كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
والدين فليس إلا العقل واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر قال صاحب ( الكشاف ) وما في قوله وَقِيلَ مَّا هُم للإبهام وفيه تعجب من قلتهم قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرىء القيس وحديث ما على قصره وانظر هل بقي له معنى قط
ثم قال تعالى وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه قالوا والسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم ههنا أن داود عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعد إلى السماء قبل وجهه فعلم داود أن الله ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة والمشابهة علة لجواز المجاز وأقول هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة
أما قوله فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي سأل الغفران من ربه ثم ههنا وجهان إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه حملنا هذا الاستغفار عليها وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه الأول أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطاناً شديد القهر عظيم القوة ثم أنه مع أنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئاً قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى الله واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله فغفر الله له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر الثاني لعله هم بإيذاء القوم ثم قال إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم الثالث لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله فغفر الله ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه وإذا كان اللفظ محتملاً لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم الله هذه القصة بقوله وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن من حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة وتحمل أنوعاً من الشدائد في الموافقة والانقياد أما إذا كان المذكور السابق هو ازقادم على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به قال مالك بن دينار إذا كان يوم القيامة أتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة ويقال يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا والله أعلم بقي ههنا مباحب فالأول قرىء فتناه وفتناه عى أن الألف ضمير الملكين الثاني المشهور أن الاستغفار إنما كان بسبب قصة التعجة والنعاج وقيل أيضصاً إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاين وذلك غير جائز الثالث قوله خَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ يدل على حصول الركوع وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوماً ثبت بالأخبار الرابع أن مذهب الشافيع رضي الله عنه أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة قال لأن توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة الخامس استشهد أبو خنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في سجود التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود
يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أنه تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في تلك القصة لأن من البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين راغباً في انتزاع أزواجهم منهم ثم يذكر عقيبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان الأول جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه وذلك ءنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة وذلك على الله مجال الثاني إنا جعلناك مالكاً للناس ونافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ومنه يقال خلفاء الله في أرضه وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدة اللزوم في تلك الحقيقة وهو نفاذ الحكم
ثم قال تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ واعلم أن الإنسان خلق مدنياً بالطبع لأن الإنسان الواحد لا يتنظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة حتى أن هذا يحرث وذلك يطحن وذلك يخبز وذلك ينسج وهذا يخيط وبالجملة فيكون كل واحدة منهم مشغولاً بمهم وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع فثبت ى ن الإنسان مدني بالطبع وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه والطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك أما ءذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه فهذا هو المراد من قولهم فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ يعني
لا بد من حاكم بين الناس بالحق فكن أنت ذلك الحاكم ثم قال وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ الآية وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله والضلال عن سبيل الله يوجب العذاب فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب
أما المقام الأول وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله فتقريره أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات لأنهما حالتان متضادتان فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر
أما المقام الثاني وهو أن الضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب فالأمر فيه ظاهر لأن الإنسان إذا عظم ألفه بهذه الجسمانيات ونسي بالكلية أحواله الروحانيات فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق ودخل دياراً ليس له بأهل تلك الديار إلف وليس لعيته قوة مطالعة أنوار تلك الديار فكأنه فارق المحبوب ووصل إلى المكروه فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله وثبت أن الضلال عن سبيل الله يوجب العذاب وهذا بيان في غاية الكمال
ثم قال تعالى بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ يعني أن السبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب لأنه لو كان متذكراً ليوم الحساب لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد ولما صار مستغرقاً في هذه اللذات الفاسدة
روي عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز هل سمعت ما بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية فقال يا أمير المؤمنين الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ ثم قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ونظيره قوله تعالى رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) وقوله تعالى مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الروم 8 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأعمال العباد قال لأنها مشتملة على الكفر والفسق وكلها أباطيل فلما بين تعالى أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً دل هذا على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد ومثله قوله تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الحجر 85 ) وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل وقد خلق الباطل ثم أكد تعالى ذلك بأن قال ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي كل من قال بهذا القول فهو كافر فهذا تصريح بأن مذهب المجبرة عين الكفر واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد فقالوا هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقاً لكل ما بين السموات والأرض وأعمال العباد حاصلة بين السماء والأرض فوجب أن يكون الله تعالى خالقاً لها
المسألة الثانية هذه الآية دالة على صحة القول بالحشر والنشر والقيامة وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يقال إنه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع أو للإضرار والأول باطل لأن ذلك لا
يليق بالرحيم الكريم والثالث أيضاً باطل لأن هذه الحالة حاصلة ين كانوا معدومين فلم يبق إلا أن يقال إنه خلقهم للإنفاع فنقول وذلك الإنفاع إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة لا يليق بالحكمة ولما بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيوية وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة واعلم أن هذا الدليل يمكن تقريره من وجوه كثيرة وقد لخصناها في أول سورة يونس بالاستقصاء فلا سبيل إلى التكرير فثبت بما ذكرا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً وإذا لم يكن خلقهما باطلاً كان القول بالحشر والنشر لازماً وأن كل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكاً في حكمة الله في خلق السماء والأرض وهذا هو المراد من قوله ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ولما بين الله تعالى على سبيل الإجمال أن إنكار الحشر والنشر يوجب الشك في حكمة الله تعالى بين ذلك على سبيل التفصيل فقال أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وتقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم وإذا كان ذلك قادحاً في الحكمة ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة الله
ثم قال تعالى كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية وهذا يفيد أمرين أحدهما أن أفعال الله معللة برعاية المصالح والثاني أنه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكل بخلاف قول من يقول إنه أراد الكفر من الكافر
المسألة الثانية في تقرير نظم هذه الآيات فنقول لسائل أن يسأل فيقول إنه تعالى حكى في أول السورة عن المستهزئين من الكفار أنهم بالغوا في إنكار البعث والقيامة وقالوا رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( ص 16 ) ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك لم يذكر الجواب بل قال اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ( ص 17 ) ومعلوم أنه لا تعلق لذكر داود عليه السلام بأن القول بالقيامة حق ثم إنه تعالى أطنب في شرح قصة داود ثم أتبعه بقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ ومعلوم أنه لا تعلق لمسألة إثبات حكمة الله بقصة داود ثم لما ذكر إثبات حكمة الله وفرع عليه إثبات أن القول بالحشر والنشر حق ذكر بعده أن القرآن كتاب شريف فاضل كثير النفع والخير ولا تعلق لهذا الفصل بالكلمات المتقدمة وإذا كان كذلك كانت هذه الفصول فصولاً متباينة لا تعلق للبعض منها بالبعض فكيف يليق بهذا الموضع وصف القرآن بكونه كتاباً شريفاً فاضلاً هذا تمام السؤال والجواب أن نقول أن العقلاء قالوا من أبلى بخصم جاهل مصر متعصب ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى فحينئذ
يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعاً مفحماً إذا عرفت هذا فنقول إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( ص 16 ) فقال يا محمد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة وهي قصة داود عليه السلام فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة ثم قال في آخر القصة مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق ثم كأنه تعالى قال وأنا لا آمرك بالحق فقط بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق ولا أفضي بالباطل فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم الله يجب أن يكون بالحق لا بالباطل لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحاً على المسلم في إيصال الخيرات إليه وذلك ضد الحكمة وعين الباطل فبهذا الطريق اللطيف أورد الله تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيراداً لا يمكنهم الخلاص عنه فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحماً ملزماً بهذا الطريق ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل فقال كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرارل العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم حيث يراه في ظاهر الحال مقروناً بسوء الترتيب وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات وبالله التوفيق
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِى ِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَى َّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاٌّ عْنَاقِ
واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله نِعْمَ الْعَبْدُ فيه مباحث
الأول نقول المخصوص بالمدح في نِعْمَ الْعَبْدُ محذوف فقيل هو سليمان وقيل داود والأول أولى لأنه أقرب المذكورين ولأنه قال بعده إِنَّهُ أَوَّابٌ ولا يجوز أن يكون المراد هو داود لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ص 17 ) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضاً صفة داود لزم التكرار ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيهاً لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة فكان هذا أولى
الثاني أنه قال أولاً نِعْمَ الْعَبْدُ ثم قال بعده إِنَّهُ أَوَّابٌ وهذه الكلمة للتعليل فهذا يدل على أنه إنما كان نِعْمَ الْعَبْدُ لأنه كان أواباً فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفاً بأنه نِعْمَ الْعَبْدُ وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف ورئيسها معرفة الله تعالى ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة الله تعالى ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى الله تعالى فكان أواباً فثبت أن كل من كان أواباً وجب أن يكون نِعْمَ الْعَبْدُ
أما قوله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ففيه وجوه الأول التقدير نِعْمَ الْعَبْدُ هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا الثاني أنه ابتداء كلام والتقدير اذكر يا محمد إذ عرض عليه كذا وكذا والعشي هو من حين العصر إلى آخر النهار عرض الخيل عليه لينظر إليها ويقف على كيفية أحوالها والصافنات الجياد الخيل وصفت بوصفين أولهما الصافنات قال صاحب ( الصحاح ) الصافن الذي يصفن قدميه وفي الحديث ( كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا صفونا ) أي قمنا صافنين أقدامنا وأقول على كلا التقديرين فالصفون صفة دالة على فضيلة الفرس والصفة الثانية للخيل في هذه الآية الجياد قال المبرد والجياد جمع جواد وهو الشديد الجري كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها أما حال وقوفها فوصفها بالصفون وأما حال حركتها فوصفها بالجودة يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال فإذا جرت كانت سراعاً في جريها فإذا طلبت لحقت وإذا طلبت لم تلحق ثم قال تعالى فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى وفي تفسير هذه اللفظة وجوه الأول أن يضمن أحببت معنى فعل يتعدى بعن كأنه قيل أنبت حب الخير عن ذكر ربي والثاني أن أحببت بمعنى ألزمت والمعنى أني ألزمت حب الخيل عن ذكر ربي أي عن كتاب ربي وهو التوراة لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح والثالث أن الإنسان قد يحب شيئاً لكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يزيد في مرضه والأب الذي يحب ولده الرديء وأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه كان ذلك غاية المحبة فقوله أحببت حب الخير بمعنى أحببت حبي لهذه الخيل
ثم قال عَن ذِكْرِ رَبِى بمعنى أن هذه المحبة الشديدة إنما حصلت عن ذكر الله وأمره لا عن الشهوة والهوى وهذا الوجه أظهر الوجوه
ثم قال تعالى حَتَّى تَوَارَتْ أقول الضمير في قوله حَتَّى تَوَارَتْ وفي قوله رُدُّوهَا يحتمل أن يكون كل واحد منهما عائداً إلى الشمس لأنه جرى ذلك ماله تعلق بها وهو العشي ويحتمل أن يكون كل واحد منهما عائداً إلى الصافنات ويحتمل أن يكون الأول متعلقاً بالشمس والثاني بالصافنات ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذه احتمالات أربعة لا مزيد عليها فالأول أن يعود الضميران معاني إلى الصافنات كأنه قال حتى توارت الصافنات بالحجاب ردوا الصافنات علي والاحتمال الثاني أن يكون
الضميران معاً عائدين إلى الشمس كأنه قال حتى توارت الشمس بالحجاب ردوا الشمس وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما اشتغل بالخيل فاتته صلاة العصر فسأل الله أن يرد الشمس فقوله رُدُّوهَا عَلَى َّ إشارة إلى طلب رد الشمس وهذا الاحتمال عندي بعيد والذي يدل عليه وجوه الأول أن الصافنات مذكورة تصريحاً والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر الثاني أنه قال إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ وظاهر هذا اللفظ يدل على أن سليمان عليه السلام كان يقول إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي وكان يعيد هذه الكلمات إلى أن توارت بالحجاب فلو قلنا المراد حتى توارت الصافنات بالحجاب كان معناه أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب ولو قلنا المراد حتى توارت الشمس بالحجاب كان معناه أنه كان يعيد عين هذه الكلمة من وقت العصر إلى وقت المغرب وهذا في غاية البعد الثالث أنا لو حكمنا بعود الضمير في قوله حتى توارت إلى الشمس وحملنا اللفظ على أنه ترك صلاة العصر كان هذا منافياً لقوله أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى فإن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله الرابع أنه بتقدير أنه عليه السلام بقي مشغولاً بتلك الخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر فكان ذلك ذنباً عظيماً وجرماً قوياً فالأليق لهذه الحالة التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة فأما أن يقول على سبيل التهور والعظمة لإله العالم ورب العالمين ردوها علي بمثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجرم العظيم فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المطهر المكرا الخامس أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي ولا يقول ردوها علي فإن قالوا إنما ذكر صيغة الجمع للتنبيه على تعظيم المخاطب فنقول قوله رُدُّوهَا لفظ مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم السادس أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان ذلك مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان الأمر كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وإظهاره وحيث لم يقل أحد ذلك علمنا فساده السابع أنه تعالى قال إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِى ّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ثم قال حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ وعود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد وأما العشي فأبعدهما فكان عود ذلك الضمير إلى الصافنات أولى فثبت بما ذكرنا أن حمل قوله حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ على تواري الشمس وأن حمل قوله رُدُّوهَا عَلَى َّ على أن المراد منه طلب أن يرد الله الشمس بعد غروبها كلام في غاية البعد عن النظم
ثم قال تعالى فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاْعْنَاقِ أي فجعل سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلى الله تعالى وعندي أن هذا أيضاً بعيد ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ( المائدة 6 ) قطعها وهذا مما لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم ألبتة من المسح العقر والذبح الثاني القائلون لهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة فأولها ترك الصلاة وثانيها أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) وثالثها
أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة ألبتة ورابعها أنه خاطب رب العالمين بقوله رُدُّوهَا عَلَى َّ وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس وخامسها أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله ) فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها وسادسها أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( ص 17 ) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) اصبر يا محمد على سفاهتهم واذكر عبدنا داود وذكر قصة داود ثم ذكر عقبيها قصة سليمان وكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد عليه اللام اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات واللذات فأما لو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً بهذا الموضع فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال بل التفسير المطابق للحق للألفاظ القرآن والصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضاء الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله عن ذكر ربي ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور الأول تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه الثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقاً مطابقاً موافقاً ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بذلك الوجه فما قولك فيه فنقول لنا ههنا مقامان
المقام الأول أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذ كرناه وظهوره لا يرتاب العاقل فيه
المقام الثاني أن يقال هب أن لفظ الآية لا يدل عليه أنه كلام ذكره الناس فما قولك فيه وجوابنا أن الدلالة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم والله أعلم
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاًّحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ هَاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأابٍ
اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام واختلفوا في المراد من قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ولأهل الحشو والرواية فيه قول ولأهل العلم والتحقيق قول آخر أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات
الأولى قالوا إن سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده تحمله الريح فأخذها وقتل ملكها وأخذ بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبها وكانت تبكي أبداً على أبيها فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشياً مع جواريها يسجدن لها فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش الرماد فجلس عليه تائباً إلى الله تعالى وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان ساحب البحر على صورة سليمان وقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان فأتى عليه الطير والجن والإنس وتغيرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم أخذ يخدم السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة وقيل بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجداً لله ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان وأدخله في صخرة وألقاها في البحر
والرواية الثانية للحشوية أن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان وكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتب إلى الله
والرواية الثالثة لهم قالوا إن سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس فقال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ثم ذكر الحكاية إلى آخرها
إذا عرفت هذه الروايات فهؤلاء قالوا المراد من قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ أن الله تعالى ابتلاه وقوله وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً هو جلوس ذلك الشيطان على كرسيه
والرواية الرابعة أنه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيام فسلب ملكه وألقى على سريره شيطان عقوبة له
واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه الأول أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية الثاني أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى والثالث كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان ولا شك أنه قبيح الرابع لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأ فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر عنه فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء الأول أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتاً على ركسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب الثاني روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرساناً أجمعون فذلك قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ الثالث قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ منه جَسَداً وذلك لشدة المرض والعرب تقول في الضعيف إنه لحم على وضع وجسم بلا روح ثُمَّ أَنَابَ أي رجع إلى حال الصحة فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة الرابع أقول لا يبعد أيضاً أن يقال إنه ابتلاه الله تعالى بتلسيط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف وأعاد إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك ألبتة عن ترك الأفضل والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأنهم أبداً في مقام هضم النفس وإظهار الذلة والخضوع كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى والله أعلم
ثم قال تعالى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم
الدين على مهم الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم بعده طلب المملكة وأيضاً الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم توسل به إلى طلب المملكة ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضاً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 10 12 ) وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ فإن قيل قوله عليه السلام مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى مشعر بالحسد والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي هو أن يعطيه الله ملكاً لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه ألبتة فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه الأول أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ فكون الريح جارياً بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته فكان قوله هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها فقوله لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى يعني لا يقدر أحد على معارضته والوجه الثاني في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره وذلك الذي سأله بقوله مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى أي ملكاً لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري الوجه الثالث في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال القدرة عليها فكأنه قال يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل الوجه الرابع من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة والنقد يصعب بيعه بالنسيئة فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى الوجه الخامس أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة فقال سليمان يا رب العزة أعظني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا ثم قال فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ رخاء أي رخوة لينة وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة فإن قيل أليس أنه تعالى قال في آية أخرى وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَة ً تَجْرِى بِأَمْرِهِ قلنا الجواب من وجهين الأول لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء والوجه الثاني من الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين وقوله تعالى حَيْثُ أَصَابَ أي قصد وأراد وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون أصاب الصواب فأخطأ الجواب وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال أين تصيبان فقالا هذا مطلوبنا وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتى
صارت تجري بأمره على وفق إرادته ثم قال والشياطين كل بناء وغواص قال صاحب ( الكشاف ) الشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على قوله كُلَّ بَنَّاء وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ وقوله مُقْرِنِينَ يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة والأصفاد الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضاً قال النابغة
ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد فعلى هذا الصفد القيد لكل من شددته شداً وثيقاً فقد صفدته وكل من أعطيته عطاء جزيلاً فقد أضفدته وههنا بحث وهو أن هذه الآيات دالة على أن الشياطين لها قوة عظيمة وبسبب تلك القوة قدرو على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر وقدروا على الغوص في البحار واحتاج سليمان عليه السلام إلى قيدهم ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في السفسطة وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة بل لطيفة رقيقة فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة وأيضاً لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية وأيضاً الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا ولم لا يخربون ديار الناس مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم وحيث لم يحس شيء من ذلك علمنا أن القول بإثبات الجن والشياطين ضعيف
واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها وأيضاً لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق وأما الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان ثم إنه لما توفي سليمان عليه السلام أمات الله أولئك الجن والشياطين وخلق نوعاً آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة ولا يكون لهم شيء من القوة والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس
ثم قال تعالى الاْصْفَادِ هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وفيه قولان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما أعط من شئت وامنع من شئت بغير حساب أي ليس عليك حرج فيما أعطيت وفيما أمسكت الثاني أن هذا في أمر الشياطين خاصة والمعنى هؤلاء الشياطين المسخرون عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فحل عنه واحبس من شئت منهم في العمل بغير حساب
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على سليمان في الدنيا أردفه بإنعامه عليه في الآخرة فقال فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا وقد سبق تفسيره
وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَة ً مِّنَّا وَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة واعلم أن داود وسليمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء وأيوب كان ممن خصه الله تعالى بأنواع البلاء والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثرلا نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليه السلام وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أيوب عطف بيان وإذ بدل اشتمال منه أَنّى مَسَّنِى َ أي بأني مسني حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب وقرىء بِنُصْبٍ بضم النون وفتحها مع سكون الصاد وفتحها وضمها فالنصب والنصب كالرشد والرشد والعدم والعدم والسقم والسقم والنصب على أصل المصدر والنصب تثقيل نصب والمعنى واحد وهو التعب والمشقة والعذاب والألم
واعلم أنه كان قد حصل عنده نوعان من المكروه الغم الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات والألم الشديد في الجسم ولما حصل هذان النوعان لا جرم ذكر الله تعالى لفظين وهما النصب والعذاب
المسألة الثانية للناس في هذا الموضع قولان الأول أن الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان الثاني أنها إنما حصلت بفعل الله والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة
وأما القول الأول فتفريره ما روي أن إبليس سأل ربه فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني فقال الله نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه فقال يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله وكان يجيئه ويقول له هلك من مالك كذا وكذا فيقول الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله فقال يا رب إني أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه فمكث في ذلك البلاء سنين حتى صار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه ءانٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فأظهر الله من تحت رجله عيناً باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في
ظاهره وباطنه ورد عليه أهله وماله
والقول الثاني أن الشيطان لا قدرة له ألبتة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام والدليل عليه وجوه الأول أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات فقد حصل بفعل الشيطان وحينئذٍ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى الثاني أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ولم لا يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادكم الثالث أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة وذلك يدل على قول من يقول إن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض والآفات فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان قلنا فإذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد من قوله أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة كان يلقيه في أنواع العذاب والعناء ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوهاً الأول أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت مدة تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له شيء من الأموال ألبتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن الاشتغال بخدمتهم والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت وكان يحتال في دفع تلك الوساوس فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله وقال أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد الثاني أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ الثالث قيل إن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى الله تعالى وقال أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ الرابع روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه بقي أيوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلا رجلين ثم قال أحدهما لصاحبه لقد أذنب أيوب ذنباً ما أتى به أحد من العالمين ولولاه ما وقع في مثل هذا البلاء فذكروا ذلك لأيوب عليه السلام فقال لا أدري ما تقولان غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في الحق ) الخامس قيل إن امرأته كانت تخدم الناس فتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب فاتفق أنهم ما استخدموها ألبتة وطلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت ثم في اليوم الثاني ففعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه واشتد غمه فعند ذلك قال أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ السادس قال في بعض الأيام يا رب لقد علمت ما اجتمع علي أمران إلا آثرت
طاعتك ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً فنودي من غمامة يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه وقال منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ وقد ذكروا أقوالاً أخرى والله أعلم بحقيقة الحال وسمعت بعض اليهود يقول إن لموسى بن عمران عليه السلام كتاباً مفرداً في واقعة أيوب وحاصل ذلك الكتاب أن أيوب كان رجلاً كثير الطاعة لله تعالى مواظباً على العبادة مبالغاً في التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ثم إنه وقع في البلادء الشديد والعناء العظيم فهل كان ذلك لحكمة أم لا فإن كان ذلك لحكمة فمن المعلوم أنه ما أتى بجرم في الزمان السابق حتى يجعل ذلك العذاب في مقابلة ذلك الجرم وإن كان ذلك لكثرة الثواب فالإله الحكيم الرحيم قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام الطويلة والأسقام الكريهة وحينئذٍ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة وهذه كلمات ظاهرة جلية وهي دالة على أن أفعال ذي الجلال منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد والحق الصريح أنه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 )
المسألة الثالثة لفظ الآية يدل على أن ذلك النصب والعذاب إنما حصل من الشيطان ثم ذلك العذاب على القول الأول عبارة عما حصل في بدنه من الأمراض وعلى القول الثاني عبارة عن الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب إلقاء الوساوس وعلى التقديرين فيلزم إثبات الفعل للشيطان وأجاب أصحابنا رحمهم الله بأنا لا ننكر إثبات الفعل للشيطان لكنا نقول فعل العبد مخلوق لله تعالى على التفصيل المعلوم
أما قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فالمعنى أنه لما شكى من الشيطان فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله إليه بأن قال له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ والركض هو الدفع القوي بالرجل ومنه ركضك الفرس والتقدير قلنا له اركض برجلك قيل إنه ضرب رجله تلك الأرض فنبعت عين فقيل هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ أي هذا ماء تغتسل به فيبرأ باطنك وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء اغتسل فيه وشرب منه والمفسرون قالوا نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها
ثم قال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ فقد قيل هم عين أهله وزيادة مثلهم وقيل غيرهم مثلهم والأول أولى لأنه هو الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة ثم اختلفوا فقال بعضهم معناه أزلنا عنهم السقم فعادوا أصحاء وقال بعضهم بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا وقال بعضهم بل تمكن منهم وتمكنوا منه فيما يتصل بالعشرة وبالخدمة
أما قوله وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ فالأقرب أنه تعالى متعه بحصته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك وقال الحسن رحمه الله المراد بهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا
ثم قال رَحْمَة ً مّنَّا أي إنما فعلنا كل هذه الأفعال على سبيل الفضل والرحمة لا على سبيل اللزوم
ثم قال وَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ يعني سلطناً البلاء عليه أولاً فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلى
الآلاء والنعماء تنبيهاً لأولي الألباب على أن من صبر ظفر والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ وقالت المعتزلة قوله تعالى رَحْمَة ً مّنَّا لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد وذلك يدل على أن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة
أما قوله تعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فهو معطوف على اركب والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه وفي الخبر أنه حلف على أهله ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برىء ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا إن قوله تعالى نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان تشريف عظيم فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( الأنفال 40 ) والمراد أنك إن لم تكن نِعْمَ الْعَبْدُ فأنا نِعْمَ الْمَوْلَى وإن كان منك الفضول فمني الفضل وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير
وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاٌّ يْدِى وَالاٌّ بْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاٌّ خْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الاٌّ خْيَارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير عَبْدَنَا على الواحد وهي قراءة ابن عباس ويقول إن قوله عَبْدَنَا تشريف عظيم فوجب أن يكون هذا التشريف مخصوصاً بأعظم الناس المذكورين في هذه الآية وهو إبراهيم وقرأ الباقون عِبَادِنَا قالوا لأن غير إبارهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في عيسى إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ( الزخرف 59 ) وفي أيوب نِعْمَ الْعَبْدُ ( ص 44 ) وفي نوح إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( الإسراء 3 ) فمن قرأ ( عبدنا ) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له ثم عطف ذريته على عبدنا وهي إسحق ويعقوب ومن قرأ ( عبادنا ) جعل إبراهيم وإسحق ويعقوب عذف بيان لعبادنا
المسألة الثانية تقدير اة ية كأنه تعالى قال فاصبر على ما يقولون واذكر عبادنا داود إلى أن قال واذكر عبادنا إبراهيم أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار وصبر إسحق للذبح وصب يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره ثم قال أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ واعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة الله وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل فقوله أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ إشارة إلى هاتين الحالتين
ثم قال تعالى إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله بِخَالِصَة ٍ قرىء بالتنوين والإضافة فمن نون كان التقدير أخلصناهم أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خالصة لا شوب فيها وهي ذكرى الدار ومن قرأ بالإضافة فالمعنى بما خلص من ذكرى الدار يعني أن ذكرى الدار قد تكون لله وقد تكون لغير الله فالمعنى إنا أخلصناهم بسبب ما خلص من هذا الذكر
المسألة الثانية في ذكرى الدار وجوه الأولى المراد أنهم استغرقوا في ذكرى الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا الثاني المراد حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة الثالث المراد أنه تعالى أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقبل دعاءهم في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 )
ثم قال تعالى وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ أي المختارين من أبناء جنسهم والأخياء جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء وبدليل دفع الإجمال
ثم قال وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ الاْخْيَارِ وهم قوم آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله وقد ذكرنا الكلام في شرح هذه الأسماء وفي صفات هؤلاء الأنبياء في سورة الأنبياء وفي سورة الأنعام فلا فائدة في الإعادة وههنا آخر الكلام في قصص الأنبياء في هذه السورة
هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَأابٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاٌّ بْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ
اعلم أن في قوله ذُكِرَ وجهين الأول أنه تعالى إنما شرح ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأجل أن يصبر محمد عليه السلام على تحمل سفاهة قومه فلما تمم بيان هذا الطريق وأراد أن يذكر عقيبه طريقاً آخر يوجب الصبر على سفاهة الجهال وأراد أن يميز أحد البابين عن الآخر لا جرم قال هَاذَا ذِكْرُ ثم شرع في تقرير الباب الثاني فقال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كما أن المصنف إذا تمم كلاماً قال هذا باب ثم شرع في باب آخر وإذا فرغ الكاتب من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر هذا وقد كان كيت وكيت والدليل عليه أنما لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يردفه بذكر أهل النار قال هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ( ص 55 ) الوجه الثاني في التأويل أن المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام به أبداً والأول هو الصحيح
أما قوله وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ وَحُسْنُ مَئَابٍ
فاعلم أنه تعالى لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأن وصفوه بأنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( ص 16 ) فعند هذا أمر محمداً بالصبر على تلك السفاهة وبين أن ذلك الصبر لازم من وجهين الأول أنه تعالى لما بين أن الأنبياء المتقدمين صبروا على المكاره والشدائد فيجب عليك أن تقدي بهم في هذا المعنى الثاني أنه تعالى بين في هذه الآية أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا وكل ذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى وهذا نظم حسن وترتيب لطيف
أما فقوله تعالى هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ المآب المرجع واحتج القائلون بقدم الأرواح بهذه الآية وبكل آية تشتمل على لفظ الرجوع ووجه الاستدلال أن لفظ الرجوع إنما يصدق لو كانت هذه الأرواح موجودة قبل الأجساد وكانت في حضرة جلال الله ثم تعلقت بالأبدان فعند انفصالها عن الأبدان يسمى ذلك رجوعاً وجوابه أن هذا إن دل فإنما يدل على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان ولا يدل على قدم الأرواح
ثم قال تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ وهو بدل من قوله لَحُسْنَ مَئَابٍ ثم قال مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوهاً الأول قال الفراء معناه مفتحة لهم أبوابها والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة تقول العرب مررت برجل حسن الوجه فالألف واللام في الوجه يدل من الإضافة والثاني قال الزجاج المعنى مفتحة لهم الأبواب منها الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الاْبْوَابُ بدل من الضمير وتقديره مفتحة هي الأبواب كقولك ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال
المسألة الثانية قرىء جَنَّاتِ عَدْنٍ مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مبتدأ و مُّفَتَّحَة ً خبره وكلاهما خبر مبتدأ محذوف أي هو جنات عدن مفتحة لهم
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء الأول أحوال مساكنهم فقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ يدل على أمرين أحدهما كونها جنات وبساتين والثاني كونها دائمة آمنة من الانقضاء
وفي قوله مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ وجوه الأول أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام فيدخل كذلك محفوفاً بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر 73 ) الثاني أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم الثالث المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسعة ومسافرة العيون فيها ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة
ثم قال تعالى مُّتَّكِئِينَ فِيهَا يدعون فيها وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء فقال في آية عَلَى الاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( يس 56 ) وقال في آية أخرى مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ( الرحمن 76 )
البحث الثاني قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا حال قدمت على العامل فيها وهو قوله يَدْعُونَ فِيهَا والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها ثم قال بِفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ وَشَرَابٍ والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة فرغبهم الله تعالى فيه
ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح فقال وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ وقد سبق تفسيره في سورة والصافات وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم وقوله أَتْرَابٌ أي على سن واحد ويحتمل كون الجواري أتراباً ويحتمل كونهن أتراباً للأزواج قال القفال والسبب في اعتبار هذه الصفة أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية وذلك يقتضي عدم الغيرة
ثم قال تعالى هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ يعني أن الله تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَالَهُ مِن نَّفَادٍ
هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَأابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الاٌّ شْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين وصف بعده عقاب الطاغين ليكون الوعيد مذكوراً عقيب الوعد والترهيب عقيب الترغيب
واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعاً فالأول مرجعهم ومآبهم فقال هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ ( ص 55 ) وهذا في مقابلة قوله هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ( ص 49 ) فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين واختلفوا في المراد بالطاغين فأكثر المفسرين حملوه على الكفار وقال الجبائي إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أو لم يكونوا كذلك واحتج الأولون بوجوه الأول أن قوله لَشَرَّ مَئَابٍ يقتضي أن يكون مآبهم شراً من مآب غيرهم وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً وذلك لا يليق إلا بالكفار لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخرياً الثالث أنه اسم ذم والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب أي شر مرجع ومصير ثم قال جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ثم قال فَبِئْسَ الْمِهَادُ وهو كقوله لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف 41 ) شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم
ثم قال تعالى هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه وجهان الأول أنه على التقديم والتأخير والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدىء فيقول حميم وغساق
المسألة الثانية الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه الأول أنه الذي يغسق من صديد أهل النار يقال غسقت العين إذا سال دمعها وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني قيل الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع قال كعب الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية
المسألة الثالثة قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسماً أو صفة فإن كان اسماً فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلاً وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك
ثم قال تعالى وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمر وَأَخَّرَ بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق أي من مثله في الشدة والفظاعة أزواج أي أجناس وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء من شكله بالكسر وهي لغة وأما الغنجفبالكسر لا غير
واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم في الدنيا أولاً ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانياً أما الأول فهو قوله هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو قوله قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا وقيل إن قوله هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم وقوله لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ كلام الرؤساء وقوله هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها والقحمة الشدة
وقوله تعالى لاَ مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له مرحباً أي أتيت رحباً في البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء وقوله بِهِمُ بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) قالوا أي الأتباع بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا والضمير للعذاب أو لصليهم فإن قيل ما
معنى تقديمهم العذاب لهم قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( آل عمران 181 182 ) إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم والضمير في قوله قَدَّمْتُمُوهُ كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ شَرُّ مَئَابٍ وقوله فَبِئْسَ الْقَرَارُ أي بئس المستقر والمسكن جهنم ثم قالت الأتباع رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً أي مضاعفاً ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ( الأعراف 38 ) وكذلك قوله تعالى رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ( الأحزاب 67 68 ) فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً وإن كان زائداً عليه كان ظالماً وإنه لا يجوز قلنا المراد منه قوله عليه السلام ( ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال والثاني عذاب الإضلال والله أعلم
وههذنا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار إما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً ثم قالوا أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي مّنَ الاْشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ بوصل ألف أَتَّخَذْنَاهُمْ والباقون بفتحها على الاستفهام قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ لأن الاستفهام متقدم في قوله مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخرياً لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ( المؤمنون 110 ) فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لا بد من المصير إليه ليعادل قوله أَتَّخَذْنَاهُمْ بأم في قوله أَمْ زَاغَتْ فِيهِمْ فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله أَمْ زَاغَتْ على القراءة الأولى قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون أم زاغت عنهم الأبصار
المسألة الثانية قرأ نافع سِخْرِيّاً بضم السين والباقون بكسرها وقيل هما بمعنى واحد وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير
المسألة الثالثة اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً وأما القراءة على سبيل الاستفهام فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لا بد وأن يتكلموا به ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو فقال تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول
الرؤساء لاَ مَرْحَباً بِهِمْ وقول الأتباع بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة
قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِى َ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاٌّ عْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَى َّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا الله واحد وإلى أنه رسول مبين من عند الله وإلى أن القول بالقيامة حق فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين الأول ليصير ذلك حاملاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم والثاني ليصير ذلك رادعاً للكفار على ازصرار على الكفر والسفاهة وداعياً إلى قبول الإيمان ولما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقدير التوحيد والنبوة والبعث فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولاً ويجاب عنها ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب فكذا ههنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم
أما قوله قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد وأحوال ثواب من أقربها وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزهاً عن الشريك والنظير وبيانه أن الذي يجعل شريكاً له في الإلهية إما أن يكون موجوداً قادراً على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك بل يكون جماداً عاجزاً والأول باطل لأنه لو كان شريكه قادراً على الإطلاق لم يكن هو قادراً قاهراً لأن بتقدير أن يريد هو شيئاً ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر وحينئذ لا يكون قادراً قاهراً بل كان عاجزاً ضعيفاً والعاجز لا يصلح للإلهية فقوله لا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ إشارة إلى أن كونه قهاراً يدل على كونه واحداً وأما الثاني وهو أن يقال إن الذي جعل
شريكاً له لا يقدر على شيء ألبتة مثل هذه الأوثان فهذا أيضاً فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً فقوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يدل على هذه الدلائل واعلم أن كونه سبحانه قهاراً مشعر بالترهيب والتخويف فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فكونه رباً مشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفاراً مشعر بالترغيب وهذا الموجود هو الذي تجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى فضله وثوابه ونذكر طريقة أخرى في تفسير هذه الآيات فنقول إنه تعالى ذكر من صفاته في هذا الموضع خمسة الواحد والقهار والرب والعزيز والغفار أما كونه واحداً فهو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل الحق وبين المشركين واستدل تعالى على كونه واحداً بكونه قهاراً وقد بينا وجه هذه الدلالة إلا أن كونه قهاراً وإن دل على إثبات الوحدانية إلا أنه يوجب الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دالة على الرحمة والفضل والكرم أولها كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما وهذا إنما تتم معرفته بالنظر في آثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وذلك بحر لا ساحل له فإذا تأملت في آثار حكمته ورحمته في خلق هذه الأشياء عرفت حينئذ تربيته للكل وذلك يفيد الرجاء العظيم وثانيها كونه عزيزاً والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وكريم إلا أنه غير قادر على كل المقدورات فأجاب عنه بأنه عزيز أي قادر على كل الممكنات فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء وثالثها كونه غفاراً والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومحسن ولكنه يكون كذلك في حق المطيعين المخلصين في العبادة فأجاب عنه بأن من بقي على الكفر سبعين سنة ثم تاب فإني أزيل اسمه عن ديوان المذنبين وأستر عليه بفضلي ورحمتي جميع ذنوبه وأوصله إلى درجات الأبرار واعلم أنه تعالى لما بين ذلك قال قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ وهذا النبأ العظيم يحتمل وجوهاً فيمكن أن يكون المراد أن القول بأن الإله واحد نبأ عظيم ويمكن أن يقال المراد أن القول بالنبوة نبأ عظيم ويمكن أن يقال المراد أن القول بإثبات الحشر والنشر والقيامة نبأ عظيم وذلك لأن هذه المطالب الثلاثة كانت مذكورة في أول السورة ولأجلها أنجز الكلام إلى كل ما سبق ذكره ويمكن أيضاً أن يكون المراد كون القرآن معجزاً لأن هذا أيضاً قد تقدم ذكره في قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ ( ص 29 ) وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ واعلم أن قوله أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال ومنع من التقليد لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق يفوز بأعظم أبواب السعادة وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل وقع في أعظم أبوبا الشقاوة فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة
أما قوله تعالى مَا كَانَ لِى َ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربعة وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه الأول أن كل واحد منها نبأ عظيم والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه الثاني أن الملأ الأعلى اختصموا وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال
إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ ( البقرة 30 ) والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله مَن يُفْسِدُ فِيهَا وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ فقال الله سبحانه وتعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وتقرير هذا الجواب والله أعلم أن يقال أن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة أحدها الذين حصل لهم العقل والحكمة ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم الملائكة فقط ثانيها الذين حصل لهم النفس والشهوة ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي البهائم وثالثها الأشياء الخالية عن القسمين وهي الجمادات وبقي في التقسيم قسم رابع وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان والمقصود من تخليق الإنسان ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة فقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني أن هذا النوع من المخلوقات وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات وأن يجتهد في اكتسابها وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعياً له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجراً له عن أضدادها ومقابلاتها فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذا الكلام في هذا المقام فإن قيل الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( البقرة 30 ) فإن المخاصمة مع الله كفر قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ولما أمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول إِن يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي وإنما أوحى الله إليّ هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر وذلك لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر والكفار إنما نازعوا محمداً عليه السلام بسبب الحسد والكبر فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أموراً أربعة أولها أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه والثاني أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر الثالث أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما فهذا هو وجه النظم في هذه الآياع واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه وفيها مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ سؤالات
الأول أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين كما إذا قيل أنا متخذ سواراً من ذهب فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة
الثاني ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 26 ) وكقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 )
الثالث أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشراً من طين لم يقولوا شيئاً وفي الآية الأخرى وهي التي قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولاً أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية فلما قال إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات إنما أخلقه من الطين والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب وأقرب منه الطين وأقرب منه الحمأ المسنون وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين
المسألة الثانية قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولاً ثم نفخ الروح ثانياً وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس
أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة ولا بد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة
وأما النفس فإليها الإشارة بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي وذهبت الحلولية إلى أن كلمة ( من ) تدل على التبعيض وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله تعالى وهذا غاية الفساد لأن كل ما له جزء وكل فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث
وأما كيفية نفخ الروح فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية علوية العنصر قدسية الجوهر وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء وسريان النار في الفحم فهذا القدر معلوم أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى
المسألة الثالثة الفاء في قوله فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض أو دخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) ففيه مباحث عميقة وقال بعض الصوفية الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل والكلام فيه طويل وأما بقية المسائل وهي كيفية سجود الملائكة لآدم وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا وأنه هل كان كافراً أصلياً أم لا فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها
المسألة الرابعة احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ في إثبات يدين لله تعالى بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه فوجب المصير إليه والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية فوجب القطع به
واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأجزاء والأعضاء قد سبقت إلا أنا نذكر ههنا نكتاً جارياً مجرى الإلزامات الظاهرة فالأول أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها وإما أن يزيد عليها فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيوناً كثيرة لقوله تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ( القمر 14 ) وأن يثبت جنباً واحداً لقوله تعالى نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( يس 71 ) وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) وأن يثبت له ساقاً واحداً لقوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( القلم 42 ) فيكون الحاصل من هذه الصورة مجرد رقعة الوجه
ويكون عليها عيون كثيرة وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور ولو كان هذا عبداً لم يرغب أحد في شرائه فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة
وأما القسم الثاني وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن بل يزيد وينقص على وفق التأويلات فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر ولا بد له من قبول دلائل العقل
الحجة الثانية في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء لله تعالى فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل وأن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى وإن نفوهما فهو خصي أو عنين وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً
الحجة الثالثة أنه في ذاته سبحانه وتعالى إما أن يكون جسماً صلباً لا ينغمز ألبتة فيكون حجراً صلباً وإما أن يكون قابلاً للانغماز فيكون ليناً قابلاً للتفرق والتمزق وتعالى الله عن ذلك
الحجة الرابعة أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه كان كالزمن المعقد العاجز وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه كان محلاً للتغيرات فدخل تحت قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
الحجة الخامسة إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت وإن كان يفعل هذه الأشياء كان إنساناً كثير التهمة محتاجاً إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل
الحجة السادسة أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا فنقول لهم حين نزوله هل يبقى مدبراً للعرش ويبقى مدبراً للسماء الدنيا حين كان على العرش وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة وإن لم يبق مدبراً للعرش فعند نزوله يصير معزولاً عن إلهية العرش والسموات
الحجة السابعة أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيراً بحيث تسعه السماء الدنيا وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش وكل ذلك باطل
الحجة الثامنة ثبت أن العالم كرة فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كانت تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل فحينئذ يكون جسماً محيطاً بهذا العالم من كل الجوانب فيكون إله العالم على هذا القول فلكاً من الأفلاك
الحجة التاسعة لما كانت الأرض كرة وكانت السموات كرات فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبداً نازلاً عن العرش وأن لا يرجع إلى العرش ألبتة
الحجة العاشرة أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض وثانيها كونه محدوداً متناهياً وثالثها كونه موصوفاً بالحركة والسكون والطلوع
والغروب فإذا كان إله المشبهة مؤلفاً من الأعضاء والأجزاء كان مركباً فإذا كان العرش كان محدوداً متناهياً وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفاً بالحركة والسكون فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للألهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها وذلك يبطل قول المشبهة وإن لم تكن منافية للأهلية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة وذلك ينافي كونه مركباً من الأجزاء والأبعاض
الحجة الثانية عشرة قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) ولو كان مركباً من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجاً إليها وذلك يمنع من كونه غنياً على الإطلاق فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه الله تعالى عن هذه الأعضاء فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوهاً الأول أن اليد عبارة عن القدرة تقول العرب ما لي بهذا الأمر من يد أي من قوة وطاقة قال تعالى أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) الثاني اليد عبارة عن النعمة يقال أيادي فلان في حق فلان ظاهرة والمراد النعم والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا الثالث أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت يداك وكقوله تعالى بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 )
ولقائل أن يقول حمل اليد على القدرة ههنا غير جائز ويدل عليه وجوه الأول أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين لله وهو باطل والثاني أن الآية تقتضي أن كون آدم مخلوقاً باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجوداً للملائكة فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم مخلوقاً بالقدرة لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة الله تعالى فكما أن آدم عليه السلام مخلوق بيد الله تعالى فكذلك إبليس مخلوق بيد الله تعالى وعلى تقدير أن تكون عبارة عن القدرة لم تكن هذه العلة علة لكون آدم مسجوداً لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجوداً لآدم وحينئذٍ يختل نظم الآية ويبطل الثالث أنه جاء في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( كلتا يديه يمنى ) ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة
وأما التأويل الثاني وهو حمل اليدين على النعمتين فهو أيضاً باطل لوجوه الأول أن نعم الله تعالى كثيرة كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الإثنتين الثاني لو كانت اليد عبارة عن النعمة فنقول النعمة مخلوقة لله فحينئذٍ لا يكون آدم مخلوقاً لله تعالى بل يكون مخلوقاً لبعض المخلوقات وذلك بأن يكون سبباً لمزيد النقصان أولى من أن يكون سبباً لمزيد الكمال الثالث لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( الملك 1 ) معناه تبارك الذي بنعمته الملك ولكان قوله ( بيدك الخير ) معناه بنعمتك الخير ولكان قوله يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) معناه نعمتان مبسوطتان ومعلوم أن كل ذلك فاسد
وأما التأويل الثالث وهو قوله إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد فنقول لفظ اليد قد يستعمل في
حق من يكون هذا العضو حاصلاً له وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلاً في حقه أما الأول فكقولهم في حق من جنى بلسانه هذا ما كسبت يداك والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد فطلق اسم اليد على القدرة وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة وقد تقدم إبطال هذا الوجه وأما الثاني فكقوله بَيْنَ يَدَى ْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( سبأ 46 ) وقوله ( بين يدي الساعة ) إلا أنا نقول هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور والمجاز لا يقاس عليه ولا يكون مطرداً فلا جرم لا يجوز أن يقال إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة ونحن نسلم أن قوله لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( الحجرات 1 ) قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ بل قوله تعالى خَلَقْتُ بِيَدَى َّ وإن كان القياس في المجازات باطلاً فقد سقط كلامكم بالكلية فهذا منتهى البحث في هذا الباب
والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل فإذا كان العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنه عند قيام الدلائل القاهرة فهذا ما لخصناه في هذا الباب والله أعلم
أما قوله تعالى أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ فالمعنى استكبرت الآن أم كنت أبداً من المتكبرين العالين فأجاب إبليس بقوله أَنَا خَيْرٌ مّنْ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ فالمعنى أني لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيراً من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة
المقدمة الأولى أن إبليس مخلوق من النار يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ وقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 )
المقدمة الثانية أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه الأول أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض الثاني أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض الثالث أن الكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت الرابع الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة الخامس النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة السادس النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح السابع النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط الثامن أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي التاسع أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت
والأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضاً من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر العاشر أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار الحادي عشر أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره الثاني عشر أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات الثالث عشر أن أقوى العناصر الأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضاً وجوهاً الأول أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة
وأما المقدمة الثالثة فهي أن من كان أصله خيراً من أصله فهو خير منه فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جداً وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة وهو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضاً فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضاً بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه إلا أن الذي لا يكون نسبياً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة فإن قال قائل هب أن إبليس أخظأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة وبيان هذا السؤال من وجوه الأول أن قوله اسْجُدُواْ أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلاً عن الكفر وأيضاً فالذين يقولون إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملاً للندب احتمالاً ظاهراً ومع قيام هذا الأحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر الثاني هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث خب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب هب أن صيفة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى أَخْرَجَ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم
معللاً بذلك الوصف وههنا الحكم بكونه رجيماً ورد عقيب ما حكي عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم وقوله مِنْهَا أي من الجنة أو من السموات والرجيم المرجوم وفيه قولان
الأول أنه مجاز عن الطرد لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمي بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد فإن قالوا الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله رَّجِيمٍ على الطرد لكان قوله بعد ذلك وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى تكراراً والجواب من وجهين الأول أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله والثاني أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ولا يكون تكريراً
والقول الثاني في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة وهو كون الشياطين مركومين بالشهب والله أعلم فإن قيل كلمة إلى لإنتهاء الغاية فقوله إِلَى يَوْمِ الدّينِ يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين أجاب صاحب ( الكشاف ) بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية
واعلم أن إبليس لما صار ملعوناً قال فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قيل إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضاً فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ومعناه إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه فقال إبليس فَبِعِزَّتِكَ وهو قسم بعزة الله وسلطانه لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه وهو على مذهب القدر وقال مرة أخرى رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبر وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة
وأما قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ففيه فوائد
الفائدة الأولى قيل غرض إبليس من ذكره هذا لإستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله الصالحين فكأن إبليس قال إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام وعن هذا يقال إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أُلْقِى َ الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) قلنا إن إبليس لم يقل إني لم أقصد إغواء عباد الله الصالحين بل قال لأغوينهم وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم
الفائدة الثانية هذه الآية تدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين وقال تعالى في صفة يوسف إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوي يوسف عليه السلام وذلك يدل على كذب الحشوية فيما ينسبون إلى يوسف عليه السلام من القبائح
واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة فَالْحَقُّ بالرفع وَالْحَقَّ بالنصب والباقون بالنصب فيهما أما الرفع فتقديره فالحق قسمي وأما النصب فعلى القسم أي فبالحق كقولك والله لأفعلن وأما قوله وَالْحَقَّ أَقُولُ انتصب قوله وَالْحَقَّ بقوله أَقُولُ
المسألة الثانية قوله مِنكَ أي من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ من ذرية آدم فإن قيل قوله أَجْمَعِينَ تأكيد لماذا قلنا يحتمل أن يؤكد به الضمير في مِنْهُمْ أو الكاف في مِنكَ مع من تبعك ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحداً
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول أنه تعالى قال في حق إبليس فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهو محال فكان صدور الإيمان منه محالاً مع أنه أمر به والثاني أنه قال فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فالله تعالى علم منه أنه يغويهم وسمع منه هذه الدعوى وكان قادراً على منعه عن ذلك والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضياً به فإن قالوا لعل ذلك المنع مفسد قلنا هذا قول فاسد لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال ويخلص بني آدم عن الضلال وهذا عين المصلحة الثالث أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين وأن يميت إبليس والشياطين وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف بما لا يطاق والله أعلم
قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ
اعلم أن الله تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة وذلك لأنه تعالى ذكر طرقاً كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين ثم قال عند الختم هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أبو باطل أما الداعي وهو أنا فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجراً ومالاً ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طعمه عن طلب المال ألبتة وكان من الظاهر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان بعيداً عن الدنيا عديم الرغبة فيها وأما كيفية الدعوة فقال وما أنا من المتكلفين والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات
الكثيرة بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود الله أولاً ثم أعوكم ثانياً إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به يقوي ذلك قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء وأمثاله ثم أدعوكم ثالثاً إلى الإقرار بكونه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة ثم أدعوكم رابعاً إلى الإقرار بكونه منزهاً عن الشركاء والأضداد ثم أعوكم خامساً إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها ثم أدعوكم سابعاً إلى الإقرار بالبعث والقيامة لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 ) ثم أدعوكم ثامناً إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة فهذه الأصول الثمانية هي الأصول القوية المعتبرة في دين الله تعالى ودين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبدائه العقول وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها بل كان عقل سليم وطبع مستقيم فإنه يشهد بصحتها وجلالتها وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ولما بين هذه المقدمات قال وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها فستعلمون بعد حين أنكم كمنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب والله أعلم
سورة الزمر
سبعون وخمس آيات مكيةتَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الفراء والزجاج في رفع تَنزِيلَ وجهين أحدهما أن يكون قوله تَنزِيلَ مبتدأ وقوله مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ خبر الثاني أن يكون التقدير هذا تنزيل الكتاب فيضمر المبتدأ كقوله سورة أنزلناها ( النور 1 ) أي هذه سورة قال بعضهم الوجه الأول لوجوه الأول أن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ههنا الثاني أنا إذا قلنا ( النور 1 ) أي هذه سورة قال بعضهم الوجه الأول لوجوه الأول أن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ههنا الثاني أنا إذا قلنا تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد قائدة شريفة وهي أن تنزيل الكتاب يكون من الله لا من غيره وهذا
الحصر معنى معتبر أما إذا أضمرنا المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة الثالث أنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير هذا تنزيل الكتاب من الله وحينئذ يلزمنا مجاز آخر لأن هذا إشارة إلى السورة والسورة ليست نفس التنزيل بل السورة منزلة فحينئذ يحتاج إلى أن نقول المراد من المصدر المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة
المسألة الثانية القائلون بخلق القرآن احتجوا بأن قالوا إنه تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق والجواب أنا نحمل هذه اللفظة على الصيغ والحروف
المسألة الثالثة الآيات الكثير تدل على وصف القرآن بكونه تنزيلاً وآيات أخر تدل على كونه منزلاً
أما الأول فقوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين ( الشعراء 192 ) وقال ( الشعراء 192 ) وقال تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( فصلت 42 ) وقال حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( فصلت 1 2 )
وأما الثاني فقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وقال وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( الإسراء 105 ) وأنت تعلم أن كونه منزلاً أقرب إلى الحقيقة من كونه تنزيلاً فكونه منزلاً مجاز أيضاً لأنه إن كان المراد من القرآن الصفة القائمة بذات الله فهو لا يقبل الإنفصال والنزول وإن كان المراد منه الحروف والأصوات فهي أعراض لا تقبل الانتقال والنزول بل المراد من النزول نزول الملك الذي بلغها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة العزيز هو القادر الذي لا يغلب فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى قادراً على ما لا نهاية له والحكيم هو الذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة وهذا إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وأنه غني عن جميع الحاجات إذا ثبت هذا فنقول كونه تعالى عزيزاً حكيماً يدل على هذه الصفات الثلاثة العلم بجميع المعلومات والقدرة على كل الممكنات والإستغناء عن كل الحاجات فمن كان كذلك امتنع أن يفعل القبيح وأن يحكم بالقبيح وإذا كان كذلك فكل ما يفعله يكون حكمة وصواباً إذا ثبت هذا فنقول الإنتفاع بالقرآن يتوقف على أصلين أحدهما أن يعلم أن القرآن كلام الله والدليل عليه أنه ثبت بالمعجز كون الرسول صادقاً وثبت بالتواتر أنه كان يقول القرآن كلام الله فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن القرآن كلام الله والأصل الثاني أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها أم بحسب اللغة أو بحسب القرينة العرفية أو الشرعية لأنه لو لم يرد بها ذلك لكان تلبيساً وذلك لا يليق بالحكيم فثبت بما ذكرنا أن الانتفاع بالقرآن لا يحصل إلا بعد تسليم هذين الأصلين وثبت أنه لا سبيل إلى إثبات هذين الأصلين إلا بإثبات كونه تعالى حكيماً وثبت أن لا سبيل إلى إثبات كونه حكيماً إلا بالبناء على كونه تعالى عزيزاً فلهذا السبب قال تنزيل الكتاب من الله العزيم الحكيم
أما قوله تعالى
أما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ففيه سؤالان
السؤال الأول لفظ التنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله عليه نجماً على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله عليه دفعة واحدة فكيف الجمع بينهما والجواب إن صح الفرق بين التنزيل وبين الإنزال من الوجه الذي ذكرتم فطريق الجمع أن يقال المعنى إنا حكمنا حكماً كلياً جزماً بأن يوصل إليك هذا الكتاب وهذا هو الإنزال ثم أوصلناه نجماً إليك على وفق المصالح وهذا هو التنزيل
السؤال الثاني ما المراد من قوله إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ والجواب فيه وجهان الأول المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبساً بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه الثاني أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن التاب نازل من عند الله وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته ولو لم يكن معجزاً لما عجزوا عن معارضته
ثم قال فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين في قوله إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف ها بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ لأن قوله أَلاَ لِلَّهِ يفيد الحصر ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها
أما العبادة فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتي به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله
وأما الإخلاص فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والإمتثال فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحاً على الجانب الآخر أو معادلاً له أو مرجوحاً وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحاً على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص لأن قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام أحدها أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل وثانيها أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار وثالثها أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيراً في إيجاب الثواب أو دفع العقاب ورابعها وهو أن يخلص الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة
المسألة الثانية من الناس من قال فاعبد الله مخلصاً له الدين المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله واحتجوا بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ) وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وأما الأكثرون فقالوا الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي وهذا الأولى لأن قوله المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله واحتجوا بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ) وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وأما الأكثرون فقالوا الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي وهذا الأولى لأن قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ عام وروي أن امرأة الفرزدق لما قرب وفاتها وأصت أن يصلي الحسن البصري عليها فلما صلى عليها ودفنت قال للفرزدق يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر قال شهادة أن لا إله إلا الله فقال الحسن رضي الله عنه هذا العمود فأين الطنب
فبين بهذا أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة قال القاضي فأما ما يروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمعاذ وأبي الدرادء ( وإن زني وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء ) فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يجز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجوراً عن الزنا والسرقة وأن لا يكون متعدياً بفعلهما لأنه مع شدة شهوته للقبيح يعلم أنه لا يضره مع تمسكه بالشهادتين فكأن ذلك إغراء بالقبيح لأنا نقول إن من اعتقد أن ضرره يزول بالتوبة فقد اعتقد أن فعل القبيح مضرة إلا أنه يزيل ذلك الضرر بفعل التوبة بخلاف قول من يقول إن فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين هذا تمام كلام القاضي فيقال له أما قولك إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن فليس كذلك بل للقرآن يدل عليه قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( الرعد 6 ) أي حال ظلمهم كما يقال رأيت الأمير على أكله وشربه أي حال كونه آكلاً وشارباً وقال قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وأما قوله إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب ألبتة ثم نقول مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة فأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه لأنه تعالى قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقطع بحصول المغفرة في الجملة إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من شاء وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلاً فلا يكون الإغراء حاصلاً والله أعلم
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف ) قريء الدين بالرفع ثم قال وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام لقوله تعالى وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ ( النساء 146 ) حتى يطابق قوله أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ والخالص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون واعلم أن الضمير في قوله مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء أما العقلاء فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيزاً والملائكة وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء أما بغير العقلاء فلا يليق وبيانه من وجهين الأول أن الضمير في قوله مَا نَعْبُدُهُمْ ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام الثاني أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى الله وعلى هذا التقدير فمرادهم أن
عبادتهم لها تقربهم إلى الله ويمكن أن يقال إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صوراً لها
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر فهذا هو المراد من قولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه الأول أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وكان مصراً عليه فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن قلبه فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه فيكون هذا الطريق أقضى إلى المقصود والأطباء يقولون لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مجرى سقي المنضج أولاً وإسماع الدليل ثانياً يجري مجرى سقي المسهل ثانياً فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية والمراد بهذا الكذب وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الإعتقاد والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة والسبب فيه أن العبدة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالإشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق
ثم قال تعالى لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد وبيانه من وجوه الأول أنه لو اتخذ ولداً لما رضي إلا بأكمل الأولاد وهو الإبن فكيف نسبتم إليه البنت الثاني أنه سبحانه واحد حقيقي والواحد الحقيقي يمتنع أن يكون له ولد أما أنه واحد حقيقي فلأنه لو كان مركباً لاحتاج إلى كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره فكان يحتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته والممكن لذاته لا يكون واجب الوجود لذاته وأما أن الواحد لا يكون له ولد فلوجوه الأول أن الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشيء ينفصل عنه ثم يحصل له صورة مساوية لصورة الوالد وهذا إنما يعقل في الشيء الذي ينفصل منه جزء والفرد المطلق لا يقال ذلك فيه الثاني شرط الولد أن يكون مماثلاً في تمام الماهية للوالد فتكون حقيقة ذلك الشيء حقيقة نوعية محمولة على شخصين وذلك محال لأن تعيين كل واحد منهما إن كان من لوازم تلك الماهية لزم أن لا
يحصل من تلك الماهية إلا الشخص الواحد وإن لم يكن ذلك التعيين من لوازم تلك الماهية كان ذلك التعيين معلوماً بسبب منفصل فلا يكون إلهاً واجب الوجود لذاته فثبت أن كونه إلهاً واجب الوجود لذاته يوجب كونه واحداً في حقيقته وكونه واحداً في حقيقته يمنع من ثبوت الولد له فثبت أن كونه واحداً يمنع من ثبوت الولد الثالث أن الولد لا يحصل إلا من الزوج والزوجة والزوجان لا بد وأن يكونا من جنس واحد فلو كان له ولد لما كان واحداً بل كانت زوجته من جنسه وأما أن كونه قهاراً يمنع من ثبوت الولد له فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيحتاج إلى ولد يقوم مقامه فالمحتاج إلى الولد هو الذي يكون مقهوراً بالموت أما الذي يكون قاهراً ولا يقهره غيره كان الولد في حقه محالاً فثبت أن قوله هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاٌّ نْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً وقهاراً غالباً أي كامل القدرة فلما بني تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء وأياً فإنه تعالى طعن في إليهة الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات إليهته إما أن تكون فلكية أو عنصرية أما الفلكية فأقسام أحدها خلق السموات والأرض وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة شرحناها في تفسير قوله تعالى الْحَمْدُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
والثاني اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة وذلك هذا أخرى وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث ( نعوذ الله من الحور بعد الكور ) أي من الإدبار بعد الإقبال واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وبقوله يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى ( الأعراف 54 ) وبقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( فاطر 13 ) وبقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( الفرقان 62 ) والثالث اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله كل يجري لأجل مسمى الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطري السماء كطي السجل للكتب
ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ والمعنى أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفاراً يوجب كثرة الرحمة وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل فبدأ بذكر الإنسان فقال خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة فإن قيل كيف جاز أن يقول خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا والزوج مخلوق قبل خلقهم أجابوا عنه من وجوه الأول أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر كقول القائل بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس كان أعجب ويقول أيضاً قد أعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر الثاني أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها الثالث أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء
واعلم أنه تعالى بما ذكر الاستدلال بخلقة الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع في قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ( النحل 5 ) وفي تفسير قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ وجوه الأول أن قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء لأجل أنه كتب في اللوح المحفوط كال كائن يكون الثاني أن شيئاً من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب والماء ينزل من السماء فصار التقدير كأنه أنزلها الثالث أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض وقوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ أي ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز والزوج اسم لكل واحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد منه قال تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( القيامة 39 )
ثم قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ وفيه أبحاث
الأول قرأ حمزة بكسر الألف والميم والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم والباقون أمهاتكم بضم الألف وفتح الميم
الثاني أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم وقوله خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ( المؤمنون 12 14 ) وقوله فِى ظُلُمَاتِ ثَلَاثَة ً قيل الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال ذالِكَ اللَّهُ رَبُّكُمُ أي ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم وفي هذه الآية دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزهاً عن الجسمية والمكانية وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلاً لهذه الأشياء ولو كان جسماً مركباً من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفاً للشيء بأجزاء حقيقته وأما كان ذلك القسم ممكناً لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيراً ونقصاً وذلك غير جائز فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعالياً عن الجسمية والأعضاء والأجزاء
ثم قال تعالى لَهُ الْمُلْكُ وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكاً قادراً ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وذلك محال وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصاً ولا يصلح للإلهية فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه الأول قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم وما ذاك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم أن قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى
ثم قال تعالى إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة وإنما قلنا إنه غني لوجوه الأول واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته ومن كان كذلك كان غنياً على الإطلاق الثاني أنه لو كان محتاجاً لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجاً إليه وذلك محال لأن الخلق والأزل متناقض والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم
ثم قال تعالى بعده وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين الأول أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضى الكفر من الوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية الثاني لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضاً برضاء الله تعالى وأجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين قال الله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 ) وقال إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) فعلى هذا التقدير قوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ولا يرضى للمؤمنين الكفر وذلك لا يضرنا الثاني أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنا برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله قال الله تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح 18 ) أي يمدحهم ويثنى عليهم الثالث كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض وليس عبارة عن الإرادة والديل عليه قول ابن دريد
رضيت قسراً وعلى القسر رضامن كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ عام فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء في هاء يَرْضَهُ على ثلاثة أوجه أحدها قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها قرأ نافع في بعض الروايات ابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء
مشبعة قال الواحدي رحمه الله من القراء من أشبع الهاء حتى ألحق بها واواً لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه وله فكما أن هذا مشبع عند الجميع كذلك يرضه ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق الواو لأن الأصل يرضاه والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو فكذا ههنا
المسألة الثانية الشكر حالة مركبة من قول واعتقاد وعمل أما القول فهو الإقرار بحصول النعمة وأما الاعتقاد فهو اعتقاد صدور النعمة من ذلك المنعم
ثم قال تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على فعل غيره فلو فعل الله كفرهم لما جاز أن يعذبهم عليه وأيضاً لا يجوز أن يعذب الأولاد بذنوب الآباء بخلاف ما يقول القوم واحتج أيضاً من أنكر وجوب ضرب الدية على العاقلة بهذه الآية
ثم قال تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ واعلم أنا ذكرنا كثيراً أن أهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان وأن يعرف ما يضره وما ينفعه في هذه الحياة الدنيوية وأن يعرف أحواله بعد الموت ففي هذه الآية ذكر الدلائل الكثيرة من العالم الأعلى والعالم الأسفل على كمال قدرة الصانع وعلمه وحكمته ثم أتبعه بأن أمره بالشكر ونهاه ع ن الكفر ثم بين أحواله بعد الموت بقوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى المشبهة تمسكوا بلفظ إلى علم أن إله العالم في جهة وقد أجبنا عنه مراراً
المسألة الثانية زعم القوم أن هذه الأرواح كانت قبل الأجساد وتمسكوا بلفظ الرجوع الموجود في هذه الآية وفي سائر الآيات
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على إثبات البعث والقيامة
ثم قال فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ كالعلة لما سبق يعني أنه يمكنه أن ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَة ً مِّنْهُ نَسِى َ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاٌّ خِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ
اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة
أما قوله تعالى وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره لأن الكلام يخرج على معهود تقدم
أما قوله ضُرٌّ فيدخل فيه جميع المكاره سواء كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد خَشِى َ رَبَّهُ أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء فلذلك قال مُنِيباً إِلَيْهِ أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَة ً مّنْهُ أي أعطاه قال صاحب ( الكشاف ) وفي حقيقته وجهان أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهداً له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة ) والثاني جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر وفي المعنى قالت العرب إن الغنى طويل الذيل مياس
ثم قال تعالى نَسِى َ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه وما بمعنى من كقوله تعالى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( الليل 3 ) وقوله تعالى وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 3 ) وقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله
ثم قال تعالى وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره
المسألة الثانية المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواء وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل
المسألة الثالثة معنى قوله لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك فيزداد إثماً على إثمه واللام في قوله لِيُضِلَّ لام العاقبة كقوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً وليس المراد منه الأمر بل الزجر وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا ثم يكون مصيره إلى النار
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله فقال أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وحمزة مِن مخففة الميم والباقون بالتشديد أما التخفيف ففيه وجهان الأول أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك وقيل كالذي جعل لله أنداداً فاكتفى بما سبق ذكره والثاني أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو
المسألة الثانية القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة ومنه قوله ( أفضل الصلاة صلاة القنوت ) وهو القيام فيها ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائماً عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ وعن ابن عباس القنوت طاعة الله لقوله كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( البقرة 116 ) أي مطيعون وعن قتادة أَمَّنْ هُوَ ساعات الليل أوله ووسطه وآخره وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار ويؤكده وجوه الأول أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي وهو معرفة الله وخدمته الثالث أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع قوله تعالى إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ( المزمل 6 ) وقوله سَاجِداً حال وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر عبد خبر الواو للجميع بين الصفتين
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم أما العمل فكونه قانتاً ساجداً قائماً وأما العلم فقوله هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية
الفائدة الثانية أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظباً عليه فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائماً بما يجب عليه من الطاعات وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان وقوله سَاجِداً وَقَائِماً إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَّحْمَة ِ رَبّهِ إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
الفائدة الثالثة أنه قال في مقام الخوف يَحْذَرُ الاْخِرَة َ فما أضاف الحذر إلى نفسه وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى
المسألة الثالثة قيل المراد من قوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه
المسألة الرابعة لا شبهة في أن في الكلام حذفاً والتقدير أمن هو قانت كغيره وإما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجداً وقياماً والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنهم وإن آتاهم الله العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم
وأما قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) قال صاحب ( الكشاف ) أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضاً إلا أولوا الألباب قيل لبعض العلماء إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء فأجاب العالم بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه
قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام
النوع الأول قوله قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية قال القاضي أمرهم بالتقوى ليكلا يحبطوا إيمانهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ فقوله فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا يحتمل أن يكون صلة لقوله أَحْسَنُواْ أو لحسنة فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة والتنكير في قوله حَسَنَة ٌ للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها وأما على التقدير الثاني فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية ) ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن التنكير في قوله حَسَنَة ٌ يدل على النهاية والجلالة والرفعة وذلك لا يليق بأحوال الدنيا فإنها خسيسة ومنقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وأيضاً فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار وأيضاً فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وقال تعالى لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) الثالث أن قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ يفيد الحصر بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى ثم قال الله تعالى وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ٌ وفيه قولان الأول المراد أنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات واقتدوا بالأنبياء والصالحين
في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن ونظيره قوله تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ( النساء 97 ) والقول الثاني قال أبو مسلم لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة لقوله تعالى نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء ( الزمر 74 ) وقوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) والقول الأول عندي أولى لأن قوله إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ لا يليق إلا بالأول وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر فقد ذكرناه في سورة البقرة والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى
المسألة الثانية تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب لأن الأجر هو المستحق إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجراً بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق
المسألة الثالثة أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب وفيه وجوه الأول قال الجبائي المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلاً فهو بغير حساب ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حساباً قال القاضي هذا ليس بصحيح لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق والأجر غير التفضل الثاني أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها أنها تكون دائمة الأجر لهم وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ معناه بغير نهاية لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب وثانيها أنها تكون منافع كاملة في أنفسها وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه وما لا يتوقعه الإنسان فقد يقال إنه ليس في حسابه فقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ محمول على هذا المعنى والوجه الثالث في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال روى صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً ) قال الله تعالى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل
النوع الثاني من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ قال مقاتل إن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فأنزل الله قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له
الدين وأقول إن التكليف نوعان أحدهما الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني الأمر بتحصيل ما ينبغي والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال اتَّقُواْ رَبَّكُمُ لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ وهذا يشتمل على قيدين أحدهما الأمر بعبادة الله الثاني كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير وقوله تعالى وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها وفي هذه الآية فائدتان
الفائدة الأولى كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعاً فيه وأكثرهم مداومة عليه
الفائدة الثانية أنه قال إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة وهو المراد بقوله في هذه الآية وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ أُمِرْتُ لأنا نقول ذكر لفظ أُمِرْتُ أولاً في عمل القلب وثانياً في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريراً
الفائدة الثالثة في قوله وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وفيه فوائد
الفائدة الأولى أن الله أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجري هذا الكلام على نفسه والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفاً حذراً عن المعاصي فغيره بذلك أولى
الفائدة الثانية دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب وهذا يطابق قولنا إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب
الفائدة الثالثة دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب وذلك لأنه قال في أول الآية إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ثم قال بعده قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصياً والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك
النوع الثالث من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فإن قيل ما معنى التكرير في قوله قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ وقوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى قلنا هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحداً غيره وذلك لأن قوله أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لا يفيد الحصر وقوله تعالى قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه والدليل عليه أنه لما قال بعد قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ قال بعده فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ولا شبهة في أن قوله فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ليس أمراً بل المراد منه الزجر كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده ألبتة وقال ابن عباس إن لكل رجل منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة فإن أطاع أعطى ذلك وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين والخاسر المغبون ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ كان التكرير لأجل التأكيد الثاني أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم ليها فتنبهوا لها الثالث أن كلمة ( هو ) في قوله هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران الرابع وصفه بكونه ( مبيناً ) يدل على التهويل وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسراناً مبيناً فلنبين فحسب المباحث العقلية كونه خسراناً مبيناً وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسراناً ثم كونه مبيناً أما الأول فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة
وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأسه المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح وأيضاً حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح إذا ثبت هذا فنقول إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروماً عن الربح بالكلية وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسراناً فهذا بيان كونه خسراناً وأما الثاني وهو بيان كون ذلك الخسران مبيناً فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضاً مزيد ضرر أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلباً في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة
وثانيها أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة وثالثها أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسباباً للعقوبة الشديدة والبلاء العظيم بعد الموت وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم ولا حرمان أعظم من حرمانهم ونعوذ بالله منه
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد فقال لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الشورى 40 ) الثاني أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم ونظير هذه الآية قوله تعالى عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ( العنكبوت 55 ) وقوله تعالى لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف 41 )
ثم قال تعالى ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله ذالِكَ مبتدأ وقوله يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ خبر وفي قوله يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ قولان الأول التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفاً للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع م نالعذاب في الوجود تحصيلاً لذلك المطلوب الذي هو التكليف والوجه الأول عندي أقرب والدليل عليه أنه قال بعده قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ وقوله يا عباذ الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّة ٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ
اعلم أن الله تعالى لما ذكر وعيد عبدة الأصنام والأوثان ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمال الترغيب والترهيب وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الطاغوت فعلوت من الطغيات كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين وفي هذا اللفظ أنواع من المبالغة أحدها التسمية بالمصدر كأن عين ذلك الشيء الطغيان وثانيها أن البناء بناء المبالغة فإن الرحموت الرحمة الواسعة والملكوت الملك المبسوط وثالثها ما ذكرنا من تقديم اللام على العين ومثل هذا إنما يصار إليه عند المبالغة
المسألة الثانية اختلفوا في أن المراد من الطاغوت ههنا الشيطانه أم الأوثان فقيل إنه الشيطان فإن قيل إنهم ما عبدوا الشيطان وإنما عبدوا الصنم قلنا الداعي إلى عبادة الصنم لما كان هو الشيطان كان الإقدام على عبادة الصنم عبادة للشيطان وقيل المراد بالطاغوت الصنم وسميت طواغيت على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان عند مشاهدتها والقرب منها وصفت بهذه الصفة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب بحسب الظاهر وقيل كل ما يعبد ويطاع من دون الله فهو طاغوت ويقال في التواريخ إن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم كانوا مشبهة اعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وفي الملائكة أنها أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل وصوراً على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على أعتقاد أنهم يعبدون الله والملائكة وأقول حاصل الكلام في قوله ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أي أعرضوا عن عبودية كل ما سوى الله قوله تعالى وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ أي رجعوا بالكلية إلى الله ورأيت في السفر الخامس من التوراة أن الله تعالى قال لموسى يا موسى أجب إلهك بكل قلبك وأقول ما دام يبقى في القلب التفات إلى غير الله فهو ما أجاب إلهه بكل قلبه وإنما تحصل الإجابة بكل القلب إذا أعرض القلب عن كل ما سوى الله من باب الطاعات فكيف يعرض عنها مع أنه بالحس يشاهد الأسباب المفضية إلى المسببات في هذا العالم قلنا ليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقضي عليها بالعدم فإن ذلك دخول في السفسطة وهو باطل بل المراد أن يعرف أن واجب الوجود لذاته واحد وأن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته فإنه لا يوجد إلا بتكوين الواجب وإيجاده ثم إنه سبحانه وتعالى جعل تكوينه للأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات والروحانيات ومنها ما يكون بواسطة وهو عالم العناصر والعالم الأسفل فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أن الكل لله ومن الله وبالله وأنه لا مدبر إلا هو ولا مؤثر غيره وحينئذٍ ينقطع نظره عن هذه الممكنات ويبقى مشغول القلب بالمؤثر الأول والموجد الأول فإنه إن كان قد وضع الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إلى هذا المطلوب فهذا الشيء يحصل وإن كان قد وضع بحيث لا يفضي إلى حصول هذا الشيء لم يحصل وبهذا الطريق ينقطع نظره عن الكل ولا يبقى في قلبه التفات إلى شيء إلا إلى الموجود
الأول وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقاً بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب
أما القسم الأول فهو حوادث هذا العالم الأسفل
وأما القسم الثاني فهو حوادث هذا العالم الأعلى وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعاً لله في حكمته مخالفاً في تدبيره فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناءً على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرَى واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها أن هذه البشارة متى تحصل فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها أن هذه البشارة فبماذا تحصل فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات أما زوال المكروهات فقوله تعالى أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله أَن لا تَخَافُواْ يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت 30 ) وقال أيضاً في آية أخرى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( الحديد 12 ) وقال أيضاً وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( الزخرف 71 ) والثالث أن المبشر من هو فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة إما عند الموت فقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( النحل 32 ) وإما بعد دخول الجنة فقوله الْمَلَائِكَة َ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 )
واعلم أن قوله لَهُمُ الْبُشْرَى فيه أنواع من التأكيدات أحدها أنه يفيد الحصر فقوله لَهُمُ الْبُشْرَى أي لهم لا لغيرهم وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى وثانيها أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخباراً فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول
أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها قال تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 ) ورابعها أن المخبر بقوله لَهُمُ الْبُشْرَى هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطاً عظيماً ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار فثبت أن قوله لَهُمُ الْبُشْرَى يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما قال لَهُمُ الْبُشْرَى وكان هذا المجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الحرف ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين وذلك لا يليق بالرحمة التامة لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد
الفائدة الأولى وجوب النظر والاستدلال وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع لأن السماع صار قدراً مشتركاً بين الكل لأن قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يدل على أن السماع قدر مشترك فيه فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال
الفائدة الثانية أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان أحدهما إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل والثاني أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك المذهب أولى والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته وأيضاً الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضاً مؤلفاً وأيضاً القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه اليهما وأيضاً القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة وكل هذه
الأبواب تدخل تحت قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات
وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين منها ما يكون من أبواب العبادات ومنها ما يكون من أبواب المعاملات فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر وتكون النية فيها مقارنة للتكبير ويقرأ فيها سورة الفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ويقرأ فيها التشهد ويخرج منها بقوله السلام عليكم فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة وأن يترك ما سواها وكذلك القول في جميع أبواب العبادات وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو ولكنه ندب إلى العفو فقال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وعن ابن عباس أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه
واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الالْبَابِ وفي ذلك دقيقة عجيبة وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث ولا بد له من فاعل وقابل أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ أُوْلُواْ الالْبَابِ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سبباً لرجحان أحد الطرفين ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية امتنع أن تصير ذات الجسم سبباً لرجحان أحد الطرفين على الآخر فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين فتصير تلك الإرادة سبباً لذلك الرجحان فنقول هذا باطل لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة فيمتنع كون جوهر النفس سبباً لتلك الإرادة فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل فيمتنع أن يكون هو النفس بل الفاعل هو الله تعالى وأما القابل فهو جوهر النفس فلهذا السبب قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الالْبَابِ ثم قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في لفظ الآية سؤال وهو أنه يقال إنه قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الإسم وعلى الخبر معاً فلا يقال أزيد أتقتله بل ههنا شيء آخر وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معاً وهو قوله أَفَمَنْ حَقَّ أَفَأَنتَ تُنقِذُ ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الكسائي الآية جملتنا والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تحميه أفأنت تنقذ من في النار الثاني قال صاحب ( الكشاف ) أصل الكلام أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه
الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ووضع من في النار موضع الضمير والآية على هذا جملة واحدة الثالث لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار ولما كان استنكاره هذا المعنى كاملاً تاماً لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيهاً على المبالغة التامة في ذلك الإنكار
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال وذلك لأنه تعالى قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً وهو محال والوجه الثاني في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الإستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه ولو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى
المسألة الثالثة احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يشفع لأهل الكبائر قال لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والإستبعاد فيقال له لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ومع قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) والله أعلم
النوع الثاني من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّة ٌ وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر 16 ) فإن قيل ما معنى قوله مَّبْنِيَّة ٌ قلنا لأن المنزل إذا بنى على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله مَّبْنِيَّة ٌ معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ونقصانه الرخاوة والسخافة وأما التحتاني فبالضد منه أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل وهي عالية مرتفعة وتكون في غاية القوة والشدة وقال حكماء الإسلام هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية فإن بعضها يكون مبنياً على البعض والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية
ثم قال تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وذلك معلوم ثم ختم الكلام فقال وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ فقوله وَعَدَ اللَّهُ مصدر مؤكد لأن قوله لَهُمْ غُرَفٌ في معنى وعدهم الله ذلك وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة فإن قالوا أليس أنه قال في جانب الوعيد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ قلنا قوله ما يبدل القول لدي ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو كلام عام يتناول القسمين أعني الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق والله أعلم
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ
اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة الأول الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل كل ما كان في الأرض فهو من السماء ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه فيسلكه ينابيع في الأرض أي فيدخله وينظمه ينابيع في الأرض عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم ثم يهيج وذلك لأنه إذا تم جفافه جاز له أن ينفصل عن منابته وإن لم تتفرق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم يصير حطاماً يابساً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى يعني أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوى الرغبة في الآخرة وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض فهذا تمام الكلام في تفسير الآية بقي ههنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ قال الواحدي والينابيع جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع وينبع وينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي والفراء وقوله يَنَابِيعَ نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر والحطام ما يجف ويتفتت ويكسر من النبت
أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُو ءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْى َ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونور القلوب فقال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ
واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 ) في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية ولا بأس بإعادة كلام قليل ههنا فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلاً كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للالهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل إذا عرفت هذه القاعدة فنقول أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانياً وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل وربما صار سماع الدلائل سبباً لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك والله أعلم
المسألة الثانية من محذوف الخبر كما في قوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ( الزمر 9 ) والتقدير أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ
المسألة الثالثة قوله فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ فيه سؤال وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الإطمئنان كما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول قسوة القلب والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس ومن اختلاف أحوال تلك النفوس ولما نزل قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً قال كل واحد منهم فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 12 14 ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اكتب فهكذا أنزلت ) فازداد عمر إيماناً على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفراً على كفر إذا عرفت هذا لم يبعد أيضاً أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سبباً لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضاً لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة فلهذا المعنى قال تعالى فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وهذا كلام كامل محقق ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفاً بهذه الصفات ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سبباً لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال
الصفة الأولى قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وفيه مسائل
المسألة الأولى القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه حديثاً في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) ومنها قوله تعالى أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ( الواقعة 81 ) والحديث لا بد وأن يكون حادثاً قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق وهذا عتيق وليس بحادث فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث وسمي الحديث حديثاً لأنه مؤلف من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة فهذا تمام تقرير هذا الوجه
أما الوجه الثاني في بيان استدلال القوم أن قالوا إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير وما يكون كذلك فهو محدث وحادث
وأما الوجه الثالث في بيان استدلال القوم أن قالوا إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة
الأخوة ويكون من جنسهم فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً
أما الوجه الرابع في الاستدلال أن قالوا إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف وذلك يدل على كونه محدثاً والجواب أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق والله أعلم
المسألة الثانية كون القرآن أحسن الحديث إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه
القسم الأول أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه وذلك من وجهين الأول أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة الثاني أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه
القسم الثاني أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى وفيه وجوه الأول أنه كتاب منزه عن التناقض كما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل الوجه الثالث أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً
وضبط هذه العلوم أن نقول العلوم النافعة هي ما ذكره الله في كتابه في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ( البقرة 285 ) فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة
أما القسم الأول وهو الإيمان بالله فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام معرفة الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود الله وقدمه وبقاءه وأما معرفة الصفات فهي نوعان
أحدهما ما يجب تنزيهه عنه وهو كونه جوهراً ومركباً من الأعضاء والأجزاء وكونه مختصاً بحيز وجهة ويجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة ليس ولم وما ولا وهذه الأربعة المذكورة مذكورة في كتاب الله تعالى لبيان التنزيه
أما كلمة ليس فقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وأما كلمة لم فقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( الإخلاص 3 4 ) وأما كلمة ما فقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( مريم 64 ) مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) وأما كلمة لا فقوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ( المؤمنون 88 ) وقوله في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ ( محمد 19 )
وأما النوع الثاني وهي الصفات التي يجب كونه موصوفاً بها من القرآن فأولها العلم بالله والعلم بكونه محدثاً خالقاً قال تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) وثانيها العلم بكونه قادراً قال تعالى في أول سورة القيامة بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ ( القيامة 4 ) وقال في آخر هذه السورة أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى ( القيامة 40 ) وثالثها العلم بكونه تعالى عالماً قال تعالى هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ( الحشر 22 ) ورابعها العلم بكونه عالماً بكل المعلومات قال تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وقوله تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ( الرعد 8 ) وخامسها العلم بكونه حياً قال تعالى هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( غافر 65 ) وسادسها العلم بكونه مريداً قال الله تعالى فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 ) وسابعها كونه سميعاً بصيراً قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( الشورى 11 ) وقال تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ى وثامنها كونه متكلما قال تعالى وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) وتاسعها كونه أمراً قال تعالى لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) وعاشرها كونه رحماناً رحيماً مالكاً قال تعالى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 3 4 ) فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها
وأما القسم الثالث وهو الأفعال فاعلم أن الأفعال إما أرواح وإما أجسام أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل كما قال تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وأما الأجسام فهي إما العالم الأعلى وإما العالم الأسفل أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه أحدها البحث عن أحوال السموات و ثانيها البحث عن أحوال الشمس والقمر كما قال تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ ( الأعراف 54 ) و ثالثها البحث عن أحوال الأضواء قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وقال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) و رابعها البحث عن أحوال الظلال قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( الفرقان 45 ) و خامسها اختلاف الليل والنهار قال الله تعالى يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ ( الزمر 50 ) و سادسها منافع الكواكب قال تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الأنعام 97 ) و سابعها صفات الجنة قال تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الحديد 21 ) و ثامنها صفات النار قال تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ( الحجر 44 ) و تاسعها صفة العرش قال تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ( غافر 7 ) و عاشرها صفة الكرسي قال تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 255 ) و حادي عشرها صفة اللوح والقلم أما اللوح فقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 21 22 ) وأما القلم فقوله تعالى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( القلم 1 )
وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها الأرض وقد وصفها بصفات كثيرة إحداها كونه مهداً قال تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ( طه 53 ) و ثانيها كونه مهاداً قال تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً
( النبأ 6 ) و ثالثها كونه كفاتاً قال تعالى كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً ( المرسلات 24 25 ) و رابعها الذلول قال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( الملك 15 ) و خامسها كونه بساطاً قال تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ( نوح 19 20 ) والكلام فيه طويل و ثانيها البحر قال تعالى وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا ( النحل 14 ) و ثالثها الهواء والرياح قال تعالى وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) وقال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( الحجر 22 ) و رابعها الآثار العلوية كالرعد والبرق قال تعالى وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ ( الرعد 13 ) وقال تعالى فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب و خامسها أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها و سادسها أحوال الحيوانات قال تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) وقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ( النحل 5 ) و سابعها عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) و ثامنها العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه و تاسعها تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة و عاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت وكيفية البعث والقيامة وشرح أحوال السعداء والأشقياء فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السموات وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة
وأما القسم الرابع وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح
أما القسم الأول فهو المسمى بعلم الأخلاق وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ( النحل 90 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 )
وأما الثاني فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح وهو المسمى بعلم الفقه والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه
وأما القسم الخامس وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) فهذا كله يتعلق بمعرفة الله
وأما القسم الثاني من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ ( البقرة 285 ) والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال وأخرى على طريق التفصيل أما بالإجمال فقوله وَمَلَئِكَتُهُ وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله قال تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) ومنها أنها مدبرات لهذا العالم قال تعالى فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ( النازعات 5 ) وقال تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ( الصافات 1 ) ومنها حملة العرش قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ومنها الحافون حول العرش قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
( الزمر 75 ) ومنها خزنة النار قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 ) ومنها الكرام الكاتبون قال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) ومنها المعقبات قال تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( الرعد 11 ) وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين
وأما القسم الثالث من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ( البقرة 37 ) ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور
وأما القسم الرابع من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل والله تعالى قد شرح أحوال البعض وأبهم أحوال الباقين قال مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( غافر 78 )
القسم الخامس ما يتعلق بأحوال المكلفين وهي على نوعين الأول أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم وهو المراد من قوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا الثاني أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة وهو المراد من قوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر وكان قوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا أكثر
القسم السادس معرفة المعاد والبعث والقيامة وهو المراد من قوله وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتاباً يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة ولما كان الأمر على هذه الجملة لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) والله أعلم
الصفة الثانية من صفات القرآن قوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ( الزمر 23 ) أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 ) وأما كونه متشابهاً فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه وقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( آل عمران 7 ) يدل على كون البعض متشابهاً دون البعض وأما كونه كله متشابهاً كما في هذه الآية فقال ابن عباس معناه أنه يشبه بعضه بعضاً وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها أن الكاتب البليغ إذا كتب كتاباً طويلاً فإنه يكون بعض كلماته فصيحاً ويكون البعض غير فصيح والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه وثانيها أن الفصيح إذا كتب كتاباً في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتاباً آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة وثالثها أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً ورابعها أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه فهذا هو المراد من كونه متشابهاً والله الهادي
الصفة الثالثة من صفات القرآن كونه مَّثَانِيَ ( الزمر 23 ) وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل وأحوال السموات والأرض والجنة والنار والظلمة والضوء واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء والخوف والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه
الصفة الرابعة من صفات القرآن قوله تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر 23 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف قال المفسرون والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله وأقول إن المحققين من العارفين قالوا السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فهنا يقشعر جلده لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فرداً أحداً وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله وأيضاً إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضاً بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال ههنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن فإن كان واجباً فهو دائماً منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكناً فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزلياً أبدياً فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين
المسألة الثانية روى الواحدي في ( البسيط ) عن قتادة أنه قال القرآن دل على أن أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان وأقول ههنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين وهي أنا نرى كثيراً من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة وأنا أقول إني خلقت محروماً عن هذا المعنى فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر
جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثراً وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا وبيانه من وجوه الأول أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق وإثباته في حق الله تعالى كفر وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) إلى آخر الآية والثاني وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الشورى 52 53 ) وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ( الشعراء 224 226 ) فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته والله أعلم
المسألة الثالثة في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب قال صاحب ( الكشاف ) تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد يقال اقشعر جلده من الخوف وقف شعره وذلك مثل في شدة الخوف
السؤال الثاني كيف قال تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وما الوجه في تعديه بحرف إلى والجواب التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك
السؤال الثالث لم قال إلى ذكر الله ولم يقل إلى ذكر رحمة الله والجواب أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 ) وفي قوله أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وأيضاً قال لأمة موسى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) وقال أيضاً لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 )
السؤال الرابع لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معاً والجواب لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح والله أعلم
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
فقوله ذالِكَ إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولاً لقبول هذه الهداية وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ أي من جعل قلبه قاسياً مظلماً بليد الفهم منافياً لقبول هذه الهداية فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 )
أما قوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( الرعد 33 ) وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة وهو أيضاً صومعة الحواس وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 38 42 ) ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداءً له وإذا عرفت هذا فنقول إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء ونظيره قول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ويقال أيضاً إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه إذا عرفت هذا فنقول جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته
ثم قال تعالى وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ولما بين الله تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضاً كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب فإذا كان التكذيب حاصلاً ههنا لزم حصول العذاب استدلالاً بالعلة على المعلول وقوله مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضاً أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقروناً بالهوان والذل
ثم قال وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب بين
تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام فقال وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمقصود ظاهر وقالت المعتزلة دلت الآية على أن أفعال الله وأحكامه معللة ودلت أيضاً على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل لأن قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ مشعر بالتعليل وقوله في آخر الآية لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مشعر بالتعليل أيضاً ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن لا جرم وصف القرآن بالمدح والثناء فقال قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه الأول أن قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثاً فإن القديم هو الذي يكون موجوداً في الأزل وهذا يمتنع أن يقال إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا والثاني أنه وصفه بكونه عربياً وإنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقاً محدثاً الثالث أنه وصفه بكونه قرآناً والقرآن عبارة عن القراءة والقراءة مصدر والمصدر هو المفعول المطلق فكان فعلاً ومفعولاً والجواب أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات وهي حادثة ومحدثة
المسألة الثانية قال الزجاج قوله عَرَبِيّاً منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح
المسألة الثالثة أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أولها كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قيام القيامة كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وثانيها كونه عربياً والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) وثالثها كونه غَيْرَ ذِى عِوَجٍ والمراد براءته عن التناقض كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً وأما قوله لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى
وفيه بحث آخر وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وقال في هذه الآية لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه حصل الاتقاء والاحتراز والله أعلم
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوساً وشكساً إذا عسر وهو رجل شكس أي عسر وتشاكس إذا تعاسر قال الليث التشاكس التنازع والاختلاف ويقال الليل والنهار متشاكسان أي أنهما متضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر وقوله فيه صلة شركاء كما تقول اشتركوا فيه
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالماً بالألف وكسر اللام يقال سلم فهو سالم والباقون سلماً بفتح السين واللام بغير الألف ويقال أيضاً بفتح السين وكسرها مع سكون العين أما من قرأ سالماً فهو اسم الفاعل تقدير مسلم فهو سالم وأما سائر القراءات فهي مصادر سلم والمعنى ذا سلامة وقوله لِرَجُلٍ أي ذا خلوص له من الشركة من قولهم سلمت له الضيعة وقرىء بالرفع على الابتداء أي وهناك رجل سالم لرجل
المسألة الثالثة تقدير الكلام اضرب لقومك مثلاً وقل لهم ما يقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحير في أمره فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج في مهم إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فهو يبقى متحيراً لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب دائم وتعب مقيم ورجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين أحسن حالاً وأحمد شأناً والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وقال وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( المؤمنون 91 ) فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد وعلى ربوبية أيهم يعتمد وممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه فهمه شفاع وقلبه أوزاع أما من لم يثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما أرضاه وما أسخطه فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد فإن قيل هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا مشاكسة قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو السعد الأعظم ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية وحينئذٍ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحينئذٍ يكون المثل مطابقاً ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو
ذلك الرجل الذي هو على دينه وأن من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود
أما قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً فالتقدير هل يستويان صفة فقوله مَثَلاً نصب على التمييز والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالتاهما وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرىء مثلين ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ والمعنى أنه لما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق ثبت أن الحمد له لا لغيره ثم قال بعده بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره وقيل المراد أنه لما سبقت هذه الدلائل الظاهرة والبينات الباهرة قال الحمد لله على حصول هذه البيانات وظهور هذه البينات وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها ولما تمم الله هذه البيانات قال إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً سيموتون ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق يحكم بينكم فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه وحينئذٍ يتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق فهذا هو المقصود من الآية وقوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ أي إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فإنك وإياهم في أعداد الموتى لأن كل ما هو آت آت ثم بين تعالى نوعاً آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائل المحق أما أنهم يكذبون فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء وأما أنهم مصرون على تكذيب الصادقين فلأنهم يكذبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بعد قيام الدلالة القاطعة على كونه صادقاً في ادعاء النبوة ثم أردفه بالوعيد فقال أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ ومن الناس من تمسك بهذه الآية في تكفير المخالف من أهل القبلة وذلك لأن المخالف في المسائل القطعية كلها يكون كاذباً في قوله ويكون مكذباً للمذهب الذي هو الحق فوجب دخوله تحت هذا الوعيد
وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين ليكون الوعد مقروناً بالوعيد وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ تقديره والذي جاء بالصدق والذي صدق به وفيه قولان الأول أن المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد والذي صدق به هو أبو بكر وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من المفسرين رضي الله عنهم والثاني أن المراد منه كل من جاء بالصدق فالذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به الأتباع واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
المسألة الثانية أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال وسمعت بعض القاصين من الذي يروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة )
واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فإن أبا بكر داخل فيه )
أما على التقدير الأول فدخول أبي بكر فيه ظاهر وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى لأن علياً عليه السلام كان وقت البعثة صغيراً فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة أما أبو بكر فإنه كان رجلاً كبيراً في السن كبيراً في المنصب فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى
وأما على التقدير الثاني فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفاً بهذه الصفة وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلاً فيه
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس ولم يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف وقيل صار صادقاً به أي بسببه لأن القرآن معجزة والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقاً بسبب تلك المعجزة وقرىء وصدق
واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاماً كثيرة
فالحكم الأول قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء والآتي بأحد الضدين يكون تاركاً للضد الثاني فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركاً للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين
الحكم الثاني للمصدقين قوله تعالى لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وهذا
الوعد يدخل فيه كل ما يرغب المكلف فيه فإن قيل لا شك أن الكمال محبوب لذاته مرغوب فيه لذاته وأهل الجنة لا شك أنهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية التي هي للأنبياء وأكابر الأولياء عرفوا أنها خيرات عالية ودرجات كاملة والعلم بالشيء من حيث إنه كمال وخير يوجب الميل إليه والرغبة فيه وإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية وأيضاً فإن لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصة ووحشة القلب وأجيب عنه بأن الله تعالى يزيل الحقد والحسد عن قلوب أهل الآخرة وذلك يقتضي أن أحوالهم في الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا ومن الناس من تمسك بهذه الآية في أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة قالوا إن الذين يعتقدون أنهم يرون الله تعالى لا شك أنهم داخلون تحت قوله تعالى وَصَدَّقَ بِهِ لأنهم صدقوا الأنبياء عليهم السلام ثم إن ذلك الشخص يريد رؤية الله تعالى فوجب أن يحصل له ذلك لقوله تعالى لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ فإن قالوا لا نسلم أن أهل الجنة يشاءون ذلك قلنا هذا باطل لأن الرؤية أعظم وجوه التجلي وزوال الحجاب ولا شك أنها حالة مطلوبة لكل أحد نظراً إلى هذا الاعتبار بل لو ثبت بالدليل كون هذا المطلوب ممتنع الوجود لعينه فإنه يترك طلبه لا لأجل عدم المقتضى للطلب بل لقيام المانع وهو كونه ممتنعاً في نفسه فثبت أن هذه الشبهة قائمة والنص يقتضي حصول كل ما أرادوه وشاءوه فوجب حصولها
واعلم أن قوله عِندَ رَبّهِمْ لا يفيد العندية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الصمدية والإخلاص كما في قوله تعالى عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) واعلم أن المعتزلة تمسكوا بقوله وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ على أن هذا الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة
الحكم الثالث قوله تعالى لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ فقوله لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه وقوله لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه فقيل المراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم فيما أوتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب وقال مقاتل يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر واحتج بهذه الآية فقال إنها تدل على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا جوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تنصيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم أسوأ ما يأتون به وذلك هو الكبائر
الحكم الرابع أنه جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وذكره بلفظ الاستفهام والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات فهو تعالى عالم حاجات العباد وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات وهو ليس بخيلاً ولا محتاجاً
حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات فلهذا قال أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثاً وباطلاً قرأ أكثر القراء عبده بلفظ الواحد وهو اختيار أبي عبيدة لأنه قال له وَيُخَوّفُونَكَ روي أن قريشاً قالت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقرأ جماعة عِبَادِهِ بلفظ الجميع قيل المراد بالعباد الأنبياء فإن نوحاً كفاه الغرق وإبراهيم النار ويونس بالإنجاء مما وقع له فهو تعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك وقيل أمم الأنبياء قصدوهم بالسوء لقوله تعالى وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة ٍ بِرَسُولِهِمْ ( غافر 5 ) وكفاهم الله شر من عاداهم
واعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعيد والوعد والترهيب والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي الفصل الحق فقال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ يعني هذا الفضل لا ينفع والبينات إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق وقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ تهديد للكفار
واعلم أن أصحابنا يتمسكون في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات بقوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ والمباحث فيه من الجانبين معلومة والمعتزلة يتمسكون على صحة مذهبهم في هاتين المسألتين بقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله لكان الانتقام والتهديد غير لائق به
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة ٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ ياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في وعيد المشركين وفي وعد الموحدين عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام وبنى هذا التزييف على أصلين
الأصل الأول هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد بقوله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ واعلم أن من الناس من قال إن العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا
العلم فإن من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة وفي عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم
والأصل الثاني أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة ٍ هَلْ فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية وكان الاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله قُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وقرىء كَاشِفَاتُ ضُرّهِ و مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ( الزمر 38 ) بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف فإن قيل كيف قوله كَاشِفَاتُ و مُمْسِكَاتُ على التأنيث بعد قوله وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة ولما أورد الله عليهم هذه الحجة التي لا دفع لها قال بعده على وجه التهديد قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل أيضاً في تقرير ديني فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أن العذاب والخزي يصيبني أو يصيبكم والمقصود منه التخويف
إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَق فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ اللَّهُ يَتَوَفَّى الاٌّ نفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاٍّ خْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة ُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ( الكهف 6 ) وقال لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال تعالى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) فلما أطنب الله تعالى في هذه الآية في فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل والبينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ والمعنى أنك لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم وكما أن الحياة واليقظة وكذلك الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله عز وجل وإيجاده فكذلك الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا وجه النظم في الآية وقيل نظم الآية أنه تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه الإله العالم ليدل على أنه بالعبادة أحق من هذه الأصنام
المسألة الثانية المقصود من الآية أنه تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها فقوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا يعني أنه تعالى يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت يمسكها ولا يردها إلى البدن وقوله وَيُرْسِلُ الاْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى يعني أن النفس التي يتوفاها عند النوم يردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى وذلك الأجل هو وقت الموت فهذا تفسير لفظ الآية وهي مطابقة للحقيقة ولكن لا بد فيه من مزيد بيان فنقول النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة فنقول إنه في وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر هذا البدن وعن باطنه وذلك هو الموت وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك اليقظة وثانيها أن يرتفع ضوء النفس عن ظاهر البدن من بعض الوجوه دون باطنه وذلك هو النوم وثالثها أن يرتفع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفياً للنفس ثم يمتاز أحدهما عن الآخر بخواص معينة في صفات معينة ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم وهو المراد من قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلهاً موصوفاً بهذه القدرة وبهذه الحكمة وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها
آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ وتقرير الجواب أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها والأول باطل لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها والثاني باطل لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئاً ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة ُ جَمِيعاً ثم بين أنه لا ملك لأحد غير الله بقوله لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومنهم من تمسك في نفي الشفاعة مطلقاً بقوله تعالى قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة ُ جَمِيعاً وهذا ضعيف لأنا نسلم أنه سبحانه ما لم يأذن في الشفاعة لم يقدر أحد على الشفاعة فإن قيل قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا فيه سؤال لأن هذا يدل على أن المتوفى هو الله فقط وتأكد هذا بقوله الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وبقوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) وبقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) ثم إن الله تعالى قال في آية أخرى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وقال في آية ثالثة حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وجوابه أن المتوفى في الحقيقة هو الله إلا أنه تعالى فوض في عالم الأسباب كل نوع من أنواع الأعمال إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو رئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في هذه الآية إلى الله تعالى بالإضافة الحقيقية وفي الآية الثانية إلى ملك الموت لأنه هو الرئيس في هذا العمل وإلى سائر الملائكة لأنهم هم الأتباع لملك الموت والله أعلم
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُو ءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين وهو أنك إذا ذكرت الله وحده تقول لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ظهرت آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم وذلك يدل على الجهل والحماقة لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات وأما ذكر الأصنام التي هي الجمادات الخسيسة فهو رأس الجهالات والحماقات فنفرتهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر هذه الأصنام من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ والحمق الشديد قال صاحب ( الكشاف ) وقد يقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة وجهه ويتهلل والاشمئزاز أن يعظم غمه وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية ولما حكى عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بأمرين أحدهما أنه ذكر الدعاء العظيم فوصفه أولا بالقدرة التامة وهي قوله قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وثانياً بالعلم الكامل وهو قوله تعالى عالم الغيب والشهادة وإنما قدم فذكر القدرة على ذكر العلم لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً ولما ذكر هذا الدعاء قال أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم عند سماع الشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل ومع ذلك القوم قد أصروا عليه فلا يقدر أحد على إزالتهم عن هذا الاعتقاد الفاسد والمذهب الباطل إلا أنت عن أبي سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاته بالليل قالت ( كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك وانك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء أولها أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد وثانيها قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ أي ظهرت لهم أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم وكما أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال في صفة الثواب في الجنة ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) فكذلك في العقاب حصل مثله وهو قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ و ثالثها قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ومعناه ظهرت لهم آثار تلك السيئات التي اكتسبوها أي ظهرت لهم أنواع من العقاب آثار تلك السيئات التي اكتسبوها ثم قال وَحَاقَ بِهِم من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم
فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَة ً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِى َ فِتْنَة ٌ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَاؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وذلك لأنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك لا يكون إلا منه ثم إنه تعالى إذا خولهم النعمة وهي إما السعة في المال أو العافية في النفس زعم أنه إنما حصل ذلك بكسبه وبسبب جهده وجده فإن كان مالاً قال إنما حصل بكسبي وإن كان صحة قال إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني وهذا تناقض عظيم لأنه كان في حال العجز والحاجة أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح فبين تعالى قبح طريقتهم فيما هم عليه عند الشدة والرخاء بلفظة وجيزة فصيحة فقال بَلْ هِى َ فِتْنَة ٌ يعني النعمة التي خولها هذا الكافر فتنة لأن عند حصولها يجب الشكر وعند فواتها يجب الصبر ومن هذا حاله يوصف بأنه فتنة من حيث يختبر عنده حال من أوتي النعمة كما يقال فتنت الذهب بالنار إذا عرضته على النار لتعرف خلاصته
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ والمعنى ما قدمنا أن هذا التخويل إنما كان لأجل الاختبار وبقي في الآية أبحاث نذكرها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء ههنا وعطف مثلها في أول السورة بالواو والجواب أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزون من سماع التوحيد ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ثم ذكر بفاء التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إلى الله تعالى وحده كان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني فهذا هو الفائدة في ذكر فاء التعقيب ههنا فأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكر الله بحرف الواو لا بحرف الفاء
السؤال الثاني ما معنى التخويل الجواب التخويل هو التفضل يعني نحن نتفضل عليه وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق
السؤال الثالث ما المراد من قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ الجواب يحتمل أن يكون المراد إنما أوتيته على علم الله بكوني مستحقاً لذلك ويحتمل أن يكون المراد إنما أوتيته على علمي بكوني مستحقاً له ويحتمل أن يكون المراد إنما أوتيته على علم لأجل ذلك العلم قدرت على اكتسابه مثل أن يكون مريضاً فيعالج نفسه فيقول إنما وجدت الصحة لعلمي بكيفية العلاج وإنما وجدت المال لعلمي بكيفية الكسب
السؤال الرابع النعمة مؤنثة والضمير في قوله أُوتِيتُهُ عائد على النعمة فضمير التذكير كيف عاد إلى المؤنث بل قال بعده بَلْ هِى َ فِتْنَة ٌ فجعل الضمير مؤنثاً فما السبب فيه والجواب أن التقدير حتى إذا خولناه شيئاً من النعمة فلفظ النعمة مؤنث ومعناه مذكر فلا جرم جاز الأمران
ثم قال تعالى قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فما أغنى عنهم الضمير في قالها راجح إلى قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
عندي لأنها كلمة أو جملة من المقول وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ هم قارون وقومه حيث قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عندي وقومه راضون به فكأنهم قالوها ويجوز أيضاً أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها
ثم قال تعالى فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي ما أغنى عنهم ذلك الاعتقاد الباطل والقول الفاسد الذي اكتسبوه من عذاب الله شيئاً بل أصابهم سيئات ما كسبوا ولما بين في أولئك المتقدمين أنهم أصابهم سيئات ما كسبوا أي عذاب عقائدهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة قال وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لا يعجزونني في الدنيا والآخرة
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ يعني أو لم يعلموا أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة ويقبض تارة أخرى وقوله وَيَقْدِرُ أي ويقتر ويضيق والدليل عليه أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه ولا بد له من سبب وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى الجاهل المريض الضعيف في أعظم السعة وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكبير والسلطان القاهر قد ولد فيه أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة علمنا أنه ليس المؤثر في السعادة والشقاوة هو الطالع ولما بطلت هذه الأقسام علمنا أن المؤثر فيه هو الله سبحانه وصح بهذا البرهان العقلي القاطع على صحة قوله تعالى أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ
قال الشاعر فلا السعد يقضي به المشترى
ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السما
ء وقاضي القضاة تعالى وجل
بداية الجزء السابع والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَة ً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق العبيد وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر فقالوا إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص العباد بالمؤمنين قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً الْفُرْقَانَ وَقَالَ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
( الإنسان 6 ) ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين إذا ثبت هذا ظهر أن قوله فِى عِبَادِى مختص بالمؤمنين ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح فثبت أن قوله فِى عِبَادِى لا يليق إلا بالمؤمنين إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وهذا عام في حق جميع المسرفين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وذلك هو المقصود فإن قيل هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية فسقط الاستدلال وأيضاً إنه تعالى قال عقيب هذه الآية وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ إلى قوله بَغْتَة ً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعاً لما أمر عقيبه بالتوبة ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ولو كانت الذنوب كلها مغفورة فأي حاجة به إلى أن يقول ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وأيضاً فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب ألبتة فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي بالتوبة والإنابة والجواب قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا بل نحن نقول به ونذهب إليه وذلك لأن صيغة يغفر صيغة المضارع وهي للاستقبال وعندنا أن الله تعالى يخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعاً إما قبل الدخول في نار جهنم وإما بعد الدخول فيها فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا
أما قوله لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه الأول أنه سمى المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج الثاني أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب الثالث أنه تعالى قال أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما
عاد إليه بل هو عائد إليهم فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم الرابع أنه قال لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمراً بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم الخامس أنه تعالى قال أولاً فِى عِبَادِى وكان الأليق أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل السادس أنه لما قال لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ كان الواجب أن يقول إنه يغفر الذنوب جميعاً ولكنه لم يقل ذلك بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة إن المفيدة لأعظم وجوه التأكيد وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السابع أنه لو قال يَغْفِرُ الذُّنُوبَ لكان المقصود حاصلاً لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعاً وهذا أيضاً من المؤكدات الثامن أنه وصف نفسه بكونه غفوراً ولفظ الغفور يفيد المبالغة التاسع أنه وصف نفسه بكونه رحيماً والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ إشارة إلى إزالة موجبات العقاب وقوله الرَّحِيمِ إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب العاشر أن قوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يفيد الحصر ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوهاً قيل إنها نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم وقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته فلما نزلت الآية أسلم فقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه له خاصة أم للمسلمين عامة فقال بل للمسلمين عامة وقيل نزلت في أناس أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام أشفقوا لا يقبل الله توبتهم وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم فتنوا فافتتنوا وكان المسلمون يقولون فيهم لا يقبل الله منهم توبتهم فنزلت هذه الآيات فكتبها عمر وبعث بها إليهم فأسلموا وهاجروا واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول هذه الآيات في هذه الوقائع لا يمنع من عمومها
المسألة الرابعة قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم فِى عِبَادِى بفتح الياء والباقون وعاصم في بعض الروايات بغير فتح وكلهم يقفون عليه بإثبات الياء لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء وقرأ أبو عمرو والكسائي تقنطوا بكسر النون والباقون بفتحها وهما لغتان قال صاحب ( الكشاف ) وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَن يَشَاء
ثم قال تعالى ) وأنيبوا إلى ربكم قال صاحب ( الكشاف ) أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخصلوا له العمل وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه وأقول هذا الكلام ضعيف جداً لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلاً قطعاً لما احتيج إلى التوبة لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة فنقول هذا ضعيف لأن
مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعاً ويعفو عنها قطعاً إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب فثبت أن الذي قاله صاحب ( الكشاف ) ضعيف ولا فائدة فيه
ثم قال وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ واعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء فالأول أمر بالإنابة وهو قوله تعالى وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ والثاني أمر بمتابعة الأحسن وفي المراد بهذا الأحسن وجوه الأول أنه القرآن ومعناه واتبعوا القرآن والدليل عليه قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) الثاني قال الحسن معناه والتزموا طاعة الله واجتنبوا معصية الله فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه ذكر القبيح ليجتنب عنه والأدون لئلا يرغب فيه والأحسن ليتقوى به ويتبع الثالث المراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ لأن الناسخ أحسن من المنسوخ لقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( البقرة 106 ) ولأن الله تعالى لما نسخ حكماً وأثبت حكماً آخر كان اعتمادنا على المنسوخ
ثم قال مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَة ً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ والمراد منه التهديد والتخويف والمعنى أنه يفجأ العذاب وأنتم غافلون عنه واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بيّن تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات فالأول قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَن تَقُولَ مفعول له أي كراهة أن تقول نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وأما تنكير لفظ النفس ففيه وجهان الأول يجوز أن تراد نفس ممتازة عن سائر النفوس لأجل اختصاصها بمزيد إضرار بما لا ينفي رغبتها في المعاصي والثاني يجوز أن يراد به الكثرة وذلك لأنه ثبت في علم أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يفيد الظن بأن ذلك الحكم معلل بذلك الوصف فقوله يا حسرتا يدل على غاية الأسف ونهاية الحزن وأنه مذكور عقيب قوله تعالى نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ والتفريط في طاعة الله تعالى يناسب شدة الحسرة وهذا يقتضي حصول تلك الحسرة عند حصول هذا التفريط وذلك يفيد العموم بهذه الطريقة
المسألة الثانية القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية واعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت فلا فائدة في الإعادة ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضواً مخصوصاً لله تعالى فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه فثبت أنه لا بد من المصير إلى التأويل وللمفسرين فيه عبارات قال ابن عباس يريد ضيعت من ثواب الله وقال مقاتل ضيعت من ذكر الله وقال مجاهد في أمر الله وقال الحسن في طاعة الله وقال سعيد بن جبير في حق الله واعلم أن الإكثار من هذه العبارات لا يفيد شرح الصدور وشفاء الغليل فنقول الجنب سمي جنباً لأنه جانب من جوانب ذلك الشيء والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت هذه المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة قال الشاعر
أما تتقين الله جنب وامق
له كبد حرا عليك تقطع المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء يا حسرتي على الأصل و يا حسرتاي على الجمع بين العوض والمعوض عنه
أما قوله تعالى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي أنه ما كان مكتفياً بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين قال قتادة لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل وَإِن كُنتُ نصب على الحالة كأنه قال فرطت في جنب الله وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي
النوع الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم قوله أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
النوع الثالث قوله أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء أولها الحسرة على التفريط في الطاعة وثانيها التعلل بفقد الهداية وثالثها بتمني الرجعة ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال بفقد الهداية باطل لأن الهداية كانت حاصرة والأعذار زائلة وهو المراد بقوله بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج بلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأن معنى قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر لفظة بَلَى بعده
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ على التأنيث قال أبو عبيد لو صح هذا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ولكنه ليس بمسند لأن الربيع لم يدرك أم سلمة وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى ( طه 96 ) و إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء ( يوسف 53 ) و يا أيتها النفس المطمئة ( الفجر 27 )
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه الأول أنه لا يقال فلان أسرف على نفسه على وجه الذم إلا لما يكون من قبله وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى وثانيها أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد وثالثها إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك ورابعها قوله تعالى الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع وخامسها ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل وسادسها قولهم نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله وسابعها قوله تعالى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ومن لا يقدر على الإيمان كما يقول القوم ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون
مفرطاً وثامنها ذمه لهم بأنهم من الساخرين وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم وكان يصح منهم أن لا يفعلوه وتاسعها قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى أي مكنني لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وعلى هذا قولهم إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه وعاشرها قوله لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وعلى قولهم لو رده الله أبداً كرة بعد كرة وليس فيه إلا قدرة الكفر لم يصح أن يكون محسناً والحادي عشر قوله تعالى موبخاً لهم بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ فبيّن تعالى أن الحجة عليهم لله لأن الحجة لهم على الله ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها والثاني عشر أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر على وجه الذم ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالاً لهم لما صح الكلام والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين والقسوة والاستدراج ولما كان هذا التفسير مملوءاً منه لم يكن إلى الإعادة حاجة
وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّو ءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
علم أن هذا نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد أما الوعيد فقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ وفيه بحثان أحدهما أن هذا التكذيب كيف هو والثاني أن هذا السواد كيف هو
البحث الأول عن حقيقة هذا التكذيب فنقول المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ومنهم من قال هذا القدر لا يكون كذباً بل الشرط في كونه كذباً أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية
قال الكعبي ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( الزمر 58 ) يعني أنه ما هداني بل أضلني فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ وجب أن يكون هذا عائداً إلى ذلك الكلام المتقدم ثم روي عن الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما بال أقوام يصلون ويقرأون القرآن يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد وهم كذبة على الله والله مسود وجوههم واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون والتكبر لا يليق بمن يقول أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى أما الذين يقولون إن الله يريد شيئاً وأنا أريد بضده فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله فالتكبر بهذا القائل أليق فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد ومن الناس من قال إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى ومنهم من قال
إنه مختص بمشركي العرب قال القاضي يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية لأنهم كذبوا على الله فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود والنصارى لا يجوز واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي لزمه تكفير الأمة لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلاهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات وكانوا يقولون إن الله تعالى حرم البحيرة والسائية والوصيلة والحام مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا وكان قائله عالماً بأنه كذب وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل ( يكون ) مناسباً أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ يبعد إلحاق هذا الوعيد به
البحث الثاني الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله وأقول إن الجهل ظلمة والظلمة تتخيل كأنها يواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ الآية قال القاضي المراد به من اتقى كل الكبائر إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله فيقال له أمرك عجيب جداً فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( الزمر 57 ) وجب أن يحمل قوله ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة على الذين قالوا على الذين قالوا لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى فعلى هذا القانون لما تقدم قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ
ثم قال تعالى بعده وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنته يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ وأن يكون قولك الَّذِينَ اتَّقَوْاْ المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسداً فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي باللاتقاء والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم
ثم قال تعالى بِمَفَازَتِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم على الجمع والباقون بمفازتهم على التوحيد وحكى الواحدي عن الفرّاء أنه قال كلاهما صواب إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم
وأمور القوم قال أبو علي الفارسي الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله تعالى وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 ) ولا شك أن لكل متق نوعاً آخر عن المفازة
المسألة الثانية المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة فكأن المعنى أن النجاة في القياملاة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها
ثم قال لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة كأنه قيل كيف ينجيهم فقيل لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وهذه كلمة جامعة لأنه إذا لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه
المسألة الثالثة دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة وتأكد هذا بقوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَى ْءٍ وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِى َ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ
واعلم أنه لما أطال الكلام في شرح الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 102 ) على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وأطنبنا هناك في الأسئلة والأجوبة فلا فائدة ههنا في الإعادة إلا أن الكعبي ذمكر ههنا كلمات فنذكرها ونجيب عنها فقال إن الله تعالى مدح نفسه بقوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح أن يحتج المخالف به وأيضاً فلم يكن في صدر هذه الأمة خلاف في أعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فأراد الله تعالى أن يبين أنها جمع من خلقه وأيضاً لفظة كُلٌّ قد لا توجب العموم لقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء ( الأحقاف 25 ) وأيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما ضافها إليهم بقوله كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( البقرة 109 ) ولما صح قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 78 ) ولما صح قوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) فهذا جملة ما ذكره الكعبي في تفسيره وقال الجبائي اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء سوى أفعال خلقه التي صح
فيها الأمر والنهي واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى ما جاز ذلك فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم وصورهم وقال أبو مسلم الخلق هو التقدير لا الإيجاد فإذا أخبر الله عن عباده أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فيصح أن يقال إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجداً له
واعلم أن الجواب عن هذه الوجوه قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة الأنعام فمن أراد الوقوف عليه فليطالع هذا الموضوع من هذا الكتاب والله أعلم
أما قوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ فالمعنى أن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل العبد لو وقع بتخليق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى وكيلاً عليه وذلك ينافي عموم الآية
ثم قال تعالى لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أنه سبحانه مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حالفظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها ومنه قولهم فلان ألقيت مقاليد الملك إليه وهي المفاتيح قال صاحب ( الكشاف ) ولا واحد لها من لفظها وقيل مقليد ومقاليد وقيل مقلاد ومقاليد مثل مفتاح ومفاتيح وقيل إقليد وأقاليد قال صاحب ( الكشاف ) والكلمة أصلها فارسية إلا أن القوم لما عربوها صارت عربية
واعلم أن الكلام في تفسير قوله لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قريب من الكلام في قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام 59 ) وقد سبق الاستقصاء هناك قيل سأل عثمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير قوله لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقال ( يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله وبحمده أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت هو على كل شيء قدير ) هكذا نقله صاحب ( الكشاف )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى صريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر وهذا يدل على أن كل من لم يكن كافراً فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله
المسألة الثانية أورد صاحب ( الكشاف ) سؤالاً وهو أنه بم اتصل قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وأجاب عنه بأنه اتصل بقوله تعالى وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ( الزمر 61 ) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ واعترض ما بينهما أنه خالق للأشياء كلها وأن له مقاليد السموات والأرض وأقول هذا عندي ضعيف من وجهين الأول أن وقوع الفاصل الكبير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد الثاني أن قوله وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ جملة فعلية وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ جملة إسمية وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية لا يجوز بل الأقرب عندي أن يقال إنه لما وصف الله تعالى نفسه بالصفات الإلهية والجلالية وهو كونه خالقاً للأشياء كلها وكونه مالكاً لمقاليد
السموات والأرض بأسرها قال بعده والذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة أولئك هم الخاسرون
ثم قال تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تأمرونني بنونين ساكنة الياء وكذلك هي في مصاحف الشام قال الواحدي وهو الأصل وقرأ ابن كثير تأمروني بنون مشددة على إسكان الألألى وإدغامها في الثانية وقرأ نافع تأمروني بنون واحدة خفيفة على حذل إحدى النونين والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة
المسألة الثانية أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد وتأمروني اعتراض ومعناه أفغير الله أعبد بأمركم وذلك حين قال له المشركون أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك وأقول نظير هذه الآية قوله تعالى قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 14 ) وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل
المسألة الثالثة إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء وبكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيد عليه فلهذا السبب قال أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع
ثم قال تعالى وَلَقَدْ أُوْحِى َ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ واعلم أن الكلام التام مع الدلائل القوية والجواب عن الشبهات في مسألة الإحباط قد ذكرناه في سورة البقرة فة نعيده قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ على البناء للمفعول وقرىء بالياء والنون أي ليحبطن الله أو الشرك وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين والجواب تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول كسانا حلة أي كل واحد منا
السؤال الثاني ما الفرق بين اللامين الجواب الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب
السؤال الثالث كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم والجواب أن قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكاتنت منقسمة بمتساويين قضشية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال الله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وبأنهما قد فسدتا
السؤال الرابع ما معنى قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ والجواب كما أن طاعات الأنبياء والرسل إفضل من طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الإسراء 75 ) فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم
واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ والمقصود منه ما أمروه به من اوسلام ببعض آلهتهم كأنه قال إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله لأن قوله قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله فقال الله إنهم بئسما قالوا ولكن أنت على الضد مما قالوا فلا تعبد إلا الله وذلك لأن قوله بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ يفيد الحصر ثم قال وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر عن الإطلاق العليم الحكيم وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله
وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِى ءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِى َ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئاً آخر سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية فقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج بعض الناس بهذه الآية على أن الخلق لا يعرفون حقيقة الله قالوا لأن قوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدرن وصف المؤمنين بذلك فسقط هذا الكلام
المسألة الثانية قوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدره وصف المؤمنين بذلك فسقط هذا الكلام
المسألة الثانية قوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه وهذه الآية مذكورة في سور ثلاث في سورة الأنعام وفي سورة الحج وفي هذه السورة
واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال تظمته ونهاية جلالته فقال وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ قال القفال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كقول القائل وما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت فوجب أن لا تحطني عن قدري ومنزلتي ونظيره قوله تعالى
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) أي كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه فكذا ههنا والمعنى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته قال صاحب ( الكشاف ) الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز وكذلك ما روي أن يهودياً جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعجباً مما قال قال صاحب ( الكشاف ) وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها الأذهان هينة عليه قال ولا نرى باباً في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب فيقال له هل تسلم أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع فحينئذ يجب حمله على المجاز فإن أنكر هذا الأصل فحينئذ يخرج القرآن بالكلية عن أن يكون حجة فإن لكل أحد أن يقول المقصود من الآية الفلانية كذا وكذا فأنا أحمل الآية على ذلك المقصود ولا ألتفت إلى الظواهر مثاله من تمسك بالآيات الواردة في ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار قال المقصود بيان سعادات المطيعين وشقاوة المذنبين وأنا أحمل هذه الآيات على هذا المقصود ولا أثبت الأكل والشرب ولا سائر الأحوال الجسمانية ومن تمسك بالآيات الوردة في إثبات وجوب الصلاة فقال المقصود منه إيجاب تنوير القلب بذكر الله فأنا أكتفي بهذا القدر ولا أوجب هذه الأعمال المخصوصة وإذا عرفت الكلام في هذين المثالين فقس عليه سائر المسائل الأصولية والفروعية وحينئذ يخرج القرآن عن أن يكون حجة في المسائل الأصولية والفروعية وذلك باطل قطعاً وأما إن سلم أن اوصل في علم القرآن أن يعتقد أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته فإن قام دليل منفصل على أنه يتعذر حمله على حقيقته فحينئذ يتعين صرفه إلى مجازه فإن حصلت هناك مجازات لم يتعين صرفه إلى مجاز معين إلا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيين فنقول ههنا لفظ اليمين حقيقة في الجارحة المخصوصة ولا يمكنك أن تصرف ظاهر الكلام عن هذا المعنى إلا إذا أقمت الدلالة على أن حمل هذه الألفاظ على ظواهرها ممتنع فحينئذ يجب حملها على المجازات ثم تبين بالدليل أن المعنى الفلاني يصح جعله مجازاً عن تلك الحقيقة ثم تبين بالدليل أن هذا المجاز أولى من غيره وإذا ثبتت هذه المقدملات وترتيبها على هذا الوجه فهذا هو الطريق الصحيح الذي عليه تعويل أهل التحقيق فأنت ما أتيت في هذا الباب بطريقة جديدة وكلام غريب بل هو عين ما ذكره أهل التحقيق فثبت أن الفرح الذي أظهره من أنه اهتدى إلى الطريق الذي لم يعرفه غيره طريق فاسد دال على قلة وقوفه على المعاني ولنرجع إلى الطريق الحقيقي فنقول لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره قال تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 30 ) والمراد منه كونه مملوكاً له ويقال هذه الدار
في يد فلان وفلان صاحب اليد والمراد من الكل القدرة والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته ولا يريدون إلا خلوص ملكه وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صوناً لهذه النصوص عن التعطيل فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب ولنا كتاب مفرد في إثبات تنزيه الله تعالى عن الجسمية والمكان سميناه بتأسيس التقديس من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه
المسألة الثالثة في تفسير ألفاظ الآية قوله والاْرْضِ المراد منه الأرضون السبع ويدل عليه وجوه الأول قوله جَمِيعاً فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله كُلُّ الطَّعَامِ ( آل عمران 93 ) وقوله تعالى أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء ( النور 31 ) وقوله تعالى وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ق 10 ) وقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 2 3 ) فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع فكذا ههنا والثاني أنه قال بعده وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون الثالث أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهذا مقتضى المبالغة وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض قال تعالى فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ( طه 96 ) والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف ويقال أيضاً أعطني قبضة من كذا يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته أما إذا أُريد معنى القبضة فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة فإن قيل ما وجه قراءة من قرأ قبضته بالنصب قلنا جعل القبضة ظرفاً وقوله مَطْوِيَّاتٌ من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ ( الأنبياء 104 ) وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ثم قال صاحب الكشاف وقيل قبضته ملكه ويمينه قدرته وقيل مطويات بيمينه أي مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يقبضها ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجه ركيكة وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب وأقول إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته وتقبيح طريقة القدماء عجيب جداً فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك الظاهر اللفظ والمصير إلى المجاز من غير دليل فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة وأنه لا يجوز الدول عنه إلا لدليل منفل فهذا هو الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه وأين العلم الذي لم يعرفه غيره مع أنه وقع في التأويلات العسر والكلمات الركيكة فإن قالوا المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس المراد من لفظ القبضة واليمين هذه الأعضاء وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد بل نفوض علمه إلى الله تعالى فنقول هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء فأما تعيين المراد فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى وهذا هو طريقة السلف المعرضين عن التأويلات فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلاً والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته تنزّه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية فإن قيل السؤال على هذا الكلام من وجوه الأول أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع ثم إنه قال في صفة العرش وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملاً للسموات والأرض
السؤال الثاني أن قوله وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوّة وهم ينكرون قوله وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك
السؤال الثالث حاصل القول في القبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة وكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرة الله فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة
الجواب عن الأول أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة ثم بعد تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش
الجواب عن الثاني أن المقصود أن الحق سبحانه هو المتولي لإبقاء السموات والأرضين على وجوه العمارة في هذا الوقت وهو المتولي بتخريبها وإفنائها في يوم القيامة فذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام وتنبيه أيضاً على كونه غنياً على الإصلاق فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها وذلك يدل على كمال الاستغناء
الجواب عن الثالث أنه إنما خصص تلك بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا فكذلك ظهر كمال قدرته عند خراب الدنيا والله أعلم
واعمل أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضاً على كمال قدرته وعظمته وذلك شرح مقدمات يوم القيامة لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم فقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ واختلفوا في الصعقة منهم من قال إنها غير الموت بدليل قوله تعالى في موسى عليه السلام وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( الأعراف 143 ) مع أنه لم يمت فهذا هو النفخ الذي يورث الفزع الشديد وعلى هذا التقدير فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة
النمل في قوله وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين
والقول الثاني أن الصعقة عبارة عن الموت والقائلون بهذا القول قالوا إنهم يموتون من الفزع وشدة الصوت وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النمل والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة
وأما قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ففيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما عند نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل ويمكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يميت الله ميكائيل وإسرافيل ويبقي جبريل وملك الموت ثم يميت جبريل
والقول الثاني أنهم هم الشهداء لقوله تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش )
القول الثالث قال جابر هذا المستثنى هو موسى عليه السلام لأنه صعق مرة فلا يصعق ثانياً
القول الرابع أنهم الحور العين وسكن العرش والكرسي
والقول الخامس قال قتادة الله أعلم بأنهم من هم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم ثم قال تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وفيه أبحاث
الأول لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظ ثُمَّ يفيد التراخي قال الحسن رحمه الله القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن بينهما أربعين ) ولا أدري أربعون يوماً أو شهراً أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة
الثاني قوله أُخْرَى تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة
الثالث قوله فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله فَإِذَا هُم تدل على التعقيب
الرابع قوله يُنظَرُونَ وفيه وجهان الأول ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم والثاني ينظرون ماذا يفعل بهم ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والخمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم
ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وبدليل قوله تعالى وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة
المسألة الثانية قالت المجسمة إن الله تعالى نور محض فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله وأكدوا هذا بقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 )
واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه الأول أنا بينا في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نوراً بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور ههنا على العدل فنحتاج ههنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور ههنا ليس إلا هذا المعنى أما بيان الإستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك كما يقولون أظلمت البلاد بجورك وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) وأما بيان أن المراد من النور ههنا العدل فقط أنه قال وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل وأيضاً قال في آخر الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم والوجه الثاني في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله كقوله بيت الله وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهات إلى المجاز والوجه الثالث أنه قد قال فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكاً من الملوك وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نوراً
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء أولها قوله وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وقد سبق الكلام فيه وثانيها قوله وَوُضِعَ الْكِتَابُ وفي المراد بالكتاب وجوه الأول أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة الثاني المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( الإسرار 13 ) وقال أيضاً في آية أخرى مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وثالثها قوله وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ والمراد أن يكونوا شهداء على الناس قال تعالى كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ( المائدة 109 ) ورابعها قوله وَالشُّهَدَاء والمراد ما قاله في وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) أو أراد بالشهداء المؤمنين وقال مقاتل يعني الحفظة ويدل عليه قوله تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) وقيل أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه وعبّر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها قوله تعالى وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وثانيها قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وثالثها قوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ أي وفيت كل نفس جزاء ما علمت ورابعها قوله وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ يعني أنه تعالى إذا لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالماً بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ في ذلك الحكم فثبت أنه تعالى عبّر عن هذا المقصود بهذه العبارات المختلفة والمقصود المبالغة في تقرير أن كل مكلف فإنه يصل إلى حقه
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال فقال وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ( الزمر 70 ) بين بعده كيفية أحوال أهل العقاب ثم كيفية أحوال أهل الثواب وختم السورة
أما شرح أحوال أهل العقاب فهو المذكور في هذه الآية وهو قوله وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً قال ابن زيدان سوق الذين كفروا إلى جهنم يكون بالعنف والدفع والدليل عليه قوله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( الطور 13 ) أي يدفعون دفعاً نظيره قوله تعالى فَلِذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( الماعون 2 ) أي يدفعه ويدل عليه قوله تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 )
وأما الزمر فهي الأفواج المتفرقة بعض في أثر بعض فبين الله تعالى أنهم يساقون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابها وهذا يدل على أن أبواب جهنم إنما تفتح عند وصول أولئك إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنة جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ أي من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا فإن قيل فلم أضيف اليوم إليهم قلنا أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم والأيام في أوقات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار بلى قد أتونا وتلوا علينا وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وفي هذه الآية مسألتان
المسألة الأولى تقدير الكلام أنه حقت علينا كلمة العذاب ومن حقت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب وهذا صريح في أن السعيد لا ينقلب شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً وكلمات المعتزلة في دفع هذا الكلام معلومة وأجوبتنا عنها أيضاً معلومة
المسألة الثانية دلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنه ما بقي لهم علة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا فهم ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ قالت المعتزلة لو كان دخولهم النار لأجل أنه حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقول الملائكة فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ فائدة بل هذا الكلام إنما يبقى مقيداً إذا قلنا إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم وذلك يدل على صحة قولنا والله أعلم بالصواب
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية فقال وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً فإن قيل السوق في أهل النار للعذاب معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بدّ وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة فأي حاجة فيه إلى السوق
والجواب من وجوه الأول أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) فإذا قيل لواحد منهم إذهب إلى الجنة فيقول لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذٍ يجتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثاني أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال الجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار ) فلهذا السبب يساقون إلى الجنة والرابع أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك فشتان ما بين السوقين
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا الآية واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود القيد الأول هو مجيئهم إلى الجنة والقيد الثاني قوله تعالى وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو وقال ههنا بالواو فما الفرق قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على وصولهم إليها بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ ( ص 50 ) فلذلك جيء بالواو كأنه قيل حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها القيد الثالث قوله وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ فبيّن تعالى أن خزنة