كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل
البحث الرابع ان كلمة إِلَى في قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فيها أقوال الأول أنها صلة والتقدير ليجمعنكم يوم القيامة وقيل إِلَى بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة
وقيل فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان وقيل ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه أبحاث الأول في هذه الآية قولان الأول أن قوله الَّذِينَ موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ والمعنى ليجعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش والثاني وهو قول الزجاج أن قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم رفع بالابتداء وقوله فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خبره لأن قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ مشتمل على الكل على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم ( والفاء ) في قوله فَهُمُ يفيد معنى الشرط والجزاء كقولهم الذي يكرمني فله درهم لأن الدرهم وجب بالاكرام فكان الاكرام شرطاً والدرهم جزاء
فإن قيل ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم والأمر على العكس
قلنا هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان هو الذي حملهم على الامتناع من الايمان وذلك عين مذهب أهل السنّة
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أحسن ما قيل في نظم هذه الآية ما ذكره أبو مسلم رحمه الله تعالى فقال ذكر في الآية الأولى السموات والأرض إذ لا مكان سواهما وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ومالك للزمان والزمانيات وهذا بيان في غاية الجلالة
وأقول ههنا دقيقة أخرى وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى فهذا ما يتعلق بوجه النظم
المسألة الثانية قوله وله ما سكن في الليل والنهار يفيد الحصر والتقدير هذه الأشياء له لا لغيره وهذا هو الحق لأن كل موجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته فالواجب لذاته ليس إلا الواحد وما سوى ذلك الواحد ممكن والممكن لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل ما حصل بإيجاده وتكوينه كان ملكا له فثبت أن ما سوى ذلك الموجود الواجب لذاته فهو ملكه ومالكه فلهذا السبب قال وله ما سكن في الليل والنهار
المسألة الثالثة في تفسير هذا السكون قولان الأول أن المراد منه الشيء الذي سكن بعد أن تحرك فعلى هذا المراد كل ما استقر في الليل والنهار من الدواب وجملة الحيوانات في البر والبحر وعلى هذا التقدير قالوا في الآية محذوف والتقدير وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر النحل 81 أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لأنه يعرف ذلك بالقرينة المذكورة كذلك هنا حذف ذكر الحركة لأن ذكر السكون يدل عليه
والقول الثاني أنه ليس المراد من هذا السكون ما هو ضد الحركة بل المراد منه السكون بمعنى الحلول كما يقال فلان يسكن بلد كذا إذا كان محله فيه ومنه قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم إبراهيم 45 وعلى هذا التقدير كان المراد وله كل ما حصل في الليل والنهار والتقدير كل ما في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا وهذا التفسير أولى وأكمل والسبب فيه أن كل ما دخل تحت الليل والنهار حصل في الزمان فقد صدق عليه أن انقضى الماضي وسيجيء المستقبل وذلك مشعر بالتغير وهو الحدوث والحدوث ينافي الأزلية والدوام فكل ما مر به الوقت ودخل تحت الزمان فهو محدث وكل حادث فلا بد له من محدث وفاعل ذلك الفعل يجب أن يكون متقدما عليه والمتقدم على الزمان يجب أن يكون مقدما على الوقت والزمان فلا تجري عليه الأوقات ولا تمر به الساعات ولا يصدق عليه أن كان وسيكون
واعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أنه مالك للمكان وجملة المكانيات ومالك للزمان وجملة الزمانيات بين أنه سميع عليم يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين والمقصود منه الرد على من يقول الإله تعالى موجب بالذات فنبه على أنه وإن كان مالكا لكل المحدثات لكنه فاعل مختار يسمع ويرى ويعلم السر وأخفى ولما قرر هذه المعاني قال قل أغير الله أتخذ وليا
واعلم انه فرق بين أن يقال أغير الله أتخذ وليا وبين أن يقال أتخذ غير الله وليا لأن الانكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا لا على اتخاذ الولي وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعني فكان قوله قل أغير الله أتخذ وليا أولى من العبارة الثانية ونظيره قوله تعالى أفغير الله تأمروني أعبد الزمر 64 وقوله تعالى الله أذن لكم يونس 59
ثم قال فاطر السموات والأرض وقرئ فاطر السموات بالجر صفة لله وبالرفع على إضمار هو والنصب على المدح وقرأ الزهري فطر السموات وعن ابن عباي ما عرفت فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وقال ابن الأنباري أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه فقوله فاطر السموات والأرض يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض فلما كان الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد ففاطر السموات من الاصلاح لا غير وقوله هل ترى من فطور الملك 3 و إذا السماء انفطرت الانفطار 1 من الإفساد وأصلهما واحد
ثم قال تعالى وهو يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لغيره ولا يرزقه أحد
فإن قيل كيف فسرت الاطعام بالرزق وقد قال تعالى ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون الذاريات 57 والعطف يوجب المغايرة
قلنا لا شك في حصول المغايرة بينهما إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة ~ والمقصود من الآية أن المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وروى ابن المأمون عن يعقوب وهو يطعم ولا يطعم على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل وعلى هذا التقدير فالضمير عائد إلى المذكور في قوله أغير الله وقرأ الأشهب وهو يطعم ولا يطعم على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله وهو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا واحتج عليه بأنه فاطر السموات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا أما بيان أنه فاطر السموات والأرض فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الاطعام عبارة عن إيصال المنافع وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السموات والأرض وصحة أن يطعم ولا يطعم وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته وترك الغني الجواد والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل
وإذا عرفت هذا فنقول قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة هو القريب وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه فقوله قل أغير الله أتخذ وليا يمنع من القرب من غير الله تعالى فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى
ثم قال تعالى قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم والسبب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سابق أمته في الإسلام
لقوله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين الأنعام 163 ولقول موسى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين الأعراف 143
ثم قال ولا تكونن من المشركين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ثم إنه تعالى لما بين كون رسوله مأمورا بالإسلام ثم عقبه بكونه منهيا عن الشرك قال بعده إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم والمقصود أني إن خالفته في هذا الأمر والنهي صرت مستحقا للعذاب العظيم
فإن قيل قوله قل إني أخاف غن عصيت ربي عذاب يوم عظيم يدل على أنه عليه السلام كان يخاف على نفسه من الكفر والعصيان ولولا أن ذلك جائز عليه لما كان خائفا
والجواب أن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف ومثاله قولنا إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين وهذا يدل على أن الخمسة زوج ولا على كونها منقسمة بمتساويين والله أعلم
وقوله تعالى إني أخاف قرأ ابن كثير ونافع إني بفتح الياء وقرأ أبو عمرو والباقون بالإرسال
مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي يُصْرَفْ بفتح الياء وكسر الراء وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى ( الأنعام 15 ) والتقدير من يصرف هو عنه يومئذ العذاب وحجة هذه القراءة قوله فَقَدْ رَحِمَهُ فلما كان هذا فعلاً مسنداً إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان وعلى هذا التقدير صرف العذاب مسنداً إلى الله تعالى وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى وأما الباقون فإنهم قرؤا مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ على فعل ما لم يسم فاعله والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف الغذاب إلى اليوم في قوله عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الإنعام 15 ) فلذلك أضاف الصرف إليه والتقدير من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفاً وذلك محال بل المراد عذاب ذلك اليوم وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعاً على سبيل التفضل أما لو كان واجباً مستحقاً لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه أما إذا حسن منه أن
يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى وهو موافق لما يروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ووضع يده فوق رأسه وطول بها صوته
المسألة الرابعة قال القاضي الآية تدل على أن من لم يعاقب في الآخرة ممن يصرف عنه العقاب فلا بد من أن يثاب وذلك يبطل قول من يقول إن فيمن يصرف عنه العقاب من المكلفين من لا يثاب لكنه يتفضل عليه
فإن قيل أليس من لم يعاقبه الله تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم
قلنا هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه الأول أن التفضل يكون كالابتداء من قبل الله تعالى وليس يكون ذلك مطلوباً من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب فلا بدّ وأن يفيد أمراً مطلوباً والثاني أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضي مبالغة في عظم النعمة وذلك لا يكون إلا ثواباً والثالث أن الآية معطوفة على قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأنعام 15 ) والمقابل للعذاب هو الثواب فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جداً وضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء والله أعلم
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدُيرٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله ولياً وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل وإذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن الله تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله والدليل على أن الأمر كذلك أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكناً لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب
لذاته وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه
فإن قيل قد نرى أن الإنسان بدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره وذلك يقدح في عموم الآية وأيضاً فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى ورأس الخيرات هو الإيمان فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقاباً ولا يفعل الإيمان ثواباً وأيضاً فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية
والجواب عن الأول أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجيهين الأول أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة والثاني أنه قال في إمساس الضر فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وذكر في إمساس الخير فَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدُيرٌ فذكر في الخير كونه قادراً على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال المضار وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي )
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن صفات الكماب محصورة في القدرة والعلم فإن قالوا كيف أهملتم وجوب الوجود
قلنا ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكناً لذاته واجباً بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو وكل من سواه فهو ناقص
إذا عرفت هذا فنقول أما دلالة كونه قاهراً على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهراً لهم بالموت والفقر والاذلال ويدخل فيه
كل ما ذكره الله تعالى في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ( آل عمران 26 ) إلى آخر الآية وأما كونه حكيماً فلا يمكن حمله ههنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز فوجب حمله على كونه محكماً في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد والخبير هو العالم بالشيء المروي قال الواحدي وتأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال والخبر علمك بالشيء تقول لي به خبر أي علم وأصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم
المسألة الثانية المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم وهو مردود ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان موجوداً فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب وإما أن يكون ذاهباً في الأقطار متمدداً في الجهات والأول يقتضي أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباآت الواقعة في كوة البيت وذلك لا يقوله عاقل وإن كان الثاني كان متبعضاً متجزئاً وذلك على الله محال والثاني أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وحينئذ يصح عليه الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين لتخصيص مخصص فيكون محدثاً أو يكون متناهياً من بعض الجوانب دون البعض فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهياً غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة والثالث إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء فإن كان الأول فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا ولا مكان ولا حيث ولا جهة فيمتنع حصول ذات الله تعالى فيه وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك فلو صحّ حصول الله في جزء من أجزاء ذلك الخاء لصح حصوله في سائر الأجزاء ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص وكل ما كان واقعاً بالفاعل المختار فهو محدث فحصول ذاته في الجزء محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الحصول وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم كون ذاته محدثة ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده قبله فيكون ذات الله تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء والجهة والحيث والحيز
وإذا ثبت هذا فبعد الحيز والجهة والخلاء وجب أن تبقى ذات الله تعالى كما كانت وإلا فقد وقع التغيير في ذات الله تعالى وذلك محال
وإذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزهاً عن الأحياز والجهات في جميع الأوقات والخامس أنه ثبت أن العالم كرة
وإذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رؤوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين
وإذا ثبت هذا فإما أن يقال إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم أو يقال إنه تعالى فوق الكل والأول باطل لأن كونه فوقاً لبعضهم يوجب كونه تحتاً لآخرين وذلك باطل والثاني يوجب كونه تعالى محيطاً بكرة الفلك فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك وذلك لا يقوله مسلم والسادس هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ وملحوق بلفظ آخر أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر
والقاهر مشعر بكمال القدرة وتمام المكنة وأما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله عِبَادِهِ وهذا اللفظ مشعر بالمملوكية والمقدورية فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة
فإن قيل ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ دل على كمال القدرة فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار فوجب حمله على فوقية المكان والجهة
قلنا ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله فَوْقَ عِبَادِهِ دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل والسابع وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية رداً على من يتخذ غير الله ولياً والتقدير كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله ولياً وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية الفوقية بالقدرة والقوة أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلاً في جهة فوق أن يكون التويل عليه في كل الأمور مفيداً وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازماً أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم
قُلْ أَى ُّ شَى ْءٍ أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِى َ إِلَى َّ هَاذَا الْقُرْءَانُ لاٌّ نذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَة ً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى
أما الاحتمال الأول فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله غيرك رسولاً وما نرى أحداً يصدقك وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بالنبوة فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن وهذا القرآن معجز لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزاً كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقاً في دعواي والحاصل أنهم طلبوا شاهداً
مقبول القول يشهد على نبوته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو لله ثم بيّن أنه شهد له بالنبوة وهو المراد من قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ فهذا تقرير واضح
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة وهي أنا نقول المطالب على أقسام ثلاثة منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع وإلا لزم الدور ومنها ما يمتنع إثباته بالعقل وهو كل شيء يصح وجوده ويصح عدمه عقلاً فلا امتناع في أحد الطرفين أصلاً فالقطع على أحد الطرفين يعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي ومنها ما يمكن إثباته بالعقل والسمع معاً وهو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية
إذا عرفت هذا فنقول قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والاضداد والأنداد والأمثال والأشباه
ثم قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب وأن القول بالشرك باطل مردود
المسألة الثانية نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئاً
واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتاً موجوداً وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته اعالى بكونه شيئاً فيكون هذا خلافاً في مجرد العبارة واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ اللَّهُ وهذا يوجب كونه تعالى شيئاً كما أنه لو قال أي الناس أصدق فلو قيل جبريل كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا ههنا
فإن قيل قوله قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن قوله اللَّهِ مبتدأ وقوله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ خبره وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها
قلنا الجواب في وجهين الأول أن نقول قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً لا شك أنه سؤال ولا بدّ له من جواب إما مذكور وإما محذوف
فإن قلنا الجواب محذوف فنقول هذا على خلاف الدليل وأيضاً فبتقدير أن يكون الجواب محذوفاً إلا أن ذلك المحذوف لا بدّ وأن يكون أمراً يدل المذكور عليه ويكون لائقاً بذلك الموضع
والجواب اللائق بقوله أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً هو أن يقال هو الله ثم يقال بعده اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وعلى هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضاً على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل
وفي المسألة دليل رخر وهو قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) والمراد بوجهه ذاته فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله كُلّ شَى ْء والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء واحتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه الأول قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والمراد ليس مثل مثله شيء وذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن الله تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة والتقدير ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثاً باطلاً لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة والثاني قوله تعالى دالله خالق كل شيء ( الرعد 16 ) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها فيجري وجودها مجرى عدمها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص الثالث التمسك بقوله ( الرعد 16 ) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها فيجري وجودها مجرى عدمها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص الثالث التمسك بقوله وَاللَّهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت الجلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ولا نعتاً من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى والله تعالى أمر بأن يدعى الأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا الاسم وكل من منع من دعاء الله بهذا الاسم قال إن هذا اللفظ ليس اسماً من أسماء الله تعالى ألبتة الرابع أن اسم الشيء يتناول المعدوم فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بيان الأول قوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً ( الكهف 23 ) سمى الشيء الذي سيفعله غداً باسم الشيء في الحال والذي سيفعله غداف يكون معدوماً في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم
وإذا ثبت هذا فقولنا إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة متميزة ولا يفيد كونه موجوداً فيكون هذا لفظاً لا يفيد فائدة في حق الله تعالى ألبتة فكان عبثاً مطلقاً فوجب أو لا يجوز إطلاقه على الله تعالى
والجواب عن هذه الوجوه أن يقال لما تعارضت الدلائل
فنقول لفظ الشيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العام فمتى صدق فيه كونه ذاتاً وحقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئاً وذلك هو المطلوب والله أعلم
أما قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ فالمراد أنه تعالى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به وهو خطاب لأهل مكة وقوله دومن بلغ ذ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم وقيل من الثقلين وقيل من بلغه إلى يوم القيامة وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التفسير فيحصل في الآية حذف والتقدير وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه
كما يقال الذي رأيت زيد والذي ضربت عمرو وفي تفسير قوله وَمَن بَلَغَ قول آخر وهو أن يكون قوله وَمَن بَلَغَ أي ومن احتلم وبلغ حد التكليف وعند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول
أما قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِى َ إِلَى َّ هَاذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ فنقول فيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير ( أينكم ) بهمزة وكسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة وأبو عمرو وقالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد والباقون بهمزتين بلا مد
والبحث الثاني أن هذا استفهام معناه الجحد والانكار قال لفراء ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال وَاللَّهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وقال فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ( طه 51 ) ولم يقل الأول ولا الأولين وكل ذلك صواب
ثم قال تعالى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ
واعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه أولها قوله قُل لاَّ أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء وثانيها قوله قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر ولفظ الواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء وثالثها قوله إِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إجاب التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد قال العلماء المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ونص الشافعي رحمه الله على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد
الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته فبيّن الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمداً عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوّة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى
وأعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم وفيه سؤال وهو أن يقال المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام فكيف يصح أن يقال علمهم بنوته مثل علمهم بنبوة أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن كيون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبياً من عند الله تعالى والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك والأول باطل لاْن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علمهم بنبوة أبنائهم وحينئذٍ يسقط هذا الكلام
والجواب عن الأول أن يقال المراد ب الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ اليهود والنصارى وهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند الله والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه قولان الأول أن قوله دالذين صفة للذين الأولى فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون والثاني أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء وقوله صفة للذين الأولى فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون والثاني أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء وقوله فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خبره وفي قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ وجهان الأول أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر والثاني جاء في التفسير أنه ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله منزلة في الجنة فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورث منزلة غيره
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكم على أولئك المنكرين بالخسران في الآية الأولى بيّن في هذه الآية سبب ذلك الخسران وهو أمران أحدهما أن يفترى على الله كذباً وهذا الافتراء يحتمل وجوهاً الأول أن كفرا
مكة كانوا يقولون هذه الأصنام شركاء الله والله سبحانه وتعالى أمرهم بعبادتها والتقرب إليها وكانوا أيضاً يقولون الملائكة بنات الله ثم نسبوا إلى الله تحريم البحائر والسوائب وثانيها أن اليهود والنصارى كانوا يقولون حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ والتغيير وأنهما لا يجيء بعدهما نبي وثالثها ما ذكره الله تعالى في قوله وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( الأعراف 28 ) ورابعها أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وكانوا يقولون لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) وخامسها أن بعض الجهال منهم كان يقول إن الله فقير ونحن أغنياء وأمثال هذه الأباطيل التي كانوا ينسبونها ألى الله كثيرة وكلها افتراء منهم على الله
والنوع الثاني من أسباب خسرانهم تكذيبهم بآيات الله والمراد منه قدحهم في معجزات محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وطعنهم فيها وإنكارهم كون القرآن معجزة قاهرة بينة ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذين الأمرين قال إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا وفي الآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان
وأما قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ففي ناصب قوله وَيَوْمَ أقوال الأول أنه محذوف وتقديره وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كان كيت وكيت فترك ليبقى على الابهام الذي هو أدخل في التخويف والثاني التقدير اذكر يوم نحشرهم والثالث أنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبداً ويوم نحشرهم
وأما قوله ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ فالمقصود منه التقريع والتبكيت لا السؤال ويحتمل أن يكون معناه أين نفس الشركاء ويحتمل أن يكون المراد أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم وعلى كلا الوجهين لا يكون الكلام إلا توبيخاً وتقريعاً في نفوسهم أن الذي كانوا يظنونه مأيوس عنه وصار ذلك تنبيهاً لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة والعائد على الموصول من قوله الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ محذوف والتقدير الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء فحذف مفعول الزعم لدلالة السؤال عليه قال ابن عباس وكل زعم في كتاب الله كذب
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
أعلم أن ههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحفص عن عاسم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بالتاء المنقطة من فوق وفتنتهم بالرفع وقرأ حمزة والكسائي ثُمَّ لَمْ يَكُنِ بالياء وفتنتهم بالنصب وأما القراءة بالتاء المنقطة من فوق ونصب الفتنة فههنا قوله أن قالوا في محل الرفع لسكونه اسم تكن وإنما أنث لتأنيث الخبر كقوله من كانت أمك
أو لأن ما قالوا فتنة في المعنى ويجوز تأويل إلا أن قالوا لا مقالتهم وأما القراءة بالياء المنقطة من تحت ونصب فتنتهم فههنا قوله أن قالوا في محل الرفع لكونه اسم يكن وفتنتهم هو الخبر قال الواحدي الاختيار قراءة من جعل أن قالوا الاسم دون الخبر لأن أن إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر فكما أن المظهر والمضمر إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً فكذا ههنا تقول كنت القائم فجعلت المضمر اسماً والمظهر خبراً فكذا ههنا ونقول قراءة حمزة والكسائي والله ربنا بنصب قوله ربنا لوجيهن أحدهما بإضمار أعني وأذكر والثاني على النداء أي والله يا ربنا والباقون بكسر الباء على أنه صفة لله تعالى
المسألة الثانية قال الزجاج تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك وذلك أن الله تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه فاعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرؤا منه وتباعدوا عنه فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين ومثاله أن ترى إنساناً يحب عارياً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة ههنا افتتانهم بالأوثان ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ معناه شركهم في الدنيا وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان إلا أن فررت منه وتركته
المسألة الثالثة ظاهر الآية يقتضي أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة وللناس فيه قولان الأول وهو قول أبي علي الجبائي والقاضي أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه الأول أن أهل القيامة يرعفون الله تعالى بالاضطرار إذ لو عرفون بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف وذلك باطل وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم الله منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح وأنه لا يجوز فثبت أن أهل القيامة يعلمون الله بالاضطرار وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال ءنه لا يجوز منهم فعل القبيح إذ كانوا عقلاء إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم فقالوا هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم أو يقال إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا
والجواب عن الأول أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم ويورد عليهم التوبيخ بقوله أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ ( الأنعام 22 ) ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى وأيضاً فالمكلفون لا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم بما يعاملهم الله به غير مظلومين
والجواب عن الثاني أن النسيان لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا
يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال وءن بعد العهد وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهراً طويلاً ومع ذلك فقد نسيه ومعلوم أن تجويزه يوجب السفسطة
الحجة الثانية أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر وإن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن لله تعالى عالم بأحوالهم مطلع على أفعالهم ويعلمون أن تجويز الكذب على الله محال وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت والغضب وإذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب
الحجة الثالثة أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على هذين النوعين من القبح والذنب وذلك يوجب العقاب فتصير الدار الآخرة دار التكليف وقد أجمعوا على أنه ليس الأمر كذلك وأما إن قيل إنهم لا يستحقون على ذلك الكذب وعلى ذلك الحلف الكاذب عقاباً وذماً فهذا يقتضي حصول الاذن من الله تعالى في ارتكاب القبائح والذنوب وأنه باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب
وإذا ثبت هذا فعند ذلك قالوا يحمل قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أي ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين متباعدين من الشرك
فإن قيل فعلى هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم أخبروا بأنهم كانوا غير مشركين عد أنفسهم فلماذا قال الله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولنا أنه ليس تحت قوله انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أنهم كذبوا فيما تقدم ذكره من قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ حتى يلزمنا هذا السؤال بل يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك والكذب يصح عليهم في دار الدنيا وإنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة والحاصل أن المقصود من قوله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ اختلاف الحالين وأنهم في دار الدنيا كانوا يكذبون ولا يحترزون عنه وأنهم في الآخرة يحترزون عن الكذب ولكن حيث لا ينفعهم الصدق فلتعلق أحد الأمرين بالآخر أظهر الله تعالى للرسول ذلك وبين أن القوم لأجل شركهم كيف يكون حالهم في الآخرة عند الاعتذار مع أنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون على أنفسهم ويزعمون أنهم على صواب هذا جملة كلام القاضي في تقرير القول الذي اختاره أبو علي الجبائي
والقول الثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الكفار يكذبون في هذا القول قالوا والدليل على أن الكفار قد يكذبون في القيامة وجوه الأول أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( المؤمنون 107 ) مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الإنعام 28 ) والثاني قوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَى ْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( المجادلة 18 ) بعد قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( المجادلة 14 ) فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا والثالث قوله تعالى حكاية عنهم قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( الكهف 19 ) وكل
ذلك يدل على إقدامهم في بعض الأوقات على الكذب والرابع قوله حكاية عنهم وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص والخامس أنه تعالى في هذه الآية حكى عنهم أَنَّهُمْ قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وحمل هذا على أن المراد ما كنا مشركين في ظنوننا وعقائدنا مخالفة للظاهر ثم حمل قوله بعد ذلك انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ على أنهم كذبوا في الدنيا يوجب فك نظم الآية وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا وهو في غاية البعد أما قوله إما أن يكونوا قد كذبوا حال كمال العقل أو حال نقصان العقل فنقول لا يبعد أي يقال إنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلت عقولهم فذكروا هذا الكلام في ذلك الوقت وقوله كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول فهذا يوجب الخوف الشديد عند سماع هذا الكلام حال كونهم في الدنيا ولا مقصود من تنزيل هذه الآيات إلا ذلك وأما قوله ثانياً المكلفون لا بدّ أن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم
أما قوله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ فالمراد إنكارهم كونهم مشركين وقوله وَضَلَّ عَنْهُم عطف على قوله كَذَّبُواْ تقديره وكيف ضل عنهم ما كانوا يفترون بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئاً وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَة ٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس عن إيمان بعضهم فقال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس حضر عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأُمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئاً وستره مثل عنان وأعنة والفعل منه كننت وأكننت وأما قوله أَن يَفْقَهُوهُ فقال الزجاج موضع ءانٍ نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت ( اللام ) نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى ( أن ) وقوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ قال
ابن السكيت الوقر الثقل في الأذن
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان الثاني أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفاً للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) الثالث أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) وقال في آية أخرى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة 88 ) وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم فلي معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ وإلا لزم التناقض والرابع أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين والسادس أن قوله حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه الأول قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد من قوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ والثاني أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون
وإذا ثبت هذا فنقول لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان
والتأويل الثالث أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى
والتأويل الرابع أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً
والتأويل الخامس أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 )
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان وهو أن نقول بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى وذلك لأن العبد
الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان وأما إن قلنا إن القادر على الكفر كان قادراً على الإيمان فنقول يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدراً للكفر دون الإيمان إلا عند انضمام تلك الداعية وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كناناً للقلب عن الإيمان ووقراً للسمع عن استماع دلائل الإيمان فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية
وإذا ثبت بالدليل العقلي صحة ما دل عليه ظاهرة هذه الآية وجب حمل هذه الآية عليه عملاً بالبرهان وبظاهر القرآن والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى قال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ فذكره بصيغة الإفراد ثم قال عَلَى قُلُوبِهِمْ فذكره بصيغة الجمع وإنما حسن ذلك لأن صيغة ( من ) واحد في اللفظ جمع في المعنى
وأما قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ قال بان عباس وإن يروا كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ لائقاً بهذا الكلام وأيضاً لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله والله أعلم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فاعلم أن هذا الكلام جملة أخرى مرتبة على ما قبلها و حَتَّى في هذا الموضع هي التي يقع بعدها الجمل والجملة هي قوله إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يقول الذين كفروا ويجادلونك في موضع الحال وقوله يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تفسير لقوله يُجَادِلُونَكَ والمعنى أنه بلغ بتكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسّر مجادلتهم بأنهم يقولون إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ قال الواحدي وأصل الأساطير من السطر وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً ومنه سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس قال ابن السكيت يقال سطر وسطر فمن قال سطر فجمعه في القليل أسطر والكثير سطور ومن قال سطر فجمعه أسطار والأساطير جمع الجمع وقال الجبائي واحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة وقال الزجاج واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة وقال أبو زيد الأساطير من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد ثم قال الجمهور أساطير الأولين ما سطره الأولون قال ابن عباس معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها فأما قول من فسر الأساطير بالترهات فهو معنى وليس مفسراً ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم واسفنديار كلاماً لا فائدة فيه لا جرم فسرت أساطير الأولين بالترهات
المسألة الرابعة اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ القدح في كون القرآن معجزاً فكأنهم قالوا إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة والقصص المذكورة
للأولين وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لمل يكن معجزاً خارقاً للعادة وأجاب القاضي عنه بأن قال هذا السؤال مدفوع لأنه يلزم أن يقال لو كان في مقدوركم معارضته لوجب أن تأتوا بتلك المعارضة وحيث لم يقدروا عليها ظهر أنها معجزة ولقائل أن يقول كان للقوم أن يقولوا نحن وإن كنا أرباب هذا اللسان العربي إلا أنا لا نعرف كيفية تصنيف الكتب وتأليفها ولسنا أهلاً لذلك ولا يلزم من عجزنا عن التصنيف كون القرآن معجزاً أنا بينا أنه من جنس سائر الكتب المشتملة عللى أخبار الأولين وأقاصيص الأقدمين
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال سيأتي في الآية المذكورة بعد ذلك
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
في الآية مسائل
اللمسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم طعنوا في كون القرآن معجزاً بأن قالوا إنه من جنس أساطير الأولين وأقاصيص الأقدمين بين في هذه الآية أنهم ينهون عنه وينأون عنه وقد سبق ذكر القرآن وذكر محمد عليه السلام فالضمير في قوله عَنْهُ محتمل أن يكون عائداً إلى القرآن وأن يكون عائداً إلى محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب اختلف المفسرون فقال بعضهم وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي عن القرآن وتدبره والاستماع له وقال آخرون بل المراد ينهون عن الرسول
واعلم أن النهي عن الرسول عليه السلام محال بل لا بدّ وأن يكون المراد النهي عن فعل يتعلق به عليه الصلاة والسلام وهو غير مذكور فلا جرم حصل فيه قولان منهم من قال المراد أنهم ينهون عن التصديق بنبوّته والإقرار برسالته وقال عطاء ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشاً عن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام ثم يتباعد عنه ولا يتبعه على دينه
والقول الأول أشبه لوجهين الأول أن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم فكذلك قوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ينبغي أن يكون محمولاً على أمر مذموم فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينى عن إيذائه لما حصل هذا النظم والثاني أنه تعالى قال بعد ذلك وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يعني به ما تقدم ذكره ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ النهي عن أذيته لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك
فإن قيل إن قوله وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يرجع إلى قوله وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ لا إلى قوله يَنْهَوْنَ عَنْهُ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه مفارقة دينه وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا القول
قلنا إن ظاهر قوله وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال إن فلاناً يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه فلا يكون هذا الضرر متعلقاً بأحد الأمرين دون الآخر
المسألة الثانية اعلم أن أولئك الكفار كانوا يعاملون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنوعين من القبيح الأول إنهم كانوا ينهون الناس عن قبول دينه والاقرار بنبوته والثاني كانوا ينأون عنه والنأي البعد يقال نأى ينأى إذا بعد ثم قال وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ قال ابن عباس أي وما يهلكون إلا أنفسهم بسبب تماديهم في الكفر وغلوهم فيه وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من الكفر والمعصية والله أعلم
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل
المسألة الأولى قوله وَلَوْ تَرَى يقتضي لله جواباً وقد حذف تفخيماً للأمر وتظيماً للشأن وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر ولو قدرت الجواب كان التقدير لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ألا ترى أنك لو قلت لغلامك والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي ولو قلت والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شيئاً غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف ومنهم من قال جواب لَوْ مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب
المسألة الثانية قوله وُقِفُواْ يقال وقفته وقفاً ووقفته وقوفاً كما يقال رجعته رجوعاً قال الزجاج ومعنى وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ يحتمل ثلاثة أوجه الأول يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار والثاني يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط وهو جسر فوق جهنم والثالث معناه عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك وقفت فلاناً على كلام فلان أي علمته معناه وعرفته وفيه وجه رابع وهم أنهم يكونون في جوف النار وتكون
النار محيطة بهم ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم ( على ) مقام ( في ) وإنما صح على هذا التقدير أن يقال وقفوا على النار لأن النار دركات وطبقات وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء
فإن قيل فلماذا قال وَلَوْ تَرَى وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذط وقفوا وكلمة إِذْ للماضي ثم قال بعده فقالوا وهو يدل على الماضي
قلنا أن كلمة ( إذ تقام مقام ( إذا ) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار
المسألة الثالثة قال الزجاج الإمالة في النار حسنة جيدة لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين
أما قوله تعالى فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا فأما قوله وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه قولان أحدهما أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين
فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمتمني لا يوصف بكونه كاذباً
قلنا لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذباً لأن من أظهر التمني فقد أخبر ضمناً كونه مريداً لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه ومثاله أن يقول الرجل ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك فهذا تمن في حكم الوعد فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده
القول الثاني أن التمني تمّ عند قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ وأما قوله وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان
المسألة الثانية قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع في الثلاثة فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله نُرَدُّ وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة فأما الذين رفعوا قوله وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ففيه وجهان الأول أن يكون معطوفاً على قوله نُرَدُّ فتكون الثلاثة داخل في التمني فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين
والوجه الثاني أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول فيكون البقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد والمعنى يا ليتنا نرد
ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبداً قال سيبويه وهو مثل قولك دعني ولا أعود فههنا المطلوب بالسؤال تركه فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب فكذا هنا قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ الداخل في هذا التمني الرد فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا الوجه الثاني أقوى وهو أن يكون الرد داخلاً في التمني ويكون ما بعده إخباراً محضاً واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمتمني لا يجوز تكذيبه وهذا اختيار أبي عمرو وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة وذكرنا أنها ليست قوية وأما من قرأ وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ بالنصب ففيه وجوه الأول بإضمار ( أن ) على جواب التمني والتقدير يا ليتنا نرد وأن لا نكذب والثاني أن تكون الواو مبدلة من الفاء والتقدير يا ليتنات نرد فلا نكذب فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قولن لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( الزمر 58 ) ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ فَلا نُكَذّبَ بالفاء على النصب والثالث أن يكون معناه الحال والتقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين كما تقول العرب لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تأكل السمك شارباً للبن
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني وأما أن المتمن كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع وَلاَ نُكَذّبَ وينصب وَنَكُونَ فالتقدير أنه يجعل قوله وَلاَ نُكَذّبَ داخلاً في التمني بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدينا فقط ولا بترك التكذيب و لا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني
فإن قيل كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة
والجواب من وجوه الأول لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل والثاني أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ ( المائدة 37 ) وكقوله أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( الأعراف 50 ) فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل فبأن يتمنوه أقرب لأن باب التمني أوسع لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية
ثم قال تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى بَلِ ههنا رد كلامهم والتقدير أنهم ما تمنوا العود إلى الدينا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه
وعاينوه وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة فأما الرغبة فيه لطلب الثواب والخوف من العقاب فغير مفيد
المسألة الثانية المراد من الآية أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه الأول قال أبو روق إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل قال الواحدي وعلى هذا القول أهل التفسير الثاني قال المبرد بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم لأن مضار كفرهم كانت خفية فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ الثالث قال الزجاج بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه وَقَالُواْ إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ ( الأنعام 29 ) وهذا قول الحسن الرابع قال بعضهم هذه الآية في المنافقين وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام وبدا لهم يوم القيامة وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين الخامس قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك
واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم وهو معنى قوله تعالى لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 )
ثم قال تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب
فإن قيل إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله
قلنا قال القاضي تقرير الآية وَلَوْ رُدُّواْ إلى حالة التكليف وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمراً لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول قال الواحدي هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك وذلك القضاء السابق فيهم وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ثم قال تعالى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وفيه سؤال وهو أن يقال إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه
والجواب أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ أما الباقي فهو إخبار ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني لأن إدخال التكذيب في التمني أيضاً جائز لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة كقول القائل ليت زيداً جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا ههنا والله أعلم
وَقَالُوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
اعلم أنه حصل في الآية قولان الأول أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل فبين في هذه الآية أن ذلك الذي يخفونه هو أمر المعاد والحشر والنشر وذلك لأنهم كانوا ينكرونه ويخفون صحته ويقولون ما لنا إلا هذه الحياة الدنيوية وليس بعد هذه الحياة لا ثواب ولا عقاب والثاني أن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا الحشر والنشر وقالوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة فقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ واعلم أن جماعة من المشبهة تمسكوا بهذه الآية وقالوا ظاهر هذه الآية يدل على أن أهل القيامة يقفون عند الله وبالقرب منه وذلك يدل على كونه تعالى بحث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه تارة أخرى
واعلم أن هذا خطأ وذلك لأن ظاهر الآية يدل على كونهم وافقين على الله تعالى كما يقف أحدنا على الأرض وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى وأنه بالاتفاق باطل فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه
التأويل الأول هو أن يكون المراد وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخر
التأويل الثاني أن المراد من هذا الوقوف المعرفة كما يقول الرجل لغيره وفقت على كلامك أي عرفته
التأويل الثالث أن يكون المراد أنهم وقفوا لأجل السؤال فخرج الكلام مخرج ما جرت به العادة
من وقوف العبد بين يدي سيده والمقصود منه التعبير عن المقصود بالألفاظ الفصيحة البليغة
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم ينكرون القيامة والبعث في الدينا ثم بيّن أنهم في الآخرة يقرون به فيكون المعنى أن حالهم في هذا الإنكار سيؤل إلى الإقرار وذلك لأنهم شاهدوا القيامة والثواب والعقاب قال الله تعالى أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ
فإن قيل هذا الكلام يدل على أنه تعالى يقول لهم أليس هذا بالحق وهو كالمناقض لقوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( البقرة 174 ) والجواب أن يحمل قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ أي لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع وعلى هذا التقدير يزول التناقض ثم إنه تعالى بيّن أنه إذا قال لهم أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا المقصود أنهم يعترفوتن بكونه حقاً مع القسم واليمين ثم إنه تعالى يقول لهم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وخص لفظ الذوق لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الاحساس وقوله بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم واعلم أنه تعالى ما ذكر هذا الكلام احتجاجاً على صحة القول بالحشر والنشر لأن ذلك الدليل قد تقدم ذكره في أول السورة في قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ( الأنعام 2 ) على ما قررناه وفسرناه بل المقصود من هذه الآية الردع والزجر عن هذا المذهب والقول
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران أحدهما حصول الخسران والثاني حمل الأوزار العظيمة
أما النوع الأول وهو حصول الخسران فتقريره أنه تعالى بعث جوهر النفس الناطقة القدسية الجسماني وأعطاه هذه الآلات الجسمانية والأدوات الجسدانية وأعطاه العقل والتفكر أجل أن يتوصل باستعمال هذه الآلات والأدوات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي يعظم منافعها بعد الموت فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات والأدوات والقوة العقلية والقوة الفكرية في تحصيل هذه اللذات الدائرة والسعادات المنقطعة ثم انتهى الإنسان إلى آخر عمره فقد خسر خسراناً مبيناً لأن رأس المال قد فنى والربح الذي ظن أنه هو المطلوب فنى أيضاً وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء فكان هذا هو الخسران المبين وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكراً للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية أما من كان مؤمناً بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر
بهذه السعادات الجسمانية ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء الله وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسراناً مبيناً وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد
والنوع الثاني من وجوه خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الاقبال على الله تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضاً في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها فمن كان منكراً للبعث والقيامة فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم فالأول هو المراد من قوله قَالُواْ يأَبَانَا ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا والثاني هو المراد من قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فهذا تقرير المقصود من هذه الآية
المسألة الثانية المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) وإنما حسنت هذه الكناية أن موقف القيامة موقف لا حكم فيه لأحد إلا لله تعالى ولا قدرة لأحد على النفع والضر والرفع والخفض إلا لله وقوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ اللَّهِ بَغْتَة ً اعلم أن كلمة ( حتى ) غاية لقوله كَذَّبُواْ لا لقوله قَدْ خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له ومعنى ( حتى ) ههنا أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة والمعنى أنهم كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة
فإن قيل إنما يتحسرون عند موتهم
قلنا لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال عليه السلام ( من مات فقد قامت قيامته ) والمراد بالساعة القيامة وفي تسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجوه الأول أن يوم القيامة يسمى الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل ما هي إلا ساعة الحساب الثاني الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى ألا ترى أنه تعالى قال بَغْتَة ً والبغت والبغتة هو الفجأة والمعنى أن الساعة لا تجيء إلا دفعة لأنه لا يعلم أحد متى يكون مجيئها وفي أي وقت يكون حدوثها وقوله بَغْتَة ً انتصابه على الحال بمعنى باغتة أو على المصدر كأنه قيل بغتتهم الساعة بغتة ثم قال تعالى قَالُواْ يأَبَانَا قال الزجاج معنى دعاء الحسرة تنبيه للناس على ما سيحصل لهم من الحسرة والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور بهذه اللفظة كقوله تعالى خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 ) و نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ ( هود 72 ) وهذا أبلغ من أن يقال الحسرة علينا في تفريطنا ومثله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( يوسف 84 ) تأويله يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع بي من الأسف فوقع النداء على غير المنادى في الحقيقة وقال سيبويه إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت يا عجب احضر وتعال فإن هذا زمانك
إذا عرفت هذا فنقول حصل للنداء ههنا تأويلان أحدهما أن النداء للحسرة والمراد منه تنبيه المخاطبين وهو قول الزجاج والثاني أن المنادى هو نفس الحسرة على معنى أن هذا وقتك فاحضري وهو قول سيبويه وقوله عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه بحثان
البحث الأول قال أبو عبيدة يقال فرطت في الشيء أي ضيعته فقوله فَرَّطْنَا أي تركنا وضيعنا وقال الزجاج فرطنا أي قدمنا العجز جعله من قولهم فرط فلان إذا سبق وتقدم وفرط الشيء إذا قدمه قال الواحدي فالتفريط عنده تقديم التقصير
والبحث الثاني أن الضمير في قوله فِيهَا إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول قال ابن عباس في الدنيا والسؤال عليه أنه لم يجر للدنيا ذكر فكيف يمكن عود هذا الضمير إليها وجوابه أن العقل دل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عود الضمير إليها لهذا المعنى الثاني قال الحسن المراد يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة والمعنى على ما فرطنا في إعداد الزاد للساعة وتحصيل الأهبة لها والثالث أن تعود الكناية إلى معنى ما في قوله مَّا فَرَّطْنَا أي حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها والرابع قال محمد بن جرير الطبري الكناية تعود إلى الصفقة لأنه تعالى لما ذكر الخسران دل ذلك على حصول الصفقة والمبايعة
ثم قال تعالى وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فاعلم أن المراد من قولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب وقوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب العظيم ولا شك أن ذلك نهاية الخسران قال ابن عباس الأوزار الآثام والخطايا قال أهل اللغة الوزر الثقل وأصله من الحمل يقال وزرت الشيء أي حملته أزره وزرا ثم قيل للذنوب أوزار لأنها تثقل ظهر من عملها وقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 ) أي لا تحمل نفس حاملة قال أبو عبيدة يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع أحمل وزرك وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ووزير السلطان الذي يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية أي يحمل قال الزجاج وهم يحملون أوزارهم أي يحملون ثقل ذنوبهم واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار فقال المفسرون إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحاً ويقول أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ( مريم 85 ) قالوا ركباناً وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحاً فيقول أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم فذلك قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ وهذا قول قتادة والسدي وقال الزجاج الثقل كما يذكر في المنقول فقد يذكر أيضاً في الحال والصفة يقال ثقل على خطاب فلان والمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم وقال آخرون معنى قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ أي لا تزايلهم أوزارهم كما تقول شخصل نصب عيني أي ذكرك ملازم لي
ثم قال تعالى أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ والمعنى بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه والاستقصاء في تفسير هذا اللفظ مذكور في سورة النساء في قوله وَسَاء سَبِيلاً ( سورة النساء 22 )
وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة بعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها
واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول أن المراد منه حياة الكافر قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً
والقول الثاني ى ن هذا عام في حياة المؤمن والكافر والمراد منه اللذات الحاصلة في هذه الحياة والطيبات المطلوبة في هذه الحياة وإنما سماها باللعب واللهو لأن الإنسان حال اشتغاله باللعب واللهو يلتذ به ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة
واعلم أن تسمية هذه الحياة باللعب واللهو فيه وجوه الأول أن مدة اللهو واللعب قليلة سريعة الإنقضاء والزوال ومدة هذه الحياة كذلك الثاني أن اللعب واللهو لا بدّ وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكارة ولذات الدنيا كذلك الثالث أن اللعب واللهو إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور لا يبقى اللعب واللهو أصلاً وكذلك اللهو واللعب فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين أما العقلاء والحصفاء فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور وأما الحكماء المحققون فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة الرابع أن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة فثبت بمجموع هذه الوجوه أن اللذات والأحوال الدنيوية لعب ولهو وليس لهما حقيقة معتبرة ولما بين تعالى ذلك قال بعده وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ وصد الآخرة بكونها خيراً ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور أحدها أن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة بيان أن الأمر كذلك وجوه الأول أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان فإن الجمل أكثر أكلاً والديك والعصفور أكثر وقاعاً والذئب أقوى على الفساد والتمزيق والعقرب أقوى على الايلام ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان
الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس وأعلاهم درجة ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتاً مستقذراً مستحقراً يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص ومما يدل على ذلك أيضاً أن الناس إذا شتم بعضهم بعضاً لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات وإلا لما كان الأمر كذلك ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام ولذلك فإن كل من كان أشد جوعاً وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر ومما يدل عليه أيضاً أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيداف لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وكمال مرتبة اللذات الروحانية
الوجه الثاني في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا وهو أن نقول هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في عد القيامة معلوم قطعاً وأما الوصول إلى الخبرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة ثم أمسى أسيراً حقيراً وهذا التفاوت أيضاً يوجب المباينة بين النوعين
الوجه الثالث هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا أما كل ما جمعه من موجبات السعادات فإنه يعلم قطعاً أنه ينتفع به في الدار الآخرة
الوجه الرابع هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خالياً عن شوائب المكروهات وممازجة المحرمات الخوفات ولذلك قيل من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق فقيل وما هو يا رسول الله قال ( سرور يوم بتمامه )
الوجه الخامس هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة والنقصانات الكاملة وسعادات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ بإضافة الدار إلى الآخرة والباقون وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ على جعل الآخرة نعتاً للدار أما وجه قراءة ابن عامر فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه ونظيره قولهم بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين وعند البصرين لا تجوز هذه الإضافة قالوا لأن الصفة نفس الموصوف وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة
واعلم أن هذا بناء على أن الصفة نفس الموصوف وهو مشكل لأنه يعقل تصور الموصوف منفكاً عن الصفة ولو كان الموصوف عين الصفة لكان ذلك محالاً ولقولهم وجه دقيق يمكن تقريره إلا أنه لا يليق بهذا المكان ثم إن البصريين ذكروا في تصحيح قراءة ابن عامر وجهاً رخر فقالوا لم يجعل الآخرة صفة للدار لكنه جعلها صفة للساعة فكأنه قال ولدار الساعة الآخرة
فإن قيل فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم تكون قد أقيمت الآخرة التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة وذلك قبيح قلنا لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الأسماء والدليل عليه قوله وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( الضحى 4 ) وأما قراءة العامة فهي ظاهرة لأنها تقتضي جعل الآخرة صفة للدار وذلك هو الحقيقة ومتى أمكن إجراء الكلام على حقيقته فلا حاجة إلى العدول عنه والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد بالدار الآخرة على وجوه قال ابن عباس هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال الحسن المراد نفس الآخرة خير وقال الأصم التمسك بعمل الآخرة خير وقال آخرون نعيم الآخرة من نعيم الدنيا من حيث إنها باقية دائمة مصونة عن الشوائب آمنة من الانقضاء والانقراض
ثم قال تعالى لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ فبيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين من المعاصي والكبائر فأما الكافر والفاسق فلاا لأن الدنيا بالنسبة إليه خير من الآخرة على ما قال عليه السلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
ثم قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن عامر أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بالتاء ههنا وفي سورة الأعراف ويوسف ويس وقرأ حفص عن عاصم في يس بالياء والباقي بالتاء وقرأ عاصم في وراية يحيى في يوسف بالتاء والباقي بالياء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية الأعش والبرجمي جميع ذلك بالياء قال الواحدي من قرأ بالياء معناه أفلا يعقلون الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك ومن قرأ بالتاء فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون أن ذلك خير والله أعلم
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن طوائف الكفار كانوا فرقاً كثيرين فمنهم من ينكر نبوته لأنه كان ينكر رسالة البشر ويقول يجب أن يكون رسول الله من جنس الملائكة وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شبهة هؤلاء وأجاب عنها ومنهم من يقول إن محمداً يخبرنا بالحشر والنشر بعد الموت وذلك محال وكانوا يستدلون بامتناع الحشر والنشر على الطعن في رسالته وقد ذكر الله تعالى ذلك وأجاب عنه بالوجوه الكثيرة التي تقدم ذكرها ومنهم من كان يشافهه بالسفاهة وذكر ما لا ينبغي من القول وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية واختلفوا في أن ذلك المحزن ما هو فقيل كانوا يقولن إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وهو قول الحسن وقيل إنهم كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه وشريعته وقيل كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال
المسألة الثانية قرأ نافع لَيَحْزُنُكَ بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال حزنني كذا وأحزنني
المسألة الثالثة قرأ نافع والكسائي فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان الأول ى ن بينهما فرقاً ظاهراً ثم ذكروا في تقرير الفرق وجيهن أحدهما كان الكسائي يقرأ بالتخفيف ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه قال الزجاج معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويح بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل والفرق الثاني قال أبو علي يجوز أن يكون معنى لاَ يُكَذّبُونَكَ أي لا يصادفونك كاذباً لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محموداً فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال
والقول الثاني أنه لا فرق بين هاتين القراءتين قال أبو علي يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحداً إلا إن فعلت إذا أرادوا أن يسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت
المسألة الرابعة ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه
الوجه الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات إحداها أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب وثانيها روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجاجة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( النمل 14 )
الوجه الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذباً ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا إنه ما كذب في سائر الأمور بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد
الوجه الثالث في التأويل أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني ونظيره أن رجلاً إذا أهان عبداً لرجل آخر فقال هذا الآخر أيها العبد إنه ما أهانك وءنما أهانني وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن وتقريره أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 )
والوجه الرابع في التأويل وهو كلام خطر بالبال هو أن يقال المراد من قوله فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً وهو المراد من قوله وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل والله أعلم
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب الله تعالى فذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات الله يعني أن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( الصفات 171 ) وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وبالجملة فالخلف في كلام الله تعالى محال وقوله وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم قال الأخفش مِنْ ههنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره لا يجوز ذلك لأنها لا تزاد في الواجب وإنما تزاد مع النفي كما تقول ما أتاني من أحد وهي ههنا للتبعيض فإن الواصل إلى الرسول عليه السلام قصص بعض الأنبياء لا قصص كلهم كما قال تعالى مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( غافر 78 ) وفاعل ( جاء ) مضمر أضمر لدلالة المذكور عليه وتقديره ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين
المسألة الثاني قوله تعالى دولا مبدل لكلمات الله يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه فذلك الخبر ممتنع التغير وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ولله أعلم
يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه فذلك الخبر ممتنع التغير وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ولله أعلم
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الأرض أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَة ٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نفر من قريش فقالوا يا محمد ائتنا من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فانا نصدق بك فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية والمعنى وإن كان كبر عليك إعراضهم عن الإيمان بك وصحة القرآن فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فافعل
فالجواب محذوف وحسن هذا الحذف لأنه معلوم في النفوس والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان رخر ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يثقب الأرض إلى العقر ثم يصعد من ذلك العقر إلى وجه الأرض من جانب آخر فكأنه ينفق الأرض نفقاً أي يجعل له منفذاً من جانب آخر ومنه أيضاً سمي المنافق منافقاً لأنه يضمر غير ما يظهر كالنافقاء الذي يتخذه اليربوع وأما السلم فهو مشتق من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طعمه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر
المسألة الثانية قوله تعالى دلو شاء الله لجمعهم على الهدى تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على
السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ نهي له عن هذه الحالة وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) لا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أطاعهم وقبل دينهم والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة والله أعلم
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون وإنما يستجيب من يسمع كقوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل 80 ) قال علي بن عيسى الفرق بين يستجيب ويجيب أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل أتوافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف
وأما قوله وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ففيه قولان الأول أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء فكذلك ههنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه
والقول الثاني أن المعنى وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استمعاهم وقريء يَرْجِعُونَ بفتح الياء وأقول لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب وأيضاً الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنوناً يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد وأيضاً العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات فلهذا السبب وصف الله أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى والله أعلم
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَة ً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم قالوال لو كان رسولاً من عند الله فهلا أنزل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة ا
ويروى أن بعض الملحدة طعن فقال لو كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد أتى بآية معجزة لما صح أن يقول أولئك الكفار لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ ولما قال وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ
والجواب عنه أن القرآن معجزة قاهرة وبينة باهرة بدليل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحداهم به فعجزا عن معارضته وذلك يدل على كونه معجزاً
بقي أن يقال فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ
فنقول الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول لعلّ القوم طعنوا في كون القرآن معجزاً على سبيل اللجاج والعناد وقالوا إنه من جنس الكتب والكتاب لا يكون من جنس المعجزات كما في التوراة والزبور والإنجيل ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة
والوجه الثاني أنهم طلبوا معجزات قاهرة من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر واظلال الجبل وإحياء الموتى
والوجه الثالث أنهم طلبوا مزيد الآيات والمعجزات على سبيل التعنت واللجاج مثل إنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفاً وسائر ما حكاه عن الكافرين
والوجه الرابع أن يكون المراد ما حكاه الله تعالى عن بعضهم في قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) فكل هذه الوجوه مما يحتملها لفظ الآية
ثم إنه تعالى أجاب عن سؤالهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزّلٍ ءايَة ً يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبتموه وتحصيل ما اقترحتموه وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه
الوجه الأول أن يكون المراد أنه تعالى لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة وهي القرآن كان طلب الزيادة جارياً مجرى التحكم والتعنت الباطل والله سبحانه له الحكم والأمر فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فإن فاعليته لا تكون إلا بحسب محض المشيئة على قول أهل السنة أو على وفق المصلحة على قول المعتزلة وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفق اقتراحات الناس ومطالباتهم فإن شاء أجابهم إليها وإن شاء لم يجبهم إليها
والوجه الثاني هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة الكافية لم يبق لهم عذر ولا علة فبعد ذلك لو أجابهم الله تعالى في ذلك الاقتراح فلعلّهم يقترحون اقتراحاً ثانياً وثالثاً ورابعاً وهكذا إلى ما
لا غاية له وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة فوجب في أول الأمر سد هذا الباب والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة
والوجه الثالث أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم وإن كان لا يعلمون كيفية هذه الرحمة فلهذا المعنى قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
والوجه الرابع أنه تعالى علم منهم أنهم إنما يطلبون هذه المعجزات لا لطلب الفائدة بل لأجل العناد والتعصب وعلم أنه تعالى لو أعطاهم مطلوبهم فهم لا يؤمنون فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنه لا فائدة في ذلك فالمراد من قوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هو أن القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة وحينئذ كان الله تعالى يعطيهم ذلك المطلوب على أكمل الوجوه والله أعلم
وَمَا مِن دَآبَّة ٍ فِى الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم فنقول فيه وجهان الأول أنه تعالى بيّن في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين لا جرم ما أظهرها وهذا الجواب إنما يتم إطا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبيّن أن الأمر كذلك وقرره بأن قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في وصلو فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم
الوجه الثاني في كيفية النظم قال القاضي إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضاً بعده بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في أنهم
يحشرون والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضاً حاصل في حق البهائم
المسألة الثانية الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين إما أن يدب وإما أن يطير وفي الآية سؤالات
السؤال الأول من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه
والجواب لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير لأنها تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران
السؤال الثاني ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض
والجواب من وجهين الأول أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجاً بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقاً مثلنا فغير ظاهر والثاني أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه
والجواب فيه من وجوه الأول أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال كلمته بفي ومشيت إليه برجلي الثاني أنه قد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير فقد يحصل الطيران لا بالجناح قال الحماسي
طاروا إليه زرافات ووحدانا
ذكر الجناح ليمتحض هذا الكلام في الطير والثالث أنه تعالى قال في صفة الملائكة جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فاطر 1 ) فذكر ههنا قوله وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالاً من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه
السؤال الرابع كيف قال إِلاَّ أُمَمٌ مع إفراد الدابة والطائر
والجواب لما كان قوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ وَلاَ طَائِرٍ دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقول وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله إِلاَّ أُمَمٌ على المعنى
السؤال الخامس قوله إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ قال الفرّاء يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ) فجعل الكلاب أمة
إذا ثبت هذا فنقول الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا وليس فيها ما يدل على أن هذه
المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال المراد حصول الممائلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالا لنا في الصورة والخلقة وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك
والجواب اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالاً
القول الأول نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى وَأَنْ مِمَّنْ شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وبقوله في صفة الحيوانات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات
وعن أبي الدرداء أنه قال أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء معرفة الإله وطلب الرزق ومعرفة الذكر والأنثى وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من قتل عصفوراً عبثاً جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثاً لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض )
والقول الثاني المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمماً وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها
القول الثالث المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة
القول الرابع أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يقص للجماء من القرناء )
القول السادس ما اخترناه في نظم الآية وهو أن الكفار طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم
القول السابع ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه لما قرأ هذه الآية قال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً إلا رواه عنه
ثم قال فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذار والاحتراز فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع
المسألة الثالثة ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة مخالطة عالم الملائكة وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقاً للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعباً واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه وقالوا قد ثبت هذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطوير أمم ثم إنه تعالى قال وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 ) وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولاً أرسله الله إليها ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد وقصة النمل وسائر القصص المذكورة في القرآن
واعلم أن القوم بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمرة المذكورة فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ والله أعلم
ثم قال تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء وفي المراد بالكتاب قولان
القول الأول المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام كما قال عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
والقول الثاني أن المراد منه القرآن وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول كميف قال تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع
والجواب أن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ولإحاطة بها وبيانه من وجهين الأول أن لفظ التفريط لا يستعمل نفياً وإثباتاً إلا فيما يجب أن يبين لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه الثاني أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيد أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع
فنقول أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها وأما تفاصيل علم الفروع فنقول للعلماء ههنا قولان الأول أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة
المثال الأول روي أن ابن مسعود كان يقول مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت يا بان أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر 7 ) وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال لعن الله الواشمة والمستوشمة ) وأقول يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ( النساء 117 118 ) فحكم عليه باللعن ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ ( النساء 119 ) وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن
المثال الثاني ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال ( لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ) فقال رجل ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور فقال ( لا شيء عليه ) فقال أين هذا في كتاب الله فقال قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ثم ذكر إسناداً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال للمحرم قتل الزنبور قال الواحدي فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات وأقول ههنا طريق آخر أقرب منه وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وقال وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد 36 ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء 29 ) فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة
وأما الطريق الذي ذكره الشافعي فهو تمسك بالعموم على أربع درجات أولها التمسك بعموم قوله
وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر 7 ) وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين وثانيها التسمك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) وثالثها بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين ورابعها الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئاً فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب
المثال الثالث قال الواحدي روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ) ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة إن اعترفت قال الواحدي وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو عين كتاب الله
وأقول هذا المثال حق لأنه تعالى قال لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 ) وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلاً تحت هذه الآية فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة وأن خبر الواحد حجة وأن القياس حجة فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة كان في الحقيقة ثابتاً بالقرآن فعند هذا يصح قوله تعالى وَمَا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء هذا تقرير هذا القول وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء ولقائل أن يقول حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول حمل قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة دي مدحه والثناء عليه ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس كان المعنى الذي ذكروه حاصلاً من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجباً لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصاراً منه فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن فوجب أن يقال إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول من يقول القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف وشغل الذمة لا بدّ فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلاً لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمداً عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر ثم أكد هذه الآية بقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) وبقوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الانعام 59 ) فهذا تقرير مذهب هؤلاء والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه والله أعلم
ولنرجع الآن إلى التفسير فنقول قوله مِن شَى ْء قال الواحدي مِنْ زائدة كقوله ما جاء لي من أحد وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئاً لم نبينه وأقول كلمة مِنْ للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج الملكف إلى معرفته في هذا الكتاب
وأما قوله ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة ويتأكد هذا بقوله تعالى وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ( التكوير 5 ) وبما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقتص للجماء من القرناء ) وللعقلاء فيه قولان
القول الأول أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض ولما كان إيصال العوض إليها واجباً فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها
والقول الثاني قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور
الحجة الأولى أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزماً للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزماً للذم محال لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزماً للذم بسبب أمر منفصل لأن ما بالذات لا يبطل عنه عروض أمر من الخارج
والحجة الثانية أنه تعالى مالك لكل المحدثات والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض
والحجة الثالثة أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل فثبت أن القول بالعوض باطل والله أعلم
إذا عرفت هذا فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب
الفرع الأول قال القاضي كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله حشره عقلاً في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل فمن حيث السمع يقطع بذلك وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض ألبتة لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلاً فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لا بدّ وأن يحصل معه شيء من الإيلام وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض ألبتة
الفرع الثاني كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله وهي أقسام منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية مثل السباع العادية والحشرات المؤذية ومنها آلمها بالأمراض ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضاً فذلك العوض على ذلك الظالم
فإن قيل إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض
أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح ولذلك نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة
الفرع الثالث المراد من العوض منافع عظيم بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار
الفرع الرابع مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع قال القاضي وهو قول أكثر المفسرين لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها تراباً وعند هذا يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً قال أبو القاسم البخلي يجب أن يكون العوض دائماً واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملاً شاقاً والأجرة منقطعة فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة واحتج البخلي على قوله بأن قال إنه لا يمكن قطع ذلكالعوض إلا بإماتة تلك البهيمة وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهكذا إلى ما لا آخر له
والجواب عنه أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام والله أعلم
الفرع الخامس أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضاً فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه ينقل ذلك العوض إلى المظلوم وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة والله أعلم
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى في وجه النظم قولان الأول أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ( الأنعام 36 ) فذكر هذه الآية تقريراً لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ( الأنعام 38 ) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم وفي أن عناية الله محيطة بهم ورحمته واصلة إليهم قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاماً ألبتة بكم لا ينطقون بالحق خائضون في ظلمات الكفر غافلون عن تأمل هذه الدلائل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صماً وبكماً وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عمياً فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 )
ثم قال تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى قالت المعتزلة الجواب عن هذا من وجوه
الوجه الأول قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صماً وبكماً يوم القيامة عند الحشر ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صماً وبكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم
والوجه الثاني قال الجبائي أيضاً ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا فيكون توسعاً من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا فشبههم من هذا الوجه بهم وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه
والوجه الثالث قال الكعبي قوله صُمٌّ وَبُكْمٌ محمول على الشتم والإهانة لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة وأما قوله تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فقال الكعبي ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) وقوله وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقوله يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ( المائدة 16 ) وقوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ( إبراهيم 27 ) وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 69 ) فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه الأول أن المراد من قوله الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم والثاني مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة
وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الاضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين
وأعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيداً جداً وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله وبينا أن عند حصوله يجب الفعل فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله وبتخليقه وتقديره وتكوينه ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسداً قطعاً وأيضاً فقد تتبعنا هذه الوجوه بالابطال والنقض في
تفسير قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وفي سائر الآيات فلا حاجة إلى الإعادة وأقربها أن هذا الاضلال والهداية معلقان بالمشيئة وعلى ما قالوه فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا اختلفوا في المراد بتلك الآيات فمنهم من قال القرآن ومحمد ومنهم من قال يتناول جميع الدلائل والحجج وهذا هو الأصح والله أعلم
قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَة ُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ
أعلم أنه تعالى لما بين غاية جهل أولئك الكفار بين من حالهم أيضاً أنهم إذا نزلت بهم بلية أو محنة يفرزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ولا يتمردون عن طاعته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفراء للعرب في ( أرأيت ) لغتان إحداهما رؤية العين فإذا قلت للرجل رأيتك كان المراد أهل رأيت نفسك ثم يثنى ويجمع فنقول أرأيتكما أرأيتكم والمعنى الثاني أن تقول أرأيتك وتريد أخبرني وإذا أردت هذا المعنى تركت التاء مفتوحة على كل حال تقول أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن
إذا عرفت هذا فنقول مذهب البصريين أن الضمير الثاني وهو الكاف في قولك أرأيتك لا محل له من الاعراب والدليل قوله تعالى قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ ( الإسرار 62 ) ويقال أيضا أرأيتك زيداً ما شأنه ولو جعلت الكاف محلاً لكنت كأنك تقول أرأيت نفسك زيداً ما شأنه وذلك كلام فاسد فثبت أن الكاف لا محل له من الاعراب بل هو حرف لأجل الخطاب وقال الفراء لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع على التاء كما يقعان عليها عند عدم الكاف فلما فتحت التاء في خطاب الجمع ووقعت علامة الجمع على الكاف دل ذلك على أن الكاف غير مذكور للتوكيد ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة أرأيت فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها
أجاب الواحد عنه بأن هذه الحجة تبطل بكاف ذلك وأولئك فإن علامة الجمع تقع عليها مع أنها حرف للخطاب مجرد عن الاسمية والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع أَرَأَيْتُكُم وأشباه ذلك بتخفيف الهمزة في كل القرآن والكسائي ترك الهمزة في كل القرآن والباقون بالهمزة أما تخفيف الهمزة فالمراد جعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي وأما مذهب الكسائي فحسن وبه قرأ عيسى بن عمر وهو
كثير في الشعر وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة للتخفيف كما قالوا وسله وكما أنشد أحمد بن يحيى
وإن لم أقاتل فالبسوني برقعا
بحذف الهمزة أراد فألبسوني بإثبات الهمزة وأما الذين قرأوا بتخفيف الهمزة فالسبب أن الهمزة عين الفعل والله أعلم
المسألة الثالثة معنى الآية أن الله تعالى قال لمحمد عليه السلام قل يا محمد لهؤلاء الكفار إن أتاكم عذاب الله في الدنيا وأتاكم العذاب عند قيام الساعة أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء والضر أو ترجعون فيه إلى الله تعالى ولما كان من المعلوم بالضرورة أنهم إنما يرجعون إلى الله تعالى في دفع البلاء والمحنة لا إلى الأصنام والأوثان لا جرم قال تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يعني أنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية والمحنة إلا إلى الله تعالى
ثم قال فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم وتنسون ما تشركون به وفيه وجوه الأول قال ابن عباس المراد تتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع الثاني قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم وهذا قول الحسن لأنه قال يعرضون إعراض الناسي ونظيره قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ ( يونس 22 ) ولا يذكرون الأوثان
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يجيب الدعاء إن شاء وقد لا يجيبه لأنه تعالى قال فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ولقائل أن يقول إن قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) يفيد الجزم بحصول الإجابة فكيف الطريق إلى الجمع بين الآيتين
والجواب أن نقول تارة يجزم تعالى بالإجابة وتارة لا يجزم إما بحسب محض المشيئة كما هو قول أصحابنا أو بحسب رعاية المصلحة كما هو قول المعتزلة ولما كان كلا الأمرين حاصلاً لا جرم وردت الآيتان على هذين الوجهين
المسألة الخامسة حاصل هذا الكلام كأنه تعالى يقول لبدة الأوثان إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام والأثان فلم تقدمون على عبادة الأصنام التي لا تنتفعون بعبادتها ألبتة وهذا الكلام إنما يفيد لو كان ذكر الحجة والدليل مقبولاً أما لو كان ذلك مردوداً وكان الواجب هو محض التقليد كان هذا الكلام ساقطاً فثبت أن هذه الآية أقوى الدلائل على أن أصل الدين هو الحجة والدليل والله أعلم
وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الكفار عند نزول الشدائد يرجعون إلى الله تعالى ثم بين في هذه الآية أنهم لا يرجعون إلى الله عند كل ما كان من جنس الشدائد بل قد يبقون مصرين على الكفر منجمدين عليه غير راجعين إلى الله تعالى وذلك يدل على مذهبنا من أن الله تعالى إذا لم يهده لم يهتد سواء شاهد الآيات الهائلة أو لم يشاهدها وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء وحسن الحذف لكونه مفهوماً من الكلام المذكور وقال الحسن ( البأساء ) شدة الفقر من البؤس ( والضراء ) الأمراض والأوجاع
ثم قال لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ والمعنى إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوال بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا والمقصود منه التسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
فإن قيل أليس قوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يدل على أنهم تضرعوا وههنا يقول قست قلوبهم ولم يتضرعوا
قلنا أولئك أقوام وهؤلاء أقوام آخرون أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الاخلاص لله تعالى فلهذا الفرق حسن النفس والاثبات
ثم قال تعالى فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ معناه نفي التضرع والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا وذكر كلمة ( لولا ) يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم والله أعلم
المسألة الثانية احتج الجبائي بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فقال هذا يدل على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وإنما سلّط البأساء والضرّاء عليهم لإرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا وذلك يدل على أنه تعالى أراد الإيمان والطاعة من الكل
والجواب أن كلمة ( لعل ) تفيد الترجي والتمني وذلك في حق الله تعالى محال وأنتم حملتموه على
إرادة هذا المطلوب ونحن نحمله على أنه تعالى عاملهم معاملة لو صدرت عن غير الله تعالى لكان المقصود منه هذا المعنى فإما تعليل حكم الله تعالى ومشيئته فذلك محال على ما ثبت بالدليل ثم نقول إن دلت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه فإنها تدل على ضد قولكم من وجه آخر وذلك لأنها تدل على أنهم لم يتضرعوا لقسوة قلوبهم ولأجل أن الشيطان زين لهم أعمالهم
فنقول تلك القسوة إن حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن حصلت بفعل الله فالقول قولنا وأيضاً هب أن الكفار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح بسبب تزيين الشيطان إلا أن نقول ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير النهاية وإن بطلت هذه المقادير انتهت بالآخرة إلى أن كل أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشر لأجل الدواعي التي تحصل في قلبه ثم ثبت أن تلك الدواعي لا تحصل إلا بإيجاد الله تعالى فحينئذ يصح قولنا ويفسد بالكلية قولهم والله أعلم
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَى ْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ
واعلم أن هذا الكلام من تمام القصة الأولى فبين الله تعالى أنه أخذهم أولا بالبأساء والضراء لكي لا يتضرعوا ثم بين في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فتحنا عليهم أبواب كل شيء ونقلناهم من البأساء والضراء غلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء والمقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة فلم ينتفعوا به فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها وهو فتح أبواب الخيرات عليهم وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم فلم ينتفعوا به أيضا وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلبا لصلاحه حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتداب لشكر ولا اقدام على اعتذار وتوبة فلا جرم أخذناهم بغتة
واعلم أن قوله فتحنا عليهم أبواب كل شيء معناه فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حتى إذا فرحوا أي حتى إذا ظنوا أن الذي نزل بهم من البأساء ما كان على سبيل الانتقام من الله ولما فتح الله عليهم أبواب الخيرات ظنوا أن ذلك باستحقاقهم فعند ذلك ظهر أن قلوبهم قست وماتت في هذه الآية مكر بالقوم ورب الكعبة وقال ( صلى الله عليه وسلم ) { إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى } ثم قرأ هذه الآية قال أهل المعاني وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليمون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية وقوله فإذا هم مبلسون أي أيسون من كل خير قال
الفراء المبلس الذي انقطع رجاؤه ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحسرة الحزين والابلاس في اللغة يكون بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة ويكون بمعنى انقطاع الحجة ويكون بمعنى الحيرة بما يرد على النفس من البلية وهذه المعاني متقاربة
ثم قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا الدابر التابع للشيء من خلفه كالولد للوالد يقال دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم قالل أمية بن أبي الصلت فاستؤصلوا بعذاب حص دابرهم
فما استطاعوا له صرفا ولا انتصرا
وقال أبو عبيدة دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم وقال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أذهب الله أصله وقوله والحمد لله رب العالمين فيه وجوه الأول معناه أنه تعالى حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم لأن ذلك كان جاريا مجرى النعمة العظيمة على أولئك الرسل في إزالة شرهم عن أولئك الأنبياء والثاني أنه تعالى لما علم قسوة قلوبهم لزم أن يقال إنه كلما ازدادت مدة حياتهم ازدادت أنواع كفرهم ومعاصيهم فكانوا يستوجبون به مزيد العقاب والعذاب فكان افناؤهم واماتتهم في تلك الحالة موجبا أن يصيروا مستوجبين لتلك الزيادات من العقاب فكان ذلك جاريا مجرى الإنعام عليهم والثالث أن يكون هذا الحمد والثناء إنما حصل على وجود انعام الله عليهم في أن كلفهم وأزال العذر والعلة عنهم ودبرهم بكل الوجوه الممكنة في التدبير الحسن وذلك بأن أخذهم أولا بالبأساء والضراء ثم نقلهم إلا الآلاء والنعماء وأمهلهم وبعث الأنبياء والرسل إليهم فلما لم يزدادوا إلا انهماكا في الغي والكفر افناهم الله وطهر وجه الأرض من شرهم فكان قوله الحمد لله رب العالمين على تلك النعم الكثيرة المتقدمة
قوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب فالأذن محل القوة السامعة والعين محل القوة الباصرة والقلب محل الحياة والعقل والعلم فلو زالت هذه الصفات عن هذه الأعضاء اختل أمر الإنسان وبطلت مصالحه في الدنيا وفي الدين ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحصيل هذه القوى فيها
وصونها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وإذا كان الأمر كذلك كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله سبحانه وتعالى فوجب أن يقال المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة
المسألة الثانية ذكروا في قوله وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وجوهاً الأول قال ابن عباس معناه وطبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى الثاني معناه وأزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين والثالث المراد بهذا الختم الاماتة أي يميت قلوبكم
المسألة الثالثة قوله مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ رفع بالابتداء وخبره إِلَهٍ و غَيْرِ صفة له وقوله يَأْتِيكُمْ بِهِ هذه الهاء تعود على معنى الفعل والتقدير من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم
المسألة الرابعة روي عن نافع بِهِ انْظُرْ بضم الهاء وهو على لغة من يقرأ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 ) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار بِهِ انْظُرْ والباقون بكسر الهاء وقرأ حمزة والكسائي يَصْدِفُونَ باشمام الزاي والباقون بالصاد أي يعرضون عنه يقال صدف عنه أي أعرض والمراد من تصريف الآيات إيرادها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحث يكون كل واحد منها يقوي ما قبل في الايصال إلى المطلوب فذكر تعالى أن مع هذه المبالغة في التفهيم والتقرير والإيضاح والكشف انظر يا محمد أنهم كيف يصدفون ويعرضون
المسألة الخامسة قال الكعبي دلت هذه الآية على أنه تعالى مكنهم من الفهم ولم يخلق فيهم الاعراض والصد ولو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر لم يكن لهذا الكلام معنى واحتج أصحابنا بعين هذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها وتنقيجها وإزالة جهات الشبهات عنها ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلا تمادياً في الكفر والغي والعناد وذلك يدل على أن الهدى والضلال لا يحصلان إلا بهداية الله وإلا بإضلاله فثبت أن هذه الآية دلالتها على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم والله أعلم
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصاً بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره
فإن قيل ما المراد بقوله بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة فالأول هو البغتة والثاني هو الجهرة والأول
سماه الله تعالى بالبغتة لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه
وعن الحسن أنه قال بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً معناه ليلاً أو نهاراً وقال القاضي يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلاً وقد عاينوا مقدمته لم يكن بغتة ولو جاءهم نهاراً وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره استقام الكلام
فإن قيل فما المراد بقوله هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز
قلنا إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعاً عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى فذاك وإن كان بلاء في الظاهر إلا أنه يوجب سعادات عظيمة
أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معاً فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي كيف دارت قضيته واختلفت أحواله والله أعلم
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار فيما تقدم أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( الأنعام 37 ) وذكر الله تعلى في جوابهم ما تقدم من الوجوه الكثيرة ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ مبشرين بالثواب على الطاعات ومنذرين بالعقاب على المعاصي فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والاصلاح الذي هو عمل الجسد فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ ومعنى المس في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل قال القاضي إنه تعالى علل عذاب الكفار بكونهم فاسقين وهذا يقتضي أن يكون كل فاسق كذلك فيقال له هذا معارض بما أنه خص الذين كذبوا بآيات الله بهذا الوعيد وهذا يدل على أن من لم يكن مكذباً بآيات الله أن يلحقه الوعيد أصلاً وأيضاً فهذا يقتضي كون هذا الوعيد معللاً بفسقهم فلم قلتم أن فسق من عرف الله وأقر بالتوحيد والنبوّة والمعاد مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء والله أعلم
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( الأنعام 37 ) فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام إنما بعثت مبشراً ومنذراً وليس لي أن أتحكم على الله تعالى وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة أولها قوله لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها ويفتح علينا أبواب سعادتها فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وثانيها قوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فلا بدّ وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح ولدفع تلك المضار فقال تعالى قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الاخبار عن الغيوب ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد وثالثها قوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ ومعناه أن الوقم كانوا يقولون مَّالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) ويتزوج ويخالط الناس فقال تعالى قل لهم إني لست من الملائكة
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة
فالقول الأول أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه الواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام
والقول الثاني أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية كقولهم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 93 ) يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوّة وأما هذه الأمور التي طلبتموها فلا يكن تحصيلها إلا بقدرة الله فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه
والقول الثالث أن المراد من قوله لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ معناه إني لا أدعي كوني موصوفاً بالقدرة اللائقة بالإله تعالى وقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أدعي كوني موصوفاً بعلم الله تعالى وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية
ثم قال وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي
المسألة الثانية قال الجبائي الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك قال القاضي إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل
المسألة الثالثة قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين
الحكم الأول
أن هذا النص يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ويتأكد هذا بقوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 3 4 )
الحكم الثاني
إن نفاة القياس قالوا ثبت بهذا النص أنه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبَعُوهُ ( سبأ 20 ) وذلك ينفي جواز العمل بالقياس ثم أكد هذا الكلام بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير
ثم قال أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلاً عن معرفته والله أعلم
وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول في هذه الآية بالانذار فقال وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ( الإنذار ) الاعلام بموضع المخافة وقوله بِهِ قال ابن عباس والزجاج بالقرآن والدليل عليه قوله تعالى قبل هذه الآية إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأنعام 50 ) وقال الضحاك وَأَنذِرْ بِهِ أي بالله والأول أولى لأن الانذار والتخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى
وأما قوله الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ ففيه أقوال الأول أنهم الكافرون الذين تقدم ذكرهم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم من عذاب الآخرة وقد كان بعضهم يتأثر من ذلك التخويف ويقع في قلبه أنه ربما كان الذي يقوله محمد حقاً فثبت أن هذا الكلام لائق بهؤلاء لا يجوز حمله على المؤمنين لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم والعلم خلاف الخوف والظن ولقائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون لأنهم وإن تيقنوا الحشر فلم يتيقنوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم أن يموت أحدهم على الإيمان والعمل الصالح وتجويز أن لا يموتوا على هذه الحالة فلهذا السبب كانوا خائفين من الحشر بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه
والقول الثاني أن المراد منه المؤمنون لأنهم هم الذين يقرون بصحة الحشر والنشر والبعث والقيامة فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم
والقول الثالث أنه يتناول الكل لأن لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكاً فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائماً في حق الكل ولأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل وكان مأموراً بالتبليغ إلى الكل وخص في هذه الآية الذين يخافون الحشر لأن انتفاعهم بذلك الانذار أكمل بسبب أن خوفهم يحملهم على إعداد الزاد ليوم المعاد
المسألة الثانية المجسمة تمسكوا بقوله تعالى أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ وهذا يقتضي كون الله تعالى مختصاً بمكان وجهة لأن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية
والجواب المراد إلى المكان الذي جعله ربهم لاجتماعهم وللقضاء عليهم
المسألة الثالثة قوله لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ قال الزجاج موضع لَّيْسَ نصب على الحال كأنه قيل متخلين من ولي ولا شفيع والعامل فيه يخافون ثم ههنا بحث وذلك لأنه إن كان المراد من الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ الكفار فالكلام ظاهر لأنهم ليس لهم عند الله شفعاء وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) والله كذبهم فيه وذكر أيضاً في آية أخرى فقال مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) وقال أيضاً فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) وإن كان المراد المسلمين فنقول قوله لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لا ينافي مذهبنا في إثبات الشفاعة للمؤمنين لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله تعالى لقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله كانت في الحقيقة من الله تعالى
المسألة الرابعة قوله لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قال ابن عباس معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه تعالى أراد من الكفار التقوى والطاعة والكلام على هذا النوع من الاستدلال قد سبق مراراً
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَى ْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَى ْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال مر الملأ من قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء عن قومك أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء أطردهم عن نفسك فلعلك إن طردتهم اتبعناك فقال عليه السلام ( ما أنا بطارد المؤمنين ) فقالوا فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت فقال ( نعم ) طمعاً في إيمانهم وروي أن عمر قال له لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون ثم ألحوا وقالوا للرسول عليه السلام أكتب لنا بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت هذه الآية فرمى الصحيفة واعتذر عمر عن مقالته فقال سلمان وخباب فينا نزلت فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال ( الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات )
المسألة الثانية احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه الأول أنه عليه السلام طردهم والله تعالى نهاه عن ذلك الطرد فكان ذلك الطرد ذنباً والثاني أنه تعالى قال فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد ثبت أنه طردهم فيلزم أن يقال إنه كان من الظالمين والثالث أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( هود 29 ) ثم إنه تعالى أمر محمداً عليه السلام بمتابعة الأنبياء عليهم السلام في جميع الأعمال الحسنة حيث قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) فبهذا الطريق وجب على محمد عليه السلام أن لا يطردهم فلما طردهم كان ذلك ذنباً والرابع أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة الكهف فزاد فيها فقال تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ ( الكهف 28 ) ثم إنه تعالى نهاه عن الالتفات إلى زينة الحياة الدنيا في آية أخرى فقال تَرْضَى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( طه 131 ) فلما نهى عن الالتفات إلى زينة الدنيا ثم ذكر في تلك الآية أنه يريد زينة الحياة الدنيا كان ذلك ذنباً الخامس نقل أن أولئك الفقراء كلما دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد
هذه الواقعة فكان عليه السلانم يقول ( مرحباً بمن عاتبني ربي فيهم ) أو لفظ هذا معناه وذلك يدل أيضاً على الذنب
والجواب عن الأول أنه عليه السلام ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما عين لجلوسهم وقتاً معيناً سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش فكان غرضه منه التلطف في إدخالهم في الإسلام ولعلّه عليه السلام كان يقول هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم بسبب هذه المعاملة أمر مهم في الدنيا وفي الدين وهؤلاء الكفار فإنه يفوتهم الدين والإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى فأقصى ما يقال إن هذا الاجتهاد وقع خطأ إلا أن الخطأ في الاجتهاد مغفور وأما قوله ثانياً إن طردهم يوجب كونه عليه السلام من الظالمين
فجوابه أن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه والمعنى أو أولئك الضعفاء الفقراء كانوا يستحقون التعظيم من الرسول عليه السلام فإذا طردهم عن ذلك المجلس كان ذلك ظلمأْ إلا أنه من باب ترك الأولى والأفضل لا من باب ترك الواجبات وكذا الجواب عن سائر الوجوه فإنا نحمل كل هذه الوجوه على ترك الأفضل والأكمل والأولى والأحرى والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ بالواو وضم الغين وفي سورة الكهف مثله والباقون بالألف وفتح الغين قال أبو علي الفارسي الوجه قراءة العامة بالغدة لأنها تستعمل نكرة فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها فأما ( غدوة ) فمعرفة وهو علم صيغ له وإذا كان كذلك فوجب أن يمتنع إدخال لام التعريف عليه كما يمتنع إدخاله على سائر المعارف وكتبة هذه الكلمة بالواو في المصحف لا تدل على قولهم ألا ترى أنهم كتبوا ( الصلوة ) بالواو وهي ألف فكذا ههنا قال سيبويه ( غدوة وبكرة ) جعل كل واحد منهما اسماً للجنس كما جعلوا أم حبين اسماً لدابة معروفة قال وزعم يونس عن أبي عمرو أنك إذا قلت لقيته يوماً من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون فهذه الأشياء تقوي قراءة العامة وأما وجه قراءة ابن عامر فهو أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن يقال أتيتك اليوم غدوة وبكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة والله أعلم
المسألة الرابعة في قوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ قولان الأول أن المراد من الدعاء الصلاة يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة وهي صلاة الصبح وصلاة العصر وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد
وقيل المراد من الغداة والعشى طرفا النهار وذكر هذين القسمين تنبيهاً على كونهم مواظبين على الصلوات الخمس
والقول الثاني المراد من الدعاء الذكر قال إبراهيم الدعاء ههنا هو الذكر والمعنى يذكرون ربهم طرفي النهار
المسألة الخامسة المجسمة تمسكوا في إثبات الأعضاء لله تعالى بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وسائر الآيات المناسبة له مثل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 27 )
وجوابه أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) يقتضي الوجدانية التامة وذلك ينافي التركيب من الأعضاء
والأجزاء فثبت أنه لا بدّ من التأويل وهو من وجهين الأول قوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ المعنى يريدونه إلا أنهم يذكرون لفظ الوجه للتعظيم كما يقال هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل والثاني أن من أحب ذاتاً أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا وتمام هذا الكلام تقدم في قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 )
ثم قال تعالى مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء اختلفوا في أن الضمير في قوله حِسَابَهُمْ وفي قوله عَلَيْهِمْ إلى ماذا يعود
والقول الأول أنه عائد إلى المشركين والمعنى ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا حسابك على المشركين وإنما الله هو الذي يدبر عبيده كما يشاء وأراد والغرض من هذا الكلام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحمل هذا الاقتراح من هؤلاء الكفار فلعلّهم يدخلون في الإسلام ويتخلصون من عقاب الكفر فقال تعالى لا تكن في قيد أنهم يتقون الكفر أم لا فإن الله تعالى هو الهادي والمدبر
القول الثاني أن الضمير عائد إلى الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي وهم الفقراء وذلك أشبه بالظاهر والدليل عليه أن الكناية في قوله فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء قولين أحدهما أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولاً وملبوساً عندك وإلا فهم فارغون عن دينك فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم كقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 )
فإن قيل أما كفى قوله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء حتى ضم إليه قوله وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء
قلنا جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه
القول الثاني ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم ولا حساب رزقك عليهم وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم
وأعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) فأجابهم نوح عليه السلام و قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ ( الشعراء 112 113 ) وعنوا بقولهم الاْرْذَلُونَ الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة فكذلك ههنا وقوله فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي ومعناه ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم وقوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يجوز أن يكون عطفاً على
قوله فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن كونه ظالماً معلوم طردهم ومسبب له وأما قوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ففيه قولان الأول فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسك بهذا الطرد الثاني أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلماً لهم والله أعلم
وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَاؤُلا ءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن كل واحد مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية فكان ذلك يشق عليهم ونظيره قوله تعالى الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ ( القمر 25 ) لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء مع أنا بقينا في هذه الشدة والضيق والقلة
فقال تعالى وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فأحد الفريقين يرى الآخر متقدماً عليه في المناصب الدينية والفريق الآخر يرى الفريق الأول متقدماً عليه في المناصب الدنيوية فكانوا يقولون أهذا هو الذي فضله الله علينا وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية على ما هو قول أصحابنا أو بحسب المصلحة على ما هو قول المعتزلة فكانوا صابرين في وقت البلاء شاكرين في وقت الآلاء والنعماء وهم الذين قال الله تعالى ف حقهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجهين الأول أن قوله وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تصريح بأن إلقاء تلك الفتنة من الله تعالى والمراد من تلك الفتنة ليس إلا اعتراضهم على الله في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين والاعتراض على الله كفر وذلك يدل على أنه تعالى هو الخالق للكفر والثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا والمراد من قوله مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم هو أنه عليهم بالإيمان بالله ومتابعة الرسول وذلك يدل على أنم هذه المعاني إنما تحصل من الله تعالى لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما من عليه بهذا الإيمان بل العبد هو الذي من على نفسه بهذا الإيمان فصارت هذه الآية دليلاً على قولنا في هذه المسألة من هذين
الوجهين أجاب الجبائي عنه بأن الفتنة في التكليف ما يوجب التشديد وإنما فعلنا ذلك ليقولوا أهؤلاء أي ليقول بعضهم لبعض استفهاماً لا إنكاراً أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا بالإيمان وأجاب الكعبي عنه بأن قال وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليصبروا أو ليشكروا فكان عاقبة أمرهم أن قالوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا على ميثاق قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) والجواب عن الوجهين أنه عدول عن الظاهر من غير دليل لا سيما والدليل العقلي قائم على صحة هذا الظاهر وذلك لأنه لما كانت مشاهدة هذه الأحوال توجب الأنفة والأنفة توجب العصيان والاصرار على الكفر وموجب الموجب موجب كان الالزام وارداً والله أعلم
المسألة الثالثة في كيفية افتتان البعض بالبعض وجوه الأول أن الغنى والفقر كانا سببين لحصول هذا الافتتان كما ذكرنا في قصة نوح عليه السلام وكما قال في قصة قوم صالح وَقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِى ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( الاعراف 76 ) والثاني ابتلاء الشريف بالوضيع والثالث ابتلاء الذكي بالأبله وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلق وصفات الكمال محبوبة لذاتها فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله من صفات الكمال
فأما من عرف سر الله تعالى في القضاء والقدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض للخلق وعاش عيشاً طيباً في الدنيا والآخرة والله أعلم
المسألة الرابعة قال هشام بن الحكم إنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية لأن الافتتان هو الاختبار والامتحان وذلك لا يصح إلا لطلب العلم وجوابه قد مر غير مرة
بداية الجزء الثالث عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُو ءًا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فقال بعضهم هو على إطلاقه في كل من هذه صفته وقال آخرون بل نزل في أهل الصفة الذين سأل المشركون الرسول عليه السلام طردهم وإبعادهم فأكرمهم الله بهذا الإكرام وذلك لأنه تعالى نهى الرسول عليه السلام أولاً عن طردهم ثم أمره بأن يكرمهم بهذا النوع من الإكرام قال عكرمة كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رآهم بدأهم بالسلام ويقول ( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما اعتذر من مقالته واستغفر الله منها وقال للرسول عليه السلام ما أردت بذلك إلا الخير نزلت هذه الآية وقال بعضهم بل نزلت في قوم أقدموا على ذنوب ثم جاؤه ( صلى الله عليه وسلم ) مظهرين للندامة والأسف فنزلت هذه الآية فيهم والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف
ولي ههنا إشكال وهو أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من آيات السورة أن سبب نزولها هو الأمر الفلاني بعينه
المسألة الثانية قوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه وآيات وحدانيته وما سوى الله فلا نهاية له وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل في الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسائح في تلك القفار وكالسابح في تلك البحار ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة
فعند هذا أمر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول لهم سَلَامٌ عَلَيْكُمُ فيكون هذا التسليم بشارة لحصول السلامة وقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ بشارة لحصول الرحمة عقيب تلك السلامة أما السلامة فالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخالفات وموضع التغييرات والتبديلات وأما الكرامات فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال
المسألة الثالثة ذكر الزجاج عن المبرد أن السلامة في اللغة أربعة أشياء فمنها سلمت سلاماً وهو معنى الدعاء ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى ومنها الإسلام ومنها اسم للشجر العظيم أحسبه سمي بذلك لسلامته من الآفات وهو أيضاً اسم للحجارة الصلبة وذلك أيضاً لسلامتها من الرخاوة ثم قال الزجاج قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ السلام ههنا يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون مصدر سلمت تسليماً وسلاماً مثل السراح من التسريح ومعنى سلمت عليه سلاماً دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه فالسلام بمعنى التسليم والثاني أن يكون السلام جمع السلامة فمعنى قولك السلام عليكم السلامة عليكم وقال أبو بكر بن الأنباري قال قوم السلام هو الله تعالى فمعنى السلام عليكم يعني الله عليكم أي على حفظكم وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ولو كان معرفاً لصح هذا الوجه وأقول كتبت فصولاً مشبعة كاملة في قولنا سلام عليكم وكتبتها في سورة التوبة وهي أجنبية عن هذا الموضع فإذا نقلته إلى هذا الموضع كمل البحث والله أعلم
أما قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب ولكمة ( على ) أيضاً تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب فهذا يقتضي كونه سبحانه راحماً لعباده رحيماً بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم وقالت المعتزلة إن كونه عالماً بقبح القبائح وعالماً بكونه غنياً عنها يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلماً والظلم قبيح والقبيح منه محال وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضاً قوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) يدل عليه والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه لأنه لو كان جسماً لكان مركباً والمركب ممكن وأيضاً أنه أحد والأحد لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً أنه غني كما قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ والغني لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان جسماً لحصل له مثل وذلك باطل لقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه
المسألة الثالثة قالت المعتزلة قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ينافي أن يقال إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه أبد الآباد وينافي أن يقال إنه يمنعه عن الإيمان ثم يأمره حال ذلك المنع
بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان وجواب أصحابنا أنه ضار نافع محيي مميت فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الرابعة من الناس من قال إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواماً بأنه يقول لهم بعد الموت سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ثم إن أقواماً أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا ومنهم من قال لا بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله وعلى التقديرين فهو درجة عالية
ثم قال تعالى أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر لأن هذا الكلام خطاب مع الذين وصفهم بقوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية والمراد من قوله بِجَهَالَة ٍ ليس هو الخطأ والغلط لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة بل المراد منه أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة فكان المراد منه بيان أن المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنباً ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته
المسألة الثانية قرأ نافع أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ بفتح الألف فَأَنَّهُ غَفُورٌ بكسر الألف وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح فيهما والباقون بالكسر فيهما أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة كأنه قيل كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلاً من الأولى كقوله أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 85 ) وقوله كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ( الحج 4 ) وقوله أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( التوبة 63 ) قال أبو علي الفارسي من فتح الأولى فقد جعلها بدلاً من الرحمة وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبراً تقديره فله أنه غفور رحيم أي فله غفرانه أو أضمر مبتدأ يكون ( أن ) خبره كأنه قيل فأمره أنه غفور رحيم وأما من كسرهما جميعاً فلأنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فقد تم هذا الكلام ثم ابتدأ وقال أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فدخلت الفاء جواباً للجزاء وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول الزجاج وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر لأنه أبدل الأولى من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء والله أعلم
المسألة الثالثة قوله مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ قال الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثم اختلفوا فقيل إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل
وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلاً إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل وقيل نزلت هذه الآية في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 )
المسألة الرابعة قوله تعالى ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فقوله تَابَ إشارة إلى الندم على الماضي وقوله وَأَصْلَحَ إشارة إلى كونه آتياً بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل ثم قال فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فهو غفور بسبب إزالة العقاب رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة والله أعلم
وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ
قوله تعالى وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ
المراد كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر فكذلك نميز ونفصل لك دلائلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وقوله وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق وليستبين وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً واختلف القراء في قوله ليستبين فقرأ نافع لتستبين بالتاء وسبيل بالنصب والمعنى لتستبين يا محمد سبيل هؤلاء المجرمين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ليستبين بالياء مّن سَبِيلٍ بالرفع والباقون بالتاء وسبيل بالرفع على تأنيث سبيل وأهل الحجاز يؤنثون السبيل وبنو تميم يذكرونه وقد نطق القرآن بهما فقال سبحانه بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ( الأعراف 146 ) وقال وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( إبراهيم 3 )
فإن قيل لم قال وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ولم يذكر سبيل المؤمنين
قلنا ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كقوله سَرَابِيلَ الْقَتْلَى الْحُرُّ ( النحل 81 ) ولم يذكر البرد وأيضاً فالضدان إذا كانا بحيث لا يحصل بينهما واسطة فمتى بانت خاصية أحد القسمين بانت خاصية القسم الآخر والحق والباطل لا واسطة بينهما فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة المحقين أيضاً لا محالة
قوله تعالى قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم فقال قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَبَيْنَ إِنَّ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ثم قال قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنّى عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى أي في أنه لا معبود سواه وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب فقال تعالى قل يا محمد مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره ثم قال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل والمراد ههنا إن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم يَقْضِى الْحَقّ أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ أي القاضين وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا بقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به وكذلك في جميع الأفعال والدليل عليه أنه تعالى قال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا حكم إلا لله واحتج المعتزلة بقوله يَقْضِى الْحَقّ ومعناه أن كل ما قضى به فهو الحق وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس الحق والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وعاصم يَقُصُّ الْحَقَّ بالصاد من القصص يعني أن كل ما أنبأ الله به وأمر به فهو من أقاصيص الحق كقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وقرأ الباقون يَقْضِ الْحَقّ والمكتوب في المصاحف ( يقض ) بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 18 ) فما تغن النذر وقوله وقوله يُقْضَى الْحَقّ قال الزجاج فيه وجهان جائز أن يكون الْحَقّ صفة المصدر والتقدير يقض القضاء الحق ويجوز أن يكون يَقْضِ الْحَقّ يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق وعلى هذا التقدير الْحَقّ يكون مفعولاً به وقضى بمعنى صنع قال الهذلي وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما داود واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قال والفصل يكون في القضاء لا في القصص
أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص ههنا بمعنى القول وقد جاء الفصل في القول قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وقال الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 ) وقال نُفَصّلُ الآيَاتِ ( الأعراف 32 )
قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِى َ الاٌّ مْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة ٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
قوله تعالى قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِى َ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ
اعلم أن المعنى لَّوْ أَنَّ عِندِى أي في قدرتي وإمكاني مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِى َ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي واقتصاصاً من تكذيبكم به ولتخلصت سريعاً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وبما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره والمعنى إني لا أعلم وقت عقوبة الظالمين والله تعالى يعلم ذلك فهو يؤخره إلى وقته والله أعلم
قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني أنه سبحانه هو العالم بكل شيء فهو يعجل ما تعجيله أصلح ويؤخر ما تأخيره أصلح وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المفاتح جمع مفتح ومفتح والمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله تعالى مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ِ ( القصص 76 ) يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ويمكن أن يراد منه الخزائن أما على التقدير الأول فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرىء مفاتيح وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات في قوله بِرازِقِينَ وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم
بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة قالوا وإذا ثبت هذا فنقول الموجود إما أن يكون واجباً لذاته وإما أن يكون ممكناً لذاته والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى وكل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً إذا ثبت هذا فنقول علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة
ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى وهي أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالاً من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوماً لكل أحد والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون لأنه قال أولاً وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر والبحر والحس والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول
وفيه دقيقة أخرى وهي إنه تعالى قدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فيصير هذا المثال المحسوس مقوياً ومكملاً للعظمة الحاصلة تحت قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله وَلاَ حَبَّة ٍ فِى ظُلُمَاتِ الاْرْضِ وذلك لأن الحبة في غاية الغصر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها
مخفياً فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى البتة صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وهو عين المذكور في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية ومن الله التوفيق
المسألة الثانية المتكلمون قالوا إنه تعالى فاعل العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان ومن كان كذلك كان عالماً بها فوجب كونه تعالى عالماً بها والحكماء قالوا إنه تعالى مبدأ لجميع الممكنات والعلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بكلها
واعلم أن هذا الكلام من أدل الدلائل على كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات الزمانية وذلك لأنه لما ثبت أنه تعالى مبدأ لكل ما سواه وجب كونه مبدأ لهذه الجزئيات بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بهذه التغيرات والزمانيات من حيث إنها متغيرة وزمانية وذلك هو المطلوب
المسألة الثالثة قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ يدل على كونه تعالى منزهاً عن الضد والند وتقريره أن قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ يفيد الحصر أي عنده لا عند غيره ولو حصل وجود آخر واجب الوجود لكان مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عند ذلك الآخر وحينئذ يبطل الحصر وأيضاً فكما أن لفظ الآية يدل على هذا التوحيد فكذلك البرهان العقلي يساعد عليه وتقريره أن المبدأ لحصول العلم بالآثار والنتائج والصنائع هو العلم بالمؤثر والمؤثر الأول في كل الممكنات هو الحق سبحانه فالمفتح الأول للعلم بجميع المعلومات هو العلم به سبحانه لكن العلم به ليس إلا له لأن ما سواه أثر والعلم بالأثر لا يفيد العلم بالمؤثر فظهر بهذا البرهان أن مفاتح الغيب ليست إلا عند الحق سبحانه والله أعلم
المسألة الرابعة قرىء الاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ بالرفع وفيه وجهان الأول أن يكون عطفاً على محل من ورقة وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ كقولك لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار
المسألة الخامسة قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ فيه قولان الأول أن ذلك الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير وهذا هو الصواب والثاني قال الزجاج يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال عز وجل مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( الحديد 22 ) وفائدة هذا الكتاب أمور أحدها أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقاً له وثانيها يجوز أن يقال إنه تعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيهاً للمكلفين على أمر الحساب وإعلاماً بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء لأنه إذا كان
لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحول المشتملة على الثواب والعقاب أولى وثالثها أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع أيضاً تغييرها وإلا لزم الكذب فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجباً تاماً وسبباً كاملاً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلوات الله عليه ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين كمال علمه بالآية الأولى بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادراً على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة
فأما قوله وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم فالمعنى أنه تعالى ينيمكم فيتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز كما قال جل جلاله اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاْخْرَى إِلَى أَجَلٍ ( الزمر 42 ) فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت وههنا بحث وهو أن النائم لا شك أنه حي ومتى كان حياً لم تكن روحه مقبوضة البتة وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه فلا بد ههنا من تأويل وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلاً عن بعض الأعمال وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه ثم قال وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ يريد ما كسبتم من العمل بالنهار قال تعالى وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ والمراد منها الكواسب من الطير والسباع واحدتها جارحة قال تعالى وَالَّذِينَ اجْتَرَحُواْ أي اكتسبوا وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح
ثم قال تعالى بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يرد إليكم أرواحكم في النهار والبعث ههنا اليقظة ثم قال لّيَقْضِيَ أَجَلٍ مُّسَمًّى أي أعماركم المكتوبة وهي قوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ والمعنى يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم ومعنى القضاء فصل الأمر على سبيل التمام ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة فقال ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهوراً وتقرير هذا القهر من وجوه الأول إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد والثاني أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات والثالث أنه قهار لكل ضده بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار وتمام تقريره في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( آل عمران 26 )
وإذا عرفت منهج الكلام فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد فالفوق ضده التحت والماضي ضده المستقبل والنور ضده الظلمة والحياة ضدها الموت والقدرة ضدها العجز وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبراً قادراً قاهراً منزهاً عن الضد والند مقدساً عن الشبيه والشكل كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ والرابع أن هذا البدن مؤلف من الطبائع الأربع وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر وأخطأ من قال إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وأيضاً فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف فبينهما أشد المنافرة والمباعدة ثم إنه سبحانه جمع بينهما
على سبيل القهر والقدرة وجعل كل واحد منهما مستكملاً بصاحبه منتفعاً بالآخر فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية والمعارف الإلهية فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وأيضاً فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك فكان إقدام الفاعل على الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر فكان قاهراً لعباده من هذه الجهة وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ
وأما قوله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً فالمراد أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 ) وقوله مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) وقوله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والقول الأول أقوى لأن قوله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً يفيد حفظة الكل من غير تخصيص
والبحث الثاني أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها أما في الأقوال فلقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلُهُ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وأما في الأعمال فلقوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار 10 11 12 ) فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها
البحث الثالث ذكروا في فائدة جعل الملائكة موكلين على بني آدم وجوهاً الأول أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح الثاني يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن أما وزن الصحائف فممكن الثالث يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه
الوجه الأول قال المتأخرون منهم وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج
لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية فقالوا المراد من قوله وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً تلك النفوس والقوى فإنها هى التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها
والوجه الثاني وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادىء من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الخيرة وتلك المبادىء تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير
والقول الثالث النفس المتعلقة بهذا الجسد لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة وهي أيضاً تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلاً والله أعلم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا فهنا بحثان
البحث الأول أنه تعالى قال اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) وقال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) فهذا النصان يدلان على أن توفي الأرواح ليس إلا من الله تعالى ثم قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلا من ملك الموت ثم قال في هذه الآية تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة
والجواب أن التوفي في الحقيقة يحصل بقدرة الله تعالى وهو في عالم الظاهر مفوض إلى ملك الموت وهو الرئيس المطلق في هذا الباب وله أعوان وخدم وأنصار فحسنت إضافة التوفي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة والله أعلم
البحث الثاني من الناس من قال هؤلاء الرسل الذين بهم تحصل الوفاة وهم أعيان أولئك الحفظة فهم في مدة الحياة يحفظونهم من أمر الله وعند مجيء الموت يتوفونهم والأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق إلا أن الذي مال إليه الأكثرون هو القول الثاني وأيضاً فقد ثبت بالمقاييس العقلية أن الملائكة الذين هم معادن الرحمة والخير والراحة مغايرون للذين هم أصول الحزن والغم فطائفة من الملائكة هم المسمون بالروحانيين لإفادتهم الروح والراحة والريحان وبعضهم يسمون بالكروبيين لكونهم مبادىء الكرب والغم والأحزان
البحث الثالث الظاهر من قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ أنه ملك واحد هو
رئيس الملائكة الموكلين بقبض الأرواح والمراد بالحفظة المذكورين في هذه الآية أتباعه وأشياعه عن مجاهد جعل الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين وجاء في الأخبار من صفات ملك الموت ومن كيفية موته عند فناء الدنيا وانقضائها أحوال عجيبة
والبحث الرابع قرأ حمزة توفاه بالألف ممالة والباقون بالتاء فالأول لتقديم الفعل ولأن الجمع قد يذكر والثاني على تأنيث الجمع
أما قوله تعالى وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وهذا يدل على أن الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به وقوله في صفة ملائكة النار لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق أما قوله تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ففيه مباحث الأول قيل المردودون هم الملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أيضاً أولئك الملائكة وقيل بل المردودون البشر يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريح هذه الآية يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسراً بكونه منقاداً لحكم الله مطيعاً لقضاء الله وما لم يكن حياً لم يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فبقي أن تكون الحياة نصيباً للنفس والروح ولما قال تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ وثبت أن المرد وهو النفس والروح ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وهو المطلوب
واعلم أن قوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره قوله تعالى ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ ( الفجر 28 ) وقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ( يونس 4 ) ونقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ) وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة بينا ضعفها في ( الكتب العقلية )
البحث الثاني كلمة ( إلى ) تفيد انتهاء الغاية فقوله إلى الله يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه
البحث الثالث أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين أحدهما المولى وقد عرفت أن لفظ المولى ولفظ الولي مشتقان من الولي أي القرب وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن لقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وأيضاً المعتق يسمى بالمولى وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) وأيضاً أضاف نفسه إلى العبد فقال مَوْلَاهُمُ الْحَقّ وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة
وأيضاً قال مولاهم الحق والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرفات المولى الحق
والاسم الثاني الحق واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى فقيل الحق مصدر وهو نقيض الباطل وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازاً كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل ويمكن أن يقال الحق هو الموجود وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجباً لذاته فكان أحق الأشياء بكونه حقاً هو هو واعلم أنه قرىء الحق بالنصب على المدح كقولك الحمد لله الحق
أما قوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ معناه أنه لا حكم إلا لله ويتأكد ذلك بقوله إن الحكم إلا لله وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله وذلك يوجب أن الخير والشر كله يحكم الله وقضائه فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة وإلا لما حصل ذلك
المسألة الثانية قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم وهو أخذ الثواب وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى قال لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم فإنه تعالى كان قبل الخلق عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه قبل ذلك وجد فلم يلزم منه تغير العلم فلم لا يجوز مثله في الكلام والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في كيفية هذا الحساب فمنهم من قال إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة لا يشغله كلام عن كلام ومنهم من قال بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحداً من العباد لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار ولا يكلمهم ( آل عمران 77 ) وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين
فالمقدمة الأولى أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة والاستقراء التام يكشف ع ن صحة ما ذكرناه ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى
المقدمة الثانية إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملائكة الراسخة وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة
المثال الأول أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة فهذا القدر من إلقاء الجم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال
المثال الثاني أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسى المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملىء من الماء ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال لكونه في غاية القلة
والمثال الثالث إن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال
فإذا عرفت هذه الأمثلة وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير إلا ويفيد حصول أثر في النفس إما في السعادة وإما في الشقاوة وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات والأفعال الصادرة من اليد فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جارياً مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس وأما الحساب فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثراً في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الخلق الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد ومقدار ذلك الخلق الذميم وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية والله العالم بحقائق الأمور
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية وكمال الرحمة والفضل والإحسان وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ بالتشديد في الكلمتين والباقون بالتخفيف قال الواحدي والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا فن شئت نقلت بالهمزة وإن شئت نقلت بتضعيف العين مثل أفرحته وفرحته وأغرمته وغرمته وفي القرآن فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ ( الأعراف 72 ) وفي آية أخرى وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( فصلت 18 ) ولما جاء التنزيل باللغتين معاً ظهر استواء القراءتين في الحسن غير أن الاختيار التشديد لأن ذلك من الله كان غير مرة وأيضاً قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان وأيضاً الخفية من الإخفاء والخيفة من الرهب وأيضاً ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا من هذه قرأ عاصم وحمزة والكسائي لَّئِنْ أَنجَانَا على المغايبة والباقون لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا على الخطاب فأما الأولون وهم الذين قرؤا على المغايبة فقد اختلفوا قرأ عاصم بالتفخيم والباقون بالأمالة وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ وما بعده مذكور بلفظ المغايبة فأما ما قبله فقوله تَدْعُونَهُ وأما ما بعده فقوله قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وأيضاً فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار والتقدير يقولون لئن أنجيتنا والإضمار خلاف الأصل وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
المسألة الثانية ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه ويشتبه عليه كيفية الخروج ويظلم عليه طريق الخلاص ومنهم من حمله على حقيقته فقال أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة السحاب ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى وهو المراد من قوله تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا
إلى الله ولا تعويل إلا على فضل الله وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات لكنه ليس كذلك فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك ومن المفسرين من يقول المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان وأنا أقول التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور أحدها الدعاء وثانيها التضرع وثالثها الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله وَخُفْيَة ً ورابعها التزام الاشتغال بالشكر وهو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الخوف والكرب ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك ونظير هذه الآية قوله ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ وقوله ) وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الأمر الهائل أخصلوا وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان الأول حمل اللفظ على حقيقته فنقول العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق كما حصب قوم لوط وكما رمى أصحاب الفيل وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم فمثل الرجفة ومثل خسف قارون وقيل هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق وظهورها من أسفل
القول الثاني أن يحمل هذا اللفظ على مجازه قال ابن عباس في رواية عن عكرمة عذاباً من فوقكم أي من الأمراء ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة أما قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فاعلم أن الشيع جمع الشيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع قال تعالى كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ ( سبأ 54 ) وأصله من الشيع وهو التبع ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً قال الزجاج قوله يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقاً ولا تكونون فرقة واحدة فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضاً وهو معنى قوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية شق ذلك على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال ( ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك ) فقال له جبريل إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك فقال جبريل إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذاباً من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعاً بالأهواء المختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة ) وفي رواية أخرى كلهم في الجنة إلا الزنادقة
المسألة الثانية ظاهر قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هو أنه تعالى يحملهم على الأهواء المختلفة والمذاهب المتنافية وظاهر أن الحق منها ليس إلا الواحد وما سواه فهو باطل فهذا يقتضي أنه تعالى قد يحمل المكلف على الاعتقاد الباطل وقوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لا شك أن أكثرها ظلم ومعصية فهذا يدل على كونه تعالى خالقاً للخير والشر أجاب الخصم عنه بأن الآية تدل على أن الله تعالى قادر عليه وعندنا الله قادر على القبيح إنما النزاع في أنه تعالى هل يفعل ذلك أم لا
والجواب أن وجه التمسك بالآية شيء آخر فإنه قال هُوَ الْقَادِرُ على ذلك وهذا يفيد الحصر فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك وهذا الاختلاف بين الناس حاصل وثبت بمقتضى الحصر المذكور أن لا يكون ذلك صادراً عن غير الله فوجب أن يكون صادراً عن الله وذلك يفيد المطلوب
المسألة الثالثة قالت المقلدة والحشوية هذه الآية من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال وذلك لأن فتح تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف والمنازعة في الأديان وتفرق الخلق إلى المذاهب والأديان وذلك مذموم بحكم هذه الآية والمفضي إلى المذموم مذموم فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال في الدين مذموماً وجوابه سهل والله أعلم
ثم قال تعالى في آخر الآية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ لَعِلْمٌ يَفْقَهُونَ قال القاضي هذا يدل على أنه تعالى أراد بتصريف هذه الآيات وتقرير هذه البينات أن يفهم الكل تلك الدلائل ويفقه الكل تلك البينات وجوابنا بل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى ما صرف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم فأما من أعرض وتمرد فهو تعالى ما صرف هذه الآيات لهم والله أعلم
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
الضمير في قوله وَكَذَّبَ بِهِ إلى ماذا يرجع فيه أقوال الأول أنه راجع إلى العذاب المذكور في الآية السابقة وَهُوَ الْحَقُّ أي لا بد وأن ينزل بهم الثاني الضمير في ( به ) للقرآن وهو الحق أي في كونه كتاباً
منزلاً من عند الله الثالث يعود إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات ثم قال قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم قال ابن عباس والمفسرون نسختها آية القتال وهو بعيد ثم قال تعالى لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ والمستقر يجوز أن يكون موضع الاستقرار ويجوز أن يكون نفس الاستقرار لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج والمعنى أن لكل خبر يخبره الله تعالى وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وإن جعلت المستقر بمعنى الاستقرار كان المعنى لكل وعد ووعيد من الله تعالى استقرار ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره ونزوله وهذا الذي خوف الكفار به يجوز أن يكون المراد منه عذاب الآخرة ويجوز أن يكون المراد منه استيلاء المسلمين على الكفار بالحرب والقتل والقهر في الدنيا
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فبين به أن الذين يكذبون بهذا الدين فإنه لا يجب على الرسول أن يلازمهم وأن يكون حفيظاً عليهم ثم بين في هذه الآية أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذبيهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مقارنتهم وترك مجالستهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذَا رَأَيْتَ قيل إنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد غيره وقيل الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيها السامع الذين يخوضون في آياتنا ونقل الواحدي أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن فشتموا واستهزؤوا فأمرهم أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ولفظ الخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث واللعب قال تعالى حكاية عن الكفار وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ وإذا سئل الرجل عن قوم فقال تركتهم يخوضون أفاد ذلك أنهم شرعوا في كلمات لا ينبغي ذكرها ومن الحشوية من تمسك بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته قال لأن ذلك خوض في آيات الله والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية والجواب عنه أنا نقلنا عن المفسرين أن المراد من ( الخوض ) الشروع في آيات الله تعالى على سبيل الطعن والاستهزاء وبينا أيضاً أن لفظ ( الخوض ) وضع في أصل اللغة لهذا المعنى فسقط هذا الاستدلال والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن عامر يُنسِيَنَّكَ بالتشديد وفعل وأفعل يجريان مجرى واحد كما بينا ذلك في
مواضع وفي التنزيل فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( الطارق 17 ) والاختيار قراءة العامة لقوله تعالى وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( الكهف 63 ) ومعنى الآية إن نسيت وقعدت فلا تقعد بعد الذكرى وقم إذا ذكرت والذكرى اسم للتذكرة قاله الليث وقال الفراء الذكرى يكون بمعنى الذكر وقوله مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني مع المشركين
المسألة الثالثة قوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وهذا الإعراض يحتمل أن يحصل بالقيام عنهم ويحتمل بغيره فلما قال بعد ذلك فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى صار ذلك دليلاً على أن المراد أن يعرض عنهم بالقيام من عندهم وههنا سؤالات
السؤال الأول هل يجوز هذا الإعراض بطريق آخر سوى القيام عنهم والجواب الذين يتمسكوا بظواهر الألفاظ ويزعمون وجوب إجرائها على ظواهرها لا يجوزون ذلك والذين يقولون المعنى هو المعتبر جوزوا ذلك قالوا لأن المطلوب إظهار الإنكار فكل طريق أفاد هذا المقصود فإنه يجوز المصير إليه
السؤال الثاني لو خاف الرسول من القيام عنهم هل يجب عليه القيام مع ذلك
الجواب كل ما أوجب على الرسول فعله وجب عليه ذلك سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر فإنا إن جوزنا منه ترك الواجب بسبب الخوف سقط الاعتماد عن التكاليف التي بلغها إلينا أما غير الرسول فإنه عند شدة الخوف قد يسقط عنه الفرض لأنه إقدامه على الترك لا يفضي إلى المحذور المذكور
المسألة الرابعة قوله وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى يفيد أن التكليف ساقط عن الناسي قال الجبائي إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف وهذا يدل على أن تكليف مالا يطاق لا يقع ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لما كانت حاصلة قبل الفعل فوجب أن لا يكون الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان واعلم أن هذه الكلمات كثر ذكرها في هذا الكتاب مع الجواب فلا نطول الكلام بذكر الجواب والله أعلم
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَى ْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
قال ابن عباس قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا
على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت هذه الآية وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكرونهم ويفهمونهم قال ومعنى الآية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والكبائر والفواحش مِنْ حِسَابِهِم من آثامهم مّن شَى ْء وَلَاكِن ذِكْرَى قال الزجاج قوله ذِكْرِى يجوز أن يكون في موضع رفع وأن يكون في موضع نصب أما كونه في موضع رفع فمن وجهين الأول ولكن عليكم ذكرى أي أن تذكروهم وجائز أن يكون ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى فعلى الوجه الأولى الذكرى بمعنى التذكير وعلى الوجه الثاني الذكرى تكون بمعنى الذكر وأما كونه في موضع النصب فالتقدير ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون والمعنى لعل ذلك الذكرى يمنعهم من الخوض في ذلك الفضول
قوله تعالى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن
اعلم أن هؤلاء هم المذكورون بقوله الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا ومعنى ذَرْهُمْ أعرض عنهم وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال بعده وَذَكّرْ بِهِ ونظيره قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا يترك إنذارهم وتخويفهم
واعلم أنه تعالى أمر الرسول بأن يترك من كان موصوفاً بصفتين
الصفة الأولى أن يكون من صفتهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وفي تفسيره وجوه الأول المراد أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤوا به الثاني اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم الثالث أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً والرابع قال ابن عباس جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى ثم إن الناس أكثرهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهواً ولعباً غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى والخامس وهو الأقرب أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو فالمراد من قوله وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة والله أعلم
الصفة الثانية قوله تعالى وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وهذا يؤكد الوجه الخامس الذي ذكرناه كأنه تعالى يقول إنما اتخذوا دينهم لعباً ولهواً لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا
إذا عرفت هذا فقوله وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً معناه أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزناً وَذَكّرْ بِهِ واختلفوا في أن الضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يعود
قيل وذكر بالقرآن وقيل إه تعالى قال وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً والمراد الدين الذي يجب عليهم أن يتدينوا به ويعتقدوا صحته فقوله وَذَكّرْ بِهِ أي بذلك الدين لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكور والدين أقرب المذكور فوجب عود الضمير إليه أما قوله أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ فقال صاحب ( الكشاف ) أصل الإبسال المنع ومنه هذا عليك بسل أي حرام محظور والباسل الشجاع لامتناعه من خصمه أو لأنه شديد البسور يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه وإذا زاد قالوا بسل والعابس منقبض الوجه
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ أي ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا وقال الحسن ومجاهد تسلم للمهلكة أي تمنع عن مرادها وتخذل وقال قتادة تحبس في جهنم وعن ابن عباس تُبْسَلَ تفضح و أُبْسِلُواْ فضحوا ومعنى الآية وذكرهم بالقرآن ومقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون فيتقون ثم قال تعالى لَيْسَ لَهَا أي ليس للنفس مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أي وإن تفذ كل فداء والعدل الفدية لا يؤخذ ذلك العدل وتلك الفدية منها قال صاحب ( الكشاف ) فاعل يؤخذ ليس هو قوله عَدْلٍ لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ وأما في قوله وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه فنقول الأخذ بمعنى القبول وارد قال تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ أي يقبلها وإذا ثبت هذا فيحمل الأخذ ههنا على القبول ويزول السؤال والله أعلم
والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولي يتولى دفع ذلك المحذور ولا شفيع يشفع فيها ولا فدية تقبل ليحصل الخلاص بسبب قبولها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع فإذا كانت وجوه الخلاص هي هذه الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والانغلاق والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله تعالى وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله تعالى ثم إنه تعالى بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين فقال لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ وذلك هو النهاية في صفة الإيلام والله أعلم
قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الأرض حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فقال قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أي أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقدنا الله منه وهدانا للإسلام ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل أنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه ورجع القهقرى والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ ( النحل 78 ) فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة فلهذا السبب يقال فلان رد على عقبيه
وأما قوله كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ فاعلم أنه تعالى وصف هذا الإنسان بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة استهواه بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء لأن الجمع يصلح أن يذكر على معنى الجمع ويصلح أن يؤنث على معنى الجماعة
المسألة الثانية اختلفوا في اشتقاق كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ على قولين
القول الأول أنه مشتق من الهوى في الأرض وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة
والقول الثاني أنه مشتق من اتباع الهوى والميل فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ النهاية في الحيرة والقول الأول أولى لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف
الصفة الثانية قوله حَيْرَانَ قال الأصمعي يقال حار يحار حيرة وحيراً وزاد الفراء حيراناً وحيرورة ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه ومنه يقال الماء يتحير في الغيم أي يتردد وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير وأيضاً فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالاً للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال
الصفة الثالثة قوله تعالى لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قالوا نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره بأن يرجع من طريق الجهالة إلى الهداية ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وقيل المراد أن لذلك الكافر الضال أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى وهذا بعيد والقول الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى يعني هو الهدى الكامل النافع الشريف كما إذا قلت علم زيد هو العلم وملك عمرو هو الملك كان معناه ما ذكرناه من تقرير أمر الكمال والشرف
ثم قال تعالى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ واعلم أن قوله إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به فإما أن يكون من باب الأفعال وإما أن يكون من باب التروك
أما القسم الأول فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي والله سبحانه لما بين أولاً أن الهدى النافع هو هدى الله أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي ثم بين منافع هذه الأعمال فقال وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة
فإن قيل كيف حسن عطف قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ على قوله وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ
قلنا ذكر الزجاج فيه وجهين الأول أن يكون التقدير وأمرنا فقيل لنا أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة
فإن قيل هب أن المراد ما ذكرتم لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه إلا بالتأويل
قلنا وذلك لأن الكافر ما دام يبقى على كفره كان كالغائب الأجنبي فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين فيقال له وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين ويقال له وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فالمقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان وتقريره أن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام ذكر ههنا ما يدل على أنه لا
معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية وذكر فيها أنواعاً كثيرة من الدلائل أولها قوله وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ أما كونه خالقاً للسموات والأرض فقد شرحنا في قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( الأنبياء 16 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) وفيه قولان
القول الأول وهو قول أهل السنة أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات وتصرف للمالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق فكان ذلك التصرف حسناً على الإطلاق وحقاً على الإطلاق
والقول الثاني وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقاً أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم قال القاضي ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولاً حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات والأرض ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى وهي أنه يقال أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه وثانيها قوله وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ في تأويل هذه الآية قولان الأول التقدير وهو الذي خلق السموات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون والمراد من هذا اليوم يوم القيامة والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون
والوجه الثاني في التأويل أن نقول قوله الْحَقّ مبتدأ و يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظرف دال على الخبر والتقدير قوله الْحَقّ واقع يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ كقولك يوم الجمعة القتال ومعناه القتال واقع يوم الجمعة والمراد من كون قوله حقاً في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث وثالثها قوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ فقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يفيد الحصر والمعنى أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى فالمراد بالكلام الثاني تقريراً لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض
فإن قال قائل قول الله حق في كل وقت وقدرته كاملة في كل وقت فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين
قلنا لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر فكان الأمر كما قال سبحانه وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فلهذا السبب حسن هذا التخصيص ورابعها قوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ تقديره وهو عالم الغيب والشهادة
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين أحدهما كونه قادراً على كل الممكنات والثاني كونه عالماً بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادراً على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضاً منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي والمؤمن بالكافر والصديق بالزنديق فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين
الصفتين كمل الغرض والمقصود فقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ يدل على كمال القدرة وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقاً وأن يكون حكمه صدقاً وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل
ثم قال وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ والمراد من كونه حكيماً أن يكون مصيباً في أفعاله ومن كونه خبيراً كونه عالماً بحقائقها من غير اشتباه ومن غير التباس والله أعلم
المسألة الثانية قد ذكرنا في كثير من هذا الكتاب أنه ليس المراد بقوله كُنْ فَيَكُونُ خطاباً وأمراً لأن ذلك الأمر إن كان للمعدوم فهو محال وإن كان للموجود فهو أمر بأن يصير الموجود موجوداً وهو محال بل المراد منه التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وإيجاد الموجودات
المسألة الثالثة قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر ولاشبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة وذلك القرن يسمى بالصور على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين
القول الأول أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور
والقول الثاني إن الصور جمع صورة والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى وقال أبو عبيدة الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة قال الواحدي رحمه الله أخبرني أبو الفضل العروضي عن الأزهري عن المنذري عن أبي الهيثم أنه قال ادعى قوم أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة وروى ذلك عن أبي عبيدة قال أبو الهيثم وهذا خطأ فاحش لأن الله تعالى قال وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) وقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( ي س 51 الزمر 68 ) فمن قرأ ونفخ في الصور وقرأ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فقد افترى الكذب وبدل كتاب الله وكان أبو عبيدة صاحب أخبار وغرائب ولم يكن له معرفة بالنحو قال الفراء كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه وإذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء لأن جمع هذا الباب سبق واحده ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا صوفة وصوف وبسرة وبسر كما قالوا غرفة وغرف وزلفة وزلف وأما الصور القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال واحدته صورة وإنما تجمع صورة الإنسان صوراً لأن واحدته سبقت جمعه قال الأزهري قد أحسن أبو الهيثم في هذا الكلام ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه وأقول ومما يقوي هذا الوجه أنه لو كان المراد نفخ الروح في تلك الصور لأضاف تعالى ذلك النفخ إلى نفسه لأن نفخ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه كما قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وقال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً وأما نفح الصور بمعنى النفخ في القرن فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كما قال فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) وقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم بالصواب
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَة ً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه كثيراً يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين
واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة كما قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) فإبراهيم وفى بعهد العبودية والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية والثانية قوله تعالى إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وأما التفصيل فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة
فالمقام الأول في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 )
والمقام الثاني مناظرته مع قومه وهو قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ ( الأنعام 76 )
والمقام الثالث مناظرته مع ملك زمانه فقال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ
والمقام الرابع مناظرته مع الكفارة بالفعل وهو قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ( الأنبياء 58 ) ثم إن القوم قالوا حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( الأنبياء 68 ) ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ( الصافات 102 ) فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال فلا جرم أجاب دعاءه وقبل نداءه وجعله مقبولاً لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب
المسألة الثانية اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة لكن الثنوية يثبتون إلهين أحدهما حكيم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشر وأما الاشتغال
بعبادة غير الله ففي الذاهبين إليه كثرة فمنهم عبدة الكواكب وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم قالوا فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل وهؤلاء هم الدهرية الخالصة وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضاً عبدة الأصنام
واعلم أن هنا بحثاً لا بد منه وهو أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( نوح 23 ) وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجوداً قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم خالقاً للسماء والأرض بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل والعلماء ذكروا فيه وجوهاً كثيرة وقد ذكرنا هذا البحث في أول سورة البقرة ولا بأس بأن نعيده ههنا تكثيراً للفوائد
فالتأويل الأول وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر وبين أحوال هذا العالم وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنماً من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم ههنا مقامان أحدهما إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة والثاني أنها بتقدير أنها تفعل شيئاً ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة
والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له
الوجه الثاني في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضاً صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات فلا جرم اتخذوا صوراً وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان
الوجه الثالث في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك ومدبر الجبال ملك آخر ومدبر الغيوم والأمطار ملك ومدبر الأرزاق ملك ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنماً مخصوصاً وهيكلاً مخصوصاً ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة ولنكتف ههنا بهذا القدر من البيان والله أعلم
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر ومنهم من قال اسمه تارح قال الزجاج لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ومن الملحدة من جعل هذا طعناً في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب وللعلماء ههنا مقامان
المقام الأول أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضاً وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن
المقام الثاني سلمنا أن اسمه كان تارح ثم لنا ههنا وجوه
الوجه الأول لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقباله فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم فالله تعالى ذكره بالاسم ويحتمل أن يكون بالعكس وهو أن تارح كان اسماً أصلياً وآزر كان لقباً غالباً فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب
الوجه الثاني أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتم فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطىء كأنه قيل وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطىء كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهو أيضاً فارسية أصلية
واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب
والوجه الثالث أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين أحدهما أنه جعل نفسه مختصاً بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب قال الله تعالى يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الإسراء 71 ) وثانيها أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
الوجه الرابع أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عماله والعم قد يطلق عليه اسم الأب كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) ومعلوم أن إسمعيل كان عماً ليعقوب وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد البتة فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه فلو كان هذا النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم
المسألة الرابعة قالت الشيعة إن أحداً من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافراً وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافراً وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام وما كان والداً له واحتجوا على قولهم بوجوه
الحجة الأولى أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً ويدل عليه وجوه منها قوله تعالى الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ ( الشعراء 218 219 )
قيل معناه إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلماً
فإن قيل قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ يحتمل وجوهاً أخر أحدها إنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الليلة على بيوت الصحابة لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم فالمراد من قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ طوافه صلوات الله عليه تلك الليلة على الساجدين وثانيها المراد أنه عليه السلام كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود وثالثها أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين ورابعها المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه والدليل عليه
قوله عليه السلام ( أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري ) فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية فسقط ما ذكرتم
والجواب لفظ الآية محتمل للكل فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود ومما يدل أيضاً على أن أحداً من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وقال تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وذلك يوجب أن يقال إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين
إذا ثبت هذا فنقول ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً وثبت أن آزر كان مشركاً فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر
الحجة الثانية على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم عليه السلام شافه آزر بالغلظة والجفاء ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم إنما قلنا إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين الأول أنه قرىء وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ بضم آزر وهذا يكون محمولاً على النداء ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء الثاني أنه قال لآزر إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 ) وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء فثبت أنه عليه السلام شافه آزر بالجفاء وإنما قلنا أن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه الأول قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم قال تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ( الإسراء 23 ) وهذا أيضاً عام والثاني أنه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون فههنا الوالد أولى بالرفق الثالث أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب أما التغليظ فإنه يوجب التنفير والبعد عن القبول ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد عليه السلام وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) فكيف يليق بإبراهيم عليه السلام مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة الرابع أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الحلم فقال إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الآب فثبت بهذه الوجوه أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بل كان عماً له فأما والده فهو تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسمعيل بكونه أباً ليعقوب مع أنه كان عماً له وقال عليه السلام ( ردوا علي أبي ) يعني العم العباس وأيضاً يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم عليه السلام وهذا قد يقال له الأب والدليل عليه قوله تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله عِيسَى فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم عليه السلام كان جداً لعيسى من قبل الأم وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافراً وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافراً وكان والد إبراهيم عليه السلام وأيضاً قوله تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إلى قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) وذلك يدل على قولنا وأما قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ قلنا قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه قوله
تحمل هذه الآية على الكل قلنا هذا محال لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز وأما قوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحاً أما قوله التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم عليه السلام قلنا لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط والله أعلم
المسألة الخامسة قرىء ءازَرَ بالنصب وهو عطف بيان لقوله لاِبِيهِ وبالضم على النداء وسألني واحد فقال قرىء ءازَرَ بهاتين القراءتين وأما قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ قرىء هَارُونَ بالنصب وما قرىء البتة بالضم فما الفرق قلت القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى وذلك لائق بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان مصراً على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجراً له عن ذلك القبيح وأما قصة موسى عليه السلام فقد كان موسى عليه السلام يستخلف هرون على قومه فما كان الاستخفاف لائقاً بذلك الموضع فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة
المسألة السادسة اختلف الناس في تفسير لفظ ( الإله ) والأصح أنه هو المعبود وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ وذلك يدل على أن تفسير لفظ ( الإله ) هو المعبود
المسألة السابعة اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين الأول أن قوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا والثاني أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة
المسألة الثامنة احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال لأن ذلك المذهب كان متقدماً على دعوة إبراهيم ولقائل أن يقول إنه كان ضلالاً بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
المسألة الأولى ( الكاف ) في كذلك للتشبيه وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه عليه السلام استقبح عبادة الأصنام وهو قوله إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ والمعنى ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض وههنا دقيقة عقلية وهي أن نور جلال الله
تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السموات بالتمام فقوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ معناه وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى فكان قوله وَكَذالِكَ منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية
المسألة الثانية لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان فكان الأولى أن يقال وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله وَكَذَلِكَ نُرِى
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن يكون تقدير الآية وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصباً للدين الحق فكأنه قيل وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السموات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه
الوجه الثاني في الجواب وهو أعلى وأشرف مما تقدم وهو أنا نقول إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السموات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول سمعت إمام الحرمين يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضاً غير متناهية وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضاً وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل فلهذا السبب والله أعلم لم يقل وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض بل قال وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ والاْرْضِ وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم
المسألة الثالثة الملكوت هو الملك و ( التاء ) للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة
واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين الأول أن الله أراه الملكوت بالعين قالوا إن الله تعالى شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني ورأى ما في السموات من العجائب والبدائع ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع وعن ابن عباس أنه قال لما أسرى بإبراهيم إلى السماء ورأى ما في
السموات وما في الأرض فأبصر عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك فقال الله تعالى له كف عن عبادي فهم بين حالين إما أن أجعل منهم ذرية طيبة أو يتوبون فأغفر لهم أو النار من ورائهم وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه الأول أن أهل السماء هم الملائكة المقربون وهم لا يعصون الله فلا يليق أن يقال إنه لما رفع إلى السماء أبصر عبداً على فاحشة الثاني أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المذنب إلا عن أمر الله تعالى وإذا أذن الله تعالى فيه لم يجز أن يمنعه من إجابة دعائه الثالث أن ذلك الدعاء إما أن يكون صواباً أو خطأً فإن كان صواباً فلم رده في المرة الثانية وإن كان خطأً فلم قبله في المرة الأولى ثم قال وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف دلائل العقول وجب التوقف فيها
والقول الثاني أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر واحتج القائلون بهذا القول بوجوه
الحجة الأولى أن ملكوت السموات عبارة عن ملك السماء والملك عبارة عن القدرة وقدرة الله لا ترى وإنما تعرف بالعقل وهذا كلام قاطع إلا أن يقال المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة
والحجة الثانية أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ ثم فسرها بعد ذلك بقوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال
والحجة الثالثة أنه تعالى قال في آخر الآية وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة وإنما كانت الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم
والحجة الرابعة أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلهاً قادراً على كل الممكنات ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم
والحجة الخامسة أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكذلك قال في حق هذه الأمة سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك
الحجة السادسة أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 )
فحكم على السموات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس وذلك الدليل لو لم يكن عاماً في كل السموات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ فثبت أن ذلك الدليل كان عاماً فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين
الحجة السابعة أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك وقوله تعالى وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نرى إبراهيم ملكوت السوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال
الحجة الثامنة أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال عى الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفاً واحداً فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروماً عن إدراك الحرف الأول أو عن إبصاره فثبت أن رؤية الأشياء الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى ألا ترى أنه تعالى مدح محمداً عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل لا بحسب البصر الظاهر
فإن قيل فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها
قلنا جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه ( اللهم أرنا الأشياء كما هي ) فزال هذا الإشكال والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في ( الواو ) في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وذكروا فيه وجوهاً الأول الواو زائدة والتقدير نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين الثاني أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السموات والأرض الثالث أن الإراءة قد تحصل وتصير سبباً لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( طه 56 ) وقد تصير سبباً لمزيد الهداية واليقين فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال
تعالى في حق إبراهيم عليه السلام إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم
المسألة الخامسة اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين وذلك لوجوه الأول أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم الثاني أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب فكذا ههنا الثالث أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جداً فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى فيصير الإشراق واللمعان أتم وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات وقوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد والله أعلم
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الاٌّ فِلِينَ فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاّكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَة ً قَالَ هَاذَا رَبِّى هَاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ عطف على قوله قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ وقوله وَكَذَلِكَ نُرِى جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله يقال جن عليه الليل وأجنه الليل ويقال لكل ما سترته جن وأجن ويقال أيضاً جنه الليل ولكن الاختيار جن عليه الليل وأجنه الليل هذا قول جميع أهل اللغة ومعنى جَنَّ ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن والمجن وهو المقبور والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار وقال بعض النحويين جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ إذا أظلم عليه الليل ولهذا دخلت ( على ) عليه كما تقول في أظلم فأما جنه فستره من غير تضمين معنى أَظْلَمَ
المسألة الثالثة اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد فحبلت أم إبراهيم به وماأظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام فكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها من ربي فقالت أنا فقال ومن ربك قالت أبوك فقال للأب ومن ربك فقال ملك البلد فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئاً يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء فقال هذا ربي إلى آخر القصة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه ومنهم من قال إن هذا كان قبل البلوغ واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه
الحجة الأولى أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء
الحجة الثانية أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى ( الأنعام 74 )
الحجة الثالثة أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مراراً وأطواراً ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة
الحجة الرابعة أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى ومن كان منصبه في الدين كذلك وعلمه بالله كذلك كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب
الحجة الخامسة أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجهاً وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيباً من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلاً عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء
الحجة السادسة أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 84 ) وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليماً عن الكفر وأيضاً مدحه فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ( الأنبياء 51 ) أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة وقوله وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
الحجة السابعة قوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي وليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين
ثم قال بعده فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ والفاء تقتضي الترتيب فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربه
الحجة الثامنة أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ولم يقل على نفسه فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه
الحجة التاسعة أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار وهذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك فكيف يقول إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم
الحجة العاشرة قال تعالى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ رداً عليهم وتنبيهاً لهم على فساد قولهم
الحجة الحادية عشر أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( هود 54 ) ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار
الحجة الثانية عشرة أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم ثم غربت فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للآلهية وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضاً في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم
فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير فالسؤال غير وارد فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم هذا ربي وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان الأول أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة الأول أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي على سبيل الأخبار بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وآلههم فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله ومثاله أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم فيقول الجسم قديم فإذا كان كذلك فلم نراه ونشاهده مركباً متغيراً فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه فكذا ههنا قال هَاذَا رَبّى والمقصود منه حكاية قول الخصم ثم ذكر غقيبه ما يدل على فساده وهو قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب والدليل عليه أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
والوجه الثاني في التأويل أن نقول قوله هَاذَا رَبّى معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ( طه 97 ) وقال تعالى وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( القصص 62 ) وكان صلوات الله تعالى عليه يقول ( يا إله الآلهة ) والمراد أنه تعالى إله الآلهة في زعمهم وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) أي عند نفسك
والوجه الثالث في الجواب أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه
والوجه الرابع أن يكون القول مضمراً فيه والتقدير قال يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير كقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا ( البقرة 127 ) أي يقولون ربنا وقوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) أي يقولون ما نعبدهم فكذا ههنا التقدير إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه يقولون هذا ربي أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني
والوجه الخامس أن يكون إبراهيم ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوماً هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء
الوجه السادس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أن عند الإكراه يجوز
إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى وأيضاً المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر العظيم ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم ولو ترك الصلاة وقاتل استحق الثواب بل نقول أن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ ذلك الطفل أو ذلك الأعمى عن ذلك البلاء فكذا ههنا أن إبراهيم عليه السلام تكلم بهذه الكلمة ليظهر من نفسه موافقة القوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم لذلك الدليل أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل ومما يقوي هذا الوجه أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( الصافات 88 90 ) وذلك لأنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن ومقصوده أن يتوسل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام فإذا جازت الموافقة في الظاهر ههنا مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك وأيضاً المتكلمون قالوا إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعى الإلهية لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يحصل فيه التلبيس بسبب ظهور تلك الخوارق على يده ولكن لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوة لأنه يوجب التلبيس فكذا ههنا وقوله هَاذَا رَبّى لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي إظهاره هذه الكلمة منفعة عظيمة وهي استدراجهم لقبول الدليل فكان جائزاً والله أعلم
الوجه السابع أن القوم لما دعوه إلى عبادة النجوم فكانوا في تلك المناظرة إلى أن طلع النجم الدري فقال إبراهيم عليه السلام هَاذَا رَبّى أي هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ثم سكت زماناً حتى أفل ثم قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ فهذا تمام تقرير هذه الأجوبة على الاحتمال الأول وهو أنه صلوات الله عليه ذكر هذا الكلام بعد البلوغ
أما الاحتمال الثاني وهو أنه ذكره قبل البلوغ وعند القرب منه فتقريره أنه تعالى كان قد خص إبراهيم بالعقل الكامل والقريحة الصافية فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هَاذَا رَبّى فلما شاهد حركته قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا البحث فقال في الحال إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ فهذا الاحتمال لا بأس به وإن كان الاحتمال الأول أولى بالقبول لما ذكرنا من الدلائل الكثيرة على أن هذه المناظرة إنما جرت لإبراهيم عليه السلام وقت اشتغاله بدعوة القوم إلى التوحيد والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو وورش عن نافع رئى بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما فإذا كان بعد الألف كاف أو هاء نحو رآك ورآها فحينئذ يكسرها حمزة والكسائي ويفتحها ابن عامر وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم مثل حمزة والكسائي فإذا تلته ألف وصل نحو رأى الشمس ورأى القمر فإن حمزة ويحيى عن أبي بكر ونصر عن الكسائي يكسرون الراء ويفتحون
الهمزة والباقون يقرؤن جميع ذلك بفتح الراء والهمزة واتفقوا في رأوك ورأوه أنه بالفتح قال الواحدي أما من فتح الراء والهمزة فعلته واضحة وهي ترك الألف على الأصل نحو رعى ورمى وأما من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسر ليميل الألف التي في رأى نحو الياء ترك الراء مفتوحة على الأصل وأما من كسرهما جيمعاً فلأجل أن تصير حركة الراء مشابهة لحركة الهمزة والواحدي طول في هذا الباب في ( كتاب البسيط ) فليرجع إليه والله أعلم
المسألة الخامسة القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة وقال القاضي كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم
المسألة السادسة أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون رباً له وخالقاً له ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين أحدهما أن الأفول ما هو والثاني أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب فنقول الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره
وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضاً دليلاً على الحدوث فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول
والجواب لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهراً جلياً بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم وأيضاً قال بعض المحققين الهوى في خطرة الإمكان أفول وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزهاً عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال الاوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلهاً بل الأله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين
وفيه دقيقة أخرى وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن
الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعداً إلى وسط السماء كان قوياً عظيماً التأثير أما إذا كان غريباً وقريباً من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزاً عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجباً للقدح في إلهيته والله أعلم
أما المقام الثاني وهو بيان أن كوكب الكوكب آفلاً يمنع من ربوبيته فلقائل أيضاً أن يقول أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالاً على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه رباً لإبراهيم ومعبوداً له ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسايط يقولون أن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أرباباً للإنسان وآلهة لهذا العالم والجواب لنا ههنا مقامان
المقام الأول أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثاً فإنه يكون في وجوده محتاجاً إلى الغير وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أرباباً وآلهة بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أرباباً وآلهة بهذا التفسير
المقام الثاني أن يكون المراد من الرب والإله من يكون خالقاً لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنقول أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه الأول أن أفولها يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن قادريته أزلية
وإذا ثبت هذا فنقول الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدوراً له باعتبار إمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدوراً لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدروة لله تعالى
وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينة في علم الأصول
فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة وأيضاً فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات فأما التفريع والتفصيل فذاك إنما يليق بعلم الجدل فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع فلهذا السبب استدل إبراهيم عليه السلام بأفولها على امتناع كونها أرباباً وآلهة لحوادث هذا العالم
الوجه الثاني أن أفول الكواكب يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب ومن كان قادراً على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادراً على خلق الإنسان أولى لأن القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادراً على خلق الشيء الأضعف وإليه الإشارة بقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) وبقوله أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر
الوجه الثالث أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكاً في معرفة خالقه أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأرباباً للحيوان والإنسان والله أعلم فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل
فإن قيل لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السابق والنهار السابق وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة
والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل فأعاد عليهم ذلك الكلام وكذا القول في الشمس فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه
المسألة السادسة تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك وكان أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها وزعم أن المراد من قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود
واعلم أن هذا الكلام لا بأس به إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها والله أعلم
المسألة السابعة دل قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ على أحكام