كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة وعلى التقديرين فالمقصود حاصل فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف قلنا كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الالطاف والله أعلم
ثم قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره كان من أولي الألباب لأنه لم يقف عند المسببات بل ترقى منها إلى أسبابها فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها كان من الظاهر بين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا هذه الحكمة لا تقوم بنفسها وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر فيعرف ماله وما عليه وعند ذلك يقدم أو يحجم
وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال ثم حث أولاً بقوله وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ( البقرة 267 ) وثانياً بقوله الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ( البقرة 268 ) حيث عليه ثالثاً بقوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ على اختصاره يفيد الوعد العظيم للمطيعين والوعيد الشديد للمتمردين وبيانه من وجوه أحدها أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة وثانيها أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات كما قال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وقوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وثالثها أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها ولا يشتبه عليه شيء منها
المسألة الثانية إنما قال فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ولم يقل يعلمها لوجهين الأول أن الضمير عائد إلى الأخير كقوله وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً وهذا قول الأخفش والثاني أن الكتابة عادت إلى ما في قوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ لأنها اسم كقوله وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ ( البقرة 231 )
المسألة الثالثة النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال نذر ينذر وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده وأنذرت القوم إنذاراً بالتخويف وفي الشريعة على ضربين مفسر وغير مفسر فالمفسر أن يقول لله علي عتق رقبة ولله علي حج فههنا يلزم الوفاء به ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله أو يقول لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين )
أما قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أنه وعيد شديد للظالمين وهو قسمان أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الانفاق عن المستحق إلى غيره أو يكون نيته في الانفاق على المستحق الرياء والسمعة أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير بل من باب الظلم على النفس
المسألة الثانية المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر قالوا لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصاراً لهم وذلك يبطل قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصراً بدليل قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء
والجواب الثاني ليس لمجموع الظالمين أنصار فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار
فإن قيل لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فكان المعنى ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار
قلنا لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد
والجواب الثالث أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل وفي كل الأوقات والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام والله أعلم
والجواب الرابع ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً
المسألة الثالثة الأنصار جمع نصير كإشراف وشريف وأحباب وحبيب
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
إعلم أنه تعالى بيّن أولاً أن الانفاق منه ما يتبعه المن والأذى ومنه ما لا يكون كذلك وذكر حكم كل واحد من القسمين ثم ذكر ثانياً أن الانفاق قد يكون من جيد ومن رديء وذكر حكم كل واحد من القسمين وذكر في هذه الآية أن الانفاق قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً وذكر كل واحد من القسمين فقال إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ ( التوبة 103 ) وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( نفقة المرء على عياله صدقة ) والزكاة لا تطلق إلا على الفرض قال أهل اللغة أصل الصدقة ( ص د ق ) على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال ومنه قولهم رجل صدق النظر وصدق اللقاء وصدقوهم القتال وفلان صادق المودة وهذا خل صادق الحموضة وشيء صادق الحلاوة وصدق فلان في خبره إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحاً كاملاً والصديق يسمى صديقاً لصدقه في المودة والصداق سمي صداقاً لأن عقد النكاح به يتم ويكمل وسمى الله تعالى الزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويكمل فهي سبب إما لكمال المال وبقائه وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه
المسألة الثالثة الأصل في قوله فَنِعِمَّا نعم ما إلا أنه أدغم أحد الميمين في الآخر ثم فيه ثلاثة أوجه من القراءة قرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر عن عاصم فَنِعِمَّا بكسر النون وإسكان العين وهو اختيار أبي عبيد قال لأنها لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لعمرو بن العاص ( نعما بالمال الصالح للرجل الصالح ) هكذا روي في الحديث بسكون العين والنحويون قالوا هذا يقتضي الجمع بين الساكنين وهو غير جائز إلا فيما يكون الحرف الأول منهما حرف المد واللين نحو دابة وشابة لأن ما في الحرف من المد يصير عوضاً عن الحركة وأما الحديث فلأنه لما دل الحس على أنه لا يمكن الجمع بين هذين الساكنين علمنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما تكلم به أوقع في العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس والقراءة الثانية قرأ ابن كثير ونافع برواية ورش وعاصم في رواية حفص فَنِعِمَّا هِى َ بكسر النون والعين وفي تقريره وجهان أحدهما أنهم لما احتاجوا إلى تحريك العين حركوها مثل حركة ما قبلها والثاني أن هذا على لغة من يقول نِعْمَ بكسر النون والعين قال سيبويه وهي لغة هذيل القراء الثالثة وهي قراءة سائر القرّاء فَنِعِمَّا هِى َ بفتح النون وكسر العين ومن قرأ بهذه القراءة فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي نِعْمَ قال طرفة
نعم الساعون في الأمر المير
المسألة الرابعة قال الزجاج ما في تأويل الشيء أي نعم الشيء هو قال أبو علي الجيد في تمثيل هذا أن يقال ما في تأويل شيء لأن ما هاهنا نكرة فتمثيله بالنكرة أبين والدليل على أن ما نكرة هاهنا أنها لو كانت معرفة فلا بد لها من الصلة وليس هاهنا ما يوصل به لأن الموجود بعد ما هو هي وكلمة هي مفردة والمفرد لا يكون صلة لما وإذا بطل هذا القول فنقول ما نصب على التمييز والتقدير نعم شيئاً هي إبداء الصدقات فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه
المسألة الخامسة اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية التطوع أو الواجب أو مجموعهما
فالقول الأول وهو قول الأكثرين أن المراد منه صدقة التطوع قالوا لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل والإظهار في الزكاة أفضل وفيه بحثان
البحث الأول في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه أو إظهاره فلنذكر أولاً الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل فالأول أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان ) والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معاً وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم فكان ذلك يشق على النفس فوجب أن يكون ذلك أكثر ثواباً وثالثها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر ) وقال أيضاً ( إن العبد ليعمل عملاً في السر يكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء ) وفي الحديث المشهور ( سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( صدقة السر تطفيء غضب الرب ) ورابعها أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه والإخفاء لا يتضمن ذلك فوجب أن يكون الإخفاء أولى وبيان تلك المضار من وجوه الأول أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره وربما لا يرضى الفقير بذلك والثاني أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية وهو قوله تعالى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ( البقرة 273 ) والثالث أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع أن في إظهر الإعطاء إذلالاً للآخذ وإهانة له وإزلال المؤمن غير جائز والخامس أن الصدقة جارية مجرى الهدية وقال عليه الصلاة والسلام ( من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها ) وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئاً إلى
شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها صار ذلك سبباً لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل وروي ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به ) قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكر ذلك ويدفعه فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفاً على العلانية ثم إن الله عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى فإذا عمل عملاً علانية لم يحتج أن يجاهد لأن شهوة النفس قد بطلت ومنازعة النفس قد اضمحلت فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاماً وفوق التمام ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة فقال أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة َ ( الفرقان 75 ) ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ( الفرقان 74 ) ومدح أمة موسى عليه السلام فقال وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 159 ) ومدح أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) ثم أبهم المنكر فقال وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 ) فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله
فإن قيل إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
والجواب من وجهين الأول لا نسلم قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات وطاعة من جملة الطاعات فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيراً وطاعة لا أن المقصود منه بيان الترجيح
والوجه الثاني سلمنا أن المراد منه الترجيح لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء فالأفضل هو الإخفاء فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء
البحث الثاني أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل ويدل عليه وجوه الأول أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها أن في إظهارها نفي التهمة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة فكذا في الزكاة وثالثها أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى هذا كله في بيان قول من قال المراد
بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط
القول الثاني وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب وأجاب عن قول من قال الإظهار في الواجب أولى من وجوه الأول أن إظهار زكاة الأموال توجب إظهار قدر المال وربما كان ذلك سبباً للضرر بأن يطمع الظلمة في ماله أو بكثرة حساده وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث أن لا نسلم دلالة قوله فَهُوَ خَيْرٌ على الترجيح وقد سبق بيانه
أما قوله تعالى وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله فَهُوَ كناية عن الإخفاء لأن الفعل يدل على المصدر أي الإخفاء خير لكم وقد ذكرنا أن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء فيميزهم عن غيرهم فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة
أما قوله تعالى وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى التكفير في اللغة التغطية والستر ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه ومنه يقال كفر عن يمينه أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة والكفارة ستارة لما حصل من الذنب
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر نَّكْفُرَ بالنون ورفع الراء وفيه وجوه أحدها أن يكون عطفاً على محل ما بعد الفاء والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر والثالث أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها والقراءة الثانية قراءة حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فإن موضعه جزم ألا ترى أنه لو قال وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم لجزم فيظهر أن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ في موضع جزم ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ( الأعراف 186 ) بالجزم والقراءة الثالثة قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم يَكْفُرْ بالياء وكسر الفاء ورفع الراء والمعنى يكفر الله أو يكفر الاخفاء وحجتهم أن ما بعده على لفظ الافراد وهو قوله وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فقوله يَكْفُرْ يكون أشبه بما بعده والأولون أجابوا وقالوا لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولاً ثم لفظ الأفراد ثانياً كما أتى بلفظ الأفراد أولاً والجمع ثانياً في قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) ثم قال وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ ( الإسراء 2 ) ونقل صاحب ( الكشاف ) قراءة رابعة وتكفر بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفاعل الصدقات وقراءة خامسة وهي قراءة الحسن بالتاء والنصب بإضمار حَمِيمٍ ءانٍ ومعناها إن تخفوها يكن خير لكم وإن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم
المسألة الثالثة في دخول مِنْ في قوله مّن سَيّئَاتِكُمْ وجوه أحدها المراد ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام والثاني أن يكون مِنْ بمعنى من أجل والمعنى ونكفر عنكم من أجل ذنوبكم كما تقول ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك والثالث أنها صلة زائدة كقوله فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( محمد 15 ) والتقدير ونكفر عنكم جميع سيئاتكم والأول أولى وهو الأصح
ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته فقد حصل مقصودكم في السر فما معنى الإبداء فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان سبب النزول وجوه أحدها أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها وكذلك جدتها وهما مشركتان أتيا أسماء يسألانها شيئاً فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنكما لستما على ديني فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تتصدق عليهما
والرواية الثانية كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً فنزلت هذه الآية
والرواية الثالثة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يتصدق على المشركين حتى نزلت هذه الآية فتصدق علهيم والمعنى على جميع الروايات ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ونظيره قوله تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ ( الممتحنة 8 ) فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين
المسألة الثانية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( الكهف 6 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ( التوبة 128 ) فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك فالهدى هاهنا بمعنى الإهتداء فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار
المسألة الثالثة ظاهر قوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد به هو وأمته ألا تراه قال إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ ( البقرة 271 ) وهذا خطاب عام ثم قال لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وهو في الظاهر خاص ثم قال بعده وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً
أما قوله تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا لأن قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء إثبات للهداية التي نفاها بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ لكن المنفي بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار فكان قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب
قالت المعتزلة وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يحتمل وجوهاً أحدها أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك وثانيها يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء وثالثها ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله ورابعها أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء هو المنفي أولاً بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولاً لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ هو الاهتداء على سبيل الاختيار فالمثبت بقوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه
ثم قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ فالمعنى وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم
ثم قال تعالى وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول أن يكون المعنى ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله فقد علم الله هذا من قلوبكم فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك
وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) الثالث أن قوله وَمَا تُنفِقُونَ أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله
المسألة الثانية ذكر في الوجه في قوله إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ قولان أحدهما أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ والثاني أنك إذا قلت فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال فعلته له ولغيره أيضاً أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة
المسألة الثالثة أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره وعن بعض العلماء لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك
ثم قال تعالى وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة وإنما حسن قوله إِلَيْكُمْ مع الترفيه لأنها تضمنت معنى التأدية
ثم قال وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ وَمِنْهُ شَيْئاً ( الكهف 33 ) يريد لم تنقص
لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان بيّن في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقاً بصرف الصدقة إليه من هو فقال لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لِلْفُقَرَاء متعلق بماذا فيه وجوه الأول لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الانفاق قال بعدها لِلْفُقَرَاء أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم
ذكر رجل فتقول عاقل لبيب والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه الثاني أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء
المسألة الثانية نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة عن ابن عباس وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفاقي )
واعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس
الصفة الأولى قوله الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 273 ) فنقول الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجري مجرى هذه الأشياء يقال أحصر الرجل فهو محصر ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بما يعني عن الإعادة أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول أن المعنى إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد وأن قوله فِى سَبِيلِ اللَّهِ مختص بالجهاد في عرف القرآن ولأن الجهاد كان واجباً في ذلك الزمان وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون مستعداً لذلك متى مست الحاجة فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً من الخير أحدها إزالة عيلتهم والثاني تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه وثالثها تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين ورابعها أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم على ما قال تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ
والقول الثاني وهو قول قتادة وابن زيد منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة وكانوا متى وجدوهم قتلوهم
والقول الثالث وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصاروا زمنى فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض
والقول الرابع قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله
والقول الخامس هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء قوله تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ يقال ضربت في الأرض ضرباً إذا سرت فيها ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد يمنعهم من
الاشتغال بالكسب والتجارة وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معيناً لهم على مهماتهم
الصفة الثالثة لهم قوله تعالى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر وحمزة يَحْسَبُهُمُ بفتح السين والباقون بكسرها وهما اللتان بمعنى واحد وقرىء في القرآن ما كان من الحسبان باللغتين جميعاً الفتح والكسر والفتح عند أهل اللغة أقيس لأن الماضي إذا كان على فعل نحو حسب كان المضارع على يفعل مثل فرق يفرق وشرب يشرب وشذ حسب يحسب فجاء على يفعل مع كلمات أُخر والكسر حسن لمجيء السمع به وإن كان شاذاً عن القياس
المسألة الثانية الحسبان هو الظن وقوله الْجَاهِلُ لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار يقول يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة
الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء قوله تعالى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء وأصلها من السمة التي هي العلامة قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي وزنه يكون فعلاً كما قالوا له جاه عند الناس أي وجه وقال قوم السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور قال مجاهد سِيمَاهُمْ التخشع والتواضع قال الربيع والسدي أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية لا علات جسمانية ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هاهنا ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة كما قال تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) وأيضاً ظهور آثار الفكر روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف
الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء قوله تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى عن ابن مسعود رضي الله عنه إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيراً أفرط في المدح وإن أعطى قليلاً أفرط في الذم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله تعالى لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس )
واعلم أن هذه الآية مشكلة وذكروا في تأويلها وجوهاً الأول أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا وهو اختيار صاحب ( الكشاف ) وهو ضعيف لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن
السؤال قبل ذلك فقال يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع أنه ليس المقصود من قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضاً أنهم لا يسألون إلحافاً بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت والآخر طياش مهذار سفيه فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام لا يخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى بعد قوله يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافاً وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم
الوجه الثالث أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه فقوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا بالرفق والتلطف وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال فعلى هذا يكون قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلاً
والوجه الرابع هو الذي خطر ببالي أيضاً في هذا الوقت وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولي نفس أقول لها إذا ما
تنازعني لعلي أو عساني
الوجه الخامس أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال فيقول لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجباً لنفي السؤال عنهم مطلقاً
الوجه السادس وهو أيضاً خطر ببالي في هذا الوقت وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة ثم سكت عن السؤال فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جداً وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف فقوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق فهذا الوجه أيضاً مناسب معقول
وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء ثم قال بعده وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( البقرة 273 ) وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( البقرة 272 ) وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما أنه تعالى لما قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالماً بمقادير الأعمال وكيفياتها
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ بين أن أجره واصل لا محالة ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علي شاهداً بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعاً مما إذا قال له إن أجرك واصل إليك
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَة ً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم أقوال الأول لما بيّن في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بيّن في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو فقال الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً فَلَهُمْ والثاني أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ ( البقرة 274 ) والثالث أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات
المسألة الثانية في سبب النزول وجوه الأول لما نزل قوله تعالى لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بعت عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلاً فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل والثاني قال ابن عباس إن علياً عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حملك على هذا فقال أن استوجب ما وعدني ربي فقال لك ذلك
فأنزل الله تعالى هذه الآية والثالث قال صاحب ( الكشاف ) نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة في السر وعشرة في العلانية والرابع نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال وهذا هو أحسن الوجوه لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات والله أعلم
المسألة الثالثة قال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله فَلَهُمْ جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء فكان التقدير من أنفق فلا يضيع أجره وتقديره أنه لو قال الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام أما لو قال الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام فههنا الفاء دلّت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق والله أعلم
المسألة الرابعة في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية وذلك لأنه قدم الليل على النهار والسر على العلانية في الذكر
ثم قال في خاتمة الآية فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( البقرة 274 ) والمعنى معلوم وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة ويتأكد ذلك بقوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
المسألة الثانية أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة وقد أحكمنا هذه المسألة وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق
الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوااْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوااْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَة ٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص المال
بسبب أمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا متضادين ولهذا قال الله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا
أما قوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ فالمراد الذين يعاملون به وخص الأكل لأنه معظم الأمر كما قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) وأيضاً فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل إنما يصرف في المأكول فيؤكل والمراد التصرف فيه فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد وأيضاً فقد ثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له ) فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل وأيضاً فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا وأما الربا ففيه مسائل
المسألة الأولى الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال ربا الشيء يربو ومنه قوله اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) أي زادت وأربى الرجل إذا عامل في الربا ومنه الحديث ( من أجبى فقد أربى ) أي عامل بالربا والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه هذا معنى الربا في اللغة
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي الرّبَا بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء وهي في المصاحف مكتوبة بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء قال صاحب ( الكشاف ) الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع
المسألة الثالثة إعلم أن الربا قسمان ربا النسيئة وربا الفضل
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ويكون رأس المال باقياً ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك
إذا عرفت هذا فنقول المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول لا ربا إلا في النسيئة وكان يجوز بالنقد فقال له أبو سعيد الخدري شهدت ما لم تشهد أو سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين كنا في بيت ومعنا عكرمة فقال رجل يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس فقال إنما كنت استحللت التصرف برأيي ثم بلغني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرمه فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله وحجة ابن عباس أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة وليست كل زيادة محرمة بل قوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا وذلك هو ربا النسيئة فكان قوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ مخصوصاً بالنسيئة فثبت أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول ربا النقد وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ لا يتناوله فوجب أن يبقى على الحل ولا يمكن أن يقال إنما يحرمه
بالحديث لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن مخبر الواحد وأنه غير جائز وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين أما القسم الأول فبالقرآن وأما ربا النقد فبالخبر ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة بل ثابتة في غيرها وقال نفاة القياس بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه
الحجة الأولى أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلاً أو قال لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلاً فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً وأكثرر فائدة فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة علمنا أن حكم الحرمة مقصور عيها فقط
الحجة الثانية أنا بينا في قوله تعالى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى وأنه غير جائز
الحجة الثالثة أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص وذلك غير جائز أما أولاً فلأنه يقتضي تعليل حكم الله وذلك محال على ما ثبت في الأصول وأما ثانياً فلأن الحكم في مورد النص معلوم واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة بل هي ثابتة في غيرها ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب
فالقول الأول وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس وفي الذهب والفضة النقدية
والقول الثاني قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا والعلة في الدراهم والدنانير الوزن وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس
والقول الثالث قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت وهو الملح
والقول الرابع وهو قول عبد الملك بن الماجشون أن كل ما ينتفع به ففيه الربا فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير
المسألة الرابعة ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً أحدها الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان
متعلق حاجته وله حرمة عظيمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ) فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحاً فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله
قلنا إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها قال بعضهم الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها قيل السبب في تحريم عقد الربا أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها هو أن الغالب أن المقرض يكون غنياً والمستقرض يكون فقيراً فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف ما لا زائداً وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بحرمة عقد الربا وإن كنا لا نعلم الوجه فيه
أما قوله تعالى لاَ يَقُومُونَ فأكثر المفسرين قالوا المراد منه القيام يوم القيامة وقال بعضهم المراد منه القيام من القبر واعلم أنه لا منافاة بين الوجهين فوجب حمل اللفظ عليهما
أما قوله تعالى إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ففيه مسائل
المسألة الأولى التخبط معناه الضرب على غير استواء ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وخبط البعير للأرض بأخفافه وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ويقال به خبطة من جنون والمس الجنون يقال مس الرجل فهو ممسوس وبه مس وأصله من المس باليد كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ثم سمي الجنون مساً كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله فسمي الجنون خبطة فالتخبط بالرجل والمس باليد ثم فيه سؤالان
السؤال الأول التخبط تفعل فكيف يكون متعدياً
الجواب تفعل بمعنى فعل كثير نحو تقسمه بمعنى قسمه وتقطعه بمعنى قطعه
السؤال الثاني بم تعلق قوله مِنَ الْمَسّ
قلنا فيه وجهان أحدهما بقوله لاَ يَقُومُونَ والتقدير لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني أنه متعلق بقوله ياقَوْمِ والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس
المسألة الثانية قال الجبائي الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه
أحدها قوله تعالى حكاية عن الشيطان وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني الشيطان إما أن يقال إنه كثيف الجسم أو يقال إنه من الأجسام اللطيفة فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها وذلك جهالة عظيمة ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ولم لا يغصب أموالهم ويفسد أحوالهم ويفشي أسرارهم ويزيل عقولهم وكل ذلك ظاهر الفساد واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات
والجواب عنه أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني أن هذه الآية وهي قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه
والجواب عنه أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع وهو كقول أيوب عليه السلام أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( ص 41 ) وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب وذكر القفال فيه وجه آخر وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( الصافات 65 )
المسألة الثالثة للمفسرين في الآية أقوال الأول أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى
الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بجنون
والقول الثاني قال ابن منبه يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً ( المعارج 43 ) إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن وهذا ليس من الجنون في شيء ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ
والقول الثالث أنه مأخوذ من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله فهذا هو المراد من مس الشيطان ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى فحدثت هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا
أما قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ ففيه مسائل
المسألة الأولى القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين فهذا في ربا النقد وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضاً لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين وذلك لأنه إنما جاز هناك لأنه حصل التراضي من الجانبين فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضاً فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئاً فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعاً في الزيادة والمديون يرده عند وجدان المال وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة فهذا هو شبهة القوم والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد وهو قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس وهو من عمل إبليس فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم ( صلى الله عليه وسلم ) عارض النص بالقياس فقال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) ( ص 76 ) واعلم أن نفاة القياس
يتمسكون بهذا الحرف فقالوا لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين فقال من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ولا يمكن أن يقال إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل لأن الامهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة فظهر الفرق بين الصورتين
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه وأكله مع التحريم وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر
فإن قيل مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا
قلنا إن قوله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل وذكرنا عليه وجوهاً من الدلائل فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال يقال فلان يأكل مال الله قضماً خصماً أي يستحل التصرف فيه وإذا حملنا الأكل على الاستحلال صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها فهذا ما يدل عليه لفظ الآية إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أنه لم لم يقل إنما الربا مثل البيع وذلك لأن حل البيع متفق عليه فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق فكان نظم الآية أن يقال إنما الربا مثل البيع فما الحكمة في أن قلب هذه القضية فقال إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ
والجواب أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز
أما قوله تعالى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ففيه مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار والمعنى أنهم قالوا البيع مثل الربا ثم إنكم تقولون وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فكيف يعقل هذا يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ وأما قوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا والحجة على صحة هذا القول وجوه
الحجة الأولى أن قول من قال هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار فكان ذلك أولى
الحجة الثانية أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ولو لم يكن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً فلم يكن قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ لائقاً بهذا الموضع
المسألة الثانية مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ من المجملات التي لا يجوز التمسك بها وهذا هو المختار عندي ويدل عليه وجوه الأول أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة
والوجه الثاني وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم مثلاً قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جداً فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز
الوجه الثالث ما روي عن عمر رضي الله عنه قال خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدنيا وما سألناه عن الربا ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات
الوجه الرابع أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ يقتضي أن يكون كل ربا حراماً لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية فكانت مجملة فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وقرأ أبي والحسن فَمَنْ جَاءتْهُ مَّوْعِظَة ٌ ثم قال فَانتَهَى أي فامتنع ثم قال فَلَهُ مَا سَلَفَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في التأويل وجهان الأول قال الزجاج أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية وهو كقوله قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك وهو قوله فَلَهُ مَا سَلَفَ فكيف يكون ذلك ذنباً الثاني قال السدي له ما سلف أي له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ( البقرة 279 )
المسألة الثانية قال الواحدي السلف المتقدم وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ومنه الأمة السالفة والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو والسلفة ما يقدم قبل الطعام وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها
أما قوله تعالى وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ففيه وجوه للمفسرين إلا أن الذي أقوله إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا أو لم يترك والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها
أما مقدمة الآية فلأن قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى ليسس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا فكان قوله فَانتَهَى عائداً إليه فكان المعنى فانتهى عن هذا القول
وأما مؤخرة الآية فقوله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ومعناه عاد إلى الكلام المتقدم وهو استحلال الربا أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ثم هذا الإنسان إما أن يقال إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضاً عن أكل الربا أو ليس كذلك فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام لكن قوله أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع فلم يبق إلا أن يكون مختصاً بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فيكون ذلك دليلاً ظاهراً على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو
أما قوله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فالمعنى ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً
واعلم أن قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيد الحصر وهذا يدل على أن كونه صاحب النار وكونه خالداً في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمناً بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل
يخرجه منها والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله أَمْرِى إِلَى اللَّهِ على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه
ثم قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها الأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان وهذا بيان شريف وتفسير حسن
يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
إعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا وكشف عن فساده وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ومنه المحاق في الهلال يقال محقه الله فانمحق وامتحق ويقال هجير ما حق إذا نقص في كل شيء بحرارته
المسألة الثانية إعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة أما في الدنيا فنقول محق الربا في الدنيا من وجوه أحدها أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الربا وإن كثر فإلى قل ) وثانيها إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم والنقص وسقوط العدالة وزوال الأمانة وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة وثالثها أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ورابعها أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إلى الأطماع وقصده كل ظالم ومارق وطماع ويقولون إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة رحم وثانيها إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ويبقى التبعة والعقوبة وذلك هو الخسار الأكبر وثالثها أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون فذلك هو المحق والنقصان
وأما أرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا وأن يكون المراد في الآخرة
أما في الدنيا فمن وجوه أحدها أن من كان لله كان الله له فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم جائعاً ( اللّهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا ) وثانيها أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال وثالثها أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة ورابعها الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء فكل أحد يحترز عن منازعته وكل ظالم وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله اللّهم إلا نادراً فهذا هو المراد بأرباء الصدقات في الدنيا
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد ) وتصديق ذلك بين في كتاب الله أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( البقرة 276 ) قال القفال رحمه الله تعالى ونظير قوله يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ونظير قوله وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
أما قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ومعناه من كان ذلك منه عادة والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول فلان فعال للخير أمار به والأثيم فعيل بمعنى فاعل وهو الآثم وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم فتكون الآية جامعة للفريقين
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إعلم أن عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً فلما بالغ ههنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال إِنّ
َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ مع أنه لا نزاع في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فكذا فيما ذكرتم وأيضاً قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( محمد 34 ) وقال الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( البقرة 239 ) ( المائدة 5 10 )
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل
المسألة الثانية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ أقوى من قوله على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد فذاك النقد هناك حاضر متى شاء البائع أخذه وقوله أجرهم على ربهم يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة ولا شك أن الأول أفضل
المسألة الثالثة اختلفوا في قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقال ابن عباس لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة وقال الأصم لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة ولا هم يحزنون أيضاً بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة
المسألة الرابعة في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت ثم عند انقطاع حيضها ماتت أو الرجل بلغ عارفاً بالله وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات فهما بالاتفاق من أهل الثواب فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال وأيضاً من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال وإذا كان كذلك فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال
الجواب أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب كما قال في ضد هذا وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الفرقان 68 ) ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) ومعلوم أن من ادعى مع الله إلاهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلاهاً لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة
( 278 )
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرِّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى إعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال تعالى في هذه الآية وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض فالزيادة تحرم وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم وإنما شدد تعالى في ذلك لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم فقال اتَّقُواْ اللَّهَ واتقاؤه ما نهى عنه وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان أو بعضاً فإنه محرم قبضه
وإعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص ولا يفسخ وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
فإن قيل كيف قال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ ثم قال في آخره إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
الجواب من وجوه الأول أن هذا مثل ما يقال إن كنت أخاً فأكرمني معناه إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني قيل معناه إن كنتم مؤمنين قبله الثالث إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم
المسألة الثانية في سبب نزول الآية روايات
الرواية الأولى أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة
والرواية الثانية قال مقاتل إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف مسعود وعبد يا ليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة فلما ظهر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الطائف أسلم الأخوة ثم طالبوا برباهم بني المغيرة فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة نزلت في العباس وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر فلما حضر الجداد قبضا بعضاً وزاد في الباقي فنزلت الآية وهذا قول عطاء وعكرمة
الرواية الرابعة نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا يسلفان في الربا وهو قول السدي
المسألة الثالثة قال القاضي قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر
والجواب لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه فكان التقدير إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة فَأْذَنُواْ مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال فَئَامِنُواْ والباقون فَأْذَنُواْ بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك فَأْذَنُواْ ممدودة أي فاعلموا من قوله تعالى فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء ( الأنبياء 109 ) ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية والتقدير فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم فهذه القراءة في البلاغة آكد وقال أحمد بن يحيى قراءة العامة من الاذن أي كونوا على علم وإذن وقرأ الحسن فأيقنوا وهو دليل لقراءة العامة
المسألة الثانية اختلفوا في أن الخطاب بقوله مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا الذين قالوا إنما البيع مثل الربا قال القاضي والاحتمال الأول أولى لأن قوله فَأْذَنُواْ خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وهم المخاطبون بقوله يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين
فإن قيل كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين
قلنا هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) وعن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله ) وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) أصلاً في قطع
الطريق من المسلمين فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله
إذا عرفت هذا فنقول في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني المراد نفس الحرب وفيه تفصيل فنقول الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان وتترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه
والقول الثاني في هذه الآية أن قوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ ( البقرة 279 ) خطاب للكفار وأن معنى الآية وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) معترفين بتحريم الربا فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ومن ذهب إلى هذا القول قال إن فيه دليلاً على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً كما لو كفر بجميع شرائعه
ثم قال تعالى وَإِن تُبتُمْ والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا وعلى القول الثاني من استحلال الربا فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال النحويون كَانَ كلمة تستعمل على وجوه أحدها أن تكون بمنزلة حدث ووقع وذلك في قوله قد كان الأمر أي وجد وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني أن يخلع منه معنى الحدث فتبقى الكلمة مجردة للزمان وحينئذ يحتاج إلى الخبر وذلك كقوله كان زيد ذاهباً
واعلم أني حين كنت مقيماً بخوارزم وكان هناك جمع من أكابر الأدباء أوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب فقلت إنكم تقولون إن كَانَ إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلاً وهذا محال لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان فقولك كَانَ يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً كانت تامة لا ناقصة وإن لم تكن تامة لم تكن فعلاً ألبتة بل كانت حرفاً وأنتم تنكرون ذلك فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً وصنفوا في الجواب عنه كتباً وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها أن يكون المعنى وجد وحدث الشيء كقولك وجد الجوهر وحدث العرض والثاني أن يكون المعنى وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء فإذا قلت كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة وفي الحقيقة فالمفهوم من كَانَ في الموضعين هو الحدوث والوقوع إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً بل لا بد فيه من ذكر الاسمين
حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر وهذا من لطائف الأبحاث فأما إن قلنا إنه فعل كان دالاً على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذ تكون تامة لا ناقصة وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر وجميع خواص الأفعال وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية
المفهوم الثالث لكان يكون بمعنى صار وأنشدوا
بتيهاء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك فيكون هنا بمعنى حدث ووقع إلا أنه حدوث مخصوص وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى
المفهوم الرابع أن تكون زائدة وأنشدوا
سراة بني أبي بكر تسامى
على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول في كَانَ في هذه الآية وجهان الأول أنها بمعنى وقع وحدث والمعنى وإن وجد ذو عسرة ونظيره قوله إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً بالرفع على معنى وإن وقعت تجارة حاضرة ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل وإن كان ذا عسرة لكان المعنى وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة فتكون النظرة مقصورة عليه وليس الأمر كذلك لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني أنها ناقصة على حذف الخبر تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم وقرأ عثمان ذَا عُسْرَة ٍ والتقدير إن كان الغريم ذا عسرة وقريء وَمَن كَانَ ذَا عُسْرَة ٍ
المسألة الثانية العسرة اسم من الأعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال
ثم قالل تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير فالحكم أو فالأمر نظرة أو فالذي تعاملونه نظرة
المسألة الثانية نظرة أي تأخير والنظرة الاسم من الأنظار وهو الإمهال تقول بعته الشيء بنظرة وبانظار قال تعالى قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر 36 37 38 )
المسألة الثالثة قرىء فَنَظِرَة ٌ بسكون الظاء وقرأ عطاء فناظره أي فصاحب الحق أي منتظره أو صاحب نظرته على طريق النسب كقولهم مكان عاشب وباقل أي ذو عشب وذو بقل وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة
المسألة الرابعة الميسرة مفعلة من اليسر واليسار الذي هو ضد الأعسار وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل فهو موسر أي صار إلى اليسر فالميسرة واليسر والميسور الغنى
المسألة الخامسة قرأ نافع إِلَى مَيْسَرَة ٍ بضم السين والباقون بفتحها وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة والمشرفة والمشربة والمسربة والفتح أشهر اللغتين لأنه جاء في كلامهم كثيراً
المسألة السادسة اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم الآية في الربا وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل إنه معسر فقال شريح إنما ذلك في الربا والله تعالى قال في كتابه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( النساء 58 ) وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ
القول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين إنها عامة في كل دين واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ ولم يقل وإن كان ذا عسرة ليكون الحكم عاماً في كل المفسرين قال القاضي والقول الأول أرجح لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ من غير بخس ولا نقص ثم قال في هذه الآية وإن كان من عليه المال معسراً وجب إنظاره إلى وقت القدرة لأن النظرة يراد بها التأخر فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم
المسألة السابعة إعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار فنقول الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه فلهذا قلنا من وحد داراً وثياباً لا يعد في ذوي العسرة إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم واختلفوا إذا كان قوياً هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره فقال بعضهم يلزمه ذلك كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله وقال بعضهم لا يلزمه ذلك واختلفوا أيضاً إذا كان معسراً وقد بذل غيره ما يؤديه هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ويؤديه في الدين
المسألة الثامنة إذا علم الإنسان أن غريمه معسر جرم عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه فوجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض أو لا يكون كذلك وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض مثل إتلاف أو صداق أو ضمان كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر
ثم قال تعالى وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم تَصَدَّقُواْ بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها والأصل فيه أن تتصدقوا بتاءين فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفاً ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى
المسألة الثانية في التصدق قولان الأول معناه وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما وهو كقوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) والثاني أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام ( لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ) وهذا القول ضعيف لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ولأن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب
المسألة الثالثة المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة
ثم قال إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه فجعل العمل من لوازم العلم وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ إعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد حتى يمتنعوا عن الربا وعن أخذ أموال الناس بالباطل فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية وخوفهم على أعظم الوجوه وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت يَسْتَفْتُونَكَ ( النساء 127 ) وهي آية الكلالة ثم نزل وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) ثم نزل وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 ) فقال جبريل عليه السلام يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة وعاش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها أحدا وثمانين يوماً وقيل أحدا وعشرين وقيل سبعة أيام وقيل ثلاث ساعات
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بفتح التاء والباقون بضم التاء واعلم أن الرجوع لازم والرجع متعد وعليه تخرج القراءتان
المسألة الثالثة انتصب يَوْماً على المفعول به لا على الظرف لأنه ليس المعنى واتقوا في هذا اليوم لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح ومثله قوله فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله
المسألة الرابعة قال القاضي اليوم عبارة عن زمان مخصوص وذلك لا يتقي وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي الواجبات فصار قوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف
المسألة الخامسة الرجوع إلى الله تعالى ليس المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله تُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ له معنيان الأول أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب
فالحالة الأولى كونهم في بطون أمهاتهم ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى
والحالة الثانية كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر
والحالة الثالثة بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهراً في الحقيقة إلا الله سبحانه فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ
ثم قال ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام كما قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وقال إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ وقال وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا ( الأنبياء 47 ) وفي تأويل قوله مَّا كَسَبَتْ وجهان الأول أن فيه حذفاً والتقدير جزاء ما كسبت والثاني أن المكتسب هو ذلك الجزاء لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه فقوله تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ أي توفى كل نفس مكتسبها وهذا التأويل أولى لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى
المسألة الثانية الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة
ثم قال وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وفيه سؤال وهو أن قوله تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون فكان ذلك تكريراً
وجوابه أنه تعالى لما قال تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ كان ذلك دليلاً على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار فكان لقائل أن يقول كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل عليه طريق الاستدلال وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً فكان قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه
الحكم الثالث من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاٍّ خْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أن في كيفية النظم وجهين الأول أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني ترك الربا وهو أيضاً سبب لتنقيص المال ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم فقال وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله وعلى ترك الربا وعلى ملازمة التقوى لا يتم
ولا يكمل إلا عند حصول المال ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف وقد ورد نظيره في سورة النساء وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النساء 5 ) فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال القفال رحمه الله تعالى والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ثم قال ثانياً وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثم قال ثالثاً وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فكان هذا كالتكرار لقوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ لأن العدل هو ما علمه الله ثم قال رابعاً فَلْيَكْتُبْ وهذا إعادة الأمر الأول ثم قال خامساً وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وفي قوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ كفاية عن قوله فَلْيُمْلِلْ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ثم قال سادساً وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وهذا تأكيد ثم قال سابعاً وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فهذا كالمستفاد من قوله وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ثم قال ثامناً وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ الشَّهَادَة َ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم وهو حسن لطيف
والوجه الثاني أن قوماً من المفسرين قالوا المراد بالمداينة السلم فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم
المسألة الثانية التداين تفاعل من الدين ومعناه داين بعضكم بعضاً وتداينتم تبايعتم بدين قال أهل اللغة القرض غير الدين لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً أو ما أشبه ذلك ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر ندين ويقضي الله عنا وقد نرى
مصارع قوم لا يدينون ضيقا
إذا عرفت هذا فنقول في المراد بهذه المداينة أقوال قال ابن عباس أنها نزلت في السلف لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل فقال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
والقول الثاني أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل
والقول الثالث وهو قول أكثر المفسرين أن البياعات على أربعة أوجه أحدها بيع العين بالعين
وذلك ليس بمداينة ألبتة والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية بقي هنا قسمان بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق
والجواب أن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير إذا تعاملتم بما فيه دين
السؤال الثاني قوله تَدَايَنتُم يدل على الدين فما الفائدة بقوله بِدَيْنٍ
الجواب من وجوه الأول قال ابن الأنباري التداين يكون لمعنيين أحدهما التداين بالمال والآخر التداين بمعنى المجازاة من قولهم كما تدين تدان والدين الجزاء فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله فَاكْتُبُوهُ إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن الثالث أنه تعالى ذكره للتأكيد كقوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ) ( ص 73 ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) الرابع فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً على أي وجه كان من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة وذكل إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل أما لما قال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ كان المعنى إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ويبقى بيع العين بالدين أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير
السؤال الثالث المراد من الآية كلما تداينتم بدين فاكتبوه وكلمة إِذَا لا تفيد العموم فلم قال تَدَايَنتُم ولم يقل كلما تداينتم
الجواب أن كلمة إِذَا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية وهو قوله ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب فالظاهر أنه تنسى الكيفية فربما توهم الزيادة فطلب الزيادة وهو ظلم وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة ثم إن هذه العلة قائمة في الكل كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكل
أما قوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ففيه سؤالان
السؤال الأول ما الأجل
الجواب الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره وأجل الدين لوقت معين في المستقبل وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر والآجل نقيض العاجل
السؤال الثاني المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة
الجواب إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله مُّسَمًّى والفائدة في قوله مُّسَمًّى ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام ولو قال إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية
أما قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما الكتبة وهي قوله هاهنا فَاكْتُبُوهُ الثاني الإشهاد وهو قوله فَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ويدخل فيه الجحد فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم
المسألة الثانية القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل وقال آخرون هذا الأمر محمول على الندب وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد وذلك إجماع على عدم وجوبهما ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وقال قوم بل كانت واجبة إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( البقرة 283 ) وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة وقال التيمي سألت الحسن عنها فقال إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ألا تسمع قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين
الشرط الأول أن يكون الكاتب عدلاً وهو قوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ واعلم أن قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب لكن ذلك غير ممكن فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً فصار معنى قوله فَاكْتُبُوهُ أي لا بد من حصول هذه الكتبة وهو كقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء ( المائدة 38 ) فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد إما الإمام أو نائبه أو المولى فكذا هاهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان
أما قوله بِالْعَدْلِ ففيه وجوه الأول أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه الثاني إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص
أحدهما بالاحتياط دون الآخر بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه الثالث قال بعض الفقهاء العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين الرابع أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة ثم قال وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً وفيه وجوه الأول أن هذا على سبيل الارشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة وهو كقوله تعالى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها
والقول الثاني وهو قول الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب
والقول الثالث أن هذا كان واجباً على الكاتب ثم نسخ بقوله تعالى وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ
والقول الرابع أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشرائط ولا يدرج فيه قيداً يخل بمقصود الإنسان وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان وضاع ماله فكأنه قيل له إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى
المسألة الثانية قوله كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فيه احتمالان الأول أن يكون متعلقاً بما قبله ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها
والاحتمال الثاني أن يكون متعلقاً بما بعده والتقدير ولا يأب كاتب أن يكتب وهاهنا تم الكلام ثم قال بعده كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها والوجهان ذكرهما الزجاج
الشرط الثاني في الكتابة قوله تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك فلأجل ذلك قال تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ
المسألة الثانية الأملال والإملاء لغتان قال الفرّاء أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد
وأمليت لغة تميم وقيس ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الفرقان 5 )
ثم قال وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبراً فالمعتبر هو إقرار وليّه
ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى إدخال حرف أَوْ بين هذه الألفاظ الثلاثة أعني السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف وهم الذين فقدوا العقل بالكلية والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس أو جهله بماله وما عليه فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم فقال تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة لأن ولي المحجور السفيه وولي الصبي هو الذي يقر عليه بالدين كما يقرب بسائر أموره وهذا هو القول الصحيح وقال ابن عباس ومقاتل والربيع المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد لأنه كيف يقبل قول المدعي وإن كان قوله معتبراً فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد
النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد وهو قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ واعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استشهدوا أي أشهدوا يقال أشهدت الرجل واستشهدته بمعنى والشهيدان هما الشاهدان فعيل بمعنى فاعل
المسألة الثانية الإضافة في قوله شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فيه وجوه الأول يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون والثاني قال بعضهم يعني الأحرار والثالث مّن رّجَالِكُمْ الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة
المسألة الثالثة شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه ونذكر هاهنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد وعند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما لا تجوز حجة شريح أن قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ عام يتناول العبيد وغيرهم والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي فصار ذلك سبباً في إحياء حقه والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب
الحرية والرق فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة حجة الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قوله تعالى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهداً الذهاب إلى موضع أداء الشهادة ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة فلما دلّت الآية على أن كل من كان شاهداً وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب فوجب أن لا يكون العبد شاهداً وهذا الاستدلال حسن
وأما قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فقد بينا أن منهم من قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم الذين تعتدونهم لأداء الشهادة وعلى هذا التقدير فلم قلتم أن العبيد كذلك
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وفي ارتفاع رجل وامرأتان أربعة أوجه الأول فليكن رجل وامرأتان والثاني فليشهد رجل وامرأتان والثالث فالشاهد رجل وامرأتان والرابع فرجل وامرأتان يشهدون كل هذه التقديرات جائز حسن ذكرها علي بن عيسى رحمه الله
ثم قال مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء وهو كقوله تعالى في الطلاق وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ ( الطلاق 2 ) واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروأة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة
ثم قال أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة أَن تَضِلَّ بكسر إن فَتُذَكّرَ بالرفع والتشديد ومعناه الجزاء موضع تَضِلَّ جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف فَتُذَكّرَ رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ وأما سائر القراء فقرؤا بنصب ءانٍ وفيه وجهان أحدهما التقدير لأن تضل فحذف منه الخافض والثاني على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل
فإن قيل كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للاذكار لا الإضلال
قلنا هاهنا غرضان أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها والله أعلم
المسألة الثانية الضلال في قوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فيه وجهان أحدهما أنه بمعنى النسيان قال تعالى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ أي ذهب عنهم الثاني أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له والوجهان متقاربان وقال أبو عمرو أصل الضلال في اللغة الغيبوبة
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي فَتُذَكّرَ بالتشديد والنصب وقرأ حمزة بالتشديد والرفع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل والتشديد أكثر استعمالاً قال تعالى فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ ( الغاشية 21 ) ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء قال إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين ويدل على ضعفه وجهان الأول أن النساء لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى
الوجه الثاني أن قوله فَتُذَكّرَ مقابل لما قبله من قوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسراً بما يقابل النسيان
ثم قال تعالى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول وهو الأصح أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها والثاني أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق وهو قول قتادة واختيار القفال قال كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر وفي عدمهما ضياع الحقوق الثالث أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع وهو قول الزجاج أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولاً والأداء ثانياً واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه الأول أن قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ يقتضي تقديم كونهم شهداء وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء
فإن قيل يشكل هذا بقوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب
قلنا الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية والثاني أن ظاهر قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ النهي عن الامتناع والأمر بالفعل وذلك للوجوب في حق الكل ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل فلم يجز حمله عليه وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل ومتأكد بقوله تعالى وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ فكان هذا أولى الثالث أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه فصار الأمرر بتحمل الشهادة داخلاً في قوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فكان صرف قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ إلى الأمر بالأداء حملاً له على فائدة جديدة فكان ذلك أولى فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها
واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعيناً وإما أن يكون فيهم كثرة فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية
المسألة الثانية قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً فلا نعيده الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه يجوز القضاء بالشاهد واليمين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالشاهد واليمين وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه
واعلم أنه تعالى لما أمر عند المداينة بالكتبة أولاً ثم بالإشهاد ثانياً أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد فأمر بالكتبة فقال وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وفيه مسائل
المسألة الأولى السآمة الملال والضجر يقال سئمت الشيء سأماً وسآمة والمقصود من الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة فقال وَلاَ يَأْبَ أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا
فإن قيل فهل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر
قلنا لا لأن هذا محمول على العادة ليس في العادة أن يكتبوا التافه
المسألة الثانية ءانٍ في محل النصب لوجهين إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً فتقديره ولا تسأموا كتابته وإن شئت بنزع الخافض تقديره ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله
المسألة الثالثة الضمير في قوله أَن تَكْتُبُوهُ لا بد وأن يعود إلى المذكورر سابقاً وهو هاهنا إما الدين وإما الحق
المسألة الرابعة قرىء وَلاَ بالياء فيهما
ثم قال تعالى ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ اعلم أن الله تعالى بيّن أن الكتبة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث
الفائدة الأولى قوله ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وفي قوله ذالِكُمْ وجهان الأول أنه إشارة إلى قوله أَن تَكْتُبُوهُ لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب أقسط والثاني قال القفال رحمه الله ذلاكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ أعدل عند الله والقسط اسم والإقساط مصدر يقال أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الممتحنة 8 ) ( الحجرات 9 ) ويقال هو قاسط إذا جار قال تعالى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وإنما كان هذا أعدل عند الله لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب وعن الجهل والكذب أبعد فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( الأحزاب 5 ) أي أعدل عند الله وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم
والفائدة الثانية قوله أَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ معنى أَقْوَمُ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وذلك لأن المنتصب القائم ضد المنحني المعوج
فإن قيل مم بنى أفعل التفضيل أعني أقسط وأقوم
قلنا يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ويجوز أن يكون أقسط من قاسط وأقوم من قويم
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة لأنها سبب للحفظ والذكر فكانت أقرب إلى الاستقامة والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى والثانية بتحصيل مصلحة الدنيا وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعاراً بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا
والفائدة الثالثة هي قوله وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين والفرق بين الوجهين الأولين وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة فالأول إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين والثاني إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً وأما دفع الضر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط وما أحسن ما فيها من الترتيب
ثم قال تعالى إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى إِلا فيه وجهان أحدهما أنه استثناء متصل والثاني أنه منقطع أما الأول ففيه وجهان الأول أنه راجع إلى قوله تعالى إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد فلما أمر بالكتبة عند المداينة استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً والتقدير إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً وهو المراد من التجارة الحاضرة والثاني أن هذا استثناء من قوله وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون هذا استثناءً منقطعاً فالتقدير لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها فهذا يكون كلاماً مستأنفاً وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد
المسألة الثانية قوله أَن تَكُونَ فيه قولان أحدهما أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ والثاني قال الفرّاء إن شئت جعلت كَانَ ههنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة والخبر تديرونها والتقدير إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم
المسألة الثالثة قرأ عاصم تِجَارَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان ولا بد فيه من إضمار الاسم وفيه وجوه أحدها التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب ومنه قول الشاعر
بني أسد هل تعلمون بلاءنا
إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا
أي إذا كان اليوم وثانيها أن يكون التقدير إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة وثالثها قال الزجاج التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضر قال أبو علي الفارسي هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة صح تسميتها بالتجارة الحاضرة فإن من باع ثوباً بدرهم في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة وأما القراءة بالرفع فالوجه فيها ما ذكرناه في المسألة الثانية والله أعلم
المسألة الرابعة التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح يقال تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة تجارة حاضرة فقوله إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً لا يمكن حمله على ظاهره بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال ألا ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد ثم قال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا ( البقرة 282 ) معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ويأثم صاحب الحق بتركها وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه
ثم قال تعالى وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وأكثر المفسرين قالوا المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط
ثم قال تعالى وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة والثاني قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في لا يُضَارَّ أحدهما أن يكون أصله لا يضارر بكسر الراء الأولى فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة وهو قوله لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه وَلاَ بالإظهار والكسر وقراءة ابن عباس وَلاَ بالإظهار والفتح واختار الزجاج القول الأول واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ قَالَ وَذَلِكَ لاِنْ اسْمَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) والإثم والفاسق متقاربان واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان
خطاباً للكاتب والشهيد لقيل وإن تفعلا فإنه فسوق بكم وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم
ثم قال وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وفيه وجهان أحدهما يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار والثاني أنه عام في جميع التكليف والمعنى وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ يعني فيما حذر منه هاهنا وهو المضارة أو يكون عاماً والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه
ثم قال وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ والمعنى أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام بيع بكتاب وشهود وبيع برهان مقبوضة وبيع الأمانة ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكرنا اشتقاق في السفر في قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) ونعيده هاهنا قال أهل اللغة تركيب هذه الحروف للظهور والكشف فالسفر هو الكتاب لأنه يبين الشيء ويوضحه وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشف أو لأنه لما خرج من الكن إلى الصحراء فقد انكشف للناس أو لأنه لما خرج إلى الصحراء فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية وأسفر الصبح إذا ظهر وأسفرت المرأة عن وجهها أي كشفت وسفرت عن القوم أسفر سفارة إذا كشفت ما في قلوبهم وسفرت أسفر إذا كنست والسفر الكنس وذلك لأنك إذا كنست
فقد أظهرت ما كان تحت الغبار والسفر من الورق ما سفر به الريح ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سفر لوضوحه والله أعلم
المسألة الثانية أصل الرهن من الدوام يقال رهن الشيء إذا دام وثبت ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة
إذا عرفت أصل المعنى فنقول أصل الرهن مصدر يقال رهنت عند الرجل أرهنه رهناً إذا وضعت عنده قال الشاعر يراهنني فيرهنني بنيه
وأرهنه بني بما أقول
إذا عرفت هذا فنقول إن المصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل فإذا قال رهنت عند زيد رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر لكن انتصاب المفعول به كما تقول رهنت عند زيد ثوباً ولما جعل اسماً بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان رهن ورهان ومما جاء على رهن قول الأعشى آليت لا أعطيه من أبنائنا
رهناً فيفسدهم كمن قد أفسدا
وقال بعيث بانت سعاد وأمسى دونها عدن
وغلقت عندها من قبلك الرهن
ونظيره قولنا رهن ورهن سقف وسقف ونشر ونشر وخلق وخلق قال الزجاج فعل وفعلى قليل وزعم الفرّاء أن الرهن جمعه رهان ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر ومن الناس من عكس هذا فقال الرهن جمعه رهن والرهن جمعه رهان واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر مثل نعل ونعال وكبش وكباش وكعب وكعاب وكلب وكلاب
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير أبو عمرو فَرِهَانٌ بضم الراء والهاء وروي عنهما أيضاً فَرِهَانٌ برفع الراء وإسكان الهاء والباقون فَرِهَانٌ قال أبو عمرو لا أعرف الرهان إلا في الخيل فقرأت فَرِهَانٌ للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع الرهن وأما قراءة أبي عمرو بضم الراء وسكون الهاء فقال الأخفش إنها قبيحة لأن فعلاً لا يجمع على فعل إلا قليلاً شاذاً كما يقال سقف وسقف تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها وقلب للنخل ولحد ولحد وبسط وبسط وفرس ورد وخيل ورد
المسأل الرابعة في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر والتقدير فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين أو ما يقوم مقامهما أو فعليه رهن مقبوضة وإن شئنا جعلناه خبراً وأضمرنا المبتدأ والتقدير فالوثيقة رهن مقبوضة
المسألة الخامسة اتفقت الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب وعدمه وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية ولا يعمل بقوله اليوم وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب كقوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِن
ْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) وليس الخوف من شرط جواز القصر
المسألة السادسة مسائل الرهن كثيرة واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلّت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضاً والعقل أيضاً يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضاً فوجب ألا يصح رهن المشاع
ثم قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية وهو بيع الأمانة أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن وفيه مسائل
المسألة الأولى أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفاً منه قال تعالى هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ( يوسف 64 ) فقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا أي لم يخف خيانته وجحوده فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ أي فليؤد المديون الذي كان أميناً ومؤتمناً في ظن الدائن فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه يقال أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن
ثم قال وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل وفي الآية قول آخر وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده والوجه هو الأول
المسألة الثانية من الناس من قال هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجىء إليه خطأ بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط وهذه الآية محمولة على الرخصة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ليس في آية المداينة نسخ ثم قال وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وفي التأويل وجوه
الوجه الأول قال القفال رحمه الله إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن وأن يخرج خائناً جاحداً للحق إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خبر يدل على صحة هذا التأويل وهو قوله ( خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد )
الوجه الثاني في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ونظيره قوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ ( البقرة 140 ) والمراد الجحود وإنكار العلم
الوجه الثالث في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها وقد تقدم ذلك في قوله
وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ( البقرة 282 ) وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه وحرمة مال المسلم كحرمة دمه فهذا بالغ في الوعيد
ثم قال وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الآثم الفاجر روي أن عمر كان يعلم أعرابياً إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( الدخان 43 44 ) فكان يقول طعام اليتيم فقال له عمر طعام الفاجر فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرىء قَلْبَهُ بالفتح كقوله سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وقرأ ابن أبي عبلة قَلْبُهُ وَاللَّهُ أي جعله آثماً
المسألة الثالثة إعلم أن كثيراً من المتكلمين قالوا إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وذكرنا طرفاً منه في تفسير قوله قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( البقرة 97 ) وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثماً
وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو فيقال هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ويقال فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم ههنا إلى القلب
ثم قال عزّ وجلّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وهو تحذير من الإقدام على هذا الكتمان لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول قال الأصم إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهو دليل التوحيد والنبوّة وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف وهي في الصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والرضاع والبيع والربا وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد
وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم فعبّر سبحانه عن كمال القدرة بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ملكا وملكاً وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ وإذا حصل كمال القدرة والعلم فكان كل من في السماوات والأرض عبيداً مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية
والوجه الثاني في كيفية النظم قال أبو مسلم إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( البقرة 283 ) ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالماً بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به فكان الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها
الوجه الثالث في كيفية النظم قال القاضي إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال والاحتياط في حفظها بيّن الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السماوات والأرض
الوجه الرابع قال الشعبي وعكرمة ومجاهد إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السماوات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه من جملة ما في السماوات والأرض بدليل صحة الاستثناء واللام في قوله لِلَّهِ ليس لام الغرض فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السماوات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادراً على تحقيق تلك الحقائق وتكوين تلك الماهيات فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات ومحققة للحقاق فكان القول بأن المعدوم شيءً باطلاً
ثم قال تعالى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ يروى عن ابن عباس أنه قال لما
نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وإن له الدنيا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولاً فأنزل الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) فنسخت هذه الآية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلموا به )
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق والعلماء أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس فالقسم الأول يكون مؤاخذاً به والثاني لا يكون مؤاخذاً به ألا ترى إلى قوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) وقال في آخر هذه السورة لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( النور 19 ) هذا هو الجواب المعتمد
والوجه الثاني أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فهو في محل العفو وقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب
والوجه الثالث في الجواب أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي العموم والغموم في الدنيا روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه وروت أنها سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه
فإن قيل المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 )
قلنا هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام
الوجه الرابع في الجواب أنه تعالى قال يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ولم يقل يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب
الوجه السابع في الجواب أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارهاً لورود تلك الخواطر والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها
الوجه السادس قال بعضهم المراد بهذه الآية كتمان الشهادة وهو ضعيف لأن اللفظ عام وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه
الوجه السابع في الجواب ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( القرة 286 ) وهذا أيضاً ضعيف لوجوه أحدها أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها وذلك باطل لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة ولذلك قال عليه السلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) والثاني أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي
واعلم أن الناس اختلافاً في أن الخبر هل ينسخ أم لا وقد ذكرنا في أصول الفقه والله أعلم
ثم قال فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب وقوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء رفع للقطع واحد من الأمرين فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيباً للمؤمن يرثه المذنب بأعماله
المسألة الثانية قرأ عاصم وابن عامر فَيَغْفِرُ يُعَذّبُ برفع الراء والباء وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف والتقدير فهو يغفر وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء قال صاحب ( الكشاف ) إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وقد بيّن بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أنه كامل الملك والملكوت وبين بقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ أنه كامل العلم والإحاطة ثم بيّن بقوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له خاضعاً لأوامره ونواهيه محترزاً عن سخطه ونواهيه وبالله التوفيق
ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك وكمال العلم وكمال القدرة لله تعالى وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية وقد ظهر منا كمال العبودية فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل
الوجه الثاني في النظم أنه تعالى لما قال وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( القبرة 284 ) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا فقال الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك فلا أظهر من أحوالك ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحاً لك وثناء عليك حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة فأنا الكامل في الجود والرحمة وفي إظهار الحسنات وفي الستر على السيئات
الوجه الثالث أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وهذا هو المراد بقوله في أول السورة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال ههنا وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وهو المراد بقوله في أول السورة وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
ثم قال ههنا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهو المراد بقوله في أول السورة وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ( البقرة 4 ) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها
والوجه الرابع وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله وقال له إن الله بعثك رسولاً إلى الخلق فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في
دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطاناً ضالاً مضلاً وذلك الملك أيضاً إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير وهذه المراتب معتبرة أولها قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها قيام المعجزة عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أن ذلك الملك صادق في دعواه وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها أن تقوم المعجزة على يد الرسولعند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولاً من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام قال الرَّسُولُ بِمَا فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل ثم ذكر إيمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وهو المرتبة المتقدمة وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة فقال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعلّ الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور وليس الأمر في هذا الباب كما قيل والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته
المسألة الثانية قوله تعالى الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة وإنما عرف الرسول لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام
فأما قوله وَالْمُؤْمِنُونَ ففيه احتمالان أحدهما أن يتم الكلام عند قوله وَالْمُؤْمِنُونَ فيكون المعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ والمعنى كل واحد من المذكورين فيما تقدم وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله
الاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ ثم يبتدىء من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمناً بربه ثم صار مؤمناً به ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه كما قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلاً منذ خلقه الله من أول الأمر وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال إني عبد الله آتاني الكتاب فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولاً من عند الله حين كان طفلاً فكيف يستبعد أن يقال إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان عارفاً بربه من أول ما خلق كامل العقل
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله وإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاماً متلواً يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه فيكون هو ( صلى الله عليه وسلم ) مختصاً بالإيمان به ولا يتمكن غيره من الإيمان به فلهذا السبب كان الرسول مختصاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره
ثم قال الله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى إعلم أن هذه الآية دلّت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان
فالمرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعاً قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر
والمرتبة الثانية أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة فقال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقال وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ( الشورى 51 ) وقال فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( البقرة 97 ) وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائك فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ولهذا السر قال أيضاً شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 )
والمرتبة الثالثة الكتب وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة
والمرتبة الرابعة الرسل وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة وحكماً عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف
المسألة الثانية المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله وبأحكامه وبأسمائه
أما الإيمان بوجوده فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئاً آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات
الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات
وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما سلبية وإما ثبوتية
فأما السلبية فهي أن يعلم أنه فرد منزّه عن جميع جهات التركيب فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فهو مركب فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته وكل ما ليس ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع أن يكون مركباً بوجه من الوجوه بل كان فرداً مطلقاً وإذا كان فرداً في ذاته لزم أن لا يكون متحيزاً ولا جسماً ولا جوهراً ولا في مكان ولا حالاً ولا في محل ولا متغيراً ولا محتاجاً بوجه من الوجوه ألبتة
وأما الصفات الثبوتية فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه فحينئذ يعرفه قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً موصوفاً منعوتاً بالجلال وصفات الكمال وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 )
وأما الإيمان بأفعاله فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها
فإن قلت إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري
فنقول قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك وسكونك بمشيئتك لسكونك فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك
إذا ثبت هذا فنقول هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها إما أن يكون لا بمحدث أصلاً أو يكون بمحدث ثم ذلك المحدث إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل فثبت أن محدثها هو الله سبحانه وتعالى
إذا ثبت هذا فنقول لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به ولا حصول الفعل بعد المشيئة فالإنسان مضطر في صورة مختار فهذا كلام قاهر قوي وفي معارضته إشكالان أحدهما كيف يليق بكمال حكمة الله تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق والثاني أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي والمدح والذم
والثواب والعقاب على العبد فهذا هو الحرف المعول عليه من جانب الخصم إلا أنه وارد عليه أيضاً في العلم على ما قررناه في مواضع عدة
وأما المرتبة الرابعة في الإيمان بالله فهي معرفة أحكامه ويجب أن يعلم في أحكامه أموراً أربعة أحدها أنها غير معللة بعلة أصلاً لأن كل ما كان معللاً بعلة كان صاحبه ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك على الحق سبحانه محال وثانيها أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق فإنه منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار وثالثها أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ورابعها أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله وأنه لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه شيء لأن الكل ملكه وملكه والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي
وأما الرتبة الخامسة في الإيمان بالله فمعرفة أسمائه قال في الأعراف وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وقال في بني إسرائيل أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 110 ) وقال في طه اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 ) وقال في آخر الحشر لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحشر 24 ) والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزّلة على ألسنة أنبيائه المعصومين وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله
وأما الإيمان بالملائكة فهو من أربعة أوجه أولها الإيمان بوجودها والبحث عن أنها روحانية محضة أو جسمانية أو مركبة من القسمين وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية أو هوائية وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية
والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة العلم بأنهم معصومون مطهرون يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( الأنبياء 19 ) فإن لذتهم بذكر الله وأنسهم بعبادة الله وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته
والمرتبة الثالثة أنهم وسائط بين الله وبين البشر فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم كما قال سبحانه وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً ( الصافات 1 2 ) وقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( الذاريات 1 2 ) وقال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ( المرسلات 1 2 ) وقال وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ( النازعات 1 2 ) ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسراراً مخفية إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها
والمرتبة الرابعة أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة قال الله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 21 ) فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم
وأما الإيمان بالكتب فلا بد فيه من أمور أربعة أولها أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله وأنها ليست من باب الكهانة ولا من باب السحر ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وثانيها أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين فالله تعالى لم يمكن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر وعند هذا يعلم أن من قال إن الشيطان ألقى قوله تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي فقد قال قولاً عظيماً وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن
والمرتبة الثالثة أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف ودخل فيه فساد قول من قال إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة
والمرتبة الرابعة أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه
وأما الإيمان بالرسل فلا بد فيه من أمور أربعة
المرتبة الأولى أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ( البقرة 36 ) وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى
والمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بهم أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب
المرتبة الثالثة قال بعضهم أنهم أفضل من الملائكة وقال كثير من العلماء إن الملائكة السماوية أفضل منهم وهم أفضل من الملائكة الأرضية وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 ) ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة
المرتبة الرابعة أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( البقرة 253 ) ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 253 )
وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر وهو أن الطريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم فإذا كان هذا هو الطريق وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقاً وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوّة موسى وعيسى ويكذبون بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا هو المقصود من قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
المسألة الثالثة قرأ حمزة وكتابه على الواحد والباقون أُوتِى َ كِتَابَهُ على الجمع أما الأول ففيه وجهان
أحدهما أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل والثاني على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع ونظيره قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ ( البقرة 213 )
فإن قيل اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا كان مقروناً بالألف واللام وهذه مضافة
قلنا قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة قال الله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وقال الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه واعلم أن القراء أجمعوا في قوله وَرُسُلِهِ على ضم السين وعن أبي عمرو سكونها وعن نافع وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مخففين وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات لأنهم كرهوا ذلك ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفاً وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة
المسألة الرابعة قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ فيه محذوف والتقدير يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ ( الأنعام 93 ) معناه يقولون أخرجوا وقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ ( الزمر 3 ) أي قالوا هذا
المسألة الخامسة قرأ أبو عمرو يُفْرَقُ بالياء على أن الفعل لكل وقرأ عبد الله لا يَفْرَقُونَ
المسألة السادسة أحد في معنى الجمع كقوله فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( الحاقة 47 ) والتقدير لا نفرق بين جميع رسله هذا هو الذي قالوه وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع لأنه يصير التقدير لا نفرق بين جميع رسله وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل بل بين البعض وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل بل معنى الآية لا نفرق بين أحد من الرسل وبين غيره في النبوّة فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام والله أعلم
ثم قال الله تعالى وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الكلام في نظم هذه الآية من وجوه الأول وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات والقوة النظرية أشرف من القوة العملية والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) فالحكم كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ كمال القوة العملية وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب
إذا عرفت هذا فنقول الأمر في هذه الآية أيضاً كذلك فقوله كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون
والوجه الثاني من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياماً ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر والبحث عنه يسمى بعلم الوسط والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ ( هود 123 ) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة لا جرم ذكرها في هذه الآية وقوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ إشارة إلى كمال القدرة فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به فله أيضاً مرتبتان البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وذلك هو المسمى بالتوكل فذكر هذين المقامين فقال فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ( هود 123 ) وأما علم المعاد فهو قوله وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( الأنعام 132 ) أي فيومك غداً سيصل فيه نتائج أعمالك إليك فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ونظيرها أيضاً قوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ ( الصافات 180 ) وهو إشارة إلى علم المبدأ ثم قال وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 181 ) وهو إشارة إلى علم الوسط ثم قال وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الصافات 182 ) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 100 )
إذا عرفت هذا فنقول تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة فقوله الرَّسُولُ بِمَا إلى قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ إشارة إلى معرفة المبدأ وقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إشارة إلى علم الوسط وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالماً مشتغلاً بها ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا وقوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إشارة إلى علم المعاد والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك وأنوار بهجة السماوات
الوجه الثالث في النظم أن المطالب قسمان أحدهما البحث عن حقائق الموجودات والثاني البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ والقسم الثاني هو المراد بقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله قوله سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أي سمعنا قوله وأطعنا أمره إلا أنه حذف المفعول لأن في الكلام دليلاً عليه من حيث مدحوا به
وأقول هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهراً وتقديراً أولى لأنك إذا جعلت التقدير سمعنا قوله وأطعنا أمره فإذن ههنا قول آخر غير قوله وأمر آخر يطاع سوى
أمره فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى
المسألة الثالثة إعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون سمعنا وأطعنا فقوله سَمِعْنَا ليس المراد منه السماع الظاهر لأن ذلك لا يفيد المدح بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا أي عقلناه وعلمنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن قال الله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 37 ) والمعنى لمن سمع الذكرى بفهم حاضر وعكسه قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( لقمان 7 ) ثم قال بعد ذلك وَأَطَعْنَا فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علماً وعملاً
ثم حكي عنهم بعد ذلك أنهم قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة
والجواب من وجوه الأول أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم فلما جوزوا ذلك قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون والثاني روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيراً فكان يستغفر الله منه فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضاً غير مستبعد والثالث أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلاهيته جنايات وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل ولذلك قال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية وإن كان عالماً جداً إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير فكان يستغفر منها وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فسبحانك اللّهم إشارة إلى التنزيه
ثم إنه قال دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا
المسألة الثانية قوله غُفْرَانَكَ تقديره اغفر غفرانك ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو
سقياً ورعياً قال الفرّاء هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب ومثله الصلاة الصلاة والأسد الأسد وهذا أولى من قول من قال نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه ونظيره قولك حمداً حمداً وشكراً شكراً أي أحمد حمداً وأشكر شكر
المسألة الثالثة أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين أحدهما بالإضافة إليه وهو قوله غُفْرَانَكَ والثاني أردفه بقوله رَبَّنَا وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها أنت الكامل في هذه الصفة فأنت غافر الذنب وأنت غفور وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ( الكهف 58 ) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ( البروج 14 ) وأنت الغفار اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب فهذه الغفارية كالحرفة له فقوله ههنا غُفْرَانَكَ يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة فقوله غُفْرَانَكَ طلب لغفران كامل وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته ويبدلها بالحسنات كما قال فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) وثانيها روي في الحديث الصحيح ( إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً واحداً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فيها يتراحمون وادخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة ) فأظن أن المراد من قوله غُفْرَانَكَ هو ذلك الغفران الكبير كان العبد يقول هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي وثالثها كأن العبد يقول كل صفة من صفات جلالك وإلاهيتك فإنما يظهر أثرها في محل معين فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك فكذا لولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لما ظهرت آثار غفرانك فقوله غُفْرَانَكَ معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المجرمين
وأما القيد الثاني وهو قوله رَبَّنَا ففيه فوائد أولها ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك وثانيها ربيتني حين كنت معدوماً ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به لأني كنت أبقى حينئذ في العدم وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد فأسألك أن لا تهملي وثالثها ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل ورابعها ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك
ثم قال الله تعالى وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وفيه فائدتان إحداهما بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات وقادر على كل الممكنات لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله كان إخلاصه في الطاعات أتم واحترازه عن السيئات أكمل وهاهنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) وقالوا لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا ( البقرة 286 ) فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها
المسألة الثانية في كيفية النظم إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فكأنهم قالوا كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا فإذا كان هو تعالي بحكم الرحمة الإلاهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين وإن قلنا إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ثم قالوا بعده غُفْرَانَكَ رَبَّنَا دل ذلك على أن قولهم غُفْرَانَكَ طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم غُفْرَانَكَ طلباً للمغفرة في ذلك التقصير لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم وما تعمدتم التقصير فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم غُفْرَانَكَ رَبَّنَا
المسألة الثالثة يقال كلفته الشيء فتكلف والكلف اسم منه والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه قال الفرّاء هو اسم كالوجد والجهد وقال بعضهم الوسع دون المجهود في المشقة وهو ما يتسع له قدرة الإنسان
المسألة الرابعة المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه ونظيره قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ ( النساء 28 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وقالوا هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق قالوا وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة ألبتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى والموجود لا يوجد ثانياً وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى فكيف
تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق والثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع
أما الأصحاب فقالوا دلّت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية
الحجة الأولى أن من مات على الكفر ينبىء موته على الكفر أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع وهو أيضاً مقدم بينة بنفسها فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النقيضين وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم فهي أيضاً جارية في الجبر
الحجة الثانية أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداهي وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازماً إنما قلنا إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي لأن قدرة العبد لما كانت صالح للفعل والترك فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع وإنما قلنا إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وإنما قلنا إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحاً والمرجوح ممتنع الوقوع وإذا كان المرجوح ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلف به فكان التكليف تكليف ما لا يطاق
الحجة الثالثة أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين أو حال رجحان أحدهما فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق لأن الاستواء يناقض الرجحان فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان فقد كلف بالجمع بين النقيضين وإن كان الثاني فالراجح واجب والمرجوح ممتنع وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع
الحجة الرابعة أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه وهو مما أخبر أنه لا يؤمن فقد صار أبو لهب مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك تكليف ما لا يطاق
الحجة الخامسة العبد غير عالم بتفاصيل فعله لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ويسكن في بعضها وأنه أين تحرك وأين سكن وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله لم يكن موجداً لها لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال فثبت أن العبد غير موجد فإذا لم يكن موجداً كان تكليف ما لا يطاق لازماً على ما ذكرتم فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب فعلمنا أنه
لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه الأول وهو الأصوب أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي والظاهر السمعي فإما أن يصدقهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين وإما أن يكذبهما وهو محال لأنه إبطال النقيضين وإما أن يكذب القاطع العقلي ويرجح الظاهر السمعي وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوّة والقرآن وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معاً فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ويحمل الظاهر السمعي على التأويل وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبداً في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلاً في الجملة سواء عرفناه أو لم نعرفه وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل
الوجه الثاني في الجواب هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ومتى لم يفعل فإنه يعاقب فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكناً كان ذلك أمراً وتكليفاً في الحقيقة وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفاً بل كان إعلاماً بنزول العقاب به في الدار الآخرة وإشعاراً بأنه إنما خلق للنار
والجواب الثالث وهو أن الإنسان ما دام لم يمت وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك فنحن شاكون في قيام المانع فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائماً في حقه فتبين أن شرط التكليف كان زائلاً عنه حال حياته وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر
الجواب الرابع أنا بينا أن قوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ليس قول الله تعالى بل هو قول المؤمنين فلا يكون حجة إلا أن هذا ضعيف وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا وأن يعفو عن خطايانا فإنا لا نطلب إلا الحق ولا نروم إلا الصدق
أما قوله تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب قال الواحدي رحمه الله الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما قال ذو الرمة
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
والقرآن أيضاً ناطق بذلك قال الله تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ ( المدثر 38 ) وقال وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 164 ) وقال بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَة ً ( البقرة 81 ) وقال وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ ( الأحزاب 58 ) فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر ومن الناس من سلم الفرق ثم فيه قولان أحدهما أن الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه
خاصة يقال فلان كاسب لأهله ولا يقال مكتسب لأهله والثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الاكتساب اعتمال فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق قال القاضي لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر قال الجبائي ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة والجمع بينهما محال في العقول فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالاً
واعلم أن الكلام على هذه المسألة مرّ على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( القرة 264 ) فلا نعيده
المسألة الرابعة احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ووجه الاستدلال ظاهر فيه ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 )
المسألة الخامسة الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار لأن اللام في قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على ثبوت هذا الاختصاص وتأكد ذلك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل امرىء أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين ) وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه
منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والعارض الموجود إما الغضب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة
ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله لَهَا مَا كَسَبَتْ
ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر
بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار
ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً فإنه يجب رده على المالك ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص والخاص مقدم على العام وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم
ثم إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدعاء مخ العبادة ) لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) فقال رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء وذكر في مطلع كل واحد منها قوله رَبَّنَا إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
أما النوع الأول فهو قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأن الناسي قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه وعندي فيه وجه آخر وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة
المسألة الثانية في النسيان وجهان الأول أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر
فإن قيل أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء )
والجواب عنه من وجوه الأول أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان ههنا معذوراً وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون
ملوماً وأما إذا واظب على القراءة لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً فثبت أن النسيان على قسمين منه ما يكون معذوراً ومنه ما لا يكون معذوراً وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء
الوجه الثاني في الجواب أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به
الوجه الثالث في الجواب أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى لا طلب الفعل ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع قال الله تعالى قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) وقال رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 ) وقالت الملائكة في دعائهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء
الوجه الرابع في الجواب أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس فلما كان ذلك جائزاً في العقول لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء
الوجه الخامس أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل فلولا أنه جائز عقلاً من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه
والقول الثاني في تفسير النسيان أن يحمل على الترك قال الله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وقال تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة 67 ) أي تركوا العمل لله فتركهم ويقول الرجل لصاحبه لا تنسني من عطيتك أي لا تتركني فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد والمراد بالخطأ أن يفعل الفعل لتأويل فاسد
المسألة الثالثة علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلاً في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ولما أمرهم بطلب ذلك دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء
فإن قيل الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة
قلنا فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمداً وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر
قوله تعالى رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا
إعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل
المسألة الأولى الإصر في اللغة الثقل والشدة قال النابغة
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا
ثم سمي العهد إصراً لأنه ثقيل قال الله تعالى وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى ( آل عمران 81 ) أي عهدي وميثاقي والإصر العطف يقال ما يأصرني عليه آصرة أي رحم وقرابة وإنما سمي العطف إصراً لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره
المسألة الثانية ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود قال المفسرون إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالاً لهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ( النساء 160 ) وقال تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر وكان عذابهم معجلاً في الدنيا كما قال مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً وكانوا يمسخون قرد وخنازير قال القفال ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق ورأى الأعاجيب الكثيرة فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم قال الله تعالى في صفة هذه الأمة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وقال عليه السلام ( رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق ) وقال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقال عليه الصلاة والسلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب للعقوبة ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف
والقول الثاني لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ فيكون القول الأول أولى
المسألة الثالثة لقائل أن يقول دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم
الراحمين فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد قالت المعتزلة من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان مفسدة في حق غيره فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع وقسوة القلب ودناءة الهمة حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
قوله تعالى رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ
إعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين وفيه مسائل
المسألة الأولى الطاقة اسم من الإطاقة كالطاعة من الإطاعة والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر
المسألة الثانية من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى
أجاب المعتزلة عنه من وجوه الأول أن قوله مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلاً له قال الشاعر
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في المملوك ( له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ) أي ما يشق عليه وروى عمران بن الحصين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المريض يصلي جالساً فإن لم يستطع فعلى جنب ) فقوله فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس بل كل الفقهاء يقولون المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة وقال الله تعالى في وصف الكفار مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ( هود 20 ) أي كان يشق عليهم
الوجه الثاني أنه تعالى لم يقل لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به بل قال لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله لا تُحَمّلْنَا حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله لا تُحَمّلْنَا مجازاً فيه فكان الأول أولى
الوجه الثالث هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه لأنه لو دل على ذلك لدل قوله رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) على جواز أن يحكم بباطل وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( الشعراء 87 ) على جواز أن يخزي الأنبياء وقال الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) هذا جملة أجوبة المعتزلة
أجاب الأصحاب فقالوا
أما الوجه الأول فمدفوع من وجهين الأول أنه لو كان قوله وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ محمولاً على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز الثاني أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة فقوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة
وأما الوجه الثاني فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف قال الله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ ( الأحزاب 72 ) إلى قوله وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز
وأما الوجه الثالث فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً كما أن ذلك غير جائز فكذا ما ذكرتم
إذا ثبت هذا فنقول هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق
المسألة الثالثة إعلم أنه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول لم قال في الآية الأولى لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا وقال في هذه الآية لا تُحَمّلْنَا خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل
الجواب أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل
السؤال الثاني أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى
والجواب الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما قيامه بظاهر الشريعة والثاني شروعه في بدء المكاشفات وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد وفي المقام الثاني قال لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ولا معرفة تليق بقدس عظمتك فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا مقدماً في الذكر على قوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ
السؤال الثالث أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء
والجواب المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل
قوله تعالى وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
إعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ رَبَّنَا وأما هذا الدعاء الرابع فقد حذف منه لفظ رَبَّنَا وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان
السؤال الأول لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا
الجواب النداء إنما يحتاج إليه عند البعد أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر
السؤال الثاني ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة كأن العبد يقول أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة والأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضاً قسمان ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى فقوله وَارْحَمْنَا طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك أَنتَ مَوْلَانَا طلب للثواب الروحاني ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله أَنتَ مَوْلَانَا خطاب الحاضرين ولعلّ كثيراً من
المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات ويقولون إنها من باب الطاعات ولقد صدقوا فيما يقولون فذلك مبلغهم من العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( النجم 30 )
وفي قوله أَنتَ مَوْلَانَا فائدة أخرى وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض والقائم بإصلاح مهمات الكل وهو المتولي في الحقيقة للكل على ما قال نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( الأنفال 40 ) ونظير هذه الآية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) أي ناصرهم وقوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ( التحريم 4 ) أي ناصره وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 )
ثم قال فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم وفي مناظرتنا بالحجة معهم وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ومن المحققين من قال فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله وهذا آخر السورة
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله الرَّسُولُ بِمَا فسله وارغب إليه فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو فقال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فقال الله تعالى ( قد غفرت لكم ) فقال لاَ تُؤَاخِذْنَا فقال الله لا فقال رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا فقال ( لا أشدد عليكم ) فقال محمد لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ فقال ( لا أحملكم ذلك ) فقال محمد وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا فقال الله تعالى ( قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين ) وفي بعض الروايات أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين
وهذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول إلاهي وسيدي كل ما للبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا يشغله سؤال السائلين وهذا آخر الكلام في تفسير هذه والسورة الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلّم
سورة ال عمران
مائتا آية مدنيةالم
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ
أما تفسير الم فقد تقدم في سورة البقرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم الم اللَّهِ بسكون الميم ونصب همزة الله والباقون موصولاً بفتح الميم أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم وأما من نصب الميم ففيه قولان
القول الأول وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر يقول ألف لام ميم كما تقول واحد اثنان ثلاثة وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله الله فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها
فإن قيل إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة وإن كان التقدير هو
الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها وامتنع إلقاء حركتها على الميم
قلنا لم لا يجوز أن يكون ساقطاً بصورته باقياً بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفرّاء
والقول الثاني قول سيبويه وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين وهذا القول رده كثير من الناس وفيه دقة ولطف والكلام في تلخيصه طويل
وأقول فيه بحثان أحدهما سبب أصل الحركة والثاني كون تلك الحركة فتحة
أما البحث الأول فهو بناء على مقدمات
المقدمة الأولى أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفاً من حروف المد واللين لم يجب التحريك لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين كقولك هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة
المقدمة الثانية مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام وهي ساكنة والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفاً آخر فإن كان متحركاً توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكناً حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى حقيقة وحكماً وإذا كان كذلك امتنع أن يقال ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكماً لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام أو أثر من الآثار لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطاً كلياً وبهذا يبطل قول الفرّاء
المقدمة الثالثة أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر وذلك متفق عليه
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول الميم من قولنا الم ساكن ولام التعريف من قولنا اللَّهِ ساكن وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى وصح بهذا البيان قول سيبويه وبطل قول الفرّاء
أما البحث الثاني فلقائل أن يقول الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر فلم اختير الفتح ههنا قال الزجاج في الجواب عنه الكسر ههنا لا يليق لأن الميم من قولنا الم مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل فتركت الكسرة واختيرت الفتحة وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج وقال ينتقض قوله بقولنا جير فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء وهذا الطعن عندي ضعيف لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها فإذا اجتمعا عظم الثقل ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك اللَّهِ وهو في غاية الخفة فيصير اللسان منتقلاً من أثقل الحركات إلى أخف الحركات والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان أما إذا جعلنا الميم مفتوحة انتقل
اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا اللَّهِ فكان النطق به سهلاً فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم
المسألة الثانية في سبب نزول أول هذه السورة قولان
القول الأول وهو قول مقاتل بن سليمان أن بعض أول هذه السورة في اليهود وقد ذكرناه في تفسير الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 )
والقول الثاني من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى وهو قول محمد بن إسحاق قال قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم وذو رأيهم وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه تعس الأبعد يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو حارثة بل تعست أمك فقال ولم يا أخي فقال إنه والله النبي الذي كنا ننتظره فقال له أخوه كرز فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا فلو آمنا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأخذوا منا كل هذه الأشياء فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك ثم تكلم أولئك الثلاثة الأمير والسيد والحبر مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على اختلاف من أديانهم فتارة يقولون عيسى هو الله وتارة يقولون هو ابن الله وتارة يقولون ثالث ثلاثة ويحتجون لقولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وجعلنا ولو كان واحداً لقال فعلت فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسلموا فقالوا قد أسلمنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير قالوا فمن أبوه فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
ثم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يناظر معهم فقال ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك قالوا لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم قالوا لا قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فكيف يكون كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً ثم قالوا يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه قال بلى ) قالوا فحسبنا فأنزل الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ الآية
ثم إن الله تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة فقالوا يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض ما ترى فقال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لا عن قوم نبياً قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع نحن على ديننا فابعث رجلاً من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضا فقال عليه السلام آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فلما صلينا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره وجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه قال عمر فذهب بها أبو عبيدة
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعاً والله أعلم
المسألة الثالثة إعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل لهم إما أن تنازعوه في معرفة الإله أو في النبوّة فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولداً وأن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم والحي القيوم يستحيل عقلاً أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوّة فهذا أيضاً باطل لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جداً فلننظر ههنا إلى بحثين
البحث الأول ما يتعلق بالإلاهيات فنقول إنه تعالى حي قيوم وكل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد وإنما قلنا إنه حي قيوم لأنه واجب الوجود لذاته وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وإذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له وإلاهاً كما قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وأيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد وكان يأكل ويشرب ويحدث والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه فثبت أنه ما كان حياً قيوماً وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلاهاً فهذه الكلمة وهي قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث
وأما البحث الثاني وهو ما يتعلق بالنبوّة فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة وذلك لأنه قال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( آل عمران 3 ) وهذا يجري مجرى الدعوى ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى فقال وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل
من قبل هدى ً للناس فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلاهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقاً لا محالة ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله فكذلك حصل في كون القرآن نازلاً من عند الله وإذا كان الطريق مشتركاً فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما هو العمدة في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( آل عمران 4 ) فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبيّن الله تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم من الليل والنهار والحر والبرد والرياح والأمطار والنعم التي لا يقدر عليها سواه ولا يحصيها غيره كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وقرأ عمر رضي الله عنه الْحَى ُّ الْقَيُّومُ قال قتادة الحي الذي لا يموت والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم وعن سعيد بن جبير الحي قبل كل حي والقيوم الذي لا ند له وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلاهية ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حياً قيوماً ودلّت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حياً قيوماً وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت علمنا قطعاً أن عيسى ما كان إلاهاً ولا ولداً للإلاه تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ
فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه وإنما خص القرآن بالتنزيل والتوراة والإنجيل بالإنزال لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نزل القرآن نجما نجما فكان معنى التكثير حاصلاً فيه وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة فلهذا خصهما بالإنزال ولقائل أن
يقول هذا يشكل بقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وبقوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( الإسراء 105 )
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين
الوصف الأول قوله بِالْحَقّ قال أبو مسلم إنه يحتمل وجوهاً أحدها أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها أنه حق بمعنى أنه قول فصل وليس بالهزل ورابعها قال الأصم المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية وشكر النعمة وإظهار الخضوع وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة كما قال أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا وقال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
والوصف الثاني لهذا الكتاب قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولما أخبروا به عن الله عزّ وجلّ ثم في الآية وجهان الأول أنه تعالى دلّ بذلك على صحة القرآن لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب لأنه كان أُمياً لم يختلط بأحد من العلماء ولا تتلمذ لأحد ولا قرأ على أحد شيئاً والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني قال أبو مسلم المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به وتنزيهه عما لا يليق به والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه
والجواب أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم
السؤال الثاني كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام
والجواب إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن كانت موافقة للقرآن فكان القرآن مصدقاً لها وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن دلائل المباحث الإلاهية لا تختلف في ذلك فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل
ثم قال الله تعالى وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) التوراة والإنجيل اسمان أعجميان والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد وقرأ الحسن وَالإِنجِيلَ بفتح الهمزة وهو دليل على العجمية لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه
أما لفظ التَّوْرَاة َ ففيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول في اشتقاقه قال الفرّاء التَّوْرَاة َ معناها الضياء والنور من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار قال الله تعالى فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ( العاديات 2 ) ويقولون وريت بك زنادي ومعناه ظهر بك الخير لي فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها ويدل على هذا المعنى قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء ( الأنبياء 48 )
البحث الثاني لهم في وزنه ثلاثة أقوال
القول الأول قال الفرّاء أصل التَّوْرَاة َ تورية تفعلة بفتح التاء وسكون الواو وفتح الراء والياء إلا أنه صارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها
القول الثاني قال الفرّاء ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية فيكون أصلها تورية إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيىء فإنهم يقولون في جارية جاراة وفي ناصية ناصاة قال الشاعر
فما الدنيا بباقاة لحي
وما حي على الدنيا بباق
والقول الثالث وهو قول الخليل والبصريين إن أصلها وورية فوعلة ثم قلبت الواو الأولى تاء وهذا القلب كثير في كلامهم نحو تجاه وتراث وتخمة وتكلان ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت توراة وكتبت بالياء على أصل الكلمة ثم طعنوا في قول الفرّاء أما الأول فقالوا هذا البناء نادر وأما فوعلة فكثير نحو صومعة وحوصلة ودوسرة والحمل على الأكثر أولى وأما الثاني فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيىء والقرآن ما نزل بها ألبتة
البحث الثالث في التوراة قراءتان الإمالة والتفخيم فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير والله أعلم
وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول قال الزجاج إنه افعيل من النجل وهو الأصل يقال لعن الله ناجليه أي والديه فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني قال قوم الإنجيل مأخوذ من قول العرب نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر نجل ويقال قد استنجل الوادي إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلاً لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث قال أبو عمرو الشيباني التناجل التنازع فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع أنه من النجل الذي هو سعة العين ومنه طعنة نجلاء سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم
وأقول أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخر ولو كان
كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل والطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ومعلوم أنه ليس كذلك ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع ويقولوا العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
أما قوله تعالى وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس قال الكعبي هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم ويدل على معنى قوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 ) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز كقول نوح عليه السلام فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) لما فروا عنده
واعلم أن قوله هُدًى لّلنَّاسِ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك عائداً إلى التوراة والإنجيل فقط وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان
فإن قيل إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى ً للمتقين فلم لم يصفه ههنا به
قلنا فيه لطيفة وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) لأنهم هم المنتفعون به فصار من الوجه هدى ً لهم لا لغيرهم أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدى ً بل قال إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى ً فهذا ما خطر بالبال والله أعلم
القول الثاني وهو قول الأكثرين أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل والله أعلم بمراده
ثم قال وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ
ولجمهور المفسرين فيه أقوال الأول أن المراد هو الزبور كما قال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) والثاني أن المراد هو القرآن وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ومدحاً بكونه فارقاً بين الحق والباطل أو يقال إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل وعلى هذا التقدير فلا تكرار
والقول الثالث وهو قول الأكثرين أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع فصار هذا الكلام دالاً على أن الله تعالى بيّن بهذه الكتب ما يلزم عقلاً وسمعاً هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام بل ليس فيه إلا المواعظ ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك وأما القول الثاني وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ عطف على ما قبله والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايراً للقرآن وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب فالمعجزة هي الفرقان فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية وهب أن أحداً من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى عليه يفيد قوة المعنى وجزالة اللفظ واستقامة الترتيب والنظم والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى فقصر اللفظ العام على سبب نزوله والمحققون من المفسرين قالوا خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه وقال الليث يقال لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب فالأول صفة الذات والثاني صفة الفعل والله أعلم
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاٌّ رْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين
الاحتمال الأول أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات لا يشغله سؤال عن سؤال ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ثم فيه لطيفة أخرى وهي أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي وذلك هو أن نقول إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة والتركيب الغريب وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة فبعضها عظام وبعضها غضاريف وبعضها
شرايين وبعضها أوردة وبعضها عضلات ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم فكان قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ودالاً على صحة ما تقدم من قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وقادر على كل الممكنات ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة ولا أحسن ترتيباً ولا أكثر تأثيراً في القلوب من هذه الكلمات
والاحتمال الثاني أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها وذلك لأن النصارى ادعوا إلاهية عيسى عليه السلام وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة والنوع الثاني شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية
أما النوع الأول من الشبه فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما يتعلق بالعلم والثاني يتعلق بالقدرة
أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وكان يقول لهذا أنت أكلت في دارك كذا ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم
وأما الأمر الثاني من شبههم فهو متعلق بالقدرة وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلاهية عيسى وفي التثليث بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 ) يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وعيسى ما كان حياً قيوماً لزم القطع إنه ما كان إلاهاً فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين
أما الشبهة الأولى وهي المتعلقة بالعلم وهي قولهم إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلاهاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلاهاً لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه وتعليم الله تعالى له ذلك لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإلاه لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات فكيف والنصارى يقولون إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله وأنه يتأذى بذلك ويتألم فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلاهاً فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلاهية وأما
الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلاهية فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم
أما النوع الثاني من الشبه وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلاهية وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلاهاً فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة
وأما النوع الثاني من الشبه فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية وحاصلها يرجع إلى نوعين
النوع الأول أن النصارى يقولون أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً له فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب
والنوع الثاني أن النصارى قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( آل عمران 7 ) فظهر بما ذكرنا أن قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإلاه ولا ابن له وأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم وقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً لله وأما قوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 7 ) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور
لا يكفي في كونه إلاهاً فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم وبقي في الآية أبحاث لطيفة أما قوله لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء
فإن قيل ما الفائدة في قوله فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء مع أنه لو أطلق كان أبلغ
قلنا الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السماوات والأرض أقوى وذلك لأن الحس يرى عظمة السماوات والأرض فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال فإن المثال يعين على الفهم
أما قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ قال الواحدي التصوير جعل الشيء على صورة والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ( البقرة 260 ) وأما الاْرْحَامِ فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف فلهذا سمي ذلك العضو رحماً والله أعلم
هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
إعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في اتصال قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء بما قبله احتمالين أحدهما أن ذلك كالتقرير لكونه قيوماً والثاني أن ذلك الجواب عن شبه النصارى فأما على الاحتمال الأول فنقول إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان جسمانية وروحانية أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال وهو المراد بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ ( آل عمران 6 ) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام إنه روح الله وكلمته فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على
محكم وعلى متشابه والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم هو في غاية الحسن والاستقامة
المسألة الثانية إعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم ودل على أنه بكليته متشابه ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه
أما ما دل على أنه بكليته محكم فهو قوله الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( يونس 1 ) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 ) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله محكم فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه فهو قوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ( الزمر 23 ) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة أما المحكم فالعرب تقول حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب وفي حديث النخعي احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد وقال جرير أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال الله تعالى إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( البقرة 70 ) وقال في وصف ثمار الجنة وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ( البقرة 25 ) أي متفق المنظر مختلف الطعوم وقال الله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ( البقرة 118 ) ومنه يقال اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما ويقال لأصحاب المخاريق أصحاب الشبه وقال عليه السلام ( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات ) وفي رواية أخرى مشتبهات
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ونظيره المشكل سمي بذلك لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل ويحتمل أن يقال إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً له وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة فنقول
الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول
اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعاً لمعنى ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص وأما إن كان محتملاً لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مؤولاً أو مشتركاً أو مجملاً أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع من الغير فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة وإن لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً وقد بينا أن ذلك يسمى متشابهاً إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فههنا يتوقف الذهن مثل القرء بالنسبة إلى الحيض والطهر إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المعنيين ومرجوحاً في الآخر ثم كان الراجح باطلاً والمرجوح حقاً ومثاله من القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ( الإسراء 16 ) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( الأعراف 28 ) رداً على الكفار فيما حكى عنهم وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( الأعراف 28 ) وكذلك قوله تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة 67 ) وظاهر النسيان ما يكون ضداً للعلم ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( مريم 64 ) وقوله تعالى لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ( طه 52 )
واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة فالمعتزلي يقول قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) محكم وقوله وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( التكوير 29 ) متشابه والسيء يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول اللفظ إذا كان محتملاً لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحاً وبالنسبة إلى الآخر مرجوحاً فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح فهذا هو المتشابه فنقول صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون عقلياً
أما القسم الأول فنقول هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس اللّهم إلا أن يقال إن
أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان أو يقال كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول
أما الأول فباطل لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي وكان ذلك مظنون والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً
وأما الثاني وهو أن يقال أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً فهذا صحيح ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره فعنذ هذا يتعين التأويل فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب والله ولي الهداية والرشاد
المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام قُلْ تَعَالَوْاْ ( الأنعام 151 ) إلى آخر الآيات الثلاث والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه وأقول التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة
القول الثاني وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ
والقول الثالث قال الأصم المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) وقوله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) وقوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 ) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص فإنه إن عني بقوله المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة والمتشابه ما لا يكون كذلك وهو إما المجمل المتساوي أو المؤول المرجوح فهذا هو الذي ذكرناه أولاً وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً لأن قوله فَخَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية وإن أهل الطبيعة يقولون السبب في ذلك الطبائع والفصول أو تأثيرات الكواكب وتركيبات العناصر وامتزاجاتها فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ولعلّ الأصم يقول هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول هو المحكم والثاني هو المتشابه
القول الرابع أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو بدليل خفي فذاك هو المحكم وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ونظيره قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) ( النازعات 42 )
المسألة الرابعة في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً
إعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 103 ) والقدري يقول بل هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( الأنعام 25 ) وفي موضع آخر وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( الإسراء 46 ) وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) والنافي يتمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) ومثبت الجهة يتمسك بقوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ
( النحل 50 ) وبقوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) والنافي يتمسك بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهاً
الوجه الأول أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب قال الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 )
الوجه الثاني لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكم وعلى المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقالته فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق
الوجه الثالث أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة أما لو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد
الوجه الرابع لما كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة
الوجه الخامس وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ فالمراد به هو القرآن مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ وهي التي
يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها
ثم قال هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وفيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى كون المحكم أماً للمتشابه
الجواب الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب وهو أنه قال إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة فكان قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية وكان قوله عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم
السؤال الثاني لم قال أُمُّ الْكِتَابِ ولم يقل أمهات الكتاب
الجواب أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ونظيره قوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً ( المؤمنون 50 ) ولم يقل آيتين وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة فكذلك ههنا
ثم قال وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وقد عرفت حقيقة المتشابهات قال الخليل وسيبويه أن ءاخَرَ فارقت أخواتها في حكم واحد وذلك لأن أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأُخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع مِنْ أو بالألف واللام فيقال زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل فكان القياس أن يقال زيد آخر من عمرو أو يقال زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ مِنْ لأن لفظه اقتضى معنى مِنْ فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن فسقط الألف واللام أيضاً فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أُخر فأخر جمعه فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها
ثم قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه والزيغ الميل عن الحق يقال زاغ زيغاً أي مال ميلاً واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فقال الربيع هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه قال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله هذه الآية ثم أنزل إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج هم الكفار الذين ينكرون البعث لأنه قال في آخر الآية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وقال المحققون إن هذا يعم جميع المبطلين وكل من احتج لباطله بالمتشابه لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 29 ) لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ ( سبأ 3 ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) فموهوا الأمر على الضعفة ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان فيكون قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى متشابهاً فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجباً وعدمه عند عدم هذه الداعية واجباً فحينئذ يبطل ذلك التفويض وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالاً بالمتشابهات فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغاً عن الحق وطلباً لتقرير الباطل
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات
وقال أبو مسلم الأصفهاني الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ( طه 85 ) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( طه 79 ) وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وفسروا أيضاً قوله وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ( الإسراء 16 ) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) وَيُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ( النساء 26 ) وتأولوا قوله تعالى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( النمل 4 ) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد 11 ) وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص 59 ) وقال وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) وقال فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ ( يونس 108 ) وقال وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) فكيف يزين النعمة فهذا ما قاله أبو مسلم وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح وذلك تصريح بنفي الصانع ولا يتم إلا إذا
قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص وذلك نفي للصانع ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة
وأما المحقق المنصف فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً وثانيها الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه ويكون ذلك متشابهاً بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه بيّن أن لهم فيه غرضين فالأول هو قوله تعالى ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني هو قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ
فأما الأول فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه يقال فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً أولها قال الأصم إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه
وأما الغرض الثاني لهم وهو قوله تعالى وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه هذا معنى التأويل في اللغة ثم يسمى التفسير تأويلاً قال تعالى سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( الكهف 78 ) وقال تعالى وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء 59 ) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون قال القاضي هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو المراد من قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ واختلف الناس في هذا الموضع فمنهم من قال تم الكلام ههنا ثم الواو في قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الابتداء وعلى هذا القول لا يعلم المتشابه
إلا الله وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا
والقول الثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه
الحجة الأولى أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف فإذا كانت المسألة قطعية يقينية كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز مثاله قال الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلاً وأيضاً قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق
الحجة الثانية وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف 178 ) وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 )
قلنا إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركاً للظاهر وأنه لا يجوز
الحجة الثالثة أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به وقال في أول سورة البقرة فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه
على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى بل مراده منه غير ذلك الظاهر ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن
الحجة الرابعة لو كان قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفاً على قوله إِلاَّ اللَّهُ لصار قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ابتداء وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة بل كان الأولى أن يقال وهم يقولون آمنا به أو يقال ويقولون آمنا به
فإن قيل في تصحيحه وجهان الأول أن قوله يَقُولُونَ كلام مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني أن يكون يَقُولُونَ حالا من الراسخين
قلنا أما الأول فمدفوع لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ حالا من الراسخين لا من الله تعالى فيكون ذلك تركاً للظاهر فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه فكان هذا القول أولى
الحج الخامسة قوله تعالى كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة
الحجة السادسة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير لا يسع أحداً جهله وتفسير تعرفه العرب بألسنتها وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عند بدعة وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية فإذا رأى شيئاً متشابهاً ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره وأن ذلك المراد حق ولا يصير كون ظاهره مردوداً شبهة في الطعن في صحة القرآن
ثم حكي عنهم أيضاً أنهم يقولون كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا والمعنى أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا وفيه سؤالان
السؤال الأول لو قال كل من ربنا كان صحيحاً فما الفائدة في لفظ عِندَ
الجواب الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد فذكر كلمة عِندَ لمزيد التأكيد
السؤال الثاني لم جاز حذف المضاف إليه من كُلٌّ
الجواب لأن دلالة المضاف عليه قوية فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل
ثم قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به ومعناه ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكماً وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابهاً ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول وتوافق اللغة والإعراب
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفاً بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا وحذف يَقُولُونَ لدلالة الأول عليه وكما في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة
أما كلام أهل السنة فظاهر وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر فهي الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين والقسوة والوقر والكنان وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي التوفيق
والرشاد والهداية والتسديد والتثبيت والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين ومن أنصف ولم يتعسف وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات وهذا كلام متين
وأما المعتزلة فقد قالوا لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى وجب صرف هذه الآية إلى التأويل فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي أن المراد بقوله لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ( الصف 5 ) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ والثاني قال الأصم لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( النساء 66 ) وقال لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ وقد يقول القائل لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك الثالث قال الكعبي لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا أي لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال فلان يكفر فلاناً إذا سماه كافراً والرابع قال الجبائي أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر فقوله لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا محمول على أن يميته قبل أن يصير كافراً وذلك لأن إبقاءه حياً إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس قال الأصم لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس قال أبو مسلم احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة
أما الأول فلأن من مذهبم أن كل ما صحّ في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفاً وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته ولصار جاهلاً ومحتاجاً والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف
وأما الثاني فضعيف لأن التشديد في التكليف إن علم الله تعالى له أثراً في حمل المكلف على القبيح قبح من الله تعالى وإن علم الله تعالى أنه لا أثر له ألبتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعاً وعاصياً فلا فائدة في صرف الدعاء إليه
وأما الثالث فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجوداً وعدماً والكفر والزيغ باختيار العبد فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر
وأما الرابع فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه
وأما الخامس وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ( آل عمران 7 )
وأما السادس وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدوراً وجب فعله فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدوراً تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه وأن الحق ما ذهبنا إليه
فإن قيل فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( الصف 5 )
قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه
أما قوله تعالى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( آل عمران 8 ) أي بعد أن جعلتنا مهتدين وهذا أيضاً صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى
ثم قال وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة وإنما قال رَحْمَة ً ليكون ذلك شاملاً لجميع أنواع الرحمة فأولها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة وثالثها أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها أن يحصل في القبر سهولة السؤال وسهولة ظلمة القبر
وسادسها أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً يتناول جميع هذه الأقسام
ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو ولا كريم إلا هو لا جرم أكد ذلك بقوله مِن لَّدُنْكَ تنبيهاً للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير كأنه يقول أطلب رحمة وأية رحمة أطلب رحمة من لدنك وتليق بك وذلك يوجب غاية العظمة
ثم قال إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ كأن العبد يقول إلاهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك يا دائم المعروف يا قديم الإحسان لا تخيب رجاء هذا المسكين ولا ترد دعاءه واجعله بفضلك أهلاً لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
واعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلاهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً وكلامك لا يكون كذباً فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ تقديره جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه فحذف لكون المراد ظاهراً
المسألة الثانية قال الجبائي إن كلام المؤمنين تم عند قوله لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ فأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فهو كلام الله عزّ وجلّ كأن القوم لما قالوا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ صدقهم الله تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ كما قال حكاية عن المؤمنين في آخر هذه السورة رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) ومن الناس من قال لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور ومثله في كتاب الله تعالى كثير قال تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 )
فإن قيل فلم قالوا في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وقالوا في تلك الآية إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
قلت الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة يعني أن الإلاهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام أما قوله في آخر السورة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة فلا جرم قال إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق قال وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف 44 ) والوعد والموعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد
والجواب لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه يوعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد أما قوله تعالى فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا
قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) وقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله فكان المراد من الوعد تلك المنافع وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مرّ في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلِ مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى فقال لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء لأن خلف الوعيد كرم عند العرب قال والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك قال الشاعر
إذ وعد السراء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عبيد قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد ما تقول في أصحاب الكبائر قال أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده فقال أبو عمرو بن العلاء إنك رجل أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه فقال لا فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك قالوا فانقطع أبو عمرو بن العلاء
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له ومن أسقط حق نفسه
فقد أتى بالجود والكرم ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فظهر الفرق بين الوعد والوعيد وبطل قياسك وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق فأما قولك لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
إعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم فهذا هو وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا قولان الأول المراد بهم وفد نجران وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني لأعلم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة
والقول الثاني أن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ
المسألة الثانية إعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة
أما الأول فهو المراد بقوله لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبيّن الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ونظير هذه الآية قوله تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الشعراء 88 89 ) وقوله الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( الكهف 46 ) وقوله وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 ) وقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( مريم 80 )
وأما القسم الثاني من أسباب كمال العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار
فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار وبالضم هو مصدر وقدت النار وقوداً كقوله وردت وروداً
المسألة الثالثة في قوله مِنَ اللَّهِ قولان أحدهما التقدير لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني قال أبو عبيدة مِنْ بمعنى عند والمعنى لن تغني عند الله شيئاً
كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
يقال دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه قال الله تعالى سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا ( يوسف 47 ) أي بجد واجتهاد ودوام ويقال سار فلان يوماً دائباً إذا أجهد في السير يومه كله هذا معناه في اللغة ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة يقال هذا دأب فلان أي عادته وقال بعضهم الدؤب والدأب الدوام
إذا عرفت هذا فنقول في كيفية التشبيه وجوه الأول أن يفسر الدأب بالاجتهاد كما هو معناه في أصل اللغة وهذا قول الأصم والزجاج ووجه التشبيه أن دأب الكفار أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذا نهلك هؤلاء
الوجه الثاني أن يفسر الدأب بالشأن والصنع وفيه وجوه الأول كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني أن تقدير الآية أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول والمراد ههنا كدأب الله في آل فرعون فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم ونظيره قوله تعالى يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ ( البقرة 165 ) أي كحبهم الله وقال سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ( الإسراء 77 ) والمعنى سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث قال القفال رحمه الله يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى والعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك
أولئك الكفار المتقدمين والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم
الوجه الثالث في تفسير الدأب والدؤب وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء وتقدير الآية وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون
والوجه الرابع أن الدأب هو الاجتهاد كما ذكرناه ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به فإنه تعالى بيّن أن عذابهم حصل في غاية القرب وهو قوله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) وفي غاية الشدة أيضاً وهو قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( غافر 46 )
الوجه الخامس أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب فكان التشبيه بآل فرعون حاصلاً في هذين الوجهين والمعنى أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد
الوجه السادس يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ويكون قوله تعالى قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ( آل عمران 12 ) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بيّن أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل ثم يصيرون إلى دوام العذاب فسينزل بمن كذب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمران أحدهما المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فالمعنى والذين من قبلهم من مكذبي الرسل وقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء
ثم قال فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص
ثم قال وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وهو ظاهر
قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي سَيَغْلِبُونَ بالياء فيهما والباقون بالتاء المنقطة من