كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
طمعاً منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية على ما قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 )
القول الثالث إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة
أما قوله تعالى مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات لأن ذلك من طرق العلم فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة
المسألة الثانية دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على ذلك
أما قوله تعلاى إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وإن كان عاماً بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم والجمع العظيم الذي علموا شيئاً استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة ألا ترى أن واحداً لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل والله أعلم
المسألة الثانية الضمير في قوله يَعْرِفُونَهُ إلى ماذا يرجع ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه عائد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي يعرفونه معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أنا أعلم به مني بإبني قال ولم قال لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه وجاز
الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة
السؤال الأول أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة
الجواب أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن اتباع اليهود والنصارى بقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( البقرة 145 ) أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم
السؤال الثاني هذه الآية نظيرها قوله تعالى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ ( الأعراف 157 ) وقال وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبيلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك
وأما القسم الثاني فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنا نقول هب أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبياً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حد اليقين لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والجواب عن هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ونحن لا نقول به بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً فهذا برهان والبرهان يفيد اليقين فلا جرم كان العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأبناء وأبوة الآباء
السؤال الثالث فعلى هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علماً برهانياً غير محتمل للغلط أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علماً يقينياً بل ظن ومحتمل للغلط فلم شبه اليقين بالظن
والجواب ليس المراد أن العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشبه العلم بنبوة الأبناء بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا ههنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة
السؤال الرابع لم خص الأبناء الذكور
الجواب لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق
القول الثاني الضمير في قوله يَعْرِفُونَهُ راجع إلى أمر القبلة أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر
القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد
واعلم أن القول الأول أولى من وجوه أحدها أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق وأقرب المذكورات العلم في قوله مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( البقرة 145 ) والمراد من ذلك العلم النبوة فكأنه تعالى قال إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة وثانيها أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل وأخبر فيه أن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مذكورة في التوراة والإنجيل فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى وثالثها أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى
أما قوله تعالى وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ومنهم من بقي على كفره ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره لا جرم قال الله تعالى وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فوصف البعض بذلك ودل بقوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ على سبيل الذم على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره واختلفوا في المكتوم فقيل أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة
أما قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون ( الحق ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق وقوله مِن رَبّكَ يجوز أن يكون خبراً بغير خبر وأن يكون حالاً ويجوز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره مِن رَبّكَ وقرأ علي رضي الله عنه ( الحق من ربك ) على الإبدال من الأول أي يكتمون الحق من ربك
المسألة الثانية الألف واللام في قوله الْحَقّ فيه وجهان الأول أن يكون للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو إلى الحق الذي في قوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك وأن يكون للجنس على معنى الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل
أما قوله فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في ماذا اختلفوا فيه على أقوال أحدها فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك وأن بعضهم عاند وكتم قاله الحسن وثانيها بل يرجع إلى أمر القبلة وثالثها إلى صحة نبوته وشرعه وهذا هو الأقرب لأن أقرب المذكورات إليه قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من قرآن ووحي وشريعة فقوله فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وجب أن يكون راجعاً إليه
المسألة الثانية أنه تعالى وإن نهاه عن الامتراء فلا يدل ذلك على أنه كان شاكاً فيه وقد تقدم القول في بيان هذه المسألة والله أعلم
وَلِكُلٍّ وِجْهَة ٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله وَلِكُلّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال وَلِكُلّ ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 )
المسألة الثانية ذكروا فيه أربعة أوجه أحدها أنه يتناول جميع الفرق أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وهو قول الاصم قال لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وثانيها وهو قول أكثر علماء التابعين أن المراد أهل الكتاب وهم المسلمون واليهود والنصارى والمشركون غير داخلين فيه وثالثها قال بعضهم المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية واحتجوا على هذا القول بوجهين الأول قوله تعالى هُوَ مُوَلّيهَا يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة لأن ما عداها تولية الشيطان الثاني أن الله تعالى عقبه بقوله فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة ورابعها قال آخرون ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة فقبلة المقربين العرش وقبلة الروحانيين الكرسي وقبلة الكروبيين البيت المعمور وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة
أما قوله تعالى وِجْهَة ٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ على الإضافة والمعنى وكل وجهة هو موليها فزيدت لالام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت ولزيد أبوه ضارب
المسألة الثانية قال الفاء وجهة وجهة ووجه بمعنى واحد واختلفوا في المراد فقال الحسن المراد المنهاج والشرع وهو كقوله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ( الحج 67 ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ( المائدة 48 ) شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 ) والمراد منه أن للشرائع مصالح فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضاً اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير وقال الباقون المراد منه أمر القبلة لأنه تقدم قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 144 ) فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك
أما قوله هُوَ مُوَلّيهَا ففيه وجهان الأول أنه عائد إلى الكل أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه
إليها الثاني أنه عائد إلى اسم الله تعالى أي الله تعالى يوليها إياه وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول أن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها أي هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة مع لزوم الأديان المختلفة فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعاً في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي ومن المصيب منكم ومن المخطىء إنه على ذلك قادر ومن قال بهذا التأويل قال المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها إما بشريعة وإما بهوى فلستم تؤخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم وإما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله هُوَ مُوَلّيهَا عائداً إلى الله تعالى فههنا وجهان الأول أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحاً فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين فإن انقيادكم خيرات لكم ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ( البقرة 142 ) فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعاً في عرصة القيامة فيفصل بينكم الثاني أنا إذا فسرنا قوله وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ بجهات الكعبة ونواحيها كان المعنى ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة أي ناحية من الكعبة فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ بالتوجه إليها من جميع النواحي فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم
أما قوله تعالى هُوَ مُوَلّيهَا أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه قال الفراء أي مستقبلها وقال أبو معاذ موليها على معنى متوليها يقال قد تولاها ورضيها وأتبعها وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي هُوَ وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي الباقر وفي قراءة الباقين هُوَ مُوَلّيهَا ولقراءة ابن عامر معنيان أحدهما أن ما وليته فقد ولاك لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضاً يلي هذا فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ( البقرة 37 ) و لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) والظالمون وهذا قول الفراء والثاني هُوَ مُوَلّيهَا أي وقد زينت له تلك الجهة وحببت إليه أي صارت بحيث يحبها ويرضاها
أما قوله فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل خلافاً لأبي حنيفة واحتج الشافعي بوجوه أولها أن الصلاة خير لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصلاة خير موضوع ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ وظاهر الأمر للوجوب فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب وثانيها قوله سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( الحديد 21 ) ومعناه إلى ما يوجب المغفرة والصلاة مما يوجب المغفرة فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة
وثالثها قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 11 ) ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات ولا شك أن الصلاة من الطاعات وقوله تعالى أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يفيد الحصر فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة ورابعها قوله تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( آل عمران 133 ) والمعنى وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة ولا شك أن الصلاة كذلك فكانت المسارعة بها مأمورة وخامسها أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( الأنبياء 90 ) ولا شك أن الصلاة من الخيرات لقوله عليه السلام ( خير أعمالكم الصلاة ) وسادسها أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ( الأعراف 12 ) وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم وسابعها قوله تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ ( البقرة 238 ) والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال وثامنها قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) فثبت أن الاستعجال أولى وتاسعها قوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ( الحديد 10 ) فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة فكذا في هذه الصورة وعاشرها ما روى عمر وجرير بن عبد الله وأنس وأبو محذورة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله ) قال الصديق رضي الله عنه رضوان الله أحب إلينا من عفوه قال الشافعي رضي الله عنه رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان والتقديم موجباً للرضوان دون العفو فكان التأخير أولى قلنا هذا ضعيف من وجوه الأول أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل وذلك لم يقله أحد الثاني أنه عدم المسارعة الامتثال يشبه عدم الالتفات وذلك يقتضي العقاب إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء الثالث أن تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه يبطل هذا التأويل الذي ذكروه
الحادي عشر روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا )
الثاني عشر عن ابن مسعود أنه سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لميقاتها الأول
الثالث عشر روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت
ما هو خير له من أهله وماله )
الرابع عشر قال عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر
الخامس عشر إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم علياً وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل وذلك يدل على قولنا
السادس عشر قوله عليه السلام في خطبة له ( وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلو ) ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة
السابع عشر أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها فوجب أن يكون الحال في أداء الله تعالى كذلك والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم
الثامن عشر أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة والولوع بها والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها فيكون الأول أولى
التاسع عشر أن الاحتياط في تعجيل الصلاة لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى
العشرون أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 184 ) فوجب أيضاً أن يكون التعجيل في الصلاة أولى فإن قيل تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر أو بما إذا حصل له رجاء إدراك الجماعة أو وجود الماء قلنا التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة وكلامنا في مقتضى الأصل
الحادي والعشرون المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )
الثاني والعشرون صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضاً وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل ولنذكر كل واحد من الصلوات
أما صلاة الفجر فقال محمد المستحب أن يدخل فيها بالتغليس ويخرج منها بالإسفار فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل وقال الشافعي رضي الله عنه التغليس أفضل وهو مذهب أبي
بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه أحدها ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ) قال محيي السنة في كتاب ( شرح السنة ) متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن والتلفع بالثوب الاشتمال والمروط الأردية الواسعة واحدها مرط والغلس ظلمة آخر الليل فإن قيل كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي بالغلس كيلا يعرفن وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية وثالثها ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قمنا إلى الصلاة قال قلت كم كان قدر ذلك قال قدر خمسين آية وهذا يدل أيضاً على التغليس وثالثها ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى ورابعها أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) ومدح التاركين للنوم فقال تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( السجدة 16 ) وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل وخامسها أن النوم في ذلك الوقت أطيب فيكون تركه أشق فوجب أن يكون ثوابه أكثر لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها واحتج أبو حنيفة بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) وثانيها روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس ثم قال ابن مسعود ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها وثالثها عن ابن مسعود قال ما رأيت أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر ورابعها عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران فقالوا كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وخامسها أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الإنتظار وقال عليه السلام ( المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة ) فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً ثم بها ثانياً ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار وسادسها أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلاً لفضل الجماعة وسابعها أن التغليس يضيق على الناس لأنه إذا كان الصلاة في وقت الغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر والحرج منفى شرعاً وثامنها أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي ينفي به ظلام المشرق فالفجر إنما يكون فجراً لو كانت الظلمة باقية في الهواء فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً وأما الإسفار فهو
عبارة عن الظهور يقال أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه إذا ثبت هذا فنقول ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد فقوله ( أسفروا بالفجر ) يجب أن يكون محمولاً على التغليس أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثواباً وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق فوجب أن يكون أكثر ثواباً وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل فكيف يمكن أن يقول الشارع إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة
والجواب عن الثاني وهو قول ابن مسعود حافظوا على التنوير بالفجر فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجراً وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم
أما قوله تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فهو وعد لأهل الطاعة ووعيد لأهل المعصية كأنه تعالى قال استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى ثم إنه سبحانه حقق بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات فوجب أن يكون قادراً على الإعادة وأما المسائل المستبنطة من هذه الآية فقد ذكرناها في قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( البقرة 20 )
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّ تِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 144 ) وذكر ههنا ثانياً قوله تعالى وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وذكر ثالثاً قوله وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ فهل في هذا التكرار فائدة أم لا وللعلماء فيه أقوال أحدها أن الأحوال ثلاثة أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام وثانيها أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد وثالثها أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى والثانية على الثانية والثالثة على الثالثة لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات
والجواب الثاني أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر هذه القبلة حق لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد ونظيره قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ
والجواب الثالث أنه تعالى قال في الآية الأولى فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل ثم أنه تعالى قال ثالثاً وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة
والجواب الرابع أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ هُوَ مُوَلّيهَا ( البقرة 148 ) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها ثم يقال ألزم هذه القبلة فإنها الحق لا قبلة الهوى وهو قوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ ثم يقال ألزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك وهذا التكرار في هذا
الموضع كالتكرار في قوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 12 ) وكذلك ما كرر في قوله تعالى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( الشعراء 174 )
والجواب الخامس أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( البقرة 74 ) يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه
أما قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة وفي كيفية تلك الحجة روايات أحدها أن اليهود قالوا تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا وثانيها قالوا ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه وثالثها أن العرب قالوا إنه كان يقول أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين لأن قولهم لا يؤثر في المصالح وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة فلهذا قال الله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى وهو قول بعض العرب إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فلا جرم قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ
المسألة الثانية قرأ نافع لَيْلاً يترك الهمزة وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء والباقون بالهمزة وهو الأصل
المسألة الثالثة ( لئلا ) موضعه نصب والعامل فيه ( ولوا ) أي ولوا لئلا وقال الزجاج التقدير عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة
المسألة الرابعة قيل الناس هم أهل الكتاب عن قتادة والربيع وقيل هو على العموم
المسألة الخامسة ههنا سؤال وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال الأول أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه
الوجه الأول أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة قد تكون أيضاً باطلة قال الله تعالى حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ عِندَ رَبّهِمْ ( الشورى 16 ) وقال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( آل عمران 61 ) والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة وقال بعضهم إنها مأخوذة من محجة الطريق فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلاً
الوجه الثاني في تقرير أنه استثناء متصل أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه عليه الصلاة والسلام يحول القبلة فلما حولت بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق
الوجه الثالث أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله ( حجة ) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها ( حجة ) تهكماً بهم
الوجه الرابع أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فإنهم يحاجونكم بالباطل
القول الثاني أنه استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة وهو كقوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( النساء 157 ) وقال النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم ونظيره أيضاً قوله تعالى إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( النمل 10 11 ) وقال لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ( هود 43 ) وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب
القول الثالث زعم أبو عبيدة أن ( إلا ) بمعنى الواو كأنه تعالى قال لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني والفرقدان
القول الرابع قال قطرب موضع الَّذِينَ خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار قال علي ابن عيسى هذان الوجهان بعيدان
أما قوله تعالى فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضررنكم واخشوني يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشية عقاب الله وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة وأن لا يكون مشتغل القلب بهم
ولا ملتفت الخاطر إليهم
أما قوله تعالى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه أحدها أنه راجع إلى قوله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين إحداهما لانقطاع حجتهم عنه والثانية لتمام النعمة وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب ولذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة وثانيها أن متعلق اللام محذوف معناه ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك وثالثها أن يعطف على علة مقدرة كأنه قيل واحشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم والقول الأول أقرب إلى الصواب فإن قيل إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ قلنا تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به وفي الحديث ( تمام النعمة دخول الجنة ) وعن علي رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام
واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم رحمه الله من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب لأن شيئاً من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه وإن أراد به إنكاره أصلاً فبعيد لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر ولأبي مسلم رحمه الله أن يمنع التواتر وعند ذلك يقول لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه بعضها إلزامية وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله وهو المراد بقوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وبعضها برهانية وقوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ ( البقرة 136 ) ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الإستدلال بحكاية شبهتين لهم إحداهما قوله وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( البقرة 135 ) والثانية استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة وهو قول سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) وأطنب الله
تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة وختم ذلك الجواب بقوله وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب
أما قوله كَمَا أَرْسَلْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده فإن قلنا إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه الأول أنه راجع إلى قوله وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( البقرة 150 ) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول الثاني أن إبراهيم عليه السلام قال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُزَكّيهِمْ ( البقرة 129 ) وقال أيضاً وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) فكأنه تعالى قال ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابة لدعوته عن ابن جرير الثالث قول أبي مسلم الأصفهاني وهو أن التقدير وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً أي كما أرسلنا فيكم رسولاً من شأنه وصفته كذا وكذا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً وأما إن قلنا أنّه متعلق بما بعده فالتقدير كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعلمكم الدين والشرع فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً ولا تعلمون رسولاً ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رجل منكم ليس بصاحب كتاب ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء وفيه الخبر عن أحوالهم وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة والنهي عن أخلاق السفهاء وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي والذي يؤكده قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل ( كما ) هل يجوز أن يكون جواباً قلنا جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين أحدهما كَمَا والثاني أَذْكُرْكُمْ ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ولما سلف من نعمته قال القاضي والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى
المسألة الثانية في وجه التشبيه قولان إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى اذكروني دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة
المسألة الثالثة فِى مَا في قوله كَمَا أَرْسَلْنَا مصدرية كأنه قيل كإرسالنا فيكم ويحتمل أن تكون كافة
أما قوله تعالى فيكُمْ فالمراد به العرب وكذلك قوله مّنكُمْ وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب
أما قوله تعالى يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِنَا فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة
أما قوله وَيُزَكِيكُمْ ففيه أقوال أحدها أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن وثانيها يزكيهم بالثناء والمدح أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به كما يقال إن المزكي زكي الشاهد أي وصفه بالزكاء وثالثها أن التزكية عبارة عن التنمية كأنه قال يكثركم كما قال إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( الأعراف 86 ) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا عن أبي مسلم قال القاضي وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك
أما قوله تعالى وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم وأما ( الحكمة ) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه ( الحكمة ) هي سنة الرسول عليه السلام
أما قوله وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمداً بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم
فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين الذكر والشكر أما الذكر فقد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع أحدها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل وثانيها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم وثالثها أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فصار الأمر بقوله اذكروني متضمناً جميع الطاعات فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه أما قوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ فلا بد من حمله على ما يليق بالموضع والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح وإظهار الرضا والإكرام وإيجاب
المنزلة وكل ذلك داخل تحت قوله أَذْكُرْكُمْ ثم للناس في هذه الآية عبارات الأولى اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي الثانية اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وهو قول أبي مسلم قال أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة الثالثة اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة الرابعة اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة الخامسة اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات السادسة اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء السابعة اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي الثامنة اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي التاسعة اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص العاشرة اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله فَاذْكُرُونِى جميع العبادات وبقوله وَاشْكُرُواْ لِي ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ ( البقرة 154 ) وأيضاً فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ ( الأنفال 45 ) وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقييده والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات ولذلك قال اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة
ثم قال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يعني في النصر لهم كما قال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 137 ) فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقاً وتسديداً وألطافاً كما قال وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 )
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
اعلم أن هذه الآية نظيرة قوله في آل عمران بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ووجه تعلق الآية بما قبلها كأنه قيل استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم ففعلتم ذلك فتلفت نفوسكم فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم بل اعلموا أن قتلاكم أحياء عندي وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار فمن المهاجرين عبيدة بن الحرث ابن عبد المطلب وعمر بن أبي وقاص وذو الشمالين وعمرو بن نفيلة وعامر بن بكر ومهجع بن عبد الله ومن الأنصار سعيد بن خيثمة وقيس بن عبد المنذر وزيد بن الحرث وتميم بن الهمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة ومعوذ بن عفراء وعوف بن عفراء وكانوا يقولون مات فلان ومات فلان فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنهم ماتوا وعن آخرين أن الكفار والمنافقين قالوا إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية أَمْوَاتٌ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات
المسألة الثالثة في الآية أقوال
القول الأول أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور فإن قيل نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور فكيف يصح ما ذهبتم إليه قلنا أما عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بد منها في ماهية الحي ولا يعتبر بالأطراف ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا
القول الثاني قال الأصم يعني لا تسموهم بالموتى وقولوا لهم الشهداء الأحياء ويحتمل أن المشركين قالوا هم أموات في الدين كما قال الله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) فقال ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ولكن قولوا هم أحياء في الدين ولكن لا يشعرون يعني المشركون لا يعلمون أن من قتل على دين محمد عليه الصلاة والسلام حي في الدين وعلى هدى من ربه ونور كما روي في بعض الحكايات أن رجلاً قال لرجل ما مات رجل خلف مثلك وحكى عن بقراط أنه كان يقول لتلامذته موتوا بالإرادة تحيوا بالطبيعة أي بالروح
القول الثالث أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقتلون أنفسهم ويخسرون حياتهم فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء وهؤلاء الذين قالوا ذلك يحتمل أنهم كانوا
دهرية ينكرون المعاد ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام فلذلك قالوا هذا الكلام فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدنيا ولكن اعلموا أنهم أحياء أي سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة وتفسير قوله أَحْيَاء بأنهم سيحيون غير بعيد قال الله تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 13 14 ) وقال أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ( الكهف 29 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) وقال فَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( الحج 56 ) على معنى أنهم سيصيرون كذلك وهذا القول اختيار الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني واعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول والذي يدل عليه وجوه أحدها الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 ) والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر وقال الله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) والفاء للتعقيب وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( غافر 46 ) وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر كان ذلك في الثواب أولى وثانيها أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ معنى لأن الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة وأنهم ماتوا على هدى ونور فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم وثالثها أن قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم ( آل عمران 170 ) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ) والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته ( وأعوذ بك من عذاب القبر ) وخامسها أنه لو كان المراد من قوله أنهم أحياء أنهم سيحيون فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) فأرادهم بالذكر تعظيماً
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر وسادسها أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه واحتج أبو مسلم على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ( آل عمران 169 ) وهذه العندية ليست بالمكان بل بالكون في الجنة ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة
والجواب لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة بل بإعلاء الدرجات وإيصال البشارات إليه وهو في القبر أو في موضع آخر واعلم أن في الآية قولاً آخر وهو أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب وهذا القول بناء على معرفة الروح ولنشر إلى خلاصة حاصل قول هؤلاء فنقول إنهم قالوا إن الإنسان لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس أما إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل فلوجهين
الوجه الأول أن أجزاء هذا الهيكل أبداً في النمو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول عمره والباقي غير ما هو غير باق والمشار إليه عند كل أحد بقوله أَنَاْ وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل
الوجه الثاني أني أكون عالماً بأني أنا حال ما أكون غافلاً عن جميع أجزائي وأبعاضي والمعلوم غير ما هو غير معلوم فالذي أشير إليه بقولي ( أنا ) مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وأما أن الإنسان غير محسوس فلأن المحسوس إنما هو السطح واللون ولا شك أن الإنسان ليس هو مجرد اللون والسطح ثم اختلفوا عند ذلك في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا ) أي شيء هو والأقوال فيه كثيرة إلا أن أشدها تلخيصاً وتحصيلاً وجهان أحدهما أن أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورود والقائلون بهذا القول فريقان أحدهما الذين اعتقدوا تماثل الأجسام فقالوا إن تلك الأجسام مماثلة لسائر الأجزاء التي منها يتألف هذا الهيكل إلا أن القادر المختار سبحانه يبقي بعض الأجزاء من أول العمر إلى آخره فتلك الأجزاء هي التي يشير إليها كل أحد بقوله ( أنا ) ثم أن تلك الأجزاء حية بحياة يخلقها الله تعالى فيها فإذا زالت الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين وثانيهما الذين اعتقدوا اختلاف الأجسام وزعموا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخر العمر أجسام مخالفة بالماهية والحقيقة للأجسام التي يتألف منها هذا الهيكل وتلك الأجسام حية لذاتها مدركة لذاتها فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم صار هذا الهيكل مستطيراً بنور ذلك الروح متحركاً بتحركه ثم إن هذا الهيكل أبداً في الذوبان والتحلل والتبدل إلا أن تلك الأجزاء باقية بحالها وإنما لا يعرض لها التحلل لأنها مخالفة بالماهية لهذه الأجسام البالية فإذا فسد هذا القالب انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السموات والقدس والطهار إن كانت من جملة السعداء وإلى الجحيم وعالم الآفات إن كانت من جملة الأشقياء
والقول الثاني أن الذي يشير إليه كل احد بقوله ( أنا موجود ) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز وأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثل الله تعالى لأن الاشتراك في السلوك لا يقتضي الاشتراك في الماهية واحتجوا على ذلك بأن في المعلومات ما هو فرد حقاً فوجب أن يكون العلم به فرداً حقاً فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم فرداً حقاً وكل جسم وكل حال في الجسم فليس بفرد حقاً فذلك الذي يصدق عليه منا أنه يعلم هذه المفردات وجب أن لا يكون جسماً ولا جسمانياً أما أن في المعلومات ما هو فرد حقاً فلأنه لا شك في وجود شيء فهذا الموجود إن كان فرداً حقاً فهو المطلوب وإن كان مركباً فالمركب مركب على الفرد فلا بد من الفرد على كل الأحوال وأما أنه إذا كان في المعلومات ما هو فرد كان في المعلوم ما هو فرد لأن العلم المتعلق بذلك الفرد إن كان منقسماً فكل واحد من أجزائه أو بعض
أجزائه إما أن يكون علماً بذلك المعلوم وهو محال لأنه يلزم أن يكون الجزء مساوياً للكل وهو محال وإما أن لا يكون شيء من أجزائه علماً بذلك المعلوم فعند اجتماع تلك الأجزاء إما أن يحدث زائد هو العلم بذلك المعلوم الفرد فحينئذ يكون العلم بذلك المعلوم هو هذه الكيفية الحادثة لا تلك الأشياء التي فرضناها قبل ذلك ثم هذه الكيفية إن كانت منقسمة عاد الحديث فيه وإن لم تكن منقسمة فهو المطلوب وأما إنه إذا كان في المعلوم علم لا يقبل القسمة كان الموصوف به أيضاً كذلك فلأن الموصوف به لو كان قبل القسمة لكان كل واحد من تلك الأجزاء أو شيء منها إن كان موصوفاً به بتمامه فحينئذ يكون العرض الواحد حالاً في أشياء كثيرة وهو محال أو يتوزع أجزاء الحال على أجزاء المحل فيقسم الحال وقد فرضنا أنه غير منقسم أو لا يتصف شيء من أجزاء المحل إلا بتمام الحال ولا شيء من أجزاء ذلك الحال فحينئذ يكون ذلك المحل خالياً عن ذلك الحال وقد فرضناه موصوفاً به هذا خلف وأما أن كل متحيز ينقسم فبالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد قالوا فثبت أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا موجود ) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ثم نقول هذا الموجود لا بد أن يكون مدركاً للجزئيات لأنه لا يمكنني أن أحكم على هذا الشخص المشار إليه بأنه إنسان وليس بفرس والحاكم بشيء على شيء لا بد وأن يحضر المقضي عليهما فهذا الشيء مدرك لهذا الجزئي وللإنسان الكلي حتى يمكنه أن يحكم بهذا الكلي على هذا الجزئي والمدرك للكليات هو النفس والمدرك للجزئيات أيضاً هو النفس فكل من كان مدركاً للجزئيات فإنه لا يمتنع أن يلتذ ويتألم قالوا إذا ثبت هذا فنقول هذه الأرواح بعد المفارقة تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان يوم القيامة فهناك يحصل الإلتذاذ والتألم للأبدان فهذا قول قال به عالم من الناس قالوا وهب أنه لم يقم برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على فساده فإنه مما يؤيد الشرع وينصر ظاهر القرآن ويزيل الشكوك والشبهات عما ورد في كتاب الله من ثواب القبر وعذابه فوجب المصير إليه فهذا هو الإشارة المختصرة في توجيه هذا القول والله هو العالم بحقائق الأمور
قالوا ومما يؤكد هذا القول هو أن ثواب القبر وعذابه إما أن يصل إلى هذه البنية أو إلى جزء من أجزائها والأول مكابرة لأنا نجد هذه البنية متفرقة متمزقة فكيف يمكن القول بوصول الثواب والعقاب إليها فلم يبق إلا أن يقال إن الله تعالى يحيي بعض تلك الأجزاء الصغيرة ويوصل الثواب والعقاب إليها وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال الإنسان هو الروح فإنه لا يعرض له التفرق والتمزق فلا جرم يصل إليه الألم واللذة ثم إنه سبحانه وتعالى يرد الروح إلى البدن يوم القيامة الكبرى حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الاٌّ مَوَالِ وَالاٌّ نفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
اعلم أن القفال رحمه الله قال هذا متعلق بقوله وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل إنه تعالى قال وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) والشكر يوجب المزيد على ما قال لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ فكيف أردفه بقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ والجواب من وجهين الأول أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة فكان ذلك موجباً للشكر ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن فلا جرم أمر فيها بالصبر الثاني أنه تعالى أنعم أولاً فأمر بالشكر ثم ابتلى وأمر بالصبر لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معاً فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر )
المسألة الثانية روي عن عطاء والربيع بن أنس أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهجرة
المسألة الثالثة أما أن الإبتلاء كيف يصح على الله تبارك وتعالى فقد تقدم في تفسير قوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الإبتلاء ففيها وجوه أحدها ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع وأسهل عليهم بعد الورود وثانيها أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن اشتد خوفهم فيصير ذلك الخوف تعجيلاً للابتلاء فيستحقون به مزيد الثواب وثالثها أن الكفار إذا شاهدوا محمداً وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب ورابعها أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً وخامسها أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الإختبار هذه الفائدة وسادسها أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه فكانت الحكمة في هذا الإبتلاء ذلك
المسألة الرابعة إنما قال بشيء على الوحدان ولم يقل بأشياء على الجمع لوجهين الأول لئلا يوهم بأشياء من كل واحد فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيء من كذا وشيء من كذا الثاني معناه بشيء قليل من هذه الأشياء
المسألة الخامسة اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجوداً في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمى ذكراً وتذكراً وإن كان موجوداً في الحال يسمى ذوقاً ووجداً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمى انتظاراً وتوقعاً فإن كان المنتظر مكروهاً
حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقا وإن كان محبوباً سمى ذلك ارتياحاً والإرتياح رجاء فالخوف هو تألم القلب لإنتظار ما هو مكروه عنده والرجاء هو ارتياح القلب لإنتظار ما هو محبوب عنده وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت قال القفال رحمه الله أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان قال الله تعالى هُنَالِكَ ابْتُلِى َ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ( الأحزاب 11 ) وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة لقلة أموالهم حتى أنه عليه السلام كان يشد الحجر على بطنه وروى أبو الهيثم بن التيهان أنه عليه السلام لما خرج التقى مع أبي بكر قال ما أخرجك قال الجوع قال أخرجني ما أخرجك وأما النقص في الأموال والأنفس فقد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل فهناك يحصل النقص في المال والنفس وقال الله تعالى وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( التوبة 41 ) وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 120 ) وقد يكون النقص في النفس بموت بعض الإخوان والأقارب على ما هو التأويل في قوله دولا تقتلوا أنفسكم وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للإشتغال بجهاد الأعداء وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوفود هذا آخر كلام القفال رحمه الله قال الشافعي رضي الله عنه الخوف خوف الله والجوع صيام شهر رمضان والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للإشتغال بجهاد الأعداء وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوفود هذا آخر كلام القفال رحمه الله قال الشافعي رضي الله عنه الخوف خوف الله والجوع صيام شهر رمضان والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ ( البقرة 155 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة فأما من لم يكن محققاً في الإيمان كان كمن قال فيه وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه مثاله أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب ولو فعله به غيره لكان له أن يمانع بل يحارب وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ليس ذلك إلا حكمة وصواباً بخلاف ما يفعل العباد من الظلم
المسألة الثانية الخطاب في وَبَشّرِ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل من يتأتى منه البشارة
المسألة الثالثة قال الشيخ الغزالي رحمه الله اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والإبتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ثم يظهر فيه شهوة اللعب ثم شهوة النكاح وليس له قوة الصبر ألبتة إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام
القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة والإعراض عن الدار الآخرة وعقلاً يدعوه إلى الإعراض عنها وطلب اللذات الروحانية الباقية فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل فيسمى ذلك الصد والمنع صبراً ثم اعلم أن الصبر ضربان أحدهما بدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم والثاني هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع ثم هذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى البطر وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى شجاعة ويضاده الجبن وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلماً ويضاده النزق وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ويسمى صاحبه كتوماً وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً ويضاده الحرص وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمي الكل صبراً فقال الصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء أي المصيبة وَالضَّرَّاء أي الفقر وَحِينَ الْبَأْسِ أي المحاربة أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( البقرة 177 ) قال القفال رحمه الله ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابراً وإن ظهر دمع عين أو تغير لون قال عليه السلام ( الصبر عند الصدمة الأولى ) وهو كذلك لأن من ظهر منه في الإبتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه قال الحسن لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم
المسألة الرابعة في فضيلة الصبر قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ( السجدة 24 ) وقال وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ ( الأعراف 137 ) وقال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النحل 96 ) وقال أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ( القصص 54 ) وقال إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( الزمر 10 ) فما من طاعة إلا وأجرها مقدراً إلا الصبر ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى يَأْذَنَ لِى فإضافة إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( الأنفال 46 ) وعلق النصرة على الصبر فقال بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم فقال أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 157 ) وأما الأخبار فقال عليه الصلاة والسلام ( الصبر نصف الإيمان ) وتقريره أن الإيمان لا يتم إلا بعد ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأعمال والعقائد وبحصول ما ينبغي فالاستمرار على ترك ما لا ينبغي هو الصبر وهو النصف
الآخر فعلى مقتضى هذا الكلام يجب أن يكون الإيمان كله صبراً إلا أن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي قد يكون مطابقاً للشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر وقد يكون مخالفاً للشهوة فيحتاج فيه إلى الصبر فلا جرم جعل الصبر نصف الإيمان وقال عليه السلام ( من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار ) وقال عليه السلام ( الإيمان هو الصبر ) وهذا شبه قوله عليه السلام ( الحج عرفة )
المسألة الخامسة في بيان أن الصبر أفضل أم الشكر قال الشيخ الغزالي رحمه الله دلالة الأخبار على فضيلة الصبر أشد قال عليه السلام ( من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ) وقال ( يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى لقد أنعمت عليك فشكرت وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين ) وأما قوله عليه السلام ( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ) فهو دليل على فضل الصبر لأن هذا إنما يذكر في معرض المبالغة وهي لا تحصل إلا إذا كان المشبه به أعظم درجة من المشبه كقوله عليه السلام ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وأيضاً روي أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه وآخر الصحابة دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه وفي الخير أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء وأمامهم أيوب عليه السلام
المسألة السادسة دلت هذه الآية على أمور أحدها أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه وثانيها أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين وثالثها أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها ورابعها أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع وشرب الماء لا يفيد الري بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب لأن قوله وَلَنَبْلُوَنَّكُم صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى وقول من قال إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذاالقول ضعيف لأنه مجاز والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة
الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ ( البقرة 155 ) بين في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون صابراً وأن تلك البشارة كيف هي ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه المصائب قد تكون من فعل الله تعالى وقد تكون من فعل العبد أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحرق والصاعقة وغيرها والذي من فعل العبد فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأما الجوع فلأجل الفقر وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوائح التي تصيب الأموال والثمرات ومن العدو إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لايتفرغون لعمارة الأراضي ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل
المسألة الثانية قال القاضي إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى وينالها من قبل العباد لأن في الوجهين جميعاً عليه تكليفاً وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركاً للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله إِنَّا لِلَّهِ لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَى ْء ( غافر 20 ) أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه ويدخل أيضاً تحت قوله إِنَّا لِلَّهِ لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول إنا الله يدبر فينا كيف يشاء وفي الثاني يقول إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء
المسألة الثالثة أمال الكسائي في بعض الروايات من أَنَاْ ولام لِلَّهِ والباقون بالتفخيم وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة قال الفراء والكسائي لا يجوز إمالة أَنَاْ مع غير اسم الله تعالى وإنما وجب ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة وكذلك لا يجوز إمالة حَتَّى و لَكِنِ
أما قوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو بكر الوراق إِنَّا لِلَّهِ إقرار منا له بالملك وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ إقرار على أنفسنا بالهلاك واعلم أن الرجوع إليه ليس عبارة عن الإنتقال إلى مكان أو جهة فإن ذلك على الله محال بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه وذلك هو الدار الآخرة لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر فجعل الله تعالى هذا رجوعاً إليه تعالى كما يقال إن الملك والدولة يرجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة
المسألة الثانية هذا يدل على أن ذلك إقرار بالبعث والنشور والاعتراف بأنه سبحانه سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم ولا يضيع عنده أجر المحسنين
المسألة الثالثة قوله إِنَّا لِلَّهِ يدل على كونه راضياً بكل ما نزل به في الحال من أنواع البلاء وقوله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ يدل على كونه في الحال راضياً بكل ما سينزل به بعد ذلك من إثابته على ما كان
منه ومن تفويض الأمر إليه على ما نزل به ومن الإنتصاف ممن ظلمه فيكون مذللاً نفسه راضياً بما وعده الله به من الأجر في الآخرة
المسألة الرابعة الأخبار في هذا الباب كثيرة أحدها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه ) وثانيها روي أنه طفيء سراج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فقيل أمصيبة هي قال نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة وثالثها قالت أم سلمة حدثني أبو سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيراً منها إلا آجره الله عليها وعوضه خيراً منها ) قالت فلما توفى أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت هذا القول فعوضني الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام ورابعها قال ابن عباس أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله تعالى ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى وخامسها عن عمر رضي الله عنه قال نعم العدلان وهما أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ ونعمت العلاوة وهي قوله وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال ابن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن
أما قوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ فاعلم أن الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم وأما رحمته فهي النعم التي أنزلها به عاجلاً ثم آجلاً
وأما قوله وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم المهتدون لهذه الطريقة الموصلة بصاحبها إلى كل خير وثانيها المهتدون إلى الجنة الفائزون بالثواب وثالثها المهتدون لسائر ما لزمهم والأقرب فيه ما يصير داخلاً في الوعد حتى يكون عطفه على ما ذكره من الصلوات والرحمة صحيحاً ولا يكون كذلك إلا والمراد به أنهم الفائزون بالثواب والجنة والطريق إليها لأن كل ذلك داخل في الاهتداء وإن كان لا يمتنع أن يراد بذلك أنهم المتأدبون بآدابه المتمسكون بما ألزم وأمر قال أبو بكر الرازي اشتملت الآية على حكمين فرض ونفل أما الفرض فهو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرف عنها مصائب الدنيا وأما النفل فإظهاراً لقوله إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها أن غيره يقتدى به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله والثبات عليه وعلى طاعته وحكي عن داود الطائي قال الزهد في الدنيا أن لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن لأنه يعلم أن لكل مصيبه ثواباً
ولنختم تفسير هذه الآية ببيان الرضا بالقضاء فنقول العبد إنما يصبر راضياً بقضاء الله تعالى بطريقن إما بطريق التصرف أو بطريق الجذب أما طريق التصرف فمن وجوه أحدها أنه متى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إلى شيء جعل ذلك الشيء منشأ للآفات فحينئذ ينصرف وجه القلب عن عالم الحدوث إلى جانب القدس فإن آدم عليه السلام لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله ولما استأنس يعقوب بيوسف عليهما السلام أوقع الفراق بينهما حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق ولما طمع محمد عليه السلام من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه حتى
قال ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ) وثانيها أن لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة فحينئذ يرجع العبد إلى الله تعالى وثالثها أن العبد متى توقع من جانب شيئاً أعطاه الله تعالى بلا واسطة خيراً من متوقعه فيستحي العبد فيرجع إلى باب رحمة الله
وأما طريق الجذب فهو كما قال عليه السلام ( جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب لا مغلوب وصفة الرب الربوبية وصفة العبد العبودية والربوبية غالبة على العبودية لا بالضد وصفة الحق حقيقة وصفة العبد مجاز والحقيقة غالبة على المجاز لا بالضد والغالب يقلب المغلوب من صفة إلى صفة تليق به والعبد إذا دخل على السلطان المهيب نسي نفسه وصار بكل قلبه وفكره وحسه مقبلاً عليه ومشتغلاً به وغافلاً عن غيره فكيف بمن لحظ نصره حضرة السلطان الذي كان من عداه حقير بالنسبة إليه فيصير العبد هنالك كالفاني عن نفسه وعن حظوظ نفسه فيصير هنالك راضياً بأقضية الحق سبحانه وتعالى وأحكامه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة َ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه أحدها أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية وثانيها أنه تعالى لما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) إلى قوله وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ قال إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَة َ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات وثالثها أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة أحدها ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولاً وهو قوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول وثانيها ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به بين الحكمة فيه وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً وثالثها الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن
المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما قال القفال رحمه الله قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي ورحا وأرحاء قال الزاجر كأن متنيه من النفي
مواقع الطير من الصفي
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير إنا إذا قرع العدو صفاتنا
لاقوا لنا حجراً أصم صلودا
وفي كتاب الخليل الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس وإذا نعتوا الصخرة قالوا صفاة صفواء وإذا ذكروا قالوا صفا صفوان فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد وقال المبرد الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة وقاله غير هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب حتى كأني للحوادث مروة
بصفا المشاعر كل يوم يقرع
وأما شَعَائِرَ اللَّهِ فهي أعلام طاعته وكل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله قال الله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ ( الحج 36 ) أي علامة للقربة وقال ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( الحج 32 ) وشعائر الحج معالم نسكه ومنه المشعر الحرام ومنه إشعار السنام وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله ومنه الشعائر في الحرب وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومنه قولك شعرت بكذا أي علمت
المسألة الثالثة الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك أو نحملها على مواضع العبادات والنسك فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا
المسألة الرابعة الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين
ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب فمن دعاه فإنه غياث المستغثيثن فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين
المسألة الخامسة ذكر القفال في لفظ الحج أقوالاً الأول الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر الثاني قال قطرب الحج الحلق يقال احجج شجتك وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة فيكون المعنى حج فلان أي حلق قال القفال وهذا محتمل لقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ ( الفتح 27 ) أي حجاجاً وعماراً فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق الثالث قال قوم الحج القصد يقال رجل محجوج ومكان محجوج إذا كان مقصوداً ومن ذلك محجة الطريق فكان البيت لما كان مقصوداً بهذا النوع من العبادة سمي ذلك الفعل حجاً قال القفال والقول الأول أشبه بالصواب لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه
وأما العمرة فقال أهل اللغة الاعتمار هو القصد والزيارة قال الأعشى وجاشت النفس لما جاء جمعهم
وراكب جاء من تثليث معتمر
وقال قطرب العمرة في كلام عبد القيس المسجد والبيعة والكنيسة قال القفال ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر وأما الجناح فهو من قولهم جنح إلى كذا أي مال إليه قال الله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع جوانح لاعوجاجها وجناح الطائر من هذا لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضاً فمعنى لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء ومنهم من قال بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به
وقوله أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ( المدثر 1 ) عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ ( المزمل 1 ) أي المتدثر والمتزمل ويقال طاف وأطاف بمعنى واحد
المسألة السادسة ظاهر قوله تعالى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ أنه لا إثم عليه والذي يصدق عليه أنه لا إثم
في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب أو ليس بواجب لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر إذا عرفت هذا فنقول مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن ولا يقوم الدم مقامه وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن ويقوم الدم مقامه وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء أن من تركه فلا شيء عليه حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه أحدها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) فإن قيل هذا الحديث متروك الظاهر لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو ذلك غير واجب قلنا لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الجمعة 9 ) والعدو فيه غير واجب وقال الله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في القصد والنية سلمنا أنه يدل على العدو ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة فيبقى أصل المشي واجباً وثانيها ما ثبت أنه عليه السلام سعى لما دنا من الصفا في حجته وقال ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به ) فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت وإذا ثبت أنه عليه السلام سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ وقوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى ( آل عمران 31 ) وقوله لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ ( الأحزاب 21 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) والأمر للوجوب وثالثها أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركناً كطواف الزيارة ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين أحدهما هذه الآية وهي قوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وهذا لا يقال في الواجبات ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فبين أنه تطوع وليس بواجب وثانيهما قوله ( الحج عرفة ) ومن أدرك عرفة فقد تم حجه وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ترك العمل به في بعض الأشياء فيبقى معمولاً به في السعي والجواب عن الأول من وجوه الأول ما بينا أن قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) والقصر عند أبي حنيفة واجب مع أنه قال فيه فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ فكذا ههنا الثاني أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما وعندنا الأول غير واجب وإنما الثاني هو الواجب الثالث قال ابن عباس كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم أو دم البراغيث عندنا فقيل لا جناح عليك أن تصلي فيه فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة الرابع روي عن عروة أنه قال لعائشة إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما فقالت بئس ما قلت لو كان كذلك لقال أن لا يطوف بهما ثم حكى ما تقدم من الصنمين وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين فإن قالوا قرأ ابن مسعود ( فلا جناح
عليه أن لا يطوف بهما ) واللفظ أيضاً محتمل له كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) أي أن لا تضلوا وكقوله تعالى أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الأعراف 172 ) معناه أن لا تقولوا قلنا القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً الخامس كما أن قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ لا يطلق على الواجب فكذلك لا يطلق على المندوب ولا شك في أن السعي مندوب فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها
وأما التمسك بقوله فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فضعيف لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولاً بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر قال الله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( البقرة 184 ) ثم قال فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ( البقرة 184 ) فأوجب عليهم الطعام ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيراً فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفاً إلى شيء آخر وهو من وجهين أحدهما أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر الثاني أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعاً وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا ففيه مسائل
المسألة الأولى قراءة حمزة وعاصم والكسائي ( يطوع ) بالياء وجزم العين وتقديره يتطوع إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما وهذا أحسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن وأما الباقون من القراء فقرؤا ( تطوع ) على وزن تفعل ماضياً وهذه القراءة تحتمل أمرين أحدهما أن يكون موضع ( تطوع ) جزماً الثاني أن لا يجعل ( من ) للجزاء ولكن يكون بمنزلة ( الذي ) ويكون مبتدأ والفاء مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) فما مبتدأ موصول والفاء مع ما بعدها خبر له ونظيره قوله وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ( النساء 38 ) إلى قوله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ( البقرة 274 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ ( البروج 10 ) إلى قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وقوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً وقوله مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وقوله وَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ونذكر هذه المسألة إن شاء الله عند قوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً ( البقرة 274 )
المسألة الثانية قال أبو مسلم ( تطوع ) تفعل من الطاعة وسواء قول القائل طاع وتطوع كما يقال حال وتحول وقال وتقول وطاف وتطوف وتفعل بمعنى فعل كثيراً والطوع هو الانقياد والطوع ما ترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك
المسألة الثالثة الذين قالوا السعي واجب فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب
ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ
أما قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه وذلك في حق الله تعالى محال فالشاكر في حقه تعالى مجاز ومعناه المجازي على الطاعة وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه الأول أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم كما قال تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) وهو تعالى لا يستقرض من عوض ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم الثاني أن الشكر لما كان مقابلاً للأنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه الثالث كأنه يقول أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات
وأما قوله عَلِيمٌ فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى عَلِيمٌ تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه وتحذير من خلاف ذلك
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَائِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قولان أحدهما أنه كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين والثاني أنه ليس يجري على ظاهره في العموم ثم من هؤلاء من زعم أنه في اليهود خاصة قال ابن عباس إن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفات النبي عليه الصلاة والسلام ومن الأحكام فكتموا فنزلت الآية وقيل نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والربيع والسدي والأصم والأول أقرب إلى الصواب لوجوه أحدها أن اللفظ عام والعارض الموجود وهو نزوله عند سبب معين لايقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وثانيها أنه ثبت أيضاً في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم ولا شك أن
كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف وثالثها أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فحملت الآية على العموم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة وتلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى واحتج من خص الآية بأهل الكتاب أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فأما القرآن فإنه متواتر فلا يصح كتمانه قلنا القرآن قبل صيرورته متواتراً يصح كتمانه والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية
المسألة الثانية قال القاضي الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً فلما كان ما أنزله الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ونظيره هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) وقريب منهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( البقرة 174 ) فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيهاً للناس وزاجرة عن كتمانها ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( التوبة 122 ) وروى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار )
أما قوله تعالى مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دون أدلة العقول وقوله تعالى وَالْهَدْى َ يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية لأنا بينا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل فإن قيل فقد قال وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فعاد إلى الوجه الأول قلنا الأول هو التنزيل والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد
واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب فكان كتمانه داخلاً تحت الآية فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجاً إليها ثم تركها أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم
المسألة الرابعة هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوماً وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى
المسألة الخامسة من الناس من يحتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد فقال دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجباً وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ ( البقرة 160 ) فحكم بوقوع البيان بخبرهم فإن قيل لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان ومأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر
قلنا هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والاقتراء فلا يكون خبرهم موجباً للعلم
المسألة السادسة احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم كان أخذ الأجرة عليه أخذاً للأجرة على أداء الواجب وأنه غير جائز ويدل عليه أيضاً قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( البقرة 174 ) وظاهر ذلك بمنع أخذ الأجرة على الإظهار وعلى الكتمان جميعاً لأن قوله وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا ( البقرة 174 ) مانع أخذ البدل عليه من جميع الوجوه
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ قبل في التوراة والإنجيل من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الأحكام وقيل أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين والثاني ما في القرآن
أما قوله تعالى أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب
أما قوله تعالى وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ فيجب أن يحمل على من للعنة تأثير وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة ويؤكده قوله تعالى إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( البقرة 161 ) والناس ذكروا وجوهاً أخر أحدها أن اللاعنين هم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن مجاهد وعكرمة وإنما قال اللَّاعِنُونَ ولم يقل اللاعنات لأنه تعالى وصفها بصفة من يعقل فجمعها جمع من يعقل كقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) و نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) و قَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ( فصلت 21 ) وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) وثانيها كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس فإن قيل كيف يصح اللعن من البهائم والجمادات قلنا على وجهين الأول على سبيل المبالغة وهو أنها لو كانت عاقلة لكانت تلعنهم الثاني أنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه وثالثها أن أهل النار يلعنونهم أيضاً حيث كتموهم الدين فهو على العموم ورابعها قال ابن مسعود إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه وتعالى وخامسها عن ابن عباس إن لهم لعنتين لعنة الله ولعنة الخلائق قال وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك فيقول ما أدري فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك لا دريت ولا تليت كذلك كنت في الدنيا وسادسها قال أبو مسلم ( اللاعنون ) هم الذين آمنوا به ومعنى اللعن منهم مباعدة
الملعون ومشاقته ومخالفته مع السخط عليه والبراءة منه قال القاضي دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن ويدل على أن أحداً من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلاً في الآية
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَائِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال فبين تعالى أنهم إذا تابوا تغير حكمهم ودخلوا في أهل الوعيد وقد ذكرنا أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لا لغرض سواه لأن من ترك رد الوديعة ثم ندم عليه لأن الناس ذموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً وكذلك لو عزم على رد كل وديعة والقيام بكل واجب لكي تقبل شهادته أو يمدح بالثناء عليه لم يكن تائباً وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بين تعالى أنه لا بد له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلاً لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة ثم بين ثالثاً أنه بعد ذلك يجب عليه فعل ضد الكتمان وهو البيان وهو المراد بقوله وَبَيَّنُواْ فدلت هذه الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي قالت المعتزلة الآية تدل على أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصح لأن قوله وَأَصْلَحُواْ عام في الكل والجواب عنه أن اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده قال أصحابنا تدل الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً لأنه تعالى ذكر ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ولو كان كذلك واجباً لما حسن هذا المدح ومعنى أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أقبل توبتهم وقبول التوبة يتضمن إزالة عقاب ما تاب منها فإن قيل هلا قلتم أن معنى فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ هو قبول التوبة بمعنى المجازاة والثواب كما تقولون في قبول الطاعة قلنا الطاعة إنما أفاد قبولها استحقاق الثواب لأنه لا يستحق بها سواه وهو الغرض بفعلها وليس كذلك التوبة لأنها موضوعة لاسقاط العقاب وهو الغرض بفعلها وإن كان لا بد من أن يستحق بها الثواب إذا لم يكن مخطئاً ومعنى قوله وَأَنَا التَّوَّابُ القابل لتوبة كل ذي توبة فهو مبالغة في هذا الباب ومعنى الرحيم عقيب ذلك التنبيه على أنه لرحمته بالمكلفين من عباده يقبل توبتهم بعد التفريط العظيم منهم
إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَائِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أن ظاهر قوله تعالى إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ عام في حق كل من كان كذلك فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك وقال أبو مسلم يجب حمله على الذين تقدم ذكرهم وهم الذين يكتمون الآيات واحتج عليه بأنه تعالى لما ذكر حال الذين يكتمون ثم ذكر حال التائبين منهم ذكر أيضاً حال من يموت منهم من غير توبة وأيضاً أنه تعالى لما ذكر أن أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة بين في هذه الآية أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات والجواب عنه أن هذا إنما يصح متى كان الذين يموتون من غير توبة لا يكونون داخلين تحت الآية الأولى فأما إذا دخلوا تحت الأولى استغنى عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف
المسألة الثانية لما ذكر في الكلام أنه إذا مات على كفره صار الوعيد لازماً من غير شرط ولما كان المعلق على الشرط عدماً عند عدم الشرط علمنا أن الكافر إذا تاب قبل الموت لم يكن حاله كذلك
المسألة الثالثة إن قيل كيف يلعنه الناس أجمعون وأهل دينه لا يلعنونه قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أن أهل دينه يلعنونه في الآخرة لقوله تعالى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وثانيها قال قتادة والربيع أراد بالناس أجمعين المؤمنين كأنه لم يعتد بغيرهم وحكم بأن المؤمنين هم الناس لا غير وثالثها أن كل أحد يلعن الجاهل والظالم لأن قبح ذلك مقرر في العقول فإذا كان هو في نفسه جاهلاً أو ظالماً وإن كان لا يعلم هو من نفسه كونه كذلك كانت لعنته على الجاهل والظالم تتناول نفسه عن السدي ورابعها أن يحمل وقوع اللعن على استحقاق اللعن وحينئذ يعم ذلك
المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي في الآية دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافراً وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنا لعنه والبراءة منه لأن قوله وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لوجن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه وكذلك السبيل فيما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح فإن موت من كان كذلك أو جنونه لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال به
المسألة الخامسة القائلون بالموافاة احتجوا بهذه الآية فقالوا علق تعالى وجوب لعنته بأن يموت على كفره فلو استحق ذلك قبل الموت لم يصح ذلك فعلمنا أن الكفر إنما يفيد استحقاق اللعن لو مات صاحبه عليه وكذا الإيمان إنما يفيد استحقاق المدح إذا مات صاحبه عليه الجواب الحكم المرتب على الذين ماتوا على الكفر مجموع أمور منها اللعن لو مات ومنها الخلود في النار وعندنا أن هذا المجموع وهو اللعن وحده لم قلتم أنه لا يحصل إلا فيه
المسألة السادسة القائلون بأن الكفر من الأسماء الشرعية وما بقي على الوضع الأصلي وهم المعتزلة احتجوا بقوله تعالى وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ والله تعالى وصفهم حال موتهم بأنهم كفار ومعلوم أن الكفر بمعنى الستر والتغطية لا يبقى فيهم حال الموت لأن التغطية لا تحصل إلا في حق الحي الفاهم
المسألة السابعة الآية تدل على جواز التخصيص مع التوكيد لأنه تعالى قال وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مع أنه مخصوص على مذهب من قال المراد بالناس بعضهم
وأما قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى الخلود اللزوم الطويل ومنه يقال أخلد إلى كذا أي لزمه وركن إليه
المسألة الثانية العامل في ( خالدين ) الظرف من قوله ( عليهم ) لأن فيه معنى الإستقرار للعنة فهو حال من الهاء والميم في عليهم كقولك عليهم المال صاغرين
المسألة الثالثة خَالِدِينَ فِيهَا أي في اللعنة وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً كما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) والأول أولى لوجوه الأول أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر الثاني أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى الثالث أن قوله خَالِدِينَ فِيهَا إخبار عن الحال وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلاً في الحال وفي حمله على النار لا يكون حاصلاً في الحال بل لا بد من التأويل فكان ذلك أولى واعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بأمور ثلاثة أحدها الخلود وهو المكث الطويل عندنا والمكث الدائم عند المعتزلة على ما تقدم القول فيه في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وثانيها عدم التخفيف ومعناه أن الذي ينالهم من عذاب الله فهو متشابه في الأوقات كلها لا يصير بعض الأوقات أقل من بعض فإن قيل هذا التشابه ممتنع لوجوه الأول أنه إذا تصور حال غيره في شدة كالعقاب كان ذلك كالتخفيف منه الثاني أنه تعالى يوفر عليهم ما فات وقته من العذاب ثم تنقطع تلك الزيادة فيكون ذلك تخفيفاً الثالث أنهم حيثما يخاطبون بقوله اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ لا شك أنه يزداد غمهم في ذلك الوقت ( أجابوا عنه ) بأن التفاوت في هذه الأمور القليلة فالمستغرق بالعذاب الشديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التفاوت قالوا ولما دلت الآية على أن هذا العقاب متشابه وجب أن يكون دائماً لأنهم لو جوزوا انقطاع ذلك مما يخفف عنهم إذا تصوروه وبيان ذلك أن الواقع في محنة عظيمة في الدنيا إذا بشر بالخلاص بعد أيام فإنه يفرح ويسر ويسهل عليه موقع محنته وكلما كانت محنته أعظم كان ما يلحقه من الروح والتخفيف بتصور الإنقطاع أكثر
الصفة الثالثة من صفات ذلك العقاب قوله وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) والمعنى إن عذابهم لا يؤجل بل يكون حاضراً متصلاً بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى وفي الآخرة لا مهلة البتة فإذا استمهلوا لا يمهلون وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون وقيل لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) نعوذ بالله من ذلك والحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الإنقطاع والتخفيف والتأخير
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
اعلم أن الكلام في تفسير لفظ الإله قد تقدم في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما الواحد ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي قولهم واحد اسم جرى على وجهين في كلامهم أحدهما أن يكون اسماً والآخر أن يكون وصفاً فالإسم الذي ليس بصفة قولهم واحد المستعمل في العدد نحو واحد اثنان ثلاثة فهذا اسم ليس بوصف كما أن سائر أسماء العدد كذلك وأما كونه صفة فنحو قولك مررت برجل واحد وهذا شيء واحد فإذا أجرى هذا الإسم على الحق سبحانه وتعالى جاز أن يكون الذي هو الوصف كالعالم والقادر وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولنا شيء ويقوي الأول قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ وأقول تحقيق هذا الكلام في العقل أن الأشياء التي يصدق عليها إنها واحد مشتركة في مفهوم الوحدانية ومختلفة في خصوصيات ماهياتها أعني كونها جوهراً أو عرضاً أو جسماً أو مجرداً ويصح أيضاً فعل كل واحد منهما أعني ماهيته وكونه واحداً مع الذهول عن الآخر فإذن كون الجوهر جوهراً مثلاً غير وكونه واحداً غير والمركب منهما غير فلفظ الواحد تارة يفيد مجرد معنى أنه واحد وهذا هو الاسم وتارة يفيد معنى أنه واحد حين ما يحصل نعتاً لشيء آخر وهذا معنى كونه نعتاً
المسألة الثانية الواحدية هل هي صفة زائدة على الذات أم لا اختلفوا فيها فقال قوم إنها صفة زائدة على الذات واحتجوا عليه بأنا إذا قلنا هذا الجوهر واحد فالمفهوم من كونه جوهراً غير المفهوم من كونه واحداً بدليل أن الجوهر يشاركه العرض في كونه واحداً ولا يشاركه في كونه جوهراً ولأنه يصح أن يعقل كونه جوهراً حال الذهول عن كونه واحداً والمعلوم مغايراً لغير المعلوم ولأنه لو كان كونه واحداً نفس كونه جوهراً لكان قولنا الجوهر واحد جارياً مجرى قولنا الجوهر جوهر ولأن مقابل الجوهر هو العرض ومقابل الواحد هو الكثير فثبت أن المفهوم من كونه واحداً إما أن يكون سلبياً أو ثبوتياً لا جائز أن يكون سلبياً لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة والكثرة إما أن تكون سلبية أو ثبوتية فإن كانت الكثرة سلبية والوحدة سلب الكثرة كانت الوحدة سلباً للسلب وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فلو كانت الوحدة سلبية مع الكثرة كان مجموع المعدومات أمراً موجوداً وهو محال فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية ثم هذه الصفة الزائدة إما أن يقال إنه لا تحقق لها إلا في الذهن أولها تحقق خارج الذهن والأول باطل وإلا لم يكن الذهني مطابقاً لما في الخارج فيلزم أن لا يكون الشيء الواحد في نفسه واحداً وهو محال لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن وجد ذهنياً وفرضياً واعتبارياً فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات واحتج من أبى كون الوحدة صفة ثبوتية بأن قال لو كانت الوحدة صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية كونها واحدة ومتباينة بتعيناتها فيلزم أن يكون للوحدة وحدة أخرى وينجر ذلك إلى ما لا نهاية له وهو محال
المسألة الثالثة الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم من جهة ما قيل له إنه واحد فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان إلى إنسانين بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد فإن العشرة الواحدة من حيث إنها عشرة واحدة قد عرضت الوحدة لها فإن قلت عشرتان فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت الوحدة لها من هذه الجهة فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة ولأجل هذا اشتبه على بعضهم الوحدة بالموجود فظن أن كل موجود لما صدق عليه أنه واحد كان وجوده نفس وحدته والحق أنه ليس كذلك لأن الوجود ينقسم إلى الواحد والكثير والمنقسم إلى شيء مغاير لما به الانقسام
المسألة الرابعة الحق سبحانه وتعالى واحِدٌ باعتبارين أحدهما أنه ليست ذاته مركبة من اجتماع أمور كثيرة والثاني أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب الوجود وفي كونه مبدأ لوجود جميع الممكنات فالجوهر الفرد عند من يثبته واحد بالتفسير الأول وليس واحد بالتفسير الثاني والبرهان على ثبوت الوحدة بالتفسير الأول أنه لو كان مركباً لافتقر تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته واجب لغيره فهو مركب مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فما لا يكون كذلك استحال أن يكون مركباً فإذن حقيقته سبحانه حقيقة أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه لا كثرة مقدارية كما تكون للأجسام ولا كثرة معنوية كما تكون للنوع المتركب من الفصل والجنس أو الشخص المتركب من الماهية والتشخص إلا أنه قد صعب ذلك على أقوام وذلك لأنه سبحانه عالم قادر حي مريد فالمفهوم من هذه الصفات إما هو نفس المفهوم من ذاته أو ليس كذلك والأول باطل لوجوه أحدها أنه يمكننا أن نتعقل ذاته مع الذهول عن كل واحد من هذه الصفات وإن لم يمكن ذلك فلا شك أنه يمكننا تعقل كل واحد من هذه الصفات مع الذهول عن أن نتعقل ذاته المخصوصة بل هذا هو الواجب عند من يقول إن ذاته المخصوصة غير معلومة وصفاته معلومة والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فإذن هذه الصفات أمور زائدة على الذات وثانيها أن هذه الصفات لو كانت هي نفس الذات لكان قولنا في الذات إنها عالمة أو ليست عالمة جارياً مجرى قولنا الذات ذات أو لا ذات ولا استحال أن يكون ذلك في البحث يحتمل أن يقام البرهان على نفيه وإثباته فإن من قال الذات ذات علم كل أحد بالضرورة صدقه ومن قال الذات ليست بذات علم كل أحد بالضرورة كذبه ولما كان قولنا الذات عالمة أو ليست عالمة ليس بمثابة قولنا لذات ذات الذات ليست بذات علمنا أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات وثالثها أنه لو كان المرجع بهذه الصفات إلى ذاته فقط وذاته ليست إلا شيئاً واحداً لكان المرجع بهذه الصفات إلى شيء واحد فكان ينبغي أن تكون إقامة الدلالة على كونه قادراً تغني عن إقامة الدلالة على كونه عالماً وعلى كونه حياً فلما لم يكن كذلك بل افتقرنا في كل صفة إلى دليل خاص علمنا أنه ليس المرجع بها إلى الذات إذا ثبت أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات فنقول هذه الصفات إما أن تكون سلبية أو ثبوتية لا جائز أن تكون سلبية لأن السلب نفي محض والنفي المحض لا تخصص فيه ولأنا جعلنا كونه عالماً قادراً عبارة عن نفي الجهل والعجز فالجهل والعجز إما أن يكون المرجع بهما إلى العدم وأنه ليس بعالم ولا قادر أو يكون المرجع إلى أمر ثبوتي وهو أن الجهل عبارة عن اعتقاد غير مطابق والعجز عبارة عن إخلال حال القدرة فإن كان الأول كان العلم والقدرة عبارة عن سلب السلب فيكون
