كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم الزكاء والطهارة ثم لما أخبروا بالزكاة والطهارة كذبهم الله فيه وهذا يدل على ما قلناه
ثم قال تعالى وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً وإنما يقال كفى به في التعظيم على جهة المدح أو على جهة الذم أما في المدح فكقوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( النساء 45 ) وأما في الذم فكما في هذا الموضع وقوله إِثْماً مُّبِيناً منصوب على التمييز
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَاؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
اعلم أنه تعالى حكى عن اليهود نوعا آخر من المكر وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين ولا شك أنهم كانوا عالمين بأن ذلك باطل فكان إقدامهم على هذا القول لمحض العناد والتعصب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا الى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب الى محمد منكم الينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا ففعلوا ذلك فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام فقال أبو سفيان أنحن أهدى سبيلا أم محمد فقال كعب ماذا يقول محمد يأمر بعبادة الله وحده وينهي عن عبادة الأصنام وترك دين آبائه وأوقع الفرقة قال وما دينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم فقال أنتم أهدى سبيلا فهذا هو المراد من قولهم لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( النساء 51 )
المسألة الثانية اختلف الناس في الجبت والطاغوت وذكروا فيه وجوه الأول قال أهل اللغة كل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت ثم زعم الأكثرون أن الجبت ليس له تصرف في اللغة وحكى القفال عن بعضهم أن الجبت أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الردىء وأما الطاغوت فهو مأخوذ من الطغيان وهو الاسراف في المعصية فكل من دعا إلى المعاصي الكبار لزمه هذا الاسم ثم توسعوا في هذا الاسم حتى أوقعوه على الجماد كما قال تعالى وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 35 36 ) فأضاف الاضلال إلى الأصنام مع أنها جمادات الثاني قال صاحب ( الكشاف ) الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله والطاغوت الشيطان الثالث الجبت الأصنام والطاغوت تراجمة الأصنام يترجمون للناس عنها الأكاذيب فيضلونهم بها وهو منقول عن ابن عباس الرابع روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الجبت الكاهن والطاغوت الساحر الخامس قال الكلبي الجبت في هذه
الآية حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وكانت اليهود يرجعون اليهما فسيما بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم السادس الجبت والطاغوت صنمان لقريش وهما الصنمان اللذان سجد اليهود لهما طلبا لمرضاة قريش وبالجملة فالأقاويل كثيرة وهما كلمتان وضعتا علمين على من كان غاية في الشر والفساد
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً فبين أن عليهم اللعن من الله وهو الخذلان والابعاد وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له كما قال مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 61 ) فهذا اللعن حاضر وما في الآخرة أعظم وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وفيه وعد للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية بالضد على الضد كما قال في الآيات المتقدمة وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( النساء 45 )
واعلم أن القوم إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يجري مجرى المكابرة فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله ومن كان دينه الاقبال بالكلية على خدمة الخالق والاعراض عن الدنيا والاقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال والله أعلم
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً
اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئاً مما آتاه الله من النعمة والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئاً من النعم فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الانسانية لها قوتان القوة العالمة والقوة العاملة فكمال القوة العالمة العلم ونقصانها الجهل وكمال القوة العاملة الأخلاق الحميدة ونقصانها الأخلاق الذميمة وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله
إذا عرفت هذا فنقول إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين الأول أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية الثاني أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل والسبب مقدم على المسبب لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد وإنما قلنا إن الجهل سبب البخل والحسد أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل وأما الحسد فلأن الالهية عبارة عن إيصال النعم والاحسان إلى العبيد فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الاله عن الالهية وذلك
محض الجهل فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب فهذا هو الاشارة إلى نظم هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ( أم ) ههنا فيه وجوه الأول قال بعضهم الميم صلة وتقديره ألهم لأن حرف ( أم ) إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة الثاني أن ( أم ) ههنا متصلة وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين انهم أهدى سبيلا من المؤمنين عطف عليه بقوله أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ فكأنه تعالى قال أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل الثالث أن ( أم ) ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها ألبتة كأنه لما تم الكلام الأول قال بل لهم نصيب من الملك وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الانكار يعني ليس لهم شيء من الملك ألبتة وهذا الوجه أصح الوجوه
المسألة الثانية ذكروا في هذا الملك وجوها الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية الثاني أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود اليهم في آخر الزمان وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فكذبهم الله في هذه الآية الثالث المراد بالملك ههنا التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك اليهم ولو كان التمليك اليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والاثبات قال أبو بكر الأصم كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته والانسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمراً مطلوبا مرغوبا فيه وجهات الحاجات محيطة بالناس فاذا صدر من إنسان احسان إلى غيره صارت رغبة المحسن اليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له فلهذا قيل بالبر يستعبد الحر فاذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض فلا يحصل الانقياد ألبتة فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم ان الملك على ثلاثة أقسام ملك على الظواهر فقط وهذا هو ملك الملوك وملك على البواطن فقط وهذا هو ملك العلماء وملك على الظواهر والبواطن معاً وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم فاذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ليصير كل واحد من هذه الاخلاق سببا لانقياد الخلق لهم وامتثالهم لأوامرهم وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام
المسألة الرابعة قال سيبويه ( إذن ) في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير كقولك أظن زيدا قائما وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله كقوله زيد أظن قائم وإن شئت قلت زيداً أظن قائماً وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه تقول زيد منطلق ظننت والسبب فيما ذكرناه أن ( ظن ) وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل لأنها لا تؤثر
في معمولاتها فاذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه ولا في محل الاهمال من كل الوجوه بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الاعمال والالغاء جائزا
واعلم أن الاعمال في حال التوسط أحسن والالغاء حال التأخر أحسن
إذا عرفت هذا فنقول كلمة ( إذن ) على هذا الترتيب أيضاً فان تقدمت نصبت الفعل تقول إذن أكرمك وإن توسطت أو تأخرت جاز الالغاء تقول أنا إذن أكرمك وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً كلمة ( إذن ) فيها متقدمة وما عملت فذكروا في العذر وجوها الأول أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير لا يؤتون الناس نقيرا إذن الثاني أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ والثالث قرأ ابن مسعود فَإِذاً لاَّ يُؤْتُواْ على إعمال ( إذن ) عملها الذي هو النصب
المسألة الخامسة قال أهل اللغة النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة وأصله أنه فعيل من النقر ويقال للخشب الذي ينقر فيه نقير لأنه ينقر والنقر ضرب الحجر وغيره بالمنقار والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة والغرض انهم يبخلون بأقل القليل
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
فيه مسائل
المسألة الأولى أم منقطعة والتقدير بل يحسدون الناس
المسألة الثانية في المراد بلفظ ( الناس ) قولان الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين انه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم ومن هذا يقال فلان أمة وحده أي يقوم مقام أمة قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا ( النحل 120 )
والقول الثاني المراد ههنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين وقال من ذهب إلى هذا القول ان لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد
واعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لارادة طائفة معينة من الناس لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين
المسألة الثالثة اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين
فالقول الأول انه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا
والقول الثاني انهم حسدوه على انه كان له من الزوجات تسع
واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة فكلما كانت فضيلة الانسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ثم انه تعالى أعطاها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وضم اليها انه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصاراً وأعواناً وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم فاما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه فلا يمكن تفسير هذا الفضل به بل ان جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته فأما على سبيل القصر عليه فبعيد
واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) والمعنى أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه
واعلم أن الْكِتَابِ إشارة إلى ظواهر الشريعة وَالْحِكْمَة ِ إشارة إلى أسرار الحقيقة وذلك هو كمال العلم وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالانسان من الكمالات ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وقيل إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم كيف استكثرتهم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية
ثم قال تعالى مِنْهُمْ مّنْ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى واختلفوا في معنى ( به ) فقال بعضهم بمحمد عليه الصلاة والسلام والمراد أن هؤلاء القوم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم وبقي بعضهم على الكفر والانكار وقال آخرون المراد من تقدم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمعنى أن أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوة والملك جرت عادت أممهم فيهم أن بعضهم آمن به وبعضهم بقوا على الكفر فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم فان أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت وذلك تسلية من الله ليكون أشد صبرا على ما ينال من قبلهم
ثم قال وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي كفى بجهنم في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سعيرا والسعير الوقود يقال أوقدت النار وأسعرتها بمعنى واحد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى بعدما ذكر الوعيد بالطائفة الخاصة من أهل الكتاب بين ما يعم الكافرين من الوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى يدخل في الآيات كل ما يدل على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل وكفرهم بالآيات ليس يكون بالجحد لكن بوجوه منها أن ينكروا كونها آيات ومنها أن يغفلوا عنها فلا ينظروا فيها ومنها أن يلقوا الشكوك والشبهات فيها ومنها أن ينكروها مع العلم بها على سبيل العناد والحسد وأما حد الكفر وحقيقته فقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ( البقرة 6 )
المسألة الثانية قال سيبويه ( سوف ) كلمة تذكر للتهديد والوعيد يقال سوف أفعل وينوب عنها حرف السين كقوله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وقد ترد كلمة ( سوف ) في الوعد أيضا قال تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى قيل أخره إلى وقت السحر تحقيقا للدعاء وبالجملة فكلمة ( السين ) و ( سوف ) مخصوصتان بالاستقبال
المسألة الثالثة قوله نُصْلِيهِمْ أي ندخلهم النار لكن قوله نُصْلِيهِمْ فيه زيادة على ذلك فانه بمنزلة شويته بالنار يقال شاة مصلية أي مشوية
ثم قال تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وفيه سؤالان
السؤال الأول لما كان تعالى قادرا على ابقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل اليها الآلام الشديدة حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى
والجواب أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بل نقول انه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع انه تعالى أدخلهم النار
السؤال الثاني الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز
والجواب عنه من وجوه الأول أن يجعل النضج غير النضيج فالذات واحدة والمتبدل هو
الصفة فاذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة الثاني المعذب هو الانسان وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الانسان بل كان كالشيء الملتصق به الزائد على ذاته فاذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجدد سببا لوصول العذاب اليه لم يكن ذلك تعذيبا الا للعاصي الثالث أن المراد بالجلود السرابيل قال تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ ( إبراهيم 50 ) فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات طعن القاضي فيه فقال انه ترك للظاهر وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج وإنما توصف بالاحتراق الرابع يمكن أن يقال هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام كلما انتهى فقد ابتدأ وكلما وصل الى آخره فقد ابتدأ من أوله فكذا قوله كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 ) يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه الخامس قال السدي إنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد لأن لحمه متناه فلا بد وأن ينفد وعند نفاد لحمه لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا والله أعلم
ثم قال تعالى لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وفيه سؤالان
السؤال الأول قوله لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للمعزوز أعزك الله أي أدامك على العز وزادك فيه وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه
السؤال الثاني أنه إنما يقال فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب
والجواب المقصود من ذكر الذوق الاخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كاحساس الذائق المذوق من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً والمراد من العزيز القادر الغالب ومن الحكيم الذي لا يفعل إلا الصواب وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الانسان في النار الشديدة أبد الآبادا فقيل هذا ليس بعجيب من الله لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات يقدر على إزالة طبيعة النار ويقع في القلب أنه كريم رحيم فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم فقيل كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم والحكمة تقتضي ذلك فان نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة والتهديد الصادر منه لا بد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين ههنا في غاية الحسن
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً
اعلم أنه قد جرت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم بأن الوعد والوعيد يتلازمان في الذكر على سبيل الأغلب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن الايمان غير العمل لأنه تعالى عطف العمل على الايمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه قال القاضي متى ذكر لفظ الايمان وحده دخل فيه العمل ومتى ذكر معه العمل كان الايمان هو التصديق وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا اليه هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والافراد على السوية وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أمورا أحدها أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقال الزجاج المراد تجري من تحتها مياه الأنهار واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك الماء فلا حاجة إلى هذا الاقمار وثانيها أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع أو غير منقطع وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( النساء 93 ) على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأبيد وثالثها قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية ورابعها قوله وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً قال الواحدي الظليل ليس ينبىء عن الفعل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول بل هو مبالغة في نعت الظل مثل قولهم ليل أليل
واعلم أن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة ولهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه الصلاة السلام ( السلطان ظل الله في الأرض ) فاذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة هذا ما يميل اليه خاطري وبهذا الطريق يندفع سؤال من يقول إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل وأيضاً نرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس اليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك لأن على هذا الوجه الذي لخصناه تندفع هذه الشبهات
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
اعلم انه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة لا جرم أمر بها في هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح اليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بين أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية فأمر علياً أن يرده إلى عثمان ويعتذر اليه فقال عثمان لعلي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهبط جبريل عليه السلام وأخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن السدانة في أولاد عثمان أبدا فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن اسحق وقال أبو روق قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان أعطني المفتاح فقال هاك بامانة الله فلما أراد أن يتناوله ضم يده فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك مرة ثانية ان كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح فقال هاك بامانة الله فلما أراد أن يتناوله ضم يده فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مرة ثالثة فقال عثمان في الثالثة هاك بامانة الله ودفع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطوف ومعه المفتاح وأراد أن يدفعه إلى العباس ثم قال يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك فأنزل الله هذه الآية فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان ( هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم ) ثم ان عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم
المسألة الثانية اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات واعلم أن معاملة الانسان اما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد أو مع نفسه ولا بد من رعاية الامانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة
أما رعاية الامانة مع الرب فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود الامانة في كل شيء لازمة في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم وقال ابن عمر رضي الله عنهما إنه تعالى خلق فرج الانسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها واعلم أن هذا باب واسع فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها وكذا القول في جميع الأعضاء
وأما القسم الثاني وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع ويدخل فيه ترك التطفيف
في الكيل والوزن ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونهيهم عن قولهم للكفار ان ما أنتم عليه أفضل من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره وفي اخبارها عن انقضاء عدتها
وأما القسم الثالث وهو أمانة الانسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والاصلح له في الدين والدنيا وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) فقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ يدخل فيه الكل وقد عظم الله أمر الامانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقال وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا أيمان لمن لا أمانة له وقال ميمون بن مهران ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الامانة والعهد وصلة الرحم وقال القاضي لفظ الامانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية وقال ميمون بن مهران ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الامانة والعهد وصلة الرحم وقال القاضي لفظ الامانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فوجب أن يكون المراد بهذه الامانة ما يجري مجرى المال لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير
المسألة الثالثة الامانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع فانه جعل اسما خالصا قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الاْمَانَة َ على التوحيد
المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي من الامانات الودائع ويجب ردها عند الطلب والأكثرون على أنها غير مضمونة وعن بعض السلف أنها مضمونة روى الشعبي عن أنس قال استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمنني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أنس قال كان لانسان عندي وديعة ستة آلاف درهم فذهبت فقال عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فألزمني الضمان وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ضمان على راع ولا على مؤتمن ) وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه العارية مضمونة بعد الهلاك وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه غير مضمونة حجة الشافعي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وظاهر الأمر للوجوب وبعد هلاكها تعذر ردها بصورتها ورد ضمانها ردها بمعناها فكانت الآية دالة على وجوب التضمين ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) أقصى ما في الباب أن الآية مخصوصة في الوديعة لكن العام بعد التخصيص حجة وأيضاً فلأنا أجمعنا على أن المستام مضمون وأن المودع غير مضمون والعارية وقعت في البين فنقول المشابهة بين العارية وبين المستام
أكثر لأن كل واحد منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه بخلاف المودع فانه أخذ الوديعة لغرض المالك فكانت المشابهة بين المستعار وبين المستام أتم فظهر الفرق بين المستعار وبين المودع حجة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام ( لا ضمان على مؤتمن )
قلنا إنه مخصوص في المستام فكذا في العارية ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى
قوله تعالى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الامانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق اليه فهذا هو الأمانة والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب لانسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الانسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالامانة أولا ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق فما أحسن هذا الترتيب لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط
المسألة الثانية أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل قال تعالى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ والتقدير إن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) وقال وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وقال مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) وعن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت ) وعن الحسن قال ان الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ إلى قوله وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى ( ص 26 ) وقرأ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ( المائدة 44 ) إلى قوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) ومما يدل على وجوب العدل الآيات الواردة في مذمة الظلم قال تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ينادي منادي يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار ) وقال أيضا وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ( إبراهيم 42 ) وقال فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة ً بِمَا ظَلَمُواْ ( النمل 52 )
فان قيل الغرض من الظلم منفعة الدنيا
فأجاب الله عن السؤال بقوله لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ( القصص 58 )
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والاقبال عليهما والاستماع منهما والحكم عليهما قال والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب فان كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه لأنه لا يمكنه التحرز عنه قال ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ولا شاهدا شهادته لأن ذلك يضر بأحد الخصمين ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف ولا يلقن المدعي عليه الانكار والاقرار ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الآخر ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يضيف الخصم الا وخصمه معه وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر وذلك هو المراد بقوله وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
المسألة الرابعة قوله وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ثم بقيت الآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت سائر الدلائل على أنه لا بد للامة من الامام الأعظم وأنه هو الذي ينصب القضاة والولاة في البلاد صارت تلك الدلائل كالبيان لما في هذه الآية من الاجمال
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم شيء يعظكم به أو نعم الذي يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم شيء يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي اعملوا بأمر الله ووعظه فانه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما أمر في هذه الآيات بالحكم على سبيل العدل وبأداء الأمانة قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي إذا حكمت بالعدل فهو سميع لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم وإن أديت الأمانة فهو بصير لكل المبصرات يبصر ذلك ولا شك أن هذا أعظم أسباب الوعد للمطيع وأعظم أسباب الوعيد للعاصي وإليه الاشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ) وفيه دقيقة أخرى وهي أن كلما كان احتياج العبد أشد كانت عناية الله أكمل والقضاة والولاة قد فوض الله إلى أحكامهم مصالح العباد فكان الاهتمام بحكمهم وقضائهم أشد فهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والتفاوت في ابصار المبصرات وسماع المسموعات ولكن لو فرضنا أن هذا التفاوت كان ممكنا لكان أولى المواضع بالاحتراز عن الغفلة والنسيان هو وقت حكم الولاة والقضاة فلما كان هذا الموضع مخصوصا بمزيد العناية لا جرم قال في خاتمة هذه الآية إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً فما أحسن هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فاذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة الطاعة موافقة الارادة وقال أصحابنا الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الارادة لنا أنه لا نزاع في أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع أن المأمور به هل يجب أن يكون مراداً أم لا فاذا دللنا على أن المأمور به قد لا يكون مراداً ثبت حيئنذ أن الطاعة ليست عبارة عن موافقة الارادة وإنما قلنا إن الله قد يأمر بما لا يريد لأن علم الله وخبره قد تعلقا بأن الايمان لا يوجد من أبي لهب ألبتة وهذا العلم وهذا الخبر يمتنع زوالهما وانقلابهما جهلا ووجود الايمان مضاد ومناف لهذا العلم ولهذا الخبر والجمع بين الضدين محال فكان صدور الايمان من أبي لهب محالا والله تعالى عالم بكل هذه الأحوال فيكون عالما بكونه محالا والعالم بكون الشيء محالا لا يكون مريداً له فثبت أنه تعالى غير مريد للايمان من أبي لهب وقد أمره بالايمان فثبت أن الأمر قد يوجد بدون الارادة وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن طاعة الله عبارة عن موافقة أمره لا عن موافقة إرادته وأما المعتزلة فقد احتجوا على أن الطاعة اسم لموافقة الارادة بقول الشاعر
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتاً لم يطع
رتب الطاعة على التمني وهو من جنس الارادة
والجواب أن العاقل عالم بأن الدليل القاطع الذي ذكرناه لا يليق معارضته بمثل هذه الحجة الركيكة
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع الكتاب والسنة والاجماع والقياس وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب أما الكتاب والسنة فقد وقعت الاشارة إليهما بقوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
فان قيل أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف
قلنا قال القاضي الفائدة في ذلك بيان الدلالتين فالكتاب يدل على أمر الله ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة والسنة تدل على أمر الرسول ثم نعلم منه أمر الله لا محالة فثبت بما ذكرنا أن قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة
المسألة الثالثة اعلم أن قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهي عنه فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وانه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما ثم نقول ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة لا جائز أن يكون بعض الأمة لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول اليهم والاستفادة منهم ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم عاجزون عن الوصول اليهم عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم واذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ولا طائفة من طوائفهم ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله وَأُوْلِى الاْمْرِ أهل الحل والعقد من الأمة وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة
فان قيل المفسرون ذكروا في أُوْلِى الاْمْرِ وجوها أخرى سوى ما ذكرتم أحدها أن المراد من أولى الأمر الخلفاء الراشدون والثاني المراد أمراء السرايا قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في عبدالله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميراً على سرية وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر فجرى بينهما اختلاف في شيء فنزلت هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر وثالثها المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك ورابعها نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك باجماع الأمة باطلا
السؤال الثاني أن نقول حمل أولى الأمر على الأمراء والسلاطين أولي مما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول أن الامراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق فهم في الحقيقة أولو الأمر أما أهل الاجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى والثاني أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الاجماع الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء فقال ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ) فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال الذي ذكرناه
والجواب أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ على
العلماء فاذا قلنا المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحل لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة بل كان هذا اختياراً لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة فاندفع السؤال الأول وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة والذي ذكرناه برهان قاطع فكان قولنا أولى على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها فأحدها أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما يجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة وعن طاعة الله وطاعة رسوله بل يكون داخلا فيه كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول أما إذا حملناه على الاجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها لأنه ربما دل الاجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين فهذو أولى وثانيها أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق فاذا حملناه على الاجماع لا يدخل الشرط في الآية فكان هذا أولى وثالثها أن قوله من بعد فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مشعر باجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع ورابعها أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا وعندنا أن طاعة أهل الاجماع واجبة قطعا وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف فكان حمل الآية على الاجماع أولى لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق وخامسها أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوي العلماء والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه أحدها ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول اليهم فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا وظاهر قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يقتضي الاطلاق وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر الثاني أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر وأولو الأمر جمع وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر وثالثها أنه قال فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ولو كان المراد بأولي الأمر الامام المعصوم لوجب أن يقال فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الامام فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه
المسألة الرابعة اعلم أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يدل عندنا على أن القياس حجة والذي يدل على ذلك أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء إما أن يكون المراد فان اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الاجماع أو المراد فان اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك
داخلا تحت قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وحينئذ يصير قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو أن المراد فان تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والاجماع واذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له وأيضاً فلم لا يجوز ان يكون المراد فردوا غير المنصوص إلى المنصوص في أنه لا يحكم فيه إلا بالنص وأيضا لم يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية
قلنا أما الأول فمدفوع وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين منها ما يكون حكمها منصوصا عليه ومنها ما لا يكون كذلك ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد وأمر في القسم الثاني بالرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات واذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة وبهذا الجواب يظهر فساد السؤال الثالث
وأما السؤال الثاني فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل فلا يكون رد الواقعة اليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى
المسألة الخامسة هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة سواء كان القياس جليا أو خفيا سواء كان ذلك النص مخصوصا قبل ذلك أم لا ويدل عليه أنا بينا أن قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ أمر بطاعة الكتاب والسنة وهذا الأمر مطلق فثبت أن متابعة الكتاب والسنة سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجبة ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى أحدها أن كلمة ( ان ) على قول كثير من الناس للاشتراط وعلى هذا المذهب كان قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ صريح في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول الثاني انه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة الثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله ( فان لم تجد ) الرابع انه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم حيث قال وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( البقرة 34 ) ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس هو قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص وصار بذلك السبب ملعونا وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وانه غير جائز الخامس أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر والقياس ليس كذلك بل هو مظنون من جميع الجهات والمقطوع
راجح على المظنون السادس قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( المائدة 45 ) وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم انا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم السابع قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الجمرات 1 ) فاذا كان عموم القرآن حاضر ثم قدمنا القياس المخصص لزم التقديم بين يدي الله ورسوله الثامن قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ ( الأنعام 148 ) إلى قوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلَى الظَّنّ ( النجم 23 28 ) جعل اتباع الظن من صفات الكفار ومن الموجبات القوية في مذمتهم فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل التاسع انه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا ذروه ) ولا شك ان الحديث أقوى من القياس فاذا كان الحديث الذي لا يوافقه الكتاب مردوداً فالقياس أولى به العاشر ان القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والقياس يفرق عقل الانسان الضعيف وكل من له عقل سليم علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى
المسألة السادسة هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة أعني الكتاب والسنة والاجماع والقياس مردود باطل وذلك لأنه تعالى جعل الوقائع قسمين أحدهما ما تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالطاعة وهو قوله بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ والثاني ما لا تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالاجتهاد وهو قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فاذا كان لا مزيد على هذين القسمين وقد أمر الله تعالى في كل واحد منهما بتكليف خاص معين دل ذلك على أنه ليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول الأربعة وإذا ثبت هذا فنقول القول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة رضي الله عنه والقول بالاستصلاح الذي يقول به مالك رحمه الله إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه وإن كان مغايراً لهذه الأربعة كان القول به باطلا قطعاً لدلالة هذه الآية على بطلانه كما ذكرنا
المسألة السابعة زعم كثير من الفقهاء أن قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يدل على أن ظاهر الأمر للوجوب واعترض المتكلمون عليه فقالوا قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ فهذا لا يدل على الايجاب إلا إذا ثبت أن الأمر للوجوب وهذا يقتضي افتقار الدليل إلى المدلول وهو باطل وللفقهاء أن يجيبوا عنه من وجهين الأول أن الأوامر الواردة في الوقائع المخصوصة دالة على الندبية فقوله أَطِيعُواْ لو كان معناه أن الاتيان بالمأمورات مندوب فحينئذ لا يبقى لهذه الآية فائدة لأن مجرد الندبية كان معلوما من تلك الأوامر فوجب حملها على إفادة الوجوب حتى يقال ان الأوامر دلت على أن فعل تلك المأمورات أولى من تركها وهذه الآية دلت على المنع من تركها فحينئذ يبقى لهذه الآية فائدة والثاني أنه تعالى ختم الآية بقوله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وهو وعيد فكما أن احتمال اختصاصه بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قائم فكذلك احتمال عوده إلى الجملتين أعني قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قائم ولا شك أن الاحتياط فيه وإذا حكمنا بعود ذلك الوعيد إلى الكل صار قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ موجبا للوجوب فثبت أن هذه الآية دالة
على أن ظاهر الامر للوجوب ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع
المسألة الثامنة اعلم أن المنقول عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اما القول واما الفعل أما القول فيجب إطاعته لقوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وأما الفعل فيجب على الأمة الاقتداء به إلا ما خصه الدليل وذلك لأنا بينا ان قوله أَطِيعُواْ يدل على أن أوامر الله للوجوب ثم انه تعالى قال في آية أخرى في صفة محمد عليه الصلاة والسلام فَاتَّبَعُوهُ وهذا أمر فوجب أن يكون للوجوب فثبت أن متابعته واجبة والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله فثبت ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ يوجب الاقتداء بالرسول في كل أفعاله وقوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يوجب الاقتداء به في جميع أقواله ولا شك أنهما أصلان معتبران في الشريعة
المسألة التاسعة اعلم أن ظاهر الأمر وان كان في أصل الوضع لا يفيد التكرار ولا الفور إلا أنه في عرف الشرع يدل عليه ويدل عليه وجوه الأول ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ يصح منه استثناء أي وقت كان وحكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل فوجب أن يكون قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ متناولا لكل الأوقات وذلك يقتضي التكرار والتكرار يقتضي الفور الثاني انه لو لم يفد ذلك لصارت الآية مجملة لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة أما لو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وحمل كلام الله على الوجه الذي يكون مبينا أولى من حمله على الوجه الذي به يصير مجملا مجهولا أقصى ما في الباب أنه يدخله التخصيص والتخصيص خير من الاجمال الثالث ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ أضاف لفظ الطاعة إلى لفظ الله فهذا يقتضي أن وجوب الطاعة علينا له إنما كان لكوننا عبيدا له ولكونه إلها فثبت من هذا الوجه ان المنشأ لوجوب الطاعة هو العبودية والربوبية وذلك يقتضي دوام وجوب الطاعة على جميع المكلفين إلى قيام القيامة وهذا أصل معتبر في الشرع
المسألة العاشرة انه قال أَطِيعُواْ اللَّهَ فأفرده في الذكر ثم قال وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وهذا تعليم من الله سبحانه لهذا الأدب وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز ذلك بدليل انه قال وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وهذا تعليم لهذا الأدب ولذلك روي أن واحدا ذكر عند الرسول عليه الصلاة والسلام وقال من أطاع الله والرسول فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه الصلاة والسلام ( بئس الخطيب أنت هلا قلت من عصى الله وعصى رسوله ) أو لفظ هذا معناه وتحقيق القول فيه أن الجمع بين الذكرين في اللفظ يوهم نوع مناسبة ومجانسة وهو سبحانه متعال عن ذلك
المسألة الحادية عشرة قد دللنا على أن قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يدل على أن الاجماع حجة فنقول كما أنه دل على هذا الأصل فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالاجماع ونحن نذكر بعضها
الفرع الأول مذهبنا أن الاجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة وهؤلاء هم المسمون بأهل الحل والعقد في كتب أصول الفقه نقول الآية دالة عليه لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء
لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الأحكام من القرآن والحديث فدل على ما ذكرناه فلما دلت الآية على أن اجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أن ينعقد الاجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء وأما دلالة الآية على أن العامي غير داخل فيه فظاهر لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر
الفرع الثاني اختلفوا في أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف هل هو حجة والأصح أنه حجة والدليل عليه هذه الآية وذلك لأنا بينا أن قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يقتضي وجوب طاعة جملة أهل الحل والعقد من الأمة وهذا يدخل فيه ما حصل بعد الخلاف وما لم يكن كذلك فوجب أن يكون الكل حجة
الفرع الثالث اختلفوا في أن انقراض أهل العصر هل هو شرط والأصح أنه ليس بشرط والدليل عليه هذه الآية وذلك لأنها تدل على وجوب طاعة المجمعين وذلك يدخل فيه ما إذا انقرض العصر وما إذا لم ينقرض
الفرع الرابع دلت الآية على أن العبرة باجماع المؤمنين لأنه تعالى قال في أول الآية ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثم قال وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ فدل هذا على أن العبرة باجماع المؤمنين فأما سائر الفرق الذين يشك في إيمانهم فلا عبرة بهم
المسألة الثانية عشرة ذكرنا أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يدل على صحة العمل بالقياس فنقول كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ونحن نذكر بعضها
الفرع الأول قد ذكرنا أن قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها ولا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي وحينئذ يتعذر الرد فعلمنا أنه لا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر أما الخبر فانهم لما سألوه ( صلى الله عليه وسلم ) عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو تمضمضت ) يعني المضمضة مقدمة الأكل كما أن القبلة مقدمة الجماع فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم فكذا القبلة ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزى فقالت نعم قال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق بالقضاء ) وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله فَرُدُّوهُ أمر برد الشيء إلى شبيهة واذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله قياس الأشباه ويسميه أكثر الفقهاء قياس الطرد ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله فَرُدُّوهُ هو أنه ردوه إلى شبيهه علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة وهذا بحث فيه طول ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات فأما
الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب
الفرع الثاني دلت الآية على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ مشعر بهذا الاشتراط
الفرع الثالث دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والاجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان وبطل به قول من قال لا يجوز استعمال القياس في الكفارات والحدود وغيرهما لأن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء عام في كل واقعة لا نص فيها
الفرع الرابع دلت الآية على أن من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلا بد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله
الفرع الخامس دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وفي قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وكذلك في خبر معاذ
الفرع السادس دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بايماء في كتاب الله والآخر تأيد بايماء خبر من أخبار رسول الله فان الأول مقدم على الثاني يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين ولعل الانسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية
المسألة الثالثة عشرة قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ معناه ذوو الأمر وأولو جمع وواحده ذو على غير القياس كالنساء والابل والخيل كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ
المسألة الرابعة عشرة قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ قال الزجاج اختلفتم وقال كل فريق القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده
ثم قال تعالى إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الوعيد يحتمل أن يكون عائدا إلى قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وإلى قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر قوله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمنا وهذا يقتضي أن يخرج المذنب عن الايمان لكنه محمول على التهديد
ثم قال تعالى ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أي ذلك الذي أمرتكم به في هذه الآية خير لكم وأحسن عاقبة لكم لأن التأويل عبارة عما اليه مآل الشيء ومرجعه وعاقبته
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
اعلم أنه تعالى لما أوجب في الآية الاولى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه وانما يريدون حكم غيره وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الزعم والزعم لغتان ولا يستعملان في الاكثر الا في القول الذي لا يتحقق قال الليث أهل العربية يقولون زعم فلان إذا شكوا فيه فلم يعرفوا أكذب أو صدق فكذلك تفسير قوله هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي بقولهم الكذب قال الاصمعي الزعوم من الغنم التي لا يعرفون أبها شحم أم لا وقال ابن الاعربي الزعم يستعمل في الحق وأنشد لأمية بن الصلت
واني أدين لكم أنه سينجزكم ربكم ما زعم
اذا عرفت هذا فنقول الذي في هذه الآية المراد به الكذب لأن الآية نزلت في المنافقين
المسألة الثانية ذكروا في أسباب النزول وجوها الأول قال كثير من المفسرين نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهودي بيني وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك كعب بن الاشرف والسبب في ذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقضي بالحق ولا يلتفت الى الرشوة وكعب بن الاشرف كان يديد الرغبة في الرشوة واليهودي كان محقا والمنافق كان مبطلا فلهذا المعنى كان اليهودي يريد التحاكم الى الرسول والمنافق كان يريد كعب بن الاشرف ثم أصر اليهودي على قوله فذهبا اليه ( صلى الله عليه وسلم ) فحكم الرسول عليه الصلاة والسلام لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى انطلق بنا الى أبي بكر فحكم أبو بكر رضي الله عنه لليهودي فلم يرض المنافق وقال المنافق بيني وبينك عمر فصارا الى عمر فأخبره اليهودي أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما فقال للمنافق أهكذا فقال نعم قال اصبرا إن لي حاجة أدخل فأقضيها وأخرج اليكما فدخل فأخذ سيفه ثم خرج اليهما فضرب به المنافق حتى برد وهرب اليهودي فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأل عمر عن قصته فقال عمر إنه رد حكمك يا رسول الله فجاء جبريل عليه السلام في الحال وقال انه الفاروق فرق بين الحق والباطل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر ( أنت الفاروق ) وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف
الرواية الثانية في سبب نزول هذه الآية أنه أسلم ناس من اليهود ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضريا قتل به وأخذ منه دية مائة وسق من تمر وإذا قتل نضري قرظيا لم يقتل به لكن أعطي ديته ستين وسقا من التمر وكان بنو النضير أشرف وهم حلفاء الأوس وقريظة حلفاء الخزرج فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة قتل نضري قرظيا فاختصما فيه فقالت بنو النضير لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه من قبل وقالت الخزرج هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا فأبي بنو النضير ذلك فقال المنافقون انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون بل الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأبى المنافقون وانطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام الكاهن إلى الإسلام فأسلم هذا قول السدي وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن
الرواية الثالثة قال الحسن ان رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون اليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل
الرواية الرابعة كانوا يتحاكمون إلى الأوثان وكان طريقهم أنهم يضربون القداح بحضرة الوثن فما خرج على القداح عملوا به وعلى هذا القول فالطاغوت هو الوثن
واعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين ثم قال أبو مسلم ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب مثل أنه كان يهوديا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق لأن قوله تعالى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق
المسألة الثالثة مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال القاضي ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ويدل عليه وجوه الأول انه تعالى قال يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر بالله كما أن الكفر بالطغوت إيمان بالله الثاني قوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى قوله وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( النساء 65 ) وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( النور 63 ) وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة اليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم
المسألة الرابعة قالت المعتزلة ان قوله تعالى وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً يدل على أن كفر الكافر ليس بخلق الله ولا بارادته وبيانه من وجوه الأول أنه لو خلق الله الكفر في الكافر وأراده منه فأي تأثير للشيطان فيه وإذا لم يكن له فيه تأثير فلم ذمه عليه الثاني انه تعالى ذم الشيطان بسبب انه يريد
هذه الضلالة فلو كان تعالى مريداً لها لكان هو بالذم أولى من حيث ان كل من عاب شيئا ثم فعله كان بالذم أولى قال تعالى كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 3 ) الثالث ان قوله تعالى في أول الآية صريح في إظهار التعجب من أنهم كيف تحاكموا إلى الطاغوت مع أنهم قد أمروا أن يكفروا به ولو كان ذلك التحاكم بخلق الله لما بقي التعجب فانه يقال إنما فعلوا لاجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى فان من فعل ذلك فيهم ثم أخذ يتعجب منهم انهم كيف فعلوا ذلك كان التعجب من هذا التعجب أولى
واعلم أن حاصل هذا الاستدلال يرجع إلى التمسك بطريقة المدح أو الذم وقد عرفت منا انا لا نقدح في هذه الطريقة إلا بالمعارضة بالعلم والداعي والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً وفيه مسألتان
المسألة الأولى بين في الآية الأولى رغبة المنافقين في التحاكم إلى الطاغوت وبين بهذه الآية نفرتهم عن التحاكم إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال المفسرون إنما صد المنافقون عن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا ظالمين وعلموا أنه لا يأخذ الرشا وانه لا يحكم إلا بمر الحكم وقيل كان ذلك الصد لعداوتهم في الدين
المسألة الثانية يصدون عنك صدودا أي يعرضون عنك وذكر المصدر للتأكيد والمبالغة كأنه قيل صدودا أي صدود
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين الأول أن قوله فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ كلام وقع في البين وما قبل هذه الآية متصل بما بعدها هكذا واذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيئونك ويحلفون بالله كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الاحسان والتوفيق وعلى هذا التقدير يكون النظم متصلا وتلك الآية وقعت في البين كالكلام الأجنبي وهذا يسمى اعتراضا وهو كقول الشاعر
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله وبلغتها كلام أجنبي وقع في البين إلا أن هذا الكلام الأجنبي شرطه أن يكون له من بعض الوجوه تعلق بذلك المقصود كما في هذا البيت فان قوله بلغتها دعاء للمخاطب وتلطف في القول معه والآية أيضا كذلك لأن أول الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وفضائحهم وأنواع كيدهم ومكرهم فان الآية أخبرت بأنه تعالى حكى عنهم في أول الآية أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت مع أنهم أمروا بالكفر به ويصدون عن الرسول مع أنهم أمروا بطاعته فذكر بعد هذا ما يدل على شدة الأحوال عليهم بسبب هذه الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة فقال فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي فكيف حال تكل الشدة وحال تلك المصيبة فهذا تقرير هذا القول وهو قول الحسن البصري واختيار الواحدي من المتأخرين
الوجه الثاني أنه كلام متصل بما قبله وتقريره انه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويفرون من الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الفرار دل ذلك على شدة نفرتهم من الحضور عند الرسول والقرب منه فلما ذكر ذلك قال فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف يكون حالهم في شدة الغم والحسرة إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك شاؤا أم أبوا ويحلفون بالله على سبيل الكذب انا ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة والغرض من هذا الكلام بيان ان ما في قلبهم من النفرة عن الرسول لا غاية له سواء غابوا أم حضروا وسواء بعدوا أم قربوا ثم انه تعالى أكد هذا المعنى بقوله أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني انه لكثرته وقوته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله تعالى ثم لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام شدة بغضهم ونهاية عداوتهم ونفرتهم أعلمه انه كيف يعاملهم فقال فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وهذا الكلام على ما قررناه منتظم حسن الاتساق لا حاجة فيه إلى شيء من الحذف والإضمار ومن طالع كتب التفسير علم ان المتقدمين والمتأخرين كيف اضطربوا فيه والله أعلم
المسألة الثانية ذكروا في تفسير قوله أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ وجوها الأول أن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام فهم جاؤا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فطالبوا عمر بدمه وحلفوا انهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة وهذا اختيار الزجاج الثاني قال أبو علي الجبائي المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات وانه يخصهم بمزيد الاذلال والطرد عن حضرته وهو قوله تعالى لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 60 61 ) وقوله قُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم فكانت معدودة في مصائبهم وانما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم وعني بقوله ثُمَّ أي وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون أنا ما أردنا بما كان منا من مداراة الكفار الا الصلاح وكانوا في ذلك كاذبين لانهم أضمروا خلاف ما أظهروه ولم يريدوا بذلك
الاحسان الذي هو الصلاح الثالث قال أبو مسلم الاصفهاني انه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول بشر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه والى أن يظهروا له الايمان به والى أن يحلفوا بأن مرادهم الاحسان والتوفيق قال ومن عادة العرب عند التبشير والانذار أن يقولوا كيف أنت إذا كان كذا وكذا ومثاله قوله تعالى عَظِيماً فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ( النساء 41 ) وقوله فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 25 ) ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم
المسألة الثالثة في تفسير الاحسان والتوفيق وجوه الأول معناه ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الا الاحسان الى خصومنا واستدامة الاتفاق والائتلاف فيما بيننا وانما كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم لأنهم لو كانوا عند الرسول لما قدروا على رفع صوت عند تقرير كلامهم ولما قدروا على التمرد من حكمه فاذن كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا الى الخصوم الثاني أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أنه يحسن الى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به الرسول الثالث أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم الى غيرك يا رسول الله الا أنك لا تحكم الا بالحق المر وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالاحسان الى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أنه لا يعلم ما في قلوبهم من النفاق والغيظ والعداوة الا الله
ثم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً واعلم أنه تعالى أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعاملهم بثلاثة أشياء الأول قوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وهذا يفيد أمرين أحدهما أن لا يقبل منهم ذلك العذر ولا يغتر به فان من لا يقبل عذر غيره ويستمر على سخطه قد يوصف بأنه معرض عنه غير ملتفت إليه والثاني أن هذا يجري مجرى أن يقول له اكتف بالاعراض عنهم ولا تهتك سترهم ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم فان من هتك ستر عدوه وأظهر له كونه عالما بما في قلبه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي باظهار العداوة فيزداد الشر ولكن إذا تركه على حاله بقي في خوف ووجل فيقل الشر
النوع الثاني قوله تعالى وَعِظْهُمْ والمراد أنه يزجرهم عن النفاق والمكر والكيد والحسد والكذب ويخوفهم بعقاب الآخرة كما قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 )
النوع الثالث قوله تعالى وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله فِى أَنفُسِهِمْ وجوه الأول أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وقل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعاراً الثاني أن يكون التقدير وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا وإن الله يعلم ما في قلوبكم فلا يغني عنكم إخفاؤه فطهروا قلوبكم من النفاق وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شراً من ذلك وأغلظ الثالث قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم على سبيل السر لأن
النصحية على الملأ تقريع وفي السر محض المنفعة
المسألة الثانية في الآية قولان أحدهما أن المراد بالوعظ التخويف بعقاب الآخرة والمراد بالقول البليغ التخويف بعقاب الدنيا وهو أن يقول لهم إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الايمان فان واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر للكل بقاؤكم على الكفر وحينئذ يلزمكم السيف الثاني أن القول البليغ صفة للوعظ فأمر تعالى بالوعظ ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ وهو أن يكون كلاما بليغا طويلا حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والاحذار والانذار والثواب والعقاب فان الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب وإذا كان مختصرا ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر ألبتة في القلب
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) واعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الرسول في قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ثم حكى ان بعضهم تحاكم الى الطاغوت ولم يتحاكم الى الرسول وبين قبح طريقه وفساد منهجه رغب في هذه الآية مرة أخرى في طاعة الرسول فقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كلمة ( من ) ههنا صلة زائدة والتقدير وما أرسلنا رسولا ويمكن أن يكون التقدير وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا الا كذا وكذا وعلى هذا التقدير تكون المبالغة أتم
المسألة الثانية قال أبو علي الجبائي معنى الآية وما أرسلت من رسول إلا وأنا مريد أن يطاع ويصدق ولم أرسله ليعصى قال وهذا يدل على بطلان مذهب المجبرة لانهم يقولون انه تعالى أرسل رسلا لتعصى والعاصي من المعلوم أنه يبقى على الكفر وقد نص الله على كذبهم في هذه الآية فلو لم يكن في القرآن ما يدل على بطلان قولهم إلا هذه الآية لكفى وكان يجب على قولهم أن يكون قد أرسل الرسل ليطاعوا وليعصوا جميعا فدل ذلك على أن معصيتهم للرسل غير مرادة لله وأنه تعالى ما أراد ألا أن يطاع
واعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وبيانه من وجوه الأول ان قوله إلاَّ لِيُطَاعَ يكفي في تحقيق مفهومه أن يطيعه مطيع واحد في وقت واحد وليس من شرط تحقق مفهومه أن يطيعه جميع الناس في جميع الاوقات وعلى هذا التقدير فنحن نقول بموجبه وهو أن كل من أرسله الله تعالى فقد أطاعه بعض الناس في بعض الاوقات اللهم الا أن يقال تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه الا أن الجبائي لا يقول بذلك فسقط هذا الاشكال على جميع التقديرات الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد به ان كل كافر فانه لا بد وأن يقربه عند موته كما قال تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النساء 159 ) أو يحمل ذلك على ايمان الكل به يوم القيامة ومن المعلوم أن الوصف في جانب الثبوت
يكفي في حصول مسماه ثبوته في بعض الصور وفي بعض الأحوال الثالث أن العلم بعدم الطاعة مع وجود الطاعة متضادان والضدان لا يجتمعان وذلك العلم ممتنع العدم فكانت الطاعة ممتنعة الوجود والله عالم بجميع المعلومات فكان عالما بكون الطاعة ممتنعة الوجود والعالم بكون الشيء ممتنع الوجود لا يكون مريداً له فثبت بهذا البرهان القاطع أن يستحيل أن يريد الله من الكافر كونه مطيعاً فوجب تأويل هذه اللفظة وهو أن يكون المراد من الكلام ليس الارادة بل الأمر والتقدير وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته وعلى هذا التقدير سقط الاشكال
المسألة الثالثة قال أصحابنا الآية دالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والايمان والطاعة والعصيان إلا بارادة الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ولا يمكن أن يكون المراد من هذا الاذن الأمر والتكليف لأنه لا معنى لكونه رسولا الا أن الله أمر بطاعته فلو كان المراد من الاذن هو هذا لصار تقدير الآية وما أذنا في طاعة من أرسلناه الا باذننا وهو تكرار قبيح فوجب حمل الاذن على التوفيق والاعانة وعلى هذا الوجه فيصير تقدير الآية وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بتوفيقنا وإعانتنا وهذا تصريح بأنه سبحانه ما أراد من الكل طاعة الرسول بل لا يريد ذلك الا من الذي وفقه الله لذلك وأعانه عليه وهم المؤمنون وأما المحرومون من التوفيق والاعانة فالله تعالى ما أراد ذلك منهم فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا
المسألة الرابعة الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها اذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من كان قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا بل كان المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع
المسألة الخامسة الآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنها دلت على وجوب طاعتهم مطلقا فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية فتصير تلك المعصية واجبة علينا وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا فيلزم توارد الايجاب والتحريم على الشيء الواحد وإنه محال
فان قيل ألستم في الاعتراض على كلام الجبائي ذكرتم أن قوله إلاَّ لِيُطَاعَ لا يفيد العموم فكيف تمسكتم به في هذه المسألة مع أن هذا الاستدلال لا يتم إلا مع القول بأنها تفيد العموم
قلنا ظاهر اللفظ يوهم العموم وإنما تركنا العموم في تلك المسألة للدليل العقلي القاطع الذي ذكرناه على أنه يستحيل منه تعالى أن يريد الايمان من الكافر فلأجل ذلك المعارض القاطع صرفنا الظاهر عن العموم وليس في هذه المسألة برهان قاطع عقلي يوجب القدح في عصمة الأنبياء فظهر الفرق
قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول وجهان الأول المراد به من تقدم ذكره من المنافقين يعني لو أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاؤا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفرها لهم عند توبتهم لوجدوا الله توابا رحيما الثاني قال أبو بكر الأصم إن قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم دخلوا عليه لأجل ذلك الغرض فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إن قوما دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه فليقوموا وليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا فقال ألا تقومون فلم يفعلوا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قم يا فلان قم يا فلان حتى عد أثنى عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا كنا عزمنا على ما قلت ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا فقال الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب الى الاجابة اخرجوا عني
المسألة الثانية لقائل أن يقول أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله وكان أيضاً إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإدخالا للغم في قلبه ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم الثاني أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمر فاذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويطلبوا منه الاستغفار الثالث لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل فاذا انضم اليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول والله أعلم
المسألة الثالثة إنما قال وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا للرسول عليه الصلاة والسلام وأنهم إذا جاؤه فقد جاؤا من خصه الله برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه ومن كان كذلك فان الله لا يرد شفاعته فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة ما ذكرناه
المسألة الرابعة الآية دالة على الجزم بأن الله تعالى يقبل توبة التائب لأنه تعالى لما ذكر عنهم الاستغفار قال بعده لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً وهذا الجواب إنما ينطلق على ذلك الكلام إذا كان المراد من قوله تَوَّاباً رَّحِيماً هو أن يقبل توبتهم ويرحم تضرعهم ولا يرد استغفارهم
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي ان هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها وهذا القول هو المختار عندي والثاني انها مستأنفة نازلة في قصة أخرى وهو ما روي عن عروة بن الزبير أن رجلا من الانصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير ( اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك ) فقال الانصاري لأجل أنه ابن عمتك فتلون وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال للزبير ( اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر )
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمر به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من المسامحة لاجله أمره النبي عليه الصلاة والسلام باستيفاء حقه على سبيل التمام وحمل خصمه على مر الحق
المسألة الثانية ( لا ) في قوله ( فلا وربك ) فيه قولان الأول معناه فوربك كقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ و ( لا ) مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لّئَلاَّ يَعْلَمَ لتأكيد وجوب العلم و لاَ يُؤْمِنُونَ جواب القسم والثاني انها مفيدة وعلى هذا التقدير ذكر الواحدي فيه وجهين الأول انه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون انهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله فَوَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ والثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن
المسألة الثالثة يقال شجر يشجر شجورا وشجرا إذا اختلف واختلط وشاجره إذا نازعه وذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض عند المنازعة ومنه يقال لخشبات الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض قال أبو مسلم الأصفهاني وهو مأخوذ عندي من التفاف الشجر فان الشجر يتداخل بعض أغصانه في بعض وأما الحرج فهو الضيق قال الواحدي يقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل اليه حرج وجمعه حراج وأما التسليم فهو تفعيل يقال سلم فلان أي عوفي ولم ينشب به نائبة وسلم هذا الشيء لفلان أي خلص له من غير منازع فاذا ثقلته بالتشديد فقلت سلم له فمعناه أنه سلمه له وخلصه له هذا هو الأصل في اللغة وجميع استعمالات التسليم راجع إلى الأصل فقولهم سلم عليه أي دعا له بأن يسلم وسلم اليه الوديعة أي دفعها اليه بلا منازعة وسلم اليه أي رضي بحكمه وسلم إلى فلان في كذا أي ترك منازعته فيه وسلم إلى الله أمره أي فوض اليه حكم نفسه على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرا ولا شركة وعلم أن المؤثر الصانع هو الله تعالى وحده لا شريك له
المسألة الرابعة اعلم أن قوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الايمان إلا عند حصول شرائط أولها قوله تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا
واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا سبيل الى معرفة الله تعالى إلا بارشاد النبي المعصوم قال
لأن قوله لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ تصريح بأنه لا يحصل لهم الايمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما اختلفوا فيه ونرى أهل العلم مختلفين في صفات الله سبحانه وتعالى فمن معطل ومن مشبه ومن قدري ومن جبري فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الايمان إلا بحكمه وارشاده وهدايته وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بادراك هذه الحقائق وعقل النبي المعصوم كامل مشرق فاذا اتصل اشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال ومن الضعف إلى القوة فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الالهية والذي يؤكذ ذلك أن الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا جازمين متيقنين كاملي الايمان والمعرفة والذين بعدوا عنه اضطربوا او اختلفوا وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين فثبت ان الأمر كما ذكرنا والتمسك بهذه الآية رأيته في كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني فيقال له فهذا الاستقلال الذي ذكرته إنما استخرجته من عقلك فاذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذه الاستدلال لنقصان عقلك وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك في صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذي تمسكت به ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الاله فلو توقفت معرفة الاله على معرفة النبوة لزم الدور وهو محال
الشرط الثاني قوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ قال الزجاج لا تضيق صدورهم من أفضيتك
واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية انه لا بد من حصول الرضا به في القلب واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر فليس المراد من الآية ذلك بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق
الشرط الثالث قوله تعالى وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فبين تعالى أنه كما لا بد في الايمان من حصول ذلك اليقين في القلب فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر فقوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ المراد به الانقياد في الباطن وقوله وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم
المسألة الخامسة دلت الآية على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الخطأ في الفتوى وفي الأحكام لأنه تعالى أوجب الانقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الايجاب وبين انه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم فهذا يدل على أن قوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) وأن فتواه في أسارى بدر وأن قوله لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) وأن قوله عَبَسَ وَتَوَلَّى ( عبس 1 ) كل ذلك محمول على الوجوه التي لخصناها في هذا الكتاب
المسألة السادسة من الفقهاء من تمسك بقوله تعالى ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ على أن ظاهر الأمر للوجوب وهو ضعيف لأن القضاء هو الالزام ولا نزاع في أنه للوجوب
المسألة السابعة ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه يدل على أنه يجب
متابعة قوله وحكمه على الاطلاق وانه لا يجوز العدول عنه إلى غيره ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس وقوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي الى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت الى ذلك الحرج ويسلم النص تسليما كليا وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف
المسألة الثامنة قالت المعتزلة لو كانت الطاعات والمعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض وذلك لأن الرسول إذا قضى على إنسان بأنه ليس له أن يفعل الفعل الفلاني وجب على جميع المكلفين الرضا بذلك لأنه قضاء الرسول والرضا بقضاء الرسول واجب لدلالة هذه الآية ثم لو أن ذلك الرجل فعل ذلك الفعل على خلاف فتوى الرسول فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكان ذلك الفعل بقضاء الله والرضا بقضاء الله واجب فيلزم أن يجب على المكلفين الرضا بذلك الفعل لأنه قضاء الله فوجب أن يلزمهم الرضا بالفعل والترك معا وذلك محال
والجواب أن المراد من قضاء الرسول الفتوى المشروعة والمراد من قضاء الله التكوين والايجاد وهما مفهومان متغايران فالجمع بينهما لا يفضي إلى التناقض
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاّتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الاخلاص وترك النفاق والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة فليقبلوها بالاخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ بضم النون في ( أن ) وضم واو ( أو ) والسبب فيه نقل ضمة اقْتُلُواْ وضمة أَخْرِجُواْ اليهما وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو وقال الزجاج ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية وقال غيره أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين وأما ضم الواو فلأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير واتفق الجمهور
على الضم في واو الضمير نحو اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ ( البقرة 16 ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ ( البقرة 237 )
المسألة الثانية الكناية في قوله مَّا فَعَلُوهُ عائدة إلى القتل والخروج معا وذلك لأن الفعل جنس واحد وان اختلفت ضروبه واختلف القراء في قوله إِلاَّ قَلِيلٌ فقرأ ابن عامر قَلِيلاً بالنصب وكذا هو في مصاحب أهل الشام ومصحف أنس بن مالك والباقون بالرفع أما من نصب فقاس النفي على الاثبات فإن قولك ما جاءني أحد كلام تام كما أن قولك جاءني القوم كلام تام فلما كان المستثنى منصوباً في الإثبات فكذا مع النفي والجامع كون المستثنى فضلة جاءت بعد تمام الكلام وأما من رفع فالسبب أنه جعله بدلا من الواو في فَعَلُوهُ وكذلك كل مستثنى من منفي كقولك ما أتاني أحد إلا زيد برفع زيد على البدل من أحد فيحمل إعراب ما بعد ( إلا ) على ما قبلها وكذلك في النصب والجر كقولك ما رأيت أحداً الا زيداً وما مررت بأحد إلا زيد قال أبو علي الفارسي الرفع أقيس فان معنى ما أتى أحد إلا زيد وما أتاني الا زيد واحد فكما اتفقوا في قولهم ما أتاني الا زيد على الرفع وجب أن يكون قولهم ما أتاني أحد الا زيد بمنزلته
المسألة الثالثة الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فيه قولان الأول وهو قول ابن عباس ومجاهد انه عائد إلى المنافقين وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم فقال تعالى ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم فاذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الايمان على سبيل الاخلاص وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال الثاني أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق وأما الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ فهو مختص بالمنافقين ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا فقال اليهودي ان موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك فنزلت هذه الآية وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك
المسألة الرابعة قال أبو علي الجبائي لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى فيقال له هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب ثم انه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم ومع ذلك فانه تعالى كلفهم فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً
اعلم أن المراد من قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب والثواب والعقاب وما كان كذلك فانه يسمى وعظا ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع
فالنوع الأول قوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره لأن قولنا ( خير ) يستعمل على الوجهين جميعا
النوع الثاني قوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وفيه وجوه الأول أن المراد أن هذا أقرب الى ثباتهم عليه واستمرارهم لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه الثاني أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق والباطل زائل الثالث أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير فاذا حصله فانه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا فقوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ إشارة إلى الحالة الأولى وقوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً إشارة إلى الحالة الثانية
النوع الثالث قوله تعالى وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً
واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا الاخلاص في الايمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم قال صاحب ( الكشاف ) و ( إذاً ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت فقيل هو أن نؤتيهم من لدنا أجراً عظيما كقوله وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ( النساء 4 )
وأقول إنه تعالى جمع في هذه الآية قرائن كثيرة كل واحدة منها تدل على عظم هذا الأجر أحدها أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة وهي قوله ءاتَيْنَاهُ وقوله مّن لَّدُنَّا والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على عظمة عند الوعد بالعطية دل ذلك على عظمة تلك العطية وثانيها قوله مّن لَّدُنَّا وهذا التخصيص يدل على المبالغة كما في قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) وثالثها أن الله تعالى وصف هذا الأجر بالعظيم والشيء الذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة لا بد وأن يكون في نهاية الجلالة وكيف لا يكون عظيما وقد قال عليه الصلاة والسلام ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )
النوع الرابع قوله وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً وفيه قولان أحدهما أن الصراط المستقيم هو الدين الحق ونظيره قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ ( الشورى 52 53 ) والثاني انه الصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر والدين الحق مقدم على الثواب والأجر والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج اليه بعد استحقاق الأجر فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً
اعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الله وطاعة الرسول بقوله بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ثم زيف طريقة الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول مرة أخرى فقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) ثم رغب في تلك الطاعة بقوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 66 67 68 ) أكد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول في هذه الآية مرة أخرى فقال وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوها الأول روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن حاله فقال يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت اليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأنى إن أدخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجة العبيد فلا أراك وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية الثاني قال السدي ان ناسا من الانصار قالوا يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق اليك فكيف نصنع فنزلت الآية الثالث قال مقاتل نزلت في رجل من الانصار قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا اليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع اليك ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك ان دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية فلما توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى الانصار ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه فعمى مكانه فكان يحب النبي حبا شديدا فجعله الله معه في الجنة الرابع قال الحسن ان المؤمنين قالوا للنبي عليه السلام مالنا منك إلا الدنيا فاذا كانت الآخرة رفعت فى الأولى فحزن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحزنوا فنزلت هذه الآية قال المحققون لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك وهو البعث على الطاعة والترغيب فيها فانك تعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عند الله تعالى
المسألة الثانية ظاهر قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة
قال القاضي لا بد من حمل هذا على غير ظاهره وأن تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة وعندي فيه وجه آخر وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف إذا ثبت هذا فنقول قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ أي ومن يطع الله في كونه إلها وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والاقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد فالأول هو أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر وصفاؤها أقوى وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الاجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل والثاني انه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الذي وقع به في الختم لا بد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات لأن هذا ممتنع فلا بد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد فاذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة فكذا القول في تلك الأرواح فانها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه
المسألة الثالثة ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول وإنه لا يجوز بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه فهذا هو المراد من هذه المعية
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى ذكر النبيين ثم ذكر أوصافا ثلاثة الصديقين والشهداء والصالحين واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها قال بعضهم هذه الصفات كلها لموصوف واحد وهي صفات متداخلة فانه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقاً وشهيداً وصالحا وقال الآخرون بل المراد بكل وصف صنف من الناس وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات ولنبحث عن هذه الصفات الثلاث
الصفة الأولى الصديق وهو اسم لمن عادته الصدق ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل كما يقال سكير وشريب وخمير والصدق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين
وكفى الصدق فضيلة أن الايمان ليس إلا التصديق وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في الصديق وجوه الأول أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق والدليل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ( الحديد 19 ) الثاني قال قوم الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الثالث أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف أما بيان انه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ما عرضت الإسلام على أحد إلا وله كبوة غير أبي بكر فانه لم يتلعثم ) دل هذا الحديث على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما عرض الإسلام على أبي بكر قبله أبو بكر ولم يتوقف فلو قدرنا أن اسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قصر حيث أخر عرض الإسلام عليه وهذا لا يكون قدحا في أبي بكر بل يكون قدحا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك كفر ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصر في عرض الإسلام عليه ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصر في عرض الإسلام عليه والحديث دل على أن أبا بكر لم يتوقف ألبتة فحصل من مجموع الأمرين ان أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال إن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر إلا أنه لا يشك عاقل أن عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت لأن عليا كان في ذلك الوقت صبياً صغيراً وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام وكان شديد القرب منه بالقرابة وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الإسلام وذلك لأنهم اتفقوا على انه رضي الله تعالى عنه لما آمن جاء بعذ ذلك بمدة قليلة بعثمان بن عفان رضي الله عنه وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أسلموا فكان إسلامه سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه رضوان الله عليه كان أسبق الناس إسلاما وثبت أن إسلامه صار سببا لاقتداء أفاضل الصحابة في ذلك الإسلام فثبت أن أحق الامة بهذه الصفة أبو بكر رضي الله عنه إذا عرفت هذا فنقول هذا الذي ذكرناه يقتضي انه كان أفضل الخلق بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجهين الأول أن إسلامه لما كان أسبق من غيره وجب أن يكون ثوابه أكثر لقوله عليه الصلاة والسلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) الثاني أنه بعد أن أسلم جاهد في الله وصار جهاده مفضيا إلى حصول الإسلام لأكابر الصحابة مثل عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي رضي الله تعالى عنهم وجاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار ولكن جهاد أبي بكر رضي الله عنه أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة وجهاد على أفضى إلى قتل الكفار ولا شك أن الأول أفضل وأيضاً فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الضعف وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب وكان الإسلام قويا في هذه الأيام ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة ولهذا المعنى قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ( الحديد 10 ) فبين أن نصرة الإسلام وقت ما كان ضعيفا أعظم ثواباً من نصرته وقت ما كان قويا فثبت من مجموع ما ذكرنا أن أولى الناس بهذا الوصف هو الصديق فلهذا أجمع المسلمون على تسليم هذا اللقب له إلا من لا يلتفت إليه فانه ينكره ودل تفسير الصديق بما ذكرناه على أنه
لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف وهو كون الانسان صديقا وكما دل الدليل عليه فقد دل لفظ القرآن عليه فانه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة فقال في وصف إسماعيل إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وفي صفة إدريس إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً ( مريم 56 ) وقال في هذه الآية مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ يعني انك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية ولا متوسط بينهما وقال في آية أخرى وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ( الزمر 33 ) فلم يجعل بينهما واسطة وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الامام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر على سبيل الاجماع ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها
الصفة الثانية الشهادة والكلام في الشهداء قد مر في مواضع من هذا الكتاب ولا بأس بأن نعيد البعض فنقول لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الانسان مقتول الكافر والذي يدل عليه وجوه الأول أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين وكون الانسان مقتول الكافر ليس فيه زيارة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله الثاني أن المؤمنين قد يقولون اللهم ارزقنا الشهادة فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وانه غير جائز لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر الثالث روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال المبطون شهيد والغريق شهيد فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل بل نقول الشهيد فعيل بمعنى الفاعل وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل واذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 )
الصفة الثالثة الصالحون والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله فان الجهل فساد في الاعتقاد والمعصية فساد في العمل واذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح ثم ان الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا وليس كل من كان صالحا شهيدا فالشهيد أشرف أنواع الصالح ثم ان الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره وكان إيمانه قدوة لغيره فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا وليس كل من كان شهيدا كان صديقا فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام وبعدهم الصديقون وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله والأنبياء يأخذون
عن الملائكة كما قال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) والصديقون يأخذونه عن الأنبياء والشهداء يأخذونه عن الصديقين لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن الأنبياء وصار قدوة لمن بعده والصالحون يأخذونه عن الشهداء فهذا هو تقرير هذه المراتب وإذا عرفت هذا ظهر لك أنه لا أحد يدخل الجنة إلا وهو داخل في بعض هذه النعوت والصفات
ثم قال تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) فيه معنى التعجيب كأنه قيل ما أحسن أولئك رفيقاً
المسألة الثانية الرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل وصاحبه رفيق هذا معناه في اللغة ثم الصاحب يسمي رفيقا لارتفاق بعضهم ببعض
المسألة الثالثة قال الواحدي إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والرسول والبريد تذهب به العرب إلى الواحد والى الجمع قال تعالى فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) ولا يجوز أن يقال حسن أولئك رجلا وبالجملة فهذا إنما يجوز في الاسم الذي يكون صفة أما إذا كان اسما مصرحا مثل رجل وامرأة لم يجز وجوز الزجاج ذلك في الاسم أيضا وزعم أنه مذهب سيبويه وقيل معنى قوله وَحَسُنَ أُولَئِكَ أي حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 )
المسألة الرابعة رَفِيقاً نصب على التمييز وقيل على الحال أي حسن واحد منهم رفيقا
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى بين فيمن أطاع الله ورسوله أنه يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم لم يكترث بذلك بل ذكر أنه يكون رفيقا له وقد ذكرنا أن الرفيق هو الذي يرتفق به في الحضر والسفر فبين أن هؤلاء المطيعين يرتفقون بهم وإنما يرتفقون بهم إذا نالوا منهم رفقا وخيرا ولقد ذكرنا مراراً كيفية هذا الارتفاق وأما على حسب الظاهر فلأن الانسان قد يكون مع غيره ولا يكون رفيقاً له فأما إذا كان عظيم الشفقة عظيم الاعتناء بشأنه كان رفيقا له فبين تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون له كالرفقاء من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته
ثم قال تعالى ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن قوله تعالى ذالِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من وصف الثواب فلما حكم على كل ذلك بأنه فضل من الله دل هذا على أن الثواب غير واجب على الله ومما يدل عليه من جهة المعقول وجوه الأول القدرة على الطاعة إن كانت لا تصلح إلا للطاعة فخالق تلك القدرة هو الذي أعطى الطاعة فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا وإن كانت صالحة للمعصية أيضا لم يترجح جانب الطاعة على جانب المعصية إلا بخلق الداعي إلى الداعي ويصير مجموع القدرة والداعي موجبا للفعل فخالق هذا المجموع هو الذي أعطى الطاعة فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا الثاني نعم الله على العبد لا تحصى وهي موجبة للطاعة والشكر واذا كانت الطاعات تقع في مقابلة النعم السالفة امتنع كونها موجبة للثواب في المستقبل الثالث أن الوجوب يستلزم استحقاق الذنب عند الترك وهذا الاستحقاق ينافي الالهية فيمتنع حصوله في حق الاله تعالى فثبت أن ظاهر الآية كما دل على أن الثواب كله فضل من الله تعالى فالبراهين العقلية القاطعة دالة
على ذلك أيضا وقالت المعتزلة الثواب وإن كان واجبا لكن لا يمتنع إطلاق اسم الفضل عليه وذلك أن العبد إنما استحق ذلك الثواب لأن الله تعالى كلفه والتكليف تفضل ولأنه تعالى هو الذي أعطى العقل والقدرة وأزاح الأعذار والموانع حتى تمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب لغيره ثوبا كي ينتفع به فاذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا ههنا
المسألة الثانية قوله ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ فيه احتمالان أحدهما أن يكون التقدير ذلك هو الفضل من الله ويكون المعنى أن ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل من الله وأن ما سواه فليس بشيء والثاني أن يكون التقدير ذلك الفضل هو من الله أي ذلك الفضل المذكور والثواب المذكور هو من الله لا من غيره ولا شك أن الاحتمال الأول أبلغ
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفة الجزاء والتفضل وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً
واعلم أنه تعالى عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد الذي تقدم لانه أشق الطاعات ولأنه أعظم الامور التي بها يحصل تقوية الدين فقال عَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الحذر والحذر بمعنى واحد كالاثر والاثر والمثل والمثل يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم هذا ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وقال الواحدي رحمه الله فيه قولان أحدهما المراد بالحذر ههنا السلاح والمعنى خذوا سلاحكم والسلاح يسمى حذرا أي خذوا سلاحكم وتحذروا والثاني أن يكون خُذُواْ حِذْرَكُمْ بمعنى احذروا عدوكم لأن هذا الأمر بالحذر يتضمن الامر بأخذ السلاح لأن أخذ السلاح هو الحذر من العدو فالتأويل أيضا يعود إلى الأول فعلى القول الاول الأمر مصرح بأخذ السلاح وعلى القول الثاني أخذ السلاح مدلول عليه بفحوى الكلام
المسألة الثانية لقائل أن يقول ذلك الذي أمر الله تعالى بالحذر عنه ان كان مقتضى الوجود لم ينفع الحذر وان كان مقتضى العدم لا حاجة إلى الحذر فعلى التقديرين الامر بالحذر عبث وعنه عليه الصلاة والسلام قال ( المقدور كائن والهم فضل ) وقيل أيضا الحذر لا يغني من القدر فنقول ان صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع فانه يقال إن كان الانسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الايمان وان كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الايمان والطاعة فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الامر بالحذر أيضا داخلا في القدر فكان قول القائل أي فائدة في الحذر كلاما متناقضا لأنه لما كان هذا الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر
المسألة الثالثة قوله فَانفِرُواْ يقال نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا للحرب واستنفر الامام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون إذا حثهم على النفير ودعاهم اليه ومثله قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإذا استنفرتم فانفروا ) والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ومنه يقال فلان لا في العير ولا في النفير وقال أصحاب العربية أصل هذا الحرف من النفور والنفار وهو الفزع يقال نفر اليه إذا فزع اليه ونفر منه إذا فزع منه وكرهه ومعنى الآية فانفروا إلى قتال عدوكم
المسألة الرابعة قال جميع أهل اللغة الثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة وأصلها من ثبيت الشيء أي جمعته ويقال أيضاً ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه وتأويله جمع محاسنه فقوله فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً معناه انفروا إلى العدو إما ثبات أي جماعات متفرقة سرية بعد سرية وإما جميعا أي مجتمعين كوكبة واحدة وهذا المعنى أراد الشاعر في قوله
طاروا اليه زرافات ووحدانا
ومثله قوله تعالى فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( البقرة 239 ) أي على أي الحالتين كنتم فصلوا
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَإِن مّنكُمْ يجب أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين ذكرهم الله بقوله عَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ واختلفوا على قولين الأول المراد منه المنافقون كانوا يثبطون الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فان قيل قوله وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ تقديره يا أيها الذين آمنوا إن منكم لمن ليبطئن فاذا كان هذا المبطىء منافقا فكيف جعل المنافق قسما من المؤمن في قوله وَإِن مّنكُمْ
والجواب من وجوه الأول أنه تعالى جعل المنافق من المؤمنين من حيث الجنس والنسب والاختلاط الثاني أنه تعالى جعلهم من المؤمنين بحسب الظاهر لأنهم كانوا في الظاهر متشبهين بأهل الايمان الثالث كأنه قيل يا أيها الذين آمنوا في زعمكم ودعواكم كقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 )
القول الثاني أن هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المؤمنين وهو اختيار جماعة من المفسرين قالوا والتبطئة بمعنى الابطاء أيضاً وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه وحكى أهل اللغة أن العرب تقول ما
أبطأ بك يا فلان عنا وإدخالهم الباء يدل على أنه في نفسه غير متعد فعلى هذا معنى الآية أن فيهم من يبطىء عن هذا الغرض ويتثاقل عن هذا الجهاد فاذا ظفر المسلمون تمنوا أن يكونوا معهم ليأخذوا الغنيمة وان أصابتهم مصيبة سرهم أن كانوا متخلفين قال وهؤلاء هم الذين أرادهم الله بقوله الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ قال والذي يدل على أن المراد بقوله لَّيُبَطّئَنَّ الابطاء منهم لا تثبيط غيرهم ما حكاه تعالى من قولهم مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ عند الغنيمة ولو كان المراد منه تثبيط الغير لم يكن لهذا الكلام معنى وطعن القاضي في هذا القول وقال انه تعالى حكى عن هؤلاء المبطئين أنهم يقولون عند مصيبة المؤمنين قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً فيعد قعوده عن القتال نعمة من الله تعالى ومثل هذا الكلام انما يليق بالمنافقين لا بالمؤمنين وأيضا لا يليق بالمؤمنين أن يقال لهم كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ يعني الرسول مَّوَدَّة َ فثبت أنه لا يمكن حمله على المؤمنين وإنما يمكن حمله على المنافقين ثم قال فان حمل على أنه من الابطاء والتثاقل صح في المنافقين لأنهم كانوا يتأخرون عن الجهاد ويتثاقلون ولا يسرعون إليه وإن حمل على تثبيط الغير صح أيضا فيهم فقد كان يثبطون كثيراً من المؤمنين بما يوردون عليهم من أنواع التلبيس فكلا الوصفين موجود في المنافقين وأكثر المفسرين حمله على تثبيط الغير فكأنهم فصلوا بين أبطأ وبطأ فجعلوا الأول لازما والثاني متعدياً كما يقال في أحب وحب فان الأول لازم والثاني متعد
المسألة الثانية قال الزجاج ( من ) في قوله لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ موصولة بالحال للقسم كأن هذا لو كان كلاما لك لقلت إن منكم لمن حلف بالله ليبطئن
ثم قال تعالى فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ يعني من القتل والانهزام وجهد من العيش يعني لم أكن معهم شهيداً حاضراً حتى يصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله من ظفر وغنيمة ليقولن كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى لَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كَأَن لَّمْ تَكُنْ بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة والباقون بالياء لتقدم الفعل قال الواحدي وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل قال قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وقال في آية أخرى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 ) فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل
المسألة الثانية قرأ الحسن لَّيَقُولَنَّ بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى ( من ) لأن قوله لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ في معنى الجماعة إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن ( من ) وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ وجانب الافراد قد ترجح في قوله قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ ( النساء 72 ) وفي قوله مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لو كان التنزيل هكذا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا فكيف وقع قوله كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ في البين
وجوابه أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن بيانه أنه تعالى حكى عن هذا المنافق أنه إذا
وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم ولو فازوا بغنيمة ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الانسان إلا في حق الأجنبي العدو لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه فاما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ثم أراد أين يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ والمراد التعجب كأنه تعالى يقول انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أنها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا فهذا هو المراد من الكلام وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن
فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَة ِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذم المبطئين في الجهاد عاد إلى الترغيب فيه فقال فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وللمفسرين في قوله يَشْرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وجهان الأول أن يَشْرُونَ معناه يبيعون قال ابن مفرغ
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
قال وبرد هو غلامه وشربته بمعنى بعته وتمنى الموت بعد بيعه فكان معنى الآية فليقاتل في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إلى قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ
والقول الثاني معنى قوله يَشْرُونَ أي يشرتون قالوا والمخاطبون بهذا الخطاب هم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد وتقرير الكلام فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف تقديره آمنوا ثم قاتلوا لاستحالة حصول الأمر بشرائع الإسلام قبل حصول الإسلام وعندي في الآية احتمالات أخرى أحدها أن الانسان لما أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه بها فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله بطيبة النفس وثانيها أنه تعالى أمر بالقتال مقرونا ببيان فساد ما لأجله يترك الانسان القتال فان من ترك القتال فانما يتركه رغبة في الحياة الدنيا وذلك يوجب فوات سعادة الآخرة فكأنه قيل له اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي وثالثها كأنه قيل الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة إنما رجحوا الحياة الدنيا على الآخرة إذا كانت مقرونة بالسعادة والغبطة والكرامة واذا كان كذلك فليقاتلوا فانهم بالمقاتلة يفوزون بالغبطة والكرامة في الدنيا لأنهم بالمقاتلة يستولون على الأعداء ويفوزون بالأموال فهذه وجوه خطرت بالبال والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى من يقاتل في سبيل الله فسواء صار مقتولا للكفار أو صار غالبا للكفار فسوف نؤتيه أجرا عظيما وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم ومعلوم أنه لا واسطة بين هاتين الحالتين فاذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن عمل أشرف من الجهاد وهذا يدل على أن المجاهد لا بد وأن يوطن نفسه على أنه لا بد من أحد أمرين إما أن يقتله العدو وإما أن يغلب العدو ويقهره فانه إذا عزم على ذلك لم يفر عن الخصم ولم يحجم عن المحاربة فأما إذا دخل لا على هذا العزم فما أسرع ما يقع في الفرار فهذا معنى ما ذكره الله تعالى من التقسيم في قوله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً
اعمل أن المراد منه إنكاره تعالى لتركهم القتال فصار ذلك توكيدا لما تقدم من الأمر بالجهاد وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ يدل على أن الجهاد واجب ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف فهذا حث شديد على القتال وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ انكار عليهم في ترك القتال وبيان أنه لا عذر لهم ألبتة في تركه ولو كان فعل العبد بخلق الله لبطل هذا الكلام لأن من أعظم العذر أن الله ما خلقه وما أراده وما قضى به وجوابه مذكور
المسألة الثالثة اتفقوا على أن قوله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ متصل بما قبله وفيه وجهان أحدهما أن يكون عطفا على السبيل والمعنى مالكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين والثاني أن يكون معطوفا على اسم الله عز وجل أي في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين
المسألة الرابعة المراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان
المسألة الخامسة الولدان جمع الولد ونظيره مما جاء على فعل وفعلان نحو حزب وحزبان
وورك ووركان كذلك ولد وولدان قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الاحرار والحرائر وبالولدان العبيد والاماء لأن العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلا أنه جعل ههنا الولدان جمعا للذكور والاناث تغليبا للذكور على الاناث كما يقال آباء وإخوة والله أعلم
المسألة السادسة إنما ذكر الله الولدان مبالغة في شرح ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم بمكانهم ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما وردت السنة باخراجهم في الاستسقاء ثم حكى تعالى عن هؤلاء المستضعفين أنهم كانوا يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد امن هذه القرية الظالم أهلها مكة وكون أهلها موصوفين بالظلم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا مشركين قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأن يكون لأجل أنهم كانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره
المسألة الثانية لقائل أن يقول القرية مؤنثة وقوله الظَّالِمِ أَهْلُهَا صفة للقرية ولذلك خفض فكان ينبغي أن يقال الظالمة أهلها وجوابه أن النحويين يسمون مثل هذه الصفة الصفة المشبهة باسم الفاعل والأصل في هذا الباب أنك إذا أدخلت الألف واللام في الأخير أجريته على الأول في تذكيره وتأنيثه نحو قولك مررت بامرأة حسنة الزوج كريمة الأب ومررت برجل جميل الجارية واذا لم تدخل الألف واللام في الأخير حملته على الثاني في تذكيره وتأنيثه كقولك مررت بامرأة كريم أبوها ومن هذا قوله تعالى أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ولو أدخلت الألف واللام على الأهل لقلت من هذه القرية الظالمة الأهل وإنما جاز أن يكون الظالم نعتا للقرية لأنه صفة للأهل والأهل منتسبون إلى القرية وهذا القدر كاف في صحة الوصف كقولك مررت برجل قائم أبوه فالقيام للأب وقد جعلته وصفا للرجل وإنما كان هذا القدر كافيا في صحة الوصف لأن المقصود من الوصف التخصيص والتمييز وهذا المقصود حاصل من مثل هذا الوصف والله أعلم
المسألة الثانية في قوله وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً قولان فالأول قال ابن عباس يريدون اجعل علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا فأجاب الله تعالى دعاءهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميراً لهم فكان الولي هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان النصير عتاب بن أسيد وكان عتاب ينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز الثاني المراد واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة والحاصل كن أنت لنا وليا وناصرا
الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ
أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً
واعلم أنه تعالى لما بين وجوب الجهاد بين أنه لا عبرة بصورة الجهاد بل العبرة بالقصد والداعي فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت وهذه الآية كالدلالة على أن كل من كان غرضه في فعله رضا غير الله فهو في سبيل الطاغوت لأنه تعالى لما ذكر هذه القسمة وهي أن القتال إما أن يكون في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت وجب أن يكون ما سوى الله طاغوتا ثم إنه تعالى أمر المقاتلين في سبيل الله بأن يقاتلوا أولياء الشيطان وبين أن كيد الشيطان كان ضعيفا لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وان كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة وأما الملوك والجبابرة فاذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه يقال كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه وفائدة إدخال ( كان ) في قوله كَانَ ضَعِيفاً للتأكيد لضعف كيده يعني أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَة ِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين فيه قولان الأول أن الآية نزلت في المؤمنين قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يهاجروا إلى المدينة ويلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفوا أيديكم فاني لم أومر بقتالهم واشتغلوا باقامة دينكم من الصلاة والزكاة فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية واحتج الذاهبون إلى هذا القول بان الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال والراغبون في القتال هم المؤمنون فدل هذا على أن الآية نازلة في حق المؤمنين ويمكن الجواب عنه بأن المنافقين كانوا يظهرون من أنفسهم انا مؤمنون وانا نريد قتال الكفار ومحاربتهم فلما أمر الله بقتالهم الكفار أحجم المنافقون عنه وظهر منهم خلاف ما كانوا يقولونه
القول الثاني أن الآية نازلة في حق المنافقين واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على
أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين فالأول أنه تعالى قال في وصفهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَة ِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً ( النساء 77 ) ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله تعالى والثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار والمنافقين الثالث أنه تعالى قال للرسول قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة وذلك من صفات المنافقين
وأجاب القائلون بالقول الأول عن هذه الوجوه بحرف واحد وهو أن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع فالخشية المذكورة في هذه الآية محمولة على هذا المعنى وقولهم لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ محمول على التمني لتخفيف التكليف لا على وجه الانكار لايجاب الله تعالى وقوله تعالى قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ مذكور لا لأن القوم كانوا منكرين لذلك بل لأجل إسماع الله لهم هذا الكلام مما يهون على القلب أمر هذه الحياة فحينئذ يزول من قلبهم نفرة القتال وحب الحياة ويقدمون على الجهاد بقلب قوي فهذا ما في تقرير هذين القوين والله أعلم والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( النساء 78 ) ولا شك أن من هذا كلام المنافقين فاذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا
المسألة الثانية دلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد وهذا هو الترتيب المطابق لما في العقول لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله ولا شك أنهما مقدمان على الجهاد
المسألة الثالثة قوله كَخَشْيَة ِ اللَّهِ مصدر مضاف إلى المفعول
المسألة الرابعة ظاهر قوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً يوهم الشك وذلك على علام الغيوب محال وفيه وجوه من التأويل الأول المراد منه الابهام على المخاطب بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة وذلك لأن كل خوفين فأحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد فبين تعالى بهذه الآية أن خوفهم من الناس ليس أنقص من خوفهم من الله بل بقي إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه بل يوجب إبقاء الابهام في هذين القسمين على المخاطب الثاني أن يكون ( أو ) بمعنى الواو والتقدير يخشونهم كخشية الله وأشد خشية وليس بين هذين القسمين منافاة لأن من هو أشد خشية فمعه من الخشية مثل خشيته من الله وزيادة الثالث أن هذا نظير قوله وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) يعني أن من يبصرهم يقول هذا الكلام فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله لكن جزعا من الموت وحبا للحياة وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم
فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه ثم قالوا لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهذا كالعلة لكراهتهم لايجاب القتال عليهم أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى وإنما قلنا إن الآخرة خير لوجود الأول ان نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة والثاني ان نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة والثالث أن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ونعم الآخرة صافية عن الكدرات والرابع أن نعم الدنيا مشكوكة فان أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني ونعم الآخرة يقينية وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله لِمَنِ اتَّقَى وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
ثم قال تعالى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يَظْلِمُونَ بالياء على أنه راجع إلى المذكورين في قوله الم تَرَى إِلَى الَّذِينَ قِيلَ والباقون بالتاء على سبيل الخطاب ويؤيد التاء قوله قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ فان قوله قُلْ يفيد الخطاب
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أنهم يستحقون على طاعتهم الثواب وإلا لما تحقق نفي الظلم وتدل على أنه تعالى يصح منه الظلم وإن كنا نقطع بأنه لا يفعل وإلا لما صح التمدح به
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة وهو ما تفتله بيدك ثم تلقيه احتقاراً وقد مضى الكلام فيه
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة ٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَاؤُلا ءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
والمقصود من هذا الكلام تبكيت من حكى عنهم أنهم عند فرض القتال يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فقال تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ فبين تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة فاذا كان لا بد من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك ونظير هذه الآية قوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( الأحزاب 16 ) والبروج في كلام العرب هي القصور والحصون وأصلها في اللغة من الظهور يقال تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها والمشيدة المرتفعة وقرىء مُّشَيَّدَة ٍ قال صاحب ( الكشاف ) من شاد إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص وقرأ نعيم بن ميسرة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازا كما قالوا قصيدة شاعرة وإنما الشاعر قائلها
قوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد خائقين من الموت غير راغبين في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى وفي النظم وجه آخر وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فان أصابوا واحدة وغنيمة راحة قالوا هذه من عند الله وإن أصابهم مكروه قالوا هذا من شؤم مصاحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها الأول قال المفسرون كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء فعند هذا قال اليهود والمنافقون ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم فقوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله تعالى فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( الأعراف 131 ) وعن قوم صالح قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ
القول الثاني المراد من الحسنة النصر على الاعداء والغنيمة ومن السيئة القتل والهزيمة قال القاضي والقول الأول هو المعتبر لأن اضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله وأقول القول كما قال على مذهبه أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره
المسألة الثانية اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( الأعراف 168 ) وقال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يفيد العموم في كل الحسنات وكذلك قوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يفيد العموم في كل السيئات ثم قال بعد ذلك قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله وهو المطلوب
فان قيل المراد ههنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية ويدل عليه وجوه الأول اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما الثاني أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني إنما يقال أصبتها وليس في كلام العرب أصابت فلانا حسنة بمعنى عمل خيرا أو أصابته سيئة بمعنى عمل معصية فعلى هذا لو كان المراد ما ذكرتم لقال ان أصبتم حسنة الثالث لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعة وعلى المنفعة وههنا أجمع المفسرون على أن المنفعة
مرادة فيمتنع كون الطاعة مرادة ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا
فالجواب عن الأول أنكم تسلمون أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ
والجواب عن الثاني أنه يصح أن يقال أصابني توفيق من الله وعون من الله وأصابه خذلان من الله ويكون مراده من ذلك التوفيق والعون تلك الطاعة ومن الخذلان تلك المعصية
والجواب عن الثالث أن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة فان كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة وإن كان منتفعا به في الدنيا فهو السعادة الحاضرة فاسم الحسنة بالنسبة إلى هذين القسمين متواطىء الاشتراك فزال السؤال فثبت أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه ومما يدل على أن المراد ليس إلا ذاك ما ثبت في بدائه العقول أن كل موجود فهو إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى والممكن لذاته كل ما سواه فالممكن لذاته إن استغنى عن المؤثر فسد الاستدلال بجواز العالم وحدوثه على وجود الصانع وحينئذ يلزم نفي الصانع وإن كان الممكن لذاته محتاجا إلى المؤثر فاذا كان كل ما سوى الله ممكنا كان كل ما سوى الله مستنداً إلى الله وهذا الحكم لا يختلف بأن يكون ذلك الممكن ملكا أو جمادا أو فعلا للحيوان أو صفة للنبات فان الحكم لاستناد الممكن لذاته إلى الواجب لذاته لما بينا من كونه ممكنا كان الكل فيه على السوية وهذا برهان أوضح وأبين من قرص الشمس على أن الحق ما ذكره تعالى وهو قوله قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ
ثم قال تعالى فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى انه لما كان البرهان الدال على أن كل ما سوى الله مستنداً إلى الله على الوجه الذي لخصانه في غاية الظهور والجلاء قال تعالى فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وهذا يجري مجرى التعجب من عدم وقوفهم على صحة هذا الكلام مع ظهوره قالت المعتزلة بل هذه الآية دالة على صحة قولنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق هذا التعجب معنى ألبتة لأن السبب في عدم حصول هذه المعرفة هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها وذلك يبطل هذا التعجب فحصول هذا التعجب يدل على أنه إنما تحصل بايجاد العبد لا بايجاد الله تعالى
واعلم أن هذا الكلام ليس إلا التمسك بطريقة المدح والذم وقد ذكرنا أنها معارضة بالعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة أجمع المفسرون على أن المراد من قوله لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أنهم لا يفقهون هذه الآية المذكورة في هذا الموضع وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث والحديث فعيل بمعنى مفعول فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا
والجواب مرادكم بالقرآن ليس إلا هذه العبارات ونحن لا ننازع في كونها محدثة
المسألة الثالثة الفقه الفهم يقال أوتى فلانا فقها ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لابن عباس ( فقهه في التأويل ) أي فهمه
مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
قال أبو علي الجبائي قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة وتارة يقع على الذنب والمعصية ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( النساء 78 ) وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) فلا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين قال وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرؤا فَمَنْ فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن
فان قيل فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم
قلنا لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فانما وصل اليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الاضافة إليه وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع
ونحن نقول هذه الآية دالة على أن الايمان حصل بتخليق الله تعالى والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية
إنما قلنا إن الآية دالة على ذلك لأن الايمان حسنة وكل حسنة فمن الله
إنما قلنا إن الايمان حسنة لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح ولا شك أن الايمان كذلك فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله رَّحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( فصلت 33 ) المراد به كلمة الشهادة وقيل في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) قيل هو لا إله إلا الله فثبت أن الايمان حسنة وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النساء 79 ) وقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ يفيد العموم في جميع الحسنات ثم حكم على كلها بأنها من الله فيلزم من هاتين المقدمتين أعني أن الايمان حسنة وكل حسنة من الله القطع بأن الايمان من الله
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الايمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر
قلنا جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الايمان والكفر عندكم ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الايمان ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الايمان فكان الايمان منقطعا عن الله في كل الوجوه فكان هذا مناقضا لقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ فثبت بدلالة هذه الآية أن الايمان من الله والخصوم لا
يقولون به فصاروا محجوجين في هذه المسألة ثم إذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله
قلنا فيه وجوه الأول أن كل من قال الايمان من الله قال الكفر من الله فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لاجماع الأمة الثاني أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لايجاد الكفر إما أن تكون صالحة لايجاد الايمان أو لا تكون فان كانت صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه وإن لم تكن صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده وذلك عندهم محال ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور وذلك يمنع من كونه قادرا عليه فثبت أنه لما لم يكن الايمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه الثالث أنه لما لم يكن العبد موجدا للايمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى وذلك لأن المستقل بايجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الايمان والمعرفة والحق وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ فاذا كان العبد موجداً لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق فاذا كان الايمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى والحاصل أن الشبهة في أن الايمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته فلما بين تعالى في الايمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا
أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ
فالجواب عنه من وجهين الأول أنه تعالى قال حكاية عن ابراهيم عليه السلام وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( الشعراء 80 ) أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب فكذا ههنا فانه يقال يا مدبر السموات والأرض ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس فكذا ههنا الثاني أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول ابراهيم هَاذَا رَبّى أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الانكار كأنه قال أهذا ربي فكذا ههنا كأنه قيل الايمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه بل من الله فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به ألبتة أفيدخل في العقل أن يقال إنه وقع به فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الايمان والسيئة يدخل فيها الكفر أما قراءة من قرأ فَمَنْ فنقول إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الانكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الانكار هذا الكلام لأنه لما أضاف السيئة اليهم في معرض الاستفهام على سبيل الانكار كان المراد أنها غير مضافة اليهم فذكر هذا القائل قوله فَمَنْ ( النساء 79 ) لا على اعتقاد أنه من القرآن بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا إنه استفهام على سبيل الانكار ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله تعالى بعد هذه الآية نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً يعني ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفَى بِاللَّهِ
شَهِيداً ( النساء 166 ) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله ونظيره قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء وقوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) فهذا جملة ما خطر بالبال في هذه الآية والله أعلم بأسرار كلامه
ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا فان من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فان أحداً من الخلق لا يقدر على إرشاده
واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا فانك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين في مجلس واحد ثم إن أحدهما يزداد إيماناً على إيمان عند سماعه والآخر يزداد كفراً على كفر عند سماعه ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محباً فمن تأمل للبرهان القاطع الذي ذكرناه في أنه لا بد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذي ذكرناه ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل في قلبه هذا الاعتقاد عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله فَاتَّبَعُوهُ ( الأنعام 153 155 ) والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير فكان الآتي بمثل ذلك الفعل مطيعاً لله في قوله فَاتَّبَعُوهُ فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وفي جميع أفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة لله وانقياد لحكم الله
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في باب فرض الطاعة للرسول ان قوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله هذا معنى كلام الشافعي
المسألة الثالثة قوله مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدل على أنه لا طاعة إلا لله ألبتة وذلك لأن طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو فيه رسول لا تكون إلا طاعة لله فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله قال مقاتل في هذه الآية ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله ) فقال المنافقون لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهي أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية
واعلم أنا بينا كيفية دلالة الآية على أنه لا طاعة ألبتة للرسول وإنما الطاعة لله أما قوله وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ففيه قولان أحدهما أن المراد من التولي هو التولي بالقلب يعني يا محمد حكمك على الظواهر أما البواطن فلا تتعرض لها والثاني أن المراد به التولي بالظاهر ثم ههنا ففي قوله فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً قولان الأول معناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولي وأن تحزن فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عليه الصلاة والسلام عن ذلك الحزن الثاني أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك لتولى وهو كقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة 256 ) ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد
وَيَقُولُونَ طَاعَة ٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء طَاعَة ٌ بالرفع أي أمرنا وشأننا طاعة ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة وهذا كما إذا قال الرجل المطيع المنقاد سمعا وطاعة وسمع وطاعة قال سيبويه سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال لهم كيف أصبحت فيقول حمدالله وثناء عليه كأنه قال أمرى وشأني حمدا لله
واعلم أن النصب يدل على مجرد الفعل وأما الرفع فانه يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ أي خرجوا من عندك بَيَّتَ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كل أمر تفكروا فيه كثيراً وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيراً قيل هذا أمر مبيت قال تعالى إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ( النساء 108 ) وفي اشتقاقه وجهان الأول اشتقاقه من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الانسان في بيته بالليل فهناك تكون الخواطر أخلى والشواغل أقل فلما كان الغالب أن الانسان وقت الليل يكون في البيت والغالب له أنه إنما يستقصي في الأفكار في الليل لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا الثاني اشتقاقه من بيت الشعر قال الأخفش العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا تشبيها له ببيت الشعر من حيث أنه يسوى ويدبر
المسألة الثانية أنه تعالى خص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت وفي هذا التخصيص وجهان أحدهما أنه تعالى ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فانه لم يذكرهم والثاني أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طَائِفَة ٌ بادغام التاء في الطاء والباقون بالاظهار أما من أدغم فله فيه وجهان الأول قال الفراء جزموا لكثرة الحركات فلما سكنت التاء أدغمت في الطاء والثاني أن الطاء والدال والتاء من حيز واحد فالتقارب الذي بينها يجريها مجرى الأمثال في الادغام ومما يحسن هذا الادغام أن الطاء تزيد على التاء بالاطباق فحسن إدغام الأنقص صوتاً في الأزيد صوتاً أما من لم يدغم فعلته أنهما حرفان من مخرجين في كلمتين متفاصلتين فوجب إبقاء كل واحد منهما بحاله
المسألة الرابعة قال بَيَّتَ بالتذكير ولم يقل بيتت بالتأنيث لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي ولأنها في معنى الفريق والفوج قال صاحب ( الكشاف ) بَيَّتَ طَائِفَة ٌ أي زورت وزينت خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ ذكر الزجاج فيه وجهين أحدهما أن معناه ينزل اليك في كتابه والثاني يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به
ثم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ والمعنى لا تهتك سترهم ولا تفضحهم ولا تذكرهم بأسمائهم وإنما أمر الله بستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام ثم قال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فان الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لمن توكل عليه قال المفسرون كان الأمر بالاعراض عن المنافقين في ابتداء الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ( التوبة 73 التحريم 9 ) وهذا الكلام فيه نظر لأن الأمر بالصفح مطلق فلا يفيد إلا المرة الواحدة فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة نبوته فقال أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها ومنه قوله إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها ويقال في فصيح الكلام لو استقبلت من أمري ما استدبرت أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذ لو
تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها ألبتة والعلماء قالوا دلالة القرآن على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ثلاثة أوجه أولها فصاحته وثانيها اشتماله على الاخبار عن الغيوب والثالث سلامته عن الاختلاف وهذا هو المذكور في هذه الآية ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه الأول قال أبو بكر الأصم معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد والله تعالى كان يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على تلك الأحوال حالا فحالا ويخبره عنها على سبيل التفصيل وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق فقيل لهم إن ذلك لو لم يحصل باخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه ولظهر في قول محمد أنواع الاختلاف والتفاوت فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا باعلام الله تعالى والثاني وهو الذي ذهب اليه أكثر المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله
فان قيل أليس أن قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 23 ) كالمناقض لقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) كالمناقض لقوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 )
قلنا قد شرحنا في هذا التفسير أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها ألبتة
الوجه الثالث في تفسير قولنا القرآن سليم عن الاختلاف ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد ومن المعلوم أن الانسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة فاذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكبيرة فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه لمعجز من عند الله تعالى وضرب القاضي لهذا مثلا فقال ان الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خلل ونقصان حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الاعجاز فكذا ههنا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والامام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك
المسألة الرابعة دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال وعلى القول بفساد التقليد لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته واذا كان لا بد في صحة نبوته من الاستدلال فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى
المسألة الخامسة قال أبو علي الجبائي دلت الآية على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى لأن قوله
تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً يقتضي أن فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والاختلاف والتفاوت شيء واحد فاذا كان فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والتفاوت وفعل الله لا يوجد فيه التفاوت لقوله تعالى مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) فهذا يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله
والجواب أن قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ معناه نفي التفاوت في أنه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره فان فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الاطلاق
وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاٌّ مْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه وكان ذلك سبب الضرر من وجوه الأول أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير والثاني أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة فاذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول عليه السلام لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه
الوجه الثالث وهو أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام وذلك سبب لظهور الأسرار وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة الرابع أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه فكل ما كان آمناً لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني فان وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار فأخذوا في التحصن من المسلمين وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين فظهر من هذا أن ذلك الارجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الاذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه
واعلم أن قوله أذاعه به لغتان
ثم قال تعالى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في أُوْلِى الاْمْرِ قولان أحدهما إلى ذوي العلم والرأي منهم والثاني إلى أمراء السرايا وهؤلاء رجحوا هذا القول على الأول قالوا لأن أولي الأمر الذين لهم أمر على الناس وأهل العلم ليسوا كذلك إنما الأمراء هم الموصوفون بأن لهم أمراً على الناس
وأجيب عنه بأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر الله ونواهيه وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه والذي يدل عليه قوله تعالى لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( التوبة 122 ) فأوجب الحذر بانذراهم وألزم المنذرين قبول قولهم فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم
المسألة الثانية الاستنباط في اللغة الاستخراج يقال استنبط الفقيه إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض
المسألة الثالثة في قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قولان الأول أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون والتقدير ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر
القول الثاني أنهم طائفة من أولي الأمر والتقدير ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر وذلك لأن أولي الأمر فريقان بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك فقوله مِنْهُمْ يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر
فان قيل إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ
قلنا إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون ونظيره قوله تعالى وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ وقوله مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ والله أعلم
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع وذلك لأن قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ صفة لأولي الأمر وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ولا يخلوا إما أن يرجعوا اليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها أولا مع حصول النص فيها والأول باطل لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال إنه استنبط الحكم فثبت أن الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك فثبت أن الاستنباط حجة والقياس إما استنباط أو داخل فيه فوجب أن يكون حجة إذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على أمور أحدها أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط وثانيها أن الاستنباط حجة وثالثها أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ورابعها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر
ثم قال تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط
فان قيل لا نسلم أن المراد بقوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ هم أولوا الأمر بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها فلم قلتم إنه يلزم جوازه في الوقائع الشرعية فان قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية فلم قلتم إنه يلزم أيكون القياس حجة بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الاصلية أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الاكثرون ان الاصل في المنافع الاباحة وفي المضار الحرمة سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيداً للعلم بدليل قوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فاخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم من هذا الاستنباط ولا نزاع في مثل هذا القياس انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا والجواب
أما في السؤال الأول فمدفوع لانه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه لأن عطف المظهر على المضمر وهو قوله وَلَوْ رَدُّوهُ قبيح مستكره
وأما السؤال الثاني فمدفوع لوجهين الأول أن قوله وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ النساء 83 ) عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية لأن الامن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف فثبت انه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بامر الحروب الثاني هب أن الامر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت اليه فكذا ههنا
وأما السؤال الثالث وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا قوله لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الاصلية قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان ومثل هذا لا يسمى استنباطا ألبتة
وأما السؤال الرابع وهو قوله ان هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم والقياس الشرعي لا يفيد العلم
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول ان القياس الشرعي عندنا يفيد العلم وذلك لان بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بانه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الاصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الاصل وعند هذا
الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم وأما الحكم فمقطوع به وهو يجري مجرى ما إذا قال الله مهما غلب على ظنك كذا فاعلم ان في الواقعة الفلانية حكمي كذا فاذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم والثاني وهو ان العلم قد يطلق ويراد به الظن قال عليه الصلاة والسلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) شرط العلم في جواز الشهادة وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى ان ظاهر هذا الاستنثاء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ومعلوم ان ذلك محال فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها قال بعضهم هذا الاستثناء راجع إلى قوله أَذَاعُواْ وقال قوم راجع إلى قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ وقال آخرون إنه راجع إلى قوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للاخبار عن هذه الأحكام الثلاثة ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل
أما القول الأول فالتقدير وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الاذاعة كما أخرجهم في قوله بَيَّتَ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ النّسَاء
والقول الثاني الاستنثاء عائد إلى قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل قال الفراء والمبرد القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك قال الزجاج هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والاراجيف أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد
القول الثالث انه متعلق بقوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه
واعلم أن هذا القول لا يتمشى الا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص وفيه وجهان الأول وهو قول جماعة من المفسرين أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والتقدير ولولا بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله الا قليلا منكم فان ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان وما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وهم الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الوجه الثاني ما ذكره أبو مسلم وهو أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( النساء 73 ) فبين تعالى أنه لولا حصول النصر
والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين الا اقليل منكم وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا بل الامر في كونه حقا وباطلا على الدليل وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق
المسألة الثانية دلت الآية على أن الذين اتبعوا الشيطان فقد منعهم الله فضله ورحمته والا ما كان يتبع وهذا يدل على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله رعاية الاصلح في الدين أجاب الكعبي عنه بأن فضل الله ورحمته عامان في حق الكل لكن المؤمنين انتفعوا به والكافرين لم ينتفعوا به فصح على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافر من الله فضل ورحمة في الدين
والجواب أن حمل اللفظ على المجاز خلاف الاصل
فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً
اعلم انه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد عاد في هذه الآية إلى الامر بالجهاد فقال فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَقَاتِلْ بماذا تتعلق فيه وجوه الأول أنها جواب لقوله وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ ( النساء 74 ) من طريق المعنى لأنه يدل على معنى ان أردت الفوز فقاتل الثاني أن يكون متصلا بقوله وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 75 ) فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 84 ) والثالث أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم بل قاتل
المسألة الثانية دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت هذه الآية فخرج وما معه الا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد ولو لم يتبعوه لخرج وحده
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو ( صلى الله عليه وسلم ) موصوف بهذه الصفات ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن علم ان الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه
ثم قال تعالى لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لاَ تُكَلَّفُ بالجزم على النهي و لاَ نُكَلّفُ بالنون وكسر اللام أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله انتصاب قوله نَّفْسَكَ على مفعول ما لم يسم فاعله
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد البتة والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك فاذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك
واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول عليه السلام من فروض الكفايات فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام فانه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وبدليل قوله ههنا عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ و ( عسى ) من الله جزم فلزمه الجهاد وان كان وحده
ثم قال تعالى وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ والمعنى ان الواجب على الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد فان أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء
ثم قال عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى عسى حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع وذلك على الله تعالى محال
والجواب عنه ان ( عسى ) معناها الاطماع وليس في الاطماع أنه شك أو يقين وقال بعضهم إطماع الكريم إيجاب
المسألة الثانية الكف المنع والبأس أصله المكروه يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) أي مكروه ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي مكروه والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها قال تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 9 ) فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( الأنبياء 12 ) قال المفسرون عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا وقد كف بأسهم فقد بدا لأبي سفيان وقال هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق فترك الذهاب إلى محاربة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً يقال نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله من قولهم نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع منه قال تعالى فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ( البقرة 66 ) وقال في السرقة بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) ويقال نكل فلان عن اليمين إذا خافه ولم يقدم عليه
إذا عرفت هذا فنقول الآية دالة على أن عذاب الله وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير الله لا يكون دائما وعذاب الله دائم في الآخرة وعذاب غير الله قد يخلص الله منه وعذاب الله لا يقدر أحد على التخلص منه وأيضاً عذاب غير الله لا يكون إلا من وجه واحد وعذاب الله قد يصل إلى جميع الأجزاء والابعاض والروح والبدن
مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً حَسَنَة ً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً سَيِّئَة ً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ مُّقِيتاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها الأول أن الله تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يحرض الأمة على الجهاد والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة فكان تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها والغرض منه بيان أنه عليه الصلاة والسلام لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما الثاني أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير فكأنه تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام حرضهم على الجهاد فان لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب فكان هذا ترغيبا من الله لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد والسبب في أنه عليه الصلاة والسلام كان يرجع اليه عند طاعتهم أجر عظيم وما كان يرجع اليه من معصيتهم شيء من الوزر هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم ألبتة في المعصية فلا جرم يرجع اليه من طاعتهم أجر ولا يرجع اليه من معصيتهم وزر الثالث يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو فنهى الله عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله فأما إذا كانت وسيلة الى معصيته كانت محرمة منكرة الرابع يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة فرغب الله تعالى في مثل هذه الشفاعة وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها
المسألة الثانية الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الانسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها
إذا عرفت هذا فنقول في الشفاعة المذكورة في الآية وجوه الأول أن المراد منها تحريض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم على الجهاد وذلك لأنه إذا كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد بل على سبيل الرفق والتلطف وذلك يجري مجرى الشفاعة الثاني أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين
كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسوله عليه الصلاة والسلام في التخلف عن الجهاد أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد الثالث نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم الرابع قال مقاتل الشفاعة إلى الله إنما تكون بالدعاء واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك ) فهذا هو النصيب وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا السام عليكم والسام هو الموت فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت عليكم السام واللعنة أتقولون هذا للرسولا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم فنزلت هذه الآية الخامس قال الحسن ومجاهدي والكلبي وابن زيد المراد هو الشفاعة التي بين الناس بعضهم لبعض فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة ثم قال الحسن من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر وإن لم يشفع لأن الله تعالى يقول مَّن يَشْفَعْ ولم يقل ومن يشفع ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ( اشفعوا تؤجروا )
وأقول هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فان كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ
المسألة الثالثة قال أهل اللغة الكفل هو الحظ ومنه قوله تعالى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ( الحديد 28 ) أي حظين وهو مأخوذ من قولهم كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه وإنما قيل كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر وإنما استعمل نصيبا من الظهر قال ابن المظفر لا يقال هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله وكذا القول في النصيب فان أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب
فان قيل لم قال في الشفاعة الحسنة يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وقال في الشفاعة السيئة يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة
قلنا الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به ويقال للضامن كفيل وقال عليه الصلاة والسلام ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الانسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه إذا ثبت هذا فنقول وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً سَيّئَة ً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده والمقصود حصول ضد ذلك فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقِيتاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المقيت قولان الأول المقيت القادر على الشيء وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على إساءته مقيتا
وقال آخر
ليت شعري وأشعرن إذا ما قربوها منشورة ودعيت
إلي الفضل أم علي إذا حو سبت اني على الحساب مقيت
وأنشد النضر بن شميل
تجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة فاني على ما ساءهم لمقيت
الثاني المقيت مشتق من القوت يقال قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته واسم ذلك الشيء هو القوت وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة ثم قال القفال رحمه الله وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه
المسألة الثانية انما قال وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقِيتاً تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الازل وليست صفة محدثة فقوله كَانَ مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا يدل على أنه كان حاصلا من الازل إلى الأبد
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَسِيباً
في النظم وجهان الأول أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم ايضا بأن الاعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها فقوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا كقوله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) الثاني ان الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه فقد لا يلتفت الى سلامه عليه ويقتله وربما ظهر أنه كان مسلما فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم ان كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الاكرام يقابلونه بمثل ذلك الاكرام أو أزيد فانه ان كان كافرا لا يضر المسلم ان قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الاكرام أما ان كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التحية تفعلة من حييت وكان في الاصل تحيية مثل التوصية والتسمية والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الاربعة نحو قوله وَتَصْلِيَة ُ جَحِيمٍ ( الواقعة 94 ) فثبت أن التحية أصلها
التحيية ثم أدغموا الياء في الياء
المسألة الثانية اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا حياك الله واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام فجعلوا التحية اسما للسلام قال تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) ومنه قول المصلى التحيات لله أي السلام من الآفات لله والأشعار ناطقة بذلك قال عنترة
حييت من طلل تقادم عهده
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
وقال آخر
واعلم أن قول القائل لغيره السلام عليك أتم وأكمل من قوله حياك الله وبيانه من وجوه الأول أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة وليس إذا كان حياً كان سليما فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات فثبت أن قوله السلام عليك أتم وأكمل من قوله حياك الله الثاني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد ابقاء السلامة على عباده أكمل من قوله حياك الله الثالث أن قول الانسان لغيره السلام عليك فيه بشارة بالسلامة وقوله حياك الله لا يفيد ذلك فكان هذا أكمل ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول أما القرآن فمن وجوه الأول اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا أولها أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل ألا ترى أنه قال في وصف ذاته الملك القدوس السلام وثانيها أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا فقال قِيلَ يانُوحُ نُوحٌ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ والمراد منه أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها سلم عليك على لسان جبريل فقال تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( القدر 5 ) قال المفسرون إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقال الله لا تهتم لذلك فاني وإن أخرجتك من الدنيا إلا أني جعلت جبريل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني ورابعها سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) فاذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك وخامسها سلم عليك على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وكل من هدى الله إلى الايمان فقد اصطفاه كما قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( فاطر 32 ) وسادسها أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالسلام على سبيل المشافهة فقال وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 54 ) وسابعها أمر أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالتسليم عليك قال وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وثامنها سلم عليك على لسان ملك الموت فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ قيل إن ملك الموت يقول في أذن المسلم السلام يقرئك السلام ويقول أجبني فاني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك فاذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك الموت للبشير مني هدية ولا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك وتاسعها السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة قال تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 ) وعاشرها سلم الله عليك على لسان رضوان خاون
الجنة فقال تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً إلى قوله وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ( الزمر 73 ) والحادي عشر إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) والثاني عشر السلام من الله من غير واسطة وهو قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق
الوجه الثاني من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات وقت الابتداء ووقت الموت ووقت البعث والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فانما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( مريم 33 )
الوجه الثالث أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا السام عليك فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى فبعث الله جبريل عليه السلام وقال إن كان اليهود يقولون السام عليك فأنا أقول من سرادقات الجلال السلام عليك وأنزل قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ إلى قوله وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبدالله بن سلام قال لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت منه ( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )
وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه الأول قالوا تحية النصارى وضع اليد على الفم وتحية اليهود بعضهم لبعض الاشارة بالأصابع وتحية المجوس الانحناء وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا حياك الله وللملوك أن يقولوا أنعم صباحا وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا السلام عليك ورحمة الله وبركاته ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها الثاني أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع الثالث أن الوعد بالنفع يقدر الانسان على الوفاء به وقد لا يقدر أما الوعد بترك الضرر فانه يكون قادرا عليه لا محالة والسلام يدل عليه فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية
المسألة الثالثة من الناس من قال من دخل داراً وجب عليه أن يسلم على الحاضرين واحتج عليه بوجوه الأول قوله تعالى كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أفشوا السلام ) والأمر للوجوب الثاني أن من دخل على إنسان كان كالطالب له ثم المدخول عليه لا يعلم أنه يطلبه لخير أو لشر فاذا قال السلام عليك فقد بشره بالسلامة وآمنه من الخوف وإزالة الضرر عن المسلم واجبة قال عليه الصلاة والسلام ( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ) فوجب أن يكون السلام واجبا الثالث أن السلام من شعائر أهل الإسلام وإظهار شعائر
الاسلام واجب وأما المشهور فهو أن السلام سنة وهو قول ابن عباس والنخعي
وأما الجواب على السلام فقد أجمعوا على وجوبه ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الثاني أن ترك الجواب إهانة والاهانة ضرر والضرر حرام
المسألة الرابعة منتهى الأمر في السلام أن يقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد
واعلم أنه تعالى قال فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فقال العلماء الأحسن هو أن المسلم إذا قال السلام عليك زيد في جوابه الرحمة وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعادها في الجواب روي أن رجلا قال للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السلام عليك يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وآخر قال السلام عليك ورحمة الله فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وجاء ثالث فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال عليه الصلاة والسلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل نقصتني فأين قول الله فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إنك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت
المسألة الخامسة المبتدىء يقول السلام عليك والمجيب يقول وعليكم السلام هذا هو الترتيب الحسن والذي خطر ببالي فيه أنه إذا قال السلام عليكم كان الابتداء واقعا بذكر الله فاذا قال المجيب وعليكم السلام كان الاختتام واقعا بذكر الله وهذا يطابق قوله هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ ( الحديد 3 ) وأيضا لما وقع الابتداء والاختتام بذكر الله فانه يرجى أن يكون ما وقع بينهما يصير مقبولا ببركته كما في قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ ( هود 114 ) فلو خالف المبتدىء فقال وعليكم السلام فقد خالف السنة فالأولى للمجيب أن يقول وعليكم السلام لأن الأول لما ترك الافتتاح بذكر الله فهذا لا ينبغي أن يترك الاختتام بذكر الله
المسألة السادسة ان شاء قال سلام عليكم وان شاء قال السلام عليكم قال تعالى في حق نوح قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا ( هود 48 ) وقال عن الخليل قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقال في قصة لوط قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ( هود 69 ) وقال عن يحيى وَسَلَامٌ عَلَيْهِ وقال عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ ( النمل 59 ) وقال عن الملائكة وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) وقال عن رب العزة سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) وقال فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ ( طه 47 ) وقال عن عيسى عليه السلام وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) فثبت أن الكل جائز وأما في التحليل من الصلاة فلا بد من الألف واللام بالاتفاق واختلفوا في سائر المواضع أن التنكير أفضل أم التعريف فقيل التنكير أفضل ويدل عليه وجوه الأول أن لفظ السلام على سبيل التنكير كثير في القرآن فكان أفضل الثاني ان كل ما ورد من الله والملائكة والمؤمنين فقد ورد بلفظ التنكير على ما عددناه في الآيات وأما بالألف واللام فانما ورد في تسليم الانسان على نفسه قال موسى ( صلى الله عليه وسلم ) وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وقال عيسى عليه
الصلاة والسلام وَالسَّلَامُ عَلَى َّ ( مريم 33 ) والثالث وهو المعنى المعقول ان لفظ السلام بالألف واللام يدل على أصل الماهية والتنكير يدل على أصل الماهية مع وصف الكمال فكان هذا أولى
المسألة السابعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( السنة أن يسلم الراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والأقل على الأكثر والقائم على القاعد )
وأقول أما الأول فلوجهين أحدهما ان الراكب أكثر هيبة فسلامه يفيد زوال الخوف والثاني أن التكبر به أليق فأمر بالابتداء بالتسليم كسرا لذلك التكبر وأما أن القائم يسلم على القاعد فلأنه هو الذي وصل اليه فلا بد وأن يفتتح هذا الواصل الموصول بالخير
المسألة الثامنة السنة في السلام الجهر لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب
المسألة التاسعة السنة في السلام الافشاء والتعميم لأن في التخصيص ايحاشا
المسألة العاشرة المصافحة عند السلام عادة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال عليه الصلاة والسلام ( إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر )
المسألة الحادية عشرة قال أبو يوسف من قال لآخر اقرىء فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل
المسألة الثانية عشرة إذا استقبلك رجل واحد فقل سلام عليكم واقصد الرجل والملكين فانك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله
المسألة الثالثة عشرة إذا دخلت بيتا خاليا فسلم وفيه وجوه الأول انك تسلم من الله على نفسك والثاني انك تسلم على من فيه من مؤمني الجن والثالث أنك تطلب السلامة ببركة السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات
المسألة الرابعة عشرة السنة أن يكون المبتديى بالسلام على الطهارة وكذا المجيب روي أن واحداً سلم على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كان في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد السلام
المسألة الخامسة عشرة السنة إذا التقى إنسانان أن يبتدرا بالسلام إظهاراً للتواضع
المسألة السادسة عشرة لنذكر المواضع التي لا يسلم فيها وهي ثمانية الأول روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لا يبدأ اليهودي بالسلام وعن أبي حنيفة أنه قال لا يبدأ بالسلام في كتاب ولا في غيره وعن أبي يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل السلام على من اتبع الهدى ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن يقال وعليك والأصل فيه أنهم كانوا يقولون عند الدخول على الرسول السام عليك فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وعليكم فجرت السنة بذلك ثم ههنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم وعليكم السلام فهل يجوز ذكر الرحمة فيه قال الحسن يجوز أن يقال للكافر وعليكم السلام لكن لا يقال ورحمة الله لأنها استغفار وعن الشعبي انه قال لنصراني وعليكم السلام ورحمة الله فقيل له فيه فقال أليس في رحمة الله يعيش الثاني إذا دخل يوم الجمعة والامام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاجتماع فان سلم فرد بعضهم فلا بأس ولو اقتصروا على الاشارة كان أحسن الثالث إذا دخل الحمام فرأى الناس متزرين يسلم عليهم وإن لم يكونوا
متزرين لم يسلم عليهم الرابع الأولى ترك السلام على القارىء لأنه إذا اشتغل بالجواب يقطع عليه التلاوة وكذلك القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم الخامس لا يسلم على المشتغل بالأذان والاقامة للعلة التي ذكرناها السادس قال أبو يوسف لا يسلم على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وفي معناه كل من كان مشتغلا بنوع معصية السابع لا يسلم على من كان مشتغلا بقضاء الحاجة مر على الرسول عليه الصلاة والسلام رجل وهو يقضي حاجته فسلم عليه فقام الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الجدار فتيمم ثم رد الجواب وقال ( لولا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد الجواب لما أجبتك إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فانك إن سلمت علي لم أرد عليك ) الثامن إذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فان حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليهما
المسألة السابعة عشرة في أحكام الجواب وهي ثمانية الأول رد الجواب واجب لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ولأن ترك الجواب إهانة وضرر وحرام وعن عباس ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة الثاني رد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للاكرام ومبالغة فيه الثالث أنه واجب على الفور فان أخر حتى انقضى الوقت فان أجاب بعد فوت الوقت كان ذلك ابتداء سلام ولا يكون جوابا الرابع إذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتبة أيضا واجب لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الخامس إذا قال السلام عليكم فالواجب أن يقول وعليكم السلام السادس روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير السابع إن سلمت المرأة الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل الثامن حيث قلنا انه لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهى عنه فكان وجوده كعدمه
المسألة الثامنة عشرة اعلم أن لفظ التحية على ما بيناه صار كناية عن الاكرام فجميع أنواع الاكرام يدخل تحت لفظ التحية
إذا عرفت هذا فنقول قال أبو حنيفة رضي الله عنه من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها فاذا أثيب منها فلا رجوع فيها وقال الشافعي رضي الله عنه له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على صحة قول أبي حنيفة فان قوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا يدخل فيه التسليم ويدخل فيه الهبة ومقتضاه وجوب الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن فاذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز وقال الشافعي هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالاجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يأتي بالأحسن ثم احتج الشافعي على قوله بما روى ابن عباس وابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) وهذا نص في أن هبة الأجنبي يحرم الرجوع
فيها وهبة الولد يجوز الرجوع فيها
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً وفيه مسائل
المسألة الأولى في الحسيب قولان الأول أنه بمعنى المحاسب على العمل كالأكيل والشريب والجليس بمعنى المؤاكل والمشارب والمجالس الثاني أنه بمعنى الكافي في قولهم حسبي كذا أي كافي ومنه قوله تعالى حَسْبِى َ اللَّهُ ( التوبة 129 الزمر 38 )
المسألة الثانية المقصود منه الوعيد فانا بينا أن الواحد منهم قد كان يسلم على الرجل المسلم ثم إن ذلك المسلم ما كان يتفحص عن حاله بل ربما قتله طمعا في سلبه فالله تعالى زجر عن ذلك فقال وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وإياكم أن تتعرضوا له بالقتل
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً أي هو محاسبكم على أعمالكم وكافي في إيصال جزاء أعمالكم اليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف وهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء والمنع من إهدارها
اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنا بينا أن المقصود من قوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان فقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى التوحيد وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ إشارة إلى العدل وهو كقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وكقوله في طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى ( طه 14 ) وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وهو إشارة إلى العدل فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين ولا شك أنه تهديد شديد الثاني كأنه تعالى يقول من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فان البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو إنما تنكشف بواطن الخلق للخق في يوم القيامة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إما خبر للمبتدا وإما اعتراض والخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ واللام لام القسم والتقدير والله ليجمعنكم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لم لم يقل ليجمعنكم في يوم القيامة
والجواب من وجهين الأول المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة الثاني التقدير
ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه
المسألة الرابعة قال الزجاج يجوز أن يقال سميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم ويجوز أيضاً أن يقال سميت بهذا الاسم لأن الناس يقومون للحساب قال تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 ) قال صاحب ( الكشاف ) القيام القيامة كالطلاب والطلابة
المسألة الخامسة اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة وجعل الدليل على ذلك مجرد إخبار الله تعالى عنه وهذا حق وذلك لأن المسائل الأصولية على قسمين منها ما العلم بصحة النبوة يكون محتاجا إلى العلم بصحته ومنها ما لا يكون كذلك والأول مثل علمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات فانا ما لم نعلم ذلك لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء فكل مسألة هذا شأنها فانه يمتنع اثباتها بالقرآن واخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والا وقع الدور
وأما القسم الثاني وهو جملة المسائل التي لا يتوقف العلم بصحة النبوة على العلم بصحتها فكل ذلك مما يمكن اثباته بكلام الله واخباره ومعلوم أن قيام القيامة كذلك فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام الله فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة باخبار الله عنه استدلال صحيح
المسألة السادسة قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً استفهام على سبيل الانكار والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا وأن الكذب والخلف في قوله محال وأما المعتزلة فقد بنوا ذلك على أصلهم وهو أنه تعالى عالم بكون الكذب قبيحاً وعالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك استحال أن يكذب إنما قلنا انه عالم بقبح الكذب وعالم بكونه غنياً عنه لأن الكذب قبيح لكونه كذبا والله تعالى غير محتاج إلى شيء أصلا وثبت أنه عالم بجميع المعلومات فوجب القطع بكونه عالما بهذين الأمرين وأما أن كل من كان كذلك استحال أن يكذب فهو ظاهر لأن الكذب جهة صرف لا جهة دعاء فاذا خلا عن معارض الحاجة بقي ضارا محضا فيمتنع صدور الكذب عنه وأما أصحابنا فدليلهم أنه لو كان كاذبا لكان كذبه قديما ولو كان كذبه قديما لامتنع زوال كذبه لامتناع العدم على القديم ولو امتنع زوال كذبه قديما لامتنع كونه صادقا لأن وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر فلو كان كاذبا لامتنع أن يصدق لكنه غير ممتنع لانا نعلم بالضرورة أن كل من علم شيئا فانه لا يمتنع عليه أن يحكم عليه بحكم مطابق للمحكوم عليه والعلم بهذه الصحة ضروري فاذا كان إمكان الصدق قائما كان امتناع الكذب حاصلا لا محالة فثبت أنه لا بد من القطع بكونه تعالى صادقا
المسألة السابعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن كلام الله تعالى محدث قالوا لأنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) والحديث هو الحادث أو المحدث وجوابنا عنه انكما إنما تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصوت ونحن لا ننازع في حدوثه إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات والآية لا تدل على حدوث ذلك الشيء ألبتة بالاتفاق منا ومنكم فأما منا فظاهر وأما منكم فانكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه والله أعلم
فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال المنافقين ذكره الله تعالى وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها الأول أنها نزلت في قوم قدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ثم قالوا يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه فأذن لهم فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا وقال قوم هم مسلمون وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية الثاني نزلت الآية في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا فنزلت الآية وهو قول ابن عباس وقتادة الثالث نزلت الآية في الذين تخلفوا يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فاختلف أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فمنهم فرقة يقولون كفروا وآخرون قالوا لم يكفروا فنزلت هذه الآية وهو قول زيد بن ثابت ومنهم من طعن في هذا الوجه وقال في نسق الآية ما يقدح فيه وإنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 89 ) الرابع نزلت الآية في قوم ضلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت الآية وهو قول عكرمة الخامس هم العرنيون الذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السادس قال ابن زيد نزلت في أهل الافك
المسألة الثانية في معنى الآية وجهان الأول أن ( فئتين ) نصب على الحال كقولك مالك قائما أي مالك في حال القيام وهذا قول سيبويه الثاني أنه نصب على خبر كان والتقدير مالكم صرتم في المنافقين فئتين وهو استفهام على سبيل الانكار اي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم
المسألة الثالثة قال الحسن إنما سماهم منافقين وان أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل والمراد بقوله فِئَتَيْنِ ما بينا ان فرقة منهم كانت تميل اليهم وتذب عنهم وتواليهم وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير والله أعلم
ثم قال تعالى مخبرا عن كفرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الركس رد الشيء من آخره إلى أوله فالركس والنكس والمركوس والمنكوس واحد ومنه يقال للروث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حالة النجاسة ويسمى رجيعا لهذا المعنى
أيضا وفيه لغتان ركسهم وأركسهم فارتكسوا أي ارتدوا وقال أمية
فأركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا
المسألة الثانية معنى الآية أنه ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بما كسبوا أي بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله فاذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار
المسألة الثالثة قرأ ابي كعب وعبدالله بن مسعود وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ وقد ذكرنا أن أركس وركس لغتان
ثم قال تعالى أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً قالت المعتزلة المراد من قوله أَضَلَّ اللَّهُ ليس أنه هو خلق الضلال فيه للوجوه المشهورة ولأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ فبين تعالى انه إنما ردهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم وذلك ينفي القول بان إضلالهم حصل بخلق الله وعند هذا حملوا قوله مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على وجوه الأول المراد منه ان الله تعالى حكم بضلالهم وكفرهم كما يقال فلان يكفر فلانا ويضله بمعنى أنه حكم به وأخبر عنه الثاني أن المعنى أتريدون أن تهدوا إلى الجنة من أضله الله عن طريق الجنة وذلك لأنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنة الثالث أن يكون هذا الاضلال مفسرا بمنع الالطاف
واعلم أنا قد ذكرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ضعف هذه الوجوه ثم نقول هب أنها صحيحة ولكنه تعالى لما أخبر عن كفرهم وضلالهم وانهم لا يدخلون الجنة فقد توجه الاشكال لأن انقلاب علم الله تعالى جهلا محال والمفضي الى المحال محال ومما يدل على أن المراد من الآية أن الله تعالى أضلهم عن الدين قوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً فالمؤمنون في الدنيا انما كانوا يريدون من المنافقين الايمان ويحتالون في إدخالهم فيه
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الايمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا الى ادخاله في الايمان وهذا ظاهر
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى انه تعالى لما قال قبل هذه الآية أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ( النساء 88 ) وكان ذلك استفهاما على سبيل الانكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال انهم بلغوا في الكفر الى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر الى هذا الحد فكيف تطمعون في ايمانهم
المسألة الثانية قوله فَتَكُونُونَ سَوَاء رفع بالنسق على تَكْفُرُونِ والمعنى ودوا لو تكونون والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا ومثله قوله وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) ولو قيل فيدهنوا على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب ومثله وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ ( النساء 102 ) ومعنى قوله فَتَكُونُونَ سَوَاء أي في الكفر والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم واعلم أنه تعالى لما شرح للمؤمنين كفرهم وشدة غلوهم في ذلك الكفر فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والالحاد وهذا متأكد بعموم قوله تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء والسبب فيه أن أعز الاشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين لأن ذلك هو الامر الذي به يتقرب الى الله تعالى ويتوسل به الى طلب السعادة في الآخرة وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه والله أعلم
المسألة الثانية قوله فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ قال أبو بكر الرازي التقدير حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الإسلام فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الإسلام وانهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة ونظيره قوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ
واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك ) فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة ثم نسخ فرض الهجرة عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما
المسألة الثالثة اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الايمان وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) وقال المحققون الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر الله تعالى لفظا عاما يتناول الكل فقال حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فانه تعالى لم يقل حتى يهاجروا عن الكفر بل قال حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة بل قيده بكونه في سبيل الله فانه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى
ثم قال تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً والمعنى فان أعرضوا عن الهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل والحرم ولا تتخذوا منهم في هذه الحالة ولياً يتولى شيئا من مهماتكم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم
واعلم أنه تعالى لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى منه موضعين
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله يَصِلُونَ قولان الأول ينتهون اليهم ويتصلون بهم والمعنى أن كل من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم قال القفال رحمه الله وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل اليه
القول الثاني أن قوله يَصِلُونَ معناه ينتسبون وهذا ضعيف لأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول من جهة النسب مع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أباح دم الكفار منهم
المسألة الثانية اختلفوا في أن القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد من هم قال بعضهم هم الأسلميون فانه كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد فانه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال وقال ابن عباس هم بنو بكر بن زيد مناة وقال مقاتل هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة
واعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الايمان لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى والله أعلم
الموضع الثاني في الاستثناء قوله تعالى أَوْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أَوْ يحتمل أن يكون عطفا على صلة يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ والتقدير إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم ويحتمل أن يكون عطفا على صفة ( قوم ) والتقدير إلا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم والاول أولى لوجهين أحدهما قوله تعالى فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) وهذا يدل على ان السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال وهذا انما يتمشى على الاحتمال الاول وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم هو الاتصال بمن ترك القتال الثاني أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض لان على التقدير الاول يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا
المسألة الثانية قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لانكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لانهم أقاربهم واختلفوا في موضع قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وذكروا وجوها الأول أنه في موضع الحال باضمار ( قد ) وذلك لان ( قد ) تقرب الماضي من الحال ألا تراهم يقولون قد قامت الصلاة ويقال أتاني فلان ذهب عقله أي أتاني فلان قد ذهب عقله وتقدير الآية أو جاؤكم حال ما قد حصرت صدورهم الثاني أنه خبر بعد خبر كأنه قال أو جاؤكم ثم أخبر بعده فقال حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وعلى هذا التقدير يكون قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بدلا من جاؤكم الثالث أن يكون التقدير جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رجالا حصرت صدورهم فعلى هذا التقدير قوله جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ نصب لأنه صفة لموصوف منصوب على الحال الا انه حذف الموصوف المنتصب على الحال وأقيمت صفته مقامه وقوله ءانٍ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الذين استثناهم الله تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين فقال الجمهور هم من الكفار والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر الا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فانه لا يجوز قتلهم وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وان ترك القتال فانه يجوز قتله وقال أبو مسلم الاصفهاني انه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة الا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا اليه خوفا من أولئك الكفار فصاروا الى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم الى أن يمكنهم الخلاص واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله تعالى فيه ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لانه أبقى أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وان كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار
المسألة الرابعة قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة والمقصود منه أن الله تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين والمعنى أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن الله قذف الرعب في قلوبهم ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم قال أصحابنا وهذا يدل على أنه لا يقبح من الله تعالى تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه
وأما المعتزلة فقد أجابوا عنه من وجهين الأول قال الجبائي قد بينا أن القوم الذين استثناهم الله تعالى قوم مؤمنون لا كافرون وعلى هذا فمعنى الآية ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم أن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم والثاني قال الكلبي انه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا لا يفيد إلا أنه تعالى قادر على الظلم وهذا مذهبنا إلا أنا نقول إنه تعالى لا يفعل الظلم وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده
المسألة الخامسة اللام في قوله فَلَقَاتَلُوكُمْ جواب ( للو ) على التكرير أو البدل على تأويل ولو شاء الله لسلطهم عليكم ولو شاء الله لقاتلوكم قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء فَلَقَاتَلُوكُمْ بالتخفيف والتشديد
ثم قال فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي فان لم يتعرضوا لكم وألقوا اليكم السلم أي الانقياد والاستسلام وقرىء بسكون اللام مع فتح السين فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم واختلف المفسرون فقال بعضهم الآية منسوخة بآية السيف وهي قوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 ) وقال قوم انها غير منسوخة أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال انها منسوخة
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنِة ِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
قال المفسرون هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا وغرضهم أن يأمنوا المسلمين فاذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِة ِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُواْ فِيِهَا أي ردوا مغلوبين منكوسين فيها وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
والمعنى فان لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ونظيره قوله تعالى رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ( الممتحنة 8 ) وقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( البقرة 190 ) فخص
الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا واعلم أن هذا الكلام مبني على أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشرط عدم عند عدم الشرط وقد شرحنا الحال فيه في قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 )
ثم قال وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً
وفي السلطان المبين وجهان الأول أنه ظهر على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة ظاهرة وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام الثاني أن السلطان المبين هو إذن الله تعالى للمسلمين في قتل هؤلاء الكفار
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة ً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار وحرض عليها ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين انه كان مسلما فذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوها الأول روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول انه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فلما سمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ازداد وقع حذيفة عنده فنزلت هذه الآية
الرواية الثانية أن الآية نزلت في أبي الدرداء وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال الرجل لا إله إلا الله فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه الصلاة والسلام ( هلا شققت عن قلبه ) وندم أبو الدرداء فنزلت الآية
الرواية الثالثة روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا لأبي جهل من أمه أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث فقال أبو جهل أليس أن محمداً يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه وجلده أبو جهل مائة جلدة وجلده الحرث مائة أخرى فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث لله علي إن وجدتك خالي أن أقتلك وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع ان كان دينك الأول هدى فقد تركته وان كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر فلقيه عياش خالياً ولم يشعر باسلامه فقتله فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قتلته ولم أشعر باسلامه فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قوله تعالى الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ فيه وجهان الأول أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه الثاني ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف
المسألة الثالثة قوله إِلا فيه قولان الأول أنه استثناء متصل والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها الأول ان هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى لأن قوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ معناه أنه يؤاخذ الانسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فانه لا يؤاخذ به الثاني أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا فههنا يجوز قتله ولا شك أن هذا خطأ فانه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافرا الثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير وما كان مؤمن ليقتل مؤمناً إلا خطأ ومثله قوله تعالى يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) تأويله ما كان الله ليتخذ من ولد لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء إنما ينفي عنه ما لا يليق به وأيضا قال تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( النمل 60 ) معناه ما كنتم لتنبتوا لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها فانه تعالى هو القادر على إنبات الشجر الرابع أن وجه الاشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل وهو أن يقال الاستثناء من النفي إثبات وهذا يقتضي الاطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال وذلك محال إلا أن هذا الاشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات وذلك مختلف فيه بين الأصوليين والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه واذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالاثبات وحينئذ يندفع الاشكال ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس باثبات قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي ) ويقال لا ملك الا بالرجال ولا رجال الا بالمال والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا والله أعلم الخامس قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا الا أن يقتله
خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا قال والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا الا أن يكون خطأ فانه لا يخرجه عن كونه مؤمنا واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن وهو أصل باطل والله أعلم
القول الثاني أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن ونظيره في القرآن كثير قال تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ ( النجم 53 ) وقال لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً والله أعلم
المسألة الرابعة في انتصاب قوله خطأ وجوه الأول أنه مفعوله له والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا لكونه خطأ الثاني أنه حال والتقدير لا يقتله ألبتة إلا حال كونه خطأ الثالث أنه صفة للمصدر والتقدير إلا قتلا خطأ
قوله تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله القتل على ثلاثة أقسام عمد وخطأ وشبه عمد
أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن وهذا قول الشافعي
وأما الخطأ فضربان أحدهما أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فأصاب مسلما والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
أما شبه العمد فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه قال الشافعي رحمه الله هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب
المسألة الثانية قال أبو حنيفة القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ وشبه عمد فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة ولا يجب فيه القصاص وقال الشافعي رحمه الله إنه عمد محض يجب فيه القصاص أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه ثم إن ذلك الوكز يسمى بالقتل بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ ( القصص 19 ) وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز فثبت أن القبطي سماه قتلا وأيضاً ان موسى صلوات الله عليه سماه قتلا حيث قال رَبّى إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( القصص 33 ) وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز وأيضا ان الله تعالى سماه قتلا حيث قال وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( طه 40 ) فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول الله تعالى وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل ) فسماه قتلا فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فان من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا وأما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم فثبت أنه قتل عمد عدوان فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول
أما النص فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً ( الإسراء 33 ) وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 )
وأما المعقول فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 ) وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار والاهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الاهدار إنما التفاوت حاصل في آلة الاهدار والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد واحتجوا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل ) وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا
والجواب أن قوله ( قتيل الخطأ ) يدل على أنه لا بد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه وقد بينا أن من خنق إنساناً أو ضرب رأسه بحجر الرحا ثم قال ما كنت أقصد قتله فان كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه والله أعلم
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة القتل العمد لا يوجب الكفارة وقال الشافعي يوجب احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً شرط لوجوب الكفارة وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط فيقال له إنه تعالى قال حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ( النساء 25 ) فقوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ما كان شرطا لجواز نكاح الأمة على قولكم فكذلك ههنا ثم نقول الذي يدل على وجوب الكفارة في القتل العمد الخبر والقياس
أما الخبر فهو ما روى واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار
وأما القياس فهو أن الغرض من إعتاق العبد هو أن يعتقه الله من النار والحاجة الى هذا المعنى في القتل العمد أتم فكانت الحاجة فيه الى ايجاب الكفارة أتم والله أعلم
وذكر الشافعي رضي الله عنه حجة أخرى من قياس الشبه فقال لما وجبت الكفارة في قتل الصيد في الاحرام سوينا بين العامد وبين الخاطىء إلا في الاثم فكذا في قتل المؤمن ولهذا الكلام تأكيد آخر وهو أن يقال نص الله تعالى هناك في العامد وأوجبنا على الخاطىء فههنا نص على الخاطىء فبأن نوجبه على العامد مع أن احتياج العامد الى الاعتاق المخلص له عن النار أشد كان ذلك أولى
المسألة الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي لا تجزى الرقبة إلا إذا صام وصلى وقال الشافعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم يجزى الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما حجة ابن عباس هذه الآية فانه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة والمؤمن من يكون موصوفا بالايمان
والايمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي فلم يكن مؤمنا فوجب أن لا يجزى حجة الفقهاء أن قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً يدخل فيه الصغير فكذا قوله خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ فوجب أن يدخل فيه الصغير
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله الدية في العمد المحض وفي شبه العمد مغلظة مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها
وأما في الخطأ المحض فمخففة عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون بنو لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وأما أبو حنيفة فهو أيضاً هكذا يقول في الكل إلا في شيء واحد فانه أوجب بني مخاض بدلا عن بنات لبون حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفية الدية فرجعنا في معرفة الكيفية إلى السنة والقياس فلم نجد في السنة ما يدل عليه
وأما القياس فانه لا مجال للمناسبات والتعليلات المعقولة في تعيين الأسباب وتعيين الأعداد فلم يبق ههنا مطمع إلا في قياس الشبه ونرى أن الدية وجبت بسبب أقوى من السبب الموجب للزكاة ثم إنا رأينا أن الشرع لم يجعل لبني مخاض دخلا في باب الزكاة فوجب أن لا يكون لها دخل في باب الدية أيضاً وحجة أبي حنيفة أن البراءة كانت ثابتة والأصل في الثابت البقاء فكانت البراءة الأصلية باقية ولا يعدل عن هذا الدليل إلا لدليل أقوى منه فنقول الأول هو المتفق عليه فاعترفنا بوجوبه وأما الزائد عليه فوجب أن يبقى على النفي الأصلي
والجواب أن الذمة مشغولة بوجوب الدية والأصل في الثابت البقاء وقد رأينا حصول الاتفاق على السقوط بأداء أكثر ما قيل فيه فوجب أن لا يحصل ذلك السقوط عند أداء أقل ما فيه والله أعلم
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله إذا لم توجد الابل فالواجب إما ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وقال أبو حنيفة بل الواجب عشرة آلاف درهم حجة الشافعي ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم فلما استخلف عمر رضي الله عنه قام خطيبا وقال إن الابل قد غلت أثمانها ثم إن عمر فرضها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق أثنى عشر ألفا وجه الاستدلال أن عمر ذكر ذلك في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فكان إجماعا حجة أبي حنيفة أن الأخذ بالأقل أولى وقد سبق جوابه
المسألة السابعة قال أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج الدية واجبة على القاتل قالوا ويدل عليه وجوه الأول أن قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ لا شك أنه إيجاب لهذا التحرير والايجاب لا بد فيه من شخص يجب عليه ذلك الفعل والمذكور قبل هذه الآية هو القاتل وهو قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً فهذا الترتيب يوجب القطع بأن هذا التحرير إنما أوجبه الله تعالى عليه لا على غيره والثاني أن هذه الجناية صدرت منه والمعقول هو أن الضمان لا يجب إلا على المتلف أقصى ما في الباب أن هذا الفعل صدر عنه على سبيل الخطأ ولكن الفعل الخطأ قائم في قيم المتلفات وأروش الجنايات مع أن تلك الضمانات لا تجب الى على المتلف فكذا ههنا الثالث أنه تعالى أوجب في هذه الآية شيئين تحرير الرقبة المؤمنة وتسليم الدية الكاملة ثم انعقد الاجماع على أن التحرير واجب على الجاني فكذا الدية يجب أن تكون
واجبة على القاتل ضرورة أن اللفظ واحد في الموضعين الرابع أن العاقلة لم يصدر عنهم جناية ولا ما يشبه الجناية فوجب أن لا يلزمهم شيء للقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وقال تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 29 ) وقال لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وأما الخبر فما روي أن أبا رمثة دخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه ابنه فقال عليه الصلاة والسلام من هذا فقال ابني قال انه لا يجني عليك ولا تجني عليه ومعلوم أنه ليس المقصود منه الاخبار عن نفس الجناية إنما المقصود بيان أن أثر جنايتك لا يتعدى إلى ولدك وبالعكس وكل ذلك يدل على أن إيجاب الدية على الجاني أولى من إيجابها عل الغير الخامس أن النصوص تدل على أن مال الانسان معصوم وأنه لا سبيل لأحد أن يأخذه منه قال تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( كل امرىء أحق بكسبه ) وقال ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) وقال ( لا يحل مال المسلم إلا بطيبة من نفسه ) تركنا العمل بهذه العمومات في الأشياء التي عرفنا بنص القرآن كونها موجبة لجواز الأخذ كما قلنا في الزكوات وكما قلنا في أخذ الضمانات وأما في إيجاب الدية على العاقلة فالمعتمد فيه على خبر الواحد وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز لأن القرآن معلوم وخبر الواحد مظنون وتقديم المظنون على المعلوم غير جائز ولأن هذا خبر واحد ورد فيما تعم به البلوى فيرد ولأنه خبر واحد ورد على مخالفة جميع أصول الشرائع فوجب رده وأما الفقهاء فقد تمسكوا فيه بالخبر والأثر والآية أما الخبر فما روى المغيرة أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على عاقلة الضاربة بالغرة فقام حمل بن مالك فقال كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا من سجع الجاهلية وأما الأثر فهو أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل عن مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها وعلي كان ابن أخي صفية وقضى للزبير بميراثها فهذا يدل على أن الدية إنما تجب على العاقلة والله أعلم
المسألة الثامنة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل وقال الأصم وابن عطية ديتها مثل دية الرجل حجة الفقهاء أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل فكذلك في الدية وحجة الأصم قوله تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية والله أعلم
المسألة التاسعة انفقوا على أن دية الخطأ مخففة في ثلاث سنين الثلث في السنة والثلثان في السنتين والكل في ثلاث سنين استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه فيه أحد من السلف فكان إجماعا
المسألة العاشرة لا فرق في هذه الدية بين أين يقضي منها الدين وتنفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله تعالى روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه فشهد بعض من الصحابة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك وإذ قد ذكرنا هذه المسائل فلنرجع إلى تفسير الآية فنقول قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ معناه فعليه تحرير رقبة والتحرير عبارة عن جعله حرا والحر هو الخالص ولما كان الانسان في أصل
الخلقة خلق ليكون مالكا للأشياء كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فكونه مملوكا يكون صفة تكدر مقتضى الانسانية وتشوشها فلا جرم سميت إزالة الملك تحريراً أي تخليصا لذلك الانسان عما يكدر إنسانيته والرقبة عبارة عن النسمة كما قد يجعل الرأس أيضا عبارة عن نسمة في قولهم فلان يملك كذا رأسا من الرقيق والمراد برقبة مؤمنة كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند الفقهاء وعند ابن عباس لا تجزي إلا رقبة قد صلت وصامت وقد ذكرنا هذه المسألة وقوله وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ قال الواحدي الدية من الودي كالشية من الوشي والأصل ودية فحذفت الواو يقال ودى فلانا فلانا أي أدى ديته إلى وليه ثم ان الشرع خصص هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس دون ما يؤدى في بدل المتلفات ودون ما يؤدى في بدل الاطراف والاعضاء
ثم قال تعالى إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد ومعنى التصدق الاعطاء قال الله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ ( يوسف 88 ) والمعنى إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية قال صاحب ( الكشاف ) وتقدير الآية ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه وعلى هذا فقوله أَن يَصَّدَّقُواْ في محل النصب على الظرف ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين
ثم قال تعالى فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ
فاعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية وذكر في هذه الآية أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة
إذا ثبت هذا فنقول كلمة ( من ) في قوله مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب أو المراد كونه ذا نسب منهم والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن المسلم الساكن في دار الإسلام وجميع أقاربه يكونون كفارا فاذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة فأما وجوب الدية فلا قال الشافعي رحمه الله وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا وذلك مما يصعب ويشف فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب وأما الكفارة فانها حق الله تعالى لأنه لما صار ذلك الانسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة الله تعالى والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله فاذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية ويقتضي بقاء الكفارة والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فيه قولان الأول ان المراد منه المسلم وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك ان هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله وَإِن كَانَ لا بد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ فوجب حمل اللفظ عليه
القول الثاني أن المراد منه الذمي والتقدير وان كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه الأول أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وانه لا يجوز بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب فانه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وإنه لا يجوز الثاني أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه الثالث ان قوله وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما فان كونه منهم مجمل لا يدري أنه منهم في أي الأمور وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الاجمال فكان ذلك أولى وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم ويمكن أن يجاب عن هذه الوجوه
أما الأول فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب فبين أن الدية لا تجب في قتله وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة وبين وجوب الدية والكفارة في قتله والغرض منه اظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله
وأما الثاني فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم
وأما الثالث فجوابه أن كلمة ( من ) صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة ( في ) يعني في قوم عدو لكم فكذا ههنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمى مثل دية المسلم وقال الشافعي رحمه الله تعالى دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ المراد به الذمي ثم قال فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ فأوجب تعالى فيهم تمام الدية ونحن نقول إنا بينا أن الآية نازلة
في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقداراً معينا ودية الذمي مقداراً آخر فان الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس فان ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع والنزاع ما وقع إلا فيه فسقط هذا الاحتجاج والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة ) 58 ) وفي آية أخرى وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) وَادْخُلُواْ الْبَابَ ( البقرة 154 الأعراف 161 ) والله أعلم
المسألة الثالثة في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هم أهل الذمة من أهل الكتاب الثاني قال الحسن هم المعاهدون من الكفار
ثم قال تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس وقوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ انتصب بمعنى صيام ما تقدم كأنه قيل اعملوا بما أوجب الله عليكم لأجل التوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم وهو كما يقال فعلت كذا حذر الشر
فان قيل قتل الخطأ لا يكون معصية فما معنى قوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ
قلنا فيه وجوه الأول أن فيه نوعين من التقصير فان الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي فلو أنه بالغ في الاحتياط والاستكشاف فالظاهر أنه لا يقع فيه ومن رمى إلى صيد فأخطأ وأصاب أنسانا فلو احتاط فلا يرمي إلا في موضع يقطع بأنه ليس هناك إنسان فانه لا يقع في تلك الواقعة فقوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ تنبيه على أنه كان مقصرا في ترك الاحتياط
الوجه الثاني في الجواب أن قوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ راجع إلى أنه تعالى أذن له في إقامة الصوم مقام الاعتاق عند العجز عنه وذلك لأن الله تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفف عنه فلما كان التخفيف من لوازم التوبة أطلق لفظ التوبة لارادة التخفيف إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم
الوجه الثالث في الجواب أن المؤمن إذا اتفق له مثل هذا الخطأ فانه يندم ويتمنى أن لا يكون ذلك مما وقع فسمى الله تعالى ذلك الندم وذلك التمني توبة
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً والمعنى أنه تعالى عليم بأنه لم يقصد ولم يتعمد حكيم في أنه ما يؤاخذه بذلك الفعل الخطأ فان الحكمة تقتضي أن لا يؤاخذ الانسان إلا بما يختار ويتعمد
واعلم أن أهل السنة لما اعتقدوا أن أفعال الله تعالى غير معللة برعاية المصالح قالوا معنى كونه تعالى
حكيما كونه عالما بعواقب الأمور وقالت المعتزلة هذه الآية تبطل هذا القول لأنه تعالى عطف الحكيم على العليم فلو كان الحكيم هو العليم لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وهو محال
والجواب أن في كل موضع من القرآن ورد فيه لفظ الحكيم معطوفا على العليم كان المراد من الحكيم كونه محكما في أفعاله فالأحكام والاعلام عائدان إلى كيفية الفعل والله أعلم
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الاثم والوعيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين أحدهما على القطع بوعيد الفساق والثاني على خلودهم في النار ووجه الاستدلال أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد الاستغراق وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وبالغنا في الجواب عنها وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة قال وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها اما تخصيص واما معارضة وإما إضمار واللفظ لا يدل على شيء من ذلك قال والذي أعتمده وجهان الأول إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة والثاني أن قوله فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ معناه الاستقبال أي انه سيجزى بجهنم وهذا وعيد قال وخلف الوعيد كرم وعندنا أنه يجوز ان يخلف الله وعيد المؤمنين فهذا حاصل كلامه الذي زعم انه خير مما قاله غيره
وأقول أما الوجه الأول فضعيف وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فاذا ثبت ان اللفظ الدال على الاستغراق حاصل فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم فيسقط هذا الكلام بالكلية ثم نقول كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر وبيانه من وجوه الأول انه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون اليه عند اشتغالهم بالجهاد فابتدأ بقوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( النساء 92 ) فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات كفارة قتل المسلم في دار الإسلام وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين فان لم
يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف وعلى هذا التقدير فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الايمان وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار الثالث أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وبهذا الطريق عرفنا أن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) وقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا ( النور 2 ) الموجب للقطع هو السرقة والموجب للجلد هو الزنا فكذا ههنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم فلزم كون ذلك الحكم معللا به واذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال أينما ثبت هذا المعنى فانه يحصل هذا الحكم وبهذا الوجه لا يبقى لقوله الآية مخصوصة بالكافر وجه
الوجه الرابع أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص فان كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر ألبتة في هذا الوعيد وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال ان من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ومعلوم ان ذلك باطل وان كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد وحينئذ يسقط هذا السؤال فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء
وأما الوجه الثاني من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر فاذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله وهذا خطأ عظيم بل يقرب من أن يكون كفراً فان العقلاء أجمعوا على انه تعالى منزه عن الكذب ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال إن الخلف في الوعيد كرم فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء وحكى القفال في تفسيره وجها آخر هو الجواب وقال الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا وقد يقول الرجل لعبده جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا إلا أني لا أفعله وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء الى المستحقين قال تعالى مَن يَعْمَلُ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وقال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل اليهم هذا الجزاء وهو قوله وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا فلو كان قوله وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا فلو حملناه على الاخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار فكان ذلك أولى
واعلم أنا نقول هذه الآية مخصوصة في موضعين أحدهما أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فانه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة والثاني القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فانه لا يحصل فيه الوعيد وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وأيضاً فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 )
المسألة الثانية نقل عن ابن عباس أنه قال توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة وقال جمهور العلماء إنها مقبولة ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى أن الكفر أعظم من هذا القتل فاذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول
الحجة الثانية قوله تعالى في آخر الفرقان وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( الفرقان 68 69 70 ) وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى
الحجة الثالثة قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى والله أعلم
تم الجزء العاشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر وأوله قول تعالى
عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 94 ) من سورة النساء أعان الله على إكماله
بداية الجزء الحادى عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
قوله تعالى عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ
أعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين وأمر المجاهدين بالتثبيت فيه لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي هنا وكذلك في الحجرات فَثَبّتُواْ من ثبت ثباتاً والباقون بالنون من اليان والمعنيان متقاربان فمن رجح التثبيت قال إنه خلاف الإقدام والمراد في الآية التأني وترك العجلة ومن رجح التبيين قال المقصود من التثبيت التبيين فكان التبيين أبلغ وأكمل
المسألة الثانية الضرب معناه السير فيها بالفسر للتجارة أو الجهاد وأصله من الضرب باليد وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنساناً كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير قال الزجاج ومعنى ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد
ثم قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ( النحل 87 ) أي استسلموا للأمر ومن قرأ السَّلَامُ بالألف فله معنيان أحدها أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين أي لا تقولوا لمن حياتكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذاً فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهره والثاني أن يكون المعنى لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقتلكم لست مؤمناً وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة قال صاحب الكشاف قرىء مُؤْمِناً بفتح الميم من آمنه أي لا نؤمنك
المسألة الثالثة في سبب نزول هذه الآية روايات
الرواية الأولى أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فذهبت سرية
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قومه وأميرهم غالب بن فضالة فهرب القوم وبقي مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه فأخبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد وجداً شديداً وقال قتلمتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة يا رسول الله استغفر لي فقال فكيف وقد تلا لا إله إلا الله قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي وقال أعتنق رقبة
الرواية الثانية أن القاتل ملحم بن جثامة لقيه عامر بن الأضبط فحياه بتحية الإسلام وكانت بين ملحم وبينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( لا غفر الله لك ) فما مضت به سبعة أيام حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الذنب عنده ) ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة
الرواية الثالثة أن المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة قال فقلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة فقال أسلمت لله تعالى أفأقتله يا رسول الله بعد ذلك فقال رسول الله لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد ما تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) وعن أبي عبيدة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا إشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح ) قال القفال رحمه الله ولا منافاة بين هذه الروايات فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا فالفقهاء قبلوها واحتجوا عليه بوجوه الأول هذه الآية فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق وبين غيره بل أوجب ذلك في الكل
الحجة الثانية قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وهو عام في جميع أصناف الكفرة
الحجة الثالثة أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة والتوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( الشورى 25 ) وهذا عام في جميع الذنوب وفي جميع أصناف الخق
المسألة الخامسة إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة وقال الشافعي لا يصح قال أبو حنيفة دلّت هذه الآية على صحة إسلام الصبي لأن قوله وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً عام في حق الصبي وفي حق البالغ قال الشافعي لو صح الإسلام منه لوجب لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذناً في الكفر وهو غير جائز لكنه غير واجب عليه لقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث والله أعلم
المسألة السادسة قال أكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فعند قوم لا يحكم بإسلامه لأنه فيهم من يقول إنه رسول الله إلى العرب لا إلى الكل ومنهم من
يقول إن محمداً الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء وسيجيء بعد ذلك بل لا بدّ وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم
ثم قال تعالى تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء يقال إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر والعرض بسكون الراء ما سوى الدراهم والدنانير وإنما سمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير باق ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضاً لقلة لبثه فقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ يعني ثواباً كثيراً فنبّه تعالى بتسميته عرضاً على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء وبقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء كما قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( مريم 76 )
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا السم وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوهاً الأول أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر القول وأن لا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة لأجل الخوف من السيف هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين وفي إشكال لأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر
الوجه الثاني قال سعيد بن جبير المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه ثم منَّ الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة وهذا أيضاً فيه إشكال لأن إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم الثالث قال مقاتل المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كمنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول الله بكلمة ( لا إله إلا الله ) فاقبلوا منهم مثل ذلك وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول والأقرب عندي أن يقال إن من ينتقل من دين إلى دين ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال فكأنه قيل لهم كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ثم من الله عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان فإن الله تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم يقوي تلك الرغبة في صدورهم فهذا ما عندي فيه
ثم قال تعالى فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وفيه احتمالان الأول أن يكون هذا متعلقاً بقوله كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلاً بسبب ضعيف ثم منَّ الله عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له والثاني أن يكون هذا منقطعاً عن هذا الموضع ويكون متعلقاً بما قبله وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا الله ثم أنه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر
ثم أعاد الأمر بالتبيّين فقال فَتَبَيَّنُواْ وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً والمراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار
96 ) لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
أعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد فالنوع الأول من أحكام الجهاد تحذير المسلمين عن قتل المسلمين وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف وعلى سبيل العمد كيف وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية
الوجه الثاني لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبيّن فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة
الوجه الثالث أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد كأنه قيل من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة والله أعلم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرىء غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ بالحركات الثلاث في غَيْرِ فالرفع صفة لقوله الْقَاعِدُونَ والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون ونظيره قوله أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَة ِ ( النور 31 ) وذكرنا جواز أن يكون غَيْرِ صفة المعرفة في قوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ( الفاتحة 7 ) قال الزجاج ويجو أن يكون غَيْرِ رفعاً على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( النساء 66 ) و ( أما القراءة بالنصل ففيها وجهان الأول أن يكون استثناء القاعدين والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر وهو اختيار الأخفش الثاني أن يكون نصباً على الحال والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون كما تقول جاءني زيد غير مريض أي جاءني زيد صحيحاً وهذا قول الزجاج والفرّاء وكقوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ ( المائدة 1 ) وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل غَيْرِ صفة للمؤمنين فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات
ثم ههنا بحث آخر وهو أن الأخفش قال القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج روي في التفسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حالتنا كما ترى ونحن نشتهي الجهاد فهل لنا من طريق فنزل غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ فاستثناهم الله تعالى من جملة القاعدين وقال آخرون القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة غَيْرِ أن تكون صفة ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الإستثناء حاصل منها لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية وإذا كان هذا المقصود حاصلاً على كل التقديرين وكان الأصل في كلمة غَيْرِ أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى
المسألة الثانية الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض أو كان بسبب عدم الأهبة
المسألة الثالثة حاصل الآية لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل الله واختلفوا في أن قوله غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا قال بعضهم أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ غَيْرِ على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضاً ذلك أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة وأعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكر الله تعالى في سورة التوبة وهو قوله لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى إلى قوله إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ( التوبة 91 )
وأعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد ويدل عليه النقل والعقل أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته ( لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إذا مرض العبد قال الله عز وجلّ اكتبوا لعبدي ما كن يعمله في الصحة إلى أن يبرأ ) وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
( التين 5 6 ) أن من صار هرما كتب الله تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئاً وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام ( نية المؤمن خير من عمله ) أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبداً خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب وإن كان القاعد أكثر حظاً من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثواباً
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ( التوبة 111 ) فقدم ذكر النفس على المال وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ قدم ذكر المال على النفس فما السبب فيه
وجوابه أن النفس أشرف من المال فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب
وأعلم أنه تعالى لما بيّن أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان لا جرم كشف تعالى عنه فقال فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً وفي انتصاب قوله دَرَجَة ً وجوه الأول أنه يحذف الجار والتقتدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني قوله دَرَجَة ً أي فضيلة والتقدير وفضل الله المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمراً إكراماً والفائدة في التنكير والتفخيم الثالث قوله دَرَجَة ً نصب على التمييز
ثم قال وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده الله الحسنى وقال الفقهاء وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ولو كان الجهاد واجباً على التعيين لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه الحسنى
ثم قال تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى في انتصاب قوله أَجْراً وجهان الأول انتصب بقوله وَفَضَّلَ لأنه في معنى قولهم آجرهم أجراً ثم قوله دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً بدل من قوله أَجْراً الثاني انتصب على التمييز و دَرَجَاتٌ عطف بيان وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً معطوفان على دَرَجَاتٌ
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه تعالى ذكر أولاً دَرَجَة ً وههنا دَرَجَاتٌ وجوابه من وجوه الأول المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد بل بالجنس والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع وذلك هو الأجر العظيم والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة الثاني أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء
الثالث فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة الرابع قال في أول الآية وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط وإلا حصل التكرار فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهداً على الإطلاق في كل الأمور أعني في عمل الظاهر وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة كما قال عليه السلام ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة وفضيلة هذا الثاني درجات
المسألة الثالثة قالت الشيعة دلّت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من أبي بكر وذلك لأن عليا كان أكثر جهاداً فالقدر الذي فيه حصل التفاوت كان أبو بكر من القاعدين فيه وعلي من القائمين وإذا كان كذلك وجب أن يكون عليّ أفضل منه لقوله تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فيقال لهم إن مباشرة علي عليه السلام لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك فليزمكم بحكم هذه الآية أن يكون عليّ أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا لا يقوله عاقل فإن قلتم إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد فنقول فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه وبماله وعلي في ذلك الوقت كان صبياً ما كان أحد يسلم بقوله وما كان قادراً على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قوياً والثاني أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ولا شك أن الأول أفضل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلّت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل وأيضاً لو لم يكن العمل موجباً للثواب لكان الثواب هبة لا أجراً لكنه تعالى سماه أجراً فبطل القول بذلك فيقال لهم لم لا يجوز أن يقال العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل بجعل الشارع ذلك العمل موجباً له
المسألة الخامسة قالت الشافعية دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعوداً من عند الله بالحسنى
إذا ثبت هذا فنقول إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة ثم إن قوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يتناول جميع المجاهدين
سواء كان جهاده واجباً أو مندوباً والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة ً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفرّاء إن شئت جعلت تَوَفَّاهُمُ ماضياً ولم تضم تاء مع التاء مثل قوله إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( البقرة 70 ) وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا وإن شئت جعلته مستقبلاً والتقدير إن الذين تتوفاهم الملائكة وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة
المسألة الثانية في هذا التوفي قولان الأول وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت
فإن قيل فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 ) وبين قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ( السجدة 11 )
قلنا خالق الموت هو الله تعالى والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه
القول الثاني نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ يعني يحشرونهم إلى النار وهو قول الحسن
المسألة الثالثة في خبر ( إن ) وجوه الأول أنه هو قوله قالوا لهم فيم كنتم فحذف ( لهم ) لدلالة الكلام عليه الثاني أن الخبر هو قوله فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فيكون ( قالوا لهم ) في موضع ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ لأنه نكرة الثالث أن الخبر محذوف وهو هلكوا ثم فسّر الهلاك بقوله قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ أما قوله تعالى ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ في محل النصب على الحال والمعنى تتوفاهم الملائكة في
حال ظلمهم أنفسهم وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال كأنه قيل ظالمين أنفسهم ءلا أنهم حذفوا النون طلباً للخفة واسم الفاعل سواء أُريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولاً في المعنى وإن كان موصولاً في اللفظ وهو كقوله تعالى هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( الأحقاف 24 ) هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) ثَانِى َ عِطْفِهِ ( الحج 9 ) فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية
المسألة الثانية الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وقد يراد به المعصية فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) وفي المراد بالظلم في هذه قولان الأول أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك ولم يهاجروا إلى دار الإسلام الثاني أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفاً فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة فبيّن الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة
وأما قوله تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ففيه وجوه أحدها فيم كنتم من أمر دينكم وثانيها فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه وثالثها لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار
ثم قال تعالى قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ جواباً عن قولهم فِيمَ كُنتُمْ وكان حق الجواب أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء
وجوابه أن معنى فِيمَ كُنتُمْ التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فقالوا كما مستضعفين اعتذاراً عما وبخوا به واعتلالاً بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم بل مع القدرة على هذه المفارقة فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً
ثم استثنى تعالى فقال إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة ً ونظيره قول الشاعر
ولقد أمر على اللئيم يسبني
ويجوز أن يكون لاَ يَسْتَطِيعُونَ في موضع الحال والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة أو كان بهم مرض أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة
ثم قال وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه احملوني فإني لسيت من المستضعفين ولا أني لا أهتدي الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً فمات في الطريق
فإن قيل كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا
مستحقين للوعيد على بعض الوجوه
قلنا سقوط الوعيد إذا كان بسبب العحز والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا فلا جرم حسن هذا إذا أُريد بالولدان الأطفال ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى وإن أُريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال
ثم قال تعالى فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وفيه سؤال وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة والعاجز عن الشيء غير مكلف به وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة فلم قال عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب وأيضاً عَسَى كلمة الإطماع وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم
والجواب عن الأول أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام
وأما السؤال الثاني وهو قوله ما الفائدة في ذكر لفظة عِيسَى ههنا فنقول الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عني فكيف الحال في غيره هذاهو الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) في الجواب عن هذا السؤال إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزاً عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة عَسَى لا بالكلمة الدالة على القطع
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ذكر الزجاج في كَانَ ثلاثة أوجه الأول كان قبل أن خلق الخلق موصوفاً بهذه الصفة الثاني أنه قال كَانَ مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه الثالث لو قال إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخباراً عن كونه كذلك فقط ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخباراً وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقاً وحقاً ومبرأ عن الخلف والكذب واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقاً غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه
وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة ً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً