كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه ويجوز أن يراد به أوعية الطعام
ثم قال وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ واختلف القراء في رُدَّتْ فالأكثرون بضم الراء وقرأ علقمة بكسر الراء قال صاحب ( الكشاف ) كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد وأما قوله مَا نَبْغِى ففي كلمة مَا قولان
القول الأول أنها للنفي وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب لمافعل ذلك فقولهم مَا نَبْغِى أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذباً ولا ذكر شيء لم يكن الثاني أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا الثالث المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى فإن هذه التي معنا كافية لنا
والقول الثاني أن كلمة ( ما ) ههنا للاستفهام والمعنى لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا ما نبغي بعد هذا أي أعطانا الطعام ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه فأي شيء نبغي وراء ذلك
واعلم أنا إذا حملنا ( ما ) على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا قال الأصمعي يقال ماره يميره ميراً إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال ما عنده خير ولا مير وقوله وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ معناه أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل وأما إذا حملنا كلمة ( ما ) على النفي كان المعنى لا نبغي شيئاً آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني ثم نفعل كذا وكذا
وأما قوله ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ففيه وجوه الأول قال مقاتل ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج والثاني ذلك كيل يسير أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير والثالث أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً موثوقاً به وقوله مِنَ اللَّهِ أي عهداً موثوقاً به بسبب تأكده بإشهاد الله وبسبب القسم بالله عليه وقوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من الله اليمين فتقديره حتى تحلفوا بالله لتأتنني به وقوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فيه بحثان
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) هذا الاستثناء متصل فقوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ مفعوله له والكلام المثبت الذي هو قوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ في تأويل المنفي فكان المعنى لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة
البحث الثاني قال الواحدي للمفسرين فيه قولان
القول الأول أن قوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ معناه الهلاك قال مجاهد إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( الكهف 42 ) أي أصابه ما أهلكه وقال تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ( يونس 22 ) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه فقيل لكل من هلك قد أحيط به
والقول الثاني ما ذكره قتادة إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين فلا تقدرون على الرجوع
ثم قال تعالى فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يريد شهيد لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات
وَقَالَ يابَنِى َّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَة ٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ وفيه قولان الأول وهو قول جمهور
المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان
المقام الأول إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه الأول إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك والثاني ما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعوذ الحسن والحسين فيقول ( أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات الله عليهم والثالث ما روى عبادة بن الصامت قال دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال ( إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك ) قال فأفقت والرابع روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمناً بيضاً فقالت أسماء يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم والخامس دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين والسادس قوله عليه السلام ( العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر ) والسابع قالت عائشة رضي الله عنها كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين
المقام الثاني في الكشف عن ماهيته فنقول إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكاراً بليغاً ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلاً عن حجة وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الحافظ إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار وإن كان مخالفاً في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئاً فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه وقد يكره بقاءه أيضاً كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جداً ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه والحزن أيضاً يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جداً فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين ولهذا السبب أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال
الوجه الثاني قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به فهذا المعنى غير ممتنع ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق
الوجه الثالث وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن
يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة وأيضاً أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب ويسخن مزاجه جداً فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضاً جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده
القول الثاني وهو قول أبي علي الجبائي أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم فقال لاَ تَدْخُلُواْ تلك المدينة مِن بَابٍ وَاحِدٍ على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه ونقل عن الحسن أنه قال خاف عليهم العين فقال لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ثم رجع إلى علمه وقال وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول ليس في قوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره
القول الثالث أنه عليه السلام كان عالماً بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة وهذا قول إبراهيم النخعي فأما قوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضاً بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة والأغذية الضارة ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم وقوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين فهذا
السؤال غير مختص به وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى فكذا ههنا فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكماً لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب ( إحياء علوم الدين ) فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ إِلاَّ حَاجَة ً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
قال المفسرون لما قال يعقوب وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء ( يوسف 67 ) صدقه الله في ذلك فقال وما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمراً قدره الله وقال الزجاج إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون وقال ابن الأنباري لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم وهذه الكلمات متقاربة وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر
البحث الثاني قوله مِن شَى ْء يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية
أما الأول فهو كقوله ما رأيت من أحد والتقدير ما رأيت أحداً فكذا ههنا تقدير الآية أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئاً من تحت قضاء الله تعالى
وأما الثاني فكقولك ما جاءني من أحد وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه
أما قوله إِلاَّ حَاجَة ً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا فقال الزجاج إنه استثناء منقطع والمعنى لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوهاً أحدها خوفه عليهم من إصابة العين وثانيها خوفه عليهم من حسد أهل مصر وثالثها خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر ورابعها خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه وكل هذه الوجوه متقاربة
وأما قوله وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ فقال الواحدي يحتمل أن يكون مَا مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب والتقدير وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه ويمكن أن تكون مَا بمعنى الذي والهاء عائدة إليها والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه يعني أنا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران الأول أن المراد بالعلم الحفظ أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له والثاني لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملاً بما علمه ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وفيه وجهان الأول ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب والثاني لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم والمراد بأكثر الناس المشركون فإنهم لا يعلمون بأن الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَة َ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتاً وقال هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال من يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك
يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون
إذا عرفت هذا فنقول قوله اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه وقوله إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فيه قولان قال وهب لم يرد أنه أخوه من النسب ولكن أراد به إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس ولأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة
وأما قوله فَلاَ تَبْتَئِسْ فقال أهل اللغة تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس وقوله بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فيه وجوه الأول المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا الثاني أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافياً مع إخوته فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معه أيضاً فقال فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها الثالث أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام فأمنه منه وقال لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك الرابع روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها فقال له فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا والله أعلم
ثم قال تعالى فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَة َ فِى رَحْلِ أَخِيهِ وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل أما السقاية فقال صاحب ( الكشاف ) مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعاً وقيل كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضاً وهذا أقرب ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت من ذهب وقيل كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضاً بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك والأولى أن يقال كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا
ثم قال تعالى ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يقال أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان قال ابن الأنباري أذن معناه أعلم إعلاماً بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع وقال سيبويه أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما والتأذين معناه النداء والتصويت بالإعلام
وأما قوله تعالى أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قال أبو الهيثم كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل وقيل العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي
تذهب وتجيء وقيل هي قافلة الحمير ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف
إذا عرفت هذا فنقول أَيَّتُهَا الْعِيرُ المراد أصحاب العير كقوله يا خيل الله اركبي وقرأ ابن مسعود وَجَعَلَ السّقَايَة َ على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
فإن قيل هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند الله أن يتهم أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة
قلنا العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوهاً الأول أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له إني أريد أن أحبسك ههنا ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنباً والثاني أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك والثالث أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذباً الرابع ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها ثم إن إخوة يوسف قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي تَفْقِدُونَ من أفقدته إذا وجدته فقيداً قالوا تفقد صواع الملك قال صاحب ( الكشاف ) قرىء صواع وصاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها والعين معجمة وغير معجمة قال بعضهم جمع صواع صيعان كغراب وغربان وجمع صاع أصواع كباب وأبواب وقال آخرون لا فرق بين الصاع والصواع والدليل عليه قراءة أبي هريرة قَالُواْ نَفْقِدُ وَقَالَ الْمَلِكُ وقال بعضهم الصواع اسم والسقاية وصف كقولهم كوز وسقاء فالكوز اسم والسقاء وصف
ثم قال وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي من الطعام أَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قال مجاهد الزعيم هو المؤذن الذي أذن وتفسير زعيم كفيل قال الكلبي الزعيم الكفيل بلسان أهل اليمن وروى أبو عبيدة عن الكسائي زعمت به تزعم زعماً وزعامة أي كفلت به وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ( الزعيم غارم )
فإن قيل هذه كفالة بشيء مجهول
قلنا حمل بعير من الطعام كان معلوماً عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه الكفالة مال لرد سرقة وهو كفالة بما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم
قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
قال البصريون الواو في وَاللَّهُ بدل من التاء والتاء بدل من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل قال المفسرون حلفوا على أمرين أحدهما على أنهم ما جاؤا لأجل الفساد في الأرض لأنه ظهر من أحواله امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس حتى روي أنهم كانوا قد سدوا أفواه دوابهم لئلا تعبث في زرع وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ومن كانت هذه صفته فالفساد في الأرض لا يليق به والثاني أنهم ما كانوا سارقين وقد حصل لهم فيه شاهداً قاطع وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتة ثم لما بينوا براءتهم عن تلك التهمة قال أصحاب يوسف عليه السلام فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ فأجابوا و قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ قال ابن عباس كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا والمعنى جزاء هذا الجرم من وجد المسروق في رحله أي ذلك الشخص هو جزاء ذلك الجرم والمعنى أن استعباده هو جزاء ذلك الجرم قال الزجاج وفيه وجهان أحدهما أن يقال جزاؤه مبتدأ ومن وجد في رحله خبره والمعنى جزاء السرقة هو الإنسان الذي وجد في رحله السرقة ويكون قوله فَهُوَ جَزَاؤُهُ زيادة في البيان كما تقول جزاء السارق القطع فهو جزاؤه الثاني أن يقال جَزَاؤُهُ مبتدأ وقوله مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ جملة وهي في موضع خبر المبتدأ والتقدير كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو إلا أنه أقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان وأنشد النحويون لا أرى الموت يسبق الموت شيء
نغص الموت الغني والفقيرا
وأما قوله كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين يريد إذا سرق استرق ثم قيل هذا من بقية كلام أخوة يوسف وقيل إنهم لما قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه فقال أصحاب يوسف كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ
اعلم أن إخوة يوسف لما أقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق قال لهم المؤذن إنه لا بد من تفتيش أمتعتكم فانصرف بهم إلى يوسف فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ لإزالة التهمة والأوعية جمع الوعاء وهو كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به استخرجها من وعاء أخيه وقرأ الحسن وِعَاء أَخِيهِ بضم الواو وهي لغة وقرأ سعيد بن جبير مِنْ أَخِيهِ فقلب الواو همزة
فإن قيل لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه
قلنا قالوا رجع ضمير المؤنث إلى السقاية وضمير المذكر إلى الصواع أو يقال الصواع يؤنث ويذكر فكان كل واحد منهما جائزاً أو يقال لعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية وفيما يتصل بهم صواعاً عن قتادة أنه قال كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائباً مما قذفهم به حتى إنه لما لم يبق إلا أخوه قال ما أرى هذا قد أخذ شيئاً فقالوا لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضاً فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف
ثم قال تعالى كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ وفيه بحثان الأول المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف الثاني لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانوناً معتبراً في هذا الباب وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ ( البقرة 26 ) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف والله تعالى نصره وقواه وأعلى أمره وقال آخرون المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه
ثم قال تعالى مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ والمعنى أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ثم قال نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم والكسائي دَرَجَاتٌ بالتنوين غير مضاف والباقون بالإضافة
المسألة الثانية المراد من قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ
المراد ويخصه بأنواع العلوم وأقسام الفضائل والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وأيضاً وصف إبراهيم عليه السلام بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 ) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضاً بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت
ثم قال تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء إلا أن يوسف كان زائداً عليهم في العلم
واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا لو كان عالماً بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك لحصل فوقه عليم تمسكاً بعموم هذه الآية وهذا باطل
واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( النساء 166 ) لا يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( البقرة 255 ) مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ( فاطر 11 ) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم والمشتق مركب والمشتق منه مفرد وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا
قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين ثم قالوا يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم فقال بنيامين ماأكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة ثم تقولون لي هذا الكلام قالوا له فكيف خرج الصواع من رحلك فقال وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضاً سارقاً وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال الأول
قال سعيد بن جبير كان جده أبو أمه كافراً يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة والثاني أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء وقيل سرق عناقاً من أبيه ودفعه إلى المسكين وقيل دجاجة والثالث أن عمته كانت تحبه حباً شديداً فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي عندها منطقة لاسحق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها والرابع أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل ألبتة
ثم قال تعالى فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ واختلفوا في أن الضمير في قوله فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج فأسرها إضمار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً وإنما أنث لأن قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وفي قراءة ابن مسعود فَأَسْرِ بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين
الوجه الأول قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين أحدهما أن يفسر بمفرد كقولنا نعم رجلاً زيد ففي نعم ضمير فاعلها ورجلاً تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنبياء 97 ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر الله أحد ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً نحو إن كقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ( طه 74 ) فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( الحج 46 )
إذا عرفت هذا فنقول نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ولا مبايناً لها وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن والثاني أنه تعالى قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام ولو قلنا إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذباً واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه
أما الأول فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث
وأما الثاني فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال
والوجه الثاني وهو أن الضمير في قوله فَأَسَرَّهَا عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فأسر يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ويجوز أيضاً أن يكون إضماراً للمقالة والمعنى أسر يوسف مقالتهم والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم يعني أسر يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة ولم يبين لهم
أنها كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عوقب يوسف عليه السلام ثلاث مرات لأجل همه بها عوقب بالحبس وبقوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ( يوسف 42 ) عوقب بالحبس الطويل وبقوله إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( يوسف 7 ) عوقب بقولهم فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ثم حكى تعالى عن يوسف أنه قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون ثم بعتموه بعشرين درهماً ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ يريد أن سرقة يوسف كانت رضا لله وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه والمعنى والله أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا
قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ
اعلم أنه تعالى بين أنهم بعد الذي ذكروه من قولهم إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) أحبوا موافقته والعدول إلى طريقة الشفاعة فإنهم وإن كانوا قد اعترفوا أن حكم الله تعالى في السارق أن يستعبد إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزا فقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً أي في السن ويجوز أن يكون في القدر والدين وإنما ذكروا ذلك لأن كونه ابناً لرجل كبير القدر يوجب العفو والصفح ثم قالوا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ يحتمل أن يكون المراد على طريق الاستبعاد ويحتمل أن يكون المراد على طريق الرهن حتى نوصل الفداء إليك ثم قالوا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وفيه وجوه أحدها إنا نراك من المحسنين لو فعلت ذلك وثانيها إنا نراك من المحسنين إلينا حيث أكرمتنا وأعطيتنا البذل الكثير وحصلت لنا مطلوبنا على أحسن الوجوه ووردت إلينا ثمن الطعام وثالثها نقل أنه عليه السلام لما اشتد القحط على القوم ولم يجدوا شيئاً يشترون به الطعام وكانوا يبيعون أنفسهم منه فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له ثم إنه أعتق الكل فلعلهم قالوا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى عامة الناس بالإعتاق فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بإعتاقه من هذه المحنة فقال يوسف مَعَاذَ اللَّهِ أي أعود بالله معاذاً أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده أي أعوذ بالله أن آخذ بريئاً بمذنب قال الزجاج موضع ( أن ) نصب والمعنى أعوذ بالله من أخذ أحد بغيره فلما سقطت كلمة ( من ) انتصب الفعل عليه وقوله إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ أي لقد تعديت وظلمت إن آذيت إنساناً بجرم صدر عن غيره
فإن قيل هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع
رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد
والجواب لعله تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنهم لما قالوا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ( يوسف 78 ) وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ( يوسف 79 ) فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده فعند هذا قال تعالى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا وهو مبالغة في يأسهم من رده وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة أحدها أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخاً كبيراً فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة وثانيها أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة وثالثها أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول ولكان يوهم أيضاً أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلباً للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا
المسألة الثانية قال الواحدي روي عن ابن كثير استياسوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ( يوسف 110 ) بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة قال صاحب ( الكشاف ) استيأسوا يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله استعصم ( يوسف 32 ) وقوله مِنْهُ خَلَصُواْ قال الواحدي يقال خلص الشيء يخلص خلوصاً إذا ذهب عنه الشائب من غيره ثم فيه وجهان الأول قال الزجاج خلصوا أي انفردوا وليس معهم أخوهم والثاني قال الباقون تميزوا عن الأجانب وهذا هو الأظهر وأما قوله نَجِيّاً فقال صاحب ( الكشاف ) النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 )
وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل النجوى بمعنى المتناجين فعلى هذا معنى خَلَصُواْ نَجِيّا اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم نَجِيّاً أي مناجياً روي نَجْوَى أي فوجاً نَجِيّاً أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً وأحسن الوجوه أن يقال إنهم تمحضوا تناجياً لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التناجي حقيقة
أما قوله تعالى قَالَ كَبِيرُهُمْ فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل وقيل كبيرهم في العقل وهو يهودا وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما لما قال يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ( يوسف 79 ) غضب يهودا وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا إن أبانا قد أخذ علينا موثقاً عظيماً من الله وأيضاً نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة
المسألة الثانية لفظ ما في قوله مَا فَرَّطتُمْ فيها وجوه الأول أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام ولم تحفظوا عهد أبيكم الثاني أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف الثالث النصب عطفاً على مفعول أَلَمْ تَعْلَمُواْ والتقدير ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف الرابع أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين ثم قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعاً إلى الله تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى قيل إنه روبيل وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب
فإن قيل كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعاً في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع وأما قوله وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم وأما هذا الصواع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق فشهدوا بناء على هذا الظن ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
والوجه الثاني في الجواب أن تقدير الكلام إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن قال تعالى إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) أي عند نفسك وقال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا
الوجه الثالث في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
الوجه الرابع أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئاً يوهم ذلك
الوجه الخامس أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ بالتشديد أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة والقراءة الحقة هي هذه أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقياً سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة أما قوله وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال إذا علمت مثل الشمس فاشهد وذلك أيضاً يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضاً عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة
إذا ثبت هذا فنقول الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس وأما قوله وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ففيه وجوه الأول أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله والثاني قال عكرمة معناه لعل الصواع دس في متاعه
بالليل فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات والثالث قال مجاهد والحسن وقتادة وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقاً من الله في رده إليك والرابع نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ إشارة إلى هذا المعنى
فإن قيل فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول
قلنا لعله كان ذلك الحكم مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافراً
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش ثم فيه قولان الأول المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات والثاني قال أبو بكر الأنباري المعنى اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه وفيه وجه ثالث وهو أن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً كاملاً فقد يقال فيه سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيه مجال
أما قوله وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا سلهم عن هذه الواقعة ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا وِإِنَّا لَصَادِقُونَ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة
يوسف فقال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) وقال ههنا عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم إن قوله بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله إنما جاء على خلاف تقديركم وقيل بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمراً خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق
المسألة الثانية قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال أتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم ذهبتم مرة فنقص يوسف وفي الثانية نقص شمعون وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين ثم بكى وقال عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه الأول أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن برحمة الله والثاني لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا إثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى ( يوسف 80 ) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم قَالَ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا
ثم قال إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يابَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جداً وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم
أما المقام الأول وهو أنه أعرض عنهم وفر منهم فهو قوله وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على يوسف عليه السلام وَقَالَ يأَبَتِ دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه
الوجه الأول أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة وقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبراً فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى وقال آخر فلم تنسني أو في المصيبات بعده
ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد
الوجه الثالث أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا وكان الأسف عليه أسفاً على الكل الرابع أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه وأما السبب الحقيقي فما كان معلوماً له وأيضاً أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله
المسألة الثانية من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ قال لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من الله وأنه لا يجوز والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه وهو المراد من قوله وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ثم أمسك لسانه عن النياحة وذكر مالا ينبغي وهو المراد من قوله فَهُوَ كَظِيمٌ ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل هل لك علم بيعقوب قال نعم قال وكيف حزنه
قال حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت قال فهل له فيه أجر قال نعم أجر مائة شهيد
فإن قيل روي عن محمد بن علي الباقر قال مر بيعقوب شيخ كبير فقال له أنت إبراهيم فقال أنا ابن ابنه والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي فأوحى الله تعالى إليه ( حتى متى تشكوني إلى عبادي وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلنك لحماً خيراً من لحمك ودماً خيراً من دمك ) فكان من بعد يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان ليعقوب أخ مواخ ) فقال له ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال الذي أذهب بصري البكاء على يوسف وقوس ظهري الحزن على بنيامين فأوحى الله تعالى إليه ( أما تستحي تشكوني إلى غيري ) فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال يا رب أما ترحم الشيخ الكبير قوست ظهري وأذهبت بصري فاردد عليَّ ريحانتي يوسف وبنيامين فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاماً للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائماً نادى مثله عند الإفطار وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر فقال له رجل ما هذا الذي أراه بك قال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه ( أتشكوني يا يعقوب ) فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي
قلنا إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي فقال لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك وأما البكاء فليس من المعاصي وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام بكى على ولده إبراهيم عليه السلام وقال ( إن القلب ليحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ) وأيضاً فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره فلا يكون ذلك داخلاً تحت التكليف وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأيضاً ففيه دقيقة أخرى وهي أن الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى الله تعالى فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حياً أم صار ميتاً فكان متوقفاً فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى الله تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى الله تعالى إلا في هذه الواقعة وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر الله تعالى فإن عن تذكر هذا الواقعة فكان ذكرها كلا سواها فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح
فإن قيل أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( البقرة 156 ) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 157 )
قلنا قال بعض المفسرين إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة وهذا عندي ضعيف لأن قوله إِنَّا لِلَّهِ إشارة إلى أنا مملوكون لله وهو الذي خلقنا وأوجدنا وقوله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى فهناك تحصل السلوة التامة عند
تلك المصيبة ومن المحال أن يكون لمؤمن بالله غير عارف بذلك
المسألة الثالثة قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ نداء الأسف وهو كقوله ( يا عجباً ) والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله حَاشَ للَّهِ ( يوسف 31 ) والأسف الحزن على ما فات قال الليث إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزني ومتأسف أيضاً قال الزجاج الأصل يا أسفى إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة
ثم قال تعالى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ وفيه وجهان
الوجه الأول أنه لما قال يا أسفى على يوسف غلبه البكاء وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء وقوله وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ كناية عن غلبة البكاء والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسناً ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل فكان ما ذكرناه أولى وهذا للتفسير مع الدليل رواه الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس رضي الله عنهما
والوجه الثاني أن المراد هو العمى قال مقاتل لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف الله تعالى عنه بقميص يوسف عليه السلام وهو قوله فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا ( يوسف 93 ) قيل إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام حينما كان في السجن فقال إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك فوضع يده على رأسه وقال ليت أمي لم تلدني ولم أك حزناً على أبي والقائلون بهذا التأويل قالوا الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى فالحزن كان سبباً للعمى بهذه الواسطة وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى لأنه يورث كدورة في سوداء العين ومنهم من قال ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكاً ضعيفاً قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه وتلك المدة ثمانون عاماً وما كان على وجه الأرض عبداً أكرم على الله تعالى من يعقوب عليه السلام
أما قوله تعالى مِنَ الْحُزْنِ فاعلم أنه قرىء مِنَ الْحُزْنِ بضم الحاء وسكون الزاي وقرأ الحسن بفتح الحاء والزاي قال الواحدي واختلفوا في الحزن والحزن فقال قوم الحزن البكاء والحزن ضد الفرح وقال قوم هما لغتان يقال أصابه حزن شديد وحزن شديد وهو مذهب أكثر أهل اللغة وروى يونس عن أبي عمرو قال إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً ( التوبة 92 ) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله مِنَ الْحُزْنِ وقوله أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ قال هو في موضع رفع الابتداء
وأما قوله تعالى فَهُوَ كَظِيمٌ فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قال ابن قتيبة ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم ومعناه المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه ويجوز أيضاً أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده
واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم فاللسان كان
مشغولاً بقوله يا أسفى والعين بالبكاء والبياض والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم
أما قوله تعالى قَالُواْ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت يقال ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد قال ابن قتيبة يقال ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو والله لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرىء القيس
فقلت يمين الله أبرح قاعداً
والمعنى لا أبرح قاعداً ومثله كثير وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين
المسألة الثانية حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب وقوله حرضت فلاناً على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه وقال تعالى حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ( الأنفال 65 )
إذا عرفت هذا فنقول وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معاً
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه عبارات أحدها الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله وثانيهما سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال الفاسد الدنف وثالثها أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان وقوله أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ أي من الأموات ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف
فإن قيل لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً
قلنا إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر
فإن قيل القائلون بهذا الكلام وهو قوله تَاللَّهِ من هم
قلنا الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه
ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم وإنما أذكره في حضرة الله تعالى والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ) والله هو الموفق والبث هو التفريق قال الله تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) فالحزن إذا ستره الإنسان كان هماً وإذا ذكره لغيره كان بثاً وقالوا البث أشد الحزن والحزن أشد الهم وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستولياً عليه وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى كان ذلك بثاً وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزاً عنه وهو قد استولى على الإنسان فقوله بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله وقرأ الحسن وَحُزْنِى بفتحتين وحزني بضمتين قيل دخل على يعقوب رجل وقال يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً فقال الذي بي لكثرة غمومي فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفرها له وكان بعد ذلك إذا سئل قال إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وروي أنه أوحى الله إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليَّ الأنبياء والمساكين فاصنع طعاماً وادع إليه المساكين وقيل اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت
ثم قال يعقوب عليه السلام وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً أحدها أن ملك الموت أتاه فقال له يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف قال لا يا نبي الله ثم أشار إلى جانب مصر وقال أطلبه ههنا وثانيها أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطىء وثالثها لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه ولكنه تعالى ما عين الوقت فلهذا بقي في القلق ورابعها قال السدي لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله طمع أن يكون هو يوسف وقال يبعد أن يظهر في الكفار مثله وخامسها علم قطعاً أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فهذا جملة الكلام في المقام الأول
والمقام الثاني أنه رجع إلى أولاده وتكلم معهم على سبيل اللطف وهو قوله تَعْلَمُونَ يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ
واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه تحسسوا من يوسف والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر قال أبو بكر الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقيل ههنا من يوسف لأنه أقام من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض والمعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف واستعلموا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة مِنْ لما فيها من الدلالة على التجيض وقرىء تَجَسَّسُواْ بالجيم كما قرىء بهما في الحجرات
ثم قال وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ قال الأصمعي الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو الحاء يفيد الحركة والاهتزاز فكلما يهتز انسان له ويلتذ بوجوده فهو روح وقال ابن عباس لا تيئسوا من روح الله يريد من رحمة الله وعن قتادة من فضل الله وقال ابن زيد من فرج الله وهذه الألفاظ متقاربة وقرأ الحسن وقتادة من روح الله بالضم أي من رحمته
ثم قال يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن قال ابن عباس رضي الله عنهما إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء
واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة وكل واحد منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً والله أعلم وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات
السؤال الأول أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلاً عن الله فإن من عرف الله أحبه ومن أحب الله لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى الله تعالى وأيضاً القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين فلما كان قلبه مستغرقاً في حب ولده امتنع أن يقال إنه كان مستغرقاً في حب الله تعالى
والسؤال الثاني أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر الله تعالى وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه
وأما قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلاً عن أكابر الأنبياء
والسؤال الثالث لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا ومن كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم وكان يوسف في مصر وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريباً من مصر فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية
السؤال الرابع لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحداً إلى يعقوب ويعلمه أنه في الحياة وفي السلامة ولا يقال إنه كان يخاف إخوته لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً كان يمكنه إرسال الرسول إليه وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول
والسؤال الخامس كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئاً عنها
السؤال السادس كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى
والجواب عن الأول أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع فيصير ذلك سبباً لكمال الاستغراق
والجواب عن الثاني أن الداعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة فتارة كان يقول فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( يوسف 84 ) وتارة كان يقول فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن فقال هذه الوقائع التي نقلت إلينا إما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن فإن كان الأول فلا إشكال وإن كان الثاني فنقول كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد فلم يمتنع أن يقال إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَءِنَّكَ لاّنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير أن يعقوب لما قال لبنيه اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ
فإن قيل إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل
قلنا لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ والعزيز هو الملك القادر المنيع مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم وَجِئْنَا بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ وفيه أبحاث
البحث الأول معنى الإزجاء في اللغة الدفع قليلاً قليلاً ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ( النور 43 ) وزجيت فلاناً بالقول دافعته وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة
والبحث الثاني إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعاً والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن البضاعة المزجاة القليلة وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام وقيل خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة وقيل متاع الأعراب الصوف والسمن وقيل الحبة الخضراء وقيل الأقط وقيل النعال والأدم وقيل سويق المقل وقيل صوف المعز وقيل إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس
البحث الثالث في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة وفيه وجوه الأول قال الزجاج هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام الثاني قال أبو عبيد إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها قال وهي من الأزجاء والأزجاء عند العرب السوق والدفع الثالث ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها الرابع قال الكلبي مزجاة لغة العجم وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوباً إلى القبط
البحث الرابع قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة لأن أصله الياء والباقون بالنصب والتفخيم
واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ والمراد أن يساهلهم إما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد ثم قالوا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلباً منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الآية وعلى هذا التقدير كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه وروي عن الحسن ومجاهد أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي قالوا لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب وإنما يقول اللهم أعطني أو تفضل فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي وأجاز الليث أن يقال للسائل متصدق وأباه الأكثرون وروي أنهم لما قالوا مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وقيل دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها برداً وسلاماً عليه وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان
أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف
ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف وقيل إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف وقوله هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( يوسف 15 ) وأما قوله وَأَخِيهِ فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه وأيضاً كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) وأما قوله إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ فهو يجري مجرى العذر كأنه قال أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور يعني والآن لستم كذلك ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الأنفطار 6 ) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفاً للأمر عليهم ثم إن إخوته قالوا أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ قرأ ابن كثير إِنَّكَ على لفظ الخبر وقرأ نافع أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو آينك بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع والباقون أئنك بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام وقرأ أبي أَوْ أَنتَ يُوسُفَ فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر أما الأولون فقالوا إن يوسف لما قال لهم هَلْ عَلِمْتُمْ وتبسم فأبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف فقالوا له استفهاماً أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ ويدل على صحة الاستفهام أنه قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وإنما أجابهم عما استفهموا عنه وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة فقالوا إِنَّكَ لاَنتَ يُوسُفَ ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ فيه بحثان
البحث الأول اللام لام الابتداء وأنت مبتدأ ويوسف خبره والجملة خبر إن
البحث الثاني أنه إنما صرح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه الله من الظفر والنصر فكأنه قال أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون ولهذا قال وَهَاذَا أَخِى مع أنهم كانوا
يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ معناه من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ والمعنى إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقياً ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذباً منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء
المسألة الثانية قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل إِنَّهُ مِنَ يَتَّقِى بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل ( من ) بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله وَيِصْبِرْ في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلباً للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين
قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى منَّ عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمزية قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قال الأصمعي يقال آثرك إيثاراً أي فضلك الله وفلان آثر عبد فلان إذا كان يؤثره بفضله وصلته والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائداً عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة
وأما قوله وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قيل الخاطىء هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وفرق بين الخاطىء والمخطىء فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطىء ولا يقال إنه خاطىء وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب وقال
أبو علي الجبائي إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنباً فلا يعتذر منه وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه
الوجه الأول أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي
الوجه الثاني هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى فعلمنا أن الإنسان أيضاً قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه
واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها ) أي ولا يعيرها بالزنا فقوله لاَ تَثْرَيبَ أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ وقوله يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى ( يوسف 98 )
البحث الثاني إن قوله الْيَوْمَ متعلق بماذا وفيه قولان
القول الأول إنه متعلق بقوله لاَ تَثْرَيبَ أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقاً لأن قوله لاَ تَثْرَيبَ نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية فكان ذلك مفيداً للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد منه الدعاء
والقول الثاني أن قوله الْيَوْمَ متعلق بقوله يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ كأنه لما نفى التثريب مطلقاً بشرهم بأن الله غفر ذنبهم في هذا اليوم وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فالله قبل توبتهم وغفر ذنبهم فلذلك قال الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح وقال لقريش ( ما تروني فاعلاً بكم ) فقالوا نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال ( أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب عليكم اليوم ) وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس إذا أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاتل عليه قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ففعل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( غفر الله لك ولمن علمك ) وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك
لما صدر منا من الإساءة إليك فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام
ثم قال يوسف عليه السلام اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا قال المفسرون لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه قال المحققون إنما عرف أن إلقاء ذلك القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ولولا الوحي لما عرف ذلك لأن العقل لا يدل عليه ويمكن أن يقال لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء وضيق القلب ضعف بصره فإذا ألقي عليه قميصه فلا بد أن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى وقوله يَأْتِ بَصِيرًا أي يصير بصيراً ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيرًا ( يوسف 96 ) ويقال المراد يأت إلي وهو بصير وإنما أفرده بالذكر تعظيماً له وقال في الباقين وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبي كان أهله نحواً من سبعين إنساناً وقال مسروق دخل قوم يوسف عليه السلام مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وروي أن يهودا حمل الكتاب وقال أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حاف وحاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
يقال فصل فلان من عند فلان فصولاً إذا خرج من عنده وفصل مني إليه كتاباً إذا أنفذ به إليه وفصل يكون لازماً ومتعدياً وإذا كان لازماً فمصدره الفصول وإذا كان متعدياً فمصدره الفصل قال لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال يعقوب عليه السلام لمن حضر عنده من أهله وقرابته وولد ولده إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ ولم يكن هذا القول مع أولاده لأنهم كانوا غائبين بدليل أنه عليه السلام قال لهم اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ( يوسف 87 ) واختلفوا في قدر المسافة فقيل مسيرة ثمانية أيام وقيل عشرة أيام
وقيل ثمانون فرسخاً واختلفوا في كيفية وصول تلك الرائحة إليه فقال مجاهد هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ وروى الواحدي بإسناده عن أنس بن مالك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أما قوله اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا ( يوسف 93 ) فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل عليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه فكسا إبراهيم عليه السلام ذلك القميص إسحاق وكساه إسحق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقى في الجب القميص في عنقه فذلك قوله اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا والتحقيق أن يقال إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنه ليعقوب عليه السلام حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له قال أهل المعاني إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ومعنى لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم وقوله لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ قال أبو بكر ابن الأنباري أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب ( الكشاف ) يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ وفي الضلال ههنا وجوه الأول قال مقاتل يعني بالضلال ههنا الشقاء يعني شقاء الدنيا والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف واحتج مقاتل بقوله إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 24 ) يعنون لفي شقاء دنيانا وقال قتادة لفي ضلالك القديم أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو كقولهم إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ( يوسف 8 ) ثم قال قتادة قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب وقوله فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ في ( أن ) قولان الأول أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا وقد تحذف كقوله فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ( هود 74 ) والمذهبان جميعاً موجودان في أشعار العرب والثاني قال البصريون هي مع ( ما ) في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره فلما ظهر أن جاء البشير أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه فَارْتَدَّ بَصِيرًا أي رجع بصيراً ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله فَارْتَدَّ بَصِيرًا أي صيره الله بصيراً كما يقال طالت النخلة والله تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم إنه كان قد عمي بالكلية فالله تعالى جعله بصيراً في هذا الوقت وقال آخرون بل كان قد ضعف بصره من كثرة
البكاء وكثرة الأحزان فلما ألقوا القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه فعند هذا قال أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( يوسف 86 ) روي أنه سأل البشير وقال كيف يوسف قال هو ملك مصر قال ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة لأنها أوفق الأوقات للإجابة الثالث أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا الرابع استغفر لهم في الحال وقوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكُمْ معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال ( اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام ) فأوحى الله تعالى إليه قد غفرت لك ولهم أجمعين وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء ما يغني عنا إن لم يغفر لنا فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال ( إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة ) وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه
السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر قال لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام السلام عليك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ
أما قوله إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ففيه بحثان
البحث الأول في المراد بقوله أبويه قولان الأول المراد أبوه وأمه وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت وقيل إنها كانت قد ماتت إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقاً لرؤية يوسف عليه السلام
والقول الثاني أن المراد أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين وقيل بنيامين بالعبرانية ابن الوجع ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى بأحد الأبوين لأن الرابة تدعى إما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب ومنه قوله تعالى وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 )
البحث الثاني آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما
فإن قيل ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر
قلنا كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم ادْخُلُواْ مِصْرَ
أما قوله دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ففيه أبحاث
البحث الأول قال السدي إنه قال هذا القول قبل دخولهم مصر لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه وعن ابن عباس رضي الله عنهما المراد بقوله ادْخُلُواْ مِصْرَ أي أقيموا بها آمنين سمى الإقامة دخولاً لاقتران أحدهما بالآخر
البحث الثاني الاستثناء وهو قول إِن شَاء اللَّهُ فيه قولان الأول أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ونظيره قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر
البحث الثالث معنى قوله ءامِنِينَ يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحداً وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف
أما قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ قال أهل اللغة العرش السرير الرفيع قال تعالى وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( النمل 23 ) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف وأما قوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ففيه إشكال وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 )
فقرن حق الوالدين بحق نفسه وأيضاً أنه كان شيخاً والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ
والقول الثالث أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه
والقول الرابع أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجداً لله تعالى وحاصل الكلام أن ذلك السجود كان سجوداً للشكر فالمسجود له هو الله إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ثم سجدوا له ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع
فإن قالوا فهذا التأويل لا يطابق قوله وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ والمراد منه قوله إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 )
قلنا بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال وعندي أن هذا التأويل متعين لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة
والوجه الثاني في الجواب أن يقال إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه وهذا التأويل حسن فإنه يقال صليت للكعبة كما يقال صليت إلى الكعبة قال حسان شعراً ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه
الوجه الثالث في الجواب قد يسمى التواضع سجوداً كقوله
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل لأنه تعالى قال وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ( الفرقان 73 ) يعني لم يمروا
الوجه الرابع في الجواب أن نقول الضمير في قوله وَخَرُّواْ لَهُ غير عائد إلى الأبوين لا محالة وإلا لقال وخروا له ساجدين بل الضمير عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة والتقدير ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين
فإن قالوا فهذا لا يلائم قوله وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ
قلنا إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر تعبير عن تعظيم الأكابر من الناس له ولا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير مساوياً لأصل الرؤيا في الصفة والصورة فلم يوجبه أحد من العقلاء
الوجه الخامس في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود وكان مقصودهم من السجود تعظيمه وهذا في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب فلو كان الأمر كما قلتم لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه السلام
والوجه السادس فيه أن يقال لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن لا يسجدوا له على سبيل التواضع وعلم يعقوب عليه السلام أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران الفتن ولظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظم حقه بسبب الأبوة والشيخوخة والتقدم في الدين والنبوة والعلم فعل ذلك السجود حتى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال الأنفة والنفرة عن قلوبهم ألا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسباً فإذا أراد ترتيبه مكنه في إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سبباً في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذا ههنا
الوجه السابع لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره بذلك سكت
ثم حكى تعالى أن يوسف لما رأى هذه الحالة قَالَ يَاءادَمُ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه وقال ليعقوب هذا تأويل رؤياي من قبل وأقول هذا يقوي الجواب السابع كأنه يقول يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سبباً لوجوب ذلك السجود فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئاً وأقول لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب كأنه قيل له إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه فإذا وجدته فاسجد له فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد والله أعلم بحقائق الأمور
البحث الثاني اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة وقيل سبعون وقيل أربعون وهو قول الأكثرين ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور
ثم قال وَقَدْ أَحْسَنَ بَى أي إلي يقال أحسن بي وإليه قال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن ثقلت
إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه الأول أنه قال لإخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جاراً مجري الكرم الثاني أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً أما لما خرج من السجن صيروه ملكاً فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً الثالث أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة الرابع قال الواحدي النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سبباً للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين
ثم قال وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان
القول الأول جاء بكم من البدو أي من البداية وقال الواحدي البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدواً ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال بدو وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية
والقول الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثير فقال وأنت التي حببت شعباً إلى بدا
إلى وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال غار القوم غوراً إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في ( البسيط )
المسألة الثانية تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأن خروج العبد من
السجن أضافه إلى نفسه بقوله إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر
ثم قال مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى قال صاحب ( الكشاف ) نَّزغَ أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان ذلك أيضاً من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم
والجواب أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر الله عنه فقال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك وأيضاً فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس إيضاً بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من الله تعالى ثم الذي يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ صريح في أن الكل من الله تعالى
ثم قال إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول
ثم قال إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أعني أن كونه لطيفاً في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب وحكيم أي محكم في فعله حاكم في قضائه حكيم في أفعاله مبرأ عن العبث والباطل والله أعلم
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنتَ وَلِى ِّ فِى الدُّنُيَا وَالاٌّ خِرَة ِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن يوسف عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن
الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح فلما أدخله مخازن القراطيس قال يا بني ما أغفلك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال نهاني جبريل عليه السلام عنه قال سله عن السبب قال أنت أبسط إليه فسأله فقال جبريل عليه السلام أمرني الله بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت وقيل ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيباً طاهراً فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقاً من مرمر ويجعلوه فيه ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ثم يصل إلى مصر لتصل بركته إلى كل أحد وولد له افراثيم وميشا وولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ثم دفن يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه
المسألة الثانية من في قوله مّنَ الْمُلْكِ وَمِنْ تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ للتبعيض لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل قال الأصم إنما قال من الملك لأنه كان ذو ملك فوقه
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلاً وهذان القسمان متباعدان جداً ويتوسطهما قسم ثالث وهو الذي يؤثر ويتأثر وهو عالم الأرواح فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة وقوله تعالى قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه فكان الحاصل في الحقيقة بعضاً من أبعاض الملك وبعضاً من أبعاض العلم فلهذا السبب ذكر فيه كلمة ( من ) لأنها دالة على التبعيض ثم قال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه أبحاث
البحث الأول في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة قال ابن عباس رضي الله عنهما ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها قال أهل اللغة أصل الفطر في اللغة الشق يقال فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر أي شققته فانشق وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت هذا أصله في اللغة ثم صار عبارة عن الإيجاد لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه
البحث الثاني أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه أحدها أنه قال الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فاطر 1 )
ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ ( فصلت 11 ) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض وثانيها أنه قال تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب قال تعالى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ( طه 55 ) وثالثها أن الشيء إنما يكون حاصلاً عند حصول مادته وصورته مثل الكوز فإنه إنما يكون موجوداً إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجوداً وبإيجاد تلك الصورة صار موجداً لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجداً للكون لا يقتضي كونه موجداً لمادة الكوز فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجداً للأجزاء التي منها تركبت السموات والأرض وإنما صار إلينا كونه موجداً لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن
واعلم أن قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يوهم أن تخليق السموات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول الواو تفيد الترتيب ثم العقل يؤكده أيضاً وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه وأيضاً اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
البحث الثالث قال الزجاج نصبه من وجهين أحدهما على الصفة لقوله رَبّ وهو نداء مضاف في موضع النصب والثاني يجوز أن ينصب على نداء ثان
ثم قال أَنتَ وَلِيُّنَا فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ والمعنى أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو وحينئذ يبطل عموم قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ
ثم قال تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) من هنا إلى قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) ثناء على الله ثم قوله رَبّ هَبْ لِى إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا هل هو طلب منه للوفاة أو لا فقال قتادة سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله وكثير من المفسرين على هذا القول وقال ابن عباس رضي
الله عنهما في رواية عطاء يريد إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام فهذا طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة
واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالماً بالإلهيات وفي أن يكون ملكاً ومالكاً متصرفاً في الجسمانيات وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا الله وما كان حصوله للإنسان ممتنعاً لزم أن يبقى الإنسان أبداً في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت فحينئذ يتمنى الموت
والسبب الثاني لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة أحدها أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها وثانيها أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات وثالثها أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات
والسبب الثالث وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها وإنما حاصلها دفع الآلام فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة
والسبب الرابع أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة أما لذة الأكل ففيها عيوب أحدها أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ بالله منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام وثانيها أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة ومع ضعفها غير باقية وثالثها أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة وذلك أيضاً منفر ورابعها أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس وخامسها أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر وسادسها أن الأكل يستحقر عند العقلاء قيل من كان همته ما
يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل وأما لذة النكاح فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى وهي أن النكاح سبب لحصول الولد وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها وربما صار هالكاً سبب طلب المال وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً آمراً فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيساً آمراً كان ذلك دالاً على مخالفة كل ما سواه فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات ألبتة ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها والعشق الشديد عليها والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالباً لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضاً مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظباً في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسداً وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبداً يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلاً فنحن نقول ههنا أيضاً إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى فكيف يطلب ذلك من الله قال الجبائي والكعبي معناه اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضاً كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من الله محالاً
المسألة الرابعة لقائل أن يقول الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز
والجواب أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى
المسألة الخامسة أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين يعني بآبائه إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة أذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة فكذا ههنا
ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
اعلم أن قوله ذالِكَ رفع بالابتداء وخبره مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر ثان وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ أي ما كنت عند إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وقوله وَهُمْ يَمْكُرُونَ أي بيوسف واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزاً بيان إن إخبار عن الغيب أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم ومن غير أن يقال إنه كان حاضراً معهم لا بد وأن يكون معجزاً وكيف يكون معجزاً وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مراراً وقوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم لأن كل أحد يعلم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان معهم
وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التعنت واعتقد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية وكأنه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) قال أبو بكر بن الأنباري جواب لَوْ محذوف لأن جواب لَوْ لا يكون مقدماً عليها فلا يجوز أن يقال وقال الفراء في ( المصادر ) يقال حرص يحرص حرصاً ولغة أخرى شاذة حرص يحرص حريصاً ومعنى الحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد وقوله وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ معناه ظاهر وقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات ومعناه أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة ثم لا تطلب منهم مالاً ولا جعلاً فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا وقوله تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها
واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة وهي إما الأجرام الفلكية وأما الأجرام العنصرية أما الأجرام الفلكية فهي قسمان إما الأفلاك وإما الكواكب أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته وقد يستدل بأحوال حركاتها إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم فلا بد من محرك قادر وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات وأما الأجرام الكوكبية فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها وتارة بألوانها وأضوائها وتار بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال والظلمات والنور وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية فإما أن تكون مأخوذة من بسائط وهي عجائب البر والبحر وإما من المواليد وهي أقسام أحدها الآثار العلوية كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح وثانيها المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها وثالثها النبات وخاصية الخشب والورق والثمر واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص وخاصية مخصوصة ورابعها اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها وخامسها تشريح أبدان الناس وتشريح القوى الإنسانية وبيان المنفعة الحاصلة فيها فهذه مجامع الدلائل ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره الله تعالى على سبيل الإبهام قال صاحب ( الكشاف ) قرىء والاْرْضِ بالرفع على أنه مبتدأ و يَمُرُّونَ عليها خبره وقرأ السدي والاْرْضِ بالنصب على تقدير أن يفسر قوله يَمُرُّونَ عَلَيْهَا بقولنا يطوفونها وفي مصحف عبدالله والاْرْضِ يَمْشُونَ عَلَيْهَا برفع الأرض
أما قوله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ فالمعنى أنهم كانوا مقرين بوجود الإله بدليل قوله
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) إلا أنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين يشبهون الله بخلقه وعنه أيضاً أنه قال نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب لأنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وعنه أيضاً أن أهل مكة قالوا الله ربنا وحده لا شريك له الملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا وقال عبدة الأصنام ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده وقالت اليهود ربنا الله وحده وعزيز ابن الله وقالت النصارى ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله وقال عبدة الشمس والقمر ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا وقال المهاجرون والأنصار ربنا الله وحده ولا شريك معه واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن الإقرار باللسان فقط لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنهم مشركون وذلك يدل على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار باللسان وجوابه معلوم أما قوله أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ أي عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم وتغمرهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أي فجأة وبغتة نصب على الحال يقال بغتهم الأمر بغتاً وبغتة إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا وقوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كالتأكيد لقوله بَغْتَة ً
قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قال المفسرون قل يا محمد لهم هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي ومنهاجي وسمي الدين سبيلاً لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب ومثله قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 )
واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو الله على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى الله لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام ( العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه ) وقيل أيضاً يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ ثم ابتدأ وقال عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وقوله وَسُبْحَانَ اللَّهِ عطف على قوله هَاذِهِ سَبِيلِى أي قل هذه سبيلي وقل سبحان الله تنزيهاً لله عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع الله ضداً ونداً وكفؤاً وولداً وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن الله ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم نُوحِى بالنون والباقون بالياء أَفَلاَ يَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ورواية حفص عن عاصم تَعْقِلُونَ بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغائب
واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكاً فقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى فلما كان الكل هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن الله ما بعث رسولاً إلى الحق من النسوان وأيضاً لم يبعث رسولاً من أهل البادية قال عليه الصلاة والسلام ( من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل )
ثم قال أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ والمعنى دار الحالة الآخرة لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مراراً
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّى َ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي كَذَّبُواْ بالتخفيف وكسر الذال والباقون بالتشديد ومعنى التخفيف من وجهين أحدهما أن الظن واقع بالقوم أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر
فإن قيل لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم
قلنا ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( يوسف 109 ) فيكون الضمير عائداً إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان
والوجه الثاني أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن
أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد لأن المؤمن لا يجوز أن يطن بالله الكذب بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل وأما قراءة التشديد ففيها وجهان الأول أن الظن بمعنى اليقين أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) أي يتيقنون ذلك والثاني أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال وظن الرسل أنهم كذبوا لأنهم كانوا بشراً ألا ترى إلى قوله حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ( البقرة 214 ) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فأنكرته وقالت ما وعد الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة
وأما قوله جَاءهُمْ نَصْرُنَا أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّى َ مَن نَّشَاء قرأ عاصم وابن عامر فَنُجّى َ مَن نَّشَاء بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة وروي عن الكسائي إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء قال بعضهم هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن ولا يجوز إدغام النون في الجيم والباقون بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى ونحن نفعل بهم ذلك
واعلم أن هذا حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ ( القصص 15 ) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية
لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول والمراد منه التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بقصصهم أمور الأول أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة لقادر على إعزاز محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإعلاء كلمته الثاني أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزة دالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث أنه ذكر في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) ثم ذكر في آخرها لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ
تنبيهاً على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه ومن الناس من قال المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام
فإن قيل لم قال عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مع أن قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا ذوي عقول وأحلام وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك
قلنا إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل أو نقول المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها لأن أُوْلِى الالْبَابِ لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات
الصفة الأولى كونها عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ وقد سبق تقريره
الصفة الثانية قوله مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وفيه قولان الأول أن المراد الذي جاء به وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت والثاني أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه لأنه لا يصح الكذب منه ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية ونصب تصديقاً على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب 40 ) قاله الفراء والزجاج ثم قال ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه
والصفة الثالثة قوله وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء وفيه قولان الأول المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته والثاني أنه عائد إلى القرآن كقوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ( الأنعام 38 ) فإن جعل هذا الوصف وصفاً لكل القرآن أليق من جعله وصفاً لقصة يوسف وحدها ويكون المراد ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين قال الواحدي على التفسيرين جميعاً فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) يريد كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 )
الصفة الرابعة والخامسة كونها هدى في الدنيا وسبباً لحصول الرحمة في القيامة لقوم يؤمنون خصهم بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا به كما قررناه في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة بحمد الله تعالى يوم الأربعاء السابع من شعبان ختم بالخير والرضوان سنة إحدى وستمائة وقد كنت ضيق الصدر جداً بسبب وفاة الولد الصالح محمد تغمده الله بالرحمة والغفران وخصه بدرجات الفضل والإحسان وذكرت هذه الأبيات في مرثيته على
سبيل الإيجاز فلو كانت الأقدار منقادة لنا
فديناك من حماك بالروح والجسم
ولو كانت الأملاك تأخذ رشوة
خضعنا لها بالرق في الحكم والاسم
ولكنه حكم إذا حان حينه
سرى من مقر العرش في لجة اليم
سأبكي عليك العمر بالدم دائما
ولم أنحرف عن ذاك في الكيف والكم
سلام على قبر دفنت بتربه
وأتحفك الرحمن بالكرم الجم
وما صدني عن جعل جفني مدفنا
لجسمك إلا أنه أبداً يهمي
وأقسم إن مسوا رفاتي ورمتي
أحسوا بنار الحزن في مكمن العظم
حياتي وموتي واحد بعد بعدكم
بل الموت أولى من مداومة الغم
رضيت بما أمضى الإله بحكمه
لعلمي بأني لا يجاوزني حكمي
وأنا أوصي من طالع كتابي واستفاد ما فيه من الفوائد النفيسة العالية أن يخص ولدي ويخصني بقراءة الفاتحة ويدعو لمن قد مات في غربة بعيداً عن الإخوان والأب والأم بالرحمة والمغفرة فإني كنت أيضاً كثير الدعاء لمن فعل ذلك في حقي وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً آمين والحمد لله رب العالمين
سورة الرعد
مدنية وآياتها 43 نزلت بعد سورة محمدسورة الرعد أربعون وثلاث آيات مكية
سوى قوله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ ( الرعد 31 ) وقوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) قال الأصم هي مدنية بالإجماع سوى قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 )
ال م ر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا قد تكلمنا في هذه الألفاظ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه أنا الله أعلم وقال في رواية عطاء أنا الله الملك الرحمن وقد أمالها أبو عمرو والكسائي وغيرهما وفخمها جماعة منهم عاصم وقوله تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر ثم قال إنها آيات الكتاب وهذا الكتاب الذي أعطاه محمداً بأن ينزله عليه ويجعله باقياً على وجه الدهر وقوله وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ مبتدأ وقوله الْحَقّ خبره ومن الناس من تمسك بهذه الآية في نفي القياس فقال الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وبالإجماع لا يكفر فثبت أن الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حقاً لأجل أن قوله وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ يقتضي أنه لا حق إلا ما أنزله الله فكل ما لم ينزله الله وجب أن لا يكون حقاً وإذا لم يكن حقاً وجب أن يكون باطلاً لقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( يونس 32 ) ومثبتو القياس يجيبون عنه بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً من عند الله لأنه
لما أمر بالعمل بالقياس كان الحكم الذي دل عليه القياس نازلاً من عند الله ولما ذكر تعالى أن المنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد
اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الاٌّ مْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الله مبتدأ والذي رفع السموات خبره بدليل قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ ( الرعد 3 ) ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صفة وقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ يُفَصّلُ الآيَاتِ خبراً بعد خبر وقال الواحدي العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال عماد وعمد مثل إهاب وأهب وقال الفراء العمد والعمد جمع العمود مثل أديم وادم وادم وقضيم وقضم وقضم والعماد والعمود ما يعمد به الشيء ومنه يقال فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السموات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات أما الاستدلال بأحوال السموات بغير عمد ترونها فالمعنى أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين الأول أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحين والثاني أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمراً واجباً لذاته بل لا بد من مخصص ومرجح ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال فثبت أن يقال الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر ويدل أيضاً على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز لأنه لو كان حاصلاً في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث فثبت أنه لو كان حاصلاً في الحيز المعين لكان حادثاً وذلك محال فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة وأيضاً كل ما سماك فهو سماء فلو كان تعالى موجوداً في جهة فوق جهة لكان من جملة السموات فدخل تحت قوله اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
فكل ما كان مختصاً بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزهاً عن جهة فوق أما قوله تَرَوْنَهَا ففيه أقوال الأول أنه كلام مستأنف والمعنى رفع السموات بغير عمد ثم قال تَرَوْنَهَا أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد الثاني قال الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها بغير عمد
واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز والثالث أن قوله تَرَوْنَهَا صفة للعمد والمعنى بغير عمد مرئية أي للسموات عمد ولكنا لا نراها قالوا ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها وهذا التأويل في غاية السقوط لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك
وأما قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقراً على العرش لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهداً معلوماً وأن أحداً ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضاً بتقدير أن يشاهد كونه مستقراً على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز وأيضاً فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة وذلك يوجب التغير وأيضاً الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجاً مضطرباً ثم صار مستوياً وكل ذلك على الله محال فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر فهو قوله سبحانه وتعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة
النوع الأول قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص وأيضاً أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطإ والسرعة فلا بد أيضاً من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز وتسكن في البعض فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضاً من مرجح
الوجه الثالث وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر
والوجه الرابع أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضاً لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى وفيه قولان الأول قال ابن عباس للشمس مائة وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً فالمراد بقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى هذا وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك
والقول الثاني أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ( التكوير 1 2 ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الأنفطار 1 ) جَمَعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) وهو كقوله سبحانه وتعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام 2 ) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال يُدَبّرُ الاْمْرَ وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات
ثم قال يُفَصّلُ الآيَاتِ وفيه قولان الأول أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته والثاني أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان أحدهما الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره والثاني الموجودات الحادثة المتغيرة وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والهرم بعد الصحة وكون الأحمق في أهنأ العيش والعاقل الذكي في أشد الأحوال فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة وقوله يُفَصّلُ الآيَاتِ إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل
ثم قال لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضاً تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الاْشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه
تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى وقد مر تقريره في هذا الكتاب مراراً وأطواراً
بداية الجزء التاسع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ
واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه الأول أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير الثاني قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه لأن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به والثالث قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا وقال آخرون كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها اذهبي كذا وكذا
اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 ) وهذا القول مشكل من وجهين الأول أنه ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه
فإن قالوا وقوله مَدَّ الاْرْضَ ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها
قلنا لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً
( النبأ 7 ) فجعلها أوتاداً مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا والثاني أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه
والنوع الثاني من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه الأول أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قالت الفلاسفة هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طيناً لزجاً ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجراً كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه الأول أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض والثاني وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافاً فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه والثالث أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى قريب من تسعة آلاف سنة وبهذا التقدير أن الجبال في هذه المدة الطويلة كانت في التفتت فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء لكن ليس الأمر كذلك فعلمنا أن السبب الذي ذكروه ضعيف
والوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصانع ذي الجلال ما يحصل فيها من معادن الفلزات السبعة ومواضع الجواهر النفيسة وقد يحصل فيها معادن الزاجات والأملاح وقد يحصل فيها معادن النفط والقير والكبريت فكون الأرض واحدة في الطبيعة وكون الجبل واحداً في الطبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدل دليلاً ظاهراً على أن الكل بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات والممكنات
والوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض وذلك أن الحجر جسم صلب فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية ومثل قوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( المرسلات 27 )
والنوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب خلقة النبات وإليه الإشارة بقوله وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء من الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم والمقدر القديم لا بسبب الطبع والخاصية ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشباً وبعضها يكون نوراً وبعضها يكون ثمرة ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع فالجوز له أربعة أنواع من القشور فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطباً وأيضاً فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة فالأترج قشره حار يابس ولحمه حار رطب وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ونوره حار يابس وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حاران رطبان فتولد هذه للطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم
المسألة الثانية المراد بزوجين اثنين صنفين اثنين والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد أو اللون كالأبيض والأسود
فإن قيل الزوجان لا بد وأن يكون اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
قلنا قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدؤا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع والله أعلم
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ والمقصود أنم الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما كما قال فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً ( الإسراء 12 ) ومنه قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ( الأعراف 54 ) وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يُغْشِى بالتشديد وفتح الغين والباقون بالتخفيف ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أو ما يقرب منه بحسب المعنى والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم
المقصود فلهذا المعنى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين الأول أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لا بد أن يكون بتخصيص المقدر القديم والمدبر الحكيم فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية
فإن قال قائل لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحاً في غرضنا
والوجه الثاني من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين
وَفِى الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاٍّ كُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية والحركات الكوكبية وتقريره من وجهين الأول أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة فبعضها تكون سبخية وبعضها تكون رخوة وبعضها تكون صلبة وبعضها تكون منبتة وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طيناً لزجاً ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير والثاني أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساوياً ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقوداً من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطباع والأفلاك للكل على السوية بل نقول ههنا ما هو أعجب منه وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة والوجه الثاني في غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة فيستحيل أن يقال وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني وهذا يدل دلالة
قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء وعندها يتم الدليل ولا يبقى بعده للفكر مقام ألبتة فلهذا السبب قال ههنا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر ألبتة وذلك يقدح في كمال العقل لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علماً ضرورياً كان عدم حصول هذا العلم قادحاً في كمال العقل فلهذا قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال في الآية المتقدمة إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( الزمر 42 ) ( الجاثية 13 ) فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سبباً للفوز بالرحمة والغفران
المسألة الثانية قوله وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ قال أبو بكر الأصم أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة وأخرى سبخة وأخرى حرة وأخرى رملة وأخرى تكون حصباء وأخرى تكون حمراء وأخرى تكون سوداء وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم وفي بعض المصاحف ( قطعاً متجاورات ) والتقدير وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعاً متجاورات وأما قوله وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ فنقول الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار والدليل عليه قوله تعالى جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( الكهف 32 ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ كلها بالرفع عطفاً على قوله ( وجنات ) والباقون بالجر عطفاً على الأعناب وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس ( صنوان ) بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء فإذا كثرت فهو الصني والصني بكسر الصاد وفتحها والصنو أن يكون الأصل واحداً وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي الصنو المثل ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن عم الرجل صنو أبيه ) أي مثله
إذا عرفت هذا فنقول إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى أن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ومنها ما لا يكون كذلك وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة وقد لا تكون كذلك
ثم قال تعالى تَسْقِى بِمَاء واحِدٍ قرأ عاصم وابن عامر ( يسقى ) بالياء على تقدير يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث والباقون بالتاء لقوله ( جنات ) قال أبو عمرو ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ قرأ حمزة والكسائي ( يفضل ) بالياء عطفاً على قوله يُدَبّرُ والباقون بالنون على تقدير ونحن نفضل و ( في الأكل ) قولان حكاهما الواحدي حكي عن الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل وأقول هذا أولى لقوله تعالى في صفة الجنة تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 )
وهو عام في جميع المطعومات وابن كثير ونافع يقرآن الأكل ساكنة الكاف في جميع القرآن والباقون بضم الكاف وهما لغتان
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاٌّ غْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ ذكر بعده مسألة المعاد فقال وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ وفيه أقوال
القول الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك أنك من الصادقين فهذا عجب والثاني إن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد فهذا عجب والثالث تقدير الكلام إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات والأرض وخالق الخلائق أجمعين وأنه هو الذي رفع السموات بغير عمد وهو الذي سخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب والغرائب فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته لأن القادر على الأقوى الأكمل فإن يكون قادراً على الأقل الأضعف أولى فهذا تقرير موضع التعجب
ثم إنه تعالى لما حكى هذا الكلام حكم عليهم بثلاثة أشياء أولها قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة فهو كافر وإنما لزم من إنكار البعث الكفر بربهم من حيث إن إنكار البعث لا يتم إلا بإنكار القدرة والعلم والصدق أما إنكار القدرة فكما إذا قيل إن إله العالم موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يقدر على الإعادة أو قيل إنه وإن كان قادراً لكنه ليس تام القدرة فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثيرات الطبائع والأفلاك وأما إنكار العلم فكما إذا قيل إنه تعالى غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز هذا المطيع عن العاصي وأما إنكار الصدق فكما إذا قيل إنه وإن أخبر عنه لكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه ولما كان كل هذه الأشياء كفراً ثبت أن إنكار البعث كفر بالله
الصفة الثانية قوله وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وفيه قولان الأول قال أبو بكر الأصم المراد بالأغلال كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام ونظيره قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً ( يس 8 ) قال الشاعر
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
ويقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء معناه أنه لازم لك وأنك مجازى عليه بالعذاب قال القاضي هذا وإن كان محتملاً إلا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى وأقول يمكن نصرة قول الأصم بأن
ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال وذلك غير حاصل وأنتم تحملون اللفظ على أنه سيحصل هذا المعنى ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال إلا أن المراد بالأغلال ما ذكرناه فكل واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه فلم كان قولكم أولى من قولنا
والقول الثاني المراد أنه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة والدليل عليه قوله تعالى إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ( غافر 71 72 )
والصفة الثالثة قوله تعالى وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والمراد منه التهديد بالعذاب المخلد المؤبد واحتج أصحابنا رحمهم الله تعالى على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية فقالوا قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيد أنهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم وذلك يدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار
المسألة الثانية قال المتكلمون العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حق الله تعالى محال فكان المراد وإن تعجب فعجب عندك
ولقائل أن يقول قرأ بعضهم في الآية الأخرى بإضافة العجب إلى نفسه تعالى فحينئذ يجب تأويله وقد بينا أن أمثال هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادىء الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض فإن الإنسان إذا تعجب من الشيء أنكره فكان هذا محمولاً على الإنكار
المسألة الثالثة اختلف القراء في قوله مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ وأمثاله إذا كان على صورة الاستفهام في الأول والثاني فمنهم من يجمع بين الاستفهامين في الحرفين وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ثم اختلف هؤلاء فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة إلا أنه لا يمد وأبو عمرو يستفهم بهمزة مطولة يمد فيها وحمزة وعاصم بهمزتين في كل القرآن ومنهم من لا يجمع بين الاستفهامين ثم اختلفوا فنافع وابن عامر والكسائي يستفهم في الأول ويقرأ على الخبر في الثاني وابن عامر على الخبر في الأول والاستفهام في الثاني ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فنافع بهمزة غير مطولة وابن عامر والكسائي بهمزتين أما نافع فكذلك إلا في الصافات وكذلك ابن عامر إلا في الواقعة وكذلك الكسائي إلا في العنكبوت والصافات
المسألة الرابعة قال الزجاج العامل في أَءذَا كُنَّا تُرَابًا محذوف تقديره أئذا كنا تراباً نبعث ودل ما بعده على المحذوف
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
اعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له فجئنا بهذا العذاب وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم يستعجلون الرسول بالسيئة قبل الحسنة والمراد بالسيئة ههنا نزول العذاب عليهم كما قال الله تعالى عنهم في قوله فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً ( الأنفال 32 ) وفي قوله لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ( الإسراء 92 ) وإنما قالوا ذلك طعناً منهم فيما ذكره الرسول وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وبحصول النصر والظفر في الدنيا فالقوم طلبوا منه نزول العذاب ولم يطلبوا منه حصول النصر والظفر فهذا هو المراد بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ومنهم من فسر الحسنة ههنا بالإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم
أما قوله وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ فاعلم أن العرب يقولون العقوبة مثلة ومثلة صدقة وصدقة فالأولى لغة الحجاز والثانية لغة تميم فمن قال مثلة فجمعه مثلات ومن قال مثلة فجمعه مثلات ومثلاث بإسكان التاء هكذا حكاه الفراء والزجاج وقال ابن الأنباري رحمه الله المثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة وهو من قولهم مثل فلان بفلان إذا قبح صورته إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه فهذا هو الأصل ثم يقال للعار الباقي والخزي اللازم مثلة قال الواحدي وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب ومماثلاً له لا جرم سمي بهذا الاسم قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( المثلات ) بضمتين لاتباع الفاء العين ( والمثلات ) بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السمرة والمثلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية ويستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتباراً بحال من سلف
أما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فاعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ووجه الاستدلال به أن قوله تعالى لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ أي حال اشتغالهم بالظلم كما أنه يقال رأيت الأمير على أكله أي حال اشتغاله بالأكل فهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ومعلوم أن حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً فدل هذا على أنه تعالى قد يغفر الذنب قبل الاشتغال بالتوبة ثم نقول ترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر فوجب أن يبقى معمولاً به في حق أهل الكبيرة وهو المطلوب أو نقول إنه تعالى لم يقتصر على قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ بل ذكر معه قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر وأن يحمل الثاني على أحوال الكفار
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد لذو مغفرة لأهل الصغائر لأجل أن عقوبتهم مكفرة ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد إن ربك لذو مغفرة إذا تابوا وأنه تعالى إنما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ويكون من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة بل نقول يجب حمل اللفظ عليه لأن القوم لما طلبوا تعجيل العقاب فالجواب المذكور فيه يجب أن يكون محمولاً على تأخير العقاب حتى ينطبق الجواب على السؤال ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد وإن ربك لذو مغفرة أنه تعالى إنما لا يعجل العقوبة إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة فإن تابوا فهو ذو مغفرة وإن عظم ظلمهم ولم يتوبوا فهو شديد العقاب
والجواب عن الأول أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة وإلا لوجب أن يقال الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة وعن الثاني أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه وعندكم يجب غفران الصغائر وعن الثالث أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم وبينا أن حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَة ٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولاً ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثاً وهو المذكور في هذه الآية
واعلم أن السبب فيه أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات وقالوا هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزة ألبتة وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن قالوا إن هذا الكلام إنما يصح إذا طعنوا في كون القرآن معجزاً مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن
واعلم أن الجواب عنه من وجهين الأول لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور مثل فلق البحر بالعصا وقلب العصا ثعباناً
فإن قيل فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم
قلنا إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكماً وظهور القرآن معجزة
فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات وأيضاً فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم وقد بين الله تعالى ذلك بقوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به وأيضاً ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر فطلب منه معجزة أخرى وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام وأنه باطل
الوجه الثاني وفي الجواب لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفق القراء على التنوين في قوله هَادٍ وحذف الياء في الوصل واختلفوا في الوقف فقرأ ابن كثير بالوقف على الياء والباقون بغير الياء وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف
المسألة الثانية في تفسير هذه الآية وجوه الأول المراد أن الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان وهو فصاحة القرآن فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى فهذا هو الذي قرره القاضي وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظماً
والوجه الثاني وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزاً فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ولست بقادر عليهم ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالتخليق وهو الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار وأما الهداية فمن الله تعالى
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا ههنا أقوالاً الأول المنذر والهادي شيء واحد والتقدير إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر الثاني المنذر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والهادي هو الله تعالى روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والثالث المنذر النبي والهادي علي قال ابن عباس رضي الله عنهما وضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده على صدره فقال ( أنا المنذر ) ثم أومأ إلى منكب علي رضي الله عنه وقال ( أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي )
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاٌّ رْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَى ْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في وجه النظم وجوه الأول أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان أو لأجل التعنت والعناد وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات أو يزداد إصرارهم واستكبارهم فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ ( يونس 20 ) وقوله قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( العنكبوت 50 ) والثاني أن وجه النظم أنه تعالى لما قال وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ( الرعد 5 ) في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات أما في حق من كان عالماً بجميع المعلومات فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض ثم احتج على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام الثالث أن هذا متصل بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة والله أعلم
المسألة الثانية لفظ ( ما ) في قوله مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ إما أن تكون موصولة وإما أن تكون مصدرية فإن كانت موصولة فالمعنى أنه يعلم ما تحمله من الولد أنه من أي الأقسام أهو ذكر أم أنثى وتام أو ناقص وحسن أو قبيح وطويل أو قصير وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فيه
ثم قال وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ والغيض هو النقصان سواء كان لازماً أو متعدياً يقال غاض الماء وغضته أنا ومنه قوله تعالى وَغِيضَ الْمَاء ( هود 44 ) والمراد من الآية وما تغيضه الأرحام إلا أنه حذف الضمير الراجع وقوله وَمَا تَزْدَادُ أي تأخذه زيادة تقول أخذت منه حقي وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى وَازْدَادُواْ تِسْعًا ( الكهف 25 ) ثم اختلفوا فيما تغيضه الرحم وتزداده على وجوه الأول عدد الولد فإن الرحم قد يشتمل على واحد واثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروي أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه الثاني الولد قد يكون مخدجاً وقد يكون تاماً الثالث مدة ولادته قد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإلى أربعة عند الشافعي وإلى خمس عند مالك وقيل إن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً الرابع الدم فإنه تارة يقل وتارة يكثر الخامس ما ينقص بالسقط من غير أن يتم وما يزداد بالتمام السادس ما ينقص بظهور دم الحيض وذلك لأنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص وبمقدار حصول ذلك النقصان يزداد أيام الحمل لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النقصان قال ابن عباس رضي الله عنهما كلما سال الحيض في وقت
الحمل يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل به الجبر ويعتدل الأمر السابع أن دم الحيض فضلة تجتمع في بطن المرأة فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات فاضت وخرجت وسالت من دواخل تلك العروق ثم إذا سالت تلك المواد امتلأت تلك العروق مرة أخرى هذا كله إذا قلنا إن كلمة ( ما ) موصولة أما إذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله
وأما قوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ فمعناه بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وقوله في أول الفرقان وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 )
واعلم أن قوله كُلّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم ومعناه أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية وعند حكماء الإسلام أنه تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات مخصوصة مقدرة ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم وهو من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة
ثم قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد علم ما غاب عن خلقه وما شهدوه قال الواحدي فعلى هذا ( الغيب ) مصدر يريد به الغائب ( والشهادة ) أراد بها الشاهد واختلفوا في المراد بالغائب والشاهد قال بعضهم الغائب هو المعلوم والشاهد هو الموجود وقال آخرون الغائب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر وقال آخرون الغائب ما لا يعرفه الخلق والشاهد ما يعرفه الخلق ونقول المعلومات قسمان المعلومات والموجودات والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ومنها معدومات لا يمتنع وجودها والموجودات أيضاً قسمان موجودات يمتنع عدمها وموجودات لا يمتنع عدمها وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام وخواص والكل معلوم لله تعالى وحكى الشيخ الإمام الوالد عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين رحمهم الله تعالى أنه كان يقول لله تعالى معلومات لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل وموصوفاً بصفات لا نهاية لها على البدل وهو تعالى عالم بكل الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخل تحت قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ
ثم إنه تعالى ذكر عقيبه قوله الْكَبِيرُ وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثة والحجم والمقدار فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة والمقادير الإلهية ثم وصف تعالى نفسه بأنه المتعال وهو المتنزه عن كل ما لا يجوز عليه وذلك يدل على كونه منزهاً في ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الآية دالة على كونه تعالى موصوفاً بالعلم الكامل والقدرة التامة ومنزهاً عن كل ما لا ينبغي وذلك يدل على كونه تعالى قادراً على البعث الذي أنكروه وعلى الآيات التي اقترحوها وعلى العذاب الذي استعجلوه وأنه إنما يؤخر ذلك بحسب المشيئة الإلهية عند قوم وبحسب المصلحة عند آخرين وقرأ ابن كثير ( المتعالي ) بإثبات الياء في
الوقف والوصل على الأصل والباقون بحذف الياء في الحالتين للتخفيف ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( سواء ) يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان الأول أن سواء مصدر والمعنى ذو سواء كما تقول عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل الثاني أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها
ولقائل أن يقول بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل
المسألة الثانية في المستخفي والسارب قولان
القول الأول يقال أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر وقوله وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ قال الفراء والزجاج ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه يقال خلا له سربه أي طريقه وقال الأزهري تقول العرب سربت الإبل تسرب سرباً أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفياً في الظلمات أو كان ظاهراً في الطرقات فعلم الله تعالى محيط بالكل قال ابن عباس رضي الله عنهما سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة وقال مجاهد سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي
والقول الثاني نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال للداخل سرباً والسرب الوحش إذا دخل في السرب أي في كناسة قال الواحدي وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه وأيضاً فالليل يدل على الاستتار والنهار على الظهور والانتشار
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُو ءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
اعلم أن الضمير من ( له ) إلى ( من ) في قوله سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ( الرعد 10 ) وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة والمعنى لله معقبات وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ مِنَ الاْعْرَابِ ( التوبة 90 ) والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله
والمعنى في كلا الوجهين واحد
إذا عرفت هذا فنقول في المراد بالمعقبات قولان الأول وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب وكل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام ( ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثاً قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي ) وعن ( صلى الله عليه وسلم ) ( يتعاقب فيكم ملاكئة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ) وهو المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) قيل تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار وقال ابن جريج هو مثل قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات وقال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته وفي الآية سؤالات
السؤال الأول الملائكة ذكور فلم ذكر في جمعها جمع الإناث وهو المعقبات
والجواب فيه قولان الأول قال الفراء المعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل ابناوات سعد ورجالات بكر جمع رجال والذي يدل على التذكير قوله يَحْفَظُونَهُ والثاني وهو قول الأخفش إنما أنثت لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر
السؤال الثاني ما المراد من كون أولئك المعقبات من بين يديه ومن خلفه
والجواب أن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها ولا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شيء أصلاً وقال بعضهم بل المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن السارب بالنهار إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من بين يديه ومن خلفه
السؤال الثالث ما المراد من قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
والجواب ذكر الفراء فيه قولين
القول الأول أنه على التقديم والتأخير والتقدير له معقبات من أمر الله يحفظونه
القول الثاني أن فيه إضماراً أي ذلك الحفظ من أمر الله أي مما أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره
كما يكتب على الكيس ألفان والمراد الذي فيه ألفان
والقول الثالث ذكره ابن الأنباري أن كلمة ( من ) معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر الله وباعانته والدليل على أنه لا بد من المصير إليه أنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ومما قضاه عليه
السؤال الرابع ما الفائدة في جعل هؤلاء الملائكة موكلين علينا
والجواب أن هذا الكلام غير مستبعد وذلك لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة ولا شك أن تلك الكواكب لها أرواح عندهم فتلك التدبيرات المختلفة في الحقيقة لتلك الأرواح وكذا القول في تدبير القمر والهيلاج والكدخدا على ما يقوله المنجمون وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور في ألسنتهم ولذلك تراهم يقولون أخبرني الطباعي التام ومرادهم بالطباعي التام أن لكل إنسان روحاً فلكية يتولى إصلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته وإذا كان هذا متفقاً عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه من الشرع وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها معزة وبعضها مذلة وبعضها قوية القهر والسلطان وبعضها ضعيفة سخيفة وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذا القول في الأرواح الفلكية ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وكل صفة أقوى من الأرواح البشرية وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة لما أنها تكون في تربية روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية وتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي ومتى كان الأمر كذلك كان ذلك الروح الفلكي معيناً لها على مهماتها ومرشداً لها إلى مصالحها وعاصماً لها عن صنوف الآفات فهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن الذي وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فكيف يمكن استنكاره من الشريعة ثم في اختصاص هؤلاء الملائكة وتسلطهم على بني آدم فوائد كثيرة سوى التي مر ذكرها من قبل الأول أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات والثاني قال مجاهد ما من عبد إلا ومعه ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته الثالث أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سبباً من أسباب مصالحه وخيراته وقد ينكشف أيضاً بالآخرة أنه كان سبباً لوقوعه في آفة أو في معصية فيظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريداً للخير والراحة وإلى الأمر الثاني كان مريداً للفساد والمحنة والأول هو الملك الهادي والثاني هو الشيطان المغوي الرابع أن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها كما يزجره عنها إذا حضره من يعطيه من البشر وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل
السؤال الخامس ما الفائدة في كتبة أعمال العباد قلنا ههنا مقامات
المقام الأول أن تفسير الكتبة بالمعنى المشهور من الكتبة قال المتكلمون الفائدة في تلك
الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة وإن كان بالضد فبالضد قال القاضي هذا بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء فلا يتوقف حصول تلك المعرفة على الميزان ثم أجاب القاضي عن هذا الكلام وقال لا يمتنع أيضاً ما روينا لأمر يرجع إلى حصول سروره عند الخلق العظيم أنه من أولياء الله في الجنة وبالضد من ذلك في أعداء الله
والمقام الثاني وهو قول حكماء الإسلام أن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني لأعيانها وذواتها كانت تلك الكتبة أقوى وأكمل
إذا ثبت هذا فنقول إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات وكرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب تكررها ملكة قوية راسخة فإن كانت تلك الملكة ملكة سارة بالأعمال النافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بها بعد الموت وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد الموت
إذا ثبت هذا فنقول إن التكرير الكثير لما كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار الشقاوة قل أو كثر فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بالملائكة
القول الثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ومن سار نهاراً بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى والمعقب العون لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتة والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ولذلك قال تعالى بعده وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد قال القاضي والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى لأنه لا شيء مما يفعله تعالى سوى العقاب لا وقد يبتدىء به في الدنيا من دون تغيير يصدر من العبد فيما تقدم لأنه تعالى ابتدأ بالنعم دينا ودنياً ويفضل في ذلك من شاء على من يشاء فالمراد مما ذكره الله تعالى التغيير بالهلاك والعقاب ثم اختلفوا فبعضهم قال هذا الكلام راجع إلى قوله
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعصية حتى قالوا إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في عقبه من يؤمن فإنه تعالى لا ينزل عليهم عذاب الاستئصال وقال بعضهم بل الكلام يجري على إطلاقه والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم وينزل عليهم أنواعاً من العذاب وقال بعضهم إن المؤمن الذي يكون مختلطاً بأولئك الأقوام فربما دخل في ذلك العذاب روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب ) واحتج أبو علي الجبائي والقاضي بهذه الآية في مسألتين
المسألة الأولى أنه تعالى لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله حالهم من النعمة إلى العذاب
المسألة الثانية قالوا الآية تدل على بطلان قول المجبرة إنه تعالى يبتدىء العبد بالضلال والخذلان أول ما يبلغ وذلك أعظم من العقاب مع أنه ما كان منه تغيير
والجواب أن ظاهر هذه الآية يدل على أن فعل الله في التغيير مؤخر عن فعل العبد إلا أن قوله تعالى وَمَا يَشَآءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) يدل على أن فعل العبد مؤخر عن فعل الله تعالى فوقع التعارض
وأما قوله وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فقد احتج أصحابنا به على أن العبد غير مستقل في الفعل قالوا وذلك لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى يحكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان لكان قادراً على رد ما أراده الله تعالى وحينئذ يبطل قوله وَإِذَا اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فثبت أن الآية السابقة وإن أشعرت بمذهبهم إلا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا قال الضحاك عن ابن عباس لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه لا راد لعذابي ولا ناقض لحكمي وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ أي ليس لهم من دون الله من يتولاهم ويمنع قضاء الله عنهم والمعنى ما لهم والٍ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
اعلم أنه تعالى لما خوف العباد بإنزال ما لا مرد له أتبعه بذكر هذه الآيات وهي مشتملة على أمور ثلاثة وذلك لأنها دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته وأنها تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أموراً أربعة الأول البرق وهو قوله تعالى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في انتصاب قوله خَوْفًا وَطَمَعًا وجوه الأول لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعاً الثاني يجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وذا طمع أو على معنى إيخافاً وإطماعاً الثالث أن يكونا حالاً من المخاطبين أي خائفين وطامعين
المسألة الثانية في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه الأول أن عند لمعان البرق يخاف وقوع الصواعق ويطمع في نزول الغيث قال المتنبي فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الثاني أنه يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر وكمن في جرابه التمر والزبيب ويطمع فيه من له فيه نفع الثالث أن كل شيء يحصل في الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضره ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزمان
المسألة الثالثة اعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى وبيانه أن السحاب لا شك أنه جسم مركب في أجزاء رطبة مائية ومن أجزاء هوائية ونارية ولا شك أن الغالب عليه الأجزاء المائية والماء جسم بارد رطب والنار جسم يابس وظهور الضد من الضد التام على خلاف العقل فلا بد من صانع مختار يظهر الضد من الضد
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن الريح احتقن في داخل جرم السحاب واستولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقاً عنيفاً فيتولد من ذلك التمزيق الشديد حركة عنيفة والحركة العنيفة موجبة للسخونة وهي البرق
والجواب أن كل ما ذكرتموه على خلاف المعقول وبيانه من وجوه الأول أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال أينما يحصل البرق فلا بد وأن يحصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزق السحاب ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فإنه كثيراً ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد الثاني أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة للطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا العارض القوي كيف تحدث النارية بل نقول النيران العظيمة تنطفىء بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية الثالث من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة بأجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر فثبت أن السبب الذي ذكروه ضعيف وأن حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالصاً لا يمكن إلا بقدرة القادر الحكيم
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ قال صاحب
( الكشاف ) السحاب اسم جنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وهي الثقال بالماء
واعلم أن هذا أيضاً من دلائل القدرة والحكمة وذلك لأن هذه الأجزاء المائية إما أن يقال إنها حدثت في جو الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض فإن كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر وهو المطلوب وإن كان الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض فنقول هذا باطل وذلك لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة وتارة تدوم مدة نزول المطر زماناً طويلاً وتارة قليلاً فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وأيضاً فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل لا الطبيعة والخاصية
النوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية الرعد وهو قوله وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وفيه أقوال
القول الأول إن الرعد اسم ملك من الملائكة وهذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح والتهليل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرعد ما هو فقال ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) قالوا فما الصوت الذي نسمع قال ( زجره السحاب ) وعن الحسن أنه خلق من خلق الله ليس بملك فعلى هذا القول الرعد هو الملك الموكل بالسحاب وصوته تسبيح لله تعالى وذلك الصوت أيضاً يسمى بالرعد ويؤكد هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سمع الرعد قال سبحان الذي سبحت له وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله ينشىء السحاب الثقال فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق )
واعلم أن هذا القول غير مستبعد وذلك لأن عند أهل السنة البنية ليست شرطاً لحصول الحياة فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له وكيف يستبعد ذلك ونحن نرى أن السمندل يتولد في النار والضفادع تتولد في الماء البارد والدودة العظيمة ربما تتولد في الثلوج القديمة وأيضاً فإذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام ولا تسبيح الحصى في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( فكيف يستبعد تسبيح السحاب ) وعلى هذاالقول فهذا الشيء المسمى بالرعد ملك أو ليس بملك فيه قولان أحدهما أنه ليس بملك لأنه عطف عليه الملائكة فقال وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ والمعطوف عليه مغاير للمعطوف والثاني وهو أنه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة وإنما إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( البقرة 98 ) وفي قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ مِنْ نُوحٌ ( الأحزاب 70 )
القول الثاني أن الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص ومع ذلك فإن الرعد يسبح الله سبحانه لأن التسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه
وتعالى فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود موجود متعال عن النقص والإمكان كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً وهو معنى قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )
القول الثالث أن المراد من كون الرعد مسبحاً أن من يسمع الرعد فإنه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف هذا التسبيح إليه
القول الرابع من كلمات الصوفية الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم
فإن قيل وما حقيقة الرعد
قلنا استقصينا القول في سورة ( البقرة ) في قوله فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ( البقرة 19 )
أما قوله وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ فاعلم أن من المفسرين من يقول عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعواناً ومعنى قوله وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ أي وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء
واعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون عن الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة قال المفسرون نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخاصمانه ويجادلانه ويريدان الفتك به فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من
حديد ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته ورمى عامراً بغدة كغدة البعير ومات في بيت سلولية
واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جداً وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر والحكماء بالغوا في وصف قوتها ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة لكنه ليس الأمر كذلك فإنها أقوى نيران هذا العالم فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ( الرعد 8 ) وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآيات
ثم قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ يعني هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من حديد وثانيها أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر وثالثها أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات ورابعها أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال وفي هذه الواو قولان الأول أنه للحال والمعنى فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة والثاني أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ
ثم قال تعالى وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ وفي لفظ المحال أقوال قال ابن قتيبة الميم زائدة وهو من الحول ونحوه ميم مكان وقال الأزهري هذا غلط فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية نحو مهاد ومداس ومداد واختلفوا مم أخذ على وجوه الأول قيل من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فكان المعنى أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه الثاني أن المحال عبارة عن الشدة ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فلاناً محالاً أي قاومته أينا أشد قال أبو مسلم ومحال فعال من المحل وهو الشدة ولفظ فعال يقع على المجازاة والمقابلة فكأن المعنى أنه تعالى شديد المغالبة وللمفسرين ههنا عبارات فقال مجاهد وقتادة شديد القوة وقال أبو عبيدة شديد العقوبة وقال الحسن شديد النقمة وقال ابن عباس شديد الحول الثالث قال ابن عرفة يقال ماحل عن أمره أي جادل فقوله شَدِيدُ الْمِحَالِ أي شديد الجدال الرابع روي عن بعضهم شَدِيدُ الْمِحَالِ أي شديد الحقد قالوا هذا لا يصح لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادىء الأعراض فالمراد بالحقد ههنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة
لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَى ْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ
اعلم أن قوله لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقّ أي لله دعوة الحق وفيه بحثان
البحث الأول في أقوال المفسرين وهي أمور أحدها ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال دَعْوَة ُ الْحَقّ قول لا إله إلا الله وثانيها قول الحسن إن الله هو الحق فدعاؤه هو الحق كأنه يومىء إلى أن الانقطاع إليه في الدعاء هو الحق وثالثها أن عبادته هي الحق والصدق
واعلم أن الحق هو الموجود والموجود قسمان قسم يقبل العدم وهو حق يمكن أن يصير باطلاً وقسم لا يقبل العدم فلا يمكن أن يصير باطلاً وذلك هو الحق الحقيقي وإذا كان واجب الوجود لذاته موجوداً لا يقبل العدم كان أحق الموجودات بأن يكون حقاً هو هو وكان أحق الاعتقادات وأحق الأذكار بأن يكون حقاً هو
اعتقاد ثبوته وذكر وجوده فثبت بهذا أن وجوده هو الحق في الموجودات واعتقاد وجوده هو الحق في الاعتقادات وذكره بالثناء والإلهية والكمال هو الحق في الأذكار فلهذا قال لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقّ
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) دَعْوَة ُ الْحَقّ فيه وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف إليه الكلمة في قوله كَلِمَة َ الْحَقّ والمقصود منه الدلالة على كون هذه الدعوة مختصة بكونها حقة وكونها خالية عن أمارات كونه باطلاً وهذا من باب إضافة الشيء إلى صفته والثاني أن تضاف إلى الحق الذي هو الله سبحانه على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب وعن الحسن الحق هو الله وكل دعاء إليه فهو دعوة الحق
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ يعني الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَى ْء مما يطلبونه إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم وقيل شبهوا في قلة فائد دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشراً أصابعه ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من شربه وقرىء تَدْعُونَ بالتاء كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ بالتنوين ثم قال وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَى فِى ضَلَالٍ أي إلا في ضياع لا منفعة فيه لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم
وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ
اعلم أن في المراد بهذا السجود قولين
القول الأول أن المراد منه السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض وعلى هذا الوجه ففيه وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص وهم المؤمنون فبعض المؤمنين يسجدون لله طوعاً بسهولة ونشاط ومن المسلمين من يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه مع أنه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى والثاني أن اللفظ عام والمراد منه أيضاً العام وعلى هذا ففي الآية إشكال لأنه ليس كل من في السموات والأرض يسجد لله بل الملائكة يسجدون لله والمؤمنون من الجن والإنس يسجدون لله تعالى وأما الكافرون فلا يسجدون
الجواب عنه من وجهين الأول أن المراد من قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ويجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول والثاني وهو أن المراد من السجود التعظيم والاعتراف بالعبودية وكل من في السموات ومن في الأرض يعترفون بعبودية الله تعالى على ما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 )
وأما القول الثاني في تفسير الآية فهو أن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق القول فيه أن ما
سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود على السوية وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس إلا بتأثير موجود ومؤثر فيكون وجود كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في طرفي الإيجاد والإعدام وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع والانقياد ونظير هذه الآية بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وقوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 83 )
وأما قوله تعالى طَوْعًا وَكَرْهًا فالمراد أن بعض الحوادث مما يميل الطبع إلى حصوله كالحياة والغنى وبعضها مما ينفر الطبع عنه كالموت والفقر والعمى والحزن والزمانة وجميع أصناف المكروهات والكل حاصل بقضائه وقدره وتكوينه وإيجاده ولا قدرة لأحد على الامتناع والمدافعة
ثم قال تعالى وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وفيه قولان
القول الأول قال المفسرون كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً فإن ظله يسجد لله قال مجاهد ظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره وقال الزجاج جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله وعند هذا قال ابن الأنباري لا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها وتخشع كما جعل الله للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله تعالى وحتى ظهر أثر التجلي فيها كما قال فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا ( الأعراف 143 )
والقول الثاني وهو أن المراد من سجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له بمعنى كونه خاضعاً له عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ ولما كان هذا الجواب جواباً يقر به المسؤول ويعترف به ولا ينكره أمره ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتة ولما بين أنه سبحانه هو الرب لكل الكائنات قال قل لهم فلم اتخذتهم من دون الله أولياء وهي جمادات وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها ودفع المضرة عن أنفسها فبأن تكون عاجزة عن
تحصيل المنفعة لغيرها ودفع المضرة عن غيرها كان ذلك أولى فإذا لم تكن قادرة على ذلك كانت عبادتها محض العبث والسفه ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى والعالم بها كالبصير والجهل بمثل هذه الحجة كالظلمات والعلم بها كالنور وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير والظلمة لا تساوي النور كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعمرو عن عاصم يَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ بالياء لأنها مقدمة على اسم الجمع والباقون بالتاء واختاره أبو عبيدة ثم أكد هذا البيان فقال أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعني هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا إنها تشارك الله في الخالقية فوجب أن تشاركه في الإلهية بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة ولا خلق ولا أثر وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهية محض السفه والجهل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجوه الأول أن المعتزلة زعموا أن الحيوانات تخلق حركات وسكنات مثل الحركات والسكنات التي يخلقها الله تعالى وعلى هذا التقدير فقد جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذم والإنكار فدلت هذه الآية على أن العبد لا يخلق فعل نفسه قال القاضي نحن وإن قلنا إن العبد يفعل ويحدث إلا أنا لا نطلق القول بأنه يخلق ولو أطلقناه لم نقل إنه يخلق كخلق الله لأن أحدنا يفعل بقدرة الله وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك كله فثبت أن بتقدير كون العبد خالقاً إلا أنه لا يكون خلقه كخلق الله تعالى وأيضاً فهذا الإلزام لازم للمجبرة لأنهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسب العبد وفعل له وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه حق وأيضاً فهو تعالى إنما ذكر هذا الكلام عيباً للكفار وذماً لطريقتهم ولو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما بقي لهذا الذم فائدة لأن للكفار أن يقولوا على هذا التقدير إن الله سبحانه وتعالى لما خلق هذا الكفر فينا فلم يذمنا عليه ولا ينسبنا إلى الجهل والتقصير مع أنه قد حصل فينا لا بفعلنا ولا باختيارنا
والجواب عن السؤال الأول أن لفظ الخلق إما أن يكون عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود أو يكون عبارة عن التقدير وعلى الوجهين فبتقدير أن يكون العبد محدثاً فإنه لا بد وأن يكون حادثاً أما قوله والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه ليس خلقه كخلق الله
قلنا الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ومعلوم أن الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني وحينئذ يصح أن يقال إن هذا الذي هو مخلوق العبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى بل لا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات إلا أن حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في حصول المماثلة من هذا الوجه وهذا القدر يكفي في الاستدلال وأما قوله هذا لازم على المجبرة حيث قالوا إن فعل العبد مخلوق لله تعالى فنقول هذا غير لازم لأن هذه الآية دالة على أنه لا يجوز أن يكون خلق العبد مثلاً لخلق الله تعالى
ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتة فكيف يلزمنا ذلك وأما قوله لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما حسن ذم الكفار على هذا المذهب
قلنا حاصله يرجع إلى أنه لما حصل المدح والذم وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهو منقوض لأنه تعالى ذم أبا لهب على كفره مع أنه عالم منه أنه يموت على الكفر وقد ذكرنا أن خلاف المعلوم محال الوقوع فهذا تقرير هذا الوجه في هذه الآية
وأما الوجه الثاني في التمسك بهذه الآية قوله قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ولا شك أن فعل العبد شيء فوجب أن يكون خالقه هو الله وسؤالهم عليه ما تقدم
والوجه الثالث في التمسك بهذه الآية وقوله وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وليس يقال فيه أنه تعالى واحد في أي المعاني ولما كان المذكور السابق هو الخالقية وجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية القهار لكل ما سواه وحينئذ يكون دليلاً أيضاً على صحة قولنا
المسألة الثانية زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء اعلم أن هذا النزاع ليس إلا في اللفظ وهو أن هذا الاسم هل يقع عليه أم لا وزعم أنه لا يقع هذا الاسم على الله تعالى واحتج عليه بأنه لو كان شيئاً لوجب كونه خالقاً لنفسه لقوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ولما كان ذلك محالاً وجب أن لا يقع عليه اسم الشيء ولا يقال هذا عام دخله التخصيص لأن العام المخصوص إنما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي وأخس منه كما إذا قال أكلت هذ الرمانة مع أنه سقطت منها حبات ما أكلها وههنا ذات الله تعالى أعلى الموجودات وأشرفها فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقه
والحجة الثانية تمسك بقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والمعنى ليس مثل مثله شيء ومعلوم أن كل حقيقة فإنها مثل مثل نفسها فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نبه على أن مثل مثله ليس بشيء فهذا تنصيص على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيء
والحجة الثالثة قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ولفظ الشيء يتناول أخس الموجودات فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن فوجب أن لا يكون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى فوجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا اللفظ والأصحاب تمسكوا في إطلاق هذا الاسم عليه تعالى بقوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( الأنعام 19 )
وأجاب الخصم عنه بأن قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً سؤال متروك الجواب وقوله قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ كلام مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله
المسألة الثالثة تمسك المعتزلة بهذه الآية في أنه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة قالوا لأنه لو حصل لله تعالى علم وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إما أن تحصل بخلق الله أو لا بخلقه والأول باطل وإلا لزم التسلسل والثاني باطل لأن قوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء يتناول الذات والصفات حكمنا
بدخول التخصيص فيه في حق ذات الله تعالى فوجب أن يبقى فيما سوى الذات على الأصل وهو أن يكون تعالى خالقاً لكل شيء سوى ذاته تعالى فلو كان لله علم وقدرة لوجب كونه تعالى خالقاً لهما وهو محال وأيضاً تمسكوا بهذه الآية في خلق القرآن قالوا الآية دالة على أنه تعالى خالق لكل الأشياء والقرآن ليس هو الله تعالى فوجب أن يكون مخلوقاً وأن يكون داخلاً تحت هذا العموم
والجواب أقصى ما في الباب أن الصيغة عامة إلا أنا نخصصها في حق صفات الله تعالى بسبب الدلائل العقلية
أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَة ٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرض كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ سُو ءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
اعلم أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور ضرب للإيمان والكفر مثلاً آخر فقال أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها من حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص فالحاصل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن والأودية قلوب العباد وشبه القلوب
بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة كذا ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة فهذا هو تقرير هذا المثل ووجه انطباق المثل على الممثل به وأكثر المفسرين سكتوا عن بيان كيفية التمثيل والتشبيه
المسألة الثانية في المباحث اللفظية التي في هذه الآية في لفظ الأودية أبحاث
البحث الأول الأودية جمع واد وفي الوادي قولان
القول الأول أنه عبارة عن الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل هذا قول عامة أهل اللغة
والقول الثاني قال السهروردي يسمى الماء وادياً إذا سال قال ومنه سمي الودى ودياً لخروجه وسيلانه وعلى هذا القول فالوادي اسم للماء السائل كالمسيل والأول هو القول المشهور إلا أن على هذا التقدير يكون قوله فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ مجازاً فكان التقدير سالت مياه الأودية إلا أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
البحث الثاني قال أبو علي الفارسي رحمه الله الأودية جمع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة قال ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل فيقال واد وأودية ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال يتيم وأيتام وشريف وأشراف هذا ما قاله أبو علي الفارسي رحمه الله وقال غيره نظير واد وأودية ناد وأندية للمجالس
البحث الثالث إنما ذكر لفظ أودية على سبيل التنكير لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض أما قوله تعالى بِقَدَرِهَا ففيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي القدر والقدر مبلغ الشيء يقال كم قدر هذه الدراهم وكم قدرها ومقدارها أي كم تبلغ في الوزن فما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قدرها
البحث الثاني فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا أي من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء
أما قوله فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ففيه بحثان
البحث الأول قال الفراء يقال أزبد الوادي إزباداً والزبد الاسم وقوله رَّابِيًا قال الزجاج طافياً عالياً فوق الماء وقال غيره زائداً بسبب انتفاخه يقال ربا يربو إذا زاد
أما قوله تعالى وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَة ٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ فاعلم أنه تعالى لما ضرب المثل بالزبد الحاصل من الماء أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار وفيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم يُوقِدُونَ بالياء واختاره أبو عبيدة لقوله يَنفَعُ النَّاسَ وأيضاً فليس ههنا مخاطب والباقون بالتاء على الخطاب وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنه خطاب للمذكورين في قوله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ( الرعد 16 ) والثاني أنه يجوز أن يكون خطاباً عاماً يراد به الكافة كأنه قال ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون
البحث الثاني الإيقاد على الشيء على قسمين أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار وهو كقوله تعالى ) فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ( القصص 38 ) والثاني أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار فلهذا السبب قال ههنا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ
البحث الثالث في قوله ابْتِغَاء حِلْيَة ٍ قال أهل المعاني الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها والمتاع كل ما يتمتع به وقوله زَبَدٌ مّثْلُهُ أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل ثم قال أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ قال الفراء الجفاء الرمي والاطراح يقال جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض وموضع جفاء نصب على الحال والمعنى أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ومن الأجساد السبعة فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات وفي قراءة رؤبة بن العجاج جفالاً وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ففيه وجهان الأول أنه تم الكلام عند قوله كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاْمْثَالَ ثم استأنف الكلام بقوله لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره وتقديره لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى الثاني أنه متصل بما قبله والتقدير كأنه قال الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ثم بين الوجه في كونه مثلاً وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء أما أحوال السعداء فهي قوله لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى قال ابن عباس الجنة وقال أهل المعاني الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة الدائمة الخالية عن
الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال ولم يذكر الزيادة ههنا لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى وهو قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 206 ) وأما أحوال الأشقياء فهي قوله وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة
فالنوع الأول قوله لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ والافتداء جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر ومفعول لافتدوا به محذوف تقديره لافتدوا به أنفسهم أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب والكناية في ( به ) عائدة إلى ( ما ) في قوله مَّا فِى الاْرْضِ
واعلم أن هذا المعنى حق لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيله إلى مصالح ذاته فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوباً بالذات
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الْحِسَابِ قال الزجاج ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم وأقول ههنا حالتان فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية وكل ما شغلك بغير الله فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف فإنه يوجب أثراً ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ولا جرم حصل لهم الحسنى
وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى
والنوع الثالث قوله تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة فلذلك قال مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال وَبِئْسَ الْمِهَادُ ولا شك أن الأمر كذلك
ثم قال تعالى أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير والجاهل به كالأعمى وليس أحدهما كالآخر لأن الأعمى إذا
أخذ يمشي من غير قائد فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة أما البصير فإنه يكون آمناً من الهلاك والإهلاك
ثم قال إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَة ً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيِّئَة َ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا فيه قولان
القول الأول إنها متعلقة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنه يجوز أن يكون قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ صفة لأولي الألباب والثاني أن يكون ذلك صفة لقوله أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ ( الرعد 19 )
والقول الثاني أن يكون قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ عُقْبَى الدَّارِ خبره كقوله وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ ( الرعد 25 ) واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة شرط وجزاء وشرطها مشتمل على قيود وجزاؤها يشتمل أيضاً على قيود أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة
القيد الأول قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى والثاني أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين أحدهما الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير والآخر التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام والحاصل أنه دخل تحت قوله يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ كل ما قام الدليل عليه ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما
يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيراً له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع ولا يكون العبد موفياً للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون باراً في يمينه إلا إذا فعل الكل ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات ويدخل فيه أداء الأمانات وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية
القيد الثاني قوله وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وفيه أقوال
القول الأول وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد وهذا مثل أن يقول إنه لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة قال عليه السلام ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له ) والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن
والقول الثاني أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه فالحاصل أن قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء وقوله وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات
والقول الثالث أن المراد بالوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والمراد بالميثاق المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند ظهوره
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع قال عليه السلام ( من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق ) وعنه عليه السلام ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى عهداً ثم غدر ورجل استأجر أجيراً استوفى عمله وظلمه أجره ورجل باع حراً فاسترق الحر وأكل ثمنه ) وقيل كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول وفاء بالعهد لا غدر سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء ) قال من هذا قالوا عمرو بن عيينة فرجع معاوية
القيد الثالث وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وههنا سؤال وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما
والجواب من وجهين الأول أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر والثاني أنه تأكيد
إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في تفسيره وجوهاً الأول أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام ( ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول أي رب قطعت والأمانة تقول أي رب تركت والنعمة تقول أي رب كفرت )
والقول الثاني أن المراد صلة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومؤازرته ونصرته في الجهاد
والقول الثالث رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال من أين أنتم قالوا من خراسان فقال اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين وأقول حاصل الكلام أن قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ إشارة إلى الشفقة على خلق الله
القيد الرابع قوله وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستولياً على قلبه وهذه الخشية نوعان أحدهما أن يكون خائفاً من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها والثاني وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة
القيد الخامس قوله وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار
القيد السادس قوله تعالى وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار والغموم والأحزان والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه أحدها أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل وثانيها أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع وثالثها أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء ورابعها أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلاً في كمال النفس وسعادة القلب أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقاً في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه وطلب رضا الله تعالى
واعلم أن قوله ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ فيه دقيقة وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ محمول على هذا المجاز يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة ويرضى به
لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة
القيد السابع قوله وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيهاً على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضاً
القيد الثامن قوله تعالى وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الحسن المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام وقال آخرون بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله سِرّا يرجع إلى التطوع وقوله علانية يرجع إلى الزكاة الواجبة
المسألة الثانية قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقاً وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقاً لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز
القيد التاسع قوله صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ وفيه وجهان الأول أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمعاذ بن جبل ( إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ) والثاني أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا وعن الحسن هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متنكراً فقال من أين أنت فقال من بلخ فقال وهل تعرف شقيقاً قال نعم فقال كيف طريقة أصحابه فقال إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا فقال عبد الله طريقة كلابنا هكذا فقال وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا
واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة
القيد الأول قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدار وهي الجنة لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها قال الواحدي العقبى كالعاقبة ويجوز أن تكون مصدراً كالشورى والقربى والرجعى وقد يجيء مثل هذا أيضاً على فَعلى كالنجوى والدعوى وعلى فِعلى كالذكرى والضيزى ويجوز أن يكون اسماً وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة
القيد الثاني قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند
قوله تعالى وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وذكرنا هناك مذهب المفسرين ومذهب أهل اللغة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو يَدْخُلُونَهَا بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم
القيد الثالث وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن علية ( صلح ) بضم اللام قال صاحب الكشاف والفتح أفصح
المسألة الثانية قال الزجاج موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله يَدْخُلُونَهَا ويجوز أن يكون نصباً كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيد
المسألة الثالثة في قوله وَمَنْ صَلَحَ قولان الأول قال ابن عباس يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم وقال الزجاج بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة قال الواحدي والصحيح ما قال ابن عباس لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحاً في عمله فهو يدخل الجنة
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به ويقال إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها والفوز بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( يس 26 27 )
المسألة الرابعة قوله وَأَزْواجُهُمْ ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بطلاقها قالت دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك كالدليل على ما ذكرناه
والقيد الرابع قوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ على أمر الله وقال أبو بكر الأصم من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى
واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية
والسلام ويبشرونهم بقوله فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول ( السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الراضيات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب
المسألة الثانية تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والعظيم فكانوا به أجل مرتبة من البشر ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجباً علو درجاتهم وشرف مراتبهم ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا
المسألة الثالثة قال الزجاج ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه وأما قوله بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ففيه وجهان أحدهما أنه متعلق بالسلام والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وترك المحرمات والثاني أنه متعلق بمحذوف والتقدير أن هذه الكرامات التي ترونها وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُو ءُ الدَّارِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفات السعداء وذكر ما ترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر حال الأشقياء وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكروهة وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب ليكون البيان كاملاً فقال وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وقد بينا أن عهد الله ما ألزم عباده بواسطة الدلائل العقلية والسمعية لأنها أوكد من كل عهد وكل يمين إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها والمراد من نقض هذه العهود أن لا ينظر المرء في الأدلة أصلاً فحينئذ لا يمكنه العمل بموجبها أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو بأن ينظر في الشبهة فيعتقد
خلاف الحق والمراد من قوله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها لأنه لا شيء أقوى مما دل الله على وجوبه في أن ينفع فعله ويضر تركه
فإن قيل إذا كان العهد لا يكون إلا مع الميثاق فما فائدة اشتراطه تعالى بقوله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ
قلنا لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف الله العبد والمراد بالميثاق الأدلة المؤكدة لأنه تعالى قد يؤكد إليك العهد بدلائل أخرى سواء كانت تلك المؤكدة دلائل عقلية أو سمعية
ثم قال تعالى وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ( الرعد 21 ) وذلك في مقابلة قوله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل والمراد به قطع كل ما أوجب الله وصله ويدخل فيه وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ووصل المؤمنين ووصل الأرحام ووصل سائر من له حق ثم قال وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وذلك الفساد هو الدعاء إلى غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الصفات قال أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ واللعنة من الله الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى ضدهما من عذاب ونقمة وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ لأن المراد جهنم وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأابٍ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّة ٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّى لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاٌّ مْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْأسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِى َ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن مضيقاً عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان قال الواحدي معنى القدر في اللغة قطع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان وقال المفسرون معنى ( يقدر ) ههنا يضيق ومثله قوله تعالى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الطلاق 7 ) أي ضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء
وأما قوله وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فهو راجع إلى من بسط الله له رزقه وبين تعالى أن ذلك لا يوجب الفرح لأن الحياة العاجلة بالنسبة إلى الآخرة كالحقير القليل بالنسبة إلى ما لا نهاية له
قوله تعالى
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
اعلم أن الكفار قالوا يا محمد إن كنت رسولا فأتنا بآية ومعجزة قاهرة ظاهرة مثل معجوات موسى وعيسى عليهما السلام
فأجاب عن هذا السؤال بقوله قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه أحدها كأنه تعالى يقول إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ولكن الاضلال والهداية من الله فأضلكم عن تلك الآيات القاهرة الباهرة وهدى أقواما آخرين إليها حتى عرفوا بها صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في دعوى النبوة وإذا كان كذلك فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات وثانيها أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخرى كان موضعا للتعجب والاستنكار فكأنه قيل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء من كان عل صفتكم وثالثها أنهم لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قيل لهم لا فائدة من ظهور الآيات والمعجزات فإن الإضلال والهداية من الله فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية فإنه لم يحصل الانتفاع بها ولو حصلت آية واحدة فقط وحصلت الهداية من الله فإنه يحصل الانتفاع بها فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات ورابعها قال أبو علي الجبائي المعنى أن الله يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إليه من أناب أي يهدي إلى جنته من تاب وآمن قال وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث انه عقبه بقوله من أناب أي تاب والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام أبي علي وقوله أناب أي اقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير
قوله تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
اعلم أن قوله الذين آمنوا بدل من قوله من أناب قال ابن عباس يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت
فإن قيل أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الأنفال 2 والوجل ضد الاطمئنان فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان
والجواب من وجوه الأول أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل وإذا ذكروا بوعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وأحد الأمرين لا ينافي الآخر لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات الثاني أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول
الطمأنينة لهم في كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبيا حقا من عند الله أما شكلهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم الثالث أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده وأن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) صادق في كل ما أخبر عنه إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم انهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا
واعلم أن لنا في قوله ألا بذكر الله تطمئن القلوب أبحاثا دقيقة غامضة وهي من وجوه
الوجه الأول أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يتأثر ومتأثر لا يؤثر وموجود يؤثر في شيء ويتأثر في شيء فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية وليس له خاصية إلا القبول فقط وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر تارة أخرى فهي الموجودات الروحانية وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده وإذا توجهت إلى عالم الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام
وإذا عرفت هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية فناك يكون ساكنا فلهذا السبب قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الوجه الثاني أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أشرف منها لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر فلم يقدر على الانتقال منه البتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل فلهذا المعنى قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
والوجه الثالث في تفسير هذه الكلمة أن الاكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الدهور والأزمان صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتدبل فلهذا قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
ثم قال تعالى
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
المسألة الأولى في تفسير كلمة طوبى ثلاثة أقوال القول الأول أنها اسم شجرة في الجنة روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال { طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة } وحكى أبو بكر الأصم رضي الله عنه أن أصل هذه الشجرة في دار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي دار كل مؤمن منها غصن
والقول الثاني وهوقول أهل اللغة أن طوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت طيبا ثم اختلفوا على وجوه فقيل فرح وقرة عين لهم عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل نعم
ما لهم عن عكرمة وقيل غبطة لهم عن الضحاك وقيل حسن لهم عن قتادة وقيل خير وكرامة عن أبي بكر الأصم وقيل العيش الطيب لهم عن الزجاج
واعلم أن المعاني متقاربة والتفاوت يقرب من أن يكون في اللفظ والحاصل أنه مبالغة في نيل الطيبات ويدخل فيه جميع اللذات وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم
والقول الثالث أن هذه اللفظة ليست عربية ثم اختلفوا فقال بعضهم طوبى اسم الجنة بالحبشية وقيل اسم الجنة بالهندية وقيل البستان بالهندية وهذا القول ضعيف لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما واشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف الذين آمنوا مبتتدأ و طوبى لهم خبره ومعنى طوبى لك أي أصبت طيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك زطيب لك وسلاما لم وسلام لك والقراءة في قوله وحسن مآب بالرفع والنصب تدلك على محلها وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لهم
أما قوله وحسن مآب فالمراد حسن المرجع والمقر وكل ذلك وعد من الله بأعظم النعيم ترغيبا في طاعته وتحذيرا عن المعصية قوله تعالى
كذلك أرسلنا في أمة قد خلت من قبلها الأمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب
اعلم أن الكاف في كذلك للتشبيه فقيل أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك في أمة قد خلت من قبلها أمم وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وقيل كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم كذلك أعطيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فماذا اقترحوا غيره وقال صاحب الكشاف كذلك أرسلناك أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات ثم فسر كيف أرسله فقال في أمة قد خلت من قبلها أمم أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم فهي آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء
أما قوله لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك فالمراد لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم قل هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء لا إله إلا هو عليه توكلت في نصرتي عليكم وإليه متاب فيعينني على مصابرتكم زمجاهدتكم قيل نزل قوله وهم يكفرون بالرحمن في عبد الله بن أمية المخزومي وكان يقول أما الله فنعرفه وأما الرحمن فلا نقول نعرفه إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذلب فقال تعالى قل ادعوا أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى الإسراء 110 وكقوله وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الفرقان 60
وقيل إنه عليه السلام حين صالح قريشا من الحديبية كتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال المشركون إن كنت رسول الله وقد قاتلناك فقد ظلمنا ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد عبد الله فكتب كذلك ولما كتب في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا أما الرحمن فلا نعرفه وكانوا يكتبون باسمك اللهم فقال عليه السلام { اكتبوا كما تريدون }
واعلم أنه قوله وهم يكفرون بالرحمن إذا حملناه على هاتين الروايتين كان معناه أنهم كفروا بإطلاق هذا الإسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون بل كفروا بالله إنا جحدا له وإما لإثباتهم الشركاء معه قال القاضي وهذا القول أليق بالظاهر لأن قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن يقتضي أنهم كفروا بالله قال القاضي هذا القول أليق بالظاهر لأن قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم من الرحمن وليس المفهوم منه الاسم كما لو قال قائل كفروا بمحمد وكذبوا به لكان المفهوم هو دون اسمه
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد
اعلم أنه روي أن أهل مكة قعدوا في فناء مكة فأتاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعرض الإسلام عليهم فقال له عبد الله بن أمية المخزومي سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها - أو أحي لنا بعض أموالنا لنسألهم أحق ما تقول أو باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان فنزل قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أي من أماكنها أو قطعت به الأرض أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا أو كلم به الموتى لكان هو هذا القرآن الذي أنزلناه عليك وحذف جواب لو لكونه معلوما وقال الزجاج المحذوف هو أنه لو أن قرآنا سيرت به الجبال وكذا وكذا لما آمنوا به كقوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الأنعام 111
ثم قال تعالى بل لله الأمر جميعا يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وليس لأحد أن يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه
ثم قال تعالى أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله أفلم ييأس قولان
القول الأول أفلم يعلموا وعلى هذا التقدير ففيه وجهان
الوجه الأولك ييأس يعلم في لغة النخع وهذا قول أكثر المفسرين مثل مجاهد والحسن وقتادة واحتجوا عليه بقول الشاعر ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وأنشد أبو عبيدة أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا وقال الكسائي ما وجدت العرب يئست بمعنى علمت البتة
والوجه الثاني ما روي ان عليا وابن عباس كانا يقرآن أفلم يأس الذين آمنوا فقيل لابن عباس أفلم ييأس فقال أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس إنه كان في الخط يأس فزاد الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرئ ييأس وهذا القول بعيد جدا لأنه يقتضي كون القرآن محلا للتحريف والتصحيف وذلك يخرجه عن كونه حجة قال صاحب الكشاف ما هذا القول والله إلا فرية بلا مرية
والقول الثاني قال الزجاج المعنى أو يئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا وتقريره أن العلم بأن الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه والملازمة توجب حسن المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ اليأس لإرادة العلم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والمعنى أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء وتارة يحملون الهداية على الهداية إلى طريق الجنة وفيهم من يجري الكلام على الظاهر ويقول إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هدابة الأطفال والمجانين فلا يكون شائيا لهداية جميع الناس والكلام في هذه المسألة قد سبق مرارا
أما قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دراهم ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله الذين كفروا فيه قولان
القول الأول قيل أراد به جميع الكفار لأن الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من القتل والسبي أوجب حصول الغم في قلب الكل وقيل أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون والألف واللام في لفظ الكفار للمعهود السابق وهو ذلك الجمع المعين
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارهم ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة
والقول الثاني ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العداوة والتكذيب قارعة لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم بجيشك كما حل بالحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة وكان الله قد وعده ذلك
ثم قال إن الله لا يخلف الميعاد والغرض منه تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإزالة الحزن عنه قال القاضي وهذا يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق
وجوابنا أن الحلف غيرن وتخصيص العموم غير ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو
وقوله تعالى
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أش وما لهم من واق
اعلم أن القول لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيرا له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كمت أن قومك يستهزئون بك فأمليت للذين كفروا أي أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم
واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انمتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الاستهزاء ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم فقال أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت والمعنى أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزيئات والكليات وإذا كان كذلك كان عالما بجميع أحوال النفوس وقادرا على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي وهذا هو المراد من قوله قائم على كل نفس بما كسبت وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى قائما بالقسط آل عمران 18
واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه
الوجه الأول التقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس بهذه الصفة وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى وجعلوا لله شركاء والتقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع ونظيره قوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور ربه الزمر 22 وما جاء جوابه لأنه مضمر في قوله فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله الزمر 22 فكذا ههنا قال صاحب الكشاف يجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ أو يعطف عليه قوله وجعلوا والتقدير أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء
الوجه الثاني وهو الذي ذكره السيد صاحب حل العقد فقال نجعل الواو في قوله وجعلوا واو الحال ونضمر للمبتدأ خبرا يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال والتقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله لله مقام المضمر تقريرا للإلهية وتصريحا بها وهذا كما تقول جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال قل سموهم وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكروا ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل فكأنه تعالى قال سموهم بالآلهة على سبيل التهديد والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ثم زاد في الحجاج فقال أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض والمراد أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن شريك البتة لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها أم بظاهر من القول يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له وهو كقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم التوبة 30 ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه بل زين للذين كفروا مكرهم قال الواحدي معنى بل ههنا كأنه يقول دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على إفساد قولهم فكأنه يقول دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل قال القاضي لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله بل لا بد وأن يكون إما شياطين الإنس وإما شياطين الجن
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه الأول أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الأنس فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل وإن كان هو الله فقد زال السؤال والثاني أن يقال القلوب لا يقدر عليها إلا الله والثالث أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل
أما قوله وصدوا عن السبيل فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي وصدوا بضم الصاد وفي حم وصد عن السبيل غافر 37 على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم وعند أهل السنة أن الله صدهم وللمعتزلة فيه وجهان قيل الشيطان وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال فلان معجب وإن
لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله أي أعرضوا وقيل صرفوا غيرهم وهو لازم ومتعد وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول وحجة القراءة الثانية قوله الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
ثم قال ومن يضلل الله فما له من هاد اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه أولها قوله بل زين للذين كفروا مكرهم وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله وثانيها قوله وصدوا عن البسيل بضم الصاد وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله وثالثها قوله ومن يضلل الله فما له من هاد وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله ورابعها قوله تعالى لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر امتنع صدور اٌ يمان منه وكل هذه الوجوه لقد لخصناها في هذا الكتاب مرارا قال القاضي من يضلل الله أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله فما له من هاد منبئ بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا وقيل المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالا وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك ثم قال والوجه الأول أقوى
واعلم أن الوجه الأول ضعيف جدا لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجر ذكر ذهابهم إلى الجنة البتة فصرف الكلام عن المذكور إلى غير المذكور بعيد وأيضا فهب أن نساعد على أن الأمر كما ذكرووه إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة أما عذاب الدنيا فبالقتل والقتال واللعن والذم والإهانة وهل ديخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا اختلفوا فيه قال بعضهم إنها تدخل فيه وقال بعضهم إنها تكون عقابا لأن كل أحد نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها ولو كان عقابا لم يجب ذلك فالمراد على هذا القول من الآية القتل والسبي واغتنام الأموال واللعن وإنما قال ولعذاب الآخرة أشق لأنه أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة وإن شئت بسبب كثرة الأنواع وإن شئت بسبب أنه لا يختلط بها شيء من موجبات الراحة وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع ثم بين بقوله وما لهم من الله من واق أي أن أحدا لا يقيهم ما نزل بهم من عذاب الله قال الواحدي أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله واق وكذلك في قوله ومن يضلل الله فما له من هاد وكذلك في قوله وال الرعد 1 وهو الوجه لأنك تقول في الوصل هذا هاد ووال وواق فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين فإذا وقفت انحذفت التنوين في الوقف في الرفع والجر والياء كانت انحذفت فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها فيصير هاد ووال وواق وكان ابن كثير يقف بالياء في هاجي ووالي وواقي ووجهه ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول هذا داعي فيقفون بالياء
قوله تعالى
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله مثل الجنة أقوال الأول قال سيبويه مثل الجنة مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصنا عليكم مثل الجنة والثاني قال الزجاج مثل الجنة من صفتها كذا وكذا والثالث مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار كما تقول صفة زيد اسم والرابع الخبر هو قوله أكلها دائم لأنه الخارج عن العادة كأنه قال مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث أولها تجري من تحتها الأنهار وثانيها أن أكلها دائم والمعنى أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة وثالثها أن ظلها دائم أيضاً والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة وعاقبة الكافرين النار وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام
واعلم أن قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ فيه مسائل ثلاث
المسألة الأولى أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كما يحكى عن جهم وأتباعه
المسألة الثانية أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) و كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة ثم قال فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي في ذلك إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة
والجواب أن دليلهم مركب من آيتين أحدهما قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ والأخرى قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة وهو قوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 )
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاٌّ حْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
اعلم أن في المراد بالكتاب قولين الأول أنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول الحسن وقتادة
فإن قيل الأحزاب ينكرون كل القرآن
قلنا الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء
والقول الثاني إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان الأول قال ابن عباس الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وفرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به والثاني والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوارة والنصارى أعطوا الإنجيل يفرحون بما أنزل في هذا القرآن لأنه مصدق لما معهم ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول مجاهد قال القاضي وهذا لا يصح لأن قوله يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ يعم جميع ما أنزل إليه ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه ولو كانت كلمة ( ما ) للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به وفيه فوائد أولها أن كلمة ( إنما ) للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك وثانيها أن العبادة غاية التعظيم وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك وثالثها أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه ورابعها أن عبادة الله واجبة
وهو يبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المحض وخامسها قوله وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى سواء قال إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية وسادسها قوله إِلَيْهِ ادْعُواْ والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته وسابعها قوله وَإِلَيْهِ مَابِ وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين
وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ وَاقٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا عليك القرآن والكناية في قوله أَنزَلْنَاهُ تعود إلى ( ما ) في قوله يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن
المسألة الثانية قوله أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا فيه وجوه الأول حكمة عربية مترجمة بلسان العرب الثاني القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة الثالث أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكماً
واعلم أن قوله حُكْمًا عَرَبِيّا نصب على الحال والمعنى أنزلناه حال كونه حكماً عربياً
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث الثاني أنه وصفه بكونه عربياً والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاً الثالث أن الآية دالة على أنه إنما كان حكماً عربياً لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة وكل ما كان كذلك فهو محدث
والجواب أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم
المسألة الرابعة روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها قال ابن عباس الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أمته وقيل بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها ويتضمن
ذلك أيضاً تحذير جميع المكلفين لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّة ً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِأايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشبهات في إبطال نبوته
فالشبهة الأولى قولهم لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى
والشبهة الثانية قولهم الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) وقوله لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 )
فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّة ً يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضاً مثله في حقه
الشبهة الثالثة عابوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة الزوجات وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما كان مشتغلاً بأمر النساء بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّة ً وبالجملة فهذا الكلام يصلح أن يكون جواباً عن الشبهة المتقدمة ويصلح أن يكون جواباً عن هذه الشبهة فقد كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهيرة وسبعمائة سرية ولداود مائة امرأة
والشبهة الرابعة قالوا لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول فأجاب الله عنه بقوله وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِئَايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وتقريره أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة وفي إظهار الحجة والبينة فأما الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ولا اعتراض لأحد عليه في ذلك
الشبهة الخامسة أنه عليه السلام كان يخوفهم بنزول العذاب وظهور النصرة له ولقومه ثم إن ذلك الموعود كان يتأخر فلما لم يشاهدوا تلك الأمور احتجوا بها على الطعن في نبوته وقالوا لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه
فأجاب الله عنه بقوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ يعني نزول العذاب على الكفار وظهور الفتح والنصر للأولياء قضى الله بحصولها في أوقات معينة مخصوصة ولكل حادث وقت معين وَلِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ فقبل حضور
ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كاذباً
الشبهة السادسة قالوا لو كان في دعوى الرسالة محقاً لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثوبتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل لكنه نسخها وحرفها نحو تحريف القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبياً حقاً
فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ويمكن أيضاً أن يكون قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ كالمقدمة لتقرير هذا الجواب وذلك لأنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ثم يبقيه مدة مخصوصة ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ثم ينسخه في سائر الأوقات فكان المراد من قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ ما ذكرناه ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ والمعنى أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ويحيي تارة ويميت أخرى ويغني تارة ويفقر أخرى فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما اقتضته المشيئة الإلهية عند أهل السنة أو بحسب ما اقتضته رعاية المصالح عند المعتزلة فهذا اتمام التحقيق في تفسير هذه الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ فيه أقوال الأول أن لكل شيء وقتاً مقدراً فالآيات التي سألوها لها وقت معين حكم الله به وكتبه في اللوح المحفوظ فلا يتغير عن ذلك الحكم بسبب تحكماتهم الفاسدة ولو أن الله أعطاهم ما التمسوا لكان فيه أعظم الفساد الثاني أن لكل حادث وقتاً معيناً قضى الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ولا يتغير ألبتة عن ذلك الوقت والثالث أن هذا من المقلوب والمعنى أن لكل كتاب منزل من السماء أجلاً ينزله فيه أي لكل كتاب وقت يعمل به فوقت العمل بالتوراة والإنجيل قد انقضى ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر والرابع لكل أجل معين كتاب عند الملائكة الحفظة فللانسان أحوال أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير شاباً ثم شيخاً وكذا القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحسن والقبح الخامس كل وقت معين مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعلمها إلا الله تعالى فإذا جاء ذلك الوقت حدث ذلك الحادث ولا يجوز حدوثه في غيره واعلم أن هذه الآية صريحة في أن الكل بقضاء الله وبقدره وأن الأمور مرهونة بأوقاتها لأن قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ معناه أن تحت كل أجل حادث معين ويستحيل أن يكون ذلك التعيين لأجل خاصية الوقت فإن ذلك محال لأن الأجزاء المعروضة في الأوقات المتعاقبة متساوية فوجب أن يكون اختصاص كل وقت بالحادث الذي يحدث فيه بفعل الله تعالى واختياره وذلك يدل على أن الكل من الله تعالى وهو نظير قوله عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
المسألة الثانية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثَبّتْ ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت ولأن التشديد للتكثير وليس القصد بالمحو التكثير فكذلك ما يكون في مقابلته ومن شدد احتج بقوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ( النساء 66 ) وقوله فَثَبّتُواْ ( الأنفال 12 )
المسألة الثالثة المحو ذهاب أثر الكتابة يقال محاه يمحوه محواً إذا أذهب أثره وقوله وَيُثَبّتْ قال النحويون أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني وهو كقوله تعالى وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ( الأحزاب 35 )
المسألة الرابعة في هذه الآية قولان
القول الأول إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه الأول المراد من المحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلاً عن الأول الثاني أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال إنه تعالى وصف الكتاب بقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وقال أيضاً فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
أجاب القاضي عنه بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير والكبيرة بالذنب الكيبر وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين أما في أصل اللغة فالصغير والكبير يتناولان كل فعل وعرض لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن كان غير ذلك فهو كبير وعلى هذا التقرير فقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) يتناول المباحات أيضاً الثالث أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه فإذا تاب عنه محى من ديوانه الرابع يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وهو من جاء أجله ويدع من لم يجيء أجله ويثبته الخامس أنه تعالى يثبت في أول السنة حكم تلك السنة فإذا مضت السنة محيت وأثبت كتاب آخر للمستقبل السادس يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس السابع يمحو الدنيا ويثبت الآخرة الثامن أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى التاسع تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو وما حصل وحضر فهو الإثبات العاشر يزيل ما يشاء ويثبت ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحداً فهو المنفرد بالحكم كما يشاء وهو المستقل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه
واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم
فإن قال قائل ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات
قلنا ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه
المسألة الخامسة قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده وتمسكوا فيه بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ
واعلم أن هذا باطل لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه محالاً
المسألة السادسة أما أُمُّ الْكِتَابِ فالمراد أصل الكتاب والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب وفيه قولان
القول الأول أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ وجميع حوادث العالم العلوي والعالم السفلي مثبت فيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان الله ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة ) قال المتكلمون الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات على سبيل التفصيل وعلى هذا التقدير فعند الله كتابان أحدهما الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق وذلك الكتاب محل المحو والإثبات والكتاب الثاني هو اللوح المحفوظ وهو الكتاب المشتمل على تعين جميع الأحوال العلوية والسفلية وهو الباقية روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن الله سبحانه وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وللحكماء في تفسير هذين الكتابين كلمات عجيبة وأسرار غامضة
والقول الثاني إن أم الكتاب هو علم الله تعالى فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات وإن تغيرت إلا أن علم الله تعالى بها باق منزه عن التغير فالمراد بأم الكتاب هو ذاك والله أعلم
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
اعلم أن المعنى وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك والمعنى سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