكفار أجاب المستدلون عن السؤال الأول فقالوا يجب حمل كلام الله تعالى على محمل مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالاً من المطاع وليس في الوجود شيء أعلى مرتبة من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه وإذا كان هذا المعنى معلوماً بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجاً لها عن الفائدة فوجب حمل الطاعة على الإجابة والذي يدل على ورود لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قول الشاعر
رب من أنضجت غيظاً صدره
قد تمنى لي موتاً لم يطع أما السؤال الثاني فقد أجابوا عنه بأن لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم أقصى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكفار لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
أما السؤال الثالث فجوابه أن قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع فهذا تمام كلام القوم في تقرير ذلك الاستدلال
أجاب أصحابنا عن السؤال الأول فقالوا إن القوم كانوا يقولون في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله وكانوا يقولون إنها تشفع لنا عند الله من غير حاجة فيه إلى إذن الله ولهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله إجابة الأصنام في تلك الشفاعة وهذا نوع طاعة فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ
وأجابوا عن الكلام الثاني بأن قالوا الأصل في حرف التريف أن ينصرف إلى المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع وكان هناك معهود سابق انصرف إليه وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن ينصرف إليه وأجابوا عن الكلام الثالث بأن قالوا قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يحتمل عموم السلب ويحتمل سلب العموم أما الأول فعلى تقدير أن يكون المعنى أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع وأما الثاني فعلى تقدير أن يكون المعنى أن مجموع الطالمين ليس لهم حميم ولا شفيع ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع والذي يؤكد ما ذكرناه قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) فقوله إن الذين كفروا لا يؤمنون إن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في كلام الله لأن كثيراً ممن كفر فقد آمن بعد ذلك أما لو حملناه على أن مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخلف فلا جرم حملنا هذه الآية على سلب العموم ولم نحملها على عموم السلب فكذا قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب وحينئذ استدلال المعتزلة بهذه الآية فهذا غاية الكلام في هذا الباب
المسألة الرابعة في بيان نظم الآية فنقول إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف فأولها أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف حتى قيل إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة والثاني قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعاً من دخول النفس والثالث قوله كَاظِمِينَ والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب الرابع قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته والخامس قوله يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ والمعنى أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديداً جداً قال صاحب ( الكشاف ) الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة كالعافية المعاناة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحلة كما يفعل أهل الريب والمراد بقوله وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ مضمرات القلوب والحاصل أن الأفعال قسمان أفعال الجوارح وأفعال القلوب أما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله أعلم بها فكيف الحال في سائر الأعمال وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ فدل هذا على كونه تعالى عالماً بجميع أفعالهم السادس قوله تعالى وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوالل وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى السابع أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام وقد بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة فقال وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَى ْء الثامن قوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم ولا يبصر خضوعهم
وتواضعهم لله فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغاً في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردفع ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى آثاراً في الأرض منهم والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلاً حتى إن هؤلاء الحالضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول وبين بقوله وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل فحذر قوم الرسوم من مثله وختم الكلام ب إِنَّهُ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ مبالغة في التحذير والتخويف والله أعلم
وقرأ ابن عامر وحده كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مّنكُمْ بالكاف والباقون بالهاء أما وجه قراءة ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب كقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بعد قوله الحمدلله والولجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن أهل مكة فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم وهذه الآية في المعنى كقوله قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ ( الأنعام 6 ) وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَشرُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ
واعلم أنه تعالى لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر موسى عليه السلام وأنه مع قوة معجزاته بعثه إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوا وكابروه وقالوا هو ساحر كذاب
واعلم أن موسى عليه السلام لما جاءهم بتلك المعجزات الباهرة وبالنبوّة وهي المراد بقوله فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا حكى الله تعالى عنهم ما صدر عنهم من الجهالات فالأول أنهم وصفوه بكونه
ساحراً كاذباً وهذا في غاية البعد لأن تلك المعجزات كانت قد بلغت في القوة والظهور إلى حيث يشهد كل ذي عقل سليم بأنه ليس من السحر ألبتة الثاني أنهم قالوا اقْتُلُواْ أَبْنَاء الَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَاءهُمْ والصحيح أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت وأما في هذا الوقت فموسى عليه السلام قد جاءه وأظهر المعجزات الظاهرة فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه لئلا ينشئوا على دين موسى فيقوى بهم وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء
ثم قال تعالى وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل لأن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها النوع الثالث من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالان
والاحتمال الأول أنهم منعوه من قتله لوجوه الأول لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتله الثاني قال الحسن أن أصحابه قالوا له لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه الثالث لعلّهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك
والاحتمال الثاني أن أحداً ما منع فرعون من قتل موسى وأنه كان يريد أن يقتله إلا أنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرة تمنعه عن قتله فيفتضح إلا أنه لوقاحته قال ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وغرضه منه أنه إنما امتنع عن قتله رعاية لقلوب أصحابه وغرضه منه إخفاء خوفه
أما قوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فإنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني
وأما قوله إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فتح ابن كثير الياء من قوله ذَرُونِى وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من إِنّى أَخَافُ وأيضاً قرأ نافع وابن عمرو وَإِن يَظْهَرُوا بالواو وبحذف أو يعني أنه يجمع بين تبديل الدين وبين إظهار المفاسد والذين قرأوا بصيغة أو فمعناه أنه لا بد من وقع أحد الأمرين وقرىء يظهر بضم الياء وكسر الهاء والفساد بالنصب على التعدية وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلفظ أو يظهر بفتح الياء والهاء والفساد بالرفع أما وجه القراءة الأولى فهو أنه أسند الفعل إلى موسى في قوله يُبَدَّلُ فكذلك في يظهر ليكون الكلام على نسق واحد وأما وجه القراءة الثانية فهو أنه إذا بدل الدين فقد ظهر الفساد الحاصل بسبب ذلك التبديل
المسألة الثانية المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه فلما كان
موسى ساعياً في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى يُحِبُّ الْفَسَادَ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذا الكلام حكى بعده ما ذكره موسى عليه السلام فحكى عنه أنه قال إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار
المسألة الثانية المعنى أنه لم يأتِ في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله لا جرم صانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية وعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها موسى عليه السلام تشتمل على فوائد
الفائدة الأولى أن لفظة إِنّى تدل على التأكيد فهذا يدلل على أن الطريق المؤكد المعتبر في دفع الشرور والآفات عن النفس الاعتماد على الله والتوكل على عصمة الله تعالى
الفائدة الثانية أنه قال إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ فكما أن عند القراءة يقول المسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن فكذلك عند توجه الآفات والمخافات من شياطين الإنس إذا قال المسلم أعوذ بالله فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات
الفائدة الثالثة قوله بِرَبّى وَرَبّكُمْ والمعنى كأن العبد يقول إن الله سبحانه هو الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني ومن الآفات وقاني وأعطاني نعماً لا حد لها ولا حصر فلما كان المولى ليس إلا الله وجب أن لا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى
الفائدة الرابعة أن قوله وَرَبّكُمْ فيه بعث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة باالله والمعنى فيه أن الأرواح الطاهرة القوية إذا تطابقت على همة واحدة قوي ذلك التأثير جداً وذلك هو السبب الأصلي في أداء الصلوات في الجماعات
الفائدة الخامسة أنه لم يذكر فرعون في هذا الدعاء لأنه كان قد سبق له حق تربية على موسى من بعض الوجوه فترك التعيين رعاية لذلك الحق
الفائدة السادسة أن فرعون وإن كان أظهر ذلك الفعل إلا أنه لا فائدة في الدعاء على فرعون بعينه بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفاً بتلك الصفة حتى يدخل فيه كل من كان عدواً سواء كان مظهراً لتلك العداوة أو كان مخفياً لها
الفائدة السابعة أن الموجب للاقدام على إيذاء الناس أمران أحدهما كون الإنسان متكبراً قاسي القلب والثاني كونه منكراً للبعث والقيامة وذلك لأن التكبر القاسي قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقراً بالعبث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبره فإذا لم يحصل عنده الإيمان بالعبث والقيامة كانت الطبيعة داعية له إلى الإيذاء والمانع وهو الخوف من السؤال
والحساب زائلاً وإذا كان الخوف من السؤال والحساب زائلاً فلا جرم تحصل القسوة والإيذاء
الفائدة الثامنة أن فرعون لما قال ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى قال على سبيل الاستهزاء خَشِى َ رَبَّهُ فقال موسى ن الذي ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين المبين والحق المنير وأنا أدعو ربي وأطلب منه أن يدفع شرك عني وسترى أن ربي كيف يقهرك وكيف يسلطني عليك
واعلم أن من أحاط عقله بهذه الفوائد علم أنه لا طريق أصلح ولا أصوب في دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم إلا الاستعاذة بالله والرجوع إلى حفظ الله والله أعلم
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّى َ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بيّن أنه تعالى قيض إنساناً أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة واجتهد في إزالة ذلك الشر
يقول منصف هذا الكتاب رحمه الله ولقد جربت في أحوال نفسي أنه كلما قصدني شرير بشر ولم أتعرض له وأكتفي بتفويض ذلك الأمر إلى الله فإنه سبحانه يقيض أقواماً لا أعرفهم ألبتة يبالغون في دفع ذلك الشر وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في ذلك الرجل الذي كان من آل فرعون فقيل إنه كان ابن عم لله وكان جارياً مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة وقيل كان قبطياً من آل فرعون وما كان من أقاربه وقيل إنه كان من بني إسرائيل والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة قال تعالى إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ( القمر 34 ) وعن رسول الله أنه قال ( الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّى َ اللَّهُ والثالث علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ) وعن جعفر بن محمد أنه قال كان أبو بكر خيراً من مؤمن آل فرعون لأنه كان يكتم إيمانه وقال أبو بكر جهاراً أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّى َ اللَّهُ فكان ذلك سراً وهذا كان جهاراً
المسألة الثانية لفظ من في قوله مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يجوز أن يكون متعلقاً بقوله مُؤْمِنٍ أي كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله يَكْتُمُ إِيمَانَهُ والتقدير رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وقيل إن هذا الاحتمال غير جائز لأنه يقال كتمت من فلان كذا إنما يقال كتمته كذا قال تعالى وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ( النساء 42 )
المسألة الثالثة رجل مؤمن الأكثرون قرأوا بضم الجيم وقرىء رجل بكسر الجيم كما يقال عضد في عضد
المسألة الرابعة قوله تعالى أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّى َ اللَّهُ استفهام على سبيل الإنكار وقد ذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الاستنكار وذلك لأنه ما زاد على أن قال رَبّى َ اللَّهُ وجاء بالبينات وذلك لا يوجب القتل ألبتة وقوله وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ يحتمل وجهين الأول أن قوله رَبّى َ اللَّهُ إشارة إلى التوحيد وقوله وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد وهو قوله في سورة طه رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وقوله في سورة اللشعراء رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ إلى آخر الآيات ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية في أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم فقال إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً علليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فثبت أن على كلا التقديرين كان الأولى إبقاؤه حياً
فإن قيل السؤال على هذا الدليل من وجهين الأول أن قوله وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ معناه أن ضرر كذبه مقصور عليه ولا يتعداه وهذا الكلام فاسد لوجوه أحدها أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً كان صضلالا كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل فيغتر به جماعة منهم ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد الفاسد ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يمكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل كان متعدياً إلى الكل ولهذا السبب العلماء أجمعوا على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله وثانيها أنه إن كان الكلام حجة له فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فوجب تمكن جميع الزنادقة والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة وثالثها أن الكفار الذين أنكروا نبوّة موسى عليه السلام وجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً انتفعتم بصدقه فثبت أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً
السؤال الثاني أنه كان من الواجب أن يقال وإن يك صادقاً يصبكم كل الذي يعدكم لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض هم أصحاب الكهانة والنجوم أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ غير لائق بهذا المقام والجواب عن الأسئلة الثلاثة بحرف واحد وهو أن تقدير الكلام أن يقال إنه لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه عن إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن يك صادقاً انتفعتم به والحاصل أن المقصود من ذكر ذلك التقسيم بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه فبهذا الطريق ( تكون ) الأسئلة الثلاثة مدفوعة
وأما السؤال الثاني وهو قوله كان الأولى أن يقال يصبكم كل الذي يعدكم فالجواب عنه من وجوه الأول أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج لأن المقصود منه إن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وإن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من هذا
الكلام ما ذكر صح ونظيره قولله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) والوجه الثاني أنه عليه السلام كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به الوجه الثالث حُكي عن أبي عبيدة أنه قال ورود لفظ البعض بمعنى الكل جائز واحتج بقول لبيد
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم
ثم حكى الله تعالى عن هذا المؤمن حكاية ثالثة في أنه لا يجوز إيذاء موسى عليه السلام فقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ وتقرير هذا الدليل أن يقال إن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بهذه المعجزات الباهرة ومن هداه الله إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً فهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين فكان قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمة على قتل موسى كذاب في إقدامه على ادعاء الإلاهية والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره
ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ ياقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الاٌّ حْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ وَياقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
اعلم أن مؤمن آل فرعون لما أقام أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال كَذَّابٌ ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الاْرْضِ يعني قد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه فإنه لا قبل لكم به وإنما قال يَنصُرُنَا و جَاءنَا لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما
لمادة الفتنة وَمَا أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ والصلاح ثم حكى تعالى أن ذلك المؤمن رد هذا الكلام على فرعون فقال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ
وأعلم أنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ولهذا السبب حصل ههنا قولان الأول أن فرعون لما قال ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى ( غافر 26 ) لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة وهذا لا يوجب القتل والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات بل الأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه لأن على هذا التقدير إن كان كاذباً كان وبال كذبه عائداً إليه وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه ثم أكد ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( غافر 28 ) يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب فأوهم فرعون أنه أراد بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد به فرعون ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق
واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعاً من الكلمات ذكرها لفرعون الأول قوله ءامَنَ ياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ والتقدير مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد ثمود فحينئذٍ ظهر أن كل حزب كان له يوم معين في البلاء فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس ثم فسّر قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ بقوله مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ودأب هؤلاء دونهم في عملهم من الكفار والتكذيب وسائر المعاصي فيكون ذلك دائباً ودائماً لا يفترون عنه ولا بد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم والحاصل أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا ثم خوفهم أيضاً بهلاك الآخرة وهو قوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ والمقصود منه التنبيه على عذاب الآخرة
والنوع الثاني من كلمات ذلك المؤمن قوله تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ يعني أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء فتلك الجملة قائمة ههنا فوجب حصول الحكم ههنا قالت المعتزلة وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ يدل على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً ويدل على أنه لا يريد ظلم أحد من العباد فلو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد لأنه لو خلقها لأرادها وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل المدح بترك الظلم وهذا الاستدلال قد ذكرناه مراراً في هذا الكتاب مع الجواب فلا فائدة في الإعادة
النوع الثالث من كلمات هذا المؤمن قوله لّلْعِبَادِ وَياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ وفيه مسائل
المسألة الأولى التنادي تفاعل من النداء يقال تنادي القوم أي نادى بعضهم بعضاً والأصل الياء وحذف الياء حسن في الفواصل وذكرنا ذلك في يَوْمَ التَّلاَقِ ( غافر 15 ) وأجمع المفسرون على أن يَوْمَ التَّنَادِ يوم
القيامة وفي سبب تسمية ذلك اليوم بذلك الاسم وجوه الأول أن أهل النار ينادون أهل الجنة وأهل الجنة ينادون أهل النار كما ذكر الله عنهم في سورة الأعراف وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الاعراف 50 ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ ( الاعراف 44 ) الثاني قال الزجاج لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الإسرار 71 ) الثالث أنه ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والبثور فيقولون ويا ويلنا ( الأنبياء 14 ) الرابع ينادون إلى المحشر أي يدعون الخامس ينادي المؤمن هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقة 19 ) والكافر فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( الحاقة 25 ) السادس ينادى باللعنة على الظالمين السابع يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادى يا أهل القيامة لا موت فيزداد أه لالجنة فرحاً على فرحهم وأهل النار حزناً على حزنهم الثامن قال ( أبو علي الفارسي التنادي مشتق من التناد من قولهم ند فلان إذا هرب وهو قراءة ابن عباس وفسرها فقال يندون كما تند الإبل ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( عبس 34 ) الآية وقوله تعالى بعد هذه الآية يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ لأنهم إذا سمعوا زفير النار يندون هاربين فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه
المسألة الثانية انتصب قوله يَوْمَ التَّنَادِ لوجهين أحدهما الظرف للخوف كأنه خاف عليهم في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب إن لم يؤمنوا والآخر أن يكون التقدير إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم انتصاب المعفول به لا انتصاب الظرف لأن إعرابه إعراب المضاف المحذوف ثم قال يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ وهو بدل من قوله يَوْمَ التَّنَادِ عن قتادة منصرفين عن موقف يوم الحساب إلى النار وعن مجاهد فارين عنالنار غير معجزين ثم أكد التهديد فقال مَا لَكُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( غافر 33 ) ذكر لهذا مثلاً وهو أن يوسف لما جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على الشك والشبهة ولم ينتفعوا بتلك الدلائل وهذا يدل على أن من أضله الله فما له من هاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل إن يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام ونقل صاحب ( الكشاف ) يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بقي حياً إلى زمانه وقيل فرعون آخر والمقصود من الكل شيء واحد وهو أن يوف جاء قومه بالبينات وفي المراد بها قولان الأول أن المراد بالبينات قوله مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 39 ) والثاني المراد بها المعجزات وهذا أولى ثم إنهم بقوا في نبوته شاكين مرتابين ولمي ينتفعوا ألبتة بتلك البينات فلما مات قالوا إنه لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً وءنما حكموا بهذا الحكم على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ور برهان بل إنما ذكروا ذلك ليكون ذلك أساساً لهم في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعد ذلك وليس في قولهم وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً لأجل تصديق رسالة يوسف وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها وإنما هو تكذيب لرسالة من هو بعده مضموماً إلى تكذيب رسالته ثم قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ أي مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه قال الكعبي هذه الآية حجة لأهل القدر لأنه تعالى بين كفرهم ثم بين أنه تعالى إنما أضلهم لكونهم مسرفين مرتابين فثبت أن العبد ما لم يضل عن الدين فإن الله تعالى لا يضله
ثم بيّن تعالى ما لأجله بقوا في ذلك الشك والإسراف فقال الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أي بغير حجة بل إما بناء على التقليد المجرد وإما بناء على شبهات خسيسة كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ والمقت هو أن يبلغ المرء في القوم مبلغاً عظيماً فيمقته الله ويبغضه ويظهر خزيه وتعسه
وفيه مسائل
المسألة الأولى في ذمة لهم بأنهم يجادلون بغير سلطان دلالة على أن الجدال بالاحجة حسن وحق وفيه إبطال للتقليد
المسألة الثانية قال القاضي مقت الله أياهم يدل على أن فعلهم ليس بخلق الله لأن كونه فاعلاً للفعل وماقتاً له محال
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد يمقت بعض عباده إلا أن ذلك صفة واجبة التأويل في حق الله كالغضب والحياء والتعجب والله أعلم ثم بيّن أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك قد حصل عند الذين آمنوا
ثم قال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وأبو عمرون وفتيبة عن الكسائي قَلْبٌ منوناً مُتَكَبّرٍ صفة للقلب والباقون بغير تنوين على إضافة القلب إلى المتكبر قال أبو عبيد الاختيار الإضافة لوجوه الأول أن عبد الله قرأ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ وهو شاهد لهذه القراءة الثاني أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما وأما الذين قرأوا بالتنوين فقالوا إن الكبر قد أضيف إلى القلب في قوله إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ( غافر 56 ) وقال تعالى وَإِن كُنتُمْ عَلَى ( البقرة 283 ) وأيضاً فيمكن أن يكون ذلك على حذف المضاف أي على كل ذي قلب متكبر وأيضاً قال قوم الإنسان الحقيقي هو القلب وهذا البحث طويل وقد ذكرناه في تفسير
قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الاشعراء 193 194 ) قالوا ومن أضاف فلا بد له من تقدير حذف والتقدير يطبع الله على قلب كل متكبر
المسألة الثانية الكلام في الطبع والرين والقسوة والغشاوة قد سبق في هذا الكتاب بالاستقصاء وأصحابنا يقولون قوله كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يدل على أن الاكل من الله والمعزلة يقولون إن قوله وَكَذالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ يدل على أن هذا الطبع إنما حصل من الله لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً وعند هذا تصير الآية حجة لكل واحد من هذين الفريقين من وجه وعليه من وجه رخر والاقول الذي يخرج عليه الوجهان ما ذهبنا إليه وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعون إلى الطاعة والانقياد لأمر الله فيكون القول بالقضاء والقدر حياً ويكون تعليل الصد عن الدين بكونه متجبراً متكبراً باقياً فثبت أن هذا المذهب الذي اخترناه في القضاء والقدر هو الذي ينطبق لفظ القرآن من أوله إلى آخره عليه
المسألة الثالثة لا بد من بيان الفرق بين المتكبر والجبار قال مقابل مُتَكَبّرٍ عن قبول التوحيد جَبَّارٍ في غير حق وأقول كما السعادة في غير خق وأقول كمال السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل التكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله والله أعلم
وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاٌّ سْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاّظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُو ءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبراً جباراً بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الجمع الكثير من المشبها بهذه الآية في إثبات أن الله في السموات وقرروا ذلك من وجوه الأول أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما يذكره لأجل أنه سمع أن موسى يصف الله بذلك فهو أيضاً يذكره كما سمعه فلولا أنه سمع موسى يصف الله بأنه موجود في السماء وإلا لما طلبه في السماء الوجه الثاني أنه قال وإني لأظنه كاذباً ولم يبين أنه كاذب فيماذا والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه فكأن التقدير فأطلع إلى الإله الذي يزعم موسى أنه موجود في السماء ثم قال وَإِنّى لاَظُنُّهُ كَاذِباً أي وإني لأظن موسى كاذباً في إدعائه أن الإله موجود في السماء وذلك يدل على أن دين موسى هو أن الإله موجود في السماء الوجه الثالث العلم بأنه لو وجد إله لكان موجوداً في السماء علم يديهي متقرر في كل العقول ولذلك فإن الصبيان إذا تضرعوا إلى الله رفعوا
وجوههم وأيديهم إلى السماء وإن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء وهذا يدل على أن العلم بأن الإله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والموحد والعالم والجاهل
فهذا جملة استدلالات المشبهة بهذه الآية والجواب أن هؤلاء الجهال يكفيهم في كمال الخزي والضلال أن جعلوا قول فرعون اللعين حجة لهم على صحة دينهم وأما موسى عليه السلام فإنه لم يزد في تعريف إله العالم على ذكر صفة الخلاقية فقال في سورة طه رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 50 ) وقال في سورة الشعراء رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الشعراء 26 28 ) فظهر أن تعريف ذات الله بكونه في السماء دين فرعون وتعريفه بالخلاقية والموجودية دين موسى فمن قال بالأول كان على دين فرعون ومن قال بالثاني كان على دين موسى ثم نقول لا نسلم أن كل ما يقوله فرعون في صفات الله تعالى فذلك قد سمعه من موسى عليه السلام بل لعله كان على دين المشبهة فكان يعتقد أن الإله لو كان موجوداً لكان حاصلاً في السماء فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام
وأما قوله وَإِنّى لاَظُنُّهُ كَاذِباً فنقول لعله لما سمع موسى عليه السلام قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ظن أنه عنى أنه رب السموات كما يقال للواحد منا إنه رب الدار بمعنى كونه ساكناً فيه فلما غلب على ظنه ذلك حكى عنه وهذا ليس بمستبعد فإن فرعون كان بلغ في الجهل والحماقة إلى حيث لا يبعد نسبة هذا الخيال إليه فإن استبعد الخصم نسبة هذا الخيال إليه كان ذلك لائقاً بهم لأنهم لما كانوا على دين فرعون وجب عليهم تعظيمه وأما قوله إن فطرة فرعون شهدت بأن الإله لو كان موجوداً لكان في السماء قلنا نحن لا ننكر أن فطرة أكثر الناس تخيل إليهم صحة ذلك لا سيما من بلغ في الحماقة إلى درجة فرعون فثبت أن هذا الكلام ساقط
المسألة الثانية اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح والذي عندي أنه بعيد والدليل عليه أن يقال فرعون لا يخلو إما أن يقال إنه كان من المجانين أو كان من العقلاء فإن قلنا إنه كان من المجانين لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه لأن العقل شرط في التكليف ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن وإما إن قلنا إنه كان من العقلاء فنقول إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي ويعلم أيضاً ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال وإذا كان هذا العلمان بديهيين امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء وإذا كان فساد هذا معلوماً بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون والذي عندي في تفسير هذه الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من ذكر هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال إنا لا نلاى شيئاً نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله أما إنه لا نراه فلأنه لو كان موجوداً لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه ثم إنه لأجل المبالغة في بيان أنه لا يمكنه صعود السموات قَالَ يَاءادَمُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله
بطريق الحس ممتنعاً ونظيره قوله تعالى فَانٍ الْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى ( الأنعام 35 ) وليس المراد منه أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) طلب نفقاً في الأرض أو وضع سلماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيبل لك إلى تحصيل ذلك المقصود فكذا ههنا غرض فرعون من قوله فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً يعني أن الاطلاع على إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق وكان هذا الطريق ممتنعاً فحينئذٍ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى فنقول هذا ما حصلته في هذا الباب
واعلم أن هذه الشبهة فاسدة لأن طرق العلم ثلاثة الحس والخبر والنظر ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجة والدليل كما قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 26 28 ) إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل وألقى إلى الجهال أنه لما كان لا طريق إلا الإحساس بهذا الإله وجب نفيه فهذا ما عندي في هذا الباب وبالله التوفيق والعصمة
المسألة الثالثة ذهب قوم إلى أنه تعالى خلق جواهر الأفلاك وحركاتها بحيث تكون هي الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم الأسفل واحتجوا بقوله تعالى لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ومعلوم أنها ليست أسباباً إلا لحوادث هذا العالم قالوا ويؤكد هذا بقوله تعالى في سورة ص فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابُ ( ص 10 ) أما المفسرون فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ أن المراد بأسباب السموات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه
المسألة الرابعة قالت اليهود أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أن هامان ما كان موجوداً ألبتة في زمان موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر فالقول بأن هامان كان موجوداً في زمان فرعون خطأ في التاريخ وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الإسم في زمانه قالوا لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجوداً في زمان فرعون ما كان شخصاً خسيساً في حضرة فرعون بل كان كالوزير له ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية فلو كان موجوداً لعرف حاله وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجوداً في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أن غلط وقع في التواريخ قالوا ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلو أن قائلاً أدعى أن أبا حنيفة كان موجوداً في زمان محمد عليه السلام وزعم أنه شخص آخر سوى الأول وهو يسمى بأبي حنيفة فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا ههنا والجواب أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها واضطربت الأحوال والأدوار فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى بخلاف حال رسولنا مع أبي حنيفة فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة بل هي مضبوطة فظهر الفرق بين البابين فهذا جملة ما يتعلق بالمباحث المعنوية في هذه الآية وبقي ما يتعلق بالمباحث اللفظية
قيل الصرح البناء الظاهر لا يخفى على الناظر وإن بعد اشتقوه من صرح الشيء إذ ظهر و أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ طرقها فإن قيل ما فائدة هذا التكرير لو قيل لعلي أبلغ الأسباب السموات كان
كافياً أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه فقال إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه فلما أراد تفخيم أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها وقوله فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى قرأ حفص عن عاصم فَأَطَّلِعَ بفتح العين والباقون بالرفع قال المبرد من رفع فقد عطفه على قوله أِلغ والتقدير لعلي أبلغ الأسباب ثم أطلع إلا أن حرف ثم أشد تراخياً من الفاء ومن نصب جعله جواباً والمعنى لعلي أبلغ الأسباب فمتى بلغتها أطلع والمعنى مختلف لأن الأول لعلي أطلع والثاني لعلي أبلغ وأنا ضامر أني متى بلغت فلا بد وأن أطلع
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذه القصة قال بعدها كَاذِباً وَكَذالِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَصُدَّ بضم الصاد قال إبو عبيدة وبه يقرأ لأن ما قبله فعل مبني للمفعول به فجعل ما عطف عليه مثله والباقون وَصُدَّ بفتح الصاد على أنه منع الناس عن الإيمان قالوا ومن صده قوله لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ( الأعراف 124 ) ويؤيد هذه القراءة قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 167 ) وقوله هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الفتح 25 )
المسألة الثانية قوله تعالى زُيّنَ لا بد له من المزين فقالت المعتزلة إنه الشيطان فقيل لهم إن كان المزين لفرعون هو الشيطان فالمزين للشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود وأيضاً فقوله زُيّنَ يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفاً بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صواباً فهو العلم وإن كان خطأ فهو الجهل ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلاً ومتى عرف كونه جهلاً امتنع بقاؤه جاهلاً فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان لأن البحث الأول بعينه عائد فيه فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى والله أعلم ويقوي ما قلناه أن صاحب ( الكشاف ) نقل أنه قرىء وَزَيَّنَ لَهُمُ سُوء عَمَلِهِ على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ ويدل عليه قوله إِلَى إِلَاهِ مُوسَى
ثم قال تعالى وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ والتباب الهلاك والخسران ونظيره قوله تعالى وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( هود 101 ) وقوله تعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) والله أعلم
وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الاٌّ خِرَة َ هِى َ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَياقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواة ِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِى لاّكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
اعلم أن هذا من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون وقد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل
أما الإجمال فهو قوله ءامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ وليس المراد بقوله اتَّبِعُونِ طريقة التقليد لأنه قال بعده أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ والهدى هو الدلالة ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه لأن الرشاد نقيض الغي وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي
وأما التفصيل فهو أنه بين حقارة حال الدينا وكمال حال الآخرة أما حقارة الدنيا فهي قوله سَبِيلَ الرَّشَادِ ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة ثم تنقطع وتزول وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام وحاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة والدنيا منقضية منقرضة والدائم خير من المنقضي وقال بعض العارفين لو كانت الدينا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق
واعلم أن الآخرة كما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فيها دائم وإن الترغيب في النعيم الدائم والترهيب عن العذاب الدائم من أقوى وجوه الترغيب والترهيب ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق فإن قيل كيف يصح هذا الكلام مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيماناً فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصراً على ذلك الاعتقاد أبداً فلا جرم كان عقابه مؤبداً بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم
أن لا يبقى مصراً عليه فلا جرم قلنا أن عقاب الفاسق منقطع أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضاً ليس دائماً بل منقطعاً فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإآنها تقتضي أن يكون المثل مشروعاً وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع ثم نقول ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاماً مخصوصاً وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في مواضع التخصيص وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس وعلى الأعضاء وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية
ثم نقول إنه تعالى لما بيّن أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ واحتج أصحابنا بهذه الآية فقالوا قوله وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجرى مجرى أن يقال من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا فإنه يدخل فيه كل من أتى بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ههنا وجب أن يقال كل من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات فوجب أن يدخل الجنة والخصم يقول إنه يبقى مخلداً في النار أبد الآباد فكان ذلك على خلاف هذا النص الصريح قالت المعتزلة إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً وصاحب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن فلا يدخل في هذا الوعد والجواب أنا بينا في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط هذا الكلام واختلفوا في تفسير قوله يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ فمنهم من قال لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب وقال الآخرون لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ واقع في مقابلة إِلاَّ مِثْلَهَا يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة وأقول هذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجح على جانب القهر والعقاب فإذا عارضنا عمومات الوعد بعمومات الوعيد وجب أن يكون الترجيح بجانب عمومات الوعد وذلك يهدم قواعد المعتزلة ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَياقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواة ِ يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار فإن قيل لم كرر نداء قومه ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني قلنا أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ من سنة الغفلة وإظهار أن له بهذا
المهم مزيد اهتمام وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة وأما المجيء بالواو العاطفة فلأن الثاني يقرب من أن يكون عين الأول لأن الثاني بيان للأول والبيان عين المبين وأما الثالث فلأنه كلام مباين للأول والثاني فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ولما ذكر هذا المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار فسّر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الإله ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام وقوله تعالى وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ المراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله ولما بيّن أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله الْعَزِيزُ إشارة إلى كونه كامل القدرة وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله الْغَفَّارُ إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة فإن إله العالم وإن كان عزيزاً لا يغلب قادراً لا يغالب لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة ثم قال ذلك المؤمن لاَ جَرَمَ والكلام في تفسير لا جرم مرّ في سورة هود في قوله لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ ( هود 22 ) وقد أعاده صاحب ( الكشاف ) ههنا فقال لاَ جَرَمَ مساقه على مذهب البصريين أن يجعل ( لا ) رداً لما دعاه إليه قومه و جَرَمَ فعل بمعنى حق و إِنَّمَا مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته أو بمعنى كسب من قوله تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ( المائدة 2 ) أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ويجوز أن يقال إن لاَ جَرَمَ نظيره لا بد فعل من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله فكذلك لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ ( النحل 62 ) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقل حقاً وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب ( الكشاف )
ثم قال أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَة ِ والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان
الأول أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنه جمادات والجمادات لا تدعو أحداً إلى عبادة نفسها وقوله فِى الاْخِرَة ِ يعني أنه تعالى إذا قلبها حيواناً في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين
والاحتمال الثاني أن يكون قوله لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَة ِ معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقاً لاسم أحد المتضايقين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ثم قال وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها ألبتة ومع ذلك
فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه وقوله وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكلمة والكيفية أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد ثم قال وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضاً خوفهم بقوله فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ثم عول في ذفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ( غافر 27 ) فتح نافع وأبو عمرو الياء من أَمْرِى والباقون بالإسكان
ثم قال إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم وتمسك أضحابنا بقوله تعالى وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ على أن الكل من الله وقالوا إن المعتزلة الذين قالوا إن الخير والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى الله والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن قوله أفوض اعتراف بكونه فاعلاً مستقلاً بالفعل والمباحث المذكورة في قوله أعوذ بالله عائدة بتمامها في هذا الموضع وههنا آخر كلام مؤمن آل فرعون والله الهادي
فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِأالِ فِرْعَوْنَ سُو ءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن ذلك الرجل لم يقصر في تقرير الدين الحق وفي الذب عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين وقوله تعالى بِالْعِبَادِ فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ يدل على أنه لما صرّح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء قال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات فصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه وقيل المراد بقوله فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ أنهم قصدوا إدخاله في الكفر وصرفه عن الإسلام فوقاه الله عن ذلك إلا أن الأول أولى لأن قوله بعد ذلك وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ لا يليق إلا بالوجه الأول وقوله تعالى وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ أي أحاط بهم سُوء الْعَذَابِ أي غرقوا في البحر وقيل بل المراد منه النار المذكورة في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا قال الزجاج النَّارِ بدل من قوله سُوء الْعَذَابِ قال وجائز أيضاً أن تكون مرتفعة على إضمار تفسير سُوء الْعَذَابِ كأن قائلاً قال ما سوء العذاب فقيل النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
قرأ حمزة حاق بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح أما قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشياً وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وليس المراد منه أيضاً الدنيا لأن عرض النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين الأول أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع وقوله يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدينا أما في القبر فلا وجود لهما فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار لا أنه يعرض عليهم نفس النار فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك وأيضاً لا يمتنع يأن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 62 ) أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أي يقال لخزنة جهنم أدخلوهم في أشد العذاب والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار أدخلوا أشد العذاب والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة واحتج عليها بقوله تعالى يُعْرَضُونَ فهذا يفعل بهم فكذلك أَدْخِلُواْ وأما وجه القراءة الثانية فقوله ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ وههنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون
واعلم أن الكلام في تلك القصة لما انجر إلى شرح أحوال النار لا جرم ذكر الله عقيبها قصة المناظرات التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار فقال وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ والمعنى اذكر يا محمد لقومك إذ يتحاجون أي يحاجج بعضهم بعضاً ثم شرح خصومتهم وذلك أن الضعفاء يقولون للرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا في الدنيا قال صاحب ( الكشاف ) تبعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي أتباع أو وصفاً بالمصدر فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النَّارِ أي فهل تقدرون على أن تدفعوا أيها الرؤساء عنا نصيباً من العذاب واعلم أن أولئك الأتباع يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم لأنهم هم الذين سعوا في إيقاع هؤلاء الأتباع في أنواع الضلالات فعند هذا يقول الرؤساء إِنَّا كُلٌّ فِيهَا يعني أن كلنا واقعون في هذا العذاب فلو قدرت على إزالة العذاب عنك لدفعته عن نفسي ثم يقولون إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ يعني يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم أو من العذاب ثم عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنم ويقولون لهم ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ فإن قيل لم لم يقل وقال الذين في النار لخزنتها بل قال وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ قلنا فيه وجهان الأول أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع والثاني أن يكون جهنم اسماً لموضع هو أبعد النار قعراً من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر وفيها أعظم أقسام الكفار عقوبة وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة فإذا عرف الكفار أن الأمر كذلك استغاثوا بهم فأولئك الملائكة يقولون لهم أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( المائدة 19 ) أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترىء على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين أحدهما كون المشفوع له مؤمناً والثاني حصول الإذن في الشفاعة ولم يوجد واحد من هذين الشرطين فإقدامنا على هذه الشفاعة ممتنع لكن ادعوا أنتم وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة ولكن للدلالة على الخيبة فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكفار ثم يصرحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ فإن قيل إن الحاجة على الله محال وإذا كان كذلك امتنع أن يقال إنه تأذى من هؤلاء المجرمين بسبب جرمهم وإذا كان التأذي محالاً عليه كانت شهوة الانتقام ممتنعة في حقه إذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضار العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار لا منفعة فيه إلى الله تعالى ولا لأحد من العبيد فهو إضرار خال عن جميع الجهات المنتفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يبقى على ذلك الإيلام أبد الآباد ودهر الداهرين من غير أن يرحم حاجتهم ومن غير أن يسمع دعاءهم ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم
وانكسارهم ولو أن أقصى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عبيده لدعاه كرمه ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيد في محل النفع والضرر والحاجة فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار قلنا أفعال الله لا تعلل و لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم بالصواب
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاٌّ شْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُو ءُ الدَّارِ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِى ِّ وَالا بْكَارِ
اعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى صلوات الله عليه وذلك المؤمن من مكر فرعون بين في هذه الآية أنه ينصر رسله والذين آمنوا معه والثاني لما بين من قبل ما يقع بين أهل الناء من التخاصم وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 50 ) أتبع ذلك بذكر الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة والثالث وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ ( غافر 4 ) وامتد الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً كانوا مشغولين بدفع كيد المبطلين وكل لذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتصبيراً له على تحمل أذى قومه
ولما بلغ الكلام في تقرير المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الآية أما في الدنيا فهو المراد بقوله وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وأما في الآخرة فهو المراد بقوله وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ فحاصل الكلام أنه تعالى وعد بأنه ينصر الأنبياء والرسل وينصر الذين ينصرونهم نصرة يظهر أثرها في الدنيا وفي الآخرة
واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه أحدها النصرة بالحجة وقد سمى الله الحجة سلطاناً في غير موضع وهذه الصرة عامة للمحقين أجمع ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطاناً لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها وثانيها أنهم منصورون بالمدح والتعظيم فإن الظلمة وإن قهروا شخصاً من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس وثالثها أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة
السماوات إلى أخس الأشياء ورابعها أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمراً وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق وخامسها أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سبباً لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته وسادسها أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر وأما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمنحهم يتركون فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدينا وسابعها أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل به سبعون ألفاً وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله كمال قال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 )
واعلم أن في قوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا إلى قوله وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ دقيقة معتبرة وهي أن السلطان العظيم إذا خص بعض خواصه بالإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب كان ذلك ألذ وأبهج فقوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا إِلَى وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ المقصود منه هذه الدقيقة واختلفوا في المراد بالأشهاد والظاهر أن المراد كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن ما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا وأما الأنبياء فقال تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) قال المبرد يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهداً كأطيار وطائر وأصحاب وصاحب ويجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيداً كأشراف وشريف وأيتام ويتيم
ثم قال تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر لا تنفع بالتاء لتأنيث المعذرة والباقون بالياء كأنه أريد الاعتذار
واعلم أن المقصود أيضاً من هذا شرح تعظيم ثواب أهل الثواب وذلك لأنه تعالى بيّن أنه ينصرهم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون فحالهم في علو الدرجات في ذلك اليوم ما ذكرناه وأما حال أعدائهم فهو أنه حصلت لهم أمور ثلاثة أحدها أنه لا ينفعهم شيء من المعاذير ألبتة وثانيها أن لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وهذا يفيد الحصر يعني اللعنة مقصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال وثالثها سوء الداء وهو العقاب الشديد فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثلاثة من الوحشة والبلية ثم إنه خص الأنبياء والأولياء بأنواع التشريفات الواقعة في الجمع الأعظم فهنا يظهر أن سرور المؤمن كم يكون وأن غموم الكافرين إلى أين تبلغ فإن قيل قوله يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ يدل على أنهم يذكرون الأعذار إلا أن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 36 ) قلنا قوله لاَّ تَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول نافع وهذا القدر لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً فيقال يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر ولما بين الله تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك
النصرة في الدنيا فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ويجوز أن يكون المراد من الهدى ما آتاه الله من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا والآخرة ويجوز أن يكون المراد تلك الدلائل القاهرة التي أوردها على فرعون وأتباعه وكادهم بها ويجوز أن يكون المراد هو النبوّة التي هي أعظم المناصب الإنسانية ويجوز أن يكون المراد إنزال التوراة عليه
ثم قال تعالى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى لما أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العلم فيهم وتوارثوه خلفاً عن سلف ويجوز أن يكون المراد سائر الكتب التي أنزلها الله عليهم وهي كتب أنبياء بني إسرائيل التوراة والزبور والإنجيل والفرق بين الهدى والذكرى وأن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار منسياً وأما الذكرى فهي الذي يكون كذلك فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلاهية المتقدمة ولما بيّن أن الله تعالى ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى وخاطب بعد ذلك محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فالله ناصرك كنا نصرهم ومنجز وعده في حقك كما كان كذلك في حقهم ثم أمره بأن يقبل على طاعة الله النافعة في الدنيا والآخرة فإن من كان لله كان الله له
واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي والاشتغال بما ينبغي والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية فوجب أن يكون مقدماً عليه في الذكر أما التوبة عما لا ينبغي فهو قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ والطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون به ونحن نحمله على التوبة عن ترك الأولى والأفضل أو على ما كان قد صدر عنهم قبل النبوة وقيل أيضاً المقصود منه محض التعبد كما في قوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ثم إنه أمرنا بطلبه وكقوله رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) من أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق وقيل إضافة المصدر إلى الفاعل والمفعول فقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ من باب إضافة المصدر إلى المفعول أي واستغفر لذنب أمتك في حقك وأما الاشتغال بما ينبغي فهو قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِى ّ وَالاْبْكَارِ والتسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل ما لا يليق به والعشي والإبكار قيل صلاة العصر وصلاة الفجر وقيل الإبكار عبارة عن أو النهار إلى النصف والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار فيدخل فيه كل الأوقات وقيل المراد طرفا النهار كما قال وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ ( هود 114 ) وبالجملة فالمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله وأن لا يفتر اللسان عنه وأن لا يغفل القلب عنه حتى يصير الإنسان بهذا السبب داخلاً في زمرة الملائكة كما قال في وصفهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِى ءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَة َ لاّتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا بينا أن الكلام في أول هذه السورة إنما ابتدىء رداً على الذين يجادلون في آيات الله واتصل البعض بالبعض وامتد على الترتيب الذي لخصناه والنسق الذي كشفنا عنه إلى هذا الموضع ثم إنه تعالى نبّه في هذه الآية على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة فقال إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدرهم فذلك الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل ولذك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك لأن النبوّة تحتها كل ملك ورياسة وفي صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة
ثم قال تعالى مَّا هُم بِبَالِغِيهِ يعني أنهم يريدون أن يكونوا تحت يدك ولا يصلون إلى هذا المراد بل لا بدّ وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك ثم قال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول البَصِيرُ بما تعمل ويعملون فهو يجعلك نافذ الحكمم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم
واعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ والقادر على الأكبر قادر على الأصغر لا محالة وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد وثانيها أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا استدلال حق لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله وثالثها أن يقال لما قدر على الأقوى الأكملل فبأن يقدر على الأقل الأرذل كان أولى وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل ألبتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السماوات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان جلي في إفادة هذا المطلوب ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس والمراد منهم الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب ولما بيّن
الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون نبّه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ثم قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِىء فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة ثم قال قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ يعني أنهم وإن كان يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل والنوع المعين من العمل أنه عمل صالح أو فاسد فإن الحسد يعمي قلوبهم فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة فهذا هو المراد من قوله قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ قرأ عاصم وحمزة والكسائي تَتَذَكَّرُونَ بالتاء على الخطاب أي قل لهم قليلاً ما تتذكرون والباقون بالياء على الغيبة
ولما قرر الديل الدال على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بأن أخبر عن وقوعها ودخولها في الوجود فقال إِنَّ السَّاعَة َ لاَتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة
وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
اعلم أنه تعاللى لما بيّن أن القوم بالقيامة حق وصدق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ واختلف الناس في المراد بقوله ادْعُونِى فقيل إنه الأمر بالدعاء وقيم إنه الأمر بالعبادة بدليل أنه قال بعده الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق اللعبادة لما بقي لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى معنى وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً
( النساء 117 ) وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى اللعبادة كثير في القرآن بأن ترك الظاهرة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل فإن قيل كيف قال ادْعُونِى اسَتُجِيبَ لَكُمْ وقد يدعى كثيراً فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال الدعاء إنما يصح على شرط ومن دعا كذلك استجيب له وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة ثم سأل نفسه فقال فما هو أصلح يفعله بلا دعاء فما الفائدة في الدعاءا وأجاب عنه من وجهين الأول أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني أن هذا أيضاً وارد على الكل لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله فلا فائدة في الدعاء وإن علم أنه لا يفعله فإنه ألبتة لا يفعله فلا فائدة في الدعاء وكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا هذا تمام ما ذكره وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال ادْعُونِى اسَتُجِيبَ لَكُمْ فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان أما بالقلب فإنه معولل في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله فالظاهر أنه تحصل الاستجابة إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولاً عند الله ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت واعلم أن الكلام السمتقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء فإن قيل روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال مِنْ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِى ّ وَالاْبْكَارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِىء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَة َ لاَتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول كأنه تعالى قال إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني أنه تعالى لما أمر بالدعاء فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القادر وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته إما فلكية وإما عنصرية أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها تعاقب الليل والنهار و ( لما ) كان أكثر مصالح العالم مربوطاً بهما فذكرهما الله تعالى في هذا المقام وبيّن أن الحكمة في خلق الليل حصول الراحة بسبب النوم والسكون والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء ليحصل مكنة التصرف فيها على الوجه الأنفع أما أن السكون في وقت النوم سبب للراحة فبيانه من وجهين الأول أن الحركات توجب الإعياء من حيث إن الحركة توجب السخونة والجفاف وذلك يوجب التألم والثاني أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال
الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء وأيضاً الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وأما قوله وَالنَّهَارَ مُبْصِراً فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة وتلك الأعمال تصرفات في أمور وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه فهذا هو الحكمة في قوله وَالنَّهَارَ مُبْصِراً فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو فجعل لكم الليل ساكناً ولكنه لم يقل كذلك بل قالل في الليل لتسكنوا فيه وقال في النهار مبصراً فما الفائدة فيه وأيضاً فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل قلنا أما الجواب عن الأول فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات أما اليقظة فأمور وجودية وهي مقصودة بالذات وقد بيّن الشيخ عبد القاهر النحوي في ( دلائل الإعجاز ) أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما فهذا هو السبب في هذا الفرق والله أعلم وأما الجواب عن الثاني فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما في الليل والنهار من المصالح والحكم البالغة قال إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ والمراد أن فضل الله على الخلق كثيراً جداً ولكنهم لا يشكرونه وأعلم أن ترك الشكر لوجوه أحدها أن يعتقد الرجل أن هذه النعم ليست من الله تعالى مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها وواجبة الدوران لذواتها فحينئذٍ هذا الرجل لا يعتقد أن هذه النعم من الله وثانيها أن الرجل وءن اعتقد أن كل العالم حصل بتخليق الله وتكونيه إلا أن هذه النعم العظيمة أعني نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يتفق لبعض الناس والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في آبار عميقة مظلمة مدة مديدة فحينئذٍ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء ورأيت بعض الملوك كان يمعذب بعض خدمه بأن أمر أقواماً حتى ينمعونه عن الإستناد إلى الجدار وعن النوم فعظم وقع هذا التعذيب وثالثها أن الرجل وإن كان عارفاً بمواقع هذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا محباً للمال والجاه فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة ولما كان أكثر الخلق هالكين في أحد هذه الأودية الثلاثة التي ذكرناها لا جرم قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ونظيره قوله تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقول إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( لأعراف 17 ) ولما بيّن الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر الرحيم الحكيم قال ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَى ْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ قال صاحب ( الكشاف ) ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل
شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ والمراد فأنى تصرفون ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها ثم قال تعالى وَكَذالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ذ يعني أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة لطلب الحق وخوف العاقبة أفكر كما أفكوا
اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِى الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته ءما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها الأرض والسماء وهو المراد من قوله اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء قال ابن عباس في قوله قَرَاراً أي منزلاً في حال الحياة وبعد الموت وَالسَّمَاء بِنَاء كالقبة المضروبة على الأرض وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها وَالسَّمَاء بِنَاء أي قائمئاً ثابتاً وإلا لوقعت علينا وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله والثاني ما كان حاصلاً في ابتداء خلقته وتكوينه
أما القسم الأول فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها حدوث صورته وهو المراد من قوله وَصَوَّرَكُمْ وثانيها حسن صورته وهو المراد من قوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وثالثها أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسرار 70 ) ولما ذكر الله تعالى هذه
الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وتفسير بتارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات ثم قال هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعاً ذاتياً وحينئذٍ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم
واعلم أن الحي عبارة عن الدارك الفعال والدارك إشارة إلى العلم التام والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي الوحدانية بقوله لا إله إلا هو ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها بالدعاء والثاني بالإخلاص فيه فقال فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ثم قال دالحمد لله رب العالمين فيجوز أن يكون المراد قول فيجوز أن يكون المراد قول الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ولماب يّن صفات الجلال والعظمة قال قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان وبيّن أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليف إلا به وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل
ولما بيّن أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه ألا الأفضل الأكمل فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله ولإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه ثم قال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه لآية أربعة الليل والنهار والأرض والسماء وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات
وأما القسم الثاني وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ فقيل المراد آدم وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تيولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبت إنما يكون من التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الأبيات
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها كونه طفلاً وثانيها أن يبلغ أشده وثالثها الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء
والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف والنقص وهذه المرتبة هي المراد من قوله ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التفسيم لا تزيد على هذه الثلاثة قال صاحب الكشاف ) قوله لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا
ثم قال وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطاً
ثم قال وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة
ثم قال وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل
هُوَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر انتقال الإنسان من كونه تراباً إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة ثم إلى كونه طفلاً ثم إلى بلوغ الأشد ثم إلى الشيخوخة واستدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر قال بعده هُوَ الَّذِى لاَ إله يعني كما أن الأتنقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات التي تقدم ذكرها يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر وقوله فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه وجوه الأول معناه أنه لما نقل هذه الأجسام من بعض هذه الصفات إلى صفة أخرى لم يتعب في ذلك التصرف ولم يحتج إلى آلة وأداة فعبّر عن نفاذ قدرته في الكائنات والمحدثات من غير معارض ولا مدافع بما إذا قال دكن فيكون الوجه الثاني أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول الوجه الثاني أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول كُنْ فَيَكُونُ فكأنه قيل الإنتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة انتقالات تحصل على التدرج قليلاً قليلاً وأما صيرورة الحياة فهي إنما تحصل لتعليق جوهر الروح النطقية به وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا السبب وقع التعبير عنه بقوله كُنْ فَيَكُونُ الوجه الثالث أن من الناس من يقول إن تكون الإنسان إنما ينعقد من المني والدم في الرحم في مدة معينة وبحسب انتقالاته من حالات إلى حالات فكأنه قيل إنه يتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخر لأن التسلسل محال ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو أول الناس فحينئذٍ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المني والدم بل بإيجاد الله تعالى ابتداء فعبّر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله كُنْ فَيَكُونُ
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاٌّ غْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ وهذا ذم لهم على أن جادلوا في آيات الله ودفعها والتكذيب بها فعجب تعالى منهم بقوله أَنَّى يُصْرَفُونَ كما يقول الرجل لمن لا يبين أنى يذهب بك تعجباً من غفلته ثم بيّن أنهم هم الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ أي بالقرآن وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا من سائر الكتب فإن قيل سوف للاستقبال وإذ للماضي فقوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ مثل قولك سوف أصوم أمس قلنا المراد من قوله إِذْ هو إذاً لأن الأمور المستقبلة لما كان في أخبا رالله تعالى متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال هذا لفظ صاحب ( الكشاف )
ثم إنه تعالى وصف كيفية عقابهم فقال إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الحميم أي في الماء المسخن بنار جهنم ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ والسجر في اللغة الإيقاد في التور ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم ويقرب منه قوله تعالى نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ ( الهمزة 6 7 ) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فيقولون ضَلُّواْ عَنَّا أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم ثم قالوا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً أي تبيّن أنهم لو لم يكونوا شيئاً وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا جربته فلم تجد عنده خيراً ويجوز أيضاً أن يقال ءنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأنعام أنهم قالوا وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم قال تعالى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ قال القاضي معناه أنه يضلهم عن طريق الجنة إذ لا يجوز أن يقال يضلهم عن الحجة إذ قد هداهم في الدنيا إليها وقال صاحب ( الكشاف ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو طلبوا الآلهة أو طلبتم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر ثم قال ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ أي ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأصنام ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة المقسومة لكم قال الله تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ( الحجر 44 ) خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ
والمراد منه ما قال في الآية المتقدمة في صفة هؤلاء المجادلين إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ( غافر 56 )
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِأايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِى َ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم من أول السورة إلى هذا لاموضع في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله أمر في هذه الآية رسوله بأي يصبر على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات ثم قال إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وعنى به ما وعد به الرسول من نصرته ومن إنزال العذاب على أعدائه ثم قال فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ يعني أولئك الكفار من أنواع العذاب مثل القتل يوم بدر فذلك هو المطلوب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إنزال العذاب عليهم فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام ونظيره قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ( الزخرف 41 42 )
ثم قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقُصُّ عَلَيْكَ والمعنى أنه قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظهار لمعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت ثم إن الله تعالى لم علم أن لصلاح في إظهار ما أظهره وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحاً في نبوتهم فكذلك الحال في اقترح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جرم ما أظهرناها وهذا هو المراد من قوله وَمَا كَانَ وَاقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا ثم قال فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِى َ بِالْحَقّ وهذا وعيد ورد عقيب اقتراح الآيات وَأَمَرُّ اللَّهِ القيامة والمبطلون هم المعاندون لذين يجادلون في آيات الله ويقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت
اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ نْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَة ً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَى َّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم وإلى كذر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد قال الزجاج الإبل خاصة وقال القاضي هي الأزواج الثمانية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أنه لم أدخل لام الغرض على قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ ولم يدخل على البواقي فما السبب فيه الجواب قال صاحب ( الكشاف ) الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينية فلا جرم أدخل عليهما حرف التعليل وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المابحات فلا جرم ما أدخل عليه حرف التعليل نظيره قوله تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) فأدخل التعليل على الركوت ولم يدخله على الزنية
السؤال الثاني قوله تعالى وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ معناه تحملون في البر والبحر إذا عرفت هذا فنقول لم لم يقل وفي الفلك كما قال قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( هود 40 ) والجواب أن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع في الفلك كما يصح أن يقال وضع فيه يصح أن يقال وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظة أولى حتى يتم المراد في قوله وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثير قال وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فَأَى َّ ءايَاتِ يعني أن هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة فقوله وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فَأَى َّ ءايَاتِ تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره قل صاحب ( الكشاف ) قوله فَأَى ُّ آيَاتِ اللَّهِ جاء على اللغة المستفيضة وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحوحمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه والله أعلم
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّة ً وَءَاثَاراً فِى الأرض فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّة َ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا ) لطيفاً في آخر هذه السورة وذلك أنه ذكر فصلاً في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ثم أردفه بفضل التهديد والوعيد وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد والمقصود أن هؤلاء الكفار لذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة لأن الدنيا فانية ذاهبة واحتج عليه بقوله تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين ليست إلا الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عددً ومالاً وجاهاً من هؤلاء المتأخرين فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار والحسرة والبوار فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين أما بيان أنهم كانوا أكثر من هؤلاء عدداً فإنما يعرف في الأخبار وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثاراً في الأرض فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم مثل الأهرام الموجودة بمصر ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً
ثم قال تعالى فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ما في قوله فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب وما في قوله مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم
ثم بيّن تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم واعلم أن الضمير في قوله فَرِحُواْ يحتمل أن يكون عائداً إلى الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان وفيه وجوه الأول أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) وقولهم لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا ( الأنعام 148 ) وقولهم مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يعس 78 ) وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ( الكهف 36 ) وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء كما قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( المؤمنون 53 ) الثاني يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم وعن سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له لو هاجرت فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا الثالث يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ ( الروم 7 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( النجم 30 ) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة العماد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان الأول أن يجعل الفرح للرسل ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم الثاني أن يكون المراد فرحوا بما عند الرسل
من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به كأنه قال استهزؤا بالبينات وبما جاؤا به من علم الوحي فرحين ويدل عليه قوله تعالى وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) فإن قيل أي فرق بين قوله فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم قلنا هو مثل كان في نحو قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم فإن قيل اذكروا ضابطاً في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه حتى يكون المرء مختاراً أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا
ثم قال تعالى سُنَّة َ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ والمعنى أن عدم قبول الإيمان حالل اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم
ثن قال وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ فقوله هُنَالِكَ مستعار للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس والله الهادي للصواب
سورة فصلت ( السجدة )
خمسون وأربع آيات مكيّةبسم الله الرحمن الرحيم
حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
اعلم أن في أول هذه السورة احتمالات أحدها وهو الأقوى أن يقال حام اسم للسورة وهو في موضع المبتدأ وتنزيل خبره وثانيها قال الأخفش تنزيل رفع بالابتداء وكتاب خبره وثالثها قال الزجاج تنزيل رفع بالابتداء وخبره كتاب فصلت آياته ووجهه أن قوله تَنزِيلَ تخصص بالصفة وهو قوله مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فجاز وقوعه مبتدأ
واعلم أنه تعالى حكم على السورة المسماة بحام بأشياء أولها كونه تنزيلاً والمراد المنزّل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور يقال هذا بناء الأمير أي مبنيه وهذا الدرهم ضرب السلطان أي مضروبه والمراد من كونها منزلاً أن الله تعالى كتبها في اللوم المحفوظ وأم جبريل عليه السلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويبلغها إليه فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلاً وثانيها كون التنزيل من الرحمن الرحيم وذلك يدل على كون التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة فكونه تعالى رحماناً رحيماً صفتان دالتان على كمال الرحمة فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالاً على أعظم وجوه النعمة والأمر في نفسه كذلك لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والزمنى والمحتاجين والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية فكان أعظم النعم عند الله تعالى على أهل هذا اللعالم إنزال القرآن عليهم وثالثها كونه كتاباً وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع وإنما سمي كتاباً لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين ورابعها قوله فُصّلَتْ ءايَاتُهُ والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات الله تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السماوات والأرض والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح وبعضها في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أهل الجنة ودرجات أهل النار وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن وخامسها قوله قُرْءاناً والوجه في تسميته قرآناً قد سبق وقوله تعالى قُرْءاناً نصب على الاختصاص والمدح أي أُريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت وقيل هو نصب على الحال وسادسها قوله عَرَبِيّاً والمعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 ) وسابعها قوله تعالى لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ والمعنى إنا جعلناه عربياً لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد فإن قيل قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ متعلق بماذا قلنا يجوز أن يتعلق بقوله تَنزِيلَ أو بقوله فُصّلَتْ أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات وثامنها وتاسعها قوله بَشِيراً وَنَذِيراً يعني بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال شعر شاعر وكلام قائل
الصفة العاشرة كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه فهذه هي الصفات العشرة التي وصف الله القرآن بها ويتفرع عليها مسائل
المسألة الأولى القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أنه وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً والمنزل والتنزيل مشعر بالتصيرر من حال فوجب أن يكون مخلوقاً الثاني أن التنزيل مصدر والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين الثالث المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو
المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول الرابع أن قوله فُصّلَتْ يدل على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز وذلك لا يليق بالقديم الخامس أنه إنما سمي قرآناً لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل السادس وصفه عربيباً وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بدّ وأن يكون محدثاً ومخلوقاً الجواب أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي عندنا محدثة مخلوقة إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ والله أعلم
المسألة الثانية ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية فأما حملها على معان أُخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعاً وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدلل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى قُرْءاناً عَرَبِيّاً وإنما سماه عربياً لكونه دالاً على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة وأن ما سواه فهو باطل
المسألة الثالثة ذهب قم إلى أنه حصلل في القرآن من سائر اللغات كقوله إِسْتَبْرَقٍ ( الكهف 31 ) و سِجّيلٍ ( هود 82 ) فإنهما فارسيان وقوله مشكاة ( النور 35 ) فإنها من لغة الحبشة وقوله قسطاس ( الإسراء 35 ) فإنه من لغة الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله يَتَذَكَّرُونَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة لفظ الإيمان والكفر واللصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى وعندنا أن هذا باطل وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا من وجه واحد وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلاً الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى قُرْءاناً عَرَبِيّاً وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
المسألة الخامسة إنما وصف الله القرآن بكونه عَرَبِيّاً في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات
واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة وهي مركبة من الحروف فالكلمة لها مادة وهي الحروف ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف واعلم أن
الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع وبعضهاا خفية المخارج مشتبهة المقاطع وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع ولا يشتبه شيء منها بالآخر وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض وذلك يخل بكمال الفصاحة وأيضاً الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازاً ظاهراً جلياً وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب وذلك أيضاً من جنس ما يوجب الفصاحة وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع
أحدها أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج وأيضاً الحروف على قسمين منها صلبة ومنها رخوة فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة واالرخوة المتقاربة والصلبة المتباعدة والرخوة المتباعدة فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان صعب اللفظ بها لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جارياً مجرى ما إذا كان الإنسان مقيداً ثم يمشي وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الشضعف والإعياء ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل وثانيها أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب وثالثها الوزن فنقول الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية وأعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى فهذه ثلاث مراتب فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة أما الثانائية فهي ناقصة وأما الرباعية فهي زائدة والغائب في كلام العرب الثلاثيات فثبت بما ذكرنا ضبط فصائل اللغات والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها وأما سائر اللغات فليست كذلك والله أعلم
المسألة السادسة قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني إنما جعلناه عَرَبِيّاً لأجل أن يعلموا المراد منه والقائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح والحكم تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله عَرَبِيّاً لهذه الحكمة فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز
المسألة السابعة قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم والدليل عليه قوله تعالى كِتَابٌ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ قُرْءاناً يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقوم بأنه غير معلوم يقدح فيه
المسألة الثامنة قوله تعالى فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه لأنا بينا أن كونه نازلاً من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب وكونه قُرْءاناً عَرَبِيّاً مفصلاً يدل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه بَشِيراً وَنَذِيراً يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات وقد حصلت هذه الموجبات اللثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم وذلك يدل على
أنه لا مهدي إلا من هذاه الله ولا ضال إلا من أضله الله
واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم عرضوا عنه ولا يسمعونه بيّن أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها أنهم قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أي صمم وثقل من استماع قولك وثالثها قولهم وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة مِنْ في قوله وَمِن بَيْنِنَا أنه لو قيل وبيننا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حصل وسط الجهتين وأما بزيادة لفظ مِنْ كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب وما بقي جزء منها فارغاً عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب هكذا ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو في غاية الحسن
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف فلما بيّن أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب
واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاماً لم يفهم معناه كما ينبغي وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سبباً للوقوف على دقائق أحوالك ذلك المرئي وذلك المدرك والشاعر هو النفس وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم وذكر أيضاً ما يقرب منه في معرض الذم فقال وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة 88 )
ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير والإثبات في سورة الأنعام فقال وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 25 ) فكيف الجمع بينهما قلنا إنه لم يقل ههنا أنهم كذبوا في ذلك إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا وهذا الثاني باطل أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه
واعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة قالوا فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ والمراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا ويجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك والحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ بل إنما أتوا بالكفر والكلام الباطل في قولهم فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ
ولما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً وقهراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عزّ وجلّ أوحى إليّ وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا النحي إليكم ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه وإن خذلكم بالحرمان رددتموه وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ثم بيّن أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين العلم والعمل أما العلم فالرأس
والرئيس فيه معرفة التوحيد ذلك لأن الحق هو أن الله واحد وهو المراد من قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك وجب علينا أن نعترف به وهو المراد من قوله فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ ونظيره قوله اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( الفاتحة 6 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 ) وقوله تعالى وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( الأنعام 153 ) وفي قوله تعالى فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وجهان الأول فاستقيموا متوجهين إليه الثاني أن يكون قوله فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض
واعلم أن الكليف له ركنان أحدهما الاعتقاد والرأس والرئيس فيه اعتقاد التوحيد فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل والرأس والرئيس فيه الاستغفار فلهذا السبب قال وَاسْتَغْفِرُوهُ فإن قيل المقصود من الاستغفار والتوبة إزالة ما لا ينبغي وذلك مقدم على فعل ما ينبغي فلم عكس هذا الترتيب ههنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما ينبغي قلنا ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) ولما رغب الله تعالى في الخير والطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي فقال وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى وجه النظم في هذه الآية من وجوه الأول أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وذلك لأن الموجودات إما الخالق وإما الخلق فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر الله وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم وذلك هو المراد من الشفقة على خلق الله فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله وأفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بكونه واحداً وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال لأنه ضد الشفقة على خلق الله إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفاً بصفات ثلاثة أولها أن يكون مشركاً وهو ضد التوحيد وإليه الإشارة بقوله وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ وثانيها كونه ممتنعاً من الزكاة وهو ضد الشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وثالثها كونه منكراً للقيامة مستغرقاً في طلب الدنيا ولذاتها وإليه الإشارة بقوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام الأمس واليوم والغد أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة الله تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال فلهذا حكم الله عليه بالويل فقال وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وهذا ترتيب في غاية الحسن والله أعلم الوجه الثاني في تقرير كيفية النظم أن يقال المراد بقوله لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم لا إله إلا الله وهو مأخوذ من قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
( الشمس 7 ) الثالث قال الفرّاء إن قريشاً كانت تطعم الحاج فحرموا ذلك على من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية احتج أصحابنا في إثبات أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام بهذه الآية فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين أحدهما كونه مشركاً والثاني أنه لا يؤتي الزكاة فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيراً عظيماً في زيادة الوعيد وذلك هو المطلوب
المسألة الثالثة احتج بعضهم على أن الامتناع من إيتاء الزكاة يوجب الكفر فقال إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر وهو قوله فَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ وذكر أيضاً بعدها ما يوجب الكفر وهو قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه ثم أكذوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة والجواب لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان وهما حاصلان عند عدم إيتام الزكاة فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدنم إيتاء الزكاة والله أعلم
ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع من قولك مننت الحبل أي قطتعه ومنه قولهم قد منه السفر أي قطعه وقيل لا يمن عليهم لأنه تعالى لما سماه أجراً فإذاً الأجر لا يوجب المنّة وقيل نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون
قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاٌّ رْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الآية الأولى أن يقول إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ ( الكهف 110 ) فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ( فصلت 6 )
أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية وذلك بأن بيّن كمال قدرته وحكته في خلق السموات والأرض في مدة قليلة فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية والمعبودية فهذا تقرير النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير أينكم لتكفرون بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد وأما نافع في رواية قالون وأبو عمرو فعلى هذه الصورة إلا أنهما يمدان والباقون همزتين بلا مد
المسألة الثانية قوله تعالى أَئِنَّكُمْ استفهام بمعنى الإنكار وقد ذكر عنخم شيئين منكرين أحدهما الكفر بالله وهو قوله لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وثانيهما إثبات الشركاء والأنداد له ويجب أن يكون الكفر المذكور أولاً مغايراً لإثبات الأنداد له ضرورة أن عطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير والأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول قولهم إن الله تعالى لا يقدر على حشر الموتى فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا بالله الثاني أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف وفي بعثة الأنبياء وكل ذلك قدح في اصفات المعتبرة في الإلهية وهو كفر بالله الثالث أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد وذلك أيضاً قدح في الإلهية وهو يوجب الكفر بالله فالحاصل أنهم كفروا بالله لأجل قولهم بهذه الأشياء وأثبتوا الأنداد أيضاً لله لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر بالله وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً لله تعالى مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً له في المعبودية والإلهية فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا ينكن إثباته بالعقل المحض وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوّة فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم قلنا إثبات كون السموات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية بقي أن يقال فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر فنقول هذا أيضاً له أثر في هذا الباب وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإلهية فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن
وأما قوله تعالى ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتم له أنداداً من الخشب والحجر ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا والمراد منها الجبال وقد تقدم تفسير كونها رَوَاسِى َ في سورة النحل فإن قيل ما الفائدة في قوله مّن فَوْقِهَا ولم لم يقتصر على قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ كقوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات 27 ) وَجَعَلْنَا فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ ( الرعد 3 ) قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله وَبَارَكَ فِيهَا والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث قوله تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وفيه أقوال الأول أن المعنى وقد فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم قال محمد بن كعب قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني قال مجاهد وقدر فيها أقواتها من المطر وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول الثالث أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى فقوله وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر وذكر أنه خلق السموات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ مع اليومين الأولين وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً يريد كلا المسافتين ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفاً في شهر وألوفاً في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين
السؤال الثاني أنه ملا ذكر أنه خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط فلم ترك هذا التصريح وذكر ذلك الكلام المجمل
والجواب أن قوله فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ فيه فائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين وذلك لأنه لو قال خلقت هذه الأشياء في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ثم قاتل بعده فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان
السؤال الثالث كيف القراءات في قوله سَوَآء والجواب قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سَوَآء بالحركات الثلاثلا الجر على الوصف والنصب على المصدر استوت سواء والرفع على هي سواء
السؤال الرابع ما المراد من كون تلك الأيام الأربعة سواء فنقول إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام الموجودة في أماكن خط الاستواء وقد تكون مختلفة كالأيام الموجودة في سائر الأماكن فبيّن تعالى أن تلك الأيام الأربعة متساوية غير مختلفة
السؤال الخامس بم يتعلق قوله لّلسَّائِلِينَ الجواب فيه وجهان الأول أن الزجاج قال قوله فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ أي في تتمة أربعة أيام إذا عرفت هذا فالتقدير وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ وفيه مباحث
البحث الأول قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ومنه قوله تعالى فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ ( فصلت 6 ) والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صرف يصرفه ذلك
البحث الثاني ذكر صاحب ( الأثر ) أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلماً وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالساً في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئاً ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس
والقمر كانت مظلمة فصح تسميتها بالدخان لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان والله أعلم بحقيقة الحال
البحث الثالث قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض وقوله تعالى وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 ) مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض واختلف العلماء في هذه المسألة والجواب المشهور أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولاً ثم خلق بعدها السماء ثم بعد خلق السماء دحا الأرض وبهذا الطريق يزول التناقض واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين ثم إنه في اليوم الثلث فِيهَا رَوَاسِى َ رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة وقوله تعالى وَبَارَكَ فِيهَا مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضاً فهي منذ خلقت كانت مدحوة وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل الثالث أن الأرض جسم في غاية العظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحواً فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة ثم صارت مدحوة قول باطل والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال وإن كان المراد منه أنه خلق أولاً أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أحزائها وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء الرابع أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام فإذا حصل دحو الأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كناية عن إيجاد السماء والأرض فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور ونقل الواحدي في ( البسيط ) عن مقاتل أنه قال خلق الله السموات قبل الأرض وتأويل قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان لما قال تعالى قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) معناه إن يكن سرق وقال تعالى وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ( الأعراف 4 ) والمعنى فكان قد جاءها هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثُمَّ تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد
التناقض وذلك دليل على أنه لم يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إنما حصل قبل وجودهما وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله ئتيا على الأمر والتكليف فوجب حمله على ما ذكرناه بقي على لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في قوله تعالى دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الجواب المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير ائتي شئتما ذلك أو أبيتما كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين قَالَتَا أَتَيْنَا على الطوع لا على الكره وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكر فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف تشبه حيواناً مطيعاً لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك وثالثها السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبداً بما ويجب الكره والكرب والقهر والقسر
السؤال الثاني ما المراد من قوله ائْتِيَا ومن قوله ءاتَيْنَا الجواب المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله كُنْ فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف أي بأرض مدحوة قراراً ومهاداً وأي بسماء مقبية سقفاً لهم ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد كما تقول أتى عمله مرضياً وجاء مقبولاً ويجوز أيضاً أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء وكون السماء سقفاً للأرض
السؤال الثالث هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون الجواب لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله سَاجِدِينَ ( الأعراف 120 ) ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة إلا أن هذا القول باطل لإجماع المتكلمين على فساده
ثم قال تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله فَقَضَاهُنَّ يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال طَائِعِينَ ونحوه أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال والثاني على التمييز
ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفزع في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة فإن قيل اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم قلنا معناه إنه مضى من المدة ما لوم حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراف بيوم
ثم قال تعالى وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا قال مقاتل أمر في كل سماء بما أراد وقال قتادة خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وقال السدي خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد قال والله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة والأقرب أن يقال قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب والله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص فمن الملائكة من هو في القيام في أول خلق العالم إلى قيام القيامة ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون وإذا كان ذلك الأمر مختصاً بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصاً بتلك السماء وقوله تعالى وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ( الأعرف 4 ) والمعنى فكان قد جاءها هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيداً ثم ضربت عمراً بالأمس فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية فنقول الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك وإذا ثبت هذا فنقول قوله خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ معناه أنه قضى بحدوثه في يومين وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء ولا يزم منه تقدم إحداث الأرض على إحدث السماء وحينئذٍ يزول السؤال فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل
ثم قال تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان
القول الأول أن تجري هذه الآية على ظاهرنا فنقول إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ
( سبأ 10 ) والله تعالى تجلى للجبل قال فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ( الأعراف 143 ) والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) وإذ كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلاً وفهماً ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع وههنا لا مانع فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني أنه تعالى أخبر عنهما فقال قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ( الأحزاب 72 ) وهذا يدل على كونها عارفة بالله مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها والإشكال عليه أن يقال المراد من قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال يا موجود كن موجوداً وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب فلم يجز توجيه الأمر عليها فإن قال قائل روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال قال سبحانه للسموات أطلعي شمسك وقمرك ونجومك وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله أَتَيْنَا طَائِعِينَ حدوثهما في داتهما بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما إلا أن هذا الكلام باطل لأنه تعالى قال فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ والفاء للتعقيب وذلك يدل على أن حدوث المسوات إنما حصل بعد قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث
القول الثاني أنقوله تعالى قَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع ونظيره قول القائل قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد أسألمن يدقني فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إنما حصل قبل وجودهما وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً على الأمر والتكليف فوجب حمله على ما ذكرنا
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السموات والملائكة أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات ثمإنه تعالى أسكنهم فيها وأيضاً ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر بل هي أعلى من مصاعد أفهمامهم ومرامي أوهامهم ثم قال وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وهي النيرات التي خلقها في السموات وخص كل واحد بضوء معين وسر معين وطبيعة معينة لايعرفها إلا الله ثم قال وَحِفْظاً يعني وحفظناها حفظا يعني من الشياطين الذين يسرتقون السمع فأعد لكل شيطان نجماً يرميه به ولا يخطئه
فمنها ما يحرق ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلاً وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن خلق السموات والأرض فقال ( خلق الله تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال والشجر في يومين وخلق في يوم الخميس السماء وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ثم خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال ثم استوى على العرش قالوا ثم استراح فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزل قوله تعلاى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ق 38 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل قال ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ والعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم وما أحسن هذه الخاتمة لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط
فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مِّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاّنزَلَ مَلَائِكَة ً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْى ِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَة ُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ
اعلم أن الكلام إنما ابتدىء من قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( فصلت 6 ) واحتج عليه بقوله قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 9 ) وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية ولما تمم تلك الحجة قال فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذٍ علاج في حقهم إلا إنزال لعذاب عليهم فلهذا السبب قال فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ بمعنى أن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها
وأصروا على الجهل والتقليد فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ والإنذار هو التخويف قال المبرد والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان وقرىء صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ قال صاحب ( الكشاف ) وهي المرة من الصعق
ثم قال إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وفيه وجهان الأول المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض كما جكى الله تعالى عن الشيطان قوله ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ( الأعراف 17 ) يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة ويقول الرجل استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه
السؤال الثاني المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم فإن قيل الرسل الذين جاؤا من قبلهم ومن بعدهم كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤهم قلنا قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤهم
ثم قال أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ يعني أن الرسل الذي جاؤهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك قال صاحب ( الكشاف ) أنفي قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله
ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَة ً يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل وقالوا الدليل على كونهم كاذبي أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زرمة الملائكة لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فأنتم لستم برسل وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم وهو المراد من قوله فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام وقوله أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأبياء رسلاً وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ثم أتانا بيان عن أمره فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي فأتاه فقال يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله لم تشتم ألهتنا وتضللنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن أي بنات من شئت من قريش وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ساكت فلما فزع قال بسم الله الرحمن الرحيم ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم إلى قوله إلى قوله صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلم احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ثم قال والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم ولقد علمت أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن
ينزل بكم العذاب
واعلم أنه تعالى لما بيّن كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بيّن خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وهذا الاستكبار فيه وجهان الأول إظهارالنخوة والكبر وعدم الالتفات إلى الغير والثاني الاستعلاء على الغير واستخدامهم ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالو مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى خاضعين لأوامره ونواهيه
واحتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ ( الذريات 58 ) فإن قيل صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فما معنى قوله إن الله أشد منهم قوة قلنا هذا ورد على قانون قولنا الله أكبر
ثم قال وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة
واعلم أن نظم الكلام أن يقال أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون وقوله وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً واعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار
واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق فقوله اسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ مضاد للتعظيم للخالق وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى فلهذا المعنى سلّط الله العذاب عليهم فقال فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وفي الصرصر قولان أحدهما أنها العاصفة التي تصرصر أن تصوت في هبوبها وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم وقيل هو من صرير الباب وقيل من الصرة والصيحة ومنه قوله تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) والقول الثاني أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ( آل عمران 117 ) وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الرياح ثمان أربع منها عذاب العاصف والصرصر والعقيم والسموم وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ) وعن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته
وأما قوله فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نَّحِسَاتٍ بسكون الحاء والباقون بكسر الحاء قال صاحب ( الكشاف ) يقال نحس نحساً نقيض سعد سعداً فهو نحس وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو نصف بمصدر
المسألة الثانية استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه االآية على أن بعض الأيام قد يكون نحساً وبعضها قد يكون سعداً وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى أجاب المتكلمون بأن قالوا أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف وأيضاً قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها أجاب المستدل االأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشؤمات لأن السعد يقابله السعد والكدر يقابله الصافي وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايراً لذلك العذاب الذي وقع فيها
ثم قال تعالى عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ فِى الْحَيَواة َ الدُّنْيَا أي عذاب الهواان والذل والسبب فيه أنهم استكبروا فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم
ثم قال تعالى وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَخْزَى أي أشد إهانة وخزياً وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم
ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال وَأَمَّا ثَمُودُ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ثَمُودُ بالرفع والنصب منوناً وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرىء بضم الثاء وقوله فَهَدَيْنَاهُمْ أي دللناهم على طريق الخير والشر فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد
واعلم أن صاحب ( الكشاف ) ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإقضاء إلى البغية لم يحصل فثبت أن قيد مفضياً إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى
وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جواباً شافياً فتركناه قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد وبيانه من وجهين الأول أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب الثاني أنه تعالى قال فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلاً بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلماً لا يرغب فيه فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقاً بجهل آخر فإن كان ذلك
الجهل الثاني باختياره أيضاً لزم التسلسل وهو محال فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب ولما وصف الله كفرهم قال فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَة ُ الْعَذَابِ الْهُونِ و صَاعِقَة ُ الْعَذَابِ أي داهية العذاب و الْهُونِ الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يريد من شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة وشرع صاحب ( الكشاف ) ههنا في سفاهة عظيمة والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى صعياً حسناً فيما يتعلق بالألفاظ إلا أن المسكين كان بعيداً من المعاني
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود فإن قيل كيف يجوز للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينذر قومه مثل صااعقة عاد وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقد صرّح الله تعالى بذلك في قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( الأنفال 33 ) وجاء في الأحاديث الصحيحة أن اللهلله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك وإن كان أقل درجة مهم وهذا القدر يكفي في التخويف
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير وقرأ نافع نَحْشُرُ بالنون أَعْدَاء بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه والتقدير يحشر الله عزّ وجلّ أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله وَنَجَّيْنَا ( فصلت 18 ) فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ويقويه قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ ( مريم 85 ) وَحَشَرْنَاهُمْ ( الكهف 47 ) وأما الباقون
فقرؤا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله وَيَوْمَ يُحْشَرُ ابتداء كلام آخر وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله احْشُرُواْ ( اللصفات 22 ) وهم الملائكة وأيضاً أن هذه القراءة موافقة لقوله فَهُمْ يُوزَعُونَ ( فصلت 19 ) وأيضاً فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء الله يحشرون إلى النار قال فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم
ثم قال حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم وفيه مسائل
المسألة الأولى التقدير حتى إذا جاؤنا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وعلى هذا التقدير فكلمة مَا صلة وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله أثم إذا ما وقع آمنتم به ( يونس 51 ) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به
المسألة الثانية روي أن العبد يقول يوم القيامة يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني فيقول الله تعالى فإن لك ذلك فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه باالأعمال التي صدرت منه فذلك قوله أثم إذا ما وقع آمنتم به ( يونس 51 ) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به
المسألة الثانية روي أن العبد يقول يوم القيامة يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني فيقول الله تعالى فإن لك ذلك فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه باالأعمال التي صدرت منه فذلك قوله ( يونس 51 ) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به
المسألة الثانية روي أن العبد يقول يوم القيامة يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني فيقول الله تعالى فإن لك ذلك فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه باالأعمال التي صدرت منه فذلك قوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه والثاني أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة والثالث أن يظهر تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما القول الأول فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لساناً يمتنع أن يكون محلاً للعلم والعقل فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لساناً وجلداً وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجولد فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة وأما القول الثاني وهو أن يقالل إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء وهذا أيضاً باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام لا ما كان موصوفاً بالكلام فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة فههنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء وظاهر القراآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم وأيضاً أنهم قالوا لتلك الأعضاء لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا فقالت الأعضاء أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء وكل هذه الآياات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين وأما القول الثالث وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه فهذا
منتهى الكلام في هذا البحث أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة ولا للعلم ولا للقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطاً للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة والله أعلم
المسألة الثالثة ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم لأن الذوق دالخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة االفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( البقرة 235 ) وأراد النكاح وقال أَوْ جَاء مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ ( النساء 43 ) والمراد قضاء الحاجة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه ) وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في الإتيان بالزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء
ثم قال تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار عن ابن مسعود قال كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عللى ثقفيان وقرشي فقال أحدهم أترون الله يسمع ما تقولون فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ
ثم قال تعالى وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل قال ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الله عزّ وجلّ ( أنا عند ظن عبدي بي ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال وقال قتادة الظن نوعان ظن منج وظن مرد فالمنح قوله إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( الحاقة 20 ) وقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ
( البقرة 46 ) وأما الظن المردي فهو قوله وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ رفع بالابتداء وظنكم و بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلاً من ذلاكم وأرداكم الخبر
ثم قال فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ يعني إن أمسكوا عن الاستغالثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاماً لهم وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ أي لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ونظيره قوله تعالى أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ( إبراهيم 21 ) وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من الممعتبين أي أن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِأاياتِنَا يَجْحَدُون وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاٌّ سْفَلِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر فقال وَقَضَيْنَا لَهُمْ قُرَنَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الصحاح ) يقال قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع وهما قيضان كما يقال بيعان وقيض الله فلاناً أي جاءه به وأتى به له ومنه قوله تعالى وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر فقالوا إنه تعالى ذكر أنه قيض لهم أولئك القرناء وكان عالماً بأنه متى قيض لهم أولئك القرناء فإن يزينوا الباطل لهم وكل من فعل فعلاً وعلم أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر لا محالة فإن فاعل ذلك الفعل لا بد وأن يكون مريداً لذلك الأثر فثبت أنه تعالى لما قيض لهم قرناء فقد أراد منهم ذلك الكفر أجاب الجبائي عنه بأن قال لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين إذ الفاعل لما أراده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له وبأن قوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
( الذاريات 56 ) يدل على أنه لم يرد منهم إلا العبادة فثبت بهذا أنه تعالى لم يرد منهم المعاصي وأما هذه الآية فنقول إنه تعالى لم يقل وقيضنا لهم قرناء ليزينوا لهم وإنما قال فَزَيَّنُواْ لَهُم فهو تعالى قيض القرناء لهم بمعنى أنه تعالى أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بيّن تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض
واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه وهو أن من فعل فعلاً وعلم قطعاً أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر فاعل ذلك الفعل يكون مريداً لذلك الأثر فههنا الله تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك وقلوه ولو أراد الله منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين لله قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل وأيضاً فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه وأن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وذكر الزجاج فيه وجهين الأول زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنّة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا أن الدنيا قديمة وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك الثاني زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونه وعبّر ابن زيد عنه فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة
ثم قال تعالى وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْمَ فِيهَا أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة أُمَمٌ من المتقدمين إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ واحتج أصحابنا أيضاً بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا القول الحق باطلاً وهذا العلم جهلاً وهذا الخبر الصدق كذباً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال فثبت أن صدور الإيمان عنهم وعدم صدور الكفر عنهم محال
واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدىء من قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( فصلت 5 ) فأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع ثم إنه حكى عنهم شبهة أخرى فقال وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَالْغَوْاْ فِيهِ بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغي ويلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته
واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كالم في المعنى وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه وأْاط عقله بمعانيه وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول فدبروا تدببيراً في منع الناس عن استماعه فقال بعضهم لبعض لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته كاانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغواً وباطلاً
لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس فبهذا الطريق تغلبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلون بالغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى ذلك هددهم بالعذاب الشديد فقال فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد فإذا كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه ثم قال وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ واختلفوا فيه فقال الأكثرون المراد جزاء سوء أعمالهم وقال الحسن بل المراد أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت تلك الأعمال الحسنة عنهم ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة الباطلة فلا جرم لم يتحصلوا إلا على جزاء السيئات
ثم قال تعالى ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ والمعنى أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار
ثم قال تعالى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ أي لهم في جملة النار دار السيئات معينة وهي دار العذاب المخلد لهم جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ أي جزاء بما كانوا يلغون في القراءة وإنما مساه جحوداً لأنهم لما علموا أن القررن بالغ إلى حد الإهجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوا للحسد
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين أن الكفار عند الوقوع في العذاب الشديد يقولون رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ والسبب في ذكر هذين القسمين أن الشيطان على ضربين جني وإنسي قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الانعام 112 ) وقال الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ ( الناس 5 ) وقيل هما إبليس وقابيل لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل
وقرىء أَرِنَا بسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ وقيل معناه أعطنا الذين أضلانا وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فالمعنى بصرنيه وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك
ثم قال تعالى نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا قال مقاتل يكونان أسفل منا في النار لِيَكُونَا مِنَ الاْسْفَلِينَ قال الزجاج ليكونا في الدرك الأسفل من النار وكان بعض تلامذتي ممن يميل إلى الحكمة يقول المراد باللذين يضلان الشهوة والغضب وإليهما الإشارة في قصة الملائكة بقوله أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( البقرة 30 ) ثم قال والمراد بقوله نَجْعَلُهَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا يعني يا ربنا أعنا حتى نجعل الشهوة والغضب تحت أقدام جوهر النفس القدسية والمراد بكونهما تحت أقدمه كونهما مسخرين للنفس القدسية مطيعين لها وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها
إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَة ُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
أعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه وقد ذكرنا مراراً أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح فإن أهل التحقيق قالوا كما الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراض والتفريط كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وقال أيضاً اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله ثُمَّ اسْتَقَامُواْ وسمعت أن القارىء قرأ في مجلس العبادي هذه الآية فقال العبادي والقيامة في القيامة بقدر الاستقامة إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقروناً باليقين التام والمعرفة الحقيقية إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان أحدهما أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة الثاني أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقعفي أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير ألبتة عن دينه فكان هو الذي قال رَبُّنَا اللَّهُ وبقي مستقيماً عليه لم يتغير بسبب من الأسباب وأقول يمكن فيه وجوه أخرى وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلهاً بقيت له مقامات أخرى فأولها أن لا يتوغل في جانب الاثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل وأيضاً يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المتسقيم فهذا هو المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ متناولاً للقول والاعتقاد ويكون قوله ثُمَّ اسْتَقَامُواْ متناولاً للأعمال الصالحة
ثم قال تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَة َ قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة أَلاَّ تَخَافُواْ أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير
لشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جبل المصحلة والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي وههنا دقيقة عقلية وهي أن المتسقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلاً فإذا وجد يصير حاضراً فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضياً وأيضاً المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولاً والماضي في كل حالة أبعد حصولاً ولهذا قال الشاعر
فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية وأيضاً الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجوداً في الماضي وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كانالإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقياً كان له الجنة أما من لم يسمع ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق
ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال وَقَضَيْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ( فصلت 25 ) ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن الملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية كما أن للشياطين تأثيرات في الأوراح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطبية الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات فهم يقولون كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدينا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة وهي كالشعلة بالنسبة إلى المشي والقطرة بالنسبة إلى البحر والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات ) فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية فقد زال الغطاء والوطاء فيتصل الأثر بالمؤثر والقطرة بالبحر والشعلة
بالشمس فهذا هو المراد من قوله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ وَفِي الاْخِرَة ِ ثم قال وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ قال ابن عباس وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ أي ما تتمنون كقوله تعالى لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وبين قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ قلنا الأقرب عندي أن قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ إشارة إلى الجنة الجسمانية وقوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( يونس 10 )
ثم قال نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ والنزل رزق النزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال قال العارفون دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفسية بعدها وتلك الخلع النفسية ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلاً بفضله وكرمه إنه قريب مجيب
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيِّئَة ُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدىء حيث قالوا للرسول قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ( فصلت 5 ) ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة فقالوا لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فصلت 26 ) وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات وعبّر عن هذا المعنى فقال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة وفيه وجه آخر وهو أن مراتب
السعادات اثنان التام وفوق التام أما التام فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام إذا عرفت هذا فنقول إن قوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 ) إشارة إلى المرتبة الأولى وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق وهو المراد من قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ فهذا أيضاً وجه حسن في نظم هذه الآيات
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصاباً وافياً من العلوم الإلهية الكشفية عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن
المسألة الثانية من الناس من قال المراد من قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومنهم من قال هم المؤذنون ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه والدعوة إلى الله مراتب
فالمرتبة الأولى دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولاً ثم الدعوة بالسيف ثانياً وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها أن نفوسهم أققوى قوة وأرواحهم أصفى جورهاً فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل فكانت دعوتهم أفضل ورابعها أن النفوس على ثلاثة أقسام ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول العوام والقسم الثاني هم الأولياء والقسم الثالث هم الأنبياء ولهذا السبب قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( علماء أمتي كأنبياء إسرائيل ) وإذا عرفت هذا فنقول إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان الكمال في الذات والتكميل للغير فكانت قوتهم على الدعوة أقوى وكانت ادرجاتهم أفضل وأكمل إذا عرفت هذا فنقول الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان العلم والقدرة أما العلماء فهم نواب الأنبياء في العلم وأما الملوك فهم نواب الأنبياء في القدرة والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأوراح والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء ثم العلماء على ثلاثة أقسام العلماء بالله والعلماء بصفات الله والعلماء بأحكام الله أما العلماء بالله فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم يُؤْتِى الْحِكْمَة َ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 229 ) وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا ينهاية لها فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجت لا نهاية لها وأما الملوك فهم أيضاً يدعون إلى دين الله بالسيف وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار وإما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولاً ضعيفاً أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة فكان ذلك داخلاً تحت الدعاء إلى الله وأما كون
هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطاً بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة فهذا هو الكلام في مراتب الدعوة إلى الله
المسألة الثالثة قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سوها إذا عرفت هذا فنقول كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج لأذان واجب واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان
المسألة الرابعة اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولاً ممن قال إني من المسلمين فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال ولو كان قولنا إن شاء الله معتبراً في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية
المسألة الخامسة الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها الدعوة إلى الله وثانيها العمل الصالح وثالثها أن يكون من المسلمين أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية
وأما قوله وَعَمِلَ صَالِحَاً فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات
وأما قوله وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان فيكون هذا الرجل موصوفاً بخصال أربعة أحدها الإقرار باللسان والثاني الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث الاعتقاد الحق بالقلب والرابع الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم وكمال الدرجة في هذه المرات بالأربعة ليس إلا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيّئَة ُ وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ( فصلت 5 ) فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردافها بالوعد والوعيد ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لا تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فصلت 26 ) وأجاب عنها أيضاً بالوجوه الكثيرة ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولاً بأن قال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات فصار
الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيّئَة ُ والمراد بالحسنة دعوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الدين الحق والصبر على جهالة الكفار وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وما ذكروه في قولهم لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ولا تستوي الحسنة ولا السيئة بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة وهم بالضد من ذلك فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة
ثم قال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة
ثم قال فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ يعني إذا قابلت إسائتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ قال الزجاج أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام
ثم قال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات ويحتمل أن يكون المراد وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة فعلى هذا الوجه قوله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ مدح بفعل الصبر وقوله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ وعد بأعظم الحظ من الثواب
ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقاً آخر عظيم النفع أيضاً في هذا الباب فقال وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء قال صاحب ( الكشاف ) النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده أو أُريد وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره وامض على شأنك ولا تطعه والله أعلم
وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَة ً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْى ِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوا هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته تنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض فبدأ ههنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدم والنور وجود والعدم سابق على الوجود فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع فقد شرحناها في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وفي تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
ولما بيّن أن الشمس والقمر محدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الخالق القادر الحكيم والضمير في قوله خَلَقَهُنَّ لليل والنهار والقمر لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث يقال للأقلام بريتها وبريتهن ولما قال مّنْ ءايَاتِهِ كن في معنى الإناث فقال خَلَقَهُنَّ وإنما قال إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأن ناساً كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله
فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود بخلاف الحجر المعني فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية فكان المقصود من القبلة حاصلاً والمحذور المذكور زائلاً فكان هذا أولى واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله تَعْبُدُونَ لأجل أن قوله وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ متصل به وعند أبي حنيفة هو قوله وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ لأن الكلام إنما يتم عنده
ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقل وأذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى ولكنا عبيد للشمس وهما عبدان لله وإذا كان قول هؤلاء هكذا فكيف يليق أن يقال إنهم استكبروا عن السجود لله والجواب ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر
السؤال الثاني أن المشبهة تمسكوا بقوله فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ في إثبات المكان والجهة لله تعالى والجواب أنه يقال عند الملك من الجند كذا وكذا ولا يراد به قرب المكان فكذا ههنا ويدل عليه قوله ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) ويقال عند الشافعي رضي الله عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر الجواب نعم لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون فيقال هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه ويعترفون بتقدمه فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون
السؤال الرابع قال ههنا في صفة الملائكة يَسْبَحُونَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فهذا يدل على أنهم مواظبون على التسبيح لا ينفكون عنه لحظة واحدة واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 ) وقوله تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 ) الجواب إن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة وهم الأشراف الأكابر منهم لأنه تعالى وصفهنم بكونهم عنده والمراد من هذه العندية كمال الشرف والمنقبة وهذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال فإن قالوا هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لا بد وأن يتنفسوا فاشتغلهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر فذكر الله تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم ولا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها وإشراق ذواتها واستغراقها في معارج معارف الله بأحوال البشر فإن بين الحالتين بعد المشرقين
ثم قال تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر أتبعها بذكر آية
أرضية فقال وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً والخشوع التذلل والتصاغر واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وربت انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات ثم قال إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا فَانظُرْ إِلَى يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مراراً لا حصر لها ثم قال إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الاْجزاء بعد اجتماعها أيضاً أمر ممكن لذاته والله تعالى قادر على الممكنات فوجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه ألبتة والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِناً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب ثم بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويحاول إلقاء الشبهات فيها فقال إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَاتِنَا يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فالملحد هو المنحرف ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل وقوله لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا تهديد كما إذا قال الملك المهيب إن الذين ينازعونن في ملكي أعرفهم فإنه يكون ذلك تهديداً ثم قال أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ مِن إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى وهذا استفهام بمعنى التقرير والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة ثم قال اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وهذا أيضاً تهديد ثالث ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإه هذا مما يدل على الوعيد الشديد
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وهذا أيضاً تهديد وفي جوابه وجهان أحدهما أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني أن جوابه قوله أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ والأول أصوب
ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن فقال وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ والعزيز له معنيان أحدهما الغالب القاهر والثاني الذي لا يوجد نظيره أما كون القرآن عزيزاً بمعنى كونه غالباً فالأمر كذلك لأنه بقورة حجته غلب على كل ما سواه وأما كونه غزيزاً بمعنى عديم النظير فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته ثم قال لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ وفيه وجوه الأول لا تكذبه الكتب المتقدملاة كالتوراة والإنجيل والزبور ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني ما حكم القرآن بكونه حقاً لا يصير باطلاً وما حكم بكونه باطلاً لا يصير حقاً الثالث معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه والدليل عليه قوله وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب ينكن جعله معارضاً وله ولم يوجد فيما تقدم كتاب يصلح جعله معارضاً له الخامس قال صاحب ( الكشاف ) هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يتصل إليه
واعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وإنه على خلاف هذه الآية
ثم قال تعالى تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي حكيم في جميع أحواله وأفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه ولهذا السبب جعل الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) فاتحة كلامه وأخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة وهو قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزمر 75 )
مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة َ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاعْجَمِى ٌّ وَعَرَبِى ٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات الله ثم بيّن شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله رجع إلى أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يصبر على أذى قومه وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من
أنهم قَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( فصلت 5 ) فقال مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ وفيه وجهان الأول وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب الممزّلة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ للمحقين وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى الثاني أن يكون المراد ما قال الله لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة هو ذكر الأجوبة عن قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّا عَامِلُونَ فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل ثم إنه تعالى ذكر جواباً آخر عن قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ فقال وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ ءاعْجَمِى ٌّ وَعَرَبِى ٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أأعجمي بهمزتين على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله كقوله ءأَنذَرْتَهُمْ ( البقرة 6 ) ونحوها على الاستفهام وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة وأما القراءة بهمزتين فالهمزة الأولى همزة إنكار والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي وأما القراءة بغير همزة الاستفهام فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي
المسألة الثانية نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتاباً منتظماً فضلاً عن ادعاء كونه معجزاً بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله تعلاى عنهم من قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وهذا الكلام أيضاً متعلق به وجواب له والتقدير أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ويصح لهم أن يقولوا قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ أي من هذا الكلام وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جداً
ثم قال تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
واعلم أن هذا متعلق بقولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى آخر الآية كأنه تعالى يقول
إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة فبقي أن يقال إن كل من آتاه الله طبعاً مائلاً إلى الحق وقلباً مائلاً إلى الصدق وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى ً شفاء أما كونه هدى ً فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى فذلمك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل وأما من كان غارقاً في بحر الخذلان وتائهاً في مفاوز الحرمان ومشغوفاً بمتابعة الشيطان كان هذا القرآن في آذانه وقراً كما قال وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى ( فصلت 5 ) وكان القرآن عليهم عمى كما قال وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه وقرأ الجمهور وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى على المصدر وقرأ ابن عباس عم على النعت قال أبو عبيد والأول هو الوجه كقوله هُدًى وَشِفَاء وكذلك عَمًى وهو مصدر مثلها ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في عَمًى أجود فيكون نعتاً مثلهما وقوله تعالى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ قال ابن عباس يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء
ثم قال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وأقول أيضاً إن هذا متعلق بما قبله كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه فقبله بعضهم ورده الآخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك ورده الآخرون وهم الذين يقولون قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة كما قال بَلِ السَّاعَة ُ مَوْعِدُهُمْ ( القمر 46 ) لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
ثم قال مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا يعني خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم والله سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قَالُوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ لاَّ يَسْأمُ الا نْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَة ً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَاذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَة َ قَآئِمَة ً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الاٌّ فَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَة ٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ مُّحِيطُ
واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في هذه الآية المتقدمة بقوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( فصلت 46 ) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة وكأن سائلاً قال ومتى يكون ذلك اليوم فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَة ِ وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما قوله وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَراتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا والثاني قوله وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ قال أبو عبيدة أكمامه أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم من ثمرات بالألف على الجمع والباقون من ثمرة بغير ألف على الواحد
واعلم أن نظير هذه الآية قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ ( القمان 34 ) إلى آخر لآية فإن قيل أليس أن المنجمين قد يتعرفون من طالع سنة العالم أحوالاً كثيرة من أحوال العالم وكذلك قد يتعرفون من طوالع الناس أشياء من أحوالهم وههنا شيء آخر يسمى علم الرمل وهو كثير الإصابة وأيضاً علم التعبير بالاتفاق قد يدل على أحوال المغيبات فكيف الجمع بين هذه العلوم المشاهدة وبين هذه الآية قلنا إن أصحاب هذه العلوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما الغاية القصوى ادعاء ظن ضعيف والمذكور في هذه الآية أن علمها ليس إلا عند الله والعلم هو الجزم واليقين وبهذ لطريق زالت المنافاة والله أعلم ثم إنه تعالى لما ذكر القيامة أردفه بشيء من أحوال يوم القيامة وهذا االذي ذكره ههنا شديد التعلق أيضا ً