كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
وقال عبد الله بن الحسن العنبري يأكل منها ما يسد جوعه وعن مالك يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها طرحها والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه فكذا ههنا ويدل عليه أيضاً أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن يحرم عليه الأكل بعد ذلك
المسألة الثالثة اختلفوا في المضطر إذا وجد كل ما يعد من المحرمات فالأكثرون من العلماء خيروه بين الكل لأن الميتة والدم ولحم الخنزير سواء في التحريم والاضطرار فوجب أن يكون مخيراً في الكل وهذا هو الأليق بظاهر هذه الآية وهو أولى من قول من أوجب أن يتناول الميتة دون لحم الخنزير أعظم شأناً في التحريم
المسألة الرابعة اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمراً أو من غص بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر فمنهم من أباحه بالقياس على هذه الصورة فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعاً للهلاك عنها فكذلك في هذه الصورة وهذا هو الأقرب إلى الظاهر والقياس وهو قول سعيد بن جبير وأبي حنيفة وقال الشافعي رضي الله عنه لا يشرب لأنه يزيده عطشاً وجوعاً ويذهب عقله وأجيب عنه بأن قوله لا يزيده إلا عطشاً وجوعاً مكابرة وقوله يزيل العقل فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك
المسألة الخامسة اختلفوا إذا كانت الميتة يحتاج إلى تناولها للعلاج إما بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة فأباحه بعضهم للنص والمعنى أما النص فهو أنه أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي وأما المعنى فمن وجوه الأول أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي مستطاب فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص ولكن لا يقدح في كونه حجة الثاني أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة للحاجة الثالث أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا ههنا ومن الناس من حرمه واحتج بقوله عليه السلام ( إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ) وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه تناوله والنزاع ليس إلا فيه
المسألة السادسة اختلفوا في التداوي بالخمر واعلم أن الحاجة إلى ذلك التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة فإن لم تنته إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة
الحكم الثاني
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبي ياسر بن أخطب كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمر محمد عليه السلام وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية اختلفوا في أنهم أي شيء كانوا يكتمون فقيل كانوا يكتمون صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونعته والبشارة به وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي مسلم وقال الحسن كتموا الأحكام وهو قوله تعالى إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 )
المسألة الثالثة اختلفوا في كيفية الكتمان فالمروى عن ابن عباس أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل وعند المتكلمين هذا ممتنع لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد عليه السلام فهذا هو المراد من الكتمان فيصير المعنى إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب
أما قوله تعالى وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ففيه مسائل
المسألة الأولى الكناية في به يجوز أن تعود إلى الكتمان والفعل يدل على المصدر ويحتمل أن تكون عائدة إلى ما أنزل الله ويحتمل أن تكون عائدة إلى المكتوم
المسألة الثانية معنى قوله وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا كقوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) وقد مر ذلك وبالجملة فكان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال بسبب ذلك فهذا هو المراد من اشترائهم بذلك ثمناً قليلاً
المسألة الثالثة إنما سماه قليلاً إما لأنه في نفسه قليل وإما لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل
المسألة الرابعة من الناس من قال كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم وقال آخرون بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب وليس في الظاهر أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه فهذا هو معلوم بالعادة واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الحكاية عنهم ذكر الوعيد على ذلك من وجوه أولها قوله تعالى أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم ذكر البطن ههنا زيادة بيان لأنه يقال أكل فلان المال إذا بدره وأفسده وقال آخرون بل فيه فائدة فقوله فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم يقال أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه
المسألة الثانية قيل إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيباً في الحال فعاقبته النار فوصف بذلك كقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) عن الحسن والربيع وجماعة من أهل العلم وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار كما روي في حديث آخر ( الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وقوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا ( يوسف 36 ) أي عنباً فسماه بإسم ما يؤول إليه وقيل إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثالثها قوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ فظاهره أنه لا يكلمهم أصلا لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم وذلك قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 93 ) وقوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين والسؤال لا يكون إلا بكلام فقالوا وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة وبقوله اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) الثاني أنه تعالى لا يكلمهم وأما قوله تعالى فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكوراً في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه وضده في أعدائه ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد الثالث أن قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ استعارة عن الغضب لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث وثالثها قوله وَلاَ يُزَكّيهِمْ وفيه وجوه الأول لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم الثاني لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء الثالث لا ينزلهم منازل الأزكياء ورابعها قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أن الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم واعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل
المسألة الأولى أن علماء الأصول قالوا العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يُزَكّيهِمْ إشارة إلى الإهانة والاستخفاف وقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيهاً على أن الإهانة أشق وأصعب
المسألة الثانية دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره
المسألة الثالثة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله اعلم
أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَة ِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
اعلم أنه تعالى لما وصف علماء اليهود بكتمان الحق وعظم في الوعيد عليه وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم واعلم أن الفعل إما أن يعتبر حاله في الدنيا أو في الآخرة أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضلال والجهل فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا ورضوا بالضلال والجهل فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة وأخسرها العذاب فلما تركوا المغفرة ورضوا بالعذاب فلا شك أنهم في نهاية الخسارة في الآخرة وإذا كانت صفتهم على ما ذكرناه كانوا لا محالة أعظم الناس خساراً في الدنيا وفي الآخرة وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم استروا العذاب بالمغفرة لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب وفي إخفائه وإلقاء الشبهة فيه أعظم العقاب فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة
أما قوله فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في هذه اللفظة قولان أحدهما أن مَا في هذه الآية استفهام التوبيخ معناه ما الذي أصبرهم وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وهذا قول عطاء وابن زيد وقال ابن الأنباري وقد يكون أصبر بمعنى صبر وكثيراً ما يكون أفعل بمعنى فعل نحو أكرم وكرم وأخبر وخبر الثاني أنه بمعنى التعجب وتقريره أن الراضي بموجب الشيء لا بد وأن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم فلما أقدموا على ما يوجب النار ويقتضي عذاب الله مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بعذاب الله تعالى والصابرين عليه فلهذا قال تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان ما أصبرك على التقيد والسجن إذا عرفت هذا ظهر أنه يجب حمل قوله فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ على حالهم في الدنيا لأن ذلك وصف لهم في حال التكليف وفي حال اشترائهم الضلالة بالهدى وقال الأصم المراد أنه إذا قيل لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) فهم يسكتون
ويصبرون على النار لليأس من الخلاص وهذا ضعيف لوجوه أحدها أن الله تعالى وصفهم بذلك في الحال فصرفه إلى أنهم سيصيرون كذلك خلاف الظاهر وثانيها أن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة
المسألة الثانية في حقيقة التعجب وفي الألفاظ الدالة عليه في اللغة وههنا بحثان
البحث الأول في التعجب وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خقاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ( الصافات 12 ) بضم التاء من عجبت فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال قال النخعي معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى لا بالمعني الذي يضاف إلى العباد
البحث الثاني اعلم أن للتعجب صيغتين أحدهما ما أفعله كقوله تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ والثاني أفعل به كقوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ( مريم 38 )
أما العبارة الأولى وهي قولهم ما أصبره ففيها مذاهب
القول الأول وهو اختيار البصريين أن مَا اسم مبهم يرتفع بالابتداء وأحسن فعل وهو خبر المبتدأ وزيداً مفعول وتقديره شيء حسن زيدا أي صيره حسناً
واعلم أن هذا القول عند الكوفيين فاسداً واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه يصح أن يقال ما أكرم الله وما أعظمه وما أعلمه وكذا القول في سائر صفاته ويستحيل أن يقال شيء جعل الله كريما وعظيماً وعالماً لأن صفات الله سبحانه وتعالى واجبة لذاته فإن قيل هذه اللفظة إذا أطلقت فيما يجوز عليه الحدوث كان المراد منه الاستعظام مع خفاء سببه وإذا أطلقت على الله تعالى كان المراد منه أحد شطريه وهو الاستعظام فحسب قلنا إذا قلنا ما أعظم الله فكلمة مَا ههنا ليست بمعنى شيء فلا تكون مبتدأ ولا يكون أعظم خبراً عنه فلا بد من صرفه إلى وجه آخر وإذا كان كذلك ثبت أن تفسير هذه الآية بهذه الأشياء في مقام التعجب غير صحيح
الحجة الثانية أنه لو كان معنى قولنا ما أحسن زيداً شيء حسن زيداً لوجب أن يبقى معنى التعجب إذا صرحنا بهذا الكلام ومعلوم أنا إذا قلنا شيء حسن زيداً فإنه لا يبقى فيه معنى التعجب ألبتة بل كان ذلك كالهذيان فعلمنا أنه لا يجوز تفسير قولنا ما أحسن زيداً بقولنا شيء حسن زيداً
الحجة الثالثة أن الذي حسن زيداً والشمس والقمر والعالم هو الله سبحانه وتعالى ولا يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أولى فكان ينبغي أنا لو قلنا من أحسن زيداً أن يبقى معنى التعجب ولما لم يبق علمنا فساد ما قالوه
الحجة الرابعة أن على التفسير الذي قالوا لا فرق بين قوله ما أحسن زيداً وبين قوله زيداً ضرب عمرا فكما أن هذا ليس بتعجب وجب أن يكون الأول كذلك
الحجة الخامسة أن كل صفة ثبتت للشيء فثبوتها له إما أن يكون له من نفسه أو من غيره فإذا كان المؤثر في تلك الصفة نفسه أو غيره وعلى التقديرين فشيء صيره حسناً إما أن يكون ذلك الشيء هو نفسه أو غيره فإذن العلم بأن شيئاً صيره حسناً علم ضروري والعلم بكونه متعجباً منه غير ضروري فاذن لا يجوز تفسير قولنا ما أحسن زيداً بقولنا شيء حسن زيداً
الحجة السادسة أنهم قالوا المبتدأ لا يجوز أن يكون نكرة فكيف جعلوا ههنا أشد الأشياء تنكيراً مبتدأ وقالوا لا يجوز أن يقال رجل كاتب لأن كل أحد يعلم أن في الدنيا رجلاً كاتباً فلا يكون هذا الكلام مفيداً وكذا كل أحد يعلم أن شيئاً ما هو الذي حسن زيداً فأي فائدة في هذا الإخبار
الحجة السابعة دخول التصغير الذي هو من خاصية الأسماء في قولك ما أحسن زيداً فإن قيل جواز دخول التصغير إنما كان لأن هذا الفعل قد لزم طريقة واحدة فصار مشابهاً للاسم فأخذ خاصيته وهو التصغير قلنا لا شك أن للفعل ماهية وللتصغير ماهية فهاتان الماهيتان إما أن يكونا متنافيتين أو لا يكون متنافيتين فإن كانتا متنافيتين استحال اجتماعهما في كل المواضع فحيث اجتماعهما ههنا علمنا أن هذا ليس بفعل وإن لم يكونا متنافيتين وجب صحة تطرق التصغير إلى كل الأفعال ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم
الحجة الثامنة تصحيح هذه اللفظة وإبطال إعلاله فإنك تقول في التعجب ما أقوم زيداً بتصحيح الواو كما تقول زيد أقوم من عمرو ولو كانت فعلا لكانت واوه ألفاً لفتحة ما قبلها ألا تراهم يقولون أقام يقيم فإن قيل هذه اللفظة لما لزمت طريقة واحدة صارت بمنزلة الاسم وتمام التقرير أن الإعلال في الأفعال ما كان لعلة كونها فعلا ولا التصحيح في الأسماء لعلة الإسمية بل كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة عند وجوب كثرة التصرف وعدم الإعلال في الأسماء لعدم التصرف وهذا الفعل بمنزلة الاسم في علة التصحيح والإمتناع من الإعلال قلنا لما كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة فكان ينبغي أن يجعل خفيفاً ثم يترك على خفته فإن هذا أقرب إلى العقل
الحجة التاسعة أن قولك أحسن لو كان فعلاً وقولك زيداً مفعولا لجاز الفصل بينهما يا لظرف فيقال ما أحسن عندك زيداً وما أجمل اليوم عبد الله والرواية الظاهرة أن ذلك غير جائز فبطل ما ذهبتم إليه
الحجة العاشرة أن الأمر لو كان على ما ذكرتم لكان ينبغي أن يجوز التعجب بكل فعل متعد مجرداً كان أو مزيداً ثلاثياً كان أو رباعياً وحيث لم يجز إلا من الثلاثي المجرد دل على فساد هذا القول واحتج البصريون على أن أحسن في قولنا ما أحسن زيداً فعل بوجوه أولها بأن أحسن فعل بالاتفاق فنحن على فعليته إلى قيام الدليل الصارف عنه وثانيها أن أحسن مفتوح الآخر ولو كان اسماً لوجب أن يرتفع إذا كان خبراً لمبتدأ وثالثها الدليل على كونه فعلاً اتصال الضمير المنصوب به وهو قولك ما أحسنه
والجواب عن الأول أن أحسن كما أنه قد يكون فعلاً فهو أيضاً قد يكون اسماً حين ما يكون كلمة تفضيل وأيضاً فقد دللنا بالوجوه الكثيرة على أنه لا يجوز أن يكون فعلاً وأنتم ماطلبتمونا إلا بالدلالة
والجواب عن الثاني أنا سنذكر العلة في لزوم الفتحة لآخر هذه الكلمة
والجواب عن الثالث أنه منتقض بقولك لعلي وليتني والعجب أن الاستدلال بالتصغير على الإسمية أقوى من الإستدلال بهذا الضمير على الفعلية فإذا تركتم ذلك الدليل القوي فبأن تتركوا هذا الضعيف أولى فهذا جملة الكلام في هذا القول
القول الثاني وهو اختيار الأخفش قال القياس أن يجعل المذكور بعد كلمة مَا وهو قولك أحسن صلة لما ويكون خبر مَا مضمراً وهذا أيضاً ضعيف لأكثر الوجوه المذكورة منها أنك لو قلت الذي أحسن زيداً ليس هو بكلام منتظم وقولك ما أحسن زيداً كلام منتظم وكذا القول في بقية الوجوه
القول الثالث وهو اختيار الفراء أن كلمة مَا للاستفهام وأفعل اسم وهو للتفضيل كقولك زيد أحسن من عمرو ومعناه أي شيء أحسن من زيد فهو استفهام تحته إنكار أنه وجد شيء أحسن منه كما يقول من أخبر عن علم إنسان فأنكره غيره فيقول هذا المخبر ومن أعلم من فلان إظهاراً منه ما يدعيه منازعه على خلاف الحق وأن لا يمكنه إقامة الدليل عليه ويظهر عجزه في ذلك عند مطالبتي إياه بالدليل ثم قولك أحسن وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعاً كما في قولك ما أحسن زيد إذا استفهمت عن أحسن عضو من أعضائه إلا أنه نصب ليقع الفرق بين ذلك الاستفهام وبين هذا فإن هناك معنى قولك ما أحسن زيد أي عضو من زيد أحسن وفي هذا معناه أي شيء من الموجودات في العالم أحسن من زيد وبينهما فرق كما ترى واختلاف الحركات موضوع للدلالة على اختلاف المعاني والنصب قولنا زيداً أيضاً للفرق لأنه هناك خفض لأنه أضيف أحسن إليه ونصب هنا للفرق وأيضاً ففي كل تفضيل معنى الفعل وفي كل ما فضل عليه غيره معنى المفعول فإن معنى قولك زيد أعلم من عمرو أن زيداً جاوز عمراً في العلم فجعل هذا المعنى معتبراً عند الحاجة إلى الفرق
القول الرابع وهو أيضاً قول بعض الكوفيين قال إن مَا للاستفهام وأحسن فعل كما يقوله البصريون معناه أي شيء حسن زيداً كأنك تستدل بكمال هذا الحسن على كمال فاعل هذا الحسن ثم تقول إن عقلي لا يحيط بكنه كماله فتسأل غيرك أن يشرح لك كماله فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
وأما تحقيق الكلام في أفعل به فسنذكره إن شاء الله في قوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ( مريم 38 )
ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله ذالِكَ إشارة إلى ماذا فذكروا وجهين
الأول أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد لأنه تعلى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد ثم قد تقدم في وعيدهم أمور أحدها أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة وثانيها اشتروا الضلالة بالهدى
وثالثها أن لهم عذاباً أليماً ورابعها أن الله لا يزكيهم وخامسها أن الله لا يكلمهم فقوله ذالِكَ يصلح أن يكون إشارة إلى كل واحد من هذه الأشياء وأن يكون إشارة إلى مجموعها
الثاني أن ذالِكَ إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله وكتمانهم ما أنزل الله تعالى فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر كما قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الثانية قوله ذالِكَ يحتمل أن يكون في محل الرفع أو في محل النصب أما في محل الرفع بأن يكون مبتدأ ولا محالة له خبر وذلك الخبر وجهان الأول التقدير ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فبين فيه وعيد من فعل هذه الأشياء فكان هذا الوعيد معلوماً لهم لا محالة الثاني التقدير ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب وكفروا به فيكون الباء في محل الرفع بالخبرية وأما في محل النصب فلأن التقدير فعلنا ذلك بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق وهم قد حرفوه
المسألة الثالثة المراد من الكتاب يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون هو القرآن فإن كان الأول كان المعنى وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد وإن كان الثاني كان المعنى وإن الذين اختلفوا في كونه حقاً منزلاً من عند الله لفي شقاق بعيد
المسألة الرابعة قوله بِالْحَقّ أي بالصدق وقيل ببيان الحق
وقوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فيه مسألتان
المسألة الأولى إن الذين اختلفوا قيل هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيهما لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم أما قوله بِالْحَقّ فقيل بالصدق وقيل ببيان الحق وأما قوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ فاعلم أنا وإن قلنا المراد من الكتاب هو القرآن كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال إنه كهانة وآخرون قالوا إنه سحر وثالث قال رجز ورابع قال إنه أساطير الأولين وخامس قال إنه كلام منقول مختلق وإن قلنا المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاً أحدها أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح فاليهود قالوا إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته وثانيها أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر كل واحد منهم له تأويلاً آخر فاسداً لأن الشيء إذا لم يكن حقاً واجب القبول بل كان متكلفاً كان كل أحد يذكر شيئاً آخر على خلاف قول صاحبه فكان هذا هو الإختلاف
وثالثها ما ذكره أبو مسلم فقال قوله اخْتَلَفُواْ من باب افتعل الذي يكون مكان فعل كما يقال كسب واكتسب وعمل واعتمل وكتب واكتتب وفعل وافتعل ويكون معنى قوله الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَابِ الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ( الأعراف 169 ) وقوله إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( يونس 6 ) أي كل واحد يأتي خلف الآخر وقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( الفرقان 62 ) أي كل واحد منهما يخلف الآخر وفي الآية تأويل ثالث وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس ما أنزل الله والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن
أما قوله لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ ففيه وجوه أحدها أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة وثانيها كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد وثالثها أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحاً فيك ألبتة والله أعلم
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَواة َ وَءَاتَى الزَّكَواة َ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص فقال بعضهم أراد بقوله لَّيْسَ الْبِرَّ أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله وقال بعضهم بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى
الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم بل هو خطاب للكل لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الإغتباط بهذه القبلة وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً وإنما البر كيت وكيت وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال ليس البر المطلوب هو أمر القبلة بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها
المسألة الثانية الأكثرون على أن لَّيْسَ فعل ومنهم من أنكره وزعم أنه حرف حجة من قال إنها فعل اتصال الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال كقولك لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين وهذه الحجة منقوضة بقوله إنني وليتني ولعل وحجة المنكرين أولها أنها لو كانت فعلاً لكانت ماضياً ولا يجوز أن تكون فعلاً ماضياً فلا يجوز أن تكون فعلاً بيان الملازمة أن كل من قال إنه فعل قال إنه فعل ماض وبيان أنه لا يجوز أن يكون فعلاً ماضياً اتفاق الجمهور على أنه لنفي الحال ولو كان ماضياً لكان لنفي الماضي لا لنفي الحال وثانيها أنه يدخل على الفعل فنقول ليس يخرج زيد والفعل لا يدخل على الفعل عقلاً ونقلاً وقول من قال إن لَّيْسَ داخل على ضمير القصة والشأن وهذه الجملة تفسير لذلك الضمير ضعيف فإنه لو جاز ذلك جاز مثله في مَا وثالثها أن الحرف مَا يظهر معناه في غيره وهذه الكملة كذلك فإنك لو قلت ليس زيد لم يتم الكلام بل لا بد وأن تقول ليس زيد قائماً ورابعها أن لَّيْسَ لو كان فعلاً لكان مَا فعلاً وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة أن لَّيْسَ لو كان فعلاً لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السلب مقروناً بزمان مخصوص وهو الحال وهذا المعنى قائم في مَا فوجب أن يكون مَا فعلاً فلما لم يكن هذا فعلاً فكذا القول ذلك أو نذكر هذا المعنى بعبارة أخرى فنقول لَّيْسَ كلمة جامدة وضعت لنفي الحال فأشبهت مَا في نفي الفعلية وخامسها إنك تصل مَا بالأفعال الماضية فتقول ما أحسن زيد ولا يجوز أن تصل مَا بليس فلا تقول ما ليس زيد يذكرك سادسها أنه على غير أوزان الفعل لأن فعل غير موجود في أبنية الفعل فكان في القول بأنه فعل إثبات ما ليس من أوزان الفعل
فإن قيل أصله ليس مثل صيد البعير إلا أنهم خفوه وألزموه التخفيف لأنه لا يتصرف للزومه حالة واحدة وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدل عليها وجعلوا للبناء الذي خصوه به ماضياً لأنه أخف الأبنية
قلنا هذا كله خلاف الأصل فالأصل عدمه ولأن الأصل في الفعل التصرف فلما منعوه التصرف كان من الواجب أن يبقوه على بنائه الأصلي لئلا يتوالى عليه النقصانات فأما أن يجعل منع التصرف الذي هو خلاف الأصل علة لتغير البناء الذي هو أيضاً خلاف الأصل فذاك فاسد جداً وسابعها ذكر القتيبي أنها كلمة مركبة من الحروف النافي الذي هو لا و أيس أي موجود قال ولذلك يقولون أخرجه من الليسية إلى الأيسية أي من العدم إلى الوجود وأيسته أي وجدته وهذا نص في الباب قال وذكر الخليل أن لَّيْسَ كلمة جحود معناها لا أيس فطرحت الهمزة استخفافاً لكثرة ما يجري في الكلام والدليل عليه قول العرب ائتني به من حيث أيس وليس ومعناه من حيث هو ولا هو وثامنها الإستقراء دل على أن الفعل إنما يوضع لإثبات المصدر وهذا إنما يفيد السلب أو لا يكون فعلاً فإن قيل ينتقض قولكم بقوله نفى زيداً
وأعدمه قلنا قولك نفى زيداً مشتق من النفي فقولك نفي دل على حصول معنى النفي فكانت الصيغة الفعلية دالة تحقق مصدرها فلم يكن السؤال وارداً وأما القائلون بأن لَّيْسَ فعل فقد تكلفوا في الجواب عن الكلام الأول بأن لَّيْسَ قد يجيء لنفي الماضي كقولهم جاءني القوم ليس زيداً وَعَنِ أنه منقوض بقولهم أخذ يفعل كذا وعن الثالث أنه منقوض بسائر الأفعال الناقصة وعن الرابع أن المشابهة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة وعن الخامس أن لك إنما امتنع من قبل أن ما للحال وَالْحَجّ وَلَيْسَ للماضي فلا يكون الجمع بينهما وعن السادس أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه ضرورة العمل بما ذكرنا من الدليل وعن السابع أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم وأما قوله من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن أن أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم وأما قوله من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن أن لَّيْسَ مشتق من الليسية فهي دالة على تقرير معنى الليسية فهذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة وإن كانت هذه الجوابات مختلفة
المسألة الثالثة قرأ حمزة وحفص عن عاصم لَّيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء والباقون بالرفع قال الواحدي وكلا القراءتين حسن لأن اسم لَّيْسَ وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسماً والآخر خبراً وحجة من رفع الْبَرّ أن اسم لَّيْسَ مشبه بالفاعل وخبرها بالمفعول والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول ومن نصب الْبَرّ ذهب إلى أن بعض النحويين قال ءانٍ مع صلتها أولى أن تكون اسم لَّيْسَ لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر فكان ههنا اجتمع مضمر ومظهر والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الإسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر وعلى هذا قرىء في التنزيل قوله كَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ ( الحشر 12 ) وقوله مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ ( الأعراف 82 ) وَمَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( الجاثية 25 ) والاختيار رفع البر لأنه روي عن ابن مسعور أنه قرأ لَّيْسَ الْبِرَّ بِأَنَّ والباء تدخل في خبر ليس
المسألة الرابعة البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى ومن هذا بر الوالدين قال تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 13 14 ) فجعل البر ضد الفجور وقال وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( المائدة 2 ) فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه
المسألة الخامسة قال القفال قد قيل في نزول هذه الآية أقوال والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب والنصارى كانوا يستقبلون المشرق فقال الله تعالى إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور أحدها الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك أما اليهود فقولهم بالتجسيم ولقولهم بأن عزيراً ابن الله وأما النصارى فقولهم المسيح ابن الله ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 )
وثانيها الإيمان باليوم الآخر واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) والنصارى أنكروا المعاد الجسماني وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر وثالثها الإيمان بالملائكة واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبرل عليه السلام ورابعها الإيمان بكتب الله واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ( البقرة 85 ) وخامسها الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء على ما قال تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ( البقرة 61 ) وحيث طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسادسها بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( البقرة 187 ) وسابعها إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها وثامنها الوفاء بالعهد واليهود نقضوا العهد حيث قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وههنا سؤال وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال الأول أن قوله لَّيْسَ الْبِرَّ نفي لكمال البر وليس نفياً لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها فلا يكون ذلك تمام البر الثاني أن يكون هذا نفياً لأصل كونه براً لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك بل كان ذلك إثماً وفجوراً لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر الثالث أن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم يقارنه معرفة الله وإنما يكون براً إذا أتي به مع الإيمان وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط فإنها لا تكون من أفعال البر روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعي بطاعة الله إلا الإستقبال فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين
المسألة السادسة قوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ أُمَمٌ بِاللَّهِ فيه حذف وفي كفيته وجوه أحدها ولكن البر بر من آمن بالله فحذف المضاف وهو كثير في الكلام كقوله وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ( البقرة 93 ) أي حب العجل ويقولون الجود حاتم والشعر زهير والشجاعة عنترة وهذا اختيار الفراء والزجاج وقطرب قال أبو علي ومثل هذه الآية قوله أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجّ ( التوبة 19 ) ثم قال كَمَنْ ءامَنَ ( التوبة 19 ) وتقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ليقع التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين إذا لا يقع التمثيل بين مصدر وفاعل وثانيها قال أبو عبيدة البر ههنا بمعنى الباء كقوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلتَّقْوَى ( طه 132 ) أي للمتقين ومنه قوله إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُهَا غَوْرًا
( الملك 30 ) أي غائراً وقالت الخنساء فإنما هي إقبال وإدبار
أي مقبلة ومدبرة معاً وثالثها أن معناه ولكن ذا البر فحذف كقولهم هم درجات عند الله أي ذووا درجات عن الزجاج ورابعها التقدير ولكن البر يحصل بالإيمان وكذا وكذا عن المفصل
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى مقصود الكلام فيكون معناه ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب العظيم بر من آمن بالله وعن المبرد لو كنت ممن يقرأ القرآن بقراءته لقرأت وَلَاكِنَّ الْبِرَّ بفتح الباء وقرأ نافع وابن عامر وَلَاكِنِ مخففة الْبَرّ بالرفع والباقون لَكِنِ مشددة الْبَرّ بالنصب
المسألة السابعة اعلم أن الله تعالى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراً الأول الإيمان بأمور خمسة أولها الإيمان بالله ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها فيدخل فيه العلم بحدوث العالم والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه وكونه عالماً بكل المعلومات قادراً على كل الممكنات حياً مريداً سمعياً بصيراً متكلماً ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل وثانيها الإيمان باليوم الآخر وهذا الإيمان مفرع على الأول لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب وخامسها الإيمان بالرسل وههنا سؤالات
السؤال الأول إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب إلا بواسطة صدق الرسل فإذا كانت قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل
الجواب أن الأمل وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بواسطة تبليغة نزول الكتب ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول فالمراعي في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي لا ترتيب الاعتبار الذهني
السؤال الثاني لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة
الجواب لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن صدق به فقد دخل تحت الإيمان بالله معرفته بتوحيده وعدله وحكمته ودخل تحت اليوم الآخر المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد إلى سائر ما يتصل بذلك ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ودخل تحت الكتاب القرآن وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم وصحة شرائعهم فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية وتقرير آخر وهو أن للمكلف مبدأ ووسطاً ونهاية ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات
وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة الملائكة الآتين بالوحي ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب والموحي إليه وهي الرسول
السؤال الثالث لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح وهو إيتاء المال والصلاة والزكاة
الجواب للتنبيه على أن أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله عَلَى حُبّهِ إلى ماذا يرجع وذكروا فيه وجوهاً الأول وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال والتقدير وآتى المال على حب المال قال ابن عباس وابن مسعود وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغني وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت والعقل يدل على ذلك أيضاً من وجوه أحدها أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وثانيها أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت وثالثها أن إعطاءه حال الصحة أشق فيكون أكثر ثواباً قياساً على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني ورابعها أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفاً من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعاً وراغباً فكذا ههنا وخامسها أنه متأيد بقوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وقوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 80 ) أي على حب الطعام وعن أبي الدرداء أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعدما شبع )
القول الثاني أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله
القول الثالث أن الضمير عائد على اسم الله تعالى يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته
المسألة الثانية اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم إنها الزكاة وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا فثبت أن المراد به غير الزكاة ثم إنه لا يخلوا إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات لا جائز أن يكون من التطوعات لأنه تعالى قال في آخر الآية أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقف التقوى عليه ولو كان ذلك ندباً لما وقف التقوى عليه فثبت أن هذا الإيتاء وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات ثم فيه قولان
القول الأول أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام ( لايؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره طاو إلى جنبه ) وروي عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة ثم تلت وآتى المال على حبه
وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه فقال نعم يصل القرابة ويعطي السائل ثم تلا هذه الآية وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إن الزكاة نسخت كل حق
والجواب من وجوه الأول أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( في المال حقوق سوى الزكاة ) وقول الرسول أولى من قول علي الثاني أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال الثالث المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة أما الذي لا يكون مقدراً فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة ويلزم النفقة على الأقارب وعلى المملوك وذلك غير مقدر فإن قيل هب أنه صح هذا التأويل لكن ما الحكمة في هذا الترتيب قلنا فيه وجوه أحدها أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريباً فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعاً بين الصلة والصدقة ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( آل عمران 180 ) الآية وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم فلهذه الوجوه قدم ذا القربى ثم أتبعه تعالى باليتامى لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره وثانيها أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب ثم بحاجة الأيتام ثم بحاجة المساكين ثم على هذا النسق وثالثها أن ذا القربى مسكين وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ثم باليتامى وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما فأما ابن السبيل فقد يكون غنياً وقد تشتد حاجته في الوقت والسائل قد يكون غنياً ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة
القول الثاني أن المراد بإيتاء الماء ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره للإبل قال ( إن فيها حقاً ) هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها وهذا بعيد لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب
القول الثالث أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً ثم إنه صار منسوخاً بالزكاة وهذا أيضاً ضعيف لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة
المسألة الثالثة أما ذوو القربى فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة
والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين وهو الصحيح لأنهم به أخص ونظيره قوله تعالى وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة ِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى ( النور 22 )
واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى قال لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئاً بل إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظه وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه هذا كله على قول من قال اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر وعند أصحابنا هذا الإسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( النساء 20 ) ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسمى يتيم أبي طالب بعد بلوغه فعلى هذا إن كان اليتيم بالغاً دفع المال إليه وإلا فيدفع إلى وليه وأما المساكين ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في سورة التوبة والذي نقوله هنا إن المساكين أهل الحاجة ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله وَالسَّائِلِينَ وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته وأما ابن السبيل فروي عن مجاهد أنه المسافر وعن قتادة أنه الضيف لأنه إنما وصل إليك من السبيل والأول أشبه لأن السبيل اسم للطريق وجعل المسافر ابناً له للزومه إياه كما يقال لطير الماء ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون ابن الأيام وللشجعان بنو الحرب وللناس بنو الزمان قال ذو الرمة وردت عشاء والثريا كأنها
على قمة الرأس ابن ماء محلق
وأما قوله وَالسَّائِلِينَ فعني به الطالبين ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر روى الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( للسائل حتى ولو جاء على فرس ) وقال تعالى فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( المعارج 24 )
أما قوله وَفِي الرّقَابِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الرّقَابِ جمع الرقبة وهي مؤخر أصل العنق واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ولهذا المعنى يقال أعتق الله رقبته ولا يقال أعتق الله عنقه لأنه لما سميت رقبة كأنها تراقب العذاب ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها رقوب لأجل مراعاتها موت ولدها
المسألة الثانية معنى الآية ويؤتي المال في عتق الرقاب قال القفال واختلف الناس في الرقاب المذكورين في آية الصدقات فقال قائلون إنه يدخل فيه من يشتريه فيعتقه ومن يكون مكاتبها فيعينه على أداء كتابته فهؤلاء أجازوا شراء الرقاب من الزكاة المفروضة وقال قائلون لا يجوز صرف الزكاة إلا في اعانة المكاتبين فمن تأول هذه الآية على الزكاة المفروضة فحينئذ يبقى فيه ذلك الاختلاف ومن حمل هذه
الآية على غير الزكاة أجاز الأمرين فيها قطعاً ومن الناس من حمل الآية على وجه ثالث وهو فداء الأسارى
واعلم أن تمام الكلام في تفسير هذه الأصناف سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة التوبة في تفسير الصدقات
الأمر الثالث من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وذلك قد تقدم ذكره
الأمر الرابع قوله تعالى وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في رفع والموفون قولان أحدها أنه عطف على محل من آمن تقديره لكن البر المؤمنون والموفون عن الفراء والأخفش الثاني رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره وهم الموفون
المسألة الثانية في المراد بهذا العهد قولان الأول أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ( البقرة 40 ) فكان المعنى في هذه الأية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله لا كما نقض أهل الكتاب ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه واعترض القاضي على هذا القول وقال إن قوله تعالى وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ صريح في إضافة هذا العهد إليهم ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله إِذَا عَاهَدُواْ فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى
الجواب عنه أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم
القول الثاني أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله أو بينه وبين رسول الله أو بينه وبين سار الناس أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة فقوله تعالى وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض وهذا الذي قلناه هو الذي عبر المفسرون فقالوا هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا ومنهم من حمله على قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ ( التوبة 75 ) الآية
الأمر الخامس من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله تعالى وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ
( البقرة 177 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى في نصب الصابرين أقوال الأول قال الكسائي هو معطوف على ذَوِى الْقُرْبَى كأنه قال وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين قال النحويون إن تقدير الآية يصير هكذا ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين فعلى هذا قوله وَالصَّابِرِينَ من صلة من قوله وَالْمُوفُونَ متقدم على قوله وَالصَّابِرِينَ فهو عطف على مِنْ فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئاً وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه أما إن جعلت قوله وَالْمُوفُونَ رفعاً على المدح وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى
فإن قيل أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل إن زيداً فافهم ما أقول رجل عالم وكقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) ثم قال أُوْلَائِكَ ففصل بين المتبدأ والخبر بقوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ قلنا الموصول مع الصلة كالشيء الواحد فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر فلا يلزم من جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بين الموصول والصلة
القول الثاني قول الفراء إنه نصب على المدح وإن كان من صفة من وإنما رفع الموفون ونصب الصابرين لطول الكلام بالمدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد وأنشد الفراء إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
حَمَّالَة َ الْحَطَبِ وقالوا فيمن قرأ بنصب حَمَّالَة َ أنه نصب على الذم قال أبو علي الفارسي وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً وجملة واحدة ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لم صارا علتين لاختلاف الحركة فقال الفراء أصل المدح والذم من كلام السامع وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له قام زيد فربما أثنى السامع على زيد وقال ذكرت والله الظريف ذكرت العاقل أي هو والله الظريف هو العاقل فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك وقال الخليل المدح والذم ينصبان على معنى أعني الظريف وأنكر الفراء ذلك لوجهين الأول أن أعني إنما يقع تفسيراً للاسم المجهول والمدح يأتي بعد المعروف الثاني أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول قام زيد أخاك على معنى أعني أخاك وهذا مما لم تقله العرب أصلاً
واعلم أن من الناس من قرأ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ ومنهم من قرأ وَالْمُوفُونَ و الصابرون
أما قوله وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء قال ابن عباس يريد الفقر وهو اسم من البؤس وَالضَّرَّاء قال يريد به المرض وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين وَحِينَ الْبَأْسِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد القتال في سبيل الله والجهاد ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال لا بأس عليك في هذا أي لا شدة بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) شديد ثم تسمى الحرب بأساً لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأساً لشدته قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 84 ) فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا ( الأنبياء 12 ) فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 29 )
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم وذكر الواحدي رحمه الله في آخر هذه الآية مسألة وهي أنه قال هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائماً بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال ولذلك قال بعضهم هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها وقال آخرون هذه عامة في جميع المؤمنين وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّ نثَى بِالاٍّ نْثَى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَة ٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
الحكم الرابع
قبل الشروع في التفسير لا بد من ذكر سبب النزول وفيه ثلاثة أوجه أحدها أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين أما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى فالأشراف كانوا يقولون لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحداً قتل إنساناً من الأشراف فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول وقالوا ماذا تريد فقال إحدى ثلاث قالوا وما هي قال إما تحيون ولدي أو تملأون داري من نجوم السماء أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم ثم لا أرى أني أخذت عوضاً
وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس فلما بعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية
والرواية الثانية في هذا المعنى وهو قول السدي إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي
والرواية الثالثة أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه
والرواية الرابعة ما نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص ويكفي ذلك فقط فأما إذا كان القاتل للعبد حراً أو للحر عبداً فإنه يجب مع القصاص التراجع وأما حر قتل عبداً فهو قوده فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته وإن قتل عبداً حراً فهو به قود فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته وإن شاؤا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية وإن قتلت المرأة رجلاً فهي به قود فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية وإن شاؤا أعطوا كل الدية وتركوها قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والانثيين والذكرين فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع فيه إذا عرفنا سبب النزول فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ فمعناه فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين أحدهما أن قوله تعالى كِتَابَ يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ وقال كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة ُ ( البقرة 180 ) وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات وقال عليه السلام ( ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم ) والثاني لفظة عَلَيْكُمْ مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) وأما القصاص فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله قال تعالى فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( الكهف 64 ) وقال تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس ويسمى المقص مقصاً لتعادل جانبيه
أما قوله تعالى فِي الْقَتْلَى أي بسبب قتل القتلى لأن كلمة فِى قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام ( في النفس المؤمنة مائة من الإبل ) إذا عرفت هذا فصار تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى إلا أنهم جمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كثيرة وهي إذا قتل الوالد ولده والسيد عبده وفيما إذا قتل المسلم حربياً أو معاهداً وفيما إذا قتل مسلم خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه
فإن قيل قولكم هذه الآية تقتضي وجوب القصاص فيه إشكالان الأول أن القصاص لو وجب لوجب إما على القاتل أو على ولي الدم أو على ثالث والأقسام الثلاثة باطلة وإنما قلنا إنه لا يجب على القاتل لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك وإنما قلنا إنه غير واجب على ولي الدم لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك بل هو مندوب إلى الترك بقوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) والثالث أيضاً باطل لأنه يكون أجنبياً عن ذلك القتل والأجنبي عن الشي لا تعلق له به
السؤال الثاني إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل ألبتة بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية التسوية في القتل الذي يكون مشروعاً وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الآية على كون القتل مشرعاً بسبب القتل
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجرى مجراه لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود لأنه من جملة المؤمنين والتقدير يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه والثاني أنه خطاب مع القاتل والتقدير يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر بل للزاني والسارق الهرب من الحد ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله ولا يقرأ والفرق أن ذلك حق الآدمي
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل والتسوية في القتل صفة القتل وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه ويتفرع على ما ذكرنا مسائل
المسألة الأولى ذهب أبو حنيفة إلى موجب العمد هو القصاص وذهب الشافعي في أحد قوليه إن أن موجب العمد إما القصاص وإما الدية واحتج أبو حنيفة بهذه الآية ووجه الاستدلال بها في غاية الضعف لأنه سواء كان المخاطب بهذا الخطاب هو الإمام أو ولي الدم فهو بالاتفاق مشروط بما إذا كان ولي الدم يريد القتل على التعيين وعندنا أنه متى كان الأمر كذلك كان القصاص متعيناً إنما النزاع في أن ولي الدم هل يتمكن من العدول إلى الدية وليس في الآية دلالة على أنه إذا أراد الدية ليس له ذلك
المسألة الثانية اختلفوا في كيفية المماثلة التي دلت هذه الآية على إيجابها فقال الشافعي يراعي جهة القتل الأول فإن كان الأول قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل فإن مات منه في تلك المرأة وإلا حزت رقبته وكذلك لو أحرق الأول بالنار أحرق الثاني فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته وقال أبو حنيفة رحمه الله المراد بالمثل تناول النفس بأرجى ما يمكن فعلى هذا لا اقتصاص إلا بالسيف بحز الرقبة حجة الشافعي رحمه الله أن الله تعالى أوجب التسوية بين الفعلين وذلك يقتضي حصول التسوية من جميع الوجوه الممكنة ويدل عليه وجوه أحدها أنه يجوز أن يقال كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فدخل هذا على أن كيفية القتل داخلة تحت النص وثانيها أنا لو لم نحكم بدلالة هذه الآية على التسوية في كل الأمور لصارت الآية مجملة ولو حكمنا فيها بالعموم كانت
الآية مفيدة لكنها بما صارت مخصوصة في بعض الصور والتخصيص أهون من الإجمال وثالثها أن الآية لو لم تفد إلا الإيجاب للتسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور فحينئذ لا يستفاد من هذه الآية شيء ألبتة وهذا الوجه قريب من الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجود التسوية من كل الوجوه ثم تأكد هذا النص بسائر النصوص المقتضية لوجوب المماثلة كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ( غافر 40 ) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله ( من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ) ومما يروى أن يهودياً رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغاً قوياً واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام ( لا قود إلا بالسيف ) وبقوله عليه السلام ( لا يعذب بالنار إلا ربها ) والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى ( غافر 40 ) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله ( من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ) ومما يروى أن يهودياً رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغاً قوياً واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام ( لا قود إلا بالسيف ) وبقوله عليه السلام ( لا يعذب بالنار إلا ربها ) والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ ( الشورى 25 ) وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقاً لعقاب ولأنه عليه السلام قال ( التوبة تمحو الحوبة ) فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة ثم عند هذا اختلفوا فقال أصحابنا يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء وقالت المعتزلة إنما شرع ليكون لطفاً به ثم سألوا أنفسهم فقالوا إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفاً به وأجابوا عنه بأن هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أن لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد
أما قوله تعالى عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاْنثَى بِالاْنْثَى ففيه قولان
القول الأول إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين
واحتجوا عليه بوجوه الأول أن الألف واللام في قوله الْحُرُّ تفيد العموم فقوله الْحُرُّ بِالْحُرّ يفيد أن يقتل كل حر بالحر فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولاً بالحر الثاني أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقاً لا محالة بفعل فيكون التقدير الحر يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر بل إما أن يكون مساوياً له أو أخص منه وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولاً بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولاً بالعبد الثالث وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى فلما ذكر عقيبة قوله الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة لأن قوله الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ خرج مخرج التفسير لقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى وإيجاب القصاص على الحر
بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى فوجب أن لا يكون مشروعاً فإن احتج الخصم بقوله تعالى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين أحدهما أن قوله وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ شرع لمن قبلنا والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا وثانيهما أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص ولا شك أن الخاص مقدم على العام ثم قال أصحاب هذا القول مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد وأن لا تقتل الأثنى إلا بالأنثى إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ أما الإجماع فظاهر وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه وكذا القول في قتل الأثنى بالذكر فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم
القول الثاني أن قوله تعالى الْحُرُّ بِالْحُرّ لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام واحتجوا عليه بوجهين الأول أن قوله وَالاْنثَى بِالاْنْثَى يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة فلو كان قوله الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مانعاً من ذلك لوقع التناقض الثاني أن قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى جملة تامة مستقلة بنفسها وقوله الْحُرُّ بِالْحُرّ تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك
واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد لأن القصاص عبارة عن المساواة وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة فوجب أن لا يكون مشروعاً أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل ثم إن سلمنا أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى يوجب قتل الحر بالعبد إلا أنا بينا أن قوله الْحَرْبُ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ يمنع من جواز قتل الحرب بالعبد هذا خاص وما قبله عام والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلاً بالعام في اللفظ فإنه يكون جارياً مجرى الاستثناء ولا شك في وجوب تقديمه على العام
الوجه الثاني في بيان فائدة التخصيص ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري أن هذه الصور هي التي يكتفي فيها بالقصاص أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص بل لا بد فيه من التراجع وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية إلا أن كثيراً من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن
علي بن أبي طالب وهو أيضاً ضعيف عند النظر لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه
أما قوله تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ فاعلم أن الذين قالوا موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية تمسكوا بهذه الآية وقالوا الآية تدل على أن في هذه القصة عافياً ومعفواً عنه وليس ههنا إلى ولي الدم والقاتل فيكون العافي أحدهما ولا يجوز أن يكون هو القاتل لأن ظاهر العفو هو إسقاط الحق وذلك إنما يتأتى من الولي الذي له الحق على القتل فصار تقدير الآية فإذا عفي ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف وقوله شَى ْء مبهم فلا بد من حمله على المذكور السابق وهو وجوب القصاص إزالة للإبهام فصار تقدير الآية إذا حصل العفو للقاتل عن وجوب القصاص فليتبع القاتل العافي بالمعروف وليؤد إليه مالاً بإحسان وبالإجماع لا يجب أداء غير الدية فوجب أن يكون ذلك الواجب هو الدية وهذا يدل على أن موجب العمد هو القود أو المال ولو لم يكن كذلك لما كان المال واجباً عند العفو عن القود ومما يؤكد هذا الوجه قوله تعالى ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَة ٌ أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية وفي القصاص رحمة من الله عليكم لأن الحكم في اليهود حتم القصاص والحكم في النصارى حتم العفو فخف عن هذه الأمة وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية وذلك تخفيف من الله ورحمة في حق هذه الأمة لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إدا كان محتاجاً إلى المال وقد يكون القود آثر إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه فجعل الخيرة له فيما أحبه رحمة من الله في حقه
فإن قيل لا نسلم أن العافي هو ولي الدم وقوله العفو إسقاط الحق وذلك لا يليق إلا بولي الدم
قلنا لا نسلم أن العفو هو إسقاط الحق بل المراد من قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء أي فمن سهل له من أخيه شيء يقال أتاني هذا المال عفواً صفواً أي سهلاً ويقال خذ ما عفا أي ما سهل قال الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ فيكون تقدير الآية فمن كان من أولياء الدم وسهل له من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فليتبع ولي الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال وليؤد القاتل إلى ولي الدم ذلك المال بالإحسان من غير مطل ولا مدافعة فيكون معنى الآية على هذا التقدير إن الله تعالى حث الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفوا عن القود
سلمنا أن العافي هو ولي الدم لكن لم لا يجوز أن يقال المراد هو أن يكون القصاص مشتركاً بين شريكين فيعفو أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر مالاً فالله تعالى أمر الشريك الساكت باتباع القاتل بالمعروف وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان
سلمنا أن العافي هو ولي الدم سواء كان له شريك أو لم يكن لكن لم لا يجوز أن يقال إن هذا مشروط برضا القاتل إلا أنه تعالى لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتاً لا محالة لأن الظاهر من كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه لأنه إذا قتل لا يبقى له لا النفس ولا المال أما بذل المال ففيه إحياء النفس فلما كان هذا الرضا حاصلاً في الأعم الأغلب لا جرم ترك ذكره وإن كان معتبراً في النفس الأمر
والجواب حمل لفظ العفو في هذه الآية على إسقاط حق القصاص أولى من حمله على أن يبعث
القاتل المال إلى ولي الدم وبيانه من وجهين الأول أن حقيقة العفو إسقاط الحق فيجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك وحمل اللفظ في هذه الآية على إسقاط الحق أولى من حمله على ما ذكرتم لأنه لما تقدم قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى كان حمل قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء على إسقاط حق القصاص أولى لأن قوله شَى ْء لفظ مبهم وحمل هذا المبهم على ذلك المعنى الذي هو المذكور السابق أولى الثاني أنه لو كان المراد بالعفو ما ذكرتم لكان قوله فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ عبثاً لأن بعد وصول المال إليه بالسهولة واليسر لا حاجة به إلى اتباعه ولا حاجة بذلك المعطي إلى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان
وأما السؤال الثاني فمدفوع من وجهين الأول أن ذلك الكلام إنما يتمشى بفرض صورة مخصوصة وهي ما إذا كان حق القصاص مشتركاً بين شخصين ثم عفا أحدهما وسكت الآخر والآية دالة على شرعية هذا الحكم على الإطلاق فحمل اللفظ المطلق على الصورة الخاصة المفيدة خلاف الظاهر والثاني أن الهاء في قوله وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ضمير عائد إلى مذكور سابق والمذكور السابق هو العافي فوجب أداء هذا المال إلى العافي وعلى قولكم يجب أداؤه إلى غير العافي فكان قولكم باطلاً
وأما السؤال الثالث أن شرط الرضا إما أن يكون ممتنع الزوال أو كان ممكن الزوال فإن كان ممتنع الزوال فوجب أن يكون مكنة أخذ الدية ثابتة لولي الدم على الإطلاق وإن كان ممكن الزوال كان تقييد اللفظ بهذا الشرط الذي ما دلت الآية على اعتباره مخالفة للظاهر وأنه غير جائز ولما تلخص هذا البحث فنقول الآية بقيت فيها أبحاث لفظية نذكرها في معرض السؤال والجواب
البحث الأول كيف تركيب قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء
الجواب تقديره فمن له من أخيه شيء من العفو وهو كقوله سير بزيد بعض السير وطائفة من السير
البحث الثاني أن عُفِى َ يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ
الجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ ( التوبة 43 ) فإذا تعدى إلى الذنب قيل عفوت عن فلان عما جنتى كما تقول عفوت له عن ذنبه وتجاوزت له عنه وعليه هذه الآية كأنه قيل فمن عفى له من جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية
البحث الثالث لم قيل شيء من العفو
والجواب من وجهين أحدهما أن هذا إنمايشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط فحينئذ يقال القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله شَى ْء فائدة أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضاً لأن له أن يعفو عن القود دون المال وله أن يعفو عن الكل فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء
والجواب الثاني أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود إلا أن يكون عفواً عن جميعه فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود وعفو
بعض الأولياء عن حقه كعفو جميعهم عن خلقهم فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك فلما نكره صار هذا المعنى مفهوماً منه فلذلك قال تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء
البحث الرابع بأي معنى أثبت الله وصف الأخوة
والجواب قيل إن ابن عباس تمسك بهذه الآية في بيان كون الفاسق مؤمناً من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى سماه مؤمناً حال ما وجب القصاص عليه وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن والثاني أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الذم ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ فلولا أن الإيمان باقٍ مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان الثالث أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن أجابت المعتزلة عن الوجه الأول فقالوا إن قلنا المخاطب بقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى هم الأئمة فالسؤال زائل وإن قلنا إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين أحدهما أن القتال قبل إقدامه على القاتل كان مؤمناً فسماه الله تعالى مؤمناً بهذا التأويل والثاني أن القتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب
وأما الوجه الثاني وهو ذكر الأخوة فأجابوا عنه من وجوه الأول أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل والثاني الظاهر أن الفاسق يتوب وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له والثالث يجوز أن يكون جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا والرابع أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة كم تقول للرجل قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق والخامس ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد
والجواب أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان وبصفة دون صفة والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق
وأما قوله تعالى فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ففيه أبحاث
البحث الأول قوله فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره فحكمه اتباع أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره فعليه اتباع بالمعروف
البحث الثاني قيل على العافي الاتباع بالمعروف وعلى المعفو عنه أداء بإحسان عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وقيل هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان
البحث الثالث الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسراً فالنظرة وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق وإن كان واجداً لغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات فأما
الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ولا يقدم ما ليس بواجب عليه وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل
أما قوله تعالى ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَة ٌ ففيه وجوه أحدها أن المراد بقوله ذالِكَ أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم ألبتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً وهذا قول ابن عباس وثانيها أن قوله ذالِكَ راجع إلى قوله فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ
أما قوله فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه قال ابن عباس والحسن المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية ثم ظفوا بعد ذلك بالقاتل قتلوه فنهى الله عن ذلك وقيل المراد أن يقتل غير قاتله أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ ( فله عذاب أليم ) وفيه قولان أحدهما وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة والثاني روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله عليه السلام ( لا أعافي أحداً قتل بعد أن أخذ الدية ) وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها أن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة وثانيها أنا بينا أن القود تارة يكون عذاباً وتارة يكون امتحاناً كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه وثالثها أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياساً على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أوجب في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه حكمة شرع القصاص فقال وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية وجوه الأول أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً وفي حق من يراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهما أيضاً أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً وأما في حق من يراد جعله مقتولاً فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعاً
زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل
الوجه الثاني في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل فكان القصاص نفسه سبباً للحياة من هذا الوجه واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مخص بالقصاص الذي هو القتل يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سبباً لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضاً فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود فخوف القصاص حاصل في النفس
الوجه الثالث أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي
والوجه الرابع قرأ أبو الجوزاء وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل الْقِصَاصِ القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ والله أعلم
المسألة الثانية اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير كقولهم قتل البعض إحياء للجميع وقول آخرين أكثروا القتل ليقل القتل وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم القتل أنفى للقتل ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا وبيان التفاوت من وجوه أحدها أن قوله وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ أخصر من الكل لأن قوله وَلَكُمْ لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك لأن قول القائل قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله وكذلك في قولهم القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ أشد اختصاراً من قولهم القتل أنفى للقتل وثانيها أن قولهم القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال وقوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ثم ما جعله سبباً لمطلق الحاية لأنه ذكر الحياة منكرة بل جعله سبباً لنوع من أنواع اللحياة وثالثها أن قولهم القتل أنفى للقتل فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ كذلك ورابعها أن قول القائل القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل وقوله فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى وسادسها أن القتل ظلماً قتل مع أنه لا يكون نافياً للقتل بل هو سبب لزيادة القتل إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص فظاهر قولهم باطل أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على فساد قول أهل السنة في قولهم إن المقتول لو لم يقتل لوجب أن يموت فقالوا إذا كان الذي يقتل يجب أن يموت لو لم يقتل فهب أن شرع القصاص يزجر من يريد أن يكون قاتلاً عن الإقدام على القتل لكن ذلك الإنسان يموت سواء قتله هذا القاتل أو لم يقتله
فحينئذ لا يكون شرع القصاص مفضياً إلى حصول الحياة
فإن قيل أنا إنما نقول فيمن قتل لو لم يقتل كان يموت لا فيمن أريد قتله ولم يقتل فلا يلزم ما قلتم قلنا أليس إنما يقال فيمن قتل لو لم يقتل كيف يكون حاله فإذا قلتم كان يموت فقد حكمتم في أن من حق كل وقت صح وقوع قتله أن يكون موته كقتله وذلك يصحح ما ألزمناكم لأنه لا بد من أن يكون على قولكم المعلوم أنه لو لم يقتله إما لأن منعه مانع عن القتل أو بأن خاف قتله أنه كان يموت وفي ذلك صحة ما ألزمناكم هذا كله ألفاظ القاضي
أما قوله تعالى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب
وأما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظة لَعَلَّ للترجي وذلك إنما يصح في حق من لم يكن عالماً بجميع المعلومات وجوابه ما سبق في قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 )
المسألة الثانية قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل التقوى سواء كان في المعلوم أنهم يتقون أو لا يتقون بخلاف قول المجبرة وقد سبق جوابه أيضاً في تلك الآية
المسألة الثالثة في تفسير الآية قولان أحدهما قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى فحمله على الكل أولى ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه
الحكم الخامس
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة ُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
اعلم أن قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ يقتضي الوجوب على ما بيناه أما قوله إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فليس المراد منه معاينة الموت لأن في ذلك الوقت يكون عاجزاً عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره
وجهين الأول وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت وهو المرض المخوف وذلك ظاهر في اللغة يقال فيمن يخاف عليه الموت إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل والثاني قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي والقول الأول أولى لوجهين أحدهما أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز والثاني أن ما ذكرناه هو الظاهر وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره
أما قوله إِن تَرَكَ خَيْرًا ( العايات 8 ) فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ( البقرة 272 ) وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ ( العاديات 8 ) مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وإذا عرفت هذا فنقول ههنا قولان أحدهما أنه لا فرق بين القليل والكثير وهو قول الزهري فالوصية واجبة في الكل واحتج عليه بوجهين الاْوَّلِ أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيراً والمال القليل خير يدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فقوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وأيضاً قوله تعالى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به والمال القليل كذلك فيكون خيراً
الحجة الثانية أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر بدليل قوله تعالى لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ( النساء 7 ) فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية
والقول الثاني وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير واحتجوا عليه بوجوه الأول أن من ترك درهماً لا يقال إنه ترك خيراً كما يقال فلان ذو مال فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير وكذلك إذا قيل فلان في نعمة وفي رفاهية من العيش فإنما يراد به تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه كما قد روي من قوله ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) وقوله ( ليس بمؤمن من باب شبعاناً وجاره جائع ) ونحو هذا
الحجة الثالثة لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك سواء كان قليلاً أو كثيراً لما كان التقييد بقوله إِن تَرَكَ خَيْرًا كلاماً مفيداً لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئاً ما قليلاً كان أو كثيراً أما الذي يموت عرياناً ولا يبقى معه كسرة خبر ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته فذاك في غاية الندرة فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان
القول الأول أنه مقدر بمقدار معين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم فقال أولا أوصي قال لها لا إنما قال الله تعالى إِن تَرَكَ خَيْرًا وليس لك كثير مال وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال إني أريد أن أوصي قالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال أربعة قالت قال الله إِن تَرَكَ خَيْرًا وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم
والقول الثاني أنه غير مقدر بمقدار معين بل يختلف دلك باختلاف حال الرجال لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغني لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقاً بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها
أما قوله الْوَصِيَّة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال كِتَابَ لأنه أراد بالوصية الإيصاء ولذلك ذكر الضمير في قوله فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ( البقرة 181 ) وأيضاً إنما ذكر للفصل بين الفعل والوصية لأن الكلام لما طال كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث والعرب تقول حضر القاضي امرأة فيذكرون لأن القاضي بين الفعل وبين المرأة
المسألة الثانية رفع الوصية من وجهين أحدهما على ما لم يسم فاعله والثاني على أن يكون مبتدأ وللوالدين الخبر وتكون الجملة في موضع رفع بكتب كما تقول قيل عبد الله قائم فقولك عبد الله قائم جملة مركبة من تبدأ وخبر والجملة في موضع رفع بقيل
أما قوله لِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما بين أن الوصية واجبة بين بعد ذلك أنها واجبة لمن فقال للوالدين والأقربين وفيه وجهان الأول قال الأصم إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعاً للقوم عما كانوا اعتادوه وهذا بين الثاني قال آخرون إن إيجاب هذه الوصية لما كان قبل آية المواريث جعل الله الخيار إلى الموصي في ماله وألزمه أن لا يتعدى في إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان والأقربين فيكون واصلاً إليهم بتمليكه واختياره ولذلك لما نزلت آية المواريث قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) فبين أن ما تقدم كان واصلاً إليهم بعطية الموصي فأما الآن فالله تعالى قدر لكل ذي حق حقه وأن عطية الله أولى من عطية الموصي وإذا كان كذلك فلا وصية لوارث ألبتة فعلى هذا الوجه كانت الوصية من قبل واجبة للوالدين والأقربين
المسألة الثانية اختلفوا في قوله وَالاْقْرَبِينَ من هم فقال قائلون هم الأولاد فعلى هذا أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأولاد وهو قول عبد الرحمن بن زيد عن أبيه
والقول الثاني وهو قول ابن عباس ومجاهد أن المراد من الأقربين من عدا الوالدين
والقول الثالث أنهم جميع القرابات من يرث منهم ومن لا يرث وهذا معنى قول من أوجب الوصية للقرابة ثم رآها منسوخة
والقول الرابع هم من لا يرثون من الرجل من أقاربه فأما الوارثون فهم خارجون عن اللفظ أما قوله بِالْمَعْرُوفِ فيحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصى له من الأقربين ممن لا يوصى لأن كلا الوجهين يدخل في المعروف فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك
الطريق الجميلة فإذا فاضل بينهم فبالمعروف وإذا سوى فكمثل وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفاً ولو سوى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفاً ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا
أما قوله تعالى حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فزيادة في توكيد وجوبه فقوله حَقّاً مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا فإن قيل ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم
فالجواب من وجهين الأول أن المراد بقوله حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أنه لازم لمن آثر التقوى وتحراه وجعله طريقة له ومذهباً فيدخل الكل فيه الثاني أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين وغيرهم فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الأية
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه الوصية منهم من قال كانت واجبة ومنهم من قال كانت ندباً واحتج الأولون بقوله كِتَابَ وبقوله عَلَيْكُمْ وكلا اللفظين ينبىء عن الوجوب ثم إنه تعالى أكد ذلك الإيجاب بقوله حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وهؤلاء اختلفوا منهم من قال هذه الآية صارت منسوخة ومنهم من قال إنها ما صارت منسوخة وهذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني وتقرير قوله من وجوه أحدها أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث ومعناها كتب عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( النساء 11 ) أو كتب على المختصر أن يوصيكم للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصباتهم وثانيها أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للاقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين وثالثها لو قدرنا حصول المنافاة لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية وذلك لأن من الوالدين من يرث ومنهم من لا يرث وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجبة ومنهم من يسقط في حال ويثبت في حال إذا كان في الواقعة من هو أولى بالميراث منهم ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم فكل من كان من هؤلاء وارثاً لم يجز الوصية له ومن لم يكن وارثاً جازت الوصية له لأجل صلة الرحم فقد أكد الله تعالى ذلك بقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) وبقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى ( النحل 90 ) فهذا تقرير مذهب أبي مسلم في هذا الباب أما القائلون بأن الآية منسوخة فيتوجه تفريعاً على هذا المذهب أبحاث
البحث الأول اختلفوا في أنها بأي دليل صارت منسوخة وذكروا وجوهاً أحدهما أنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه فقط وهذا بعيد لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ بأن يقول قائل إنه لا بد وأن تكون منسوخة
فيمن لم يختلف إلا الوالدين من حيث يصير كل المال حقاً لهما بسبب الإرث فلا يبقى للوصية شيء إلا أن هذا تخصيص لا نسخ وثانيها أنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام ( ألا لا وصية لوارث ) وهذا أقرب إلا أن الإشكال فيه أن هذا خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به وأجيب عن هذا السؤال بأن هذا الخبر وإن كان خبر واحد إلا أن الأئمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر
ولقائل أن يقول يدعى أن الأئمة تلقته بالقبول على وجه الظن أو على وجه القطع والأول مسلم إلا أن ذلك يكون إجماعاً منهم على أنه خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من باب الآحاد لكانوا قد أجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز وثالثها أنها صارت منسوخة بالإجماع والإجماع لا يجوز أن ينسخ به القرآن لأن الإجماع يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجوداً إلا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل ولقائل أن يقول لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ فكيف يدعى انعقاد الإجماع على حصول النسخ ورابعها أنها صارت منسوخة بدليل قياسي وهو أن نقول هذه الوصية لو كانت واجبة لكان عندما لم توجد هذه الوصية وجب أن لا يسقط حق هؤلاء الأقربين قياساً على الديون التي لا توجد الوصية بها لكن عندما لم توجد الوصية لهؤلاء الأقربين لا يستحقون شيئاً بدليل قوله تعالى في آية المواريث مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ( النساء 11 ) وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية ولا دين فالمال أجمع مصروف إلى أهل الميراث ولقائل أن يقول نسخ القرآن بالقياس غير جائز والله أعلم
البحث الثاني القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة اختلفوا على قولين منهم من قال إنها صارت منسوخة في حق من يرث وفي حق من لا يرث وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية وقال طاوس إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب فعند هؤلاء أن هذه الآية بقيت دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً وحجة هؤلاء من وجهين
الحجة الأولى أن هذه الآية دالة على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق الوارث القريب إما بآية المواريث وإما بقوله عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث ) أو بالإجماع على أنه لا وصية للوارث وههنا الإجماع غير موجود مع ظهور الخلاف فيه قديماً وحديثاً فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً
الحجة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام ( ما حق أمرىء مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وأجمعنا على أن الوصية لغير الأقارب غير واجبة فوجب أن تكون هذه الوصية الواجبة مختصة بالأقارب وصارت السنة مؤكدة للقرآن في وجوب هذه الوصية
وأما الجمهور القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً فأجود ما لهم التمسك بقوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ وقد ذكرنا تقريره فيما قبل
البحث الثالث القائلون بأن هذه الآية ما صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً
اختلفوا في موضعين الأول نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء وقال الحسن البصري هم الأغنياء سواء الثاني روي عن الحسن وخالد بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصي له وعن طاوس أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزعت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أمر الوصية ووجوبها وعظم أمرها أتبعه بما يجري مجرى الوعيد في تغييرها
أما قوله تعالى فَمَن بَدَّلَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا المبدل من هو فيه قولان أحدهما وهو المشهور أنه هو الوصي أو الشاهد أو سائر الناس أما الوصي فبأن يغير الوصي الوصية إما في الكتابة وإما في قسمة الحقوق وأما الشاهد فبأن يغير شهادة أو يكتمها وأما غير الوصي والشاهد فبأن يمنعوا من وصل ذلك المال إلى مستحقه فهؤلاء كلهم داخلوا تحت قوله تعالى فَمَن بَدَّلَهُ
والقول الثاني أن المنهى عن التغيير هو الموصي نهى عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها وذلك لأنا بينا أنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأجانب ويتركون الأقارب في الجوع والضر فالله تعالى أمرهم بالوصية للأقربين ثم زجر بقوله فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا سَمِعَهُ من أعرض عن هذا التكليف
المسألة الثانية الكناية في قوله فَمَن بَدَّلَهُ عائد إلى الوصية مع أن الكناية المذكورة مذكرة والوصية مؤنثة وذكروا فيه وجوها أحدها أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه كقوله تعالى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ( البقرة 275 ) أي وعظ والتقدير فمن بدل ما قاله الميت أو ما أوصى به أو سمعه عنه وثانيها قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض والتقدير فمن بدل الأمر المقدم ذكره وثالثها أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره وإن كانت الوصية مؤنثة ورابعها أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل وخامسها أن تأنيث الوصية ليس بالحقيقي فيجوز أن يكنى عنها بكناية المذكر
أما قوله بَعْدَمَا سَمِعَهُ فهو يدل على أن الإثم إنما يثبت أو يعظم بشرط أن يكون المبدل قد علم ذلك لأنه لا معنى للسماع لو لم يقع العلم به فصار إثبات سماعه كإثبات علمه
أما قوله فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ فاعلم أن كلمة إِنَّمَا للحصر والضمير في قوله إِثْمُهُ عائد إلى التبديل والمعنى أن إثم ذلك التبديل لا يعود إلا إلى المبدل وقد تقدم بيان أن المبدل من هو
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أحكام أحدها أن الطفل لا يعذب على كفر أبيه وثانيها أن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه ثم إن الوارث قصر فيه بأن لا يقضي دينه فإن الإنسان الميت لا يعذب
بسبب تقصير ذلك الوارث خلافاً لبعض الجهال وثالثها أن الميت لا يعذب ببكاء غيره عليه وذلك لأن هذه الآية دالة على أن إثم التبديل لا يعود إلا إلى المبدل فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره وتتأكد دلالة هذه الآية بقوله تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( البقرة 164 ) مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( الجاثية 15 فصلت 46 ) لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 )
المسألة الثالثة إذا أوصى للأجانب وفي الأقارب من تشتد حاجته هل يجوز للوصي تغيير الوصية أما من يقول بوجوب الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين اختلفوا فيه فمنهم من قال كانت الوصية للأقارب واجبة عليه فإذا لم يفعل وصرف الوصية إلى الأجانب كان ذلك الأجنبي أحق به ومنهم من قال ينقض ذلك ويرد إلى الأقربين وقد ذكرنا تفصيل قول هؤلاء أما من لا يوجب الوصية للقريب الذي لا يرث فإما أن يكون ذلك بالثلث أو بأكثر من الثلث فإن كان بالثلث فهو جائز ولا يجوز تغييره ثم اختلفوا في المستحب فكان الحسن يقول المستحب هو النقصان من الثلث لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( الثلث والثلث كثير ) فندب إلى النقصان ومنهم من قال بل الثلث مستحب لأنه حقه والثواب فيه أكثر ومنهم من يعتبر حال الميت وحال الورثة وقدر التركة وهذا هو الأولى فأما إن كانت الوصية بأكثر من الثلث فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال لا يجوز ذلك إلا بأمر الورثة والتماس الرضا منهم وقال آخرون لا تأثير لقول الورثة إلا بعد الموت ثم إذا أوصى بأكثر من الثلث اختلفوا فمنهم من قال يجوز إن أجازه الوارث ويكون عطية من الميت ومنهم من يقول بل يكون كابتداء عطية من الوارث
أما قوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فمعناه أنه تعالى سميع للوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا يخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها والله أعلم
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن وهو المراد من قوله فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لأن الإصلاح يقتضي ضرباً من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم مُّوصٍ بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان وصى وأوصى بمعنى واحد
المسألة الثانية الجنف الميل في الأمور وأصله العدول عن الاستواء يقال جنف يجنف بكسر النون في الماضي وفتحها في المستقبل جنفاً وكذلك تجانف ومنه قوله تعالى غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ
( المائدة 3 ) والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد
المسألة الثالثة في قوله تعالى فَمَنْ خَافَ قولان أحدهما أن المراد منه هو الخوف والخشية
فإن قيل الخوف إنما يصح في أمر منتظر والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف
والجواب من وجوه أحدها أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة أو مع التأويل أو شاهد منه تعمداً بأن يزيد غير المستحق أو ينقص المستحق حقه أو يعدل عن المستحق فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارت فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلاناً مع أنه لا يكون مستحقاً للزيادة أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة فعند ذلك يصير السامع خائفاً من حنث وإثم لا قاطعاً عليه ولذلك قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم
الوجه الثاني في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعاً عليه فلذلك علقه بالخوف
الوجه الثالث في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ فلما كان ذلك منتظراً لم يكن حكم الجنف والإثم ماضياً مستقراً فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى
القول الثاني في تفسير قوله تعالى فَمَنْ خَافَ أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع
المسألة الرابعة قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين
أما قوله تعالى فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فيه مسائل
المسألة الأولى هذا المصلح من هو الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية وقد يدخل تحته الشاهد وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي أو من يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا
التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد
المسألة الثانية لقائل أن يقول الضمير في قوله فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فما ذلك المذكور السابق
وجوابه أن لا شبهة أن المراد بين أهل الوصايا لأن قوله مِن مُّوصٍ دل على من له الوصية فصار كأنهم ذكروا فصلح أن يقول تعالى فأصلح بينهم كأنه قال فأصلح بين أهل الوصية وقال القائلون المراد فأصلح بين أهل الوصية والميراث وذلك هو أن يزيد الموصي في الوصية على قدر الثلث فالمصلح يصلح بين أهل الوصايا والورثة في ذلك وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها أن لفظ الموصي إنما يدل على أهل الوصية لا على الورثة وثانيها أن الجنف والإثم لا يدخل في أن يوصي بأكثر من الثلث لأن ذلك لما لم يجز إلا بالرضا صار ذكره كلا ذكر ولا يحتاج في إبطاله إلى إصلاح لأنه ظاهر البطلان
المسألة الثالثة في بيان كيفية هذا الإصلاح وههنا بحثان
البحث الأول في بيان كيفية هذا الإصلاح قبل أن صارت هذه الآية منسوخة فنقول بينا أن ذلك الجنف والإثم كان إما بزيادة أو نقصان أو بعدول فاصلاحها إنما يكون بإزالة هذه الأمور الثلاثة ورد كل حق إلى مستحقه
البحث الثاني في كيفية هذا الإصلاح بعد أن صارت هذه الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم ههنا يقع على وجوه منها أن يظهر من المريض ما يدل على أنه يحاول منع وصول المال إلى الوارث إما بذكر إقرار أو بالتزام عقد فههنا يمنع منه ومنها أن يوصي بأكثر من الثلث ومنها أن يوصي للأباعد وفي الأقارب شدة حاجة ومنها أن يوصي مع قلة المال وكثرة العيال إلى غير ذلك من الوجوه
أما قوله تعالى فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو يستحق الثواب عليه فكيف يليق به أن يقال فلا إثم عليه وجوابه من وجوه الأول أنه تعالى لما ذكر إثم المبدل في أول الآية وهذا أيضاً من التبديل بين مخالفته للأول وأنه لا إثم عليه لأنه رد الوصية إلى العدل والثاني لما كان المصلح ينقص الوصايا وذلك يصعب على الموصي له ويوهم فيه إثماً أزال الشبهة وقال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والثالث بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك وأنه متى غير إلى الحق وإن كان خالف الوصية فلا إثم عليه وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي وصرف لماله عمن أحب إلى من كره لأن ذلك يوهم القبح فبين الله عز وجل أن ذلك حسن لقوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والرابع أن الإصلاح بين الجماعة يحتاج فيه إلى الإكثار من القول ويخاف فيه أن يتخلله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل فبين تعالى أنه لا إثم على المصلح في هذا الجنس إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً
المسألة الثانية دلت هذه الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع
أما قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه أيضاً سؤال وهو أن هذا الكلام إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز أما هذا الإصلاح فهو من جملة الطاعات فكيف به هذا الكلام وجوابه من وجوه أحدها أن هذا من باب
تنبيه الأدنى على الأعلى كأنه قال أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك مع أنك تحملت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهم كان أولى وثانيها يحتمل أن يكون المراد أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم متى أصلحت وصيته فإن الله غفور رحيم يغفر له ويرجحه بفضله وثالثها أن المصلح ربما احتاج في إيتاء الإصلاح إلى أقوال وأفعال كان الأولى تركها فإذا علم تعالى منه أن غرضه ليس إلا الإصلاح فإنه لا يؤاخذه بها لأنه غفور رحيم
الحكم السادس
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
اعلم أن الصيام مصدر صام كالقيام وأصله في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له ومنه قيل للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام قال الله تعالى إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً ( مريم 26 ) وصوم النهار إذا اعتدل وقام قائماً الظهيرة قال امرؤ القيس فدعها وسل الهم عنها بحسرة
ذمول إذا صام النهار وهجراً
وقال آخر حتى إذا صام النهار واعتدل
وصامت الريح إذا ركدت وصام الفرس إذا قام على غير اعتلاف وقال النابغة
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ويقال بكرة صائمة إذا قامت فلم تدر قال الراجز والبكرات شرهن الصائمة ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار وكذلك مصام النجم قال امرؤ القيس
كأن الثريا علقت في فصامها
بأمراس كتان إلى صم جندل
هذا هو معنى الصوم في اللغة وفي الشريعة هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات حال العلم بكونه صائماً مع اقتران النية
أما قوله تعالى كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذا التشبيه قولان أحدهما أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله
والقول الثاني أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فاما أن يقال إنه يقتضي الإستواء في كل الأمور فلا ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوماف من السنة زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون وكذبوا في ذلك أيضاً لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشراً ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعاً فزادوه ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوماً وهذا معنى قوله تعالى اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ( التوبة 31 ) وهذا مروي عن الحسن وثانيها أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً ولهذا كره صوم يوم الشك وهو مروي عن الشعبي وثالثها أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) يفيد نسخ هذا الحكم فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلاً على ثبوت هذا المعنى قال أصحاب القول الأول قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصاً برمضان وأن يكون صومهم مقدراً بثلاثين يوماً ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك
المسألة الثانية في موضع كَمَا ثلاثة أقول الأول قال الزجاج موضع كَمَا نصب على المصدر لأن المعنى فرض عليكم فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم الثاني قال ابن الأنباري يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها كتب عليكم الصيام مشبهاً وممثلاً بما كتب على الذين من قبلكم الثالث قال أبو علي هو صفة لمصدر محذوف تقديره كتابة كما كتب عليهم فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال ومثله في الإتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق أنت واحدة ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فاعلم أن تفسير لَعَلَّ في حق الله تعالى قد تقدم وأما أن هذا الكلام كيف يليق بهذا الموضع ففيه وجوه أحدها أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج وإنما يسعى الناس لهذين كما قيل في المثل السائر المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ منها بذلك على وجه
وجوبه لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجباً وثانيها المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى وجاؤكم في التقوى وهذا معنى لَعَلَّ وثانيها المعنى لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف ورابعها المراد كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إهمالها وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها واصالتها وخامسها لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين لأن الصوم شعارهم والله أعلم
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في قوله تعالى أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ مسائل
المسألة الأولى في انتصاب أَيَّامًا أقوال الأول نصب على الظرف كأنه قيل كتب عليكم الصيام في أيام ونظيره قولك نويت الخروج يوم الجمعة والثاني وهو قول الفراء أنه خبر ما لم يسم فاعله كقولهم أعطى زيد مالاً والثالث على التفسير والرابع بإضمار أي فصوموا أياماً
المسألة الثانية اختلفوا في هذه الأيام على قولين الأول أنها غير رمضان وهو قول معاذ وقتادة وعطاء ورواه عن ابن عباس ثم اختلف هؤلاء فقيل ثلاثة أيام من كل شهر عن عطاء وقيل ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء عن قتادة ثم اختلفوا أيضاً فقال بعضهم إنه كان تطوعاً ثم فرض وقيل بل كان واجباً واتفق هؤلاء على أنه منسوخ بصوم رمضان واحتج القائلون بأن المراد بهذه الأيام غير صوم رمضان بوجوه الأول ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن صوم رمضان نسخ كل صوم فدل هذا على أن قبل وجوب رمضان كان صوماً آخر واجباً الثاني أنه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمهما أيضاً في الآية التي بعد هذه الآية الدالة على صوم رمضان فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان ذلك تكريراً محضاً من غير فائدة أنه لا يجوز الثالث أن قوله تعالى في هذا الموضع وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ يدل على أن الصوم واجب على التخيير يعني إن شاء صام وإن شاء أعطى الفدية وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان
القول الثاني وهو اختيار أكثر المحققين كابن عباس والحسن وأبي مسلم أن المراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان قالوا وتقريره أنه تعالى قال أولاً كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فزال بعض الإحتمال ثم بينه بقوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النسخ فيه لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يجوز القول به
أما تمسكهم أولاً بقوله عليه السلام ( إن صوم رمضان نسخ كل صوم )
فالجواب أنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يكون المراد أنه نسخ كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة لأنه كما يصح أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض فيصح أن يكون شرعه ناسخاً لشرع غيره
سلمنا أن هذا الخبر يقتضي أن يكون صوم رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية فمن أين لنا أن المراد بهذه الآية غير شهر رمضان
وأما حجتهم الثانية وهي أن هذه الأيام لو كانت هي شهر رمضان لكان حكم المريض والمسافر مكرراً
فالجواب أن في الابتداء كان صوم شهر رمضان ليس بواجب معين بل كان التخيير ثابتاً بينه وبين الفدية فلما كان كذلك ورخص للمسافر الفطر كان من الجائز أن يظن أن الواجب عليه الفدية دون القضاء ويجوز أيضاً أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان المشقة التي يفارق بها المقيم فلما لم يكن ذلك بعيداً بين تعالى أن إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف التخيير في حكم المقيم فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر فلما نسخ الله تعالى ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتماً كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل عن التخيير إلى التضييق حكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم الصحيح من حيث تغير حكم الله في الصوم فبين تعالى أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً فهذا هو الفائدة في إعادة ذكر حكم المسافر والمريض لا لأن الأيام المعدودات سوى شهر رمضان
وأما حجتهم الثالثة وهي قولهم صوم هذه الأيام واجب مخير وصوم شهر رمضان واجب معين
فجوابه ما ذكرنا من أن صوم شهر رمضان كان واجباً مخيراً ثم صار معيناً فهذا تقرير هذا القول واعلم أن على كلا القولين لا بد من تطرق النسخ إلى هذه الآية أما على القول الأول فظاهر وأما على القول الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً والآية التي بعدها تدل على التعيين فكانت الآية الثانية ناسخة لحكم هذه الآية وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصح
وجوابه أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول وهذا كما قاله الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم في التلاوة وهو الناسخ والمنسوخ متأخر وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ فقالوا إن ذلك في التلاوة أن في الإنزال فكان الاعتداد بالحول هو المتقدم والآية الدالة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخرة فصح كونها ناسخة وكذلك نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير
المسألة الثالثة في قوله مَّعْدُوداتٍ وجهان أحدهما مقدرات بعدد معلوم وثانيهما قلائل كقوله تعالى دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ ( يوسف 20 ) وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويحتاط في معرفة تقديره وأما الكثير فإنه يصب صباً ويحثى حثياً والمقصود من هذا الكلام كأنه سبحانه يقول إني رحمتكم وخففت عنكم حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا صيام أكثره ولو شئت لفعلت ذلك ولكني رحمتكم وما أوجبت الصوم عليكم إلا في أيام قليلة وقال بعض المحققين يجوز أن يكون قوله أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ من صلة قوله كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 183 ) وتكون المماثلة واقعة بين الفرضين من هذا الوجه وهو تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان في الطول والقصر ويكون المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه أياناً أن فرض الصوم علينا وعلى من قبلنا ما كان إلا مدة قليلة لا تشتد مشقتها فكان هذا بياناً لكونه تعالى رحيماً بجميع الأمم ومسهلاً أمر التكاليف على كل الأمم
أما قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضاً أو مسافراً فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر قال القفال رحمه الله انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت ثم ثانياً بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم وهو أنه سبب لحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ثم ثالثاً بين أنه مختص بأيام معدودة فإن لو جعله أبداً أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعاً أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة ثم بين خامساً إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيراً إذا عرفت هذا فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا إلى قوله ءاخَرَ فيه معنى الشرط والجزاء أي من يكن منكم مريضاً أو مسافراً فأفطر فليقض وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله كان الإستقبال لا الماضي كما تقول من أتاني أتيته
المسألة الثانية المرض عبارة عن عدم اختصاص جميع أعضاء الحي بالحالة المقتضية لصدور أفعاله سليمة سلامة تليق به واختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال أحدها أن أي مريض كان وأي مسافر كان فله أن يترخص تنزيلاً للفظه المطلق على أقل أحواله وهذا قول الحسن وابن سيرين يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه وثانيها أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وبالمسافر الذي يكون كذلك وهذا قول الأصم وحاصله تنزيل اللفظ المطلق على أكمل الأحوال وثالثها وهو قول أكثر الفقهاء أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في الفعل بين ما يخاف منه وبني ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحوم إذا خاف أنه لو صام تشتد حماه وصاحب وجع العين يخاف إن صام أن يشتد وجع عينه قالوا وكيف يمكن أن يقال كل مرض مرخص مع علمنا أن في الأمراض ما ينقصه الصوم
فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته ثم تأثيره في الأمر اليسير لا عبرة به لأن ذل قد يحصل فيمن ليس بمريض أيضاً فإذن يجب في تأثيره ما ذكرناه
المسألة الثالثة أصل السفر من الكشف وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم والمسفرة المكنسة لأنها تسفر التراب عن الأرض والسفير الداخل بين اثنين للصلح لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما والمسفر المضيء لأنه قد انكشف وظهر ومنه أسفر الصبح والسفر الكتاب لأنه يكشف عن المعان ببيانه وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب قال الأزهري وسمي المسافر مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ويظهر ما كان خافياً منهم واختلف الفقهاء في قدر السفر المبيح للرخص فقال داود الرخص حاصلة في كل سفر ولو كان السفر فرسخاً وتمسك فيه بأن الحكم لما كان معلقاً على كونه مسافراً فحيث تحقق هذا المعنى حصل هذا الحكم أقصى ما في الباب أنه يروي خبر واحد في تخصيص هذا العموم لكن تخيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز وقال الأوزاعي السفر المبيح مسافة يوم وذلك لأن أقل من هذا القدر قد يتفق للمقيم وأما الأكثر فليس عدد أولى من عدد فوجب الاقتصار على الواحد ومذهب الشافعي أنه مقدر بستة عشر فرسخاً ولا يحسب منه مسافرة الإياب كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاث أقدام خطوة وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحق وقال أبو حنيفة والثوري رخص السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرين فرسخاً حجة الشافعي وجهان الأول قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مقتضاه أن يترخص المسافر مطلقاً ترك العمل به فيما إذا كان السفر مرحلة واحدة لأن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله أما إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة تحصيلاً لهذا التخفيف
الحجة الثانية من الخبر وهو ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان قال أهل اللغة وكل بريد أربعة فراسخ فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً وروي عن الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس أقصر إلى عرفة فقال لا فقال إلى مر الظهران فقال لا ولكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف قال مالك بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد وحجة أبي حنيفة أيضاً من وجهين الأول أن قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) يقتضي وجوب الصوم عدلنا عنه في ثلاثة أيام بسبب الإجماع على أن هذا القدر مرخص والأقل منه مختلف فيه فوجب أن يبقى وجوب الصوم
الحجة الثانية من الخبر وهو قوله عليه السلام ( يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ) دل الخبر على أن لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولا يكون كذلك حتى تتقدر مدة السفر ثلاثة أيام لأنه عليه الصلاة والسلام جعل السفر علة المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وجعل هذا المسح معلولاً والمعلول لا يزيد على العلة
والجواب عن الأول أنه معارض بما ذكرناه من الآية فإن رجحوا جانبهم بأن الاحتياط في العبادات
أولى رجحنا جانبنا بأن التخفيف في رخص السفر مطلوب الشرع بدليل قوله عليه السلام ( هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقتبلوا منه صدقته ) والترجيح لهذا الجانب لأن الدليل الدال على أن رخص السفر مطلوبة للشرع أخص من الدليل الدال على وجوب رعاية الاحتياط والجواب عن الثاني أنه عليه السلام قال ( يمسح المقيم يوماً وليلة ) وهذا لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة صار مقيماً فكذا قوله ( والمسافر ثلاثة أيام ) لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام
المسألة الرابعة لقائل أن يقول رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضاً أو مسافراً ولم يقل هكذا بل قال فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
وجوابه أن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات فإن حصلت حصلت وإلا فلا وأما السفر فليس كذلك لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفراً وإن عدم السفر كان هو في ذلك الكون مسافراً فإذن كونه مسافراً أمر يتعلق بقصده واختياره فقوله عَلَى سَفَرٍ معناه كونه على قصد السفر والله أعلم بمراده
المسألة الخامسة الْعِدَّة َ فعلة من العد وهو بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة وعدة المرأة من هذا
فإن قيل كيف قال فَعِدَّة ٌ على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات
قلنا لأنا بينا أن العدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياماً معدودة مكانها والظاهر أنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة
المسألة السادسة عِدَّة َ قرئت مرفوعة ومنصوبة أما الرفع فعلى معنى فعليه صوم عدة فيكون هذا من باب حذف المضاف وأما إضمار عَلَيْهِ فيدل عليه حرف الفاء وأما النصب فعلى معنى فليصم عدة
المسألة السابعة ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر ونقل الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال لو صام في السفر قضي في الحضر وهذا اختيار داود بن علي الأصفاني وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام حجة الأولين من القرآن والخبر أما القرآن فمن وجهين الأول أنا إن قرأنا عِدَّة َ بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير فعليه عدة من أيام وكلمة عَلَى للوجوب فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجباً ضرورة أنه لا قائل بالجمع
الحجة الثانية أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية ثم قال عقيبها يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئاً تقدم ذكرهما وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين فكان قوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم فذلك تقرير قولنا وأما الخبر فإثنان
الأول قوله عليه السلام ( ليس من البر الصيام في السفر ) لا يقال هذا الخبر وارد عن سبب خاص وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على رجل جالس تحت مظلة فسأل عنه فقيل هذا صائم أجهده العطش فقال ( ليس من البر الصيام في السفر ) لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر )
أما حجة الجمهور فهي أن في الآية إضماراً لأن التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة وقد دل الدليل على وقوعه ههنا أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) والتقدير فضرب فانفجرت وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَحْلِقُواْ إلى قوله مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ ( البقرة 96 ) أي فحلق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز أما أن الدليل دل على وقوعه ففي تقريره وجوه الأول قال القفال قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) يدل على وجوب الصوم ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين الأول أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ( البقرة 185 ) على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى والثاني وهو أن ظاهر قوله تعالى فَلْيَصُمْهُ يقتضي الوجوب عيناً ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات سواء أجرينا قوله تعالى فعليه عِدَّة َ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ على ظاهره أو لم نفعل ذلك وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار
الوجه الثاني ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط فقال القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر فلما أوجب الله القضاء والقضاء مسبوق بالفطر دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار وهذا في غاية السقوط لأن الله تعالى لم يقل فعليه قضاء ما مضى بل قال فعليه صوم عدة من أيام أخر وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقاً بالإفطار
الوجه الثالث ما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله هل أصوم على السفر فقال عليه الصلاة والسلام ( صم إن شئت وأفطر إن شئت ) ولقائل أن يقول هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى
المسألة الثامنة لمذهب القائلين بأن الصوم جائز فرعان
الفرع الأول اختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر فقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي أوفى الصوم أفضل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد وقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وقالت فرقة ثالثة أفضل الأمرين أيسرهما على المرء
حجة الأولين قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وقوله تعالى وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ
حجة الفرقة الثانية أن القصر في الصلاة أفضل فوجب أن يكون الإفطار أفضل
والجواب أن من أصحابنا من قال الإتمام أفضل إلا أنه ضعيف والفرق من وجهين أحدهما أن الذمة تبقى مشغولة بقضاء الصوم دون الصلاة إذا قصرها والثاني أن فضيلة الوقت تفوت بالفطر ولا تفوت بالقصر
حجة الفرقة الثالثة قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) فهذا يقتضي أنه إن كان الصوم أيسر عليه صام وإن كان الفطر أيسر أفطر
الفرع الثاني أنه إذا أفطر كيف يقضي فمذهب علي وابن عمر والشعبي أنه يقضيه متتابعاً وقال الباقون التتابع مستحب وإن فرق جاز حجة الأولين وجهان الأول أن قراءة أبي فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ والثاني أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعاً فكذا القضاء
حجة الفرقة الثانية أن قوله سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ نكرة في سياق الإثبات فيكون ذلك أمراً بصوم أيام على عدد تلك الأيام مطلقاً فيكون التقييد بالتتابع مخالفاً لهذا التعميم وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرق والله أعلم
وروي أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقاً فقال له ( أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك فقال نعم قال فالله أحق أن يعفو ويصفح )
المسألة التاسعة ءاخَرَ لا ينصرف لأنه حصل فيه سببان الجمع والعدل أما الجمع فلأنها جمع أخرى وأما العدل فلأنها جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وآخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه إما أن يستعمل مع مِنْ أو مع الألف واللام يقال زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل وكان القياس أن يقال رجل آخر من زيد كما تقول قدم أمن عمرو إلا أنهم حذفوا لفظ مِنْ لأن لفظه اقتضى معنى مِنْ فأسقطوا مِنْ إكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام منافيان مِنْ فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر وآخر وأخرى معدولة عن حكم نظائرها لأن الألف واللام استعملتا فيها ثم حذف
أما قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المشهورة المتواترة يُطِيقُونَهُ وقرأ عكرمة وأيوب السختياني وعطاء يُطِيقُونَهُ ومن الناس من قال هذه القراءة مروية عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد قال ابن جني أما عين الطاقة فواو كقولهم لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة ( يطوقونه ) فهو يفعلونه فهو كقولك يجشمونه أي يكلفونه
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ على ثلاثة أقوال الأول أن هذا راجع إلى المسافر والمريض وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم
وأما القسم الأول فقد ذكر الله حكمه في قوله وَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وأما القسم الثاني وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم فإليهما الإشارة بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام والثانية أن يكون مطيقاً للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيراً بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية
القول الثاني وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولاً بين هذين ثم نصخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقاً معيناً
القول الثالث أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم قالوا وتقريره من وجهين أحدهما أن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة
الوجه الثاني في تقرير هذا القول القراءة الشاذة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشي مع ضرب من المشقة
إذا عرفت هذا فنقول القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين أحدهما وهو قول السدي أنه هو الشيخ الهرم فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة يروى أن أنساً كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم ويطعم لكل يوم مسكيناً وقال آخرون إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما وعلى ولديهما فقال فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي
واعلم أنهم أجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فهل عليهما الفدية فقال الشافعي رضي الله عنه عليهما الفدية فقال أبو حنيفة لا تجب حجة الشافعي أن قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ يتناول الحامل والمرض وأيضاً المدية واجبة على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضاً عليهما وأبو حنيفة فرق فقال الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما فو أوجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
أما القول الأول وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه أحدها أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الغاية وهو الذي لا يمكن تحمله أو المراد كل ما يسمى مرضاً أو المراد منه ما يكون متوسطاً بين هاتين الدرجتين والقسم الثاني باطل بالإتفاق والقسم الثالث أيضاً باطل لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إلى ما تحتها قوية فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول وذلك لأنه مضبوط فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة
إذا ثبت هذا فنقول أول الآية دل على إيجاب الصوم وهو قوله كتب عليكم الصيام أياماً معدودات ثم بين أحوال المعذورين ولما كان المعذورون على قسمين منهم من لا يطيق الصوم أصلاً ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني
الحجة الثانية في تقرير هذا القول أنه لا يقال في العرف للقادر القوي إنه يطيق هذا الفعل لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة
الحجة الثالثة أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى فكان المصير إلى إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه غير جائز
الحجة الرابعة أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لائقاً بهذا الموضع لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق ورفع وجوبه على سبيل التخيير فكان ذلك رفعاً لليسر وإثباتاً للعسر فكيف يليق به أن يقول يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال إن قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ معطوف على المسافر والمريض ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم
والجواب أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم ألبتة والمراد من قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره الأصم ليس بضعيف أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني واختاره الشافعي واحتج على فساد القول الثالث وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ لأنه لا يطيقه ولقائل أن يقول هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيراً لك فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثواباً
أما قوله تعالى فِدْيَة ٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر فِدْيَة ٌ بغير تنوين طَعَامٌ بالكسر مضافاً إليه مَسَاكِينَ جمعا والباقون فِدْيَة ٌ منونة طَعَامٌ بالرفع مّسْكِينٌ مخفوض أما القراءة الأولى ففيها بحثان الأول أنه ما معنى إضافة فدية إلى طعام فنقول فيه وجهان أحدهما أن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام فهذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم مسجد الجامع وبقله الحمقاء والثاني قال الواحدي الفدية اسم للقدر الواجب والطعام اسم يعم الفدية وغيرها فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى مِنْ كقولك ثوب خز وخاتم حديد والمعنى ثوب من خز وخاتم من حديد فكذا ههنا التقدير فدية من طعام فأضيفت الفدية إلى الطعام مع أنك تطلق على الفدية اسم الطعام
البحث الثاني أن في هذه القراءة جمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه جماعة وكل واحد منهم يلزمه مسكين وأما القراءة الثانية وهي فِدْيَة ٌ بالتنوين فجعلوا ما بعده مفسراً له ووحدوا المسكين لأن المعنى على كل واحد لكل يوم طعام مسكين
المسألة الثانية الفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم على الشيء وعند أبي حنيفة أنه نصف صاع من بر أو صاع من غيره وهو مدان وعند الشافعي مد
المسألة الثالثة احتج الجبائي بقوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ على أن الاستطاعة قبل الفعل فقال الضمير في قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ عائد إلى الصوم فأثبت القدرة على الصوم حال عدم الصوم لأنه أوجب عليه الفدية وإنما يجب عليه الفدية إذا لم يصم فدل هذا على أن القدرة على الصوم حاصلة قبل حصول الصوم
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الضمير عائد إلى الفدية
قلنا لوجهين أحدهما أن الفدية غير مذكورة من قبل فكيف يرجع الضمير إليها والثاني أن الضمير مذكر والفدية مؤنثة فإن قيل هذه الآية منسوخة فكيف يجوز الاستدلال بها قلنا كانت قبل أن صارت منسوخة دالة على أن القدرة حاصلة قبل الفعل والحقائق لا تتغير
أما قوله تعالى فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن يطعم مسكيناً أو أكثر والثاني أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب والثالث قال الزهري من صام مع الفدية فهو خير له
أما قوله وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ففيه وجوه أحدها أن يكون هذا خطاباً مع الذين يطيقونه فقط فيكون التقدير وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية والثاني أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه وهذا أولى لأن اللفظ عام ولا يلزم من اتصاله بقوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أن يكون حكمه مختصاً بهم لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وأن التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر الثالث أن يكون قوله وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ عطفاً عليه على أول الآية فالتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم
أما قوله إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم الثاني أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية الثالثة أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فذكر العلم والمراد الخشية وصاحب الخشية يراعي الإحتياط والاحتياط في فعل الصوم فكأنه قيل إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيراً لكم
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى الشهر مأخوذ من الشهرة يقال شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهراً لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهراً باسم الهلال
المسألة الثانية اختلفوا في رمضان على وجوه أحدها قال مجاهد إنه اسم الله تعالى ومعنى قول القائل شهر رمضان أي شهر الله وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى )
القول الثاني أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه الأول ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم الثاني أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس والإسم الرمضاء فسمي هذا الشهر بهذا الإسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته كما سموه تابعاً لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم وقيل لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر وقيل سمي بهذا الإسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها وقد روى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله ) الثالث أن هذا الإسم مأخوذ من قولهم رمضت النصل أرمضه رمضاً إذا دفعته بين حجرين ليرق ونصل رميض ومرموض فسمي هذا الشهر رمضان لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم وهذا القول يحكى عن الأزهري الرابع لو صح قولهم إن رمضان اسم الله تعالى وهذا الشهر أيضاً سمي بهذا الإسم فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت وهذا الشهر أيضاً رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته
المسألة الثالثة قرىء شَهْرٍ بالرفع وبالنصب أما الرفع ففيه وجوه أحدها وهو قول الكسائي أنه ارتفع على البدل من الصيام والمعنى كتب عليكم شهر رمضان والثاني وهو قول الفراء والأخفش أنه
خبر مبتدأ محذوف بدل من قوله أَيَّامًا كأنه قيل هي شهر رمضان لأن قوله شَهْرُ رَمَضَانَ تفسير للأيام المعدودات وتبيين لها الثالث قال أبو علي إن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر كأنه لما تقدم كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ قيل فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان أي صيامه الرابع قال بعضهم يجوز أن يكون بمبتدأ وخبره الَّذِى مع صلته كقوله زيد الذي في الدار قال أبو علي والأشبه أن يكون الَّذِى وصفاً ليكون لفظ القرآن نصاً في الأمر بصوم الشهر لأنك إن جعلته خبراً لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ إنما يكون مخبراً عنه بإنزال القرآن فيه وإيضاً إذا جعلت الَّذِى وصفاً كان حق النظم أن يكنى عن الشهر لا أن يظهر كقولك شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه وأما قراءة النصب ففيها وجوه أحدها التقدير صوموا شهر رمضان وثانيها على الإبدال من أيام معدودات وثالثها أنه مفعول وَأَن تَصُومُواْ وهذا الوجه ذكره صاحب ( الكشاف ) واعترض عليه بأن قيل فعلى هذا التقدير يصير النظم وأن تصوموا رمضان الذين أنزل فيه القرأن خير لكم وهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير وهو غير جائز لأن المبتدأ والخبر جاريان مجرى الشيء الواحد وإيقاع الفصل بين الشيء وبين نفسه غير جائز
أما قوله أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية وهو أنه أنزل فيه القرآن فلا يبعد أيضاً تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبداً يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات ) فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصاً بنزول القرآن وجب أن يكون مختصاً بالصوم وفي هذا الموضع أسرار كثيرة والقدر الذي أشرنا إليه كاف ههنا ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى نَزَّلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في تفسيره قولان الأول وهو اختيار الجمهور أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نزل صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين ) وههنا سؤلات
السؤال الأول أن القرآن ما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام دفعة وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور فما معنى تخصيص إنزاله برمضان
والجواب عنه من وجهين الأول أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض نجوماً وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول عليه السلام في توقع الوحي من أقرب الجهات أو كان فبه مصلحة لجبريل عليه السلام لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته أما الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجماً مفرقا فقد شرحناها في سورة
الفرقان في تفسير قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَة ً واحِدَة ً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 )
الجواب الثاني عن هذا السؤال أن المراد منه أنه ابتدىء إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان وهو قول محمد بن إسحاق وذلك لأن مبادىء الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة
واعلم أن الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز وههنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه
السؤال الثاني كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وبين قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ ( الدخان 3 )
والجواب روي أن ابن عمر استدل بهذه الآية وبقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان وهذا كمن يقول لقيت فلاناً في هذا الشهر فيقال له في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيراً للكلام الأول فكذا ههنا
السؤال الثالث أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) منجماً إلى آخر عمره ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمداً عليه السلام وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة ثم كذلك أبداً ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب
الجواب كلاهما محتمل وذلك لأن قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يحتمل أن يكون المراد منه الشخص وهو رمضان معين وأن يكون المراد منه النوع وإذا كان كل واحد منهما محتملاً صالحا وجب التوقف
القول الثاني في تفسير قوله أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال سفيان بن عيينة أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن وهذا اختيار الحسين بن الفضل قال ومثله أن يقال أنزل في الصديق كذا آية يريدون في فضله قال ابن الأنباري أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كام يقول أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها
المسألة الثانية القرآن اسم لما بين الدفتين من كلام الله واختلفوا في اشتقاقه فروى الواحدي في ( البسيط ) عن محمد بن عبد الله بن الحكم أن الشافعي رضي الله عنه كان يقول إن القرآن اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل قال ويهمز قراءة ولا يهمز القرآن كما يقول وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ ( الآراء 45 ) قال الواحدي وقول الشافعي أنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتق وذهب آخرون إلى أنه مشتق واعلم أن القائلين بهذا القول منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه
أما الأولون فلهم فيه اشتقاقان أحدهما أنه مأخوذ من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر فهو مشتق من قرن والإسم قران غير مهموز فسمي القرآن قرآناً إما لأن ما فيه من السور والآيات والحروف يقترن بعضها ببعض أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع مقترن بعضها ببعض أو لأن ما فيه من الدلائل الدالة على كونه من عبد الله مقترن بعضها ببعض أعني اشتماله على جهات الفصاحة وعلى الأسلوب الغريب وعلى الأخبار عن المغيبات وعلى العلوم الكثيرة فعلى هذا التقدير هو مشتق من قرن والإسم قران غير مهموز وثانيهما قال الفراء أظن أن القرآن سمي من القرائن وذلك لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً على ما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) فهي قرائن وأما الذين همزوا فلهم وجوه أحدها أنه مصدر القراءة يقال قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وقراءة وقرآنا فهو مصدر ومثل القرآن من المصادر الرجحان والنقصان والخسران والغفران قال الشاعر ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي قراءة وقال الله سبحانه وتعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى ( الإسراء 78 ) هذا هو الأصل ثم إن المقروء يسمى قرآناً لأن المفعول يسمى بالمصدر كما قالوا للمشرب شراب وللمكتوب كتاب واشتهر هذا الإسم في العرف حتى جعلوه اسماً لكلام الله تعالى وثانيها قال الزجاج وأبو عبيدة إنه مأخوذ من القرء وهو الجمع قال عمرو هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمع في رحمها ولدا ومن هذا الأصل قرء المرأة وهو أيام اجتماع الدم في رحمها فسمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور ويضمها وثالثها قول قطرب وهو أنه سمي قرآنا لأن القارىء يكتبه وعند القراءة كأنه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب ما قرأت الناقة سلى قط أي ما رمت بولد وما أسقطت ولداً قط وما طرحت وسمي الحيض قرأ لهذا التأويل فالقرآن يلفظه القارىء من فيه ويلقيه فسمي قرآناً
المسألة الثالثة قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( البقرة 23 ) أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال الله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ إذا ثبت هذا فنقول لما كان المراد ههنا من قوله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال أما قوله هُدًى لّلنَّاسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى بينا تفسير الهدى في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )
والسؤال أنه تعالى جعل القرآن في تلك الآية هدى للمتقين وههنا جعله هدى للناس فكيف وجه الجمع وجوابه ما ذكرناه هناك
المسألة الثانية هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ نصب على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو
آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل
أما قوله تعالى وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ففيه إشكال وهو أن يقال ما معنى قوله وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى بعد قوله هُدًى
وجوابه من وجوه الأول أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى ثم الهدى على قسمين تارة يكون كونه هدى للناس بينا جلياً وتارة لا يكون كذلك والقسم الأول لا شك أنه أفضل فكأنه قيل هو هدى لأنه هو البين من الهدى والفارق بين الحق والباطل فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه لكونه أشرف أنواعه والتقدير كأنه قيل هذا هدى وهذا بين من الهدى وهذا بينات من الهدى ولا شك أن هذا غاية المبالغات الثاني أن يقال القرآن هدى في نفسه ومع كونه كذلك فهو أيضاً بينات من الهدى والفرقان والمراد بالهدى والفرقان التوراة والإنجيل قال الله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ( آل عمران 3 4 ) وقال وَإِذَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ ( البقرة 53 ) وقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ( الأنبياء 480 ) فبين تعالى وتقدس أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان الثالث أن يحمل الأول على أصول الدين والهدي الثاني على فروع الدين فحينئذ يزول التكرار والله أعلم
وأما قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى نقل الواحدي رحمه الله في ( البسيط ) عن الأخفش والمازني أنهما قالا الفاء في قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ زائدة قالا وذلك لأن الفاء قد تدخل للعطف أو للجزاء أو تكون زائدة وليس للعطف والجزاء ههنا وجه ومن زيادة الفاء قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ ( الجمعه 8 )
وأقول يمكن أن يقال الفاء ههنا للجزاء فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة ههنا وجه كأنه قيل لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة أما قوله تعالى فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ الفاء فيه غير زائدة وأيضاً بل هذا من باب مقابلة الضد بالضد كأنه قيل لما فروا من الموت فجزائهم أن يقرب الموت منهم ليعلموا أنه لا يغني الحذر عن القدر
المسألة الثانية شَهِدَ أي حضر والشهود الحضور ثم ههنا قولان أحدهما أن مفعول شهد محذوف لأن المعنى فمن شهد منكم البلد أو بيته بمعنى لم يكن مسافراً وقوله الشَّهْرُ انتصابه على الظرف وكذلك الهاء في قوله فَلْيَصُمْهُ
والقول الثاني مفعول شَهِدَ هو الشَّهْرُ والتقدير من شاهد الشهر بعقله ومعرفته فليصمه وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركت زمان فلان واعلم أن كلا القولين لا يتم إلا بمخالفة الظاهر أما القول
الأول فإنما يتم بإضمار أمر زائد وأما القول الثاني فيوجب دخول التخصيص في الآية وذلك لأن شهود الشهر حاصل في حق الصبي والمجنون والمريض والمسافر مع أنه لم يجب على واحد منهم الصوم إلا أنا بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار فالتخصيص أولى وأيضاً فلاناً على القول الأول لما التزمنا الإضمار لا بد أيضاً من التزام التخصيص لأن الصبي والمجنون والمريض كل واحد منهم شهد الشهر مع أنه لا يجب عليهم الصوم بل المسافر لا يدخل فلا يحتاج إلى تخصيص هذه الصورة فيه فالقول الأول لا يتمشى إلا مع التزام الإضمار والتخصيص والقول الثاني يتمشى بمجرد التزام التخصيص فكان القول الثاني أولى هذا ما عندي فيه مع أن أكثر المحققين كالواحدي وصاحب ( الكشاف ) ذهبوا إلى الأول
المسألة الثالثة الألف واللام في قوله فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ للمعهود السابق وهو شهر رمضان ونظيره قوله تعالى لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء ( النور 13 ) أي فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة
المسألة الرابعة اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أن قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ جملة مركبة من شرط وجزاء فالشرط هو شهود الشهر والجزاء هو الأمر بالصوم وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع فلهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط فيصير تقريره من شهد جزأ من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر فعلى هذا من شهد هلال رمضان فقد شهد جزأ من أجزاء الشهر وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء وهو الأمر بصوم كل الشهر وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور
واعلم أن المنقول عن علي أن المراد من هذه الآية فمن شهد منكم أول الشهر فليصم جميعه وقد عرفت بما ذكرنا من الدليل أنه لا يصح ألبتة إلا هذا القول ثم يتفرع على هذا الأصل فرعان أحدهما أنه إذا شهد أول الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر والثاني أنه إذا شهد آخر الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر
أما الأول فهو أنه نقل عن علي رضي الله عنه أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر أن الواجب أن يصوم الكل لأنا بينا أن الآية تدل على أن من شهد أول الشهر وجب عليه صوم كل الشهر وأما سائر المجتهدين فيقولون إن قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وإن كان معناه أن من شهد أول الشهر فليصمه كله إلا أنه عام يدخل فيه الحاضر والمسافر وقوله بعد ذلك فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ خاص والخاص مقدم على العام فثبت أنه وإن سافر بعد شهوة الشهر فإنه يحل له الإفطار
وأما الثاني وهو أن أبا حنيفة زعم أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى قال لأنا
قد دللنا على أن المفهوم من هذه الآية أن من أدرك جزأ من رمضان لزمه صوم كل رمضان والمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فقد شهد جزأ من رمضان فوجب أن يلزمه صوم كل رمضان فإذا لم يمكن صيام ما تقدم فالقضاء واجب
المسألة الخامسة اعلم أن قوله تعالى فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يستدعي بحثين
البحث الأول أن شهود الشهر بماذا يحصل فنقول إما بالرؤية وإما بالسماع أما الرؤية فنقول إذا رأى إنسان هلال رمضان فأما أن يكون منفرداً بتلك الرؤية أو لا يكون فإن كان منفرداً بها فأما أن يرد الإمام شهادته أو لا يردها فإن تفرد بالرؤية ورد الإمام شهادته لزمه أن يصوم لأن الله تعالى جعل شهود الشهر سبباً لوجوب الصوم عليه وقد حصل شهود الشهر في حقه فوجب أن يجب عليه الصوم وأما إن انفرد بالرؤية وقبل الإمام شهادته أو لم ينفرد بالرؤية فلا كلام في وجوب الصوم وأما السماع فنقول إذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعاً وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به وإذا شهد على هلال رمضان يحكم به احتياطاً لأمر الصوم والفرق بينه وبين هلال شوال أن هلال رمضان للدخول في العبادة وهلال شوال للخروج من العبادة وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا على قول الإثنين وعلى أنه لا فرق بينهما في الحقيقة لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً فكذلك لا يقبل قول الواحد في هلال شوال لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً
البحث الثاني في الصوم نفقول إن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أول طلوع الفجر الصادق إلى حين غروب الشمس مع النية وفي الحد قيود
القيد الأول الإمساك وهو احتراز عن شيئين أحدهما لو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق إلى بطنه لا يبطل صومه لأن الاحتراز عنه شاق والله تعالى يقول في آية الصوم يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والثاني لوصب الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً أو حال نوم لا يبطل صومه لأن المعتبر هو الإمساك والامتناع والإكراه لا ينافي ذلك
القيد الثاني قولنا عن المفطرات وهي ثلاثة دخول داخل وخروج خارج والجماع وحد الدخول كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن إما الدماغ أو البطن وما فيه من الأمعاء والمثانة أما الدماغ فيحصل الفطر بالسعوط وأما البطن فيحصل الفطر بالحقنة وأما الخروج فالقىء بالاختيار والاستمناء يبطلان الصوم وأما الجماع فالإيلاج يبطل الصوم
القيد الثالث قولنا مع العلم بكونه صائماً فلو أكل أو شرب ناسياً للصوم لا يبطل صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يبطل
القيد الرابع قولنا من أول طلوع الفجر الصادق والدليل عليه قوله تعالى وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ( البقرة 187 ) وكلمة حَتَّى لانتهاء الغاية وكان الأعمش يقول أول وقته إذا طلعت الشمس وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ويحتج بأن
انتهاء اليوم من وقت غروب الشمس فكذا ابتداؤه يجب أن يكون من عند طلوعها وهذا باطل بالنص الذي ذكرناه وحكي عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتنيا فسكت عنه أبو حنيفة فلما خرج من عنده قيل له لم سكت عنه فقال وماذا أقول في رجل ما صام وما صلى في دهره عني به أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل الشمس فلا صوم له وكان لا يغتسل من الإنزال فلا صلاة له
القيد الخامس قولنا إلى غروب الشمس ودليله قوله عليه السلام ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) ومن الناس من يقول وقت الإفطار عند غروب ضوء الشمس قاس هذا الطرف على الطرف الأول من النهار
القيد السادس قولنا مع النية ومن الناس من يقول لا حاجة لصوم رمضان إلى النية لأن الله تعالى أمر بالصوم في قوله فَلْيَصُمْهُ والصوم هو الإمساك وقد وجد فيخرج عن العهدة لكنا نقول لا بد من النية لأن الصوم عمل بدليل قوله عليه السلام ( أفضل الأعمال الصوم ) والعمل لا بد فيه من النية لقوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات )
المسألة السادسة القائلون بأن الآية المتقدمة تدل على أن المقيم الصحيح مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية قالوا هذه الآية ناسخة لها وأبو مسلم الأصفاني والأصم ينكرون ذلك وقد تقدم شرح هذه المسألة ثم بتقدير صحة القول بهذا النسخ فهذا يدل على أن نسخ الأخف بالأثقل جائز لأن إيجاب الصوم على التعيين أثقل من إيجابه على التخيير بينه وبين الفدية
أما قوله تعالى فَمَن كَانَ مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فقد تقدم تفسير هذه الآية وقد تقدم بيان السبب في التكرير
أما قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فاعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره ههنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر ههنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة وههنا مسائل
المسألة الأولى اليسر في اللغة معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار لأنه يسهل به الأمور واليد اليسرى قيل تلي الفعال باليسر وقيل إنه يتسهل الأمر بمعونتها اليمنى
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية في أن تكليف ما لا يطاق غير واقع قالوا لأنه تعالى لما بين أنه يريد بهم ما تيسر دون ما تعسر فكيف يكلفهم ما لا يقدرون عليه من الإيمان وجوابه أن اليسر والعسر لا يفيدان العموم لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم وأيضاً فلو سلمنا ذلك لكنه قد ينصرف إلى المعهود السابق فنصرفه إلى المعهود السابق في هذا الموضع
المسألة الثالثة المعتزلة تمكسوا بهذه الآية في إثبات أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله وذلك لأن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله منه إذا كان لا
يريد العسر الجواب يحتمل اللفظ على أنه تعالى لا يريد أن يأمره بما فيه عسر وإن كان قد يريد منه العسر وذلك لأن عندنا الأمر قد يثبت بدون الإرادة
المسألة الرابعة قالوا هذه الآية دالة على رحمته سبحانه لعباده فلو أراد بهم أن يكفروا فيصيروا إلى النار وخلق فيهم ذلك الكفر لم يكن لائقاً به أن يقول يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والجواب أنه معارض بالعلم
أما قوله تعالى وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان أكملت وكملت
المسألة الثانية لقائل أن يقول وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ على ماذا علق
جوابنا أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف ثم فيه وجهان أحدهما ما قاله الفراء وهو أن التقدير ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة وتعليم كيفية القضاء والرخصة في إباحة الفطر وذلك لأنه تعالى ما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظاً ثلاثة فقوله وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ علة للأمر بمراعاة العدة وَلِتُكَبّرُواْ علة ما علمتم من كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخص والتسهيل ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) أي أريناه
الوجه الثاني ما قاله الزجاج وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء فلا يكون عسراً فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيراً بل يكون سهلاً يسيراً والفرق بين الوجهين أن في الأول إضماراً وقع بعد قوله وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وفي الثاني قبله
المسألة الثالثة إنما قال وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ ولم يقل ولتكملوا الشهر لأنه لما قال ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعاً ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المقضي ولو قال تعالى ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء
أما قوله وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا ففيه وجهان الأول أن المراد منه التكبير ليلة الفطر قال ابن عباس حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وقال الشافعي وأحب إظهار التكبير في العيدين وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يكره ذلك غداة الفطر واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وقال معناه ولتكملوا عدة شهر رمضان لتكبروا الله عند انقضائه على ما هداكم إلى هذه الطاعة ثم يتفرع على هذا ثلاث مسائل إحداها اختلف قوله في أن أي العيدين أوكد في التكبير فقال في القديم ليلة النحر أوكد لإجماع السلف عليها وقال في الجديد ليلة الفطر أوكد لورود النص فيها وثانيها أن وقت التكبير بعد غروب
الشمس من ليلة الفطر وقال مالك لا يكبر في ليلة الفطر ولكنه يكبر في يومه وروي هذا عن أحمد وقال إسحق إذا غدا إلى المصلى حجة الشافعي أن قوله تعالى وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ يدل على أن الأمر بهذا يوجب أن يكون التكبير وقع معللاً بحصول هذه الهداية لكن بعد غروب الشمس تحصل هذه الهداية فوجب أن يكون التكبير من ذلك الوقت وثالثها مذهب الشافعي أن وقت هذا التكبير ممتد إلى أن يحرم الإمام بالصلاة وقيل فيه قولان آخران أحدهما إلى خروج الإمام والثاني إلى انصراف الإمام والصحيح هو الأول وقال أبو حنيفة إذا بلغ إلى أدنى المصلى ترك التكبير
القول الثاني في تفسير قوله وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ أن المراد منه التعظيم لله شكراً على ما وفق على هذه الطاعة واعلم أن تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل أما القول فالإقرار بصفاته العلي وأسمائه الحسنى وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب وأما العمل فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام والحج واعلم أن القول الأول أقرب وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات
أما قوله تعالى عَلَى مَا هَدَاكُمْ فإنه يتضمن الإنعام العظيم في الدنيا بالأدلة والتعريف والتوفيق والعصمة وعند أصحابنا بخلق الطاعة
وأما قوله تعالى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ففيه بحثان أحدهما أن كلمة لَعَلَّ للترجي والترجي لا يجوز في حق الله والثاني البحث عن حقيقة الشكر وهذان بحثان قد مر تقريرهما
بقي ههنا بحث ثالث وهو أنه ما الفائدة في ذكر هذا اللفظ في هذا الموضع فنقول إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء وأوصاف الواصفين وذكر الذاكرين ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات فضلاً عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( البقرة 185 ) فأمر بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه ويجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه والثاني أن أمر بالتكبير أولاً ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بد
وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء فقال أولاً الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعرا 78 ) إلى قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) فكذا ههنا أمر بالتكبير أولاً ثم شرع بعده في الدعاء ثانياً الثالث إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف ثم ندموا وسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن توبتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً أحدها ما روي عن كعب أنه قال قال موسى عليه السلام يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك فقال يا موسى أنا جليس من ذكرني قال يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط قال يا موسى اذكرني على كل حال فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال فأنزل الله تعالى هذه الآية وثانيها أن أعرابياً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء فقال عليه السلام ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً ) ورابعها ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا كيف ندعو ربنا يا نبي الله فأنزل هذه الآية وخامسها قال عطاء وغيره إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله فأنزل الله تعالى هذه الآية وسادسها ما ذكره ابن عباس وهو أن يهود أهل المدينة قالوا يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا فنزلت هذه الآية وسابعها قال الحسن سأل أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أين ربنا فأنزل الله هذه الآية وثامنها ما ذكرنا أن قوله كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 183 ) لما اقتضى تحريم الأكل بعد النوم ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تعالى هل يقبل توبتنا فأنزل الله هذه الآية
واعلم أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى فذلك السؤال إما أنه كان سؤالاً عن ذات الله تعالى أو عن صفاته أو عن أفعاله أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعاً على كونه تعالى سميعاً أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء وهل أذن في الدعاء وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين كما قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ( الإسراء 110 ) وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا وهل يفعله ما نسأله عنه فقوله سبحانه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يحتمل كل هذه الوجوه إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول أن ظاهر قوله عَنّي يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله والثاني أن السؤال متى كان مبهماً والجواب مفصلاً دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين فلما قال في الجواب عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ولقائل أيضاً أن
يقول بل السؤال كان على الفعل وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم وهل يحصل مقصود بدليل أنه لما قال فَإِنّي قَرِيبٌ قال أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فهذا هو شرح هذا المقام
أما قوله تعالى فَإِنّي قَرِيبٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين
المطلوب الأول في بيان أن هذا القريب ليس قرباً بحسب المكان ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان في المكان مشاراً إليه بالحس لكان منقسماً إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد ولو كان منقسماً لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره فلو كان في مكان لكان مفتقراً إلى غيره والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق وذلك في حق الخالق القديم محال فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات أو غير متناه عن جهة دون جهة أو كان متناهياً من كل الجوانب والأول محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني محال أيضاً لهذا الوجه ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهياً والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه فيلزم منه كونه تعالى مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك
وأما القسم الثالث وهو أن يكون متناهياً من كل الجوانب فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا فبطل القول بأنه تعالى في الجهة الثالث وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بالجهة وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل بل كان يكون قريباً من حملة العرش وبعيداً من غيرهم ولكان إذا كان قريباً من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيداً من عمرو الذي هو بالمغرب فلما دلت الآية على كونه تعالى قريباً من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بحسب الجهة ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم أو المراد من هذا القرب العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وقال مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادله 7 ) والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة فنقول لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتشبيه فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته فإذا سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا أين ربنا صح أن يكون الجواب فإني قريب وكذلك إن سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا هل يسمع ربنا دعاءنا صح أن يقول في جوابه فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بأخفائه صح أن يجيب بقوله فإني قريب وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء صلح هذا الجواب أيضاً وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا صلح أن يجيب بقوله فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم فثبت أن هذا الجواب مطابق
للسؤال على جميع التقديرات
المسألة الثانية الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم يسمع دعاءه ولم يخيب رجاءه وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت
واعلم أن قوله تعالى فَإِنّي قَرِيبٌ فيه سر عقلي وذلك لأن اتصاف ماهيات الممكنات بوجوداتها إنما كان بإيجاد الصانع فكان إيجاد الصانع كالمتوسط بين ماهيات الممكنات وبين وجوداتها فكان الصانع أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها بل ههنا كلام أعلى من ذلك وهو أن الصانع هو الذي لأجله صارت ماهيات الممكنات موجودة فهو أيضاً لأجله كان الجوهر جوهراً والسواد سواداً والعقل عقلاً والنفس نفساً فكما أن بتأثيره وتكوينه صارت الماهيات موجودة فكذلك بتأثيره وتكوينه صارت كل ماهية تلك الماهية فعلى قياس ما سبق كان الصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهية إلى نفسها فإن قيل تكوين الماهية ممتنع لأنه لا يعقل جعل السواد سواداً فنقول فكذلك أيضاً لا يمكن جعل الوجود وجوداً لأنه ماهية ولا يمكن جعل الموصوفية دالة للماهية فإذن الماهية ليست بالفاعل والوجود ماهية أيضاً فلا يكون بالفاعل وموصوفية الماهية بالوجود هو أيضاً ماهية فلا تكون بالفاعل فإذن لم يقع شيء ألبتة بالفاعل وذلك باطل ظاهر البطلان فإذن وجب الحكم بأن الكل بالفاعل وعند ذلك يظهر الكلام الذي قررناه
أما قوله تعالى أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وقالون عن نافع الدَّاعِى َ إِذَا بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفها فالأولى على الوصل والثانية على التخفيف
المسألة الثانية قال أبو سليمان الخطابي الدعاء مصدر من قولك دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتاً وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم رجل عدل وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة وأقول اختلف الناس في الدعاء فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة واحتجوا عليه من وجوه أحدها أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء وثانيها أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان واجب الوقوع وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان ممتنع الوقوع ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئاً منها فأي فائدة في الدعاء وقال عليه الصلاة والسلام قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاماً وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( جف القلم بما هو كائن ) وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أربع قد فرغ منها العمر والرزق والخلق والخلق ) وثالثها أنه سبحانه علام الغيوب يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى
درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء إن الدعاء أهم مقامات العبودية ويدل عليه وجوه من النقل والعقل أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية أما الأصولية فقوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( الإسراء 85 ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة َ ( النازعات 42 ) وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ( البقرة 219 ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ( البقرة 217 ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ( البقرة 219 ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ( البقرة 220 ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) وقال أيضاً يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ( يونس 53 ) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 )
إذا عرفت هذا فنقول هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد قل وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله فقل مع فاء التعقيب والسبب فيه أن قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالُ سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكناً في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ولم ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك الثاني أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يدل على أن العبد له وقوله فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أن الرب للعبد وثالثها لم يقل فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلا الحق فلهذا قال فَإِنّي قَرِيبٌ والرابع أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله فإنه لا يكون داعياً له فإذا فني عن الكل صار مستغرقاً في معرفة الأحد الحق فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظاً لحقه وطالباً لنصيبه فلما ارتفعت الوسائط بالكلية فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتاً إلى غرض نفسه لم يكن قريباً من الله تعالى لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله فكان الدعاء أفضل العبادات
الحجة الثانية في فضل الدعاء قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 )
الحجة الثالثة أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال فَلَوْلاَ إِذَا جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 43 ) وقال عليه السلام ( لا ينبغي أن يقول أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول اللهم اغفر لي ) وقال عليه السلام ( الدعاء مخ العبادة ) وعن النعمان بن بشير أنه عليه السلام قال ( الدعاء هو العبادة ) وقرأ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ فقوله ( الدعاء هو العبادة ) معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة كقوله عليه السلام ( الحج عرفة ) أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم
الحجة الرابعة قوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وقال قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ( الفرقان 77 ) والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن
والجواب عن الشبهة الأولى أنها متناقضة لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة ثم نقول كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تنم العبودية وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه فقال بل شيء قد فرغ منه فقالوا ففيم العمل إذن قال ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ولم يترك أحد الأمرين للآخر وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال ( كل ميسر لما خلق له ) يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوه إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك
والجواب عن الشبهة الثانية أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية
وعن الثالثة أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء
وعن الرابعة أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب
المسألة الثالثة في الآية سؤال مشكل مشهور وهو أنه تعالى قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وقال في هذه الآية أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وكذلك أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب
والجواب أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة وهو قوله تعالى بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ( الأنعام 41 ) ولا شك أن المطلق محمول على المقيد ثم تقرير
المعنى فيه وجوه أحدها أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضاً إما إسعافاً بطلبته التي لأجلها دعا وذلك إذا وافق القضاء فإذا لم يساعده القضاء فإنه يعطي سكينة في نفسه وإنشراحاً في صدره وصبراً يسهل معه احتمال البلاء الحاضر وعلى كل حال فلا يعدم فائدة وهو نوع من الاستجابة وثانيها ما روى القفال في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاثة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم إما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا )
وهذا الخبر تمام البيان في الكشف عن هذا السؤال لأنه تعالى قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ولم يقل أستجب لكم في الحال فإذا استجاب له ولو في الآخرة كان الوعد صدقاً وثالثها أن قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ يقتضي أن يكون الداعي عارفاً بربه وإلا لم يكن داعياً له بل لشيء متخيل لا وجود له ألبتة فثبت أن الشرط الداعي أن يكون عارفاً بربه ومن صفات الرب سبحانه أن لا يفعل إلا ما وافق قضاءه وقدره وعلمه وحكمته فإذا علم أن صفة الرب هكذا استحال مه أن يقول بقلبه وبعقله يا رب افعل الفعل الفلاني لا محالة بل لا بد وأن يقول افعل هذا الفعل إن كان موافقاً لقضائك وقدرك وحكمتك وعند هذا يصير الدعاء الذي دلت الآية على ترتيب الإجابة عليه مشروطاً بهذه الشرائط وعلى هذا التقدير زال السؤال الرابع أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة أحدها أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله كقول العبد يا ألله الذي لا إله إلا أنت وهذا إنما سمي دعاء لإنك عرفت الله تعالى ثم وحدته وأثنيت عليه فهذا يسمى دعاء بهذا التأويل ولما سمي هذا المعنى دعاء سمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ومثله كثير وقال ابن الأنباري أُجِيبُ ههنا بمعنى أسمع لأن بين السماع وبين الإجابة نوع ملازمة فلهذا السبب يقام كل واحد منهما مقام الآخر فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله فكذا ههنا قوله أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ أي أسمع تلك الدعوة فإذا حملنا قوله تعالى ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ على هذا الوجه زال الإشكال وثانيها أن يكون المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب وذلك لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة وإجابة الدعاء بهذا التفسير عبارة عن قبول التوبة وعلى هذا الوجه أيضاً لا إشكال وثالثها أن يكون المراد من الدعاء العبادة قال عليه الصلاة والسلام ( الدعاء هو العبادة ) ومما يدل عليه قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ( غافر 60 ) فظهر أن الدعاء ههنا هو العبادة وإذا ثبت هذا فإجابة الله تعالى للدعاء بهذا التفسير عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كما قال وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ ( الشورى 26 ) وعلى هذا الوجه الإشكال زائل ورابعها أن يفسر الدعاء بطلب العبد من ربه حوائجه فالسؤال المذكور إن كان متوجهاً على هذا التفسير لم يكن متوجهاً على التفسيرات الثلاثة المتقدمة فثبت أن الإشكال زائل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ مختص بالمؤمنين الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) وذلك لأن وصفنا الإنسان بأن الله تعالى قد أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا إنه مستجاب الدعوة وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين والفاسق واجب الإهانة في الدين ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة
أما قوله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بَى ففيه مسائل
المسألة الأولى وجه الناظم أن يقال إنه تعالى قال أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقاً فكن أنت أيضاً مجيباً لدعائي مع أنك محتاج إلى من كل الوجوه فما أعظم هذا الكرم وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد أجب دعائي حتى أجيب دعاءك لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء وأنه غير معلل بطاعة العبد وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب وهذا يدل على فساد ما نقلناه عن المعتزلة في المسألة الرابعة
المسألة الثانية قال الواحدي أجاب واستجاب بمعنى واحد قال كعب الغنوي وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أهل المعنى الإجابة من العبد لله الطاعة وإجابة الله لعبده إعطاؤه إياه مطلوبه لأن إجابة كل شيء على وفق ما يليق به
المسألة الثالثة إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان فذاك هو الإيمان وعلى هذا التقدير يكون قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى تكراراً محضاً وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدماً على الطاعات وكان حق النظم أن يقول فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي فلم جاء على العكس منه
وجوابه أن الإستجابة عبارة عن الإنقياد والإستسلام والإيمان عبارة عن صفة القلب وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات
أما قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فقال صاحب ( الكشاف ) قرىء يَرْشُدُونَ بفتح الشين وكسرها ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم لأن الرشيد هو من كان كذلك يقال فلان رشيد قال تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا ( النساء 6 ) وقال أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ ( الحجرات 7 )
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى أنه ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة بل كانت ثابتة في شرع النصارى والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة واحتج الجمهور على قولهم بوجوه
الحجة الأولى أن قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 183 ) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضاً في صومنا وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتاً في شرعنا
الحجة الثانية التمسك بقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله أُحِلَّ لَكُمُ فائدة
الحجة الثالثة التمسك بقوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ولو كان ذلك حلالاً لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم
الحجة الرابعة قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ولولا أن ذلك كان محرماً عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل لما صح قوله فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ
الحجة الخامسة قوله تعالى فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ فائدة
الحجة السادسة هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ أجاب أبو مسلم عن هذه الدلائل فقال
أما الحجة الأولى فضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب
وأما الحجة الثانية فضعيفة أيضاً لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا فقوله أُحِلَّ لَكُمُ معناه أن الذي كان محرماً على غيركم فقد أحل لكم
وأما الحجة الثالثة فضعيف أيضاً وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم ولم يبين في ذلك الإيجاب زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ فإن مقتضى التشبيه حصول
المشابهة في كل الأمور فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل من أن تكون شبهة موهمة فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور فقال الله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة ومنعوها من المراد وأصل الخيانة النقص وخان واختان وتخون بمعنى واحد كقولهم كسب واكتسب وتكسب فالمراد من الآية علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى
وأما الحجة الرابعة فضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلاً على من قبلنا كقوله وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 )
وأما الحجة الخامسة فضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ
وأما الحجة السادسة فضعيفة لأن قولنا هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعاً لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه وأيضاً ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول وذلك على خلاف قول الله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ لأن ظاهره هو المباشرة لأنه افتعال من الخيانة فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة
المسألة الثانية القائلون بأن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ثم إنها نسخت ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الشريعة يحل الأكل والشرب والجماع ما لم يرقد الرجل أو يصل العشاء الآخرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء إلى الليلة الآتية فجاء رجل من الأنصار عشية وقد أجهده الصوم واختلفوا في اسمه فقال معاذ اسمه أبو صرمة وقال البراء قيس بن صرمة وقال الكلبي أبو قيس بن صرمة وقيل صرمة بن أنس فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن سبب ضعفه فقال يا رسول الله عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني شيئاً فأبطأت فنمت فأيقظوني وقد حرم الأكل فقام عمر فقال يا رسول الله أعتذر إليك من مثله رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء الآخرة فأتيت امرأتي فقال عليه الصلاة والسلام لم تكن جديراً بذلك يا عمر ثم قام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا فنزل قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ أي أحل الله وقرأ عبد الله الرفوث
المسألة الرابعة قال الواحدي ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة ومنه قول العباس بن مرادس فقلنا أسلموا إنا أخوكم
فقد برئت من الأحن الصدور
وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة
المسألة الخامسة قال الليث الرفث أصله قول الفحش وأنشد الزجاج ورب أسراب حجيج كقلم
عن اللغا ورفث التكلم
يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ( البقرة 197 ) وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم وهن يمشين بنا هميسا
أن يصدق الطير ننك لميسا
فقيل له أترفث فقال إنما الرفث ما كان عند النساء فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه
فإن قيل لم كنى ههنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( النساء 21 ) فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ( الأعراف 189 ) أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء ( النساء 43 ) دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ( النساء 23 ) فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ( البقرة 223 ) مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 236 ) فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ( النساء 24 ) وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ( البقرة 222 )
جوابه السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم والله اعلم
المسألة السادسة قال الأخفش إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ( النساء 21 )
المسألة السابعة قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن لَيْلَة َ نصب على الظرف وإنما يكون الليل ظرفاً للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لاكله فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ وأما الذي بعده في قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ فذاك يكون كالتأكيد لهذا النسخ وأما الذي يقول إن قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ يفيد حل الرفث في الليل فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ
أما قوله تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها أحدها أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه سمي كل واحد منهما لباساً قال الربيع هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن وقال ابن زيد عن لباس لكن وأنتم لباس لهن يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس وثانيها إنما سمي الزوجان لباساً ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل كما جاء في الخبر ( من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه ) وثالثها أنه تعالى جعلها لباساً للرجل من حيث إنه يخصها بنفسه كما يخص لباسه بنفسه ويراها أهلاً لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس ورابعها يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن
جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار وخامسها ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور
المسألة الثانية قال الواحدي إنما وحد اللباس بعد قوله هُنَّ لأنه يجري مجرى المصدر وفعال من مصادر فاعل وتأويله هن ملابسات لكم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت ما موقع قوله هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ فنقول هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وضعف عليكم اجتنابهن فلذلك رخص لكم في مباشرتهن
أما قوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى يقال خانه يخونه خوناً وخيانة إذا لم يف له والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة وناقض العهد خائن لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر ومنه قوله تعالى وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً ( الأنفال 58 ) أي نقضاً للعهد ويقال للرجل المدين إنه خائن لأنه لم يف بما يليق بدينه ومنه قوله تعالى لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقال وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ ( الأنفال 71 ) ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة وإذا علمت معنى الخيانة فقال صاحب ( الكشاف ) الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة
المسألة الثانية أن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت فيماذا فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر والذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر قوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع ثم ههنا وجهان أحدهما علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله لأنه جلب إليها العقاب وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم لأن قوله عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى لأن الله تعالى لم يقل علم الله أنكم كنتم تختانون الله كما قال لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ ( الأنفال 27 ) ما قال كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ
القول الثاني أن المراد علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ومعناه أن الله
يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال بل الثاني أولى لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف وعلى التقدير الثاني علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سبباً لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة
أما قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ فمعناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالاذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره تبتم فتاب عليكم فيه
أما قوله تعالى وَعَفَا عَنكُمْ فعلى قول أبي مسلم معناه وسع عليكم أن أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف قال عليه السلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ) وقال ( أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله ) والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ويقال أتاني هذا المال عفوا أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم وأما على قول مثبتي النسخ فقوله عَفَا عَنْكُمْ لا بد وأن يكون تقديره عفا عن ذنوبكم وهذا مما يقوي أيضاً قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار
أما قوله تعالى فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذا أمر وارد عقب الخطر فالذين قالوا الأمر الوارد عقيب الخطر ليس إلا للإباحة كلامهم ظاهر وأما الذين قالوا مطلق الأمر للوجوب قالوا إنما تركنا الظاهر وعرفنا كون هذا الأمر للاباحة بالإجماع
المسألة الثانية المباشرة فيها قولن أحدهما وهو قول الجمهور أنها الجماع سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وإنضمامهما ومنها ما روي أنه عليه السلام نهى أن يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة الثانية وهو قول الأصم أنه الجماع فما دونه وعلى هذا الوجه اختلف المفسرين في معنى قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع والأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقاً من تلاصق البشرتين لم يكن مختصاً بالجماع بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه فصح ههنا حمل الكلام على الجماع فقط ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه على ما لخصه القاضي
أما قوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الآية وجوها أحدها وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل قال عليه السلام ( تناكحوا تناسلوا تكثروا ) وثانيها أنه نهى عن العزل وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي لا يعزل
الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره العزل وعن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أن يعزل عن الحرة إلا باذنها وثالثها أن يكون المعنى ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ورابعها أن هذا التأكيد تقديره فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم وخامسها وهو على قول أبي مسلم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم وسادسها أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن وسابعها أن قوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ إذن في المباشرة وقوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي كتب الله لكم بقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) وثامنها قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه وعندي أنه لا بأس به وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور أما إذا قضى وطره وصار فارغاً من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية فتقدير الآية فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الاخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة
المسألة الثانية كِتَابَ فيه وجوه أحدها أن كِتَابَ في هذا الموضوع بمعنى جعل كقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادله 22 ) أي جعل وقوله فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( آل عمران 53 ) خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( الأعراف 156 ) أي اجعلها وثانيها معناه قضى الله لكم كقوله قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ( التوبة 51 ) أي قضاه وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى وقوله لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أي قضى وثالثها أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ ورابعها هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال
المسألة الثالثة قرأ ابن عباس وَابْتَغُواْ وقرأ الأعمش وابغوا
أما قوله لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ فالفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالليل بعد النوم لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم فلو اقتصر تعالى على قوله فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب فقرن إلى ذلك قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ لتتم الدلالة على الإباحة
أما قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ففيه مسائل
المسألة الأولى روي أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم أخذت عقالين أبيض وأسود
فجعلتهما تحت وسادتي وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته فضحك وقال إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل وإنما قال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنك لعريض القفا لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل ونقول يدل قطعا على أنه تعالى كني بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل وفيه إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب وبالإجماع أنه ليس كذلك
وجوابه أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية مِنَ الْفَجْرِ لكان السؤال لازماً وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجراً لأنه ينفجر منه النور وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق فإن قيل فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل
وجوابه أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق وأول الصبح الصادق لا يكون منتشراً بل يكون صغيراً دقيقاً بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقاً والصادق يبدو دقيقاً ويرتفع مستطيلاً فزال السؤال فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الإستعارة مع قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ
المسألة الثانية لا شك أن كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فدلت هذه الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح ووزعم أبو مسلم الأصفهاني لا شيء من المفطرات إلا أحد هذه الثلاثة فأما الأمور التي تذكرها الفقهاء من تكلف القيء والحقنة والسعوط فليس شيء منها بمفطر قال لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة على الصائم بعد الصبح فبقي ما عداها على الحل الأصلي فلا يكون شيء منها مفطراً والفقهاء قالوا إن الله تعالى خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لأن النفس تميل إليها وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها
المسألة الثالثة مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح
المسألة الرابعة زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره فكما أن آخره بغروب القرص وجب أن يكون أوله بطلوع القرص وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد فإما أن يكون التشبيه في الشكل مراداً فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن
الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك فيكون قبل طلوع الشمس ليلاً وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص فهذا تقرير قول الأعمش ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار ومنهم من قال لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة ومنهم من زاد عليه وقال بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب وهذه المذاهب قد انقرضت والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها
المسألة الخامسة الْفَجْرِ مصدر قولك فجرت الماء أفجره فجراً وفجرته تفجيراً قال الأزهري الفجر أصله الشق فعل هذا الفجر في آخر الليل هو إنشقاق ظلمة الليل بنور الصبح وأما قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله وقيل للتبيين كأنه قيل الخيط الأبيض الذي هو الفجر
المسألة السادسة أن الله تعالى لما أحل الجماع والأكل والشرب إلى غاية تبين الصبح وجب أن يعرف أن تبين الصبح ما هو فنقول الطريق إلى معرفة تبين الصبح إما أن يكون قطيعاً أو ظنياً أما القطعي فبأن يرى طلوع الصبح أو يتيقن أنه مضى من الزمان ما يجب طلوع الصبح عنده وأما الظني فنقول إما أن يحصل ظن أن الصبح طلع فيحرم الأكل والشرب والوقاع فإن حصل ظن أنه ما طلع كان الأكل والشرب والوقاع مباحاً فإن أكل ثم تبين بعد ذلك أن ذلك الظن خطأ وأن الصبح كان قد طلع عند ذلك الأكل فقد اختلفوا وكذلك إن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم تبين أنها ما كانت غاربة فقال الحسن لا قضاء في الصورتين قياساً على ما لو أكل ناسياً وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في رواية المزني عنه يجب القضاء لأنه أمر بالصوم من الصبح إلى الغروب ولم يأت به وأما الناسي فعند مالك يجب عليه القضاء وأما الباقون الذين سلموا أنه لا قضاء قالوا مقتضى الدليل وجوب القضاء عليه أيضاً إلا أنا أسقطناه عنه للنص وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً قال أكلت وشربت وأنا صائم فقال عليه الصلاة والسلام أطعمك الله وسقاك فأنت ضيف الله فتم صومك
والقول الثالث أنه إذا أخطأ في طلوع الصبح لا يجب القضاء وإذا أخطأ في غروب الشمس يجب القضاء والفرق أن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان والثابت في الليل حل الأكل وفي النهار حرمته أما إذا لم يغلب على ظنه لا بقاء الليل ولا طلوع الصبح بل بقي متوقفاً في الأمرين فههنا يكره له الأكل والشرب والجماع فإن فعل جاز لأن الأصل بقاء الليل والله أعلم
أما قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية فظاهر الآية أن الصوم ينتهي عند دخول الليل وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى إِلَى الْمَرَافِقِ ( المائدة 6 ) إلا أن ذلك على خلاف الدليل والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار والمرافق من جنس اليد فيكون داخلاً فيه وقال أحمد بن يحيى سبيل إلى الدخول والخروج وكلا الأمرين جائز تقول أكلت السمكة إلى رأسها وجائز أن يكون الرأس داخلاً في الأكل وخارجاً منه إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل
خارج عن الصوم إذ لو كان داخلاً فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذاً بالأوثق ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل فقد ورد الحديث الصحيح فيه وهو ما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم ) فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت فأما أنه يجب على المكلف أن يتناول عند هذا الوقت شيئاً فالدليل عليه ما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه بإسناده عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الوصال قيل يا رسول الله تواصل أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله فقال إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وقيل فيه معان أحدها أنه كان يطعم ويسقى من طعام الجنة والثاني أن عليه الصلاة والسلام قال إني على ثقة من أني لو احتجت إلى الطعام أطعمني مواصلاً وحكى محمد بن جرير الطبري عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام فلما كبر جعلها خمساً فلما كبر جداً جعلها ثلاثاً فظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه يدل على أن هذا النهي نهي تحريم وقيل هو نهي تنزيه لأنه ترك للمباح وعلى هذا التأويل صح فعل ابن الزبير إذا عرفت هذا فنقول إذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء فعلى ذلك هو بالخيار في الإستيفاء إلا أن يخاف المرء من التقصير في صوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول من الطعام قدراً يزول به هذا الخوف
المسألة الثانية اختلفوا في أن الليل ما هو فمن الناس من قال آخر النهار على أوله فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشمس كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور آثار الشمس ثم هؤلاء منهم من اكتفي بزوال الحمرة ومنهم من اعتبر ظهور الظلام التام وظهور الكواكب إلا أن الحديث الذي رواه عمر يبطل ذلك وعليه عمل الفقهاء
المسألة الثالثة الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن التبييت والتعيين غير معتبر في صحة الصوم قالوا الصوم في اللغة هو الإمساك وقد وجد ههنا فيكون صائماً فيجب عليه إتمامه لقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ فوجب القول بصحته لأن الإمساك حرج ومشقة وعسر وهو منفي بقوله تعالى مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ترك العمل به في الصوم الصحيح فيبقى غير الصحيح على الأصل ثم نقول مقتضى هذا الدليل أن يصح صوم الفرض بنية بعد الزوال إلا أنا قلنا الأقل يلحق بالأغلب فلا جرم أبطلنا الصوم بنية بعد الزوال وصححنا نيته قبل الزوال
المسألة الرابعة الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه قالوا لأن قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ أمر وهو للوجوب وهو يتناول كل الصيامات والشافعية قالوا هذا إنما ورد لبيان أحكام صوم الفرض فكان المراد منه صوم الفرض
الحكم السابع
من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف
قوله تعالى وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم وبين أن من حكمه تحريم المباشرة كان يجوز أن يظن في
الإعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهاراً لا ليلاً فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهاراً وليلاً فقال وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه الإعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه براً كان أو إثماً قال تعالى يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ( الأعراف 138 ) والإعتكاف الشرعي المكث في بيت الله تقرباً إليه وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ( البقرة 125 ) وقال تعالى وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
المسألة الثانية لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو معتكف أما إذا لمسها بشهوة أو قبلها أو باشرها فيما دون الفرج فهو حرام على المعتكف وهو يبطل بها اعتكافه للشافعي رحمه الله فيه قولان الأصح أنه يبطل وقال أبو حنيفة لا يفسد الإعتكاف إذا لم ينزل احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين فقوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ منع من هذه الحقيقة فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها
فإن قيل لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع
قلنا لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع وهو قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذناً فيما دون الجماع بطريق الأولى أما ههنا فلم يوجد شيء من هذه القرائن فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال إنها لا تبطل الإعتكاف أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج فوجب أن لا تفسد الإعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب أن النص مقدم على القياس
المسألة الثالثة اتفقوا على أن شرط الإعتكاف ليس الجلوس في المسجد وذلك لأن المسجد مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بني لإقامة الطاعات فيه ثم اختلفوا فيه فنقل عن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام والحجة فيه قوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ( البقرة 125 ) فبين ذلك البيت لجميع العاكفين ولو جاز الإعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم وقال عطاء لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي ) وقال حذيفة يجوز في هذين المسجدين وفي مسجد بيت المقدس لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) وقال الزهري لا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب وقال الشافعي رضي الله عنه يجوز في جميع المساجد إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية لأن قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ عام يتناول كل المساجد
المسألة الرابعة يجوز الإعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا بالصوم حجة الشافعي رضي الله عنه هذه الآية لأنه بغير الصوم عاكف والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة ولو كان إعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً ترك العمل بظاهر اللفظ إذا ترك النية فيبقى فيما عداه على الأصل واحتج المزني بصحة قول الشافعي رضي الله عنهما بأمور ثلاثة الأول لو كان الإعتكاف يوجب الصوم لما صح في رمضان لأن الصوم الذي هو موجبه إما صوم رمضان وهو باطل لأنه واجب بسبب الشهر لا بسبب الاعتكاف أو صوم آخر سوى صوم رمضان وذلك ممتنع وحيث أجمعوا على أنه يصح في رمضان علمنا أن الصوم لا يوجبه الإعتكاف والثاني أنه لو كان الإعتكاف لا يجوز إلا مقارناً بالصوم لخرج الصائم بالليل عن الإعتكاف لخروجه فيه عن الصوم ولما كان الأمر بخلاف ذلك علمنا أن الإعتكاف يجوز مفرداً أبداً بدون الصوم والثالث ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف الله ليلة فقال عليه الصلاة والسلام أوف بنذرك ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله عنه لا تقدير لزمان الإعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ينعقد ولو نذر أن يعتكف مطلقاً يخرج عن نذره باعتكافه ساعة كما لو نذر أن يتصدق مطلقاً تصدق بما شاء من قليل أو كثير ثم قال الشافعي رضي الله عنه وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف فإن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجوز اعتكاف أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ليس تقدير الإعتكاف بمقدار معين من الزمان أولى من بعض فوجب ترك التقدير والرجوع إلى أقل ما لا بد منه وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الإعتكاف هو حبس النفس عليه وذلك لا يحصل في اللحظة الواحدة ولأن على هذا التقدير لا يتميز المعتكف عمن ينتظر الصلاة
أما قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تِلْكَ لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الإعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الإعتكاف إلا حداً واحداً وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى ههنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل
المسألة الثانية قال الليث حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع حداً وسمي الحديد حديداً لما فيه من المنع وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الإشتقاق فنقول المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة
أما قوله تعالى فَلاَ تَقْرَبُوهَا ففيه إشكالان الأول أن قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى كل ما تقدم والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل فَلاَ تَقْرَبُوهَا والثاني أنه تعالى قال في آية أخرى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ( البقرة 229 ) وقال في آية المواريث وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( تلك وقال ههنا فَلاَ تَقْرَبُوهَا فكيف الجمع بينهما
والجواب عن السؤالين من وجوه الأول وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيداً عن الطرف فضلاً أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام ( إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) الثاني ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله لاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ( الإسراء 34 ) الثالث أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وقبل هذه الآية قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار وقبل هذه الآية قوله وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات لا جرم غلب جانب التحريم فقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها
أما قوله تعالى كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ففيه وجوه أحدها المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه وثانيها قال أبو مسلم المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( النور 1 ) ثم فسر الآيات بقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى ( النور 2 ) إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا فكأنه تعالى قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم وثالثها يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً سافياً وافياً قال بعده كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يذكر للناس والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان
أما قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فقد مر شرحه غير مرة
الحكم الثامن
من الأحكام المذكورة في هذه السورة حكم الأموال
وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنهم مثلوا قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بقوله مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) وهذا مخالف لها لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره قال الشيخ أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء المال إنما يحرم لمعنى في عينه أو لحال في جهة اكتسابه
والقسم الأول الحرام لصفة في عينه
واعلم أن الأموال إما أن تكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوانات أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منه إلا من حيث يضر بالأكل وهو ما يجري مجرى السم وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل الحياة والصحة أو العقل فمزيل الحياة السموم ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها ومزيل العقل الخمر والبنج وسائر المسكرات
وأما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وما يحل إنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ثم إذا ذبحت فلا تحل بجميع أجزائها بل يحرم منها الفرث والدم وكل ذلك مذكور في كتب الفقه
القسم الثاني ما يحرم لخلل من جهة إثبات اليد عليه فنقول أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث والذي باختياره إما أن يكون مأخوذاً من المالك كأخذ المعادن وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي والمأخوذ قهراً إما أن لسقوط عصمة الملك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا التقسيم أقسام ستة الأول ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن وإحياء الموت والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين الثاني المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس وقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهد والثالث ما يؤخذ قهراً باسحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على القدر المستحق الرابع ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين أعني الإيجاب والقبول مما يعتد الشرع به من اجتناب الشرط المفسد الخامس ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره السادس ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة فهذا مجامع مداخل الحلال وكتب الفقه مشتملة على تفاصيلها فكل ما كان كذلك كان مالاً حلالاً وكل ما كان بخلافه كان حراماً إذا عرفت هذا فنقول المال إما أن يكون لغيره أو له فإن كان لغيره كانت حرمته لأجل الوجوه الستة المذكورة وإن كان له فأكله بالحرام أن يصرف إلى شرب الخمر والزنا واللواط والقمار أو إلى السرف المحرم وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ واعلم أن سبحانه كرر هذا النهي في مواضع من كتابه
فقال ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقال يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) ثم قال فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثم قال وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( البقرة 279 ) ثم قال وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 275 ) جعل آكل الربا في أول الأمر مؤذناً بمحاربة الله وفي آخره متعرضاً للنار
المسألة الثانية قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ ليس المراد منه الأكل خاصة لأن غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا الباب لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال إنما هو الأكل وقع التعارف فيمن ينفق ماله أن يقال أنه أكله فلهذا السبب عبر الله تعالى عنه بالأكل
المسألة الثالثة الْبَاطِلُ في اللغة الزائل الذاهب يقال بطل الشيء بطولاً فهو باطل وجمع الباطل بواطل وأباطيل جمع أبطولة ويقال بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو
أما قوله تعالى وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الإدلاء مأخوذ من إدلاء الدلو وهو إرسالك إياها في البئر للإستقاء يقال أدليت دلوي أدليها إدلاء فإذا استخرجتها قلت دلوتها قال تعالى فَأَدْلَى دَلْوَهُ ( يوسف 19 ) ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل أدلاء ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده كإدلاء المستقي الولد ليصل إلى مطلوبه من الماء وفلان يدلى إلى الميت بقرابة أو رحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستحق بالدلو الماء إذا عرفت هذا فنقول أنه داخل في حكم النهي والتقدير ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالباطل وفي تشبيه الرشوة بالإدلاء وجهان أحدهما أن الرشوة رشاء الحاجة فكما أن الدلو المملوء من الماء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالمقصود البعيد يصير قريباً بسبب الرشوة والثاني أن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت كمضي الدلو في الإرسال ثم المفسرون ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس والحسن وقتادة المراد منه الودائع وما لا يقوم عليه بينة وثانيها أن المراد هو مال اليتيم في ي الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ليبقى عليهم بعضه وثالثها أن المراد من الحاكم شهادة الزور وهو قول الكلبي ورابعها قال الحسن المراد هو أن يحلف ليذهب حقه وخامسها هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة وهو أقرب إلى الظاهر ولا يبعد أيضاً حمل اللفظ على الكل لأنها بأسره أكل بالباطل
أما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فالمعنى وأنتم تعلمون أنكم مبطلون ولا شك أن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال اختصم رجلان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عالم بالخصومة وجاهل بها فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للعالم فقال من قضى عليه يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق فقال إن شئت أعاوده فعاوده فقضى للعالم فقال المقضى عليه مثل ما قال أولاً ثم عاوده ثالثاً ثم قال عليه الصلاة والسلام ( من اقتطع حق امرىء مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار ) فقال العالم المقضي له يا رسول الله إن الحق حقه فقال عليه الصلاة والسلام ( من اقتطع
بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار )
الحكم التاسع
يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى نقل عن ابن عباس أنه قال ما كان قوم أقل سؤالاً من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا
وأقول ثمانية منها في سورة البقرة أولها وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) وثانيها هذه الآية ثم الستة الباقية بعد في سورة البقرة فالمجموع ثمانية في هذه السورة والتاسع قوله تعالى في سورة المائدة يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ( المائدة 4 ) والعاشر في سورة الأنفال يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) والحادي عشر في بني إسرائيل يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحُ ( الإسراء 85 ) والثاني عشر في الكهف وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) والثالث عشر في طه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) والرابع عشر في النازعات يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ ( النازعات 42 ) ولهذه الأسئلة ترتيب عجيب اثنان منها في الأول في شرح المبدأ فالأول قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي ( البقرة 186 ) وهذا سؤال عن الذات والثاني قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ وهذا سؤال عن صفة الخلاقية والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه واثنان منها في الآخرة في شرح المعاد أحدهما قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ والثاني قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( البقرة 21 ) أحدهما في النصف الأول وهي السورة الرابعة من سورة النصف الأول فإن أولاها الفاتحة وثانيتها البقرة وثالثها آل عمران ورابعتها النساء وثانيتهما في النصف الثاني من القرآن وهي أيضاً السورة الرابعة من سور النصف الثاني أولاها مريم وثانيتها طه وثالثتها الأنبياء ورابعتها الحج ثم يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ التي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ فقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ( النساء 1 ) و يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ التي في النصف الثاني تشتمل على شرح المعاد فقال تَصِفُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية وحكم مطوية لا يعرفها إلا الخواص من عبيده
المسألة الثانية روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم وكل واحد منهما كان من الأنصار قالا يا رسول
الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس فنزلت هذه الآية ويروى أيضاً عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة
واعلم أن قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ ليس فيه بيان إنهم عن أي شيء سألوا لكن الجواب كالدال على موضع السؤال لأن قوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ يدل على أن سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة فصار القرآن والخبر متطابقين في أن السؤال كان عن هذا المعنى
المسألة الثالثة الأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس يقال له هلال ليلتين من أول الشهر ثم يكون قمراً بعد ذلك وقال أبو الهيثم يسمى القمر ليلتين من أول الشهر هلالاً وكذلك ليلتين من آخر الشهر ثم يسمي ما بَين ذلك قمراً قال الزجاج فعال يجمع في أقل العدد على أفعلة نحو مثال وأمثلة وحمار وأحمرة وفي أكثر العدد يجمع على فعل مثل حمر لأنهم كرهوا في التضعيف فعل نحو هلل وخلل فاقتصروا على جمع أدنى العدد
أما قوله تعالى قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ مسألتان
المسألة الأولى المواقيت جمع الميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد وقال بعضهم الميقات منتهى الوقت قال الله تعالى فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ ( الأعراف 142 ) والهلال ميقات الشهر ومواضع الإحرام مواقيت الحج لأنها مواضع ينتهي إليها ولا تصرف مواقيت لأنها غاية الجموع فصار كأن الجمع يكرر فيها فإن قيل لم صرفت قوارير قيل لأنها فاصلة وقعت في رأس آية فنون ليجري على طريقة الآيات كما تنون القوافي مثل قوله أقل اللوم عاذل والعتابن
المسألة الثانية اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل الزمان مقدراً من أربعة أوجه السنة والشهر واليوم والساعة أما السنة فهي عبارة عن الزمان الحاصل من حركة الشمس من نقطة معينة من الفلك بحركتها الحاصلة عن خلاف حركة الفلك إلى أن تعود إلى تلك النقطة بعينها إلا أن القوم اصطلحوا على أن تلك النقطة نقطة الإعتدال الربيعي وهو أول الحمل وأما الشهر فهو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به إلى أن يعود إلى تلك النقطة ولما كان أشهر أحوال القمر وضعه مع الشمس وأشهر أوضاعه من الشمس هو الهلال العربي مع أن القمر في هذا الوقت يشبه الموجود بعد العدم والمولود الخارج من الظلم لا جرم جعلوا هذا الوقت منتهى للشهر وأما اليوم بليلته فهو عبارة عن مفارقة نقطة من دائرة معدل النهار نقطة من دائرة الأفق أو نقطة من دائرة نصف النهار وعودها إليها فالزمان المقدر عبارة عن اليوم بليلتها ثم أن المنجمين اصطلحوا على تعيين دائرة نصف النهار مبتدأ لليوم بليلته أما أكثر الأمم فإنهم جعلوا مبادىء الأيام بلياليها من مفارقة الشمس أفق المشرق وعودها إليه من الغداة واحتج من نصر مذهبهم بأن الشمس عند طلوعها كالموجود بعد العدم فجعله أولا أولى فزمان النهار عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض وزمان الليل عبارة عن كونها تحت الأرض وفي شريعة الإسلام يفتتحون النهار من أول وقت
طلوع الفجر في وجوب الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام وعند المنجمين مدة الصوم في الشرع هي زمان النهار كله مع زيادة من زمان الليل معلومة المقدار محدودة المبدأ وأما الساعة فهي على قسمين مستوية جزء من أربعة وعشرين من يوم وليلة فهذا كلام مختصر في تعريف السنة والشهر واليوم والساعة
فنقول أما السنة فهي عبارة عن دورة الشمس فتحدث بسببها الفصول الأربعة وذلك لأن الشمس إذا حصلت في الحمل فإذا تركت من هذا الموضع إلى جانب الشمال أخذ الهواء في جانب الشمال شيئاً من السخونة لقربها من مسامتة الرؤوس ويتواتر الإسخان إلى أن تصل أول السرطان وتشتد الحرارة ويزداد الحر ما دامت في السرطان والأسد لقربها من سمت الرؤوس ويتواتر الإسخان ثم ينعكس إلى أن يصل الميزان وحينئذ يطيب الهواء ويعتدل ثم يأخذ الحر في النقصان والبرد في الزيادة ولا يزال يزداد البرد إلى أن تصل الشمس إلى أول الجدي ويشتد البرد حينئذ لبعدها عن سمت الرؤوس ويتواتر البرد ثم إن الشمس تأخذ في الصعود إلى ناحية الشمال وما دامت في الجدي والدلو فالبرد أشد ما يكون إلى أن تنتهي إلى الحمل فحينئذ يطيب الهواء ويعتدل وعادت الشمس إلى مبدأ حركتها وانتهى زمان السنة نهايته وحصلت الفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء ومنافع الفصول الأربعة وتعاقباً ظاهرة مشهورة في الكتب
وأما الشهر فهو عبارة عن دورة القمر في فلكه الخاص وزعموا أن نوره مستفاد من الشمس وأبداً يكون أحد نصفيه مضيئاً بالتمام إلا أنه عند الاجتماع يكون النصف المضيء هو النصف الفوقاني فلا جرم نحن لا نرى من نوره شيئاً وعند الاستقبال يكون نصفه المضيء مواجهاً لنا فلا جرم نراه مستنيراً بالتمام وكلما كان القمر أقرب إلى الشمس كان المرئي من نصفه المضيء أقل وكلما كان أبعد كان المرئي من نصفه المضيء أكثر ثم أنه من وقت الإجتماع إلى وقت الإنفصال يكون كل ليلة أبعد من الشمس ويرى كل ليلة ضوءه أكثر من وقت الإستقبال إلى وقت الاجتماع ويكون كل ليلة أقرب إلى الشمس فلا جرم يرى كل ليلة ضوءه أقل ولا يزال يقل ويقل حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ ( يس 39 ) فهذا ما قاله أصحاب الطبائع والنجوم
وأما الذي يقوله الأصوليون فهو أن القمر جسم والأجسام كلها متساوية في الجسمية والأشياء المتساوية في تمام الماهية يمتنع اختلافها في اللوازم وهذه مقدمة يقينية فإذن حصول الضوء في جرم الشمس والقمر أمر جائز أن يحصل وما كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه إلا بسبب الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فإن ذلك يكون قادراً على إيجاده وعلى إعدامه وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إسناد هذه الإختلافات الحاصلة في نور القمر إلى قربها وبعدها من الشمس بل عندنا أن حصول النور في جرم الشمس إنما كان بسبب إيجاد القادر المختار وكذا الذي في جرم القمر
بقي ههنا أن يقال الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الإختلافات فنقول لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان أحدهما أن يقال إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة ويدل عليه وجوه أحدها أن من فعل
فعلاً لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثاً وإن لم يقدر فهو عاجز وثانيها أن كل من فعل فعلا لغرض فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته مستكمل بغيره وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا وثالثها أنه لو كان فعله معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثاً افتقر إحداثه إلى غرض آخر وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال فلا جرم قالوا كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه البتة لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 )
والجواب الثاني قول من قال لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار حكم الله تعالى في ملكه وملكوته وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه وهو قوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهو قوله وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) وقال في آية ثالثة فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ( الإسراء 12 ) وتفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة منها الصوم قال الله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) وثانيها الحج قال الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( البقرة 197 ) وثالثها عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) ورابعها النذور التي تتعلق بالأوفات ولفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ( الأحقاف 15 ) وغيرها فكل ذلك مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الإختلاف في شكل القمر
فإن قيل لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة التي هي عبارة عن دورة الشمس وبإجرائها مثل أن يقال كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة أو في سدسها أو نصفها وهكذا سائر الأجزاء ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوماً من أول السنة وأيضاً بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الإختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم يحصل في نور الشمس اختلافا فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر وإن لم يحصل في نور القمر إختلاف وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به
والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام لأن الأهلة اثنا عشر شهراً والأيام كثيرة ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور ثم تقسيم الشهور إلى الأيام ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط ولهذا قال سبحانه إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْراً ( التوبة 36 ) وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب ثم كل كتاب إلى الأبواب ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا ههنا الجواب عنه
وأما السؤال الثاني فجوابه ما ذكرتم إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل كان معرفة أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته كما قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) وقال تعالى تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( الفرقان 61 ) وأيضاً لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة وأظهر الإختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهداً على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر كما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إذا عرفت هذه الجملة فنقول أنه لما ظهر أن الإختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهان التي ذكرناها نبه تعالى بقوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ على جميع هذه المنافع لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتاً فكان هذا الاقتصار دليلاً على الفصاحة العظيمة
أما قوله تعالى وَالْحَجّ ففيه إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ أي لأوردكم واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا نعرف إلا بالأهلة قال تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( البقرة 197 ) وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة قال تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) وقال عليه السلام ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ) وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء والله أعلم
أما قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشيء فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً وعلى هذا تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير لكن البر من يتقي الله ولم يتق غيره ولم يخف شيئاً كان يتطير به بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْراً ( الطلاق 4 ) وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائباً يقال ما أفلح وما أنجح فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين وقد وردت الأخبار عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنهي عن التطير وقال ( لا عدوى ولا طيرة ) وقال من ( رده عن سفره تطير فقد أشرك ) أو كما قال وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن وقد عاب الله تعالى قوماً تطيروا بموسى ومن معه قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ( النمل 47 )
الوجه الثاني في سبب نزول هذه الآية روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلماً يصعد منه سطح داره ثم ينحدر وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب ولكن البر من اتقى
الوجه الثالث أن أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقباً منه يدخل ويخرج إلا الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية وهؤلاء سموا حمساً لتشددهم في دينهم الحماسة الشدة وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون السمن والأقط ثم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كام محرماً ورجل آخر كان محرماً فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حال كونه محرماً من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرماً فاتبعه فقال عليه السلام تنح عني قال ولم يا رسول الله قال دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه الأول وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية فإن القوم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحكمة في تغيير نور القمر فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه أحدها أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه وثانيها أنه تعالى إنما وصل قوله وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا بقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر وثالثها كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك
القول الثاني في تفسير الآية أن قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا مثل ضربه الله تعالى لهم وليس المراد ظاهره وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على
المظنون فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق وإذا عرفت هذا فنقول إنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ومتى عرفنا ذلك وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم فهذا الاستدلال باطل لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا فالمراد من قوله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة وإن كنتم لا تعلمونها فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له ينبغي أن تأتي الأمر من بابه وفي ضده يقال إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه قال تعالى فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( آل عمران 187 ) وقال وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ( هود 92 ) فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ذكره الله تعالى ههنا وهذا تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه
القول الثالث في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسيء فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى تقديره ولكن البر بر من اتقى فهو كقوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( البقرة 177 ) وقد تقدم تقريره
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وقالون عن نافع البيوت بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت وعيون وجيوب مذاهب واختلافات يطول تفصيلها
أما قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا والفلاح هو الظفر بالبغية قالت المعتزلة وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم لأنه لا تخصيص في الآية والله أعلم
الحكم العاشر
ما يتعلق بالقتال
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمر بالإستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا ( البقرة 189 ) وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبان فالإستقامة علم والتقوى عمل وليس التكليف إلا في هذين ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس وهو قتل أعداء الله فقال وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
المسألة الثانية في سبب النزول قولان الأول قال الربيع وابن زيد هذه الآية أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقاتل من قاتل ويكف عن قتال من تركه وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 )
والقول الثاني أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء فرضي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وصالحهم عليه ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله تعالى هذه الآيات وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
المسألة الثالثة وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وطلب رضوانه روى أبو موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة
المسألة الرابعة اختلفوا في المراد بقوله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ على وجوه أحدها وهو قول ابن عباس المراد منه قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج أو على وجه المقاتلة ابتداء وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية وثانيها قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال وثالثها قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم قال تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ يقتضي كونهم فاعلين للقتال فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه فإنه لا يوصف بكونه مقاتلاً إلا على سبيل المجاز
المسألة الخامسة من الناس من قال هذه الآية منسوخة وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين ونهى عن قتال غير المقاتلين بدليل أنه قال وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ثم بعده ولا تعتدوا هذا القدر ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين ثم قال تعالى بعد ذلك وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 ) فاقتضي هذا حصول الأول
في قتال من لم يقاتل فدل على أن هذه الآية منسوخة ولقائل أن يقول نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا لكن هذا الحكم ما صار منسوخاً
أما قوله إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا فهذا غير مسلم وأما قوله تعالى وَلاَ تَعْتَدُواْ فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم منها أن يكون المعنى ولا تبدؤا في الحرم بقتال ومنها أن يكون المراد ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة
فإن قيل هب أنه لا نسخ في الآية ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا
قلنا لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها علهم حالا بعد حال حصل اليأس من إسلامهم فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق
المسألة السادسة المعتزلة احتجوا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قالوا لو كان الإعتداء بإرادة الله تعالى وبتخليقه لما صح هذا الكلام وجوابه قد تقدم والله أعلم
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَة ُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه قال فأما تثقفوني فاقتلوني
فمن أثقف فليس إلى خلود
ثم نقول قوله تعالى اقتلوهم الخطاب فيه واقع على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن والضمير في قوله اقتلوهم عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم وفي الشهر الحرام وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام
المسألة الثانية نقل عن مقاتل أنه قال إن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله تُفْلِحُونَ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( البقرة 190 )
منسوخة بقوله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ ( البقرة 193 ) وهذا الكلام ضعيف
أما قوله إن قوله تعالى وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ منسوخ بهذه الآية فقد تقدم إبطاله وأما قوله إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ وأما قوله وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ منسوخ بقوله وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فهو خطأ أيضاً لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى
أما قوله تعالى وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن الإخراج يحتمل وجهين أحدهما أنهم كلفوهم الخروج قهراً والثاني أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى صاروا مضطرين إلى الخروج
البحث الثاني أن صيغة حَيْثُ تحتمل وجهين أحدهما أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة والثاني أخرجوهم من منازلكم إذا عرفت هذا فنقول أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد ولهذا السبب أجلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كل مشرك من الحرم ثم أجلاهم أيضاً من المدينة وقال عليه الصلاة والسلام ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )
أما قوله تعالى وَالْفِتْنَة ُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ففيه وجوه أحدها وهو منقول عن ابن عباس أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة وإنما جعل الكفر أعظم من القتل لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم والقتل ليس كذلك والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فالمؤمنون عابوه على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك وثانيها أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم صار إسماً لكل ما كان سبباً للامتحان تشبيهاً بهذا الأصل والمعنى أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هرباً من إضلالهم في الدين وتخليصاً للنفس مما يخافون ويحذرون فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها وقال بعض الحكماء ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة
الوجه الثالث أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم فكأنه قيل اقتلوهم من حيث ثقفتموهم واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ ( التوبة 52 ) وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز وذلك من باب إطلاق
اسم السبب على المسبب قال تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) ثم قال عقيبة ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( الذاريات 14 ) أي عذابكم وقال إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( البروج 10 ) أي عذبوهم وقال فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 10 ) أي عذابهم كعذابه
الوجه الرابع أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها
الوجه الخامس أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقاً والمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم
أما قوله وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة وقد كان من قبل شرطاً في كل القتال وفي الأشهر الحرم
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فَإِن قَاتَلُوكُمْ كله بغير ألف والباقون جميع ذلك بالألف وهو في المصحف بغير ألف وإنما كتبت كذلك للإيجاز كما كتب الرحمن بغير ألف وكذلك صالح وما أشبه ذلك من حروف المد واللين قال القاضي رحمه الله القراءتان المشهورتان إذا لم يتناف العمل وجب العمل بهما كما يعمل بالآيتين إذا لم يتناف العمل بهما وما يقتضيه هاتان القراءتان المشهورتان لا تنافي فيه فيجب العمل بهما ما لم يقع النسخ فيه يروى أن الأعمش قال لحمزة أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره فقال حمزة إن العرب إذا قتل رجل منهم قالوا قتلنا وإذا ضرب رجل منهم قالوا ضربنا
المسألة الثالثة الحنفية تمسكوا بهذه الآية في مسألة الملتجيء إلى الحرم وقالوا لما لم يجز القتل عند المسجد الحرام بسبب جناية الكفر فلأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذنب الذي هو دون الكفر كان أولى وتمام الكلام فيه في كتب الخلاف
أما قوله تعالى فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزال وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم ونظيره قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن فإن انتهوا عن الشرك
حجة القول الأول أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله فَإِنِ انْتَهَوْاْ محمولاً على ترك المقاتلة
حجة القول الثاني أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر
المسألة الثانية الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما التوبة والآخر التمسك بالإسلام وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن التوبة من كل ذنب مقبولة وقول من قال التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ لأن الشرك أشد من القتل فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى وأيضاً فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافراً كونه قاتلاً فلما دلت الآية على قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلاً مقبولاً والله أعلم
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال القوم هذه الآية ناسخة لقوله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحُرُمُ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ( البقرة 191 ) والصحيح أنه ليس كذلك لأن البداية بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته أقصى ما في الباب أن هذه الصفة عامة ولكن مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الصحيح أن العام سواء كان مقدماً على المخصص أو متأخراً عنه فإنه يصير مخصوصاً به والله أعلم
المسألة الثانية في المراد بالفتنة ههنا وجوه أحدهما أنها الشرك والفكر قالوا كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وثانيها قال أبو مسلم معنى الفتنة ههنا الجرم قال لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار فإن قيل كيف يقال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقاً
قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك لأن من قتل فقد زال كفره ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك
الجواب الثاني أن المراد قاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه
أما قوله تعالى وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ فهذا يدل على حمل الفتنة على الشرك لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره فصار التقدير كأنه تعالى قال وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب
ويحصل ما يؤدي إلى الثواب ونظيره قوله تعالى تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( الفتح 16 ) وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود
أما قوله تعالى فَإِنِ انْتَهَوْاْ فالمراد فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم وهو إما كفرهم أو قتالهم فعند ذلك لا يجوز قتالهم وهو كقوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 )
أما قوله تعالى فَلاَ عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه وجهان الأول فإن انتهوا فلا عدوان أي فلا قتل إلاعلى الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
فإن قيل لم سمي ذلك القتل عدواناً مع أنه في نفسه حق وصواب
قلنا لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ( لقمان 13 ) والثاني إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن الله تعالى لما أباح القتال وكان ذلك منكراً فيما بينهم ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك فقال الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وفيه وجوه أحدها روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العالم القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وثانيها ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم وذلك قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 217 ) فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة فقال الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه وثالثها ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم فالشهر الحرام من جانبنا مقابل بالشهر الحرام من جانبكم والحاصل في
الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف جعلوه سبباً في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم
أما قوله تعالى وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فالحرمات جمع حرمة والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة وإذا عرفت هذا ففي هذه الآية تعود تلك الوجوه
أما على الوجه الأول فهو أن المراد بالحرمات الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام فقوله وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع
وأما على الوجه الثاني فهو أن المراد إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضاً قال الزجاج وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الإبتداء بل على سبيل القصاص وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية وهو قوله وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ( البقرة 191 ) وبما بعدها وهو قوله فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
أما على القول الثالث فقوله وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال
أما قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فالمراد منه الأمر بما يقابل الإعتداء من الجزاء والتقدير فمن اعتدى عليكم فقابلوه والسبب في تسميته اعتداء قد تقدم ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ وقد تقدم معنى التقوى ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالمعونة والنصرة والحفظ والعلم وهذا من أقوى الدلائل على أنه ليس بجسم ولا في مكان إذا لو كان جسماً لكان في مكان معين فكان إما أن يكون مع أحد منهم ولم يكن مع الآخر أو يكون مع كل واحد من المؤمنين جزء من أجزائه وبعض من أبعاضه تعالى الله عنه علواً كبيراً
وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى لما أمر بالقتال والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال وربما كان ذو المال عاجزاً عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيراً عديم المال فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال والثاني يروي أنه لما نزل قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( البقرة 94 ) قال رجل من الحاضرين والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح فلذلك لا يقال في المضيع إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله فالمراد به في طريق الدين لا السبيل هو الطريق وسبيل الله هو دينه فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقاً في حج أو عمرة أو كان جهاداً بالنفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرحم أو في الصدقات أو علي العيال أو في الزكوات والكفارات أو عمارة السبيل وغير ذلك إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد بل قال وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لوجهين الأول أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال الثاني أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مكة لقضاء العمرة وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضى إلى القتال إن منعهم المشركون فكانت عمرة وجهاداً واجتمع فيه المعنيان فلما كان الأمر كذلك لا جرم قال تعالى وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ولم يقل وأنفقوا في الجهاد والعمرة
أما قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة والزجاج التَّهْلُكَة ِ الهلاك يقال هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة قال الخارزنجي لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة بضم العين إلا هذا قال أبو علي قد حكى سيبويه التنصرة والتسترة وقد جاء هذا المثال اسماً غير مصدر قال ولا نعلمه جاء صفة قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يقال أصله التهلكة كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة كما جاء الجوار في الجوار
وأقول إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها
المسألة الثانية اتفقوا على أن الباء في قوله بِأَيْدِيكُمْ تقتضي إما زيادة أو نقصاناً فقال قوم الباء زائدة والتقدير ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة وهو كقوله جذبت الثوب بالثوب وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) أو بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم ( الشورى 30 ) فالتقدير ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة وقال آخرون بل ههنا حذف والتقدير ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ اختلف المفسرون فيه فمنهم من قال إنه راجع إلى نفس النفقة ومنهم من قال إنه راجع إلى غيرها أما الأولون فذكروا فيه وجوه الأول أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم وكأنه قيل إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك الوجه الثاني أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس فكان المراد منه ما ذكره في قوله
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الشورى 67 ) وفي قوله وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) وأما الذين قالوا المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوهاً أحدها أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) وثانيها المراد من قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل فأما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية هو الرجل يستقل بين الصفين ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه الأول روي أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا صحبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد والثاني روى الشافعي رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابراً محتسباً قال عليه الصلاة والسلام لك الجنة فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه والثالث روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فيه قولا حسناً الرابع روي أن قوماً حاصروا حصناً فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال كذبوا أليس يقول الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ( البقرة 207 ) ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم فإما إذا توقع فنحن نجوز ذلك فلم قلتم أنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع الوجه الثالث في تأويل الآية أن يكون هذا متصلاً بقوله الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( البقرة 194 ) أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة الوجه الرابع في التأويل أن يكون المعنى أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلاناً هالكاً وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك الوجه الخامس ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب الوجه السادس يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة ونظيره قوله تعالى
وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( محمد 33 )
أما قوله تعالى وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختفلوا في أن المحسن مشتق من ماذا وفيه وجوه الأول أنه مشتق من فعل الحسن وأنه كثر استعماله فيمن ينفع غيره بنفع حسن من حيث أن الإحسان حسن في نفسه وعلى هذا التقدير فالضرب والقتل إذا حسناً كان فاعلهما محسناً الثاني أنه مشتق من الإحسان ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً إلا إذا كان فعله حسناً وإحساناً معاً فالإشتقاق إنما يحصل من مجموع الأمرين
المسألة الثانية قوله وَأَحْسِنُواْ فيه وجوه أحدها قال الأصم أحسنوا في فرائض الله وثانيها وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطاً فلا تسرفوا ولا تقتروا وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه
وأما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهو ظاهر وقد تقدم تفسيره مراراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى الْحَجُّ في اللغة عبارة عن القصد وإنما يقال حج فلان الشيء إذا قصده مرة بعد أخرى وأدام الاختلاف إليه والحجة بكسر الحاء السنة وإنما قيل لها حجة لأن الناس يحجون في كل سنة وأما في الشرع فهو اسم لأفعال مخصوصة منها أركان ومنها أبعاض ومنها هيئات فالأركان ما لا يحصل التحلل حتى يأتي به والأبعاض هي الواجبات التي إذا ترك شيء يجبر بالدم والهيئات ما لا يجب الدم على تركها والأركان عندنا خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وفي حلق الرأس أو تقصيره قولان أصحهما أنه نسك لا يحصل التحلل إلا به وأما الأبعاض فهي الإحرام من الميقات والمقام بعرفة إلى المغرب في قول والبيتوتة بمزدلفة ليلة النحر في قول ورمي جمرة العقبة والبيتوتة بمنى ليالي التشريق في قول ورمي أيامها
وأما سائر أعمال الحج فهي سنة
وأما أركان العمرة فهي أربعة الإحرام والطواف والسعي وفي الحلق قولان ثم المعتمر بعدما فرغ من السعي فإن كان معه هدي ذبحه ثم حلق أو قصر ولا يتوقف التحلل على ذبح الهدي
المسألة الثانية قوله تعالى الْمُحْسِنِينَ وَأَتِمُّواْ أمر بالإتمام وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق والمعنى افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام والقول الثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه إن هذا الأمر مشروط والمعنى أن من شرع فيه فليتمه قالوا ومن
الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجباً إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجباً وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا وغير واجبة عن أبي حنيفة رحمه الله حجة أصحابنا من وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملاً تاماً ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه وإذا ثبت الإحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك أما بيان الإحتمال فيدل عليه قوله تعالى وَإِذَا ابْتُلِى َ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) أي فعلهن على سبيل التمام والكمال وقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) أي فافعلوا الصيام تاماً إلى الليل وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال المراد فأشرعوا في الصيام ثم أتموه لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطاً ويكون التقدير أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط فكان ذلك أولى والثاني أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه الثالث قرأ بعضهم وَأَقِيمُواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالإتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل الرابع أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب فكان الذي نصرناه أكبر فائدة فكان حمل كلام الله عليه أولى الخامس أن الباب باب العبادة فكان الإحتياط فيه أولى والقول بإيجاب الحج والعمرة معاً أقرب إلى الاحتياط فوجب حمل اللفظ عليه السادس هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام لكنا نقول اللفظ دل على وجوب الاتمام جزماً وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجباً جزماً والاتمام مسبوق بالشروع وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فيلزم أن يكون الشروع واجباً في الحج وفي العمرة السابع روي عن ابن عباس أنه قال والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله أي إن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله وَأَنْ أَقِيمُواْ وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) فهذا تمام تقرير هذه الحجة
فإن قيل قرأ علي وابن مسعود والشعبي وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب
قلنا هذا مدفوع من وجوه الأول أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة الثاني أن فيها ضعفاً في العربية لأنها تقتضي عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية الثالث أن قوله وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ معناه أن العمرة عبادة الله ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين وهو غير جائز الرابع أنه لما كان قوله وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ معناه والعمرة عبادة الله وجب