ثبوتياً وإن كان الثاني لم يلزم من انتفاء الجهل والعجز بهذا المعنى تحقق العلم والقدرة فإن الجماد قد انتفى عنه الجهل والعجز بهذا المعنى مع أنه غير موصوف بالعلم والقدرة فثبت أن صفات الله تعالى أمور زائدة على ذاته قائمة بذاته والإله عبارة عن مجموع الذات والصفات فقد عاد القول إلى أن حقيقة الإله تعالى مركبة من أمور كثيرة فكيف القول فيه
وإشكال آخر وهو أنا قد دللنا على أن الوحدة صفة زائدة على الذات قائمة بالذات فإذا كانت حقيقة الحق واحدة فهناك أمور ثلاثة تلك الحقيقة وتلك الواحدية وموصوفية تلك الحقيقة بتلك الواحدية فذلك ثالث ثلاثة فأين التوحيد
وإشكال ثالث وهو أن تلك الحقيقة هل هي موجودة وواجبة الوجود أم لا فإن كانت موجودة فهي بوجودها تشارك سائر الموجودات وبماهياتها تمتاز عن سائر الموجودات فهناك كثرة حاصلة بسبب الوجود والماهية وإن لم تكن موجودة فهذا إشارة إلى العدم وكذا القول في الوجوب فإنها إن كانت واجبة الوجود لذاتها فوجوب وجودها يستحيل أن يكون عين الذات لأن الوجوب صفة لانتساب الموضوع إلى المحمول بالموصوفية والانتساب مغاير بين الشيئين مغاير لكل واحد منهما من حيث هو فلأن تكون صفة ذلك الإنتساب مغايرة لهما أولى وأيضاً فالذات قائمة بنفسها ويستحيل أن يكون مسمى الواجب أمراً قائماً بالنفس ولأنا نصف الذات بالوجوب ووصف الشيء بنفسه محال فثبت أنه لو وجب موجود واجب الوجود لكان وجوب وجوده زائداً على ذاته فهناك أمران تلك الذات مع ذلك الوجوب ومع الموصوفية بذلك الوجوب فقد عاد التثليث
وإشكال رابع وهو أن هذه الحقيقة البسيطة هل يمكن الإخبار عنها وهل يمكن التعبير عنها أم لا والأول محال لأن الإخبار إنما يكون بشيء عن شيء فالمخبر عنه غير المخبر به فهما أمران لا واحد وإن لم يكن التعبير عنه فهو معلوم ألبتة لا بالنفي ولا بالإثبات فهو مغفول عنه فهذا جملة ما في هذا المقام من السؤال
والجواب عن الأول أنه سبحانه ذات موصوفة بهذه الصفات ولا شك أن المجموع مفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه إلا أن الذات قائمة بنفسها واجبة لذاتها ثم إنها بعد وجوبها بعدية بالرتبة مستلزمة لتلك النعوت والصفات فهذا مما لا امتناع فيه عند العقل
وأما الإشكال الثاني وهو أن الوحدة صفة زائدة على الذات فإذا نظرت إليها من حيث أنها واحدة فهناك أمور ثلاثة لا أمر واحد فالجواب أن الذي ذكرته حق ولكن فرق بين النظر إليه من حيث أنه هو وبين النظر إليه من حيث أنه محكوم عليه بأنه واحد فإذا نظرت إليه من حيث أنه هو مع ترك الإلتفات إلى أنه واحد فهناك تتحقق الوحدة وههنا حالة عجيبة فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة فاعتبر هذه الحالة بذهنك اللطيف لعلك تصل إلى سره وهذا أيضاً هو الجواب عن إشكال الوجود وإشكال الوجوب
أما الإشكال الرابع وهو أنه هل يمكن التعبير عنه فالحق أنه لا يمكن التعبير عنه لأنك متى عبرت عنه فقد أخبرت عنه بأمر آخر والمخبر عنه مغاير للمخبر به لا محالة فليس هناك توحيد ولو أخبرت عنه بأنه لا
يمكن الإخبار عنه فهناك ذات مع سلب خاص فلا يكون هناك توحيد فأما إذا نظرت إليه من حيث أنه هو من غير أن تخبر عنه لا بالنفي ولا بالإثبات فهناك تحقق الوصول إلى مبادىء عالم التوحيد ثم الإلتفات المذكور لا يمكن التعبير عنه إلا بقوله ( هو ) فلذلك عظم وقع هذه الكلمة عند الخائضين في بحار التوحيد وسنذكر شمة من حقائقها في تفسير هذه الآية بعون الله تعالى أما الوحدة بالمعنى الثاني وهي أنه ليس في الوجود شيء يشاركه في وجوب الوجود فكأن هذه الوحدة هي الوحدة الخاصة بذات الحق سبحانه وتعالى وبراهين ذلك مذكورة في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) أم الوحدة بالتفسير الأول فليست من خواص ذات الحق سبحانه وتعالى لأنه لا شك في وجود موجودات توهذه الموجودات إما مفردات أو مركبات فالمركب لا بد فيه من المفردات فثبت أنه لا بد من إثبات المفردات في عالم الممكنات فالواحدية بالمعنى الأول ليست من الأمور التي توحد الحق سبحانه بها أما الواحدية بالمعنى الثاني فالحق سبحانه وتعالى متوحد بها ومتفرد بها ولا يشاركه في ذلك النعت شيء سواه فهذه تلخيص الكلام في هذا المقام بحسب ما يليق بعقل البشر وفكره القاصر مع الاعتراف بأنه سبحانه منزه عن تصرفات الأفكار والأوهام وعلائق العقول والأفهام
المسألة الخامسة قال الجبائي يوصف الله تعالى بأنه واحد من وجوه أربعة لأنه ليس بذي أبعاض ولا بذي أجزاء ولأنه منفرد بالقدم ولأنه منفرد بالإلهية ولأنه منفرد بصفات ذاته نحو كونه عالماً بنفسه وقادراً بنفسه وأبو هاشم يقتصر على ثلاثة أوجه فجعل تفرده بالقدم وبصفات الذات وجهاً واحداً قال القاضي وفي هذه الآية المراد تفرده بالإلهية فقط لأنه أضاف التوحيد إلى ذلك ولذلك عقبه بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وقال أصحابنا إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له أما أنه واحد في ذاته فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشارإليها بقولنا هو الحق سبحانه وتعالى إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه أو لا تكون فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعنى الآخر لا بد وأن يكون بقيد زائد فيكون هو في نفسه مركباً بما به الإشتراك وما به الإمتياز فيكون ممكناً معلولاً مفتقراً وذلك محال وإن لم يكن فقد ثبت أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وأما أنه واحد في صفاته فلأن موصوفيته سبحانه بصفات متميزة عن موصوفية غيره بصفات من وجوه أحدها أن كل ما عداه فانٍ لأن حصول صفاته له لا تكون من نفسه بل من غيره وهو سبحانه يستحق حصول صفاته لنفسه لا لغيره وثانيها أن صفات غيره مختصة بزمان دون زمان لأنها حادثة وصفات الحق ليست كذلك وثالثها أن صفات الحق غير متناهية بحسب المتعلقات فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات بل له في كل واحد من المعلومات الغير المتناهية معلومات غير متناهية لأنه يعلم في ذلك الجوهر الفرد أنه كيف كان ويكون حاله بحسب كل واحد من الأحياز المتناهية وبحسب كل واحد من الصفات المتناهية فهو سبحانه واحد في صفاته من هذه الجهة ورابعها أنه سبحانه ليست موصوفية ذاته بتلك الصفات بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذاته محلاً لها ولا أيضاً بحسب كون ذاته مستكملة بها لأنا بينا أن الذات كالمبدأ لتلك الصفات فلو كانت الذات مستكملة بالصفات لكان المبدأ ناقصاً لذاته مستكملاً بالممكن لذاته وهو محال بل ذاته مستكملة لذاته ومن لوازم ذلك الإستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال معه إلا أن التقسيم يعود في نفس الإستكمال فينتهي إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به
خامسها أنه لا خبر عند العقول من كنه صفاته كما لا خبر عندها من كنه ذاته وذلك لأنا لا نعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي لأجله ظهر الإحكام والإتقان في عالم المخلوقات فالمعلوم من علمه أنه أمر ما لا ندري أنه ما هو ولكن نعلم منه أنه يلزمه هذا الأثر المحسوس وكذا القول في كونه قادراً وحياً فسبحان من ردع بنور عزته أنوار العقول والأفهام وأما إنه سبحانه وتعالى واحد في أفعاله فالأمر ظاهر لأن الموجود إما واجب وإما ممكن فالواجب هو هو والممكن ما عداه وكل ما كان ممكناً فإنه يجوز أن لا يوجد ما لم يتصل بالواجب ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات سواء كان ملكاً أو ملكاً أو كان فعلاً للعباد أو كان غير ذلك فثبت أن كل ما عداه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته واستيلائه وعند هذا تدرك شمة من روائح أسرار قضائه وقدره ويلوح لك شيء من حقائق قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وتعرف أن الموجود ليس البتة إلا ما هو هو وما هو له وإذا وقعت سفينة الفكرة في هذه اللجة فلو سارت إلى الأبد لم تقف لأن السير إنما يكون من شيء إلى شيء فالشيء الأول متروك والشيء الثاني مطلوب وهما متغايران فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية والوحدانية فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث والقدم فهناك تنقطع الحركات وتضمحل العلامات والأمارات ولم يبق في العقول والألباب إلا مجرد أنه هو فيا هو ويا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف فإن عبدك بفنائك ومسكينك ببابك
المسألة السادسة إن قيل ما معنى إضافته بقوله وَإِلَاهُكُمْ وهل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف قلنا لما كان الإله هو يستحق أن يكون معبوداً والذي يليق به أن يكون معبوداً بهذا الوصف إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة الله تعالى فإن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين وإلى جميع من تصح صيرورته مكلفاً تقديراً
المسألة السابعة قوله وَإِلَاهُكُمْ يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى وقادركم قادر واحد ومعلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود
المسألة الثامنة قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ معناه أنه واحد في الإلهية لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد وبأنه عالم واحد ولما قال وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول هب أن إلهنا واحد فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال لاَ إله إِلاَّ هُوَ وذلك لأن قولنا لا رجل يقتضي نفي هذه الماهية ومتى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد فقد حصلت الماهية وذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية فثبت أن قولنا لا رجل يقتضي النفي العام الشامل فإذا قيل بعد إلا زيداً أفاد التوحيد التام المحقق وفي هذه الكلمة أبحاث أحدها أن جماعة من النحويين قالوا الكلام فيه حذف وإضمار والتقدير لا إله لنا أو لا إله في الوجود إلا الله واعلم أن هذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق وذلك
لأنك لو قلت التقدير أنه لا إله لنا إلاالله لكان هذا توحيداً لألهنا لا توحيد للإله المطلق فحينئذ لا يبقى بين قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ وبين قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ فرق فيكون ذلك تكراراً محضاً وأنه غير جائز وأما لو قلنا التقدير لا إله في الوجود فذلك الإشكال زائل إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر وذلك لأنك إذا قلت لا إله في الوجود لا إله إلا هو كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك لا إله إلا الله نفياً لماهية الإله الثاني ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى فإن قيل نفي الماهية كيف يعقل فإنك إذا قلت السواد ليس بسواد كان ذلك حكماً بأن السواد ليس بسواد وهو غير معقول أما إذا قلت السواد ليس بموجود فهذا معقول منتظم مستقيم قلنا بنفي الماهية أمر لا بد منه فإنك إذا قلت السواد ليس بموجود فقد نفيت الوجود والوجود من حيث هو وجود ماهية فإذا نفيته فقد نفيت هذه الماهية المسماة بالوجود فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضاً فإذا عقل ذلك صح اجراء قولنا لا إله إلا الله على ظاهره من غير حاجة إلى الإضمار فإن قلت إنا إذا قلنا السواد ليس بموجود فما نفيت الماهية وما نفيت الوجود ولكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود قلت فموصوفية الماهية بالوجود هل هي أمر منفصل عن الماهية وعن الوجود أم لا فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفياً لتلك الماهية فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها وحينئذ يعود التقريب المذكور وإن لم تكن تلك الموصوفية أمراً منفصلاً عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي إما إلى الماهية وإما إلى الوجود وحينئذ يعود التقريب المذكور فثبت أن قولنا لا إله إلا هو حق وصدق من غير حاجة إلى الإضمار البتة
البحث الثاني فيما يتعلق بهذه الكلمة أن تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات فإنك ما لم تتصور الوجود أولاً استحال أن تتصور العدم فأنت لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود فتصور الوجود غني عن تصور العدم وتصور العدم مسبوق بتصور الوجود فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي وأخرنا الإثبات
والجواب أن الأمر في العقل على ما ذكرت إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد
البحث الثالث في كلمة هُوَ أعلم أن المباحث اللفظية المتعلقة بهو قد تقدمت في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما الأسرار المعنوية فنقول اعلم أن الألفاظ على نوعين مظهرة ومضمرة أما المظهرة فهي الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة من حيث هي هي كالسواد والبياض والحجر والإنسان وأما المضمرات فهي الألفاظ الدالة على شيء ما هو المتكلم والمخاطب والغائب من غير دلالة على ماهية ذلك المعين وهي ثلاثة أنا وأنت وهو وأعرفها أنا ثم أنت ثم هو والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصوري لنفسي من حيث أني أنا مما لا يتطرق إليه الاشتباه فإنه من المستحيل أن أصير مشتبهاً بغيري أو يشتبه بي غيري بخلاف أنت فإنك قد تشتبه بغيرك وغيرك يشتبه بك في عقلي وظني وأيضاً فأنت أعرف من هو فالحاصل أن أشد المضمرات عرفاناً أَنَاْ وأشدها بعداً عن العرفان ( هو ) وأما ( أنت ) فكالمتوسط بينهما والتأمل التام يكشف عن صدق هذه القضية ومما يدل على أن أعرف الضمائر قولاً قولي ( أنا ) أن المتكلم حصل له عند الإنفراد لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث من غير فصل لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الإلتباس وههنا لا يمكن الإلتباس فلا حاجة إلى الفصل وأما عند التثنية والجمع فاللفظ
واحد أما في المتصل فكقولك شربنا وأما المنفصل فقولك نحن وإنما كان كذلك للأمن من اللبس وأما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه ومذكره ويثني ويجمع لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث ومذكر وهو مقبل عليهما فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة وتثنية المخاطب وجمعه إنما حسن لهذه العلة وأما إن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري إذا عرفت هذا فنقول ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره سواء كان حاضراً أو غائباً فالعرفان التام بالله ليس إلا الله لأنه هو الذي يقول لنفسه ( أنا ) ولفظ ( أنا ) أعرف الأقسام الثلاثة فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر وهو قول ( أنا ) إلا له سبحانه علمنا أن العرفان التام به سبحانه وتعالى ليس الإله
بقي أن هناك قوماً يجوزون الاتحاد الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول وعند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول أنا الله إلا أن القول بالاتحاد غير معقول لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما فذاك ليس باتحاد وإن بقيا فهما اثنان لا واحد ولما انسد هذا الطريق الذي هو أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران وهو ( أنت ) و ( هو ) أما ( أنت ) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات والمشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فنى عن ظلمات عالم الحدوث وعن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ ( الأنبياء 87 ) وهذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة والمخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه وقال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) وأما ( هو ) فللغائبين ثم ههنا بحث وهو أن ( هو ) في حقه أشرف الأسماء ويدل عليه وجوه
أحدها أن الإسم إما كلي أو جزئي وأعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة وأعني بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعاً من الشركة وهو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمراً لا يمنع الشركة وذاته المعينة سبحانه وتعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه فإذن جميع الأسماء المشتقة كالرحمن والرحيم والحكيم والعليم والقادر لا يتناول ذاته المخصوصة ولا يدل عليها بوجه البتة وإن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم والعلم قائم مقام الإشارة فلا فرق بين قولك يا زيد وبين قولك يا أنت ويا هو وإذا كان العلم قائماً مقام الإشارة فالعلم فرع واسم الإشارة أصل والأصل أشرف من الفرع فقولنا يا أنت يا هو أشرف من سائر الأسماء بالكلية إلا أن الفرق أن ( أنت ) لفظ يتناول الحاضر و ( هو ) يتناول الغائب وفيه سر آخر وهو أن ( هو ) إنما يصح التعبير عنه إذا حصل في العقل صورة ذلك الشيء وقولك ( هو ) يتناول تلك الصورة وهي حاضرة فقد عاد القول إلى أن ( هو ) أيضاً لا يتناول إلا الحاضر وثانيها أنا قد دللنا على أن حقيقة الحق منزهة عن جميع أنحاء التراكيب والفرد المطلق لا يمكن نعته لأن النعت يقتضي المغايرة بين الموصوف والصفة وعند حصول الغيرية لا تبقى الفردانية وأيضاً لا يمكن الإخبار عنه لأن الإخبار يقتضي مخبراً عنه ومخبراً به وذلك ينافي الفردانية فثبت أن جميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الوصول إلى كنه حقيقة الحق وأما لفظ ( هو ) فإنه يصل إلى كنه تلك الحقيقة المفردة المبرأة عن جميع جهات الكثرة فهذه اللفظة لوصولها إلى كنة الحقيقة وجب أن تكون أشرف من سائر الألفاظ
التي يمتنع وصولها إلى كنه تلك الحقيقة وثالثها أن الألفاظ المشتقة دالة على حصول صفة للذات ثم ماهيات صفة الحق أيضاً غير معلومة إلا بآثارها الظاهرة في عالم الحدوث فلا يعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي باعتباره صح منه الإحكام والإتقان ومن قدرته إلا أنها الأمر الذي باعتباره صح منه صدور الفعل والترك فإذن هذه الصفات لا يمكننا تعقلها إلا عند الالتفات إلى الأحوال المختلفة في عالم الحدوث فالألفاظ المشتقة لا تشير إلى الحق سبحانه وحده بل تشير إليه وإلى عالم الحدوث معاً والناظر إلى شيئين لا يكون مستكملاً في كل واحد منهما بل يكون ناقصاً قاصراً فإذن جميع الأسماء المشتقة لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تصير حجاباً بين العبد وبين الاستغراق في معرفة الرب وأما ( هو ) فإنه لفظ يدل عليه من حيث هو هو لا من حيث عرضت له إضافة أو نسبة بالقياس إلى عالم الحدوث فكان لفظ ( هو ) يوصلك إلى الحق ويقطعك عما سواه وما عداه من الأسماء فإنه لا يقطعك عما سواه فكان لفظ ( هو ) أشرف ورابعها أن البراهين السالفة قد دلت على أن منبع الجلال والعزة هو الذات وأن ذاته ما كملت بالصفات بل ذاته لكمالها استلزمت صفات الكمال ولفظ ( هو ) يوصلك إلى ينبوع الرحمة والعزة والعلو وهو الذات وسائر الألفاظ لا توقفك إلا في مقامات النعوت والصفات فكان لفظ ( هو ) أشرف فهذا ما خطر بالبال في الكشف عن أسرار لفظ ( هو ) وإليه الرغبة سبحانه في أن ينور بدرة من لمعات أنوارها صدورنا وأسرارنا ويروح بها عقولنا وأرواحنا حتى نتخلص من ضيق عالم الحدوث إلى فسحة معارج القدم ونرقى من حضيض ظلمة البشرية إلى سموات الأنوار وما ذلك عليه بعزيز
المسألة التاسعة قال النحويون في قوله تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ ارتفع ( هو ) لأنه بدل من موضع ( لا ) مع الاسم ولنتكلم في قوله ما جاءني رجل إلا زيد فقوله إلا زيد مرفوع على البدلية لأن البدلية هي الإعراض عن الأول والأخذ بالثاني فكأنك قلت ما جاءني إلا زيد وهذا معقول لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل إلا عن زيد أما قوله جاءني إلا زيداً فههنا البدلية غير ممكنة لأنه يصير في التقدير جاءني خلق إلا زيداً وذلك يقتضي أنه جاء كل أحد إلا زيداً وذلك محال فظهر الفرق والله أعلم
أما ( الرحمن الرحيم ) فقد تقدم القول في تفسيرهما وبينا أن الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة وفاعلها هو الراحم فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا ( رحيم ) وإذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا الرَّحْمَنُ
واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة ٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بالفردانية والوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولاً وعلى توحيده وبراءته على الأضداد والأنداد ثانياً وقبل الخوض في شرح تلكم الدلائل لا بد من بيان مسائل
المسألة الأولى وهي أن الناس اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره فقال عالم من الناس الخلق هو المخلوق واحتجوا عليه بالآية والمعقول أما الآية فهي هذه الآية وذلك لأنه تعالى قال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلى قول لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ومعلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق وأما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور أحدها أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود فهذا الإخراج لو كان أمراً مغايراً للقدرة والأثر فهو إما أن يكون قديماً أو حديثاً فإن كان قديماً فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم والأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين وهو محال وإن كان محدثاً فلا بد له أيضاً من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر والكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل وثانيها أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجاً للأشياء من عدمها إلى وجودها ثم في الأزل هل أحدث أمراً أو لم يحدث فإن أحدث أمراً فذلك الأمر الحادث هو المخلوق وإن لم يحدث أمراً فالله تعالى قط لم يخلق شيئاً وثالثها أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر وذات الأثر والنسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل وإن كانت قديمة كانت من لوازم ذات الله تعالى وحصول الأثر إما في الحال أو في الإستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة ولازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات الله تعالى فلا يكون الله تعالى قادراً مختاراً بل ملجأ مضطراً إلى ذلك التأثير فيكون علة موجبة وذلك كفر
واحتج القائلون بأن الخلق غير المخلوق بوجوه أولها أن قالوا لا نزاع في أن الله تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء والخالق هو الموصوف بالخلق فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى
موصوفاً بالمخلوقات التي منها الشياطين والأبالسة والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل وثانيها أنا إذا رأينا حادثاً حدث بعد أن لم يكن قلنا لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن الله تعالى خلقه وأوجده قبلنا ذلك وقلنا إن حق وصواب ولو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ وكفر ومتناقض فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن الله تعالى خلقه ولم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه علمنا أن خلق الله تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه فالخلق غير المخلوق وثالثها أنا نعرف أفعال العباد ونعرف الله تعالى وقدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة الله أم هو قدرة العبد والمعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة ولنفس ذلك المقدور ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر وهو المطلوب ورابعها أن النحاة قالوا إذ قلنا خلق الله العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به وذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم وخامسها أنه يصح أن يقال خلق السواد وخلق البياض وخلق الجوهر وخلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر وخالقية العرض ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة
المسألة الثانية قال أبو مسلم رحمه الله أصل الخلق في كلام العرب التقدير وصار ذلك اسماً لأفعال الله تعالى لما كان جميعها صواباً قال تعالى وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 ) ويقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية وأن التقليد ليس طريقاً ألبتة إلى تحصيل هذا الغرض
المسألة الرابعة ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية عن عطاء أنه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( البقرة 163 ) فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد فأنزل الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وعن سعيد بن مسروق اقل سألت قريش اليهود فقالوا حدثونا عما جاءكم به موسى من الأيات فحدثوهم بالعصا وباليد البيضاء وسألوا النصارى عن ذلك فحدثوهم بإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى فقالت قريش عند ذلك للنبي عليه السلام ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنزداد يقيناً وقوة على عدونا فسأل ربه ذلك فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ولكن إن كذبوا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فقال عليه السلام ( ذرني وقومي أدعوهم يوماً فيوماً ) فأنزل الله تعالى هذه الآية مبيناً لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهباً ليزدادوا يقيناً فخلق السموات والأرض وسائر ما ذكر أعظم
واعلم أن الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام
القسم الأول في تفصيل القول في كل واحد منها فالنوع الأول من الدلائل الاستدلال بأحوال السموات وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في تفسير قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 22 ) ولنذكر ههنا نمطاً آخر من الكلام
روي أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري فقال بعض الفقهاء يوماً ما الذي تقرؤنه فقال أفسر آية من القرآن وهي قوله تعالى أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ ( ق 6 ) فأنا أفسر كيفية بنيانها ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته فنقول الكلام في أحوال السموات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول
الفصل الأول
في ترتيب الأفلاك
قالوا أقر بها إلينا كرة القمر وفوقها كرة عطارد ثم كرة الزهرة ثم كرة الشمس ثم كرة المريخ ثم كرة المشتري ثم كرة زحل ثم كرة الثوابت ثم الفلك الأعظم
واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثاً
البحث الأول ذكروا في طريق معرفة هذا الترتيب ثلاثة أوجه الأول السير وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يبصران ككوكب واحد ويتميز السائر عن المستور بلونه الغالب كصفرة عطارد وبياض الزهرة وحمرة المريخ ودرية المشتري وكمودة زحل ثم إن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة وكثيراً من الثوابت في طريقه في ممر البروج وكوكب عطارد يكسف الزهرة والزهرة تكسف المريخ وعلى هذا الترتيب فهذا الطريق يدل على كون القمر تحت الشمس لانكسافها به لكن لا يدل على كون الشمس فوق سائر الكواكب أو تحتها لأن الشمس لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال أضوائها في ضوء الشمس فسقط هذا الطريق بالنسبة إلى الشمس الثاني اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل وأما في حق الشمس فقليل جداً فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين وهذا الطريق بين جداً لمن اعتبر اختلاف منظر الكواكب وشاهده على الوجه الذي حكيناه فأما من لم يمارسه فإنه يكون مقلداً فيه لا سيما وأن أبا الريحان وهو أستاذ هذه الصناعة ذكر في تلخيصه لفصول الفرغاني أن اختلاف المنظر لا يحس به إلا في القمر الثالث قال بطليموس إن زحل والمشتري والمريخ تبعد عن الشمس في جميع الأبعاد وأما عطارد والزهرة فإنهما لا يبعدان عن الشمس بعد التسديس فضلاً عن سائر الأبعاد فوجب كون الشمس متوسطة بين القسمين وهذا الدليل ضعيف فإنه منقوض بالقمر فإنه يبعد عن الشمس كل الأبعاد مع أنه تحت الكل
البحث الثاني في أعداد الأفلاك قالوا إنها تسعة فقط والحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها فأما ما عداها فلما لم يدل الرصد عليه لا جرم ما جزمنا بثبوتها ولا بانتفائها وذكر ابن سينا في الشفاء أنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطبق بعضها على بعض وأقول هذا الإحتمال واقع لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال إن حركاتها متساوية وإذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة والمقدمتان ضعيفتان
أما المقدمة الأولى فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة لا شك أن حصة كل يوم بل كل سنة بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت
وأما المقدمة الثانية وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واحتجوا من وجوه الأول أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم فإن بطليموس وجده ( كج نا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كج له ) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب وثانيها أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله وثانيهما قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام أن السبب فيه انتقال فلك البروج وارتفاع قطبيه وانحطاطه وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل وثالثها أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه
البحث الثالث احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة
فقالوا شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ثم قالوا إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت والكاسف تحت المكسوف فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت
وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك وثانيها سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت وثالثها هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل والأخرى دون كرة القمر وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي
البحث الرابع زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية
واعلم أن هذا أيضاً ضعيف فلم لا يجوز أن يقال إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية فهذا الاحتمال واقع وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان الأول وهو برهاني أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين والحركة
إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية وهم لا يرضون بذلك الثاني أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم ونهاية السكون حاصلة للأرض والأقرب إلى العقول أن يقال كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة فلا جرم يتمم دوره في كل شهر ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك فلا جرم كانت في نهاية السكون فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها
الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك
القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين أحداهما أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة وأنها لا تبطىء مرة وتسرع أخرى وليس لها رجوع عن متوجهاتها والثانية أن الكواكب لا تتحرك بذاتها بل بتحرك الفلك ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون فإن كان مركزه مركز الأرض فإما أن يكون الكوكب مركوزاً في ثخنه أو مركوزاً في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض وأن يختلف قطعه للقسى من ذلك الفلك والأعراض الإختلاف في حركة الفلك أو حركة الكوكب وقد فرضنا أنهما لا يوجدان ألبتة فبقي القسمان الآخران أحدهما أن يكون الكوكب مركوزاً في جرم كري مستدير الحركة مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والإستقامة وتارة بالصغر والكبر في المنظر وإما أن يكون الفلك الميحط بالأرض ليس مركزه موافقاً لمركز الأرض فهو الفلك الخارج المركز ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف وفي نصفه الآخر أقل من النصف فلا جرم يحصل بسببه القرب والبعد من الأرض وأن يقطع أحد نصفي فلك البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها وسرعتها وبطئها وقربها وبعدها من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين أعني التدوير والفلك الخارج المركز
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل قولهم في الأفلاك فقالوا هذه الأفلاك التسعة منها ما هو كرة
واحدة وهو الفلك الأعظم وفلك الثوابت ومنها ما ينقسم إلى كرتين وهو فلك الشمس وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض وهو البعد الأقرب منه وهما في الحقيقة فلك واحد منفصل عنه فلك آخر إلا أنه يقال فلكان توسعا ويسمى المنفصل عنه الفلك الممثل والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه ومنها ما ينقسم إلى ثلاث أكر وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس وفلكاً آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى فلك التدوير والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ويسمى الخارج المركز الفلك الحامل ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر وهو فلك عطارد والقمر أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجاً عن المركزين وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير والمنفصل الفلك الحامل ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الفلك المثل والصغرى الفلك المائل وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان متممين لذلك الفلك المنفصل وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها
الفصل الثالث
في مقادير الحركات
قال الجمهور إن جميع الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق سوى الفلك الأعظم والمدير لعطارد والفلك الممثل والمائل والمدير للقمر فالحركة الشرقية تسمى الحركة إلى التوالي والغربية إلى خلاف التوالي والفلك الأعظم يتحرك حركة سريعة في كل يوم بليلته دورة واحدة على قطبين يسميان قطبي العالم ويحرك جميع الأفلاك والكواكب وبهذه الحركة يقع للكواكب الطلوع والغروب وتسمى الحركة الأولى وفلك الثوابت يتحرك حركة بطيئة في كل ست وستين سنة عند المتأخرين درجة واحدة على قطبين يسميان قطبي فلك البروج وهما يدوران حول قطبي العالم بالحركة الأولى وتتحرك على وفق هذه الحركة جميع الأفلاك المتحركة وبهذه الحركة تنتقل الأوجات عن موضعها من فلك البروج وتسمى الحركة الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت والثوابت إنما سميت ثوابت لأسباب أحدها كونها بطيئة لأنها بإزاء السيارة تشبه الساكنة
وثانيها السيارة تتحرك إليها وهي لا تتحرك إلى السيارة فكأن الثوابت ثابتة لانتظارها وثالثها عروضها ثابتة على مقدار واحد لا يتغير ورابعها أبعاد ما بينها ثابتة على حال واحد لا تتغير الصورة المتوهمة عليها من الصور الثماني والأربعين وخامسها الأزمنة عند أكثر عوام الأمم منوطة بطلوعها وأفولها بحيث لا يتفاوت إلا في القرون والأحقاب
وأما الأفلاك الخارجة المركز فإنها تتحرك في كل يوم هكذا زحل ( ب أ ) المشتري ( دنط ) المريخ بدلالة الشمس ( لاكر ) الزهرة ( نط ج ) عطارد ( نط ح ) والقمر ( يج يج مو ) وتسمى حركة المركز وحركة الوسط وهي حركات مراكز أفلاك التداوير ومركز الشمس والأفلاك التداوير تتحرك بهذا المقدار زحل ( نرح ) المشتري ( ند ط ) المريخ ( كرمب ) الزهرة ( لونط ) عطارد ( ج وكد ) القمر ( يج ج ند ) وتسمى الحركة الخاصة وحركة الاختلاف وهي حركات مراكز الكواكب واعلم أن بسبب هذه الحركات المختلفة يعرض لهذه الكواكب أحوال مختلفة أحدها أنه يحصل للقمر مثلاً أبعاد مختلفة غير مضبوطة بالنسبة إلى هذا العالم والأنواع المضبوطة منها أربعة الأول أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز ويقال له البعد الأقرب وهو الثلاث وثلاثون مرة مثل نصف قطر الأرض بالتقريب الثاني أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأقرب للأبعد وهو ثلاث وأربعون مرة مثل نصف قطر الأرض الثالث أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد للأقرب وهو أربعة وخمسون مرة مثل نصف قطر الأرض الرابع أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد وهو أربعة وستون مرة مثل نصف قطر الأرض ثم إن ما بين هذه النقط الأربعة الأحوال مختلفة على ما أتى على شرحها أبو الريحان وثانيها أن جميع الكواكب مرتبطة بالشمس ارتباطاً ما فأما العلوية فإن بعد مراكزها عن ذرى أفلاك تداويرها أبداً تكون بمقدار بعد مركز الشمس عن مراكز تداويرها وحينئذ تكون محترقة ومتى كانت في الحضيض كانت في مقابلتها وحينئذ تكون مقابلة للشمس وذلك يقارن الشمس في منتصف الاستقامة ويقابلها في منتصف الرجوع وقيل إن نصف قطر فلك تدوير المريخ أعظم من نصف قطر فلك ممثل الشمس فيلزم أنه إذا كان مقارناً للشمس يكون بعد مركزه عن مركز الشمس أعظم منه إذا كان مقابلاً لها وأما السلفيات فإن مراكز أفلاك تدويرها أبداً يكون مقارناً للشمس فيلزم أن تقارن الشمس الذروة والحضيض في منتصفي الاستقامة والرجوع غاية بعد كل واحد منهما عن الشمس بمقدار نصف قطر فلك تدويرهما وهو للزهرة ( مه ) ولعطارد ( كه ) بالتقريب وأما القمر فإن مركز الشمس أبداً يكون متوسطاً بين بعده الأبعد وبين مركز تدويره ولذلك يقال لبعدمركز تدويره عن البعد الأبعد البعد المضاعف لأنه ضعف بعد مركز تدويره من الشمس فلزم أنه متى كان مركز تدويره في البعد الأبعد فإما أن يكون مقابلاً للشمس أو مقارناً لها ومتى كان في البعد الأقرب تكون الشمس في تربيعه فلذلك يكون اجتماعه واستقباله في البعد الأبعد وتربيعه مع الشمس في الأقرب
أما المقدمة الأولى فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة لا شك أن حصة كل يوم بل كل سنة بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت
وأما المقدمة الثانية وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واحتجوا من وجوه الأول أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم فإن بطليموس وجده ( كج نا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كج له ) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب وثانيها أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله وثانيهما قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام أن السبب فيه انتقال فلك البروج وارتفاع قطبيه وانحطاطه وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل وثالثها أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه
البحث الثالث احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة فقالوا شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ثم قالوا إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت والكاسف تحت المكسوف فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت
وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك وثانيها سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت وثالثها هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل والأخرى دون كرة القمر وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي
البحث الرابع زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية
واعلم أن هذا أيضاً ضعيف فلم لا يجوز أن يقال إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية فهذا الاحتمال واقع وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان الأول وهو برهاني أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين والحركة إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية وهم لا يرضون بذلك الثاني أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم ونهاية السكون حاصلة للأرض والأقرب إلى العقول أن يقال كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة فلا جرم يتمم دوره في كل شهر ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك فلا جرم كانت في نهاية السكون فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها
الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك
الفصل الرابع
في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع
وهي من وجوه أحدها النظر إلى مقادير هذه الأفلاك فإنها مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية اختص كل واحد منها بمقدار خاص مع أنه لا يمتنع في العقل وقوعها على أزيد من ذلك المقدار أو أنقص منه بذرة فلما قضى صريح العقل بأن المقادير بأسرها على السوية قضى بافتقارها في مقاديرها إلى مخصص مدبر وثانيها النظر إلى أحيازها فإن كل فلك مماس بمحدبه فلكاً آخر فوقه وبمقعره فلكاً آخر تحته ثم ذلك الفلك إما أن يكون متشابه الأجزاء أو ينتهي بالآخرة إلى جسم متشابه الأجزاء وذلك الجسم المتشابه الأجزاء لا بد وأن تكون طبيعة كل واحد من طرفيه مساوية لطبيعة طرفه الآخر فكما صح على محدبه أن يلقى جسماً وجب أن يصح على مقعره أن يلقى ذلك الجسم ومتى كان كذلك صح أن العالي يمكن وقوعه سافلاً والسافل يمكن وقوعه عالياً ومتى كان كذلك كان اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين أمراً جائزاً يقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى وثالثها أن كل كوكب حصل في مقعره اختص به أحد جوانب ذلك الفلك دون سائر الجوانب ثم إن ذلك الموضع المنتفي من ذلك الفلك مساو لسائر جوانبه لأن الفلك عنده جسم متشابه الأجزاء فاختصاص ذلك المقعر بذلك الكوكب دون سائر الجوانب يكون أمراً ممكناً جائزاً فيقضي العقل بافتقاره إلى المخصص ورابعها أن كل كرة فإنها تدور على قطبين معينين وإذا كان الفلك متشابه الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية وجميع الدوائر المفترضة عليه أيضاً متساوية فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمراً جائراً فيقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى وهكذا القول في تعين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة وخامسها أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة فانظر إلى الفلك الأعظم مع نهاية اتساعه وعظمه ثم إنه يدور دورة تامة في اليوم والليلة والفلك الثامن الذي هو أصغر منه لا يدور الدورة التامة إلا في ستة وثلاثين سنة على ما هو قول الجمهور ثم إن الفلك السابع الذي تحته يدور في ثلاثين سنة فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا لمخصص والعقل يقضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير العزيز العليم وسادسها أن الفلك الممثل إذا انفصل عنه الفلك الخارج المركز بقي متممان أحدهما من الخارج والآخر من الداخل وأنه جرم متشابه الطبيعة ثم اختص أحد جوانبهما بغاية الثخن والآخر بغاية الرقة بالنسبة وإذا كان كذلك وجب أن يكون نسبة ذلك الثخن والرقة إلى طبيعته على السوية فاختصاص أحد جانبيه بالرقة والآخر بالثخن لا بد وأن يكون بتخصيص المخصص المختار
وسابعها أنها مختلف في جهات الحركات فبعضها من المشرق إلى المغرب وبعضها من المغرب إلى المشرق وبعضها شمالية وبعضها جنوبية مع أن جميع الجهات بالنسبة إليها على السوية فلا بد من الإفتقار إلى المدبر وثامنها أنا نراها الآن متحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلاً متحركة أو ما كانت متحركة ثم ابتدأت بالحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلاً متحركة لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة والأزل ينافي المسبوقية بالغير فالجمع بين الحركة والأزلية محال وإن قلنا إنها ما كانت متحركة أزلاً سواء قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة موجودة أو كانت ساكنة أو قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة معدومة أصلاً فالإبتداء بالحركة بعد عدم الحركة يقتضي الإفتقار إلى مدبر قديم سبحانه وتعالى ليحركها بعد أن كانت معدومة أو بعد أن كانت ساكنة وهذا المأخذ أحسن المآخذ وأقواها وتاسعها أن يقال إن حركاتها إما أن تكون من لوازم جسمانيتها المعينة لكنا نرى جسمانياتها المعينة منفكة عن كل واحد من أجزاء تلك الحركة فإذن كل واحد من أجزاء حركته ليس من لوازمه فافتقرت الأفلاك في حركاتها إلى محرك من خارج وذلك هو محرك المتحركات ومدبر الثوابت والسيارات وهو الحق سبحانه وتعالى وعاشرها أن هذا الترتيب العجيب في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركاتها أترى أنها مبنية على حكمة أم هي واقعة بالجزاف والعبث أما القسم الثاني فباطل وبعيد عن العقل فإن جوز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما لبنات ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال فإنه يقضي عليه بالجنون ونحن نعلم أن تركيب هذه الأفلاك وما فيها من الكوكب وما لها من الحركات ليس أقل من ذلك البناء فثبت أنه لا بد فيها من رعاية حكمة ثم لا يخلو إما أن يقال إنها أحياء ناطقة فهي تتحرك بأنفسها أو يقال إنه يحركها مدبر قاهر والأول باطل لأن حركتها إما أن تكون لطلب استكمالها أو لا لهذا الغرض فإن كانت طالبة بحركتها لتحصيل كمال فهي ناقصة في ذواتها طالبة للاستكمال أو لا لهذا الغرض والناقص بذاته لا بد له من مكمل فهي مفتقرة محتاجة وإن لم تكن طالبة بحركتها للاستكمال فهي عابثة في أفعالها فيعود الأمر إلى أنه يبعد في العقول أن يكون مدار هذه الأجرام المستعظمة والحركات الدائمة على العبث والسفه فلم يبق في العقول قسم هو الأليق بالذهاب إليه إلا أن مدبراً قاهراً غالباً على الدهر والزمان يحركها لأسرار مخفية ولحكم لطيفة هو المستأثر بها والمطلع عليها وليس عندنا إلا الإيمان بها على الإجمال على ما قال جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 )
والحادي عشر أنا نراها مختلفة في الألوان مثل صفرة عطارد وبياض الزهرة وضوء الشمس وحمرة المريخ ودرية المشتري وكمودة زحل واختلاف كل واحد من الكواكب الثابتة بعظم خاص ولون خاص وتركيب خاص ونراها أيضاً مختلفة بالسعادة والنحوسة ونرى أعلى الكواكب السيارة أنحسها ونرى ما دونها أسعدها ونرى سلطان الكواكب سعيداً في بعض الاتصالات تحسساً في بعض ونراها مختلفة في الوجوه والخدود واللثات والذكورة والأنوثة وكون بعضها نهارياً وليلياً وسائراً وراجعاً ومستقيماً وصاعداً وهابطاً مع
اشتراكها بأسرها في الشفافية والصفاء والنقاء في الجوهر فيقضي العقل بأن اختصاص كل واحد منها بما اختص به لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص
والثاني عشر وهو أن هذه الكواكب وكان لها تأثير في هذا العالم فهي إما أن تكون متدافعة أو متعاونة أو لا متدافعة ولا متعاونة فإن كانت متدافعة فإما أن يكون بعضها أقوى من بعض أو تكون متساوية في القوة وإن كان بعضها أقوى من بعض كان القوي غالباً أبداً والضعيف مغلوباً أبداً فوجب أن تستمر أحوال العالم على طبيعة ذلك الكوكب لكنه ليس الأمر كذلك وإن كانت متساوية في القوة وهي متدافعة وجب تعذر الفعل عليها بأسرها فتكون الأفعال الظاهرة في العالم صادرة عن غيرها فلا يكون مدبر العالم هو هذه الكواكب بل غيرها وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم على حالة واحدة من غير تغير أصلاً وإن كانت تارة متعاونة وتارة متدافعة كان انتقالها من المحبة إلى البغضة وبالعكس تغيراً لها في صفاتها فتكون هي مفتقرة في تلك التغيرات إلى الصانع المستولي عليها بالقهر والتسخير
والثالث عشر أنها أجسام وكل جسم مركب وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل جسم هو مفتقر إلى غيره ممكن وكل ممكن مفتقر إلى غيره ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مؤثر فافتقاره إلى مؤثره إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه أو حال عدمه والأول باطل لأنه يقتضي إيجاد الموجود وهو محال فبقي القسمان الآخران وهما يقتضيان الحدوث الدال على وجود الصانع
والرابع عشر أن الأجسام متساوية في الجسمية لأنه يصح تقسيم الجسم إلى الفلكي والعنصري والكثيف واللطيف والحار والبارد والرطب واليابس ومورد التقسيم مشترك بين كل الأجسام فالجسمية قدر مشترك بين هذه الصفات والأمور المتساوية في الماهية يجب أن تكون متساوية في قالمية الصفات فإذن كل ما صح على جسم صح على غيره فإذن اختصاص كل جسم بما اختص به من المقدار والوضع والشكل والطبع والصفة لا بد وأن يكون من الجائزات وذلك يقضي بالافتقار إلى الصانع القديم جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السموات والأرض على إثبات الصانع وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 )
النوع الثاني من الدلائل أحوال الأرض وفيه فصلان
الفصل الأول
في بيان أحوال الأرض
اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسباباً
السبب الأول اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك وهي أقسام
القسم الأول المواضع العديمة العرض وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين وتكون حركة الفلك دولابية
ولم يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره ولم يتصور كوكب أبدي الظهور ولا أبدي الخفاء بل يكون لكل نقطة سوى القطبين طلوع وغروب ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين وذلك عند بلوغ قطبية دائرة الأفق وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة وذلك عند بلوغها نقطتي الإعتدالين
القسم الثاني المواضع التي لها عرض فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل وفي الجنوبية بالخلاف وتصير الحركة ههنا حمائلية ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره إلا ما كان في معدل النهار وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع
القسم الثالث وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الإنقلاب الصيفي
القسم الرابع وهو أن يزداد العرض على ذلك وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور والآخر أبدي الخفاء
القسم الخامس أن يصير العرض مثل تمام الميل وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي لكنهما يماسان الأفق وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق ثم يطلع من أول الجدي إلى أول السرطان دفعة ويغرب مقابله كذلك ثم تأخذ البروج الطالعة في الغروب والغاربة في الطلوع إلى أن تعود الحالة المتقدمة وينعدم الليل هناك في الإنقلاب الصيفي والنهار في الشتوي
القسم السادس أن يزداد العرض على ذلك فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي بحيث يكون المنقلب في وسطها ومدة قطع الشمس إياها يكون نهاراً ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلاً ويعرض هناك لبعض البروج نكوس فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال ونقطة الإعتدال الربيعي على أفق المشرق فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء والجوزاء قبل الثور والثور قبل الحمل ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك
القسم السابع أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة فيكون هناك معدل النهار منطبقاً على الأفق وتصير الحركة رحوية ويبطل الطلوع والغروب أصلاً ويكون النصف الشمالي في فلك البروج أبدي الظهور والنصف الجنوبي أبدي الخفاء ويصير نصف السنة ليلاً ونصفها نهاراً
السبب الثاني لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة اعلم أن خط الاستواء يقطع
الأرض نصفين شمالي وجنوبي فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على زوايا قائمة انقسمت كرة الأرض بهما أرباعاً والذي وجد معموراً من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز ويقال والله أعلم أن ثلاثة الأرباع ماء فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الإستواء يسمى قبة الأرض ويحكى عن الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين فتسمى لأجلها قبة ثم وجد طول العمارة قريباً من نصف الدور وهو كالمجمع عليه واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب إلا أنهم اختلفوا في التعيين فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانوس وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى جزائر الخالدات زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الإنتهاء أيضاً ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الإستواء إلا أن بطليموس زعم أن وراء خط الإستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة فيكون عرض العمارة قريباً من اثنتين وثمانين درجة ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الإستواء وهي التي تسمى الأقاليم وابتداؤه من خط الإستواء وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الإستواء وآخر الأقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم لقلة ما وجدوا فيه من العمارة
السبب الثالث لاختلاف أحوال الأرض كون بعضها برياً وبحرياً وسهلياً وجبلياً وصخرياً ورملياً وفي غور وعلى نجد ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافاً شديداً وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 22 ) ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولاً وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضاً فنقول طول الأرض إما أن يكون مستقيماً أو مقعراً أو محدباً والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئاً دفعة واحدة عند طلوع الشمس ولصار جميعه مظلماً دفعة واحدة عند غيبتها لكن ليس الأمر كذلك لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفاً واحداً بعينه واعتبرنا معه حالاً مضبوطاً من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي والثاني أيضاً باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولاً ثم في شرقه ثانياً ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب ثم هذا المحدب إما أن يكون كرياً أو عدسياً والثاني باطل لأنا نجد التفاوت بين أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة حتى أن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار فثبت أنها كرة في الطول فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحاً أو مقعراً أو محدباً والأول باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها والثاني أيضاً باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك المقعر ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية
الحجة الثانية ظل الأرض مستدير فوجب كون الأرض مستديرة
بيان الأول أن انخساف القمر نفس ظل الأرض لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ثم نقول وانخساف القمر مستدير لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديراً وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها وبين القطعة المظلمة منها فإذا كان الظل مستديراً وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديراً فثبت أن الأرض مستديرة ثم إن هذا الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج مع أن شكل الخسوف أبداً على الاستدارة فإذن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب
الحجة الثالثة أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل كرة واحتج من قدح في كرية الأرض بأمرين أحدهما أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها متطبقاً على مركز العالم ولو كان كذلك لكان الماء محيطاً بها من كل الجوانب لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطاً بكل الأرض الثاني ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جداً
أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقراً للحيوانات وأيضاً لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء
وعن الثاني أن هذه التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة قالوا لو اتخذنا كرة من خشب قطرها ذراع مثلاً ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة
الفصل الثاني
في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع
اعلم أن الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع أسهل من الاستدلال بأحوال السموات على ذلك وذلك لأن الخصم يدعى أن اتصاف السموات بمقاديرها وأحيازها وأوضاعها أمر واجب لذاته ممتنع التغير فيستغني عن المؤثر فيحتاج في إبطال ذلك إلى إقامة الدلالة على تماثل الأجسام الأرضية فإنا نشاهد تغيرها في جميع صفاتها أعني حصولها في أحيازها وألوانها وطعومها وطباعها ونشاهد أن كل واحد من أجزاء الجبال والصخور الصم يمكن كسرها وإزالتها عن مواضعها وجعل العالي سافلاً والسافل عالياً وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن اختصاص كل واحد من أجزاء الأرض بما هو عليه من المكان والحيز والمماسة والقرب من بعض الأجسام والبعد من بعضها يمكن التغير والتبدل وإذا ثبت أن اتصاف تلك الأجرام بصفاتها
أمر جائز وجب افتقارها في ذلك الاختصاص إلى مدبر قديم عليم سبحانه وتعالى عن قول الظالمين وإذا عرفت مأخذ الكلام سهل عليك التفريع
النوع الثالث من الدلائل اختلاف الليل والنهار وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا للاختلاف تفسيرين أحدها أنه افتعال من قولهم خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء ومنه يقال فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده فذهابه يخلف مجيئه ومجيئه يخلف ذهابه وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه وبهذا فسر قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً ( الفرقان 62 ) والثاني أراد اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان قال الكسائي يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان
وعندي فيه وجه ثالث وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة فهما يختلفان بالأمكنة فإن عند من يقول الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك لساعة في موضع من الأرض صبح وفي موضع آخر ظهر وفي موضع ثالث عصر وفي رابع مغرب وفي خامس عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال أما البلاد المختلفة بالعرض فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع فقال في بيان كونه مالك الملك يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ( الحديد 6 ) وقال في القصص قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( القصص 71 73 ) وفي الروم وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( الروم 23 ) وفي لقمان أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ ( لقمان 29 ) وفي الملائكة يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ( فاطر 13 ) وفي يس وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ( ي س 37 ) وفي الزمر يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى ( غافر 5 ) وفي حم غافر اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( غافر 62 ) وفي عم وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) والآيات من هذا الجنس كثيرة وتحقيق الكلام أن يقال إن اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه الأول أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس وهي من الأيات العظام الثاني ما يحصل بسبب طول الأيام تارة وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء وهو من الآيات العظام الثالث أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام الرابع أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل
مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح الخامس أن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى في الصور وتقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية وهذا أيضاً من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام السادس أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي وهو المراد بقوله تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الأنعام 96 ) السابع أن تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهاراً وستة أشهر ليلاً وهناك لا يتم النضج ولايصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة الثامن أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام وإن قلنا الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المحرك لأجرام السموات ملك عظيم الجثة والقوة وحينئذ لا يكون اختلاف الليل والنهار دليلاً على أنه الصانع قلنا أما على قولنا فلما دل الدليل على أن قدرة العبد غير صالحة للإيجاد فقد زال السؤال وأما على قول المعتزلة فقد نفى أبو هاشم هذا الاحتمال بالسمع
النوع الرابع من الدلائل قوله تعالى وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ( البقرة 164 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك وفلك السماء اسم لا طواق سبعة تجري فيها النجوم وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وفلكة المغزل من هذا والسفينة سميت فلكاً لأنها تدور بالماء أسهل دوران قال والفلك واحد وجمع فإذا أراد بها الواحد ذكر وإذا أريد به الجمع أنث ومثاله قولهم ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص قال سيبويه الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى
المسألة الثانية قال الليث سمي البحر بحراً لاستبحاره وهو سعته وانبساطه ويقال استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وتبحر فلان في المال وقال غيره سمي البحر بحراً لأنه شق في الأرض والبحر الشق ومنه البحيرة
المسألة الثالثة ذكر الجبائي وغيره من العلماء بمواضع البحور أن البحور المعروفة خمسة أحدها بحر الهند وهو الذي يقال له أيضاً بحر الصين والثاني بحر المغرب والثالث بحر الشام والروم ومصر والرابع بحر نيطش والخامس بحر جرجان
فأما بحر الهند فإنه يمتد طوله من المغرب إلى المشرق من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى
أرض الهند والصين يكون مقدار ذلك ثمانمائة ألف ميل وعرضه ألفي وسبعمائة ميل ويجاوز خط الإستواء ألفاً وسبعمائة ميل وخلجان هذا البحر الأول خليج عند أرض الحبشة ويمتد إلى ناحية البربر ويسمى الخليج البربري طول مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل والثاني خليج بحر أيلة وهو بحر القلزم طوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه سبعمائة ميل ومنتهاه إلى البحر الذي يسمى البحر الأخضر وعلى طرفه القلزم فلذلك سمي به وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن وعلى غربيه أرض الحبشة الثالث خليج بحر أرض فارس ويسمى الخليج الفارسي وهو بحر البصرة وفارس الذي على شرقيه تيز ومكران وعلى غربيه عمان طوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه خمسماية ميل وبين هذين الخليجين أعني خليج أيلة وخليج فارس أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب فيما بين مسافة ألف وخمسائة ميل الرابع يخرج منه خليج آخر إلى أقصى بلاد الهند ويسمى الخليج الأخضر طوله ألف وخمسمائة ميل قالوا وفي جزيرة بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها جزيرة ضخمة في أقصى البحر مقابل أرض الهند في ناحية المشرق عند بلاد الصين وهي سرنديب يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن عامرة وقرى كثيرة ومن جزائر هذا البحر جزيرة كله التي يجلب منها الرصاص القلعي وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور
وأما بحر المغرب فهو الذي يسمى بالمحيط وتسميه اليونانيون أوقيانوس ويتصل به بحر الهند ولا يعرف طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال عند محاذاة أرض الروس والصقالبة فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب محاذياً لأرض السودان ماراً على حدود السوس الأقصى وطنجة وتاهرت ثم الأندلس والجلالقة والصقالبة ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق وهذا البحر لا تجري فيه السفن وإنما تسلك بالقرب من سواحله وفيه ست جزائر مقابل أرض الحبشة تسمى جزائر الخالدات ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالبة ويمتد هذا الخليج إلى أرض بلغار المسلمين طوله من المشرق إلى المغرب ثلثمائة ميل وعرضه مائة ميل
وأما بحر الروم وأفريقية ومصر والشام فطوله مقدار خمسة آلاف ميل وعرضه ستمائة ميل ويخرج منه خليج إلى ناحية الشمال قريب من الرومية طوله خمسمائة ميل وعرضه ستمائة ويخرج منه خليج آخر إلى أرض سرين طوله مائتا ميل وفي هذا البحر مائة واثنتان وستون جزيرة عامرة منها خمسون جزيرة عظام
وأما بحر نيطش فإنه يمتد من اللاذقية إلى خلف قسطنطينية في أرض الروس والصقالبة طوله ألف وثلثمائة ميل وعرضه ثلثمائة ميل
وأما بحر جرجان فطوله من المغرب إلى المشرق ثلثمائة ميل وعرضه ستمائة ميل وفيه جزيرتان كانتا عامرتين فيمن مضى من الزمان ويعرف هذا البحر ببحر آبسكون لأنها على فرضته ثم يمتد إلى طبرستان والديلم والنهروان وباب الأبواب وناحية أران وليس يتصل ببحر آخر فهذه هي البحور العظام وأما غيرها فبحيرات وبطائح كبحيرة خوارزم وبحيرة طبرية
وحكي عن أرسطاطاليس أن بحر أوقيانوس ميحط بالأرض بمنزلة المنطقة لها فهذا هو الكلام المختصر في أمر البحور
المسألة الرابعة في كيفية الإستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى وتقدس وهي من وجوه أحدها أن السفن وإن كانت من تركيب الناس إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك وثانيها لولا الرياح المعينة على تحريكها لما تكامل النفع بها وثالثها لولا هذه الرياح وعدم عصفها لما بقيت ولما سلمت ورابعها لولا تقوية قلوب من يركب هذه السفن لما تم الغرض فصيرها الله تعالى من هذه الوجوه مصلحة للعباد وطريقاً لمنافعهم وتجاراتهم وخامسها أنه خص كل طرف من أطراف العالم بشيء معين وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعياً يدعوهم إلى اقتحامهم هذه الأخطار في هذه الأسفار ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه لما ارتكبوا هذه السفن فالحامل ينتفع به لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه وسادسها تسخير الله البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان البحر إذا هاج وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح فاضطربت أمواجه وتقلبت مياهه وسابعها أن الأودية العظام مثل جيحون وسيحون تنصب أبداً إلى بحيرة خوارزم على صغرها ثم إن بحيرة خوارزم لا تزداد ألبتة ولا تمتد فالحق سبحانه وتعالى هو العالم بكيفية حال هذه المياه العظيمة التي تنصب فيها وثامنها ما في البحار من الحيوانات العظيمة ثم إن الله تعالى يخلص السفن عنها ويوصلها إلى سواحل السلامة وتاسعها ما في البحار من هذا الأمر العجيب وهو قوله تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 19 20 ) وقال هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ( فاطر 12 ) ثم إنه تعالى بقدرته يحفظ البعض عن الإختلاط بالبعض وكل ذلك مما يرشد العقول والألباب إلى افتقارها إلى مدبر يدبرها ومقدر يحفظها
المسألة الخامسة دل قوله على صفة الفلك بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ على إباحة ركوبها وعلى إباحة الاكتساب والتجارة وعلى الانتفاع باللذات
النوع الخامس قوله تعالى وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( البقرة 164 )
واعلم أن دلالته على الصانع من وجوه أحدها أن تلك الأجسام وما قام بها من صفات الرقة والرطوبة والعذوبة ولا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى قال سبحانه قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( الملك 30 ) وثانيها أنه تعالى جعله سبباً لحياة الإنسان ولأكثر منافعه قال تعالى أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 68 69 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنبياء 30 ) وثالثها أنه تعالى كما جعله سبباً لحياة الإنسان جعله سبباً لرزقه قال تعالى وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( الذاريات 22 ) ورابعها أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام وخامسها أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدراً بمقدار النفع من الآيات العظام قال تعالى حكاية عن نوح فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً ( نوح 10 11 )
وسادسها ما قال فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( فاطر 9 ) وقال وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( الحج 5 ) فإن قيل أفتقولون إن الماء ينزل من السماء على الحقيقة أو من السحاب أو تجوزون ما قاله بعضهم من أن الشمس تؤثر في الأرض فيخرج منها أبخرة متصاعدة فإذا وصلت إلى الجو البارد بردت فثقلت فنزلت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز فاتصلت فتولدت من اتصال بعض تلك الذرات بالبعض قطرات هي قطرات المطر
قلنا بل نقول إنه ينزل من السماء كما ذكره الله تعالى وهو الصادق في خبره وإذا كان قادراً على إمساك الماء في السحاب فأي بعد في أن يمسكه في السماء فأما قول من يقول إنه من بحار الأرض فهذا ممكن في نفسه لكن القطع به لا يمكن إلا بعد القول بنفي الفاعل المختار وقدم العالم وذلك كفر لأنا متى جوزنا الفاعل المختار القادر على خلق الجسم فكيف يمكننا مع إمكان هذا القسم أن نقطع بما قالوه
أما قوله فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الجاثية 5 ) فاعلم أن هذه الحياة من جهات أحدها ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما مما لولاه لما عاشت دواب الأرض وثانيها أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد وثالثها أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) ورابعها أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله وخامسها يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة
واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز لأن الحياة لا تصح إلى على من يدرك ويصح أن يعلم وكذلك الموت إلا أن الجسم إذا صار حياً حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء والنشور والنماء فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة
واعلم أن إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه أحدها نفس الزرع لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه وثانيها اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى وثالثها اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر ورابعها استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة
النوع السادس من الآيات قوله تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان وسائر الحيوانات كقوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ( النساء 1 )
واعلم أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد وقد يكون بالتوالد وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم فلنبين ذلك في الناس ثم في سائر الحيوانات
أما الإنسان فالذي يدل على فتقاره في حدوثه إلى الصانع وجوه أحدها يروي أن واحداً قال عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني أتعجب من أمر الشطرنج فإن رقعته ذراع في ذراع ولو
لعب الإنسان ألف ألف مرة فإنه لا يتفق مرتان على وجه واحد فقال عمر بن الخطاب ههنا ما هو أعجب منه وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ثم إن موضع الأعضاء التي فيها كالحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير البتة ثم إنك لا ترى شخصين في الشرق والغرب يشتبهان فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها وثانيها أن الإنسان متولد من النطفة فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها فإن كانت القوة المصورة فيها فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية والأول ظاهر الفساد لأن الإنسان حال استكماله أكثر علماً وقدرة ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفتها لا يقدر على ذلك فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع فهذا المعنى إما أن يكون جسماً متشابه الأجزاء في نفسه أو يكون مختلف الأجزاء فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه وهذا هو الكرة فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحماً ودماً وإنساناً من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى وثالثها الإستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن ورابعها ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم ومن عجائب الأمر في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار لأنها حارة يابسة وأدون منها في اللطافة الهواء ثم الماء والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان لأن أعلى الأعضاء منه عظم القحف والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء وتحت الكل القلب وهو حار يابس على طبع النار فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء ويركبها كيف أراد
ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب كي لا يكدره وعن الماء كي لا يمحوه وعن الهواء كي لا يزيل طرواته ولطافته وعن النار كيلا تحرقه ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء فقال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) وقال في الهواء فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وقال أيضاً وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا ( المائدة 110 ) وقال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال في النار وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ ( الرحمن 15 ) وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد وخامسها انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً يقطع نفسه لمات في الحال ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة مع تعذر النفس هناك ولم يمت ثم إنه بعد الإنفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم بحيث لا يميز بين الماء والنار
وبين المؤذي والملذ وبين الأم وبين غيرها ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة كان أكثر فهماً وقت الإستكمال فلما لم يكن الأمر كذلك بل كان على الضد منه علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم وسادسها اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية شديدة المشابهة بعضها بالبعض ونرى الناس مختلفين جداً في الصورة ولولا ذلك لاختلت المعيشة ولاشتبه كل أحد بأحد فما كان يتميز البعض عن البعض وفيه فساد المعيشة واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له
النوع السابع من الدلائل تصريف الرياح وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه الإستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف وهو الرقة واللطافة ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات وذلك من وجوه أحدها أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضاً شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضاً وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبداً ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين والأدوية النادرة قليلة فلا جرم عزت هذه الأشياء وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جداً فلا جرم كانت في نهاية العزة فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال سبحان من خص القليل بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس لمحتاج إلى أنفاسه
وثانيها لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله فلو أراد كل من في العالم يقلب الريح من الشمال إلى الجنوب أو إذا كان الهواء ساكناً أن يحركه لتعذر
المسألة الثانية قال الواحدي ( وتصريف الرياح ) أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير
المسألة الثالثة الرياح جمع الريح قال أبو علي الريح اسم على فعل والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء فإنه في الجمع القليل أرواح وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الاعلال كالواو في قوم وقول وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو
ديمة وديم وحيلة وحيل قال ابن الأنباري إنما سميت الريح ريحاً لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم فهي مأخوذة من الروح والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح
المسألة الرابعة قالوا الرياح أربع الشمال والجنوب والصبا والدبور فالشمال من نقطة الشمال والجنوب من نقطة الجنوب والصبا مشرقية والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولاً لأنها استقبلت الدبور وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء
المسألة الخامسة اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر ( الرياح ) على الجمع في عشرة مواضع البقرة والأعراف والحجر والكهف والفرقان والنمل والروم في موضعين والجاثية وفاطر وقرأ نافع في اثني عشر موضعاً هذه العشرة وفي إبراهيم كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيَاحِ ( ابراهيم 18 ) وفي حم عسق إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيَاحِ ( الشورى 33 ) وقرأ ابن كثير ( الرياح ) في خمسة مواضع البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع في الحجر والفرقان والروم الأول منها
واعلم أن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية وأما من وحد فإنه يريد به الجنس كقولهم أهلك الناس الدينار والدرهم وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع فأما ما روي في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال ( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى قال تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( الروم 46 ) وإنما يبشر بالرحمة وقال في موضع الإفراد فِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ( الذاريات 41 ) وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ وَمَا أَدْرَاكَ ( القارعة 3 10 )
النوع الثامن من الدلائل قوله تعالى الرّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالارْضِ ( البقرة 164 ) سمي السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء ومعنى التسخير التذليل وإنما سماه مسخراً لوجوه أحدها أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف الطبع فلا بد من قاسر قاهر يقهره على ذلك فلذلك سماه بالمسخر الثاني أن هذا السحاب لو دام لعظم ضرره من حيث أنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأمطار والابتلال ولو انقطع لعظم ضرره لأنه يقتضي القحط وعدم العشب والزراعة فكان تقديره بالمقدار المعلوم هو المصلحة فهو كالمسخر لله سبحانه يأتي به في وقت الحاجة ويرده عند زوال الحاجة الثالث أن السحاب لا يقف في موضع معين بل يسوقه الله تعالى بواسطة تحريك الرياح إلى حيث أراد وشاء فذلك هو التسخير فهذا هو الإشارة إلى وجوه الاستدلال بهذه الدلائل
وأما قوله تعالى لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( الروم 24 ) ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله لاَيَاتٍ لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد مما تقدم ذكره فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه أحدها أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة وثانيها أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادراً لأنه لو كان المؤثر موجباً لدام الأثر بدوامه فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والاتقان دلت على علم الصانع ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع ومن حيث أنها وقعت على وجه الأتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع على ما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وثالثها أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلاً لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر ورابعها أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث فكان حدوثه لا محالة مختصاً بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصاً بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهداً على وجود الصانع لا جرم قال إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى وأما المحدث فكل ما عداه وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهداً على وجوده مقراً بوحدانيته معترفاً بلسان الحال بإلهيته وهذا هو المراد من قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 )
أما قوله تعالى لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره وما يلزم عبادته وطاعته
واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعماً دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قال القاضي عبد الجبار الآية تدل على أمور أحدها أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الألف والعادة لما صح ذلك وثانيها لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات وثالثها أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّة َ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر التوحيد بالدلائل القاهرة القاطعة أردف ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء ولذلك قال الشاعر وبضدها تتبين الأشياء وقالوا أيضاً النعمة مجهولة فإذا فقدت عرفت والناس لا يعرفون قدر الصحة فإذا مرضوا ثم عادت الصحة إليهم عرفوا قدرها وكذا القول في جميع النعم فلهذا السبب أردف الله تعالى الآية الدالة على التوحيد بهذه الآية وهنا مسائل
المسألة الأولى أما الند فهو المثل المنازع وقد بينا تحقيقه في قوله تعالى في أول هذه السورة فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( البقرة 22 ) واختلفوا في المراد بالأنداد على أقوال أحدها أنها هي الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى ورجوا من عندها النفع والضر وقصدوها بالمسائل ونذروا لها النذور وقربوا لها القرابين وهو قول أكثر المفسرين وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض أي أمثال ليس إنها أنداداً لله أو المعنى إنها أنداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة وثانيها إنهم السادة الذين كانوا يطيعونهم فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله عن السدي والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه الأول أن قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ الهاء والميم فيه ضمير العقلاء الثاني أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع الثالث أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الإنقياد لله تعالى
القول الثالث في تفسير الأنداد قول الصوفية والعارفين وهو أن كل شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى وهو المراد من قوله أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الفرقان 43 )
أما قوله تعالى يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ فاعلم أنه ليس المراد محبة ذاتهم فلا بد من محذوف والمراد يحبون عادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم أو جميع ذلك وقوله كَحُبّ اللَّهِ فيه ثلاثة أقوال قيل فيه كحبهم لله وقيل فيه كالحب اللازم عليهم لله وقيل فيه كحب المؤمنين لله وإنما اختلفوا هذا الإختلاف من حيث إنهم اختلفوا في أنهم هل كانوا يعرفون الله أم لا فمن قال كانوا يعرفون مع اتخاذهم الأنداد تأول على أن المراد كحبهم لله ومن قال إنهم ما كانوا عارفين بربهم حمل الآية على أحد الوجهين
الباقيين إما كالحب اللازم لهم أو كحب المؤمنين لله والقول الأول أقرب لأن قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ راجع إلى الناس الذين تقدم ذكرهم وظاهر قوله كَحُبّ اللَّهِ يقتضي حباً لله ثابتاً فيهم فكأنه تعالى بين في الآية السالفة أن الإله واحد ونبه على دلائله ثم حكى قول من يشرك معه وذلك يقتضي كونهم مقرين بالله تعالى
فإن قيل العاقل يستحيل أن يكون حبه للأوثان كحبه لله وذلك لأنه بضرورة والعقل يعلم أن هذه الأوثان أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تعقل وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعاً مدبراً حكيماً ولهذا قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزمر 38 ) ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل أن يكون حبهم لتلك الأوثان كحبهم لله تعالى وأيضاً فإن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وإذا كان كذلك كان المقصود الأصلي طلب مرضات الله تعالى فكيف يعقل الإستواء في الحب مع هذا القول قلنا قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ أي في الطاعة لها والتعظيم لها فالإستواء على هذا القول في المحبة لا ينافي ما ذكرتموه
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى في البحث عن ماهية محبة العبد لله تعالى اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة وهي أن العبد قد يحب الله تعالى والقرآن ناطق به كما في هذه الآية وكما في قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وكذا الأخبار روي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت عليه السلام وقد جاءه لقبض روحه هل رأيت خليلاً يميت خليله فأوحى الله تعالى إليه هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله فقال يا ملك الموت الآن فاقبض وجاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( يا رسول الله متى الساعة فقال ما أعددت لها فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله فقال عليه الصلاة والسلام المرء مع من أحب ) فقال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك وروي أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر وقد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً فقال لهم ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام قالوا الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن وجوههم المرايا من النور فقال كيف بلغتم إلى هذه الدرجة قالوا بحب الله فقال عليه الصلاة والسلام ( أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة ) وعند السدي قال تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين منهم فإنهم ينادون يا أولياء الله وفي بعض الكتب ( عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً )
واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة لكنهم اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين إن المحبة نوع من أنواع الإرادة والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته فإذا قلنا نحب الله فمعناه نحب طاعة الله وخدمته أو نحب ثوابه وإحسانه وأما العارفون فقد قالوا العبد قد يحب الله تعالى لذاته وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة واحتجوا
بأن قالوا إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها والكمال أيضاً محبوب لذاته أما اللذة فإنه إذا قيل لنا لم تكتسبون قلنا لنجد المال فإن قيل ولم تطلبون المال قلنا لنجد به المأكول والمشروب فإن قالوا لم تطلبون المأكول والمشروب قلنا لتحصل اللذة ويندفع الألم فإن قيل لنا ولما تطلبون اللذة وتكرهون الألم قلنا هذا غير معلل فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوباً لأجل شيء آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوباً لذاته وإذا ثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها والألم مطلوب الدفع لذاته لا لسبب آخر وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء والأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم واستفنديار واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم حتى أنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوباً لذاته إذا ثبت هذا فنقول الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته أو على محبة ثوابه فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته أما العارفون الذين قالوا إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته فهم الذين انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى فإنه لوجوب وجوده غنى عن كل ما عداه وكمال كل شيء فهو مستفاد منه وأنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه والرجل الشجاع لكماله في شجاعته والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه كالعدم وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى وأنه محبوب في ذاته ولذاته سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره واعلم أنك لما وقفت على النكتة في هذا الباب فنقول العبد لا سبيل له إلى الإطلاع على الله سبحانه ابتداء بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى ذلك المقام فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم كان علمه بكماله أتم فكان له حبه أتم ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى ثم تحدث هناك حالة أخرى وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى كثر ترقيه في مقام محبة الله فإذا كثر ذلك صار ذلك سبباً لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف القلب بكيفيتها واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الإلتفات إلى ما عداه يشغله عن الإلتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله ونفرته عما سواه على القلب ويشتد كل واحد منهما بالآخر إلى أن يصير القلب نفوراً عما سوى الله تعالى والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيراً بأنوار القدس مستضيئاً بأضواء عالم العصمة فانياً عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث وهذا المقام أعلى الدرجات وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس
فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية
المسألة الثانية في معنى الشوق إلى الله تعالى اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه فأما الذي لم يدرك أصلاً فلا يشتاق إليه فإن لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه لم يتصور أن يشتاق إليه ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين أحدهما أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية والثاني أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره ولا سائر محاسنه فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح مشوب بشوائب الخيالات فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات وهي مدركات للمعارف الروحانية ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فبما اتضح اتضاحاً والثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقاً إلى معرفتها والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يكون في الدنيا وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته وحكمته في أفعاله وهي غير متناهية والإطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى واعلم أن ذلك الشوق لذيذ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان والحرمان والوصول والصد آلاماً مخلوطة بلذات واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان كانت أقوى فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل والبهائم لا تستعد لها أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو
المسألة الثالثة في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حباً لله أما المتكلمون فقالوا إن حبهم لله يكون من وجهين أحدهما أنه ما يصدر منهم من التعظيم والمدح والثناء والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ومحبة غيرهم ليست كذلك والثاني أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد وأما العارفون فقالوا المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد فإن قيل كيف يمكن أن يقال محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ولا يأتون بها إلا لله تعالى ثم يقتلون أنفسهم حباً لله
والجواب من وجوه أحدها أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأنداد قال تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( العنكبوت 6 ) إلى آخره والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء والكافر قد يعرض عن ربه فكان حب المؤمن أقوى وثانيها أن من أحب غيره رضي
بقضائه فلا يتصرف في ملكه فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه وذلك في الجهاد وثالثها أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب فالذي فعلوه باطل ورابعها قال ابن عباس إن المشركين كانوا يعبدون صنماً فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن وخامسها أن المؤمنين يوحدون ربهم والكفار يعبدون مع الصنم أصناماً فتنقص محبة الواحد أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه
أما قوله تعالى وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّة َ لِلَّهِ جَمِيعًا ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قراءة هذه الآية أبحاثاً
البحث الأول قرأ نافع وابن عمر ( ولو ترى ) بالتاء المنقوطة من فوق خطاباً للنبي عليه السلام كأنه قال لو ترى يا محمد الذين ظلموا والباقون بالياء المنقوطة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد ثم قال بعضهم هذه القراءة أولى لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينون من العذاب يوم القيامة أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك فوجب إسناد الفعل إليهم
البحث الثاني اختلفوا في ( يرون ) فقرأ ابن عامر ( يرون ) بضم الياء على التعدية وحجته قوله تعالى كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ والباقون ( يرون ) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم
البحث الثاني اختلفوا في ( أن ) فقرأ بعض القراء ( إن ) بكسر الألف على الاستئناف وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها
البحث الرابع لما عرفت أن يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ قرىء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت وقوله أَنَّ الْقُوَّة َ قرىء تارة بفتح الهمزة من ( أن ) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات
الاحتمال الأول أن يقرأ وَلَوْ يَرَى بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من ( أن ) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير ولو يرون أن القوة لله ومعناه ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أنداداً فعلى هذا جواب ( لو ) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله وَلَوْ تَرَى إِذَا وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( الأنعام 27 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ( الأنعام 93 ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) ويقولون لو رأيت فلاناً والسياط تأخذ منه قالوا وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد
الاحتمال الثاني أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من ( إن ) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا إن القوة لله
الاحتمال الثالث أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق مع فتح الهمزة من ( أن ) وهي قراءة نافع وابن
عامر قال الفراء الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعاً
الاحتمال الرابع أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق مع كسر الهمزة وتقديره ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعاً وهذا أيضاً تأويل ظاهر جيد
المسألة الثانية إن قيل كيف جاء قوله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وهو مستقبل مع قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ و ( إذ ) للماضي قلنا إنما جاء على لفظ المضي لأن وقوع الساعة قريب قال تعالى وَمَا أَمْرُ السَّاعَة ِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ( النحل 77 ) وقال لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) وكل ما كان قريب الوقوع فإنه يجري مجرى ما وقع وحصل وعلى هذا التأويل قال تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 44 ) وقول المقيم قد قامت الصلاة يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم للصلاة لقرب ذلك وقد جاء كثير في التنزيل من هذا الباب قال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ ( الأنعام 27 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ( سبأ 31 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ ( سبأ 51 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ( الأنفال 50 )
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاٌّ سْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتخذ من دون الله أنداداً بقوله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ( البقرة 165 ) على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرأون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وقال أيضاً الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) وحكى عن إبليس أنه قال إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ وههنا مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذْ تَبَرَّأَ قولان الأول أنه بدل من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ( البقرة 165 ) الثاني أن عامل الإعراب في ( إذ ) معنى شديد كأنه قال هو شديد العذاب إذ تبرأ يعني في وقت التبرؤ
المسألة الثانية معنى الآية أن المتبوعين يتبرؤن من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤن منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ يدخل في معناه
أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سبباً والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه أحدها أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس عن قتادة والربيع وعطاء وثانيها أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدي وثالثها أنهم شياطين الجن والإنس ورابعها الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة والأقرب هو الأول لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام ويجب أيضاً حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء
المسألة الثانية ذكروا في تفسير التبرؤ وجوهاً أحدها أن يقع منهم ذلك بالقول وثانيها أن يكون نزول العذاب بهم وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا وثالثها أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول لأنه هو الحقيقة في اللفظ
أما قوله تعالى وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ الواو للحال أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف
أما قوله تعالى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه عطف على ( تبرأ ) وذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال الأول أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها عن مجاهد وقتادة والربيع الثاني الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج الثالث الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي والرابع العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها عن ابن عباس الخامس ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم السادس المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس السابع أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر
المسألة الثانية الباء في قوله تعالى بِهِمُ الاْسْبَابُ بمعنى ( عن ) كقوله تعالى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً أي عنه قال علقمة بن عبدة فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء
المسألة الثالثة أصل السبب في اللغة الحبل قالوا ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به ومنه قوله تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ( الحج 15 ) ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة
تريدها سبب يقال ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة وقيل للطريق سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده قال تعالى فَأَتْبَعَ سَبَباً ( الكهف 85 ) أي طريقاً وأسباب السموات أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها قال تعالى مخبراً عن فرعون لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ( غافر 36 37 ) قال زهير ومن هاب أسباب المنايا تناله
ولو رام أسباب السماء بسلم
والمودة بين القوم تسمى سبباً لأنهم بها يتواصلون
أما قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَنقِمُ مِنَّا فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة
أما قوله كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى في قوله كَذالِكَ يُرِيهِمُ وجهان الأول كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد الثاني كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات لأنهم أيقنوا بالهلاك
المسألة الثانية في المراد بالأعمال أقوال الأول الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي الثاني المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها الثالث ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم الرابع أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة وهو كفرهم ومعاصيهم وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم وأيقنوا بالجزاء عليها وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به
المسألة الثالثة حسرات ثالث مفاعيل رأى
المسألة الرابعة قال الزجاج الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه يقال حسر فلان يحسر حسرة وحسراً إذا اشتد ندمه على أمر فاته وأصل الحسر الكشف يقال حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة والحسور الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر قال تعالى وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( الأنبياء 19 ) والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش
أما قوله تعالى وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل
القبلة يخرجون من النار فقالوا إن قوله وَمَا هُمْ تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصاً بهم وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( الانفطار 14 16 ) وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه
بداية الجزء الخامس من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حَلَالاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّو ءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أنداداً ويتبع رؤساء الكفر أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم فقال النَّارِ يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب الوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج
المسأل الثانية الحلال المباح الذي انحلت عقدة الخطر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه حل بالمكان إذا نزل به لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة وحل من إحرامه لأنه حل عقدة الإحرام وحلت عليه العقوبة أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء لأنه يحل عن الطي للبس ومن هذا تحلة اليمين لأنه عقدة اليمين تنحل به واعلم أن الحرام قد يكون حراماً لخبثه كالميتة والدم والخمر وقد يكون حراماً لا لخبثه كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين
المسألة الثالثة قوله ( حلالاً طيباً ) إن شئت نصبته على الحال مما في الأرض وإن شئت فصبته على أنه مفعول
المسألة الرابعة الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ ( المائدة 100 ) والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويستطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذه
والحرام غير مستلذ لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان الأول أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيباً إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراماً وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة والثاني المرادمنه المباح وقوله يلزم التكرار قلنا لا نسلم فإن قوله حَلَالاً المراد منه ما يكون جنسه حلالاً وقوله طَيّباً المراد منه لا يكون متعلقاً به حق الغير فإن أكل الحرام وإن اسطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطاباً كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 )
أما قوله تعالى لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر والكسائي وهي إحدى الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم خُطُواتِ بضم الخاء والطاء والباقون بسكون الطاء أما من ضم العين فلأن الواحدة خطوة فإذا جمعت حركت العين للجمع كما فعل بالإسماء التي على هذا الوزن نحو غرفة وغرفات وتحريك العين للجمع كما فعل في نحو هذا الجمع للفصل بين الإسم والصفة وذلك أن ما كان اسماً جمعته بتحريك العين نحو تمرة وتمرات وغرفة وغرفات وشهوة وشهوات وما كان نعتاً جمع بسكون العين نحو ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات والخطوة من الأسماء لا من الصفات فيجمع بتحريك العين وأما من خفف العين فبقاه على الأصل وطلب الخفة
المسألة الثانية قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكى عن الفراء خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال حثوت حثوة والحثوة اسم لما تحثيت وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فانهما قالا خطوات الشيطان طرفه وإن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير لا تأتموا به ولا تقفوا أثره والمعنيان مقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة وأما المعنى فليس مراد الله ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك ثم بين العلة في هذا التحذير وهو كونه عدواً مبيناً أي متظاهر بالعداوة وذلك لأن الشيطان التزم أموراً سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ( النساء 119 ) وثلاثة منها في قوله تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 16 17 ) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدواً متظاهراً بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك
وأما قوله تعالى إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فهذا كالتفصيل لجملة عداوته وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها السوء وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك
المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب وثانيها الفحشاء وهي نوع من السوء لأنها أقبح أنواعه وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي وثالثها أَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وكأنه أقبح أنواع الفحشاء لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه أحدها اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم إنها حروف وأصوات خفية وقال الفلاسفة إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه
ولقائل أن يقول صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفاً أولاً تشبهها فإن كان الأول فصور الحروف حروف فعاد القول إلى أن هذه الخواطر أصوات وحروف خفية وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفاً لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج والعربي لا يتكلم في قلبه إلا بالعربية وكذا العجمي وتصورات هذه الحروف وتعاقبها وتواليها لا يكون إلا على مطابقة تعاقبها وتواليها في الخارج فثبت أنها في أنفسها حروف وأصوات خفية وثانيها أن فاعل هذه الخواطر من هو أما على أصلنا وهو أن خالف الحوادث بأسرها هو الله تعالى فالأمر ظاهر وأما على أصل المعتزلة فهم لا يقولون بذلك وأيضاً فلأن المتكلم عندهم من فعل الكلام فلو كان فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى وفيها ما يكون كذباً وسخفاً لزم كون الله موصوفاً بذلك تعالى الله عنه ولا يمكن أن يقال إن فاعلها هو العبد لأن العبد قد يكره حصول تلك الخواطر ويحتال في دفعها عن نفسه مع أنها ألبتة لا تندفع بل ينجر البعض إلى البعض على سبيل الاتصال فإذن لا بد ههنا من شيء آخر وهو إما المك وإما الشيطان فلعلهما يتكلمان بهذا الكلام في أقصى الدماغ وفي أقصى القلب حتى إن الإنسان وإن كان في غاية الصمم فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات ثم إن قلنا بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها غير متحيزة ألبتة لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال وإن قلنا بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضاً أن يقال إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر ولا بعد أيضاً أن يقال إنها لغاية لطافتها تقدر على النفوذ في مضايق باطن البشر ومخارق جسمه وتوصل الكلام إلى أقصى قلبه ودماغه ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالاً لا ينفصل فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضايق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى ومما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَة ِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الأنفال 12 ) أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم ويدل عليه من الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ) وفي الحديث أيضاً ( إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه ) ومن صوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية وفسر
الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة والشهوانية والغضبية
المسألة الثاني دلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة إِنَّمَا وهي للحصر وقال بعض العارفين إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر وذلك يدل على أنواع إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الاشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية
المسألة الثالثة قوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يتناول جميع المذاهب الفاسدة بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلداً للحق لكنه قال ما لا يعلمه فصار مستحقاً للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية
المسألة الرابعة تمسك نفاة القياس بقوله وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والجواب عنه أنه متى قامت الدلالة على أن العمل بالقياس واجب كان العمل بالقياس قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ
اعلم أنهم اختلفوا في الضمير في قوله لَهُمْ على ثلاثة أقوال أحدها أنه عائد على مِنْ في قوله مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا ( البقرة 165 ) وهم مشركو العرب وقد سبق ذكرهم وثانيها يعود على النَّاسِ في قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ( البقرة 21 ) فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة على طريق الإلتفات مبالغة في بيان ضلالهم كأنه يقول للعقلاء انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون وثالثها قال ابن عباس نزلت في اليهود وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خير منا وأعلم منا فعلى هذا الآية مستأنفة والكناية في لَهُمْ تعود إلى غير مذكور إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم كما يعود على المذكور ثم حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى الكسائي يدغم لام هَلُ و بَلِ في ثمانية أحرف التاء كقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ ( الأعلى 16 ) والنون بَلْ نَتَّبِعُ والثاء هَلْ ثُوّبَ ( المصطفين 36 ) والسين بَلْ سَوَّلَتْ ( يوسف 18 ) والزاي بَلْ زُيّنَ ( الرعدة 33 ) والضاد بَلْ ضَلُّواْ ( الأحقاف 28 ) والظاء بَلْ ظَنَنْتُمْ والطاء بَلْ طَبَعَ ( النساء 155 ) وأكثر القراء على الإظهار ومنهم من يوافقه في البعض والإظهار هو الأصل
المسألة الثانية أَلْفَيْنَا بمعنى وجدنا بدليل قوله تعالى في آية أخرى بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( لقمان 21 ) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ( يوسف 25 ) وقوله إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ
ءابَاءهُمْ ضَالّينَ ( الصافات 69 )
المسألة الثالثة معنى الآية أن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة فهم قالوا لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد وأجاب الله تعالى عنهم بقوله أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو في أَوْ لَوْ واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ لأنها تقتضي الإقرار بشيء يكون الإقرار به فضيحة كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه
الثانية تقرير هذا الجواب من وجوه أحدها أن يقال للمقلد هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا فإن اعترفت بذلك لم نعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً فكيف عرفت أنه محق وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل وإن عرفته بالعقل فذاك كاف فلا حاجة إلى التقليد وإن قلت ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً فاذن قد جوزت تقليده وإن كان مبطلاً فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل وثانيها هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه ألبتة مذهباً فأنت ماذا كنت تعمل فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا وثالثها أنك إذا قلدت من قبلك فذلك المتقدم كيف عرفته أعرفته بتقليد أم لا بتقليد فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً
المسألة الثالثة إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابع التقليد وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والإستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل أو على ما يقوله الغير من غير دليل
المسألة الرابعة قوله لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا لفظ عام ومعناه الخصوص لأنهم كانوا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به الخاص
المسألة الخامسة قوله لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا المراد أنهم لا يعلمون شيئاً من الدين وقوله تعالى وَلاَ يَهْتَدُونَ المراد أنهم لا يهتدون إلى كيفية اكتسابه
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر وأخلدوا إلى التقليد وقالو بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( البقرة 170 ) ضرب لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء وقلة الإهتمام بالدين فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك فيكون كسراً لقلبه وتضييقاً لصدره حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد وههنا مسائل
المسألة الأولى نعق الراعي بالغنم إذا صاح بها وأما نعق الغراب فبالغين المعجمة
المسألة الثانية للعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان أحدهما تصحيح المعنى بالإضمار في الآية والثاني إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار أما الذين أضمروا فذكروا وجوها الأول وهو قول الأخفش والزجاج وابن قتيبة كأنه قال ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزل الداعي إلى الحق وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر الدعاة إلى الحق وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها لا جرم حصل وجه التشبيه الثاني مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجرى مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم فإذا كان لا شك أن ههنا المحذوف هو المدعو وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي وفيه سؤال وهو أن قوله إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً الثالث قال ابن زيد مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته فإذا قال يا زيد يسمع من الصدى يا زيد فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعو هذه الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء
الطريق الثاني في الآية وهو إجراؤها على ظاهرها من غير إضمار وفيه وجهان أحدهما أن يقول مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا ههنا الثاني مثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائد فكذا التقليد عبث عديم الفائدة
أما قوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فاعلم أنه تعالى لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم فقال صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه وبمنزلة العمى من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها قال النحريون صُمٌّ أي هم صم وهو رفع على الذم أما قوله فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم قال العقل عقلان مطبوع ومسموع
ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الإستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل من فقد حساً فقد علماً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
اعلم أن هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( البقرة 168 ) ثم نقول إن الله سبحانه وتعالى تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى ومن هنا شرع في بيان الأحكام اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الأكل قد يكون واجباً وذلك عند دفع الضرر عن النفس وقد يكون مندوباً وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد فهذا الأكل مندوب وقد يكون مباحاً إذا خلا عن هذه العوارض والأصل في الشيء أن يكون خالياً عن العوارض فلا جرم كان مسمى الأكل مباحاً وإذا كان الأمر كذلك كان قوله كُلُواْ في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة
المسألة الثانية احتج الأصحاب على أن الرزق قد يكون حراماً بقوله تعالى مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالاً لكان قوله مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ معناه من محللات ما أحللنا لكم فيكون تكراراً وهو خلاف الأصل أجابوا عنه بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه فأباح الله تعالى ذلك بقوله كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى
المسألة الثالثة قوله وَاشْكُرُواْ اللَّهِ أمر وليس بإباحة فإن قيل الشكر إما أن يكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح أما بالقلب فهو إما العلم بصدور النعمة عن ذلك المنعم أو العزم على تعظيمه باللسان وبالجوارح أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل فإن العاقل لا ينسى ذلك فإذا كان ذلك العلم ضرورياً فكيف يمكن إيجابه وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح فذلك العزم القلبي مع الإقرار بالسان والعمل بالجوارح فإذا بينا أنهما لا يجيبان كان العزم بأن لا يجب أولى وأما الشكر باللسان فهو إما أن يقر بالاعتراف له بكونه منعما أو بالثناء عليه فهذا غير واجب بالاتفاق بل هو من باب المندوبات وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه وذلك أيضاً غير واجب وإذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه لا يمكن القول بوجوب الشكر قلنا الذي تلخص في هذا الباب أنه يجب عليه اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم وإظهار ذلك باللسان أو بسائر الأفعال إن وجدت هناك تهمة
أما قوله تعالى إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوها أحدها وَاشْكُرُواْ للَّهِ إن كنتم عارفين بالله وبنعمه فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لإسم الأثر على المؤثر وثانيها معناه إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه فإن الشكر رأس العبادات وثالثها وَاشْكُرُواْ للَّهِ الذي رزقكم هذه النعم إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره عن أنس رضي الله عنه عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأزرق ويشكر غيري )
المسألة الثانية احتج من قال إن المعلق بلفظ أن لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة ءانٍ على فعل العباد مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمرنا في الآية السالفة بتناول الحلال فصل في هذه الآية أنواع الحرام والكلام فيها على نوعين النوع الأول ما يتعلق بالتفسير والنوع الثاني ما يتعلق بالأحكام التي استنبطها العلماء من هذه الآية ( فالنوع الأول ) فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن كلمة إِنَّمَا على وجهين أحدهما أن تكون حرفاً واحداً كقولك إنما داري دارك وإنما مالي مالك الثاني أن تكون مَا منفصلة من إن وتكون مَا بمعنى الذي كقولك إن ما أخذت مالك وإن ما ركبت دابتك وجاء في التنزيل على الوجهين أما على الأول فقوله إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وأما على الثاني فقوله إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ ( طه 69 ) ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل إِنَّمَا حرفاً واحداً كان صواباً وقوله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ ( العنكبوت 25 ) تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين واختلفوا في حكمها على الوجه الأول فمنهم من قال إِنَّمَا تفيد الحصر واحتجو عليه بالقرآن والشعر والقياس أما القرآن فقوله تعالى إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) أي ما هو إلا إله واحد وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ( التوبة 60 ) أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( الكهف 110 ) أي ما أنا إلا بشر مثلكم وكذا هذه الآية فإنه تعالى قال في آية أخرى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ( الأنعام 145 ) فصارت الآيتان واحدة فقوله إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ في هذه الآية مفسر لقوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا إلا كذا في تلك الآية وأما الشعر فقوله الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقول الفرزق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابه أنا أو مثلى
وأما القياس فهو أن كلمة ءانٍ للإثبات وكلمة مَا للنفي فإذا اجتمعا فلا بد وأن يبقيا على أصليهما فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق أو ثبوت المذكور ونفي غير
المذكور وهو المطلوب واحتج من قال إنه لا يفيد الحصر بقوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ولقد كان غيره نذيراً وجوابه معناه ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر ولا ينفي وجود نذير آخر
المسألة الثانية قرىء حَرَّمَ على البناء للفاعل و حَرَّمَ للبناء للمفعول و حَرَّمَ بوزن كرم
المسألة الثالثة قال الواحدي الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها فحرم الله الدم وقوله لَحْمَ الْخِنزِيرِ أراد الخنزير بجميع أجزائه لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل وقوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قال الأصمعي الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل وقال ابن أحمر يهل بالفدفد ركبانها
كما يهل الراكب المعتمر
هذا معنى الإهلال في اللغة ثم قيل للمحرم مهل لرفعه الصوت بالتلبية عند الإحرام هذا معنى الإهلال يقال أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام والذابح مهل لأن العرب كانوا يسمون الأوثان عند الذبح ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه استهل الصبي فمعنى قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ يعني ما ذبح للاصنام وهو قول مجاهد والضحاك وقتادة وقال الربيع بن أنس وابن زيد يعني ما ذكر عليه غير اسم الله وهذا القول أولى لأنه أشد مطابقة للفظ قال العلماء لو أن مسلماً ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً وذبيحته ذبيح مرتد وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب أما ذبائح أهل الكتاب فتحل لنا لقوله تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( المائدة 5 )
أما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي فَمَنِ اضْطُرَّ بضم النون والباقون بالكسر فالضم للاتباع والكسر على أصل الحركة لإلتقاء الساكنين
المسألة الثانية اضطر أحوج وألجىء وهو افتعل من الضرورة وأصله من الضرر وهو الضيق
المسألة الثالثة لما حرم الله تعالى تلك الأشياء استثنى عنها حال الضرورة وهذه الضرورة لها سببان أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطراً الثاني إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناوله
المسألة الرابعة أن الاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فإذن لا بد ههنا من إضمار وهو الأكل والتقدير فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف ههنا كالحذف في قوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ ( البقرة 196 ) ومعناه فحلق ففدية وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف ولدلالة الخطاب عليه
أما قوله تعالى غَيْرَ بَاغٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء غَيْرِ ههنا لا تصلح أن تكون بمعنى الاستثناء لأن غير ههنا بمعنى النفي ولذلك عطف عليها لا لأنها في معنى لا وهي ههنا حال للمضطر كأنك قلت فمن اضطر باغياً ولا عادياً فهو له حلال
المسألة الثاني أصل البغي في اللغة الفساد وتجاوز الحد قال الليث البغي في عدو الفرس اختيال ومروح وأنه يبغي في عدوه ولا يقال فرس باغ والبغي الظلم والخروج عن الإنصاف ومنه قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( الشورى 39 ) وقال الأصمعي بغي الجرح يبغي بغيا إذا بدأ بالفساد وبغت السماء إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحد وبغي الجرح والبحر والسحاب إذا طغى
أما قوله تعالى وَلاَ عَادٍ فالعدو هو التعدي في الأمور وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه يقال عدا عليه عدوا وعدوانا واعتداء وتعديا إذا ظلمه ظلماً مجاوزاً للحد وعدا طوره جاوز قدره
المسألة الثالثة لأهل التأويل في قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ قولان أحدهما أن يكون قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ مختصاً بالأكل والثاني أن يكون عاما في الأكل وغيره أما على القول الأول ففيه وجوه الأول غَيْرَ بَاغٍ وذلك بأن يجد حلالاً تكرهه النفس فعدل إلى أكل الحرام اللذيذ وَلاَ عَادٍ أي متجاوز قدر الرخصة الثاني غير باغ للذة أي طالب لها ولا عاد متجاوز سد الجوعة عن الحسن وقتاد والربيع ومجاهد وابن زيد الثالث غير باغ على مضطر آخر بالاستيلاء عليه ولا عاد في سد الجوعة
القول الثاني أن يكون المعنى غير باغ على إمام المسلمين في السفر من البغي ولا عاد بالمعصية أي مجاوز طريقة المحقين والكلام في ترجيح أحد هذين التأويلين على الآخر سيجيء إن شاء الله تعالى
أما قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ففيه سؤالان أحدهما أن الأكل في تلك الحالة واجب وقوله لا إِثْمَ عَلَيْهِ يفيد الإباحة الثاني أن المضطر كالملجأ إلى الفعل والملجأ لا يوصف بأنه لا إثم عليه قلنا قد بينا في تفسير قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ( البقرة 158 ) أن نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح وأيضاً فقوله تعالى فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ معناه رفع الحرج والضيق واعلم أن هذا الجائع إن حصلت فيه شهوة الميتة ولم يحصل فيه النفرة الشديدة فإنه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرمق كما يصير ملجأ إلى الهرب من السبع إذا أمكنه ذلك أما إذا حصلت النفرة الشديدة فإنه بسبب تلك النفرة يخرج عن أن يكون ملجأ ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النفار وههنا يتحقق معنى الوجوب
أما قوله تعالى في آخر الآية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه إشكال وهو أنه لما قال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فكيف يليق أن يقول بعده إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم
والجواب من وجوه أحدهما أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة ثم ذكر بعده أنه رحيم يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك وثانيها لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة فهو
سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة وثالثها أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفوراً رحيماً لأنه غفور للعصاة إذا تابوا رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى
النوع الثاني من الكلام في هذه الآية المسائل الفقهية التي استنبطها العلماء منها وهي مرتبة على فصول
الفصل الأول
فيما يتعلق بالميتة
والكلام فيه مرتب على مقدمة ومقاصد
أما المقدمة ففيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن التحريم المضاف إلى الأعيان هل يقتضي الإجمال فقال الكرخي إنه يقتضي الإجمال لأن الأعيان لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفهما إلى فعل من أفعالنا فيها وليست جميع أفعالنا فيها محرمة لأن تبعيدها عن النفس وعما يجاوز المكان فعل من الأفعال فيها وهو غير محرم فإذن لا بد من صرف هذا التحريم إلى فعل خاص وليس بعض الأفعال أولى من بعض فوجب صيرورة الآية مجملة وأما أكثر العلماء فإنهم أصروا على أنه ليس من المجملات بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما أن الذوات لا تملك وإنما يملك التصرفات فيها فإذا قيل فلان يملك جارية فهم كل أحد أنه يملك التصرف فيها فكذا هنا وقد استقصينا الكلام فيه من كتاب المحصول في علم الأصول
المسألة الثانية لما ثبت الأصل الذي قدمناه وجب أن تدل الآية على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص فإن قيل لم لا يجوز تخصيص هذا التحريم بالأكل والذي يدل عليه وجوه أحدها أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وثانيها أنه ورد عقيب قوله كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( البقرة 57 ) وثالثها ما روي عن الرسول عليه السلام في خبر شاة ميمونة إنما حرم من الميتة أكلها
والجواب عن الأول لا نسلم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وعن الثاني أن هذه الآية مستقلة بنفسها فلا يجب قصرها على ما تقدم بل يجب إجراؤها على ظاهرها وعن الثالث أن ظاهر القرآن مقدم على خبر الواحد لكن هذا إنما يستقيم إذا لم يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد ويمكن أن يجاب عنه بأن المسلمين إنما رجعوا في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية فدل إنعقاد اجماعهم على أنها غير مخصوصة ببيان حرمة الأكل وللسائل أن يمنع هذا الإجماع
المسألة الثالثة الميتة من حيث اللغة هو الذي خرج من أن يكون حيا من دون نقض بنية ولذلك فرقوا بين المقتول والميت وأما من جهة الشرع فهو غير المذكي إما لأنه لم يذبح أو أنه ذبح ولكن لم يكن ذبحه ذكاة وسنذكر حد الزكاة في موضعه فإن قيل كيف يصح ذلك وقد قال تعالى في سورة المائدة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ ( المائدة 3 ) ثم ذكر من بعده المنخنقة والموقوذة والمتردي فدل هذا على أن غير
المذكى منه ما هو ميتة ومنه ما ليس كذلك قلنا لعل الأمر كان في ابتداء الشرع على أصل اللغة وأما بعد استقرار الشرع فالميتة ما ذكرناه والله أعلم
أما المقاصد فاعلم أن الخطأ في المسائل المستنبطة من هذه الآية من وجهين أحدهما ما أخرجوه عن الآية وهو داخل فيها والثاني ما أدخلوه فيها وهو خارج عنها
أما القسم الأول ففيه مسائل
المسألة الأولى ذهب الشافعي رضي الله عنه في أظهر أقواله إلى أنه يحرم الانتفاع بصوف الميتة وشعرها وعظمها وقال مالك يحرم الانتفاع بعظمها خاصة وجل الفقهاء اتفقوا على تحريم الانتفاع بشعر الخنزير واحتج هؤلاء بأن هذه الأشياء ميتة فوجب أن يحرم الانتفاع بها إنما قلنا إنها ميتة لقوله عليه السلام ( ما أبين من حي فهو ميت ) وهذا الخبر يعم الشعر والعظم والكل وأما الذي يدل على أن العظم ميتة خاصة فقوله تعالى مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( ي س 78 ) فثبت أنها كانت حية فعند الموت تصير ميتة وإذا ثبت أنها ميتة وجب أن يحرم الانتفاع بها لقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ اعترض المخالف عليه بأن الشعر والصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور وذلك مفقود في الشعر ولأجل هذا الكلام ذهب مالك إلى تنجيس العظام دون الشعور
والجواب أن الحياة ليست عبارة عن المعنى المقتضى للإدراك والشعور بدليل الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له ) والأصل في الإطلاق الحقيقة فعلمنا أن الحياة في أصل اللغة ليست عبارة عما ذكرتموه بل عن كون الحيوان أو النبات صحيحا في مزاجه معتدلا في حاله غير معترض للفساد والتعفن والتفرق وإذا ثبت ذلك ظهر اندراجه تحت الآية واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر والإجماع والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ( النحل 80 ) حيث ذكرها في معرض المنة والامتنان لا يقع بالنجس الذي لا يحل الانتفاع به وأما الخبر فقوله عليه السلام في شاة ميمونة ( إنما حرم من الميتة أكلها ) وأما الإجماع فهو أنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ويجعلون منها القلانس وعن النخعي كانوا لا يرون بجلود السباع وجلود الميتة إذا دبغت بأساً وما خصوا حال الشعر وعدمه وقول الشافعي كانوا إشارة إلى الصحابة وليس لأحد أن يقول الثعلب عند الشافعي رضي الله عنه حلال فلهذا يقول بإباحته لأن الزكاة شرط بالاتفاق وهو غير حاصل في هذه الثعالب وأما القياس فلأن هذه الشعور والعظام أجسام منتفع بها غير متعرضة للتعفن والفساد فوجب أن يقضي بطهارتها كالجلود المدبوغة وأما النفع بشعر الخنزير ففي الفقهاء من منع نجاسته وهو الأسلم ثم قالوا هب أن عموم قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ يقتضي حرمة الانتفاع بالصوف والعظم وغيرهما إلا أن هذه الدلائل تنتج الانتفاع بها والخاص مقدم على العام فكان هذا الجانب أولى بالرعاية
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه إذا مات في الماء دابة ليس لها نفس سائلة لم يفسد الماء قل أو كثر وللشافعي رضي الله عنه قولان في الماء القليل واحتجوا للشافعي بأنها يحوانات فإذا ماتت صارت ميتة فيحرم استعمالها بمقتضى الآية وإذا حرم استعمالها بمقتضى الآية وجب الحكم بنجاستها وإذا ثبت الحكم بنجاستها وجب الحكم بنجاسة الماء القليل الذي وقعت هي فيه وأجابوا
عنه بأنه ميتة ويحرم الانتفاع بها ولكن لم قلتم إنها متى كانت كذلك كانت نجسة ثم لم يلزم من نجاستها تنجس الماء بها واحتجوا على القول الثاني للشافعي رضي الله عنه بقوله عليه السلام ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ) وأمر بالمقل فربما كان الطعام حارآ فيموت الذباب فيه فلو كان ذلك سبباً للتنجيس لما أمر النبي عليه السلام به
المسألة الثالثة للفقهاء مذاهب سبعة في أمر الدباغ فأوسع الناس فيه قولا الزهري فإنه يجوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ويليه داود فإنه قال تطهر كلها بالدباغ ويليه مالك فإنه قال يطهر ظاهرها دون باطنها ويليه أبو حنيفة فإنه قال يطهر كلها إلا جلد الخنزير ويليه الشافعي فإنه قال يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير ويليه الأوزاعي وأبو ثور فإنهما يقولان يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ويليه أحمد بن حنبل رضي الله عنهم فإنه قال لا يطهر منها شيء بالدباغ واحتج أحمد بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ ( المائدة 3 ) أطلق التحريم وما قيده بحال دون حال وأما الخبر فقول عبد الله بن حكيم أتانا كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وفاته أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب أجابوا عن التمسك بالآية بأن تخصيص العموم بخبر الواحد وبالقياس جائز وقد وجدا ههنا خبر الواحد فقوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد طهر ) وأما القياس فهو أن الدباغ يعود الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة وكما كان حال الحياة طاهراً كذلك بعد الدباغ وهذا القياس والخبر هما معتمد الشافعي رحمه الله
المسألة الرابعة اختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة فمنهم من منع منه لأنه إذا أطعم البازي ذلك فقد انتفع بتلك الميتة والآية دالة على تحريم الانتفاع بالميتة فاما إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة فهل يجب علينا منعه أم لا فيه احتمالان
المسألة الخامسة اختلفوا في دهن الميتة وودكها هل يجوز الاستصباح به أم لا وهذا ينظر فيه فإن كان ذلك مما حلته الحياة أو في جملته ما هو هذا حاله فالظاهر يقتضي المنع منه وإن لم يكن كذلك فهو خارج من جملة الميتة وإنما يحرم ذلك الدليل سوى الظاهر وعن عطاء بن جابر قال لما قدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أتاه الذين يجمعون الأوداك فقالوا يا رسول الله إنا نجمع الأوداك وهي من الميتة وغيرها وإنما هي للأديم والسفن فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ) فنهاهم عن ذلك وأخبرهم بأن تحريمه إياها على الإطلاق أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها
المسألة السادسة الظاهر يقتضي حرمة السمك والجراد إلا أنهما خصا بالخبر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالجراد والنون وأما الدمان فالطحال والكبد ) وعن جابر في قصة طويلة أن البحر ألقى إليهم حوتاً فأكلوا منه نصف شهر فلما رجعوا أخبروا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فقال هل عندكم منه شيء تطعموني وقال عليه الصلاة والسلام في صفة البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) وأيضاً فإنه ثبت بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام حل السمك واختلفوا في السمك الظافي وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه فقال مالك والشافعي رضي الله عنهما لا بأس به وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح إنه مكروه واختلف الصحابة في هذه المسألة فعن علي رضي الله عنه أنه قال ما طفا من صيد البحر فلا نأكله وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبي أيوب إباحته وروى أبو بكر الرازي روايات مختلفة عن جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما ألقى البحر أو جرد عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه ) وأما الشافعي رضي الله عنه فقد احتج بالآية والخبر والمعقول أما الآية فقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ( المائدة 96 ) وهذا السمك الطافي من طعام البحر فوجب حله وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتنان السم والجراد ) وهذا مطلق وقوله في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتتة ) وهذا عام وروي عن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( كل ما طفا على البحر )
المسألة السابعة قال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته وروي عن مالك رضي الله عنه أن ما وجد ميتاً لا يحل وأما ما أخذ حيا ثم قطع رأسه وشوي أكل وما أخذ حيا فغفل عنه حتى يموت لم يؤكل حجة مالك ظاهر الآية وحجة الشافعي وأبي حنيفة قوله عليه السلام ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) فوجب حملهما على الإطلاق فتبين بذلك أن قطع رأسه إن جعل له ذكاة فهو كالشاة المذكاة في أنه لا يكون ميتة فلا يكون لقوله عليه السلام ( أحلت لنا ميتتان ) فائدة وقال عبد الله بن أبي أوفي غزوت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره فلم يفرق بين ميتة وبين مقتولة
المسألة الثامنة اختلفوا في الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذبح الأم فقال أبو حنيفة لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح وهو قول حماد وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد أنه يؤكل وهذا هو المروى عن علي وابن مسعود وابن عمر وقال مالك إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل وهو قول سعيد بن المسيب واحتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية وهو أنه ميتة فوجب أن يحرم قال الشافعي أخصص هذا العموم بالخبر والقياس أما الخبر فهو أنا أجمعنا على أن المذكى مباح وهذا مذكى لما روى أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وأبو أمامة وكعب بن مالك وابن عمر وأبو أيوب وأبو هريرة رضي الله عنهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ذكاه الجنين ذكاة أمه ) وتقريره أن كون الذكاة سبباً للإباحة حكم شرعي فجاز أن تكون ذكاة الجنين حاصلة شرعاً بتحصيل ذكاة أمه أجاب الحنفيون بأن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكي أمه وأنه لا يؤكل بغير ذكاة كقوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 133 ) ومعناه كعرض السموات والأرض وكقول القائل قولي قولك ومذهبي مذهبك وإنما المعنى قولي كقولك ومذهبي كمذهبك وقال الشاعر فعيناك عيناها
وجيدك جيدها
وإذا ثبت ما ذكرنا كان أحد الإحتمالين إيجاب تذكيته وأنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه والآخر أن ذكاة أمه تبيح أكله وإذا كان كذلك لم يجز تخصيص الأمر بل يجب حمله على المعنى الموافق للآية أجاب الشافعي رضي الله عنه من وجوه أحدها أن على الإحتمال الذي ذكرتموه لا بد فيه من إضمار وهو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه والإضمار خلاف الأصل وثانيها أنه لا يسمى جنيناً إلا حال كونه في بطن أمه ومتى ولد لا يسمى جنيناً والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أثبت له الذكاة حال كونه جنيناً فوجب أن
يكون في تلك الحالة مذكي بذكاتها وثالثها أن حمل الخبر على ما ذكرت من إيجاب ذكاته إذا خرج حياً تسقط فائدته لأن ذلك معلوم قبل وروده ورابعها ما روي عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الجنين يخرج ميتاً قال إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه وأما القياس فمن وجوه أحدهما أنا أجمعنا على أن من ضرب بطن امرأته فماتت وألقيت جنيناً ميتاً لم ينفرد الجنين بحكم نفسه ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة فكذلك جنين الحيوان إذا مات عن ذبح أمه وخرج ميتاً كان تبعاً للأم في الذكاة وإذا خرج حياً لم يؤكل حتى يذكى وثانيها أن الجنين حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها فوجب أن يحل بذكاتها كسائل الأعضاء وثالثها الواحب في الولد أن يتبع الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في العتاق والإستيلاد والكتابة ونحوها
المسألة التاسعة ما قطع من الحي من الأبعاض فهو محرم لأنه ميتة فوجب أن يكون حراماً إنما قلنا إنه ميتة للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام ( ما أبين من حي فهو ميت ) وأما المعقول فهو أن ذلك البعض كان حياً لأنه يدرك الألم واللذة وبالقطع زال ذلك الوصف فصار ميتاً فوجب أن يحرم لقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ ( المائدة 3 )
المسألة العاشرة اختلفوا في أن ذبح ما لا يؤكل لحمه هل يستعقب طهارة الجلد فعند الشافعي رضي الله عنه لا يستعقبه لأن هذا الذبح لا يستعقب حل الأكل فوجب أن لا يستعقب الطهارة كذبح المجوسي وعند أبي حنيفة يستعقبه
القسم الثاني مما دخل في الآية وليس منها وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ و حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ لا يقتضي تحريم ما مات فيه من المائعات وإنما يقتضي تحريم عين الميتة وما جاور الميتة فلا يسمى ميتة فلا يتناوله لفظ التحريم كالسمن إذا وقعت فيه فأرة وماتت فإنه لا يتناولها هذا الظاهر وجملة الكلام في هذا الباب تدور على فصلين أحدهما أما الذي ينجس بمجاورته الميتة فيحرم وأما الذي لا ينجس فلا يحرم والثاني أن الذي ينجس كيف الطريق إلى تطهيره
المسألة الثانية سأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه ما ترون فيها فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل ويراق المرق فقال أبو حنيفة بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها كما في هذه الرواية وإن كان وقع في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق قال ابن المبارك ولم ذاك قال لأنه إذا سقط فيها في غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم وإذا وقع فيها حال سكونها فمات فإنما رشحت الميتة اللحم قال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين هذا زرين بالفارسية يعني المذهب وروى ابن المبارك مثل هذا عن الحسن
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة لبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهرتان وقال الشافعي ومالك لا يحل هذا اللبن والأنفحة وقال الليث لا تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة واعلم أن الشافعي رضي الله عنه لا يتمسك في هذه المسألة بظاهر قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ لأن اللبن لا يوصف بأنه ميتة فوجب الرجوع فيه نفياً وإثباتاً إلى دليل آخر ومعتمد الشافعي أن اللبن لو كان مجموعاً في إناء فسقط فيه
شيء من الميتة ينجس فكذلك إذا ماتت وهو في ضرعها وهكذا الخلاف في الأنفحة أما البيض إذا أخرج من جوف الدجاج فهو طاهر إذا غسل ويحل أكله لأن القشرة إذا صلبت حجزت بين المأكول وبين الميتة فتحل ولذلك لو كانت البيضة غير منعقدة لحرمت
ولنختم هذا الفصل بمسائل مشتركة بين القسمين
المسألة الأولى اختلف المتكلمون في أن الميتة هل تكون ميتة بمعنى الموت فمنهم من أثبت الموت بمعنى مضاد للحياة على ما قال تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) ومنهم من قال إنه عدم الحياة عما من شأنه أن يقبل الحياة وهذا أقرب
المسألة الثانية اختلفوا في أن حرمة الميتة هل تقتضي نجاستها والحق أن حرمة الانتفاع لا تقتضي النجاسة لأن لا يمتنع في العقل أن يحرم الانتفاع بها ويحل الانتفاع بما جاورها إلا أنه قد ثبت بالإجماع أن الميتة نجسة
الفصل الثاني
في تحريم الدم وفيه مسألتان
المسألة الأولى الشافعي رضي الله عنه حرم جميع الدماء سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح وقال أبو حنيفة دم السمك ليس بمحرم أما الشافعي فإنه تمسك بظاهر هذه الآية وهو قوله إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وهذا دم فوجب أن يحرم وأبو حنيفة تمسك بقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ( الأنعام 145 ) فصرح بأنه لم يجد شيئاً من المحرمات إلا هذه الأمور فالدم الذي لا يكون مسفوحاً وجب أن لا يكون محرماً بمقتضى هذه الآية فإذن هذه الآية خاصة وقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ عام والخاص مقدم على العام أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية بل على أنه تعالى ما بين له إلا تحريم هذه الأشياء وهذا لا ينافي أن يبين له بعد ذلك تحريم ما عداها فلعل قوله تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ نزلت بعد ذلك فكان ذلك بياناً لتحريم الدم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح إذا ثبت هذا وجب الحكم بحرمة جيمع الدماء ونجاستها فتجب إزالة الدم عن اللحم ما أمكن وكذا في السمك وأي دم وقع في الماء والثوب فإنه ينجس ذلك المورود
المسألة الثانية اختلفوا في قوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان ودمان الطحال والكبد ) هل يطلق اسم الدم عليهما فيكون استثناء صحيحاً أم لا فمنهم من منع ذلك لأن الكبد يجري مجرى اللحم وكذا الطحال وإنما يوصفان بذلك تشبيهاً ومنهم من يقول هو كالدم الجامد ويستدل عليه بالحديث
الفصل الثالث
في الخنزير وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن
معظم الإنتفاع متعلق به وهو كقوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِى َ لِلصَّلَواة ِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَة ِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ ( الجمعه 9 ) فخص البيع بالنهي لما كان هو أعظم المهمات عندهم أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمة وتنجيسه واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز فقال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز وقال أبو يوسف أكره الخرز به وروى عنه الإباحة حجة أبي حنيفة ومحمد أنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم ولأن الحاجة ماسة إليه وإذا قال الشافعي في دم البراغيث أنه لا ينجس الثوب لمشقة الإحتراز فهلا جاز مثله في شعر الخنزير إذا خرز به
المسألة الثانية اختلفوا في خنزير الماء قال ابن أبي ليلى ومالك والشافعي والأوزاعي لا بأس يأكل شيء يكون في البحر وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يؤكل حجة الشافعي قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ( المائدة 96 ) وحجة أبي حنيفة أن هذا خنزيرفيحرم لقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ( المائدة 13 ) وقال الشافعي الخنزير إذا أطلق فإنه يتبادر إلى الفهم خنزير البر لا خنزير البحر كما أن اللحم إذا أطلق يتبادر إلى الفهم لحم غير السمك لا لحم السمك بالاتفاق ولأن خنزير الماء لا يسمى خنزيراً على الإطلاق بل يسمى خنزير الماء
المسألة الثالثة للشافعي رضي الله عنه قولان في أنه هل يغسل الإناء من ولغ الخنزير سبعاً أحدها نعم تشبيها له بالكلب والثاني لا لأن ذلك التشديد إنما كان فطما لهم عن مخالطة الكلاب وهم ما كانوا يخالطون الخنزير فظهر الفرق
الفصل الرابع
في تحريم ما أهل به لغير الله
من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم كقوله تعالى وَمَا ذُبِحَ عَلَى ( المائدة 3 ) وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فقلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون واحتج المخالف بوجوه الأول إنه تعالى قال الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( المائدة 5 ) وهذا عام الثاني أنه تعالى قال وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فدل على أن المراد بقوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هو المراد بقوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ الثالث أن النصراني إذا سمى الله تعالى وإنما يريد به المسيح فإذا كانت إرادته لذلك لم تمنع حل ذبيحته مع أنه يهل به لغير الله فكذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله وإرادته المسيح
والجواب عن الأول أن قوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ عام وقوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ خاص والخاص مقدم على العام وعن الثاني أن قوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لا يقتضي تخصيص قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لأنهما آيتان متباينتان ولا مساواة بينهما وعن الثالث أنا إنما كلفنا بالظاهر لا بالباطن فإذا ذبحه على اسم الله وجب أن يحل ولا سبيل لنا إلى الباطن
الفصل الخامس
القائلون بأن كلمة إِنَّمَا للحصر اتفقوا على أن ظاهر الآية يقتضي أن لا يحرم سوى هذه الأشياء لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات فتصير كلمة إِنَّمَا متروكة الظاهر في العمل ومن قال إنها لا تفيد الحصر فالإشكال زائل
الفصل السادس
في ( المضطر ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ معناه أن من كان مضطرًّ ولا يكون موصوفاً بصفة البغي ولا بصفة العدوان ألبتة فأكل فلا إثم عليه وقال أبو حنيفة معناه فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل ويتفرع على هذا الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا فقال الشافعي رضي الله عنه لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان فلا يندرج تحت الآية وقال أبو حنيفة بل يترخص لأنه مضطر غير باغ ولا عاد في الأكل فيندرج تحت الآية واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وبالمعقول أما الآية فهي أنه سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء على الكل بقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ ( المائدة 3 ) ثم أباحها للمضطر الذي يكون موصوفاً بإنه غير باغ ولا عاد والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة لأن قولنا فلان ليس بمتعد نقيض لقولنا فلان متعد ويكفي في صدقة كونه متعدياً في أمر ما من الأمور سواء كان في السفر أو في الأكل أو في غيرهما وإذا كان اسم المتعدي يصدق بكونه متعدياً في أمر ما أي أمر كان وجب أن يكون قولنا فلان غير معتدلا يصدق إلا إذا لم يكن متعدياً في شيء من الأشياء ألبتة فاذن قولنا غير باغ ولا عاد لا يصدق إلا إذا انتفى عنه صفة التعدي من جميع الوجوه والعاصي بسفره متعد بسفره فلا يصدق عليه كونه غير عاد وإذا لم يصدق عليه ذلك وجب بقاؤه تحت الآية وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ أقصى ما في الباب أن يقال هذا يشكل بالعاصي في سفره فإنه يترخص مع أنه موصوف بالعدوان لكنا نقول إنه عام دخله التخصيص في هذه الصورة والفرق بين الصورتين أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية أما إذا لم يكن السفر في نفسه معصية لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية فظهر الفرق واعلم أن القاضي وأبا بكر الرازي نقلاً عن الشافعي أنه قال في تفسير قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ أي باغ على إمام المسلمين ولا عاد بأن لا يكون سفره في معصية ثم قالا تفسير الآية غير باغ ولا عاد في الأكل أولى مما ذكره الشافعي رضي الله عنه وذلك لأن قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ شرط والشرط بمنزلة الاستثناء في أنه لا يستقل بنفسه فلا بد من تعلقه بمذكور وقد علمنا أنه لا مذكور إلا الأكل لأنا بينا أن معنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وإذا كان كذلك وجب أن يكون متعلقاً بالأكل الذي هو في حكم المذكور دون السفر الذي هو ألبتة غير مذكور
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وذلك لأنا بينا أن قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ لا يصدق إلا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور فيدخل فيه نفي العدوان بالسفر ضمنا ولا نقول اللفظ يدل على التعيين وأما تخصيصه بالأكل فهو تخصيص من غير ضرورة فكان على خلاف الأصل ثم الذي يدل على أنه لا
يجوز صرفه إلى الأكل وجوه أحدها أن قوله غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ حال من الاضطرار فلا بد وأن يكون وصف الاضطرار باقيا مع بقاء كونه غير باغ ولا عاد فلو كان المراد بكونه غير باغ ولا عاد كونه كذلك في الأكل لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه لأن حال الأكل لا يبق وصف الاضطرار وثانيها أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم وما كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي عنه فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة وثالثها أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية وكذا العدوان في السفر فرد آخر من أفرادها فاذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات فكان تخصيصه بالأكل غير جائز وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه لا يخصصه بنفي العدوان في السفر بل يحمله على ظاهره وهو نفي العدوان من جميع الوجوه ويستلزم نفي العدوان في السفر وحينئذ يتحقق مقصوده ورابعها أن الاحتمال الذي ذكرناه متأيد بآية أخرى وهي قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ( المائدة 3 ) وهو الذي قلناه من أن الآية تقتضي أن لا يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجوه أحدها قوله تعالى في آية أخرى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ( الأنعام 119 ) وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص وثانيها قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( النساء 29 ) وقال وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 ) والامتناع من الأكل سعى في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة فوجب أن يحرم وثالثها روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع ورابعها أن العاصي بسفره إذا كان نائماً فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق فلأن يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى وخامسها أن يدفع أسباب الهلاك كالفيل والجمل الصؤل والحية والعقرب بل يجب عليه فكذا ههنا وسادسها أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه فكذا ههنا والجامع دفع الضرر عن النفس وسابعها أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه فكذلك يدفع ضررالهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصياً وثامنها أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة والخاص مقدم على العام وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال لأن المعصية ممنوع منها والإعانة سعي في تحصيلها والجمع بينهما متناقص والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه