كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
ثم حكى تعالى عن أهل الجنة أنهم قالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وقال أصحابنا معنى هَدَانَا اللَّهُ أنه أعطى القدرة وضم إليها الداعية الجازمة وصير مجموع القدرة وتلك الداعية موجباً لحصول تلك الفضيلة فإنه لو أعطى القدرة وما خلق تلك الداعية لم يحصل الأثر ولو خلق الله الداعية المعارضة أيضاً لسائر الدواعي الصارفة لم يحصل الفعل أيضاً أما لما خلق القدرة وخلق الداعية الجازمة وكان مجموع القدرة مع الداعية المعينة موجباً للفعل كانت الهداية حاصلة في الحقيقة بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وقالت المعتزلة التحميد إنما وقع على أنه تعالى أعطى العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع وعند هذا يرجع إلى مباحث الجبر والقدر على سبيل التمام والكمال
ثم قال تعالى وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ( ما كنا ) بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل الشام والباقون بالواو والوجه في قراءة ابن عامر أن قوله مَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ جار مجرى التفسير لقوله هَدَانَا لِهَاذَا فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف
المسألة الثانية قوله وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ دليل على أن المهتدي من هداه الله وإن لم يهده الله لم يهتد بل نقول مذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر والمحق والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه فكان يجب عليه أن يحمد نفسه لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان وخلصها من دركات النيران فلما لم يحمد نفسه البتة وإنما حمد الله فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله سبحانه
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وهذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً وقالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق
ثم قال تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذلك النداء إما أن يكون من الله تعالى أو أن يكون من الملائكة والأولى أن يكون المنادي هو الله سبحانه
المسألة الثانية ذكر الزجاج في كلمة ( أن ) ههنا وجهين الأول أنها مخففة من الثقيلة والتقدير إنه والمضير للشأن والمعنى نودوا بأنه تلكم الجنة أي نودوا بهذا القول والثاني قال وهو الأجود عندي أن تكون ( أن ) في معنى تفسير النداء والمعنى ونودوا أي تلكم الجنة والمعنى قيل لهم تلكم الجنة كقوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ ( ص 6 ) يعني أي امشوا قال إنما قال ( تلكم ) لأنهم وعدوا بها في الدنيا فكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وقوله أُورِثْتُمُوهَا فيه قولان
القول الأول وهو قول أهل المعاني أن معناه صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله والإرث قد يستعمل في اللغة ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا العمل يورثك الشرف
ويورثك العار أي يصيرك إليه ومنهم من يقول إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث
والقول الثاني أن أهل الجنة يورثون منازل أهل النار قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم ) وقوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى تعلق من قال العمل يوجب هذا الجزاء بهذه الآية فإن الباء في قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تدل على العلية وذلك يدل على أن العمل يوجب هذا الجزاء وجوابنا أنه علة للجزاء لكن بسبب أن الشرع جعله علة له لا لأجل أنه لذاته موجب لذلك الجزاء والدليل عليه أن نعم الله على العبد لا نهاية لها فإذا أتى العبد بشيء من الطاعات وقعت هذه الطاعات في مقابلة تلك النعم السالفة فيمتنع أن تصير موجبة للثواب المتأخر
المسألة الثانية طعن بعضهم فقال هذه الآية تدل على أن العبد إنما يدخل الجنة بعمله وقوله عليه السلام ( لن يدخل أحد الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى ) وبينهما تناقض وجواب ما ذكرنا أن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته وإنما يوجه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له وأيضاً لما كان الموفى للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب عام في حق جميع المؤمنين وذلك يدل على أن كل من دخل الجنة فإنما يدخلها بعمله وإذا كان الأمر كذلك امتنع قول من يقول أن الفساق يدخلون الجنة تفضلاً من الله تعالى
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها والثاني باطل بالإجماع والأول لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق والأول باطل لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحداً لا يدخل الجنة بالتفضل والثاني أيضاً باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال إنه كان مستحقاً للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقاً للثواب وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة والجمع بينهما محال وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً
والجواب هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة والله أعلم
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاٌّ خِرَة ِ كَافِرُونَ
أعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان والطاعات أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين وهي الأحوال التي ذكرها في هذه الآية
واعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا دل ذلك على أنهم استقروا في الجنة في وقت هذا النداء فلما قال بعده وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ دل ذلك على أن هذا النداء إنما حصل بعد الاستقرار قال ابن عباس وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقاً والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو وههنا سؤالات
السؤال الأول إذا كانت الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين فمع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء
والجواب هذا يصح على قولنا لأنا عندنا البعد الشديد والقرب الشديد ليس من موانع الإدراك والتزم القاضي ذلك وقال إن في العلماء من يقول في الصوت خاصية إن البعد فيه وحده لا يكون مانعاً من السماع
السؤال الثاني هذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض
والجواب أن قوله وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ يفيد العموم والجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا
السؤال الثالث ما معنى ءانٍ في قوله أَن قَدْ وَجَدْنَا
والجواب إنه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت في قوله أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ ( الأعراف 43 ) وكذلك في قوله أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
السؤال الرابع هلا قيل مَا وَعَدَكُمُ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف 44 ) كما قيل مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا
والجواب قوله مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا يدل على أنه تعالى خاطبهم بهذا الوعد وكونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف ومزيد التشريف لا ئق بحال المؤمنين أما الكافر فهو ليس
أهلاً لأن يخاطبه الله تعالى فلهذا السبب لم يذكر الله تعالى أنه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر تعالى أنه بين هذا الحكم
أما قوله تعالى قَالُواْ نَعَمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق ولا يمكن ذلك إلا إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته
فإن قيل لما كانوا عارفين بذاته وصفاته وثبت أن من صفاته أنه يقبل التوبة عن عباده وعلموا بالضرورة أن عند قبول التوبة يتخلصون من العذاب فلم لا يتوبون ليخلصوا أنفسهم من العذاب وليس لقائل أن يقول أنه تعالى إنما يقبل التوبة في الدنيا لأن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 ) عام في الأحوال كلها وأيضاً فالتوبة اعتراف بالذنب وإقرار بالذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الحكيم التجاوز عن هذه الحالة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة
أجاب المتكلمون بأن شدة اشتغالهم بتلك الآلام الشديدة يمنعهم عن الإقدام على التوبة ولقائل أن يقول إذا كانت تلك الآلام لا تمنعهم عن هذه المناظرات فكيف تمنعهم عن التوبة التي بها يتخلصون عن تلك الآلام الشديدة
واعلم أن المعتزلة الذين يقولون يجب على الله قبول التوبة لا خلاص لهم عن هذا السؤال أما أصحابنا لما قالوا أن ذلك غير واجب عقلاً قالوا لله تعالى أن يقبل التوبة في الدنيا وأن لا يقبلها في الآخرة فزال السؤال والله أعلم
المسألة الثانية قال سيبويه نِعْمَ عدة وتصديق وقال الذين شرحوا كلامه معناه إنه يستعمل تارة عدة وتارة تصديقاً وليس معناه أنه عدة وتصديق معاً ألا ترى أنه إذا قال أتعطيني وقال نعم كان عدة ولا تصديق فيه وإذا قال قد كان كذا وكذا فقلت نعم فقد صدقت ولا عدة فيه وأيضاً إذا استفهمت عن موجب كما يقال أيقوم زيد قلت نعم ولو كان مكان الإيجاب نفياً لقلت بلى ولم تقل نعم فلفظة نعم مختصة بالجواب عن الإيجاب ولفظة بلى مختصة بالنفي كما في قوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 )
المسألة الثالثة قرأ الكسائي نِعْمَ بكسر العين في كل القرآن قال أبو الحسن هما لغتان قال أبو حاتم الكسر ليس بمعروف واحتج الكسائي بأنه روى عن عمر أنه سأل قوماً عن شيء فقالوا نعم فقال عمر أما النعم فالإبل قال أبو عبيدة هذه الرواية عن عمر غير مشهورة
أما قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى التأذين في اللغة النداء والتصويت بالإعلام والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها وقالوا في أَذَّنَ مُؤَذّنٌ نادى مناد أسمع الفريقين قال ابن عباس وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور
المسألة الثانية قوله بَيْنَهُمْ يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله أَذِنَ والتقدير أن المؤذن أوقع ذلك
الأذان بينهم وفي وسطهم ويحتمل أن يكون صفة لقوله مُؤَذّنٌ والتقدير أن مؤذناً من بينهم أذن بذلك الأذان والأول أولى والله أعلم
أما قوله تعالى أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم ءانٍ مخففة لَّعْنَة ُ بالرفع والباقون مشددة لَّعْنَة ُ بالنصب قال الواحدي رحمه الله من شدد فهو الأصل ومن خفف ءانٍ فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث تقديره أنه لعنه الله ومثله قوله تعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) التقدير أنه ولا تخفف أن إلا ويكون معها إضمار الحديث والشأن ويجوز أيضاً أن تكون المخففة هي التي للتفسير كأنها تفسير لما أذنوا به كما ذكرناه في قوله أَن قَدْ وَجَدْنَا وروى صاحب ( الكشاف ) أن الأعمش قرأ أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ بكسر ءانٍ على إرادة القول أو على إجراء أَذِنَ مجرى ( قال )
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية تدل على أن ذلك المؤذن أوقع لعنة الله على من كان موصوفاً بصفات أربعة
الصفة الأولى كونهم ظالمين لأنه قال أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قال أصحابنا المراد منه المشركون وذلك لأن المناظرة المتقدمة إنما وقعت بين أهل الجنة وبين الكفار بدليل أن قول أهل الجنة هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً لا يليق ذكره إلا مع الكفار
وإذا ثبت هذا فقول المؤذن بعده أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يجب أن يكون منصرفاً إليهم فثبت أن المراد بالظالمين ههنا المشركون وأيضاً أنه وصف هؤلاء الظالمين بصفات ثلاثة هي مختصة بالكفار وذلك يقوي ما ذكرناه وقال القاضي المراد منه كل من كان ظالماً سواء كان كافراً أو كان فاسقاً تمسكاً بعموم اللفظ
الصفة الثانية قوله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ومعناه أنهم يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل
والصفة الثالثة قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا والمراد منه إلقاء الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق
والصفة الرابعة قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ كَافِرُونَ واعلم أنه تعالى لما بين أن تلك اللعنة إنما أوقعها ذلك المؤذن على الظالمين الموصوفين بهذه الصفات الثلاثة كان ذلك تصريحاً بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين وذلك يدل على فساد ما ذكره القاضي من أن ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر والله أعلم
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاٌّ عْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن قوله وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين وهذا الحجاب هو المشهور المذكور في قوله فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ( الحديد 13 )
فإن قيل وأي حاجة إلى ضرب هذا السور بين الجنة والنار وقد ثبت أن الجنة فوق السموات وأن الجحيم في أسفل السافلين
قلنا بعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب وأما الأعراف فهو جمع عرف وهو كل مكان عال مرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك وكل مرتفع من الأرض عرف وذلك لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه
إذا عرفت هذا فنقول في تفسير لفظ الأعراف قولان
القول الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار وهذا قول ابن عباس وروي عنه أيضاً أنه قال الأعراف شرف الصراط
والقول الثاني وهو قول الحسن وقول الزجاج في أحد قوليه أن قوله وَعَلَى الاْعْرَافِ أي وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم فقيل للحسن هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذيه ثم قال هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معناا أما القائلون بالقول الأول فقد اختلفوا في أن الذين هم على الأعراف من هم ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين أحدهما أن يقال إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب الثاني أن يقال أنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب أما على التقدير الأول ففيه وجوه أحدها قال أبو مجلز هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار فقيل له يقول الله تعالى وَعَلَى الاْعْرَافِ رِجَالٌ وتزعم أنهم ملائكة فقال الملائكة ذكور لا إناث
ولقائل أن يقول الوصف بالرجولية إنما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية وثانيها قالوا إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزاً لهم عن سائر أهل القيامة وإظهاراً لشرفهم وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على أهل الجنة وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم وثالثها قالوا إنهم هم الشهداء لأنه تعالى وصف أصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار ثم قال قوم إنهم يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم وهذا الوجه باطل لأنه تعالى خص أهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف اختصاص بهذه المعرفة لأن كل أحد من أهل الجنة ومن أهل النار يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار ولما بطل هذا الوجه ثبت أن المراد بقوله يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ هو أنهم كانوا يعرفون في الدنيا أهل الخير والإيمان والصلاح وأهل الشر والكفر والفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهو تعالى يجلسهم على الأعراف وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على الكل
يشهدون على كل أحد بما يليق به ويعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب إلى الدركات
فإن قيل هذه الوجوه الثلاثة باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف أنهم لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء والملائكة والشهداء
أجاب الذاهبون إلى هذا الوجه بأن قالوا لا يبعد أن يقال إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم وأما قوله وَهُمْ يَطْمَعُونَ فالمراد من هذا الطمع اليقين ألا ترى أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وذلك الطمع كان طمع يقين فكذا ههنا فهذا تقرير قول من يقول أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنة
والقول الثاني وهو قول من يقول أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا جرم ما كانوا من أهل الجنة ولا من أهل النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة وبين النار ثم يدخلهم الله تعالى الجنة بفضله ورحمته وهم آخر قوم يدخلون الجنة وهذا قول حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما واختيار الفراء وطعن الجبائي والقاضي في هذا القول واحتجوا على فسادّه بوجهين الأول أن قالوا أن قوله تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الأعراف 43 ) يدل على أن كل من دخل الجنة فإنه لا بد وأن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة ولا النار ثم إنهم يدخلون الجنة بمحض التفضل لا بسبب الاستحقاق وثانيهما إن كونهم من أصحاب الأعراف يدل على أنه تعالى ميزهم من جميع أهل القيامة بأن أجلسهم على الأماكن العالية المشرفة على أهل الجنة وأهل النار وذلك تشريف عظيم ومثل هذا التشريف لا يليق إلا بالإشراف ولا شك أن الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة فلا يليق بهم ذلك التشريف
والجواب عن الأول أنه يحتمل أن يكون قوله وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا خطاب مع قوم معينين فلم يلزم أن يكون لكل أهل الجنة كذلك
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم أنه تعالى أجلسهم على تلك المواضع على سبيل التخصيص بمزيد التشريف والإكرام وإنما أجلسهم عليها لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار وهل النزاع إلا في ذلك فثبت أن الحجة التي عولوا عليها في إبطال هذا الوجه ضعيفة
الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في تفسير أصحاب الأعراف قالوا المراد من أصحاب الأعراف أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنة والنار
واعلم أن هذا القول داخل في القول الأول لأن هؤلاء إنما صاروا من أصحاب الأعراف لأن معصيتهم ساوت طاعتهم بإجهاد فهذا أحد الأمور الداخلة تحت الوجه الأول وبتقدير أن يصح ذلك الوجه فلا معنى لتخصيص هذه الصورة وقصر لفظ الآية عليها
والوجه الثالث قال عبد الله بن الحرث إنهم مساكين أهل الجنة
والوجه الرابع قال قوم أنهم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف فهذا كله شرح قول من يقول الأعراف عبارة عن الأمكنة العالية على السور المضروب بين الجنة وبين النار وأما الذين يقولون الأعراف عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار فهذا القول أيضاً غير بعيد إلا أن هؤلاء الأقوام لا بد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة وأهل النار وحينئذ يعود هذا القول إلى القول الأول فهذه تفاصيل أقوال الناس في هذا الباب والله أعلم ثم إنه تعالى أخبر أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم واختلفوا في المراد بقوله بِسِيمَاهُمْ على وجوه
فالقول الأول وهو قول ابن عباس أن سيما الرجل المسلم من أهل الجنة بياض وجهه كما قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد منهم أغر محجلاً من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة وكون عيونهم زرقاً
ولقائل أن يقول إنهم لما شاهدوا أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فأي حاجة إلى أن يستدل على كونهم من أهل الجنة بهذه العلامات لأن هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحس وذلك باطل وأيضاً فهذه الآية تدل على أن أصحاب الأعراف مختصون بهذه المعرفة ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا الاختصاص لأن هذه الأحوال أمور محسوسة فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص
والقول الثاني في تفسير هذه الآية أن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضاً بظهور علامات الكفر والفسق عليهم فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا وهذا الوجه هو المختار
أما قوله تعالى وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فالمعنى إنهم إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا على أهلها وعند هذا تم كلام أهل الأعراف
ثم قال لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ والمعنى أنه تعالى أخبر أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها ثم إن قلنا أن أصحاب الأعراف هم الأشراف من أهل الجنة فقد ذكرنا أنه تعالى إنما أجلسهم على الأعراف وأخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وأن أبا بكر وعمر منهم ) وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في
الاعراف وهي المواضع العالية الشريفة فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية وأما إن فسرنا أصحاب الأعراف بأنهم الذين يكونون في الدرجة النازلة من أهل النجاة قلنا أنه تعالى يجلسهم في الأعراف وهم يطعمون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة وأما قوله تعالى وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ فقال الواحدي رحمه الله التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ولذلك كان ظرفاً من ظروف المكان يقال فلان تلقاءك كما يقال هو حذاءك وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفاً ثم نقل الواحدي رحمه الله بإسناده عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهما قالا لم يأت من المصادر على تفعال ( إلا ) حرفان تبيان وتلقاء فإذا تركت هذين استوى ذلك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وترسال وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تمثال وتقصار ومعنى الآية أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات ويتخلص عن العقاب المذكور فيها
وَنَادَى أَصْحَابُ الاٌّ عْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلا ءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين بقوله وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا ( الأعراف 47 ) أتبعه أيضاً بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام المذكور لا يليق إلا بهم وهو قولهم مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ ولا يليق أيضاً إلا بأكابرهم والمراد بالجمع إما جمع المال وإما الاجتماع والكثرة وَمَا كُنتُمْ والمراد استكبارهم عن قبول الحق واستكبارهم على الناس المحقين وقرىء تستكثرون من الكثرة وهذا كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف بوقوع أولئك المخاطبين في العقاب وعلى تبكيت عظيم يحصل لأولئك المخاطبين بسبب هذا الكلام ثم زادوا على هذا التبكيت وهو قولهم تَسْتَكْبِرُونَ أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ فأشاروا إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم وربما هزؤوا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم فإذا رأى من كان يدعي التقدم حصول المنزلة العالية لمن كان مستضعفاً عنده قلق لذلك وعظمت حسرته وندامته على ما كان منه في نفسه
وأما قوله تعالى ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ فقد اختلفوا فيه فقيل هم أصحاب الأعراف والله تعالى يقول لهم ذلك أو بعض الملائكة الذين يأمرهم الله تعالى بهذا القول وقيل بل يقول بعضهم لبعض والمراد أنه
تعالى يحث أصحاب الأعراف بالدخول في الجنة واللحوق بالمنزلة التي أعدها الله تعالى لهم وعلى هذا التقدير فقوله أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ من كلام أصحاب الأعراف وقوله ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ من كلام الله تعالى ولا بد ههنا من إضمار والتقدير فقال الله لهم هذا كما قال يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ ( الأعراف 110 ) وانقطع ههنا كلام الملأ ثم قال فرعون فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( الأعراف 110 ) فاتصل كلامه بكلامهم من غير إظهار فارق فكذا ههنا
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم وقد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب بسبب شدة حر جهنم وقوله أَفِيضُواْ كالدلالة على أن أهل الجنة أعلى مكاناً من أهل النار
فإن قيل أسألوا مع الرجاء والجواز ومع اليأس
قلنا ما حكيناه عن ابن عباس يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول وقال القاضي بل مع اليأس لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل الغريق يتعلق بالزبد وإن علم أنه لا يغيثه وقوله أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قيل إنه الثمار وقيل إنه الطعام وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب
الحديد فيقطع ما في بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فيقول أهل الجنة إن الله حرمهما على الكافرين ويقولون لمالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام ويقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) فيجيبهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر في صفة أهل الجنة أنهم يرون الله عز وجل كل جمعة ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معه الهدايا الشريفة وقال إن نخل الجنة خشبها الزمرد وترابها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرها أمثال القلال أو الدلاء أشد بياضاً من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم له فهذا صفة أهل الجنة وصفة أهل النار ورأيت في بعض الكتب أن قارئاً قرأ قوله تعالى حكاية عن الكفار أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في تذكرة الأستاذ أبي علي الدقاق فقال الأستاذ هؤلاء كانت رغبتهم وشهوتهم في الدنيا في الشرب والأكل وفي الآخرة بقوا على هذه الحالة وذلك يدل على أن الرجل يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ثم بين تعالى أن هؤلاء الكفار لما طلبوا الماء والطعام من أهل الجنة قال أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ولا شك أن ذلك يفيد الخيبة التامة ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الكفار بأنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وفيه وجهان
الوجه الأول أن الذي اعتقدوا فيه أنه دينهم تلاعبوا به وما كانوا فيه مجدين
والوجه الثاني أنهم اتخذوا اللهو واللعب ديناً لأنفسهم قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المستهزئين المقتسمين ثم قال وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وهو مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوباً عن طلب الدين غرقاً في طلب الدنيا ثم لما وصف الله تعالى أولئك الكفار بهذه الصفات قال فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وفي تفسير هذا النسيان قولان
القول الأول أن النسيان هو الترك والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين
والقول الثاني أن معنى ننساهم كما نسوا أي نعاملهم معاملة من نسي نتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض بآياتنا وبالجملة فسمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان كما في قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) والمراد من هذا النسيان أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم ثم بين تعالى أن كل هذه التشديدات إنما كان لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون وهذه الآية لطيفة عجيبة وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كانوا كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثاً ثم صار عاقبة هذه الأحوال والدرجات أنهم جحدوا بآيات الله وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة كما قال عليه الصلاة والسلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر والضلال
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف ثم شرح الكلمات الدائرة بين هؤلاء الفرق الثلاث على وجه يصير سماع تلك المناظرات حاملاً للمكلف على الحذر والاحتراز وداعياً له إلى النظر والاستدلال بين شرف هذا الكتاب الكريم ونهاية منفعته فقال وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ وهو القرآن فَصَّلْنَاهُ أي ميزنا بعضه عن بعض تمييزاً يهدي إلى الرشد ويؤمن عن الغلط والخبط فأما قوله عَلَى عِلْمٍ فالمراد أن ذلك التفصيل والتمييز إنما حصل مع العلم التام بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد المتكاثرة والمنافع المتزايدة وقوله هُدًى وَرَحْمَة ً قال الزجاج هُدًى في موضع نصب أي فصلناه هادياً وذا رحمة وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين والمراد أنهم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم فهو كقوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) واحتج أصحابنا بقوله فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ على أنه تعالى عالم بالعلم خلافاً لما يقوله المعتزلة من أنه ليس لله علم والله أعلم
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب فقال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع
فإن قيل كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم له وإنكارهم
قلنا لعل فيهم أقواماً تشككوا وتوقفوا فلهذا السبب انتظروه وأيضاً إنهم وإن كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة وقوله إِلاَّ تَأْوِيلَهُ قال الفراء الضمير في قوله تَأْوِيلِهِ للكتاب يريد عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل وقد احتج بهذه الآية من ذهب إلى قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 7 ) أي ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله وقوله يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يريد يوم القيامة قال الزجاج قوله يَوْمٍ نصب بقوله يِقُولُ وأما قوله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ معناه أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه ويجوز أن يكون معنى نَسُوهُ أي تركوا العمل به والإيمان به وهذا كما ذكرنا في قوله كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 51 ) ثم بين تعالى أن هؤلاء الذين نسوا يوم القيامة يقولون قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ
والمراد أنهم أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من ثبوت الحشر والنشر والبعث والقيامة والثواب والعقاب كل ذلك كان حقاً وإنما أقروا بحقيقة هذه الأشياء لأنهم شاهدوها وعاينوها وبين الله تعالى أنهم لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا هَل لَّنَا مِنَ شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ والمعنى إنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل يعني نوحد الله تعالى بدلاً عن الكفر ونطيعه بدلاً عن المعصية
فإن قيل أقالوا هذا الكلام مع الرجاء أو مع اليأس وجوابنا عنه مثل ما ذكرناه في قوله أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء ( الأعراف 50 ) ثم بين تعالى بقوله قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ أن الذين طلبوه لا يكون لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنهم قد خسروا أنفسهم
ثم قال وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ يريد أنهم لم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا ولم ينتفعوا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها قال الجبائي هذه الآية تدل على حكيمن
الحكم الأول
قال الآية تدل على أنهم كانوا في حال التكليف قادرين على الإيمان والتوبة فلذلك سألوا الرد ليؤمنوا ويتوبوا ولو كانوا في الدنيا غير قادرين كما يقوله المجبرة لم يكن لهم في الرد فائدة ولا جاز أن يسألوا ذلك
الحكم الثاني
أن الآية تدل على بطلان قول المجبرة والذين يزعمون أن أهل الآخرة مكلفون لأنه لو كان كذلك لما سألوا الرد إلى حال وهم في الوقت على مثلها بل كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال فبطل ما حكي عن النجار وطبقته من أن التكليف باق على أهل الآخرة
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاوَاتِ والأرض فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاٌّ مْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنا بينا أن مدار أمر القرآن على تقدير هذه المسائل الأربع وهي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر ولا شك أن مدار إثبات المعاد على إثبات التوحيد والقدرة والعلم فلما بالغ الله تعالى في تقرير أمر المعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التوحيد ومقررة أيضاً لإثبات المعاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى حكى الواحدي عن الليث أنه قال الأصل في الست والستة سدس وسدسة أبدل السين تاء ولما كان مخرج الدال والتاء قريباً أدغم أحدهما في الآخر واكتفى بالتاء عليه أنك تقول في تصغير ستة سديسة وكذلك الأسداس وجميع تصرفاته يدل عليه والله أعلم
المسألة الثانية الْخَلْقِ التقدير على ما قررناه فخلق السموات والأرض إشارة إلى تقدير حالة من أحوالهما وذلك التقدير يحتمل وجوهاً كثيرة أولها تقدير ذواتهما بمقدار معين مع أن العقل يقضي بأن الأزيد منه والأنقص منه جائز فاختصاص كل واحد منهما بمقداره المعين لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وذلك يدل على افتقار خلق السموات والأرض إلى الفاعل المختار وثانيها أن كون هذه الأجسام متحركة في الأزل محال لأن الحركة انتقال من حال إلى حال فالحركة يجب كونها مسبوقة بحالة أخرى والأزل ينافي المسبوقية فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً
إذا ثبت هذا فنقول هذه الأفلاك والكواكب إما أن يقال أن ذواتها كانت معدومة في الأزل ثم وجدت أو يقال إنها وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة ساكنة في الأزل ثم ابتدأت بالحركة وعلى التقديرين فتلك الحركات ابتدأت بالحدوث والوجود في وقت معين مع جواز حصولها قبل ذلك الوقت وبعده وإذا كان كذلك كان اختصاص ابتداء تلك الحركات بتلك الأوقات المعينة تقديراً وخلقاً ولا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر ومختار وثالثها أن أجرام الأفلاك والكواكب والعناصر مركبة من أجزاء صغيرة ولا بد وأن يقال إن بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام وبعضها حصلت على سطوحها فاختصاص حصول كل واحدة من تلك الأجزاء بحيزه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص المخصص القادر المختار ورابعها أن بعض الأفلاك أعلى من بعض وبعض الكواكب حصل في المنطقة وبعضها في القطبين فاختصاص كل واحد منهما بموضعه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص قادر مختار وخامسها أن كل واحد من الأفلاك متحرك إلى جهة مخصوصة وحركة مختصة بمقدار معين مخصوص من البطء والسرعة وذلك أيضاً خلق وتقدير ويدل على وجود المخصص القادر وسادسها أن كل واحد من الكواكب مختص بلون مخصوص مثل كمودة زحل ودرية المشتري وحمرة المريخ وضياء الشمس وإشراق الزهرة وصفرة عطارد وزهور القمر والأجسام متماثلة في تمام الماهية فكان اختصاص كل واحد منها بلونه المعين خلقاً وتقديراً ودليلاً على افتقارها إلى الفاعل المختار وسابعها أن الأفلاك والعناصر مركبة من الأجزاء الصغيرة وواجب الوجود لا يكون أكثر من واحد فهي ممكنة الوجود في ذواتها فكل ما كان ممكناً لذاته فهو محتاج إلى المؤثر والحاجة إلى المؤثر لا تكون في حال البقاء وإلا لزم تكون الكائن فتلك الحاجة لا تحصل إلا في زمان الحدوث أو في زمان العدم وعلى التقديرين فيلزم كون هذه الأجزاء محدثة ومتى كانت محدثة كان حدوثها مختصاً بوقت معين وذلك خلق
وتقدير ويدل على الحاجة إلى الصانع القادر المختار وثامنها أن هذه الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فهذه الأجسام محدثة وكل محدث فقد حصل حدوثه في وقت معين وذلك خلق وتقدير ولا بد له من الصانع القادر المختار وتاسعها أن الأجسام متماثلة فاختصاص بعضها بالصفات التي لأجلها كانت سموات وكواكب والبعض الآخر بالصفات التي لأجلها كانت أرضاً أو ماء أو هواء أو ناراً لا بد وأن يكون أمراً جائزاً وذلك لا يحصل إلا بتقدير مقدر وتخصيص مخصص وهو المطلوب وعاشرها أنه كما حصل الامتياز المذكور بين الأفلاك والعناصر فقد حصل أيضاً مثل هذا الامتياز بين الكواكب وبين الأفلاك وبين العناصر بل حصل مثل هذا الامتياز بين كل واحد من الكواكب وذلك يدل على الافتقار إلى الفاعل القادر المختار
واعلم أن الخلق عبارة عن التقدير فإذا دللنا على أن الأجسام متماثلة وجب القطع بأن كل صفة حصلت لجسم معين فإن حصول تلك الصفة ممكن لسائر الأجسام وإذا كان الأمر كذلك كان اختصاص ذلك الجسم المعين بتلك الصفة المعينة خلقاً وتقديراً فكان داخلاً تحت قوله سبحانه إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والله أعلم
المسألة الثالثة لسائل أن يسأل فيقول كون هذه الأشياء مخلوقة في ستة أيام لا يمكن جعله دليلاً على إثبات الصانع وبيانه من وجوه الأول أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصانع هو حدوثها أو إمكانها أو مجموعهما فإما وقوع ذلك الحدوث في ستة أيام أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتة والثاني أن العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستة أيام إلا بأخبار مخبر صادق وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار فلو جعلنا هذه المقدمة مقدمة في إثبات الصانع لزم الدور والثالث أن حدوث السموات والأرض دفعة واحدة أدل على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيام
إذا ثبت ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فنقول ما الفائدة في ذكر أنه تعالى إنما خلقها في ستة أيام في إثبات ذكر ما يدل على وجود الصانع والرابع أنه ما السبب في أنه اقتصر ههنا على ذكر السموات والأرض ولم يذكر خلق سائر الأشياء
السؤال الخامس اليوم إنما يمتاز عن الليلة بسبب طلوع الشمس وغروبها فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام
والسؤال السادس أنه تعالى قال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ الْبَصَرُ ( القمر 50 ) وهذا كالمناقض لقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ
والسؤال السابع أنه تعالى خلق السموات والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة فنقول أما على مذهبنا فالأمر في الكل سهل واضح لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ثم نقول
أما السؤال الأول فجوابه أنه سبحانه ذكر في أول التوراة أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام
والعرب كانوا يخالطون اليهود والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتها في ستة أيام
وأما السؤال الثالث فجوابه أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حداً محدوداً ووقتاً مقدراً فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه فهو وإن كان قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته فلا يفتر عنه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة ق وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( ق 38 39 ) بعد أن قال قبل هذا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 36 37 ) فأخبرهم بأنه قد أهلك من المشركين به والمكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشاً من مشركي العرب إلا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة كما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلاً قليلاً قال بعده فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين
الوجه الأول أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم وقادر عليم رحيم
الوجه الثاني أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أولاً ثم يخلق السموات والأرض بعده ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين
وأما السؤال الرابع فجوابه أن ذكر السموات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضاً على ذكر ما بينهما والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ وقال وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الفرقان 58 59 ) وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( ق 38 )
وأما السؤال الخامس فجوابه أن المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل ثم ولا نهار
وأما السؤال السادس فجوابه أن قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( القمر 50 ) محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة
وأما السؤال السابع وهو تقدير هذه المدة بستة أيام فهو غير وارد لأنه تعالى لو أحدثه في مقدار آخر من الزمان لعاد ذلك السؤال وأيضاً قال بعضهم لعدد السبعة شرف عظيم وهو مذكور في تقرير أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين وإذا ثبت هذا قالوا فالأيام الستة في تخليق العالم واليوم السابع في حصول كمال الملك والملكوت وبهذا الطريق حصل الكمال في الأيام السبعة انتهى
المسألة الرابعة في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره
أما قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقراً على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية ووجوه نقلية أما العقلية فأمور أولها أنه لو كان مستقراً على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً وإلا لزم كون العرش داخلاً في ذاته وهو محال وكل ما كان متناهياً فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري فلو كان الباري تعالى متناهياً من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلك فهو محدث فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً ولو كان كذلك لكان محدثاً وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالاً وثانيها لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً في كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعاً
بيان فساد القسم الأول أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات وتعالى الله عنه وأيضاً فعلى هذا التقدير تكون السموات حالة في ذاته وتكون الأرض أيضاً حالة في ذاته
إذا ثبت هذا فنقول الشيء الذي هو محل السموات إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره فإن كان الأول لزم كون السموات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلاً وكل حالين حلا في محل واحد لم يكن أحدهما ممتازاً عن الآخر فلزم أن يقال
السموات لا تمتاز عن الأرضين في الذات وذلك باطل وإن كان الثاني لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال والثالث وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات فإما أن يقال الشيء الذي حصل فوق هو عين الشيء الذي حصل تحت فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة وهو محال في بديهة العقل وأما إن قيل الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال أنه تعالى متناه من كل الجهات فنقول كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لأجل تخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فهو محدث وأيضاً فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يعقل أن يقال خالق العالم هو الشمس أو القمر أو كوكب آخر وذلك باطل باتفاق
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه متناه من بعض الجوانب وغير متناه من سائر الجوانب فهذا أيضاً باطل من وجوه أحدها أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهياً غير ما صدق عليه كونه غير متناه وإلا لصدق النقيضان معاً وهو محال وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وثانيها أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهياً إما أن يكون مساوياً للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه وإما أن لا يكون كذلك والأول باطل لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي وإذا كان كذلك فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهياً والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكناً وكل ما كان كذلك فهو محدث وذلك على الإله القديم محال فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من كل الجهات أو كان متناهياً من بعض الجهات وغير متناه من سائر الجهات فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة محال
والبرهان الثالث لو كان الباري تعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فكان القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة باطلاً
أما بيان فساد القسم الأول فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجوداً مشاراً إليه فحينئذ يكون المسمى بالحيز والجهة بعداً وامتداد والحاصل فيه أيضاً يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد وإلا لامتنع حصوله فيه وحينئذ يلزم تداخل البعدين وذلك محال للدلائل الكثيرة المشهورة في هذا الباب وأيضاً فيلزم من كون الباري تعالى قديماً أزلياً كون الحيز والجهة أزليين وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل
وأما بيان فساد القسم الثاني فهو من وجهين أحدهما أن العدم نفي محض وعدم صرف وما كان كذلك امتنع كونه ظرفاً لغيره وجهة لغيره وثانيهما أن كل ما كان حاصلاً في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره فلو كانت تلك الجهة عدماً محضاً لزم كون العدم المحض مشاراً إليه بالحس وذلك باطل فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطين فوجب أن يكون القول به باطلاً
فإن قيل فهذا أيضاً وارد عليكم في قولكم الجسم حاصل في الحيز والجهة
فنقول نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزاً ولا جهة أصلاً ألبتة بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى فسقط هذا السؤال
البرهان الرابع لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز لزم كونه ممكناً لذاته ولما كان هذا محالاً كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالاً
بيان المقام الأول هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى إلا إذا كان مختصاً بالحيز والجهة فنقول لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره كان ممكناً لذاته والدليل عليه أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه فلو كان الواجب لذاته مفتقراً إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان وهو محال فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكناً لذاته لا واجباً لذاته وذلك محال
والوجه الثاني في تقرير هذه الحجة هو أن الممكن محتاج إلى الحيز والجهة أما عند من يثبت الخلاء فلا شك أن الحيز والجهة تتقرر مع عدم التمكن وأما عند من ينفي الخلاء فلا لأنه وإن كان معتقداً أنه لا بد من متمكن يحصل في الجهة إلا أنه لا يقول بأنه لابد لتلك الجهة من متمكن معين بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلاً لذلك الحيز إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز وكان ذلك الحيز غنياً تحققه عن ذات الله تعالى وحينئذ يلزم أن يقال الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا الإله تعالى واجب الوجود لذاته
فإن قيل الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه
فنقول هذا باطل قطعاً لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل
المحسوسات وذلك لا يقوله عاقل
البرهان الخامس في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصاً بالحيز والجهة نقول الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض والخلاء الصرف وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه ألبتة وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية
وإذا ثبت هذا فنقول لو كان الإله تعالى مختصاً بحيز لكان محدثاً وهذا محال فذاك محال وبيان الملازمة أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لأجل أن مخصصاً خصصه بذلك الحيز وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثاً فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز وثبت أن الحصول في الحيز محدث وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث لزم القطع بأنه لو كان حاصلاً في الحيز لكان محدثاً ولما كان هذا محالاً كان ذلك أيضاً محالاً
فإن قالوا الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو فنقول هذا باطل لأن كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلاً أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب فلم لا يعقل أيضاً أن يقال إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب وعلى ها التقدير فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم
البرهان السادس لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة
فإن قلنا إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهراً فرداً لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضاً فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه
وأما القسم الثاني وهو أنه يقبل القسمة فنقول كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر وذلك على الإله الواجب لذاته محال
البرهان السابع أن نقول كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس
أما المقدمة الأولى فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم
وأما المقدمة الثانية وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد
البرهان الثامن لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسماً لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسماً لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة أما عندنا فظاهر وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى فثبت أن هذا المذهب باطل
البرهان التاسع لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهياً من كل الجوانب وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلاً في الحيز والجهة باطل أيضاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهياً من كل الجهات فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالماً آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضاً فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساماً أخرى وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكل ذلك على الله تعالى محال
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضاً محال لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى والمباحث العقلية مبنية على المعاني لا على المشاحة في الألفاظ
البرهان العاشر لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما فساد القسم الأول فلأنه لما كان كونه هناك مانعاً من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساوياً لسائر الأجسام في كونه حجماً متحيزاً ممتداً في الحيز والجهة مانعاً من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة
من سائر الوجوه أو لا يحصل والأول باطل لوجهين الأول أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف والثاني وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة وإما أن يكون حالاً فيه وإما أن يقال إنه لا محل له ولا حالاً فيه أما الأول وهو أن يكون محلاً لما به المخالفة فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال ما به المخالفة محل وذات وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل وذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجوداً مجرداً لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال
وأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا محلاً له فنقول فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متبايناً عن الآخر وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ولا محالاً لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن القول بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثاثلا الباطلة فوجب كونه باطلاً
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة فهذا أيضاً محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالاً باطلاً
البرهان الحادي عشر على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول لو كان مختصاً بحيز وجهة لكان إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما القسم الأول وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما
محدثان لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أنه يكون مختصاً بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضاً محال لوجهين الأول أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على الله محال والثاني أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضاً فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر والثالث أنه تعالى لما كان حاصلاً في الحيز والجهة كان مساوياً للأجسام في كونه متحيزاً شاغلاً للأحياز ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية لأنه لو خالف بعضها بعضاً لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالاً في المتحيز أو محلاً له أو لا حالاً ولا محلاً والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
الحجة الثانية عشرة لو كان تعالى مختصاً بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف والماء اللطيف وحينئذ يكون قابلاً للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلباً كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقاً سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء وإما أن يكون صلباً جاسئاً كالحجر الصلد وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضاً فبتقدير أن يكون مختصاً بمكان وجهة لكان إما أن يكون نورانياً وظلمانياً وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها والدخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جارياً مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزق أخرى وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي وأيضاً فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلفاً مركباً من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثاني
فحينئذ يكون ذاته سطحاً رقيقاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة
الحجة الثالثة عشرة العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق
أما المقام الأول فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة
وإذا ثبت هذا فنقول إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً بالنسبة إلى أقوام معينين وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث وشمالاً بالنسبة إلى رابع وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم والله أعلم
الحجة الرابعة عشرة لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل
أما بيان فساد القسم الأول فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً ثم يعود التقسيم فيه وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت وذلك لا يقوله عاقل
وأما القسم الثاني وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضاً محال لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ومحصوراً بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه
فإن قيل أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما الأزل والثاني أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا ههنا وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم
والجواب أن هذا هو محض المغالطة لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة وأما إن قلنا بالقسم الثاني وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل
الحجة الخامسة عشرة إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد وليس يعقل في المكان قسم ثالث
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المكان هو الأول فنقول ثبت أن أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثاني فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً
بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين فيلزم كون الإله محدثاً وهو محال فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات
فإن قالوا الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو فنقول هذا باطل لأن كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلاً أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب فلم لا يعقل أيضاً أن يقال إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب وعلى ها التقدير فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم
البرهان السادس لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة
فإن قلنا إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهراً فرداً لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضاً فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه
وأما القسم الثاني وهو أنه يقبل القسمة فنقول كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر وذلك على الإله الواجب لذاته محال
البرهان السابع أن نقول كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس
أما المقدمة الأولى فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم
وأما المقدمة الثانية وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد
البرهان الثامن لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسماً لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسماً لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة أما عندنا فظاهر وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى فثبت أن هذا المذهب باطل
البرهان التاسع لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهياً من كل الجوانب وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلاً في الحيز والجهة باطل أيضاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهياً من كل الجهات فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالماً آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضاً فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساماً أخرى وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكل ذلك على الله تعالى محال
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضاً محال لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى والمباحث العقلية مبنية على المعاني لا على المشاحة في الألفاظ
البرهان العاشر لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما فساد القسم الأول فلأنه لما كان كونه هناك مانعاً من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساوياً لسائر الأجسام في كونه حجماً متحيزاً ممتداً في الحيز والجهة مانعاً من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه أو لا يحصل والأول باطل لوجهين الأول أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف والثاني وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة وإما أن يكون حالاً فيه وإما أن يقال إنه لا محل له ولا حالاً فيه أما الأول وهو أن يكون محلاً لما به المخالفة فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال ما به المخالفة محل وذات وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل وذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجوداً مجرداً لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال
وأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا محلاً له فنقول فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متبايناً عن الآخر وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ولا محالاً لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن القول بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثاثلا الباطلة فوجب كونه باطلاً
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة فهذا أيضاً محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالاً باطلاً
البرهان الحادي عشر على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول لو كان مختصاً بحيز وجهة لكان إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما القسم الأول وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أنه يكون مختصاً بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضاً محال لوجهين الأول أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على الله محال والثاني أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضاً فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر والثالث أنه تعالى لما كان حاصلاً في الحيز والجهة كان مساوياً للأجسام في كونه متحيزاً شاغلاً للأحياز ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية لأنه لو خالف بعضها بعضاً لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالاً في المتحيز أو محلاً له أو لا حالاً ولا محلاً والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
الحجة الثانية عشرة لو كان تعالى مختصاً بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف والماء اللطيف وحينئذ يكون قابلاً للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلباً كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقاً سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء وإما أن يكون صلباً جاسئاً كالحجر الصلد وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضاً فبتقدير أن يكون مختصاً بمكان وجهة لكان إما أن يكون نورانياً وظلمانياً وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها والدخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جارياً مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزق أخرى وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي وأيضاً فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلفاً مركباً من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذاته سطحاً رقيقاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة
الحجة الثالثة عشرة العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق
أما المقام الأول فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة
وإذا ثبت هذا فنقول إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً بالنسبة إلى أقوام معينين وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث وشمالاً بالنسبة إلى رابع وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم والله أعلم
الحجة الرابعة عشرة لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل
أما بيان فساد القسم الأول فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً ثم يعود التقسيم فيه وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت وذلك لا يقوله عاقل
وأما القسم الثاني وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضاً محال لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ومحصوراً بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه
فإن قيل أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما الأزل والثاني أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا ههنا وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم
والجواب أن هذا هو محض المغالطة لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة وأما إن قلنا بالقسم الثاني وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل
الحجة الخامسة عشرة إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد وليس يعقل في المكان قسم ثالث
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المكان هو الأول فنقول ثبت أن أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثاني فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين فيلزم كون الإله محدثاً وهو محال فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات
الحجة السادسة عشرة وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جداً وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جداً وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعاً من التأثيرات وأما الهواء فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق وأما النار فإنها أقل كثافة من الهواء فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان وأما الأفلاك فإنها ألطف من الأجرام العنصرية فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيراً وكلما كان أقوى قوة وتأثيراً كان أقل حجمية وجرمية وجسمية وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظناً قوياً أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك ألبتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة وهذا وإن كان بحثاً استقرائياً إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزهاً عن الجسمية والموضع والحيز وبالله التوفيق فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزهاً عن الاختصاص بالحيز والجهة
أما الدلائل السمعية فكثيرة أولها قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) فوصفه بكونه أحداً والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون أنه تعالى ذات واحدة ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة قالوا فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية وأيضاً فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز فيظن أنها أشياء كثيرة ومعلوم أن من جوزه فقد التزم منكراً من القول عظيماً
فإن قالوا إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي وذلك يوجب التغاير وأيضاً فنرى بعضها متحركاً وبعضها ساكناً والمتحرك غير الساكن فوجب القول بالتغاير وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله فظهر الفرق فنقول أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه
يفنى ذلك الجزء الآخر وذلك يوجب التغاير فنقول لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط ثم إنه حصل ههنا وهناك وأيضاً حصل موصوفاً بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك فأما أن يقال إنه فني في نفسه فهذا غير مسلم وأما قوله نرى بعض الأجسام متحركاً وبعضها ساكناً وذلك يوجب التغاير لأن الحركة والسكون لا يجتمعان فنقول إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة ل يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معاً لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معاً لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة ثم مع ذلك يمتلىء العرش منه لم يبعد أيضاً أن يقال العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات وثانيها أنه تعالى قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) فلو كان إله العالم في العرش لكان حامل العرش حاملاً للإله فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً ومحفوظاً حافظاً وذلك لا يقوله عاقل وثالثها أنه تعالى قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ ( محمد 38 ) حكم بكونه غنياً على الإطلاق وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة ورابعها أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات فإنه لما قال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) ففي المرة الأولى قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( الدخان 7 ) وفي الثانية قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وفي المرة الثالثة قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( الشعراء 28 ) وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية وأما فرعون لعنه الله فإنه قال فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( غافر 36 37 ) فطلب الإله في السماء فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وسائر جميع الأنبياء وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة وخامسها أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وكلمة ( ثم ) للتراخي وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار لزم أن يقال إنه ما كان مستقراً على العرش بل كان معوجاً مضطرباً ثم استوى عليه بعد ذلك وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة والسكون أخرى وذلك لا يقوله عاقل وسادسها هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسماً لكان أبداً غارباً آفلاً وكان منتقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعناً في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلاً في إله العالم فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته وسابعها أنه تعالى ذكر قبل قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ شيئاً وبعده شيئاً آخر أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
وقد بينا أن خلق السموات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء أولها قوله يَغْشَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله وعلى قدرته وحكمته وثانيها قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وهو أيضاً من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم وثالثها قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو أيضاً إشارة إلى كمال قدرته وحكمته
إذا ثبت هذا فنقول أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم وآخرها يدل أيضاً على هذا المطلوب وإذ كان الأمر كذلك فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وجب أن يكون أيضاً دليلاً على كمال القدرة والعلم لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقراً على العرش كان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده فإن كونه تعالى مستقراً على العرش لا يمكن جعله دليلاً على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضاً من صفات المدح والثناء لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش فثبت أن كونه جالساً على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء فلو كان المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كونه جالساً على العرش لكان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده وهذا يوجب نهاية الركاكة فثبت أن المراد منه ليس ذلك بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب وثامنها أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) وإذا كان الأمر كذلك فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء فلو كان إله العالم موجوداً فوق العرش لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقاً لكل السموات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقاً لنفسه وذلك محال
وإذا ثبت هذا فنقول قوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ آية محكمة دالة على أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ من المتشابهات التي يجب تأويلها وهذه نكتة لطيفة ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ( الأنعام 3 ) ثم قال بعده بقليل قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات فهو ملك لله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه وذلك محال فكذا ههنا فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله وهو الذي قررناه في تفسير قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه
والقول الثاني أن نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان الأول ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال الْعَرْشِ في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ثم جعل العرش كناية عن
نفس الملك يقال ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال وأقول إن الذي قاله حق وصدق وصواب ونظيره قولهم للرجل الطويل فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيباً وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة ثم قال القفال رحمه الله تعالى والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه فإذا قال إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدة والفكرة والروية وهكذا القول في كل صفاته وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعاً يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وإنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال ثم قال القفال والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الاْمْرَ ( يونس 3 ) فقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ جرى مجرى التفسير لقوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى وهذا يدل على أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إشارة إلى ما ذكرناه
فإن قيل فإذا حملتم قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ على أن المراد استوى على الملك وجب أن يقال الله لم يكن مستوياً قبل خلق السموات والأرض
قلنا إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادراً على تخليقها وتكوينها وما كان مكوناً ولا موجوداً لها بأعيانها بالفعل لأن إحياء زيد وإماتة عمرو وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل إلا عند هذه الأحوال فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السموات والأرض وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع
والوجه الثاني في الجواب أن يقال استوى بمعنى استولى وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا
والوجه الثالث أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى علا واستعلى على الملك فيكون المعنى أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت واعلم أنه تعالى ذكر قوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ في سور سبع إحداها ههنا وثانيها في يونس وثالثها في الرعد ورابعها في طه وخامسها في الفرقان وسادسها في السجدة وسابعها في الحديد وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغاً كثيراً وافياً بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر
أما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص يُغْشِى بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وفي الرعد هكذا قال الواحدي رحمه الله الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف فمن التشديد قوله تعالى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( النجم 54 ) ومن اللغة الثانية قوله فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( يس 9 ) والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار وأن يكون المراد النهار بالليل واللفظ يحتملهما معاً وليس فيه تغيير والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس وَهُوَ الَّذِى مَدَّ بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه عن كل الجهات فقال يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة
المسألة الثالثة قوله يَطْلُبُهُ حَثِيثًا قال الليث الحث الإعجال يقال حثثت فلاناً فأحتث فهو حثيث ومحثوث أي مجد سريع
واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة وذلك هو الحق لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدة حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة فلهذا السبب قال تعالى يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ونظير هذه الآية قوله سبحانه لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( يس 40 ) فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها
ثم قال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ ( فصلت 37 ) فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية 13 ) ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيداً استقام أن تقول زيد مضروب
المسألة الثانية في هذه الآية لطائف فالأولى أن الشمس لها نوعان من الحركة
أحد النوعين حركتها بحسب ذاتها وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السنة
والنوع الثاني حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم وهذه الحركة تتم في اليوم بليلة
إذا عرفت هذا فنقول الليل والنهار لا يحصل بسبب حركة الشمس وإنما يحصل بسبب حركة السماء الأقصى التي يقال لها العرش فهذا السبب لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ربط به قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن سبب حصول الليل والنهار هو حركة الفلك الأقصى لا حركة الشمس والقمر وهذه دقيقة عجيبة والثانية أنه تعالى لما شرح كيفية تخليق السموات قال فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا ( فصلت 12 ) فدلت تلك الآية على أنه سبحانه خص كل ذلك بلطيفة نورانية ربانية من عالم الأمر
ثم قال بعده أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى أما من عالم الخالق أو من عالم الأمر أما الذي هو من عالم الخلق فالخلق عبارة عن التقدير وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق وكل ما كان بريئاً عن الحجمية والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر فدل على أنه سبحانه خص كل واحد من أجرام الأفلاك والكواكب التي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة وهم من عالم الأمر والأحاديث الصحيحة مطابقة لذلك وهي ما روي في الأخبار أن لله ملائكة يحركون الشمس والقمر عند الطلوع وعند الغروب وكذا القول في سائر الكواكب وأيضاً قوله سبحانه وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) إشارة إلى أن الملائكة الذين يقومون بحفظ العرش ثمانية ثم إذا دققت النظر علمت أن عالم الخلق في تسخير الله وعالم الأمر في تدبير الله واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقدير الله فلهذا المعنى قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
ثم قال بعده تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والبركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه فإن حملته على الثبات والدوام فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه
في جميع الأمور وأيضاً إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى لأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا هو وكل ما سواه ممكن وكل ممكن فلا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه لا جرم كان الثناء المذكور بقوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( غافر 64 ) لا يليق إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته
المسألة الثالثة كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه يحتمل وجوهاً أحدها أنا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة أن الأجسام متماثلة ومتى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي لا بد وأن يكون لأجل أن الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص عن قدرة المدبر الحكيم الرحيم العليم وثانيها أن يقال إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً بطيئاً من المغرب إلى المشرق وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في أجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب فأجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ رتب عليه حكمين أحدهما قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش والثاني قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تنبيهاً على أن الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله وثانيها أن أجسام العالم على ثلاثة أقسام منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الخفاف ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الأجرام الفلكية الكوكبية فإنها مستديرة حول الوسط فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا إليه لا يكون إلا بتسخير الله وتدبيره حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة فلهذا السبب قال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ورابعها أن الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة فهذه الحركة تكون في غاية البطء ثم ههنا دقيقة أخرى وهي أن كل كوكب من الكواكب الثابتة كان أقرب إلى المنطقة كانت حركته أسرع وكل ما كان أقرب إلى القطب كانت حركته أبطأ فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام إنه هو القطب يدور في دائرة في غاية الصغر وهو إنما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جداً في مدة ستة وثلاثين ألف سنة فإذا تأملت علمت أن تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء فذلك الكوكب اختص بأبطأ حركات هذا العالم وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات وأيضاً فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات
مخصوصة فأسرعها هو المنطقة وكل ما كان أقرب إليه فهو أسرع حركة مما هو أبعد منه ثم إنه سبحانه رتب مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سبباً لحصول المصالح في هذا العالم كما قال في أول سورة البقرة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( البقرة 29 ) أي سواهن على وفق مصالح هذا العالم وهو بكل شيء عليم أي هو عالم بجميع المعلومات فيعلم أنه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم فهذا أيضاً نوع عجيب في تسخير الله تعالى هذه الأفلاك والكواكب فتكون داخلة تحت قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم وذلك على خلاف المعتادا فيقال لهذا المسكين إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته وتقريره من وجوه الأول أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها والثاني أنه تعالى قال أَوَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ق 6 ) فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها والثالث أنه تعالى قال لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( غافر 57 ) فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) فما كان أعلى شأناً وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب والرابع أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل والخامس أن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى وأيضاً فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل
إذا ثبت هذا فنقول من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة فيصير ذلك جارياً مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر ومن دليل إلى دليل آخر فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه
الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة ونسأل الله العون والعصمة
المسألة الرابعة الأمر المذكور في قوله مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قد فسرناه بما سبق ذكره وأما المفسرون فلهم فيه وجوه أحدها المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته وليس المراد من هذا الأمر الكلام ونظيره في قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة
المسألة الخامسة أن الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سبباً لعمارة هذا العالم والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى وجعله معيناً لهما في تلك التأثيرات والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان والقمر كالنائب وسائر الكواكب كالخدم فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم
أما قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سبحانه والدليل عليه أن كل من أوجد شيئاً وأثر في حدوث شيء فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت فكان خالقاً ثم الآية دلت على أنه لا خالق إلا الله لأنه قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا خالق إلا الله وذلك يدل على أن كل أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأمر في الحقيقة هو الله سبحانه لا غير وإذا ثبت هذا الأصل تفرعت عليه مسائل إحداها أنه لا إله إلا الله إذ لو حصل إلهان لكان الإله الثاني خالقاً ومدبراً وذلك يناقض مدلول هذه الآية في تخصص الخلق بهذا الواحد وثانيها أنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم وإلا لحصل خالق سوى الله وذلك ضد مدلول هذه الآية وثالثها أن القول بإثبات الطبائع وإثبات العقول والنفوس على ما يقوله الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل وإلا لحصل خالق غير الله ورابعها خالق أعمال العباد هو الله وإلا لحصل خالق غير الله وخامسها القول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل وإلا لحصل مؤثر غير الله ومقدر غير الله وخالق غير الله وإنه باطل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن كلام الله قديم قالوا إنه تعالى ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان الأمر مخلوقاً لما صح هذا التمييز أجاب الجبائي عنه بأنه لا يلزم من أفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق فإنه تعالى قال تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ ( الحجر 1 ) وآيات الكتاب داخلة في القرآن وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) مع أن الإحسان داخل في العدل وقال مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وهما داخلان تحت الملائكة
وقال الكعبي إن مدار هذه الحجة على أن المعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فإن صح هذا الكلام بطل مذهبكم لأنه تعالى قال قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى ( الأعراف 158 ) فعطف الكلمات على الله فوجب أن تكون الكلمات غير الله وكل ما كان غير الله فهو محدث مخلوق فوجب كون كلمات الله محدثة مخلوقة وقال القاضي أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته وقال آخرون لا يبعد أن يقال الأمر وإن كان داخلاً تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال فقوله لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ معناه له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب كان ذلك حسناً مفيداً مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق فكذا ههنا وقال آخرون معنى قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق فكذا قوله وَالاْمْرُ يجب أن يكون معناه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر وإذا كان حصول الأمر متعلقاً بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقاً كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقاً بمشيئته كان مخلوقاً أما لو كان أمر الله قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر وذلك ينفي ظاهر الآية
والجواب أنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريراً محضاً والأصل عدمه أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة إلا أن الأصل عدم التكرير والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله سبحانه
وإذا ثبت هذا فنقول فعل الطاعة لا يوجب الثواب وفعل المعصية لا يوجب العقاب وأيصال الألم لا يوجب العوض وبالجملة فلا يجب على الله لأحد من العبيد شيء ألبتة إذ لو كان فعل الطاعة يوجب الثواب لتوجه على الله من العبد مطالبة ملزمة وإلزام جازم وذلك ينافي قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه وأن الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه لأن قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يفيد أنه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء ولو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صح من الله أن يأمر إلا بما حصل منه ذلك الوجه ولا أن ينهي إلا عما فيه وجه القبح فلم يكن متمكناً من الأمر والنهي كما شاء وأراد مع أن الآية تقتضي هذا المعنى
المسألة الخامسة دلت هذه الآية على أنه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم كيف شاء وأراد وتقريره إنه قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ والخلق إذا أطلق أريد به الجسم المقدر أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدر ثم بين في آية أخرى أنه أوحي في كل سماء أمرها وبين في هذه الآية أنه تعالى خصص كل واحد من الشمس والقمر والنجوم بأمره وذلك يدل على أن ما حدث بتأثير قدرة الله تعالى فتميز الأمر والخلق ثم قال بعد هذا التفصيل والبيان أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يعني له القدرة على الخلق وعلى الأمر على الإطلاق فوجب أن يكون قادراً على إيجاد هذه الأشياء وعلى تكوينها كيف شاء وأراد فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم
في أقل من لحظة ولمحة لقدر عليه لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات ولهذا قال المعري في قصيدة طويلة له يأيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
ثم قال في أثناء هذه القصيدة هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
المسألة السادسة قال قوم الْخَلْقِ صفة من صفات الله وهو غير المخلوق واحتجوا عليه بالآية والمعقول أما الآية فقوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ قالوا وعند أهل السنة الاْمْرُ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له فكذلك يجب أن يكون الْخَلْقِ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له وهذا يدل على أن الخلق صفة قائمة بذات الله تعالى وأما المعقول فهو أنا إذا قلنا لم حدث هذا الشيء ولم وجد بعد أن لم يكن فنقول في جوابه لأنه تعالى خلقه وأوجده فحينئذ يكون هذا التعليل صحيحاً فلو كان كونه تعالى خالقاً له نفس حصول ذلك المخلوق لكان قوله أنه إنما حدث لأنه تعالى خلقه وأوجده جارياً مجرى قوله أنه إنما حدث لنفسه ولذاته لا لشيء آخر وذلك محال باطل لأن صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقاً من قبل الله تعالى فثبت أن كونه تعالى خالقاً للمخلوق مغايراً لذات ذلك المخلوق وذلك يدل على أن الخلق غير المخلوق وجوابه لو كان الخلق غير المخلوق لكان أن كان قديماً لزم من قدمه قدم المخلوق وإن كان حادثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وهو محال
المسألة السابعة ظاهر الآية يقتضي أنه كما لا خلق إلا لله فكذلك لا أمر إلا لله وهذا يتأكد بقوله تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( الأنعام 57 ) وقوله فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِى ّ الْكَبِيرِ ( غافر 12 ) وقوله لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) إلا أنه مشكل بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم )
والجواب أن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدل على أن أمر الله قد حصل فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر الله لا أمر غيره والله أعلم
المسألة الثامنة قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يدل على أن لله أمراً ونهياً على عباده وأن له تكليفاً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف واحتجوا عليه بوجوه أولها أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به أمراً بتحصيل الحاصل وأنه محال وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال وثانيها أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع فلا فائدة في الأمر وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في الأمر به وثالثها أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة إلا إذا صار علم الله جهلاً والعبد لا قدرة له على تجهيل الله وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم فوجب أن يقال لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلاً وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب فيكون هذا الأمر والتكليف إضراراً محضاً من غير فائدة
ألبتة وهو لا يليق بالرحيم الحكيم ورابعها أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس باله وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع ودفع الضرر والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً من غير فائدة وأنه لا يجوز
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده وأن يكلفهم بما شاء واحتج عليه بقوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم وإذا كان مالكاً لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه وذلك مستحسن فقوله سبحانه أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء
المسألة التاسعة دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً ولا كما يقولونه أيضاً من حيث العوض والثواب لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولاً ثم ذكر الأمر بعده وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقاً لهم موجداً لهم وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف هذا القدر سقط اعتبار الحسن والقبح والثواب والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف
المسألة العاشرة دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ فدل ذلك على أن له الأمر وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي والخبر والاستخبار ضرورة أنه لا قائل بالفرق
المسألة الحادية عشرة أنه تعالى بين كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم
ثم قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ أي لا خالق إلا هو
ولقائل أن يقول لا يلزم من كونه تعالى خالقاً لهذه الأشياء أن يقال لا خالق على الإطلاق إلا هو فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق فنقول الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقاً لبعض الأشياء وجب كونه خالقاً لكل الممكنات وتقريره أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين أو إلى مؤثر غير متعين والثاني باطل لأن كل ما كان موجوداً في الخارج فهو متعين في نفسه فيلزم منه أن ما لا يكون متعيناً في نفسه لم يكن موجوداً في الخارج وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجاً إلى ذلك المعين فثبت أن الذي يكون مأثراً في وجود شيء واحد هو المؤثر في وجود كل الممكنات
أما قوله تعالى تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقاً للسموات والأرض والعرش والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وبين كون الكل مسخراً في قدرته وقهره ومشيئته وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه فقال تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقد تقدم تفسير تَبَارَكَ فلا نعيده
واعلم أنه تعالى بدأ في أول الآية رب السموات والأرضين وسائر الأشياء المذكورة ثم ختم الآية بقوله تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والعالم كل موجود سوى الله تعالى فبين كونه رباً وإلهاً وموجوداً ومحدثاً لكل ما سواه ومع كونه كذلك فهو رب ومرب ومحسن ومتفضل وهذا آخر الكلام في شرح هذه الآية
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع فإن الدعاء مخ العبادة فقال ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ فيه قولان قال بعضهم اعْبُدُواْ وقال آخرون هو الدعاء ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من الله تعالى وهذه صفة العبادة لأنه يفعل تقرباً وطلباً للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) والمعطوف ينبغي أن يكون مغايراً للمعطوف عليه والقول الثاني هو الأظهر لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في الدعاء فمنهم من أنكره واحتج على صحة قوله بأشياء الأول أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم الله تعالى وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضاً في طلبه الثاني أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب وإن قلنا أنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ثم إنه عند ذلك الدعاء صار مريداً له لزم وقوع التغير في ذات الله وفي صفاته وهو محال لأن على هذا التقدير يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات الله تعالى فيكون العبد متصرفاً في صفة الله بالتبديل والتغيير وهو محال والثالث أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء
لأنه منزه عن أن يكون بخيلاً وأن اقتضت الحكمة منعه فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه والرابع أن الدعاء غير الأمر ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة وكون الآمر أعلى رتبة وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب وإنه لا يجوز الخامس الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب وذلك سوء أدب أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبهاً له وذلك كفر وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل وذلك جهل السادس إن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرف نفسه ولما طلب من الله شيئاً على التعيين وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات السابع كثيراً ما يظن العبد بشيء كونه نافعاً وخيراً ثم أنه عند دخوله في الوجود يصير سبباً للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من الله غير جائز بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير وذلك حاصل من الله تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه فلم يبق في الدعاء فائدة الثامن أن الدعاء عبارة عن توجه القلب إلى طلب شيء من الله تعالى وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته وفي عبوديته وهذه مقامات عالية شريفة وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموماً التاسع روي أنه عليه الصلاة والسلام قال حاكياً عن الله سبحانه ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء العاشر إن علم الحق محيط بحاجة العبد والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه فسكت ولم يذكر تلك الحاجة كان ذلك أدخل في الأدب وفي تعظيم المولى مما إذا أخذ يشرح كيفية تلك الحالة ويطلب ما يدفع تلك الحاجة وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد وجب اعتبار مثله في حق الله سبحانه ولذلك يقال أن الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار قال جبريل عليه السلام ادع ربك فقال الخليل عليه السلام حسبي من سؤالي علمه بحالي فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب
واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات فإنه يقال أن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات وإن كان شقياً في علمه فلا فائدة في تلك العبادات وأيضاً يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه أن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز وإن كان جائعاً فلا فائدة في أكل الخبز وكما أن هذا الكلام باطل ههنا فكذا فيما ذكروه بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات وقوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد
العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال ( ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة ) ثم قرأ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ( غافر 60 ) في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) والله أعلم
المسألة الثانية في تقرير شرائط الدعاء
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهداً لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهداً لكون مولاه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص وهو المراد من قوله تعالى وَخُفْيَة ً والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الأخلاص عن شوائب الرياء وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك
المسألة الثالثة ( التضرع ) التذلل والتخشع وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال ( والخفية ) ضد العلانية يقال أخفيت الشيء إذا سترته ويقال خفية أيضاً بالكسر وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه خفية بكسر الخاء ههنا وفي الأنعام والباقون بالضم وهما لغتان
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء ويدل على وجوه الأول هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقروناً باللإخفاء وظاهر الأمر للوجوب فإن لم يحصل الوجوب فلا أقل من كونه ندباً
ثم قال تعالى بعده وَخُفْيَة ً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين وهما التضرع والإخفاء فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء فإن الله لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة فظهر أن قوله تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء
الحجة الثانية أنه تعالى أثنى على زكريا فقال إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطه به إليه
الحجة الثالثة ما روى أبو موسى الأشعري أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام ( ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وإنه لمعكم )
الحجة الرابعة قوله عليه السلام ( دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية ) وعنه عليه السلام ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ) وعن الحسن أنه كان يقول إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره يفقه الكثير وما يشعر به الناس ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواماً كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همساً لأن الله تعالى قال ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وذكر الله عبده زكريا فقال إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً
الحجة الخامسة المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة ألبتة فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصوناً عن الرياء وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها وهي أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صوناً لها عن الرياء وقال أخرون الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال إن كان خائفاً على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صوناً لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله إخفاء التأمين أفضل وقال الشافعي رحمه الله إعلانه أفضل واحتج أبو حنيفة على صحة قوله قال في قوله ( آمين ) وجهان أحدهما أنه دعاء والثاني أنه من أسماء الله فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً ( الأعراف 205 ) فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول
أما قوله تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال
فالقول الأول أنها عبارة عن أيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد
والقول الثاني أنها عبارة عن كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب والخير إلى العبد وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا قال الكعبي وأبو الحسين إنه تعالى غير موصوف بالإرادة ألبتة فكونه تعالى مريداً لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها وكونه تعالى مريداً لأفعال غيره كونه آمراً بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفاً بصفة الإرادة وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفاً بصفة المريدية
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه
والقول الثالث أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب إليه وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها أقصى ما في الباب أن يقال إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد أقصى ما في الباب أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي ا إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان بل هي رؤية بلا كيف فلم لا يقولون ههنا أيضاً أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة
المسألة الثانية قوله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المجاوزين ما أمروا به قال الكلبي وابن جريج من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء
المسألة الثالثة اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه فقد اعتدى وتعدى فيدخل تحت قوله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقد بينا أن من لا يحبه الله فإنه يعذبه فظاهر هذه الآية يقتضي أن كل من خالف أمر الله ونهيه فإنه يكون معاقباً والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق وقالوا لا يجوز أن يقال المراد منه الاعتداء في رفع الصوت بالدعاء وبيانه من وجهين الأول أن لفظ الْمُعْتَدِينَ لفظ عام دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق غايته أنه إنما ورد في هذه الصورة لكنه ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الثاني أن رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد
والجواب المستقصى ما ذكرناه في سورة البقرة أن التمسك بهذه العمومات لا يفيد القطع بالوعيد
ثم قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا معناه ولا تفسدوا شيئاً في الأرض فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبدعة وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف وإفساد العقول بسبب شرب المكسرات وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول فقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة وأما قوله بَعْدَ إِصْلَاحِهَا فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال
الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض فيحصل الإفساد بعد الإصلاح وذلك مستكره في بداهة العقول
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً خاصاً دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص
واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى فكذلك في هذه الآية أنها تدل على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة
وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلاً تحت عموم هذه الآية وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية فتلك الآية دالة على أن الأصل في المنافع الحل وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات وأيضاً هذه الآية دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين فإنه انعقد وصح وثبت لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح والنص دل على أنه لا يجوز
إذا ثبت هذا فنقول أن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وبعموم قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) وتحت قوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 المعارج 32 ) وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً دالاً على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح قضينا فيه بالبطلان تقديماً للخاص على العام وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها
ثم قال تعالى وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا وفيه سؤالات
السؤال الأول قال في أول الآية أَدْعُو رَبُّكُمْ ثم قال وَلاَ تُفْسِدُواْ ثم قال وَادْعُوهُ وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل
والجواب أن الذين قالوا في تفسير قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا أي اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفاً من هذا الإشكال
فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال وإن قلنا المراد من قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا هو الدعاء كان الجواب أن قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقروناً بالتضرع وبالإخفاء ثم بين في قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته
السؤال الثاني أن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب لم تصح عبادته وذلك لأن المتكلمين فريقان منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الألهية والعبودية فكونه إلهاً لنا وكوننا عبيداً له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً وهذا قول أهل السنة ومنهم من قال التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح وهذا هو قول المعتزلة
إذا عرفت هذا فنقول أما على القول الأول فوجه وجوب بعض الأعمال وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه ونهيه عما حرمه فمن أتى بهذه العبادات صحت أما من أتى بها خوفاً من العقاب أو طمعاً في الثواب وجب أن لا يصح لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها وأما على القول الثاني فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح فمن أتى بها للخوف من العقاب أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا تصح فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب وجب أن لا يصح
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض وقد ثبت بالدليل فساده فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول
والجواب ليس المراد من الآية ما ظننتم بل المراد وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن تحصل في قلبه هذا الخوف والطمع
والجواب أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتياً بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف وأيضاً لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة فوجب كونه طامعاً في قبولها فلا جرم
قلنا بأن الداعي لا يكون داعياً إلا إذا كان كذلك فقوله خَوْفًا وَطَمَعًا أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم ويتأكد هذا بقوله يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 )
ثم قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة إيصال الخير والنعمة فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الفاتحة 1 النمل 30 )
المسألة الثانية قال بعض أصحابنا ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة واحتجوا بهذه الآية وبيانه أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريباً من المحسنين أن لا يكون رحمة والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين والعفو عن العذاب رحمة والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة فوجب أن لا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار
الجواب أن من آمن بالله وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن بدليل أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد أجمعت الأمة على أنه دخل تحت قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) ومعلوم أن هذا الشخص لم يأت بشيء من الطاعات سوى المعرفة والإقرار لأنه لما بلغ بعد الصبح لم تجب عليه صلاة الصبح ولما مات قبل الظهر لم تجب عليه صلاة الظهر وظاهره أن سائر العبادات لم تجب عليه فثبت أنه محسن وثبت أنه لم يصدر منه إلا المعرفة والإقرار فوجب كون هذا القدر إحساناً فيكون فاعله محسناً
إذا ثبت هذا فنقول كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم
فإن قالوا المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان فنقول هذا باطل لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسناً أن يكون آتياً بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه
المسألة الرابعة لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث وذكروا في الجواب عنه وجوهاً الأول أن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة الثاني قال الزجاج إنما قال قَرِيبٌ لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر الثالث قال النضر بن شميل الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ( البقرة 275 ) فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره قال الشاعر إن السماحة والمروءة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
قيل أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم والرابع أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر قال الواحدي أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال تقول العرب هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضاً قريبة وبعيدة تنبيهاً على معنى قربت وبعدت بنفسها
المسألة الخامسة تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قرباً من الآخرة وبعداً من الدنيا فإن الدنيا كالماضي والآخرة كالمستقبل والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل ولذلك قال الشاعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعداً في كل ساعة وأن الآخرة تزداد قرباً في كل ساعة وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت لا جرم ذكر الله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بناء على هذا التأويل
وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرى ً بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي وهو السموات والشمس والقمر والنجوم أتبعه بذكر الدلائل من بعض أحوال العالم السفلي واعلم أن أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ومن جملة الآثار العلوية الرياح والسحاب والأمطار ويترتب على نزول الأمطار أحوال النبات وذلك هو المذكور في هذه الآية
الوجه الثاني في تقرير النظم أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة
هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الرّيحَ على لفظ الواحد والباقون الرّيَاحِ على لفظ الجمع فمن قرأ الرّيَاحِ بالجمع حسن وصفها بقوله بَشَرًا فإنه وصف الجمع بالجمع ومن قرأ الرّيحَ واحدة قرأ بَشَرًا جمعاً لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير وكقوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 3 التين 6 ) فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع وأما قوله نَشْراً ( المرسلات 3 ) ففيه قراآت إحداها قراءة الأكثرين نَشْراً بضم النون والشين وهو جمع نشور مثل رسل ورسول والنشور بمعنى المنشر كالركوب بمعنى المركوب فكان المعنى رياح منشرة أي مفرقة من كل جانب والنشر التفريق ومنه نشر الثوب ونشر الخشبة بالمنشار وقال الفراء النشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب واحدها نشور وأصله من النشر وهو الرائحة الطيبة ومنه قول امرىء القيس ونشر العطر
والقراءة الثانية قرأ ابن عامر نَشْراً بضم النون وإسكان الشين فخف العين كما يقال كتب ورسل
والقراءة الثالثة قرأ حمزة نَشْراً بفتح النون وإسكان الشين والنشر مصدر نشرت الثوب ضد طويته ويراد بالمصدر ههنا المفعول والرياح كأنها كانت مطوية فأرسلها الله تعالى منشورة بعد انطوائها فقوله نَشْراً مصدر هو حال من الرياح والتقدير أرسل الرياح منشرات ويجوز أيضاً أن يكون النشر هنا بمعنى الحياة من قولهم أنشر الله الميت فنشر قال الأعشى
يا عجباً للميت الناشر
فإذا حملته على ذلك وهو الوجه كان المصدر مراداً به الفاعل كما تقول أتاني ركضاً أي راكضاً ويجوز أيضاً أن يقال أن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل وهو الذي ينشر الرياح نشراً
والقراءة الرابعة حكى صاحب ( الكشاف ) عن مسروق نَشْراً بمعنى منشورات فعل بمعنى مفعول كنقض وحسب ومنه قولهم ضم نشره
والقراءة الخامسة قراءة عاصم بَشَرًا بالباء المنقطة بالمنطقة الواحدة من تحت جمع بشيراً على بشر من قوله تعالى يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ أي تبشر بالمطر والرحمة وروى صاحب ( الكشاف ) بَشَرًا بضم الشين وتخفيفه و بَشَرًا بفتح الباء وسكون الشين مصدر من بشره بمعنى بشره أي باشرات وبشرى
المسألة الثانية اعلم أن قوله وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ معطوف على قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 54 ) ثم نقول حد الريح أنه هواء متحرك فنقول كون هذا الهواء متحركاً ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته فلا بد وأن يكون لتحريك الفاعل المختار وهو الله جل جلاله قالت الفلاسفة ههنا سبب آخر وهو أنه يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنه تسخيناً قوياً شديداً فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعر الفلك متحركاً على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء فيمنع هذه الأدخنة من
الصعود بل يردها عن سمت حركتها فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح ثم كلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد حركة فكانت الرياح أقوى وأشد هذا حاصل ما ذكروه وهو باطل ويدل على بطلانه وجوه الأول أن صعود الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها ولا شك أن ذلك التسخن عرض لأن الأرض باردة يابسة بالطبع فإذا كانت تلك الأجزاء الأرضية متصعدة جداً كانت سريعة الانفعال فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جداً وإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك فبطل ما ذكروه
الوجه الثاني هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت وجب أن تنزل على الاستقامة لأن الأرض جسم ثقيل والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك فإنها تتحرك يمنة ويسرة
الوجه الثالث وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار
والوجه الرابع أنه لو كان الأمر على ما قالوه لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل ما قالوه وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح قال المنجمون إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها وذلك أيضاً بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم وليس كذلك وأيضاً قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى وثبت بالدليل العقلي صحة قوله وهو الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ
المسألة الثالثة قوله بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( النمل 63 ) فيه فائدتان إحداهما أن قوله نَشْراً أي منشرة متفرقة فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة وجزء آخر يذهب يسرة وكذا القول في سائر الأجزاء فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار
والفائدة الثانية في الآية أن قوله بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال إن الفتن تحدث
بين يدي الساعة يريدون قبيلها والسبب في حسن هذا المجاز أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئاً يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ
فإن قيل فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول ليس في الآية إن هذا التقدم حاصل في كل الأحوال فلم يتوجه السؤال وأيضاً فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً يقال أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب ( الكشاف ) واشتقاق الإقلال من القلة لأن من يرفع شيئاً فإنه يرى ما يرفعه قليلاً وقوله سَحَابًا ثِقَالاً أي بالماء جمع سحابة والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد إحداها أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر وثانيها أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول فلا جرم يبقى متعلقاً في الهواء وثالثها أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها ورابعها أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها وخامسها أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف وسادسها أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جداً وسابعها أن هذه الرياح تارة تكون شرقية وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها وثامنها أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضاً عجيب وعن ابن عمر رضي الله عنهما الرياح ثمان أربع منها عذاب وهو القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربعة منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) والجنوب من ريح الجنة وعن كعب لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ورحمته هو المطر
إذا عرفت هذا فنقول اختلاف الرياح في الصفات المذكورة مع أن طبيعة الهواء واحدة وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة يدل على أن هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى
ثم قال تعالى سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة
فإن قيل السحاب إن كان مذكراً يجب أن يقول حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً وإن كان مؤنثاً يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق ا
والجواب أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً نظراً إلى اللفظ وعلى سبيل التأنيث أيضاً جائزاً نظراً إلى كونه جمعاً أما ( اللام ) في قوله سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ ففيه قولان قال بعضهم هذه ( اللام ) بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين وقال آخرون هذه ( اللام ) بمعنى من أجل والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حياً يسقيه وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة قال الأعشى وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء اختلفوا في أن الضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يعود قال الزجاج وابن الأنباري جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لإنزال الماء
ثم قال فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ الكناية عائدة إلى الماء لأن إخراج الثمرات كان بالماء قال الزجاج وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد وعلى القول الأول فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء وقال أكثر المتكلمين إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب وقال جمهور الحكماء لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول بأن طبيعة الماء والتراب واحدة ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس ولحمه وماؤه حار رطب وعجمه بارد يابس فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب يدل على أنها إنما حدثت بأحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة
ثم قال تعالى كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى وفيه قولان الأول أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطراً كالمني أربعين يوماً وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء قال مجاهد إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها
والقول الثاني أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتاً والمعنى أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتاً لأن من يقدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه فهو أيضاً يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق
واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطراً على صفة المني فقد أبعد ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منياً ابتداء فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة فبعضها يكون بالمشرق وبعضها يكون بالمغرب فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد
فإن قالوا إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمعنى أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضاً قادراً على إحياء الأجساد بعد موتها فقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى
ثم قال تعالى وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا
وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان
القول الأول وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة وشبه نزول القرآن بنزول المطر فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل
والقول الثاني أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات كان ذلك أولى
المسألة الثانية هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار
والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون الجاه ومنهم من يكون بالعكس والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافاً جوهرياً ذاتياً لا يمكن إزالته ولا تبديله وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفساً مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جارياً مجرى تكليف ما لا يطاق فثبت بهذا البيان أن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً قليل الفائدة والخير كثير الفضول والشر
والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِ وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى
المسألة الثالثة قرىء يَخْرُجُ نَبَاتُهُ أي يخرجه البلد وينبته
أما قوله تعالى وَالَّذِى خَبُثَ قال الفراء يقال خبث الشيء يخبث خبثاً وخباثة وقوله إِلاَّ نَكِدًا النكد العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل وقال الليث النكد الشؤم واللؤم وقلة العطاء ورجل أنكد ونكد قال وأعط ما أعطيته طيبا
لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَالَّذِى خَبُثَ صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه إلا أنه كان مجروراً بارزاً فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل أو يقدر ونبات الذي خبث وقرىء نَكِدًا بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد
ثم قال تعالى كَذالِكَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ قرىء يُصْرَفْ أي يصرفها الله وإنما ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سبباً لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيدة فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ومن الوجه الثاني تنبيه
على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها فلا جرم قال نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام وفيه فوائد أحدها التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم محمد عليه الصلاة والسلام بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة والمصيبة إذا عمت خفت فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم على الجهل والعناد يفيد تسلية الرسول عليه السلام وتخفيف ذلك على قلبه وثانيها أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة وذلك يقوي قلوب المحقين ويكسر قلوب المبطلين وثالثها التنبيه على أنه تعالى وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ولكنه لا يهملهم بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه ورابعها بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنه عليه السلام كان أمياً وما طالع كتاباً ولا تلمذ أستاذاً فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله وذلك يدل على صحة نبوته
ولقائل أن يقول الأخبار عن الغيوب الماضية لا يدل على المعجز لاحتمال أن يقال إن إبليس شاهد هذه الوقائع فألقاها إليه أما الأخبار عن الغيوب المستقبلة فإنه معجز لأن علم الغيب ليس إلا لله سبحانه وتعالى
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصة آدم عليه السلام وقد سبق ذكرها
والقصة الثانية قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ جواب قسم محذوف
فإن قالوا ما السبب في أنهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد وذكر هذه اللام بدون قد نادر كقوله حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا
قلنا إنما كان كذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى ( قد ) عند استماع المخاطب كلمة القسم
المسألة الثانية قرأ الكسائي غَيْرُهُ بكسر الراء على أنه نعت للإله على اللفظ والباقون بالرفع على أنه صفة للإله على الموضع لأن تقدير الكلام ما لكم إله غيره وقال أبو علي وجه من قرأ بالرفع قوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 62 ) فكما أن قوله إِلاَّ اللَّهُ بدل من قوله مَّا مِن إِلَهٍ كذلك قوله غَيْرُهُ يكون بدلاً من قوله مِنْ إِلَهٍ فيكون غَيْرِ رفعاً بالاستثناء وقال صاحب الكشاف قرىء غَيْرِ الحركات الثلاث وذكر وجه الرفع والجر كما تقدم قال وأما النصب فعلى الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زيداً وغير زيد
المسألة الثالثة قال الواحدي في الكلام حذف وهو خبر مَا لأنك إذا جعلت غَيْرُهُ صفة لقوله إِلَهٍ لم يبق لهذا المنفي خبر والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف لأنك إذا قلت زيد العاقل وسكت لم يفد ما لم تذكر خبره ويكون التقدير ما لكم من إله غيره في الوجود أقول اتفق النحويون على أن قولنا لا إله إلا الله لا بد فيه من إضمار والتقدير لا إله في الوجود أو لا إله لنا إلا الله ولم يذكروا على هذا الكلام حجة فإنا نقول لم لا يجوز أن يقال دخل حرف النفي على هذه الحقيقة وعلى هذه الماهية فيكون المعنى أنه لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حق الله وإذا حملنا الكلام على هذا المعنى استغنينا عن الإضمار الذي ذكروه
فإن قالوا صرف النفي إلى الماهية لا يمكن لأن الحقائق لا يمكن نفيها فلا يمكن أن يقال لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهية وإنما الممكن أن يقال إن تلك الحقائق غير موجودة ولا حاصلة وحينئذ يجب إضمار الخبر
فنقول هذا الكلام بناء على أن الماهية لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها ولك باطل قطعاً إذ لو كان الأمر كذلك لوجب امتناع ارتفاع الوجود لأن الوجود أيضاً حقيقة من الحقائق وماهية فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيات
فإن قالوا إذا قلنا لا رجل وعنينا به نفي كونه موجوداً فهذا النفي لم ينصرف إلى ماهية الوجود وإنما انصرف إلى كون ماهية الرجل موصوفة بالوجود
فنقول تلك الموصوفية يستحيل أن تكون أمراً زائداً على الماهية وعلى الوجود إذ لو كانت
الموصوفية ماهية والوجود ماهية أخرى لكانت تلك الماهية موصوفة أيضاً بالوجود والكلام فيه كما فيما قبله فيلزم التسلسل ويلزم أن لا يكون الموجود الواحد موجوداً واحداً بل موجودات غير متناهية وهو محال ثم نقول موصوفية الماهية بالوجود إما أن يكون أمراً مغايراً للماهية والوجود وإما أن لا يكون كذلك فإن لم يكن أمراً مغايراً لها فحينئذ يكون لذلك المغاير ماهية ووجود وماهيته لا تقبل الارتفاع وحينئذ يعود السؤال المذكور فثبت بما ذكرنا أن الماهية أن لم تقبل النفي والرفع امتنع صرف حرف النفي إلى شيء من المفهومات فإن كانت الماهية قابلة للنفي والرفع فحينئذ يمكن صرف كلمة ( لا ) في قولنا لا إله إلا الله إلى هذه الحقيقة وحينئذ لا يحتاج إلى التزام الحذف والإضمار الذي يذكره النحويون فهذا كلام عقلي صرف وقع في هذا البحث الذي ذكره النحويون
المسألة الرابعة قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَآ فيه قولان قال ابن عباس بعثنا وقال آخرون معنى الإرسال أنه تعالى حمله رسالة يؤديها فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث فيكون البعث كالتابع لا أنه الأصل وهذا البحث بناء على مسألة أصولية وهي أنه هل من شرط إرسال الرسول إلى قوم أن يعرفهم على لسانه أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم أوليس ذلك بشرط بل يكون الغرض من بعثة الرسل مجرد تأكيد ما في العقول وهذا الخلاف إنما يليق بتفاريع المعتزلة ولا يليق بتفاريع مذاهبنا وأصولنا
المسألة الخامسة في الآية فوائد
الفائدة الأولى إنه تعالى حكى عن نوح في هذه الآية ثلاثة أشياء أحدها إنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى والثاني إنه حكم أن لا إله غير الله والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد
ثم قال عقيبه إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة وعلى هذا التقدير فهو قد خوفهم بيوم القيامة وهذا هو الدعوى الثالثة أو عذاب يوم الطوفان وعلى هذا التقدير فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة ولم يذكر على صحة واحد منها دليلاً ولا حجة فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد فهذا باطل لما أن القول بالتقليد باطل وأيضاً فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل فهذا الدليل غير مذكور
واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة وصحة المعاد وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحداً من الأنبياء لا يدعو أحداً إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب
الفائدة الثانية أنه عليه السلام ذكر أولاً قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وثانياً قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ والثاني كالعلة للأول لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً من الله ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله
ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي أنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا وحينئذ لا يحسن عبادته فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطاً للعلم بحسن العبادة
الفائدة الثالثة في هذه الآية أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام فكان المعنى أعبدوا الله ما لكم من معبود غيره حتى يتطابق النفي والإثبات ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود وإلا لوجب كون الأصنام آلهة وأن لا يكون الإله إلهاً في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة
واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ هل هو اليقين أو الخوف بمعنى الظن والشك قال قوم المراد منه الجزم واليقين لأنه كان جازماً بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين وقال آخرون بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه الأول إنه إنما قال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم ومع هذا التجويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب فوجب أن يذكره بلفظ الخوف والثاني أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفاً مجوزاً أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا والثالث يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة يَخَافُونَ رَبَّهُمْ ( النحل 50 ) أي يحذرون المعاصي خوفاً من العقاب الرابع إنه بتقدير أن يكون قاطعاً بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب وهو أنه عظيم جداً أو متوسط فكان هذا الشك راجعاً إلى وصف العقاب وهو كونه عظيماً أم لا لا في أصل حصوله
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه فقال قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وقال المفسرون الْمَلاَ الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء والدليل عليه أن قوله مِن قَوْمِهِ يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف وذلك بأن يكونوا هم الذين يملؤن صدور المجالس وتمتلىء القلوب من هيبتهم وتمتلىء الأبصار من رؤيتهم وتتوجه العيون في المحافل إليهم وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر وقوله إِنَّا لَنَرَاكَ هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية وقوله فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي في خطأ ظاهر وضلال بين ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحاً عليه السلام ذكرها وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد ولما ذكروا هذا الكلام أجاب نوح عليه السلام بقوله قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ
فإن قالوا إن القوم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
فجوابه أن يقال ليس بي ضلال فلم ترك هذا الكلام وقال ليس بي ضلالة
قلت لأن قوله لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة فكان هذا أبلغ في عموم السلب ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به ووصف نفسه بأشرف الصفات
وأجلها وهو كونه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين ذكر ما هو المقصود من الرسالة وهو أمران الأول تبليغ الرسالة والثاني تقرير النصيحة فقال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو أُبَلّغُكُمْ بالتخفيف من أبلغ والباقون بالتشديد قال الواحدي وكلا الوجهين جاء في التنزيل فالتخفيف قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ( هود 57 ) والتشديد فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 )
المسألة الثانية الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه وأما النصيحة فهو أنه يرغبه في الطاعة ويحذره عن المعصية ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه وقوله رِسَالاتِ رَبّى يدل على أنه تعالى حمله أنواعاً كثيرة من الرسالة وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا وقوله وَأَنصَحُ لَكُمْ قال الفراء لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما تقول نصحت لك ويجوز أيضاً نصحتك قال النابغة نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أني أبلغ إليكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح وأدعوكم إلى ما دعاني وأحب إليكم ما أحبه لنفسي
ثم قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان الثاني واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقاباً شديداً خارجاً عما تتصوره عقولكم الثالث يجوز أن يكون المراد واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
اعلم أن قوله عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ يدل على أن مراد القوم من قولهم لنوح عليه السلام إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال وذلك من وجوه أحدها أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من
الإرسال هو التكليف والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا منفعة فيه للعابد لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف فيكون التكليف عبثاً والله متعال عن العبث وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة وثانيها أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه فإن كنا مضطرين إليه فعلناه لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر وثالثها أن بتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لأن مهابتهم أشد وطهاراتهم أكمل واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم ورابعها أن بتقدير أن يبعث رسولاً من البشر فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيراً ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ثم أن نوحاً عليه الصلام أزال تعجبهم وقال إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء وهو ينافي التكليف ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) فبقي أن يكون أيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله فهذا هو المراد من قوله لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأعراف 63 )
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية
أما قوله أوعجبتم فالهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل أكذبتم وعجبتم أن جاءكم أي عجبتم أن جاءكم ذكر وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوهاً قال الحسن إنه الوحي الذي جاءهم به وقال آخرون المراد بهذا الذكر المعجز ثم ذلك المعجز يحتمل وجهين أحدهما أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتاباً وكان ذلك الكتاب معجزاً فسماه الله تعالى ذكراً كما سمي القرآن بهذا الاسم وجعله معجزة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن ذلك المعجز كان شيئاً آخر سوى الكتاب وقوله الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ قال الفراء عَلَى َّ ههنا بمعنى مع ما تقول جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه كلاهما جائز وقال ابن قتيبة أي على لسان رجل منكم كما قال رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) أي على لسان رسلك وقال آخرون ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ منزل على رجل وقوله مّنكُمْ أي تعرفون نسبه فهو منكم نسباً وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف وبطهارة أحواله أعلم وبما يقتضي السكون إليه أبصر ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول فقال لِيُنذِرَكُمْ وما لأجله ينذر فقال وَلِتَتَّقُواْ وما لأجله يتقون فقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في
دار الآخرة قال الجبائي والكعبي والقاضي هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم التقوى والفوز بالرحمة وذلك يبطل قول من يقول إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد وخلقهم لأجل العذاب والنار
وجواب أصحابنا أن نقول إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح وإن توقف لزم الجبر ومتى لزم ذلك وجب القطع فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر وذلك يبطل مذهبكم ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين وبين العلة في ذلك فقال إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد قال أهل اللغة يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء يَوْمَئِذٍ ( القصص 66 ) وقال قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا ( الأنعام 104 ) قال زهير وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء عَامَيْنِ والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت والعامي على عمي حادث ولا شك أن عماهم كان ثابتاً راسخاً والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ ( هود 36 )
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَة ٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن هذا هو القصة الثانية وهي قصة هود مع قومه
أما قوله وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ففيه أبحاث
البحث الأول انتصب قوله أَخَاهُمْ بقوله أَرْسَلْنَا في أول الكلام والتقدير لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا
البحث الثاني اتفقوا على أن هوداً ما كان أخاً لهم في الدين واختلفوا في أنه هل كان أخا قرابة قريبة أم لا قال الكلبي إنه كان واحداً من تلك القبيلة وقال آخرون إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفي هذا القدر في تسمية هذه الأخوة والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحداً من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل وما بعثنا إليهم شخصاً من غير جنسهم مثل ملك أو جني
البحث الثالث أخاهم أي صاحبهم ورسولهم والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم ومنه قوله تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) أي صاحبتها وشبيهتها وقال عليه السلام ( إن أخا صداء قد أذن وإنما يقيم من أذن ) يريد صاحبهم
البحث الرابع قالوا نسب هود هذا هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وأما عاد فهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف قال ابن إسحق والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت
البحث الخامس اعلم أن ألفاظ هذه القصة موافقة للألفاظ المذكورة في قصة نوح عليه السلام إلا في أشياء الأول في قصة نوح عليه السلام فَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ ( الأعراف 59 ) وفي قصة هود قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعواهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة وأما هود فما كانت مبالغته إلى هذا الحد فلا جرم جاء ( فاء التعقيب ) في كلام نوح دون كلام هود والثاني أن في قصة نوح اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 59 ) وقال في هذه القصة اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ والفرق بين الصورتين أن قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وأما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريباً فلا جرم اكتفى هود بقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا
والفرق الثالث قال تعالى في قصة نوح قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ وقال في قصة هود قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ والفرق أنه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد أسلم وكان يكتم إيمانه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن
والفرق الرابع أنه تعالى حكى عن قوم نوح أنهم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وحكى عن قوم هود أنهم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ والفرق بين الصورتين أن نوحاً عليه السلام كان يخوف الكفار بالطوفان العام وكان أيضاً مشتغلاً بإعداد السفينة وكان يحتاج إلى أن يتعب نفسه في إعداد السفينة فعند هذا القوم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأعراف 60 ) ولم يظهر شيء من العلامات التي تدل على
ظهور الماء في تلك المفازة أما هود عليه السلام فما ذكر شيئاً إلا أنه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم المراد منه القطع والجزم وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) وقال الحسن والزجاج كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين وهذا يدل على أن حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر
والفرق الخامس بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 62 ) وأما هود عليه السلام فقال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ فنوح عليه السلام قال أَنصَحَ لَكُمْ وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهود عليه السلام لم يقل ذلك ولكنه زاد فيه كونه أميناً والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل
وإذا ثبت هذا فنقول إن القوم كانوا يبالغون في السفاحة على نوح عليه السلام ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( نوح 5 ) فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال وَأَنصَحُ لَكُمْ وأما هود عليه السلام فقوله وَأَنَّا لَمَّا نَاصِحٌ يدل على كونه مثبتاً في تلك النصيحة مستقراً فيها أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالاً فحالاً ويوماً فيوماً وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن نوحاً عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهوداً وصف نفسه بكونه أميناً فالفرق أن نوحاً عليه السلام كان أعلى شأناً وأعظم منصباً في النبوة من هود فلم يبعد أن يقال إن نوحاً كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أميناً ومقصود منه أمور أحدها الرد عليهم في قولهم وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وثانيها أن مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة فوصف نفسه بكونه أميناً تقريراً للرسالة والنبوة وثالثها كأنه قال لهم كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ما وجدتم مني غدراً ولا مكراً ولا كذباً واعترفتم لي بكوني أميناً فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب
واعلم أن الأمين هو الثقة وهو فعيل من أمن يأمن أمنا فهو آمن وأمين بمعنى واحد
واعلم أن القوم لما قالوا له إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ولم يزد على قوله لَيْسَ بِى سَفَاهَة ٌ وذلك يدل على أن ترك الانتقام أولى كما قال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 )
أما قوله وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك وذلك يدل على أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز
والفرق السادس بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأعراف 63 ) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( الأعراف 69 )
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام الأول أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح والثاني قوله وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً وفيه مباحث
البحث الأول الْخَلْقِ في اللغة عبارة عن التقدير فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة فبعضها أعظم وبعضها أضعف
إذا عرفت هذا فنقول لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة فليس في اللفظ ألبتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة قال الكلبي كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً وقال آخرون تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة وكون بعضهم محباً للباقين ناصراً لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها فصح أن يقال وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال فَاذْكُرُواْ ءالآء اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول لا بد في الآية من إضمار والتقدير واذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بتلك الإنعامان لعلكم تفلحون وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر فوجب أن يكون مجرد التذكر كافياً في حصول الصلاح وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل والله أعلم
البحث الثاني قال ابن عباس اللَّهِ لَعَلَّكُمْ أي نعم الله عليكم قال الواحدي واحد الآلاء إلى وألو وإلى قال الأعشى ف أبيض لا يرهب الهزال ولا
يقطع رحماً ولا يخون إلي
قال نظير الآلاء الآناء واحدها أنا وإني وإني وزاد صاحب ( الكشاف ) في الأمثلة فقال ضلع وأضلاع وعنب وأعناب
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
اعلم أن هوداً عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات والجماد لا قدرة له على شيء أصلاً وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله وأن لا يعبدوا شيئاً من الأصنام ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد هذه الحجة التي ذكرها ثم أن هوداً عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد فقالوا قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ثم قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا وذلك لأنه عليه السلام قال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( المؤمنون 32 ) فقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد فلهذا المعنى قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذباً بدليل أنهم قالوا له وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( الأعراف 66 ) فلما اعتقدوا كونه كاذباً قالوا له فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذباً وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر فلا جرم استعجلوه على هذا الحد
ثم حكى الله تعالى عن هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب لأن العذاب ما كان حاصلاً في ذلك الوقت وقد اختلفوا فيه قال القاضي تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر إلا أنا نقول معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت لأن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة واعلم أن هذا القول عندنا باطل بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات أحدها أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول
العذاب عليهم فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت لا جرم قال هود في ذلك الوقت وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وثانيها أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع ونظيره قولك لمن طلب منك شيئاً قد كان ذلك بمعنى أنه سيكون ونظيره قوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) بمعنى سيأتي أمر الله وثالثها أنا نحمل قوله وَقَعَ على معنى وجد وحصل والمعنى إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد لأن قولنا حصل لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن
المسألة الثانية الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب لأن المراد من الغضب العذاب فلو حملنا الرجس عليه لزم التكرير وأيضاً الرجس ضد التزكية والتطهير قال تعالى تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وقال في صفة أهل البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) والمراد التطهر من العقائد الباطلة والأفعال المذمومة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الرجس عبارة عن العقائد الباطلة والأفعال المذمومة
إذا ثبت هذا فقوله قد وقع عليكم من ربكم رجس يدل على أنه تعالى خصهم بالعقائد المذمومة والصفات القبيحة وذلك يدل على أن الخير والشر من الله تعالى قال القفال يجوز أن يكون الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كقوله تعالى فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( التوبة 125 ) أي قد وقع عليكم من الله رين على قلوبكم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وتماديكم في الغي
واعلم أنا قد دللنا على أن هذه الآية تدل على أن كفرهم من الله فهذا الذي قاله القفال أن كان المراد منه ذلك فقد جاء بالوفاق إلا أنه شديد النفرة عن هذا المذهب وأكثر تأويل الآيات الدالة على هذا المذهب تدل على أنه لا يقول بهذا القول وإن كان المراد منه الجواب عما شرحناه فهو ضعيف لأنه ليس فيه ما يوجب رفع الدليل الذي ذكرناه والله أعلم
وحاصل الكلام في الآية أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفراً وهو المراد من قوله قد وقع عليكم من ربكم رجس ثم خصهم بمزيد الغضب وهو قوله وغضب
ثم قال أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار وذلك لأنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة مع أن معنى الإلهية فيها معدوم وسموا واحداً منها بالعزى مشتقاً من العز والله ما أعطاه عزاً أصلاً وسموا آخر منها باللات وليس له من الإلهية شيء وقوله ما نزل الله بها من سلطان عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيداً مجددا فقال فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام إني معكم من المنتظرين
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة فقال فأنجيناه والذين معه برحمة منا إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود والمراد أنه تعالى أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع وقطع الدابر هو الاستئصال فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحداً ودابر الشيء آخره
فإن قيل لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك وما كانوا مؤمنين
قلنا معناه أنهم مكذبون وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَة ً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة وهو قصة صالح
أما قوله وإلى ثمود فالمعنى ولقد أرسلنا نوحاً ( الأعراف 59 ) إلى عاد أخاهم هوداً ( الأعراف 65 ) إلى ثمود أخاهم صالحاً ( هود 61 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عمرو بن العلاء سميت ثموداً لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى وقيل سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوع عليه السلام
المسألة الثانية قرىء وإلى ثمود يمنع التصرف بتأويل القبيلة وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وقد ورد القرآن بهما صريحاً قال تعالى ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود ( هود 68 )
واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء
ثم قال قد جاءتكم بينة من ربكم وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة لأن التقليد وحده لو كان كافياً لكانت
تلك البينة ههنا لغواً ثم بين أن تلك البينة هي الناقة فقال هذه ناقة الله لكم آية وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا أنه تعالى لما أهلك عاداً قام ثمود مقامهم وطال عمرهم وكثر تنعمهم ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام فبعث الله إليهم صالحاً وكان منهم فطالبوه بالمعجزة فقال ما تريدون فقالوا تخرج معنا في عيدنا ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم فسألون أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها وكانت في غاية الكبر وكان الماء عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها في يوم وفي اليوم الثاني شرباً لكل القوم قال السدي وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ثم تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكل وكأنها كانت تصب اللبن صباً وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم وكان معها فصيل لها فقال لهم صالح يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه فنبت نباتاً سريعاً ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء واشتد ذلك عليهم فقال الغلام هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشد عليها فلما بصرت به شدت عليه فهرب منها إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه فلما مرت به تناولها فعثرها فسقطت فذلك قوله فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أمر ربهم فقال لهم صالح إن آية العذابأن تصبحوا غداً حمراً واليوم الثاني صفراً واليوم الثالث سوداً فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا
إذا عرفت هذا فنقول اختلف العلماء في وجه كون الناقة إية فقال بعضهم إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة قال القاضي هذا إن صح فهو معجز من جهات أحدها خروجها من الجبل والثانية كونها لا من ذكر وأنثى والثالثة كمال خلقها من غير تدريج
والقول الثاني أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من الكلأ والحشيش
والقول الثاني أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم وقال الحسن بالعكس من ذلك فقال إنها لم تحلب قطرة لبن قط وهذا الكلام مناف لما تقدم
والقول الرابع أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي
واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة والله أعلم
المسألة الثانية قوله هذه ناقة الله لكم آية فقوله آية نصب على الحال أي أشير إليها في حال كونها آية ولفظة ( هذه ) تتضمن معنى الإشارة و آية في معنى دالة فلهذا جاز أن تكون حالاً
فإن قيل تلك الناقة كانت آية لكل أحد فلماذا خص أولئك الأقواك بها فقال هذه ناقة الله لكم آية
قلنا فيه وجوه أحدها أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة وثانيها لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا منه هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص
فإن قيل ما الفائدة في تخصيص تلك الناقة بأنها ناقة الله
قلنا فيه وجوه قيل أضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً كقوله بيت الله وقيل لأنه خلقها بلا واسطة وقيل لأنها لا مالك لها غير الله وقيل لأنها حجة الله على القوم
ثم قال فذروها تأكل في أرض الله أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم ولا تمسوها بسوء ولا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوا منها شيئاً من أنواع الأذى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك )
ثم قال تعالى واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد قيل إنه تعالى لما أهلك عاداً عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً
ثم قال وبوأكم في الأرض أنزلكم والمبوأ المنزل من الأرض أي في أرض الحجر بين الحجاز والشام
ثم قال تتخذون من سهولها قصوراً أي تبوؤن القصور من سهولة الأرض فإن القصور إنما تبنى من الطين واللبن والآجر وهذه الأشياء إنما تتخذ من سهولة الأرض وتنحتون من الجبال بيوتاً ( الشعراء 149 ) يريد تنحتون بيوتاً من الجبال تسقفونها
فإن قالوا علام انتصب بيوتاً
قلنا على الحال كما يقال خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما وهي من الحال المقدرة لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب والقصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبري وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين
ثم قال فاذكروا آلاء الله يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم وذكر الكل طويل فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها ولا تعثوا في الأرض مفسدين قيل المراد منه النهي عن عقر الناقة والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد
قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَة َ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَاحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَة َ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلىء القلوب من هيبتهم ومعنى الآية قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا يريد المساكين الذين آمنوا به وقوله لمن آمن منهم بدل من قوله للذين استضعفوا لأنهم المؤمنون واعلم أنه وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم وكون المؤمنين مستضعفين معناه أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم وهذا ليس فعلاً صادراً عنهم بل عن غيرهم فهو لا يكون صفة ذم في حقهم بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نحن موقنون مصدقون بما جاء به صالح وقال المستكبرون بل نحن كافرون بما جاء به صالح وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد والإباء والإنكار والكفر وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان والتصديق والانقياد وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى
ثم قال تعالى فعقروا الناقة قال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ولما كان العقر سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم
ثم قال وعتوا عن أمر ربهم يقال عتا يعتو عتواً إذا استكبر ومنه يقال جبار عات قال مجاهد
العتو الغلو في الباطل وفي قوله عن أمر ربهم وجهان الأول معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله فذروها تأكل في أرض الله ( الأعراف 83 ) الثاني أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم فكان أمر ربهم بتركها صار سبباً في إقدامهم على ذلك العتو كما يقال الممنوع متبوع وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد
ثم قال تعالى فأخذتهم الرجفة قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة قال تعالى يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً ( المزمل 14 ) قال الليث يقال رجف الشيء يرجف رجفاً ورجفانا كرجفان البعير تحت الرحل وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح
ثم قال فأصبحوا في دارهم جاثمين يعني في بلدهم ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب ومررت بدار البزازين وجمع في آية أخرى فقال في ديارهم ( هود 94 ) لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به وقوله جاثمين قال أبو عبيدة الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى يقال الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط لترمى فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود ثم اختلفوا فمنهم من قال لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب وقيل بل سقطوا على وجوههم وقيل وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد وقيل بل عند نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض والكل متقارب وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين قال تعالى فأخذتهم الرجفة والفاء للتعقيب وهذا يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( هود 65 )
والجواب أن الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه أنه حصل عقيبه فزال السؤال
السؤال الثاني طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة وهي الرجفة والطاغية والصيحة وزعموا أن ذلك يوجب التناقض
والجواب قال أبو مسلم الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيواناً أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت وقال تعالى إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( العلق 6 7 ) ويقال طغى طغياناً وهو طاغ وطاغية وقال تعالى كذبت ثمود بطغواها ( الشمس 11 ) وقال في غير الحيوان إنا لما طغا الماء ( الحاقة 11 ) أي غلب وتجاوز عن الحد وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض وهي حركة خارجة عن المعتاد فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها وأما الصيحة فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة وأما الصاعقة فالغالب أنها الزلزلة وكذلك الزجرة قال تعالى فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ( النازعات 13 14 ) فبطل ما قاله الطاعن
السؤال الثالث أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة عن الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء وأيضاً شاهدوا أن الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين كان شرباً لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني وذلك أيضاً معجزة قاهرة ثم إن القوم لما نحروها وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول ثم اصفروا في اليوم الثاني ثم اسودوا في اليوم الثالث فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصراً على كفره غير تائب منه
والجواب الأول أن يقال إنهم قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحاً في نزول العذاب فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة
ثم قال تعالى فتولى عنهم وفيه قولان الأول أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا والدليل عليه أنه تعالى قال فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم والفاء تدل على التعقيب فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم والثاني أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم بدليل أنه خاطب القوم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال لهم يا قوم والأموات لا يوصفون بالقوم لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام وذلك في حق الميت مفقود والثاني أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز والثالث أنه قال ولكن لا تحبون الناصحين فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم ويمكن أن يجاب عنه فنقول قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع فكذا ههنا والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه وقيل يخف عليه أثر تلك المصيبة وذكروا جواباً آخر وهو أن صالحاً عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر فقيل تتكلم مع هؤلاء الجيف فقال ( ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب )
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة قال النحويون إنما صرف لوط ونوح لخفته فإنه مركب من ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط أتأتون الفاحشة أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وفي قوله ما سبقكم بها من أحد من العالمين وفيه بحثان
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض
فإن قيل كيف يجوز أن يقال ما سبقكم بها من أحد العالمين مع أن الشهوة داعية إلى ذلك العمل أبداً
والجواب أنا نرى كثيراً من الناس يستقذر ذلك العمل فإذا جاز في الكثير منهم استقذاره لم يبعد أيضاً انقضاء كثير من الإعصار بحيث لا يقدم أحد من أهل تلك الإعصاء عليه وفيه وجه آخر وهو أن يقال لعلهم بكليتهم أقبلوا على ذلك العمل والإقبال بالكلية على ذلك العمل مما لم يوجد في الإعصار السابقة قال الحسن كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء وقال عطاء عن ابن عباس استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض
البحث الثاني قوله ما سبقكم يجوز أن يكون مستأنفاً في التوبيخ لهم ويجوز أن يكون صفة الفاحشة كقوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ( ي س 37 ) وقال الشاعر ولقد أمر على اللئيم يسبني
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَة ً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم إنكم بكسر الألف ومذهب نافع أن يكتفي بالاستفهام بالأولى من الثاني في كل القرآن وقرأ ابن كثير أئنكم بهمزة غير ممدودة وبين الثانية وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف وبين الثانية والباقون بهمزتين على الأصل قال الواحدي من استفهم كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله أتأتون الفاحشة ( الأعراف 80 ) وكل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء
المسألة الثانية قوله شهوة مصدر قال أبو زيد شهي يشهي شهوة وانتصابها على المصدر لأن قوله أتأتون الرجال معناه أتشتهون شهوة وإن شئت قلت إنها مصدر وقع موقع الحال
المسألة الثالثة في بيان الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل
اعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع فلا حاجة فيه إلى تعديد الوجوه على التفصيل ثم نقول موجبات القبح فيه كثيرة أولها أن أكثر الناس يحترزون عن حصول الولد لأن حصوله يحمل الإنسان على طلب المال وإتعاب النفس في الكسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى أن الإنسان بطلب تلك اللذة يقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع كشبه الإنسان الذي وضع الفخ لبعض الحيوانات فإنه لا بد وأن
يضع في ذلك الفخ شيئاً يشتهيه ذلك الحيوان حتى يصير سبباً لوقوعه في ذلك الفخ فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والمقصود منه إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع
إذا ثبت هذا فنقول لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد لم تحصل الحكمة المطلوبة ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وذلك على خلاف حكم الله فوجب الحكم بتحريمه قطعاً حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد
والوجه الثاني وهو أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال فإذا صار الذكر منفعلاً والأنثى فاعلاً كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة وعلى عكس الحكمة الإلهية
والوجه الثالث الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة فكان ذلك تشبهاً بالبهائم وخروجاً عن الغريزة الإنسانية فكان في غاية القبح
والوجه الرابع هب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه يبقى في إيجاب العار العظيم والعيب الكامل بالمفعول على وجه لا يزول ذلك العيب عنه أبداً لدهر والعاقل لا يرضى لأجل لذة خسيسة منقضية في الحال إيجاب العيب الدائم الباقي بالغير
والوجه الخامس أنه عمل يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول وربما يؤدي ذلك إلى إقدام المفعول على قتل الفاعل لأجل أنه ينفر طبعه عند رؤيته أو على إيجاب إنكائه بكل طريق يقدر عليه أما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب استحكام الألفة والمودة وحصول المصالح الكبيرة كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم 21 )
والوجه السادس أنه تعالى أودع في الرحم قوة شديدة الجذب للمني فإذا واقع الرجل المرأة قوي الجذب فلم يبق شيء من المني في المجاري إلا وينفصل أما إذا واقع الرجل فلم يحصل في ذلك العضو المعين من المفعول قوة جاذبة للمني وحينئذ لا يكمل الجذب فيبقى شيء من أجزأ المني في تلك المجاري ولا ينفصل ويعفن ويفسد ويتولد منه الأورام الشديدة والأسقام العظيمة وهذه فائدة لا يمكن معرفتها إلا بالقوانين الطبية فهذه هي الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل ورأيت بعض من كان ضعيفاً في الدين يقول إنه تعالى قال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 5 المعارج 29 ) وذلك يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً سواء كان ذكراً أو أنثى قال ولا يمكن أن يقال أنا نخصص هذا العموم بقوله تعالى أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 165 ) وقوله أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( الأعراف 80 ) قال لأن هاتين الآيتين كل واحد منهما أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه وذلك لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى وأيضاً الذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون مملوكاً وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تخصيص إحداهما بالأخرى أولى من العكس والترجيح من هذا الجانب لأن قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ شرع محمد وقصة لوط شرع سائر الأنبياء
وشرع محمد عليه الصلاة والسلام أولى من شرع من تقدمه من الأنبياء وأيضاً الأصل في المنافع والملاذ الحل وأيضاً الملك مطلق للتصرف فقل له الاستدلال إنما يقبل في موضع الاحتمال وقد ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد حرمة هذا العمل والمبالغة في المنع منه والاستدلال إذا وقع في مقابلة النقل المتواتر كان باطلاً
ثم قال تعالى حكاية عن لوط أنه قال لهم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ والمعنى كأنه قال لهم أنتم مسرفون في كل الأعمال فلا يبعد منكم أيضاً إقدامكم على هذا الإسراف
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
والمراد منه أخرجوا لوطاً وأتباعه لأنه تعالى في غير هذه السورة قال فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ( النمل 56 ) ولأن الظاهر أنهم إنما سعوا في إخراج من نهاهم عن العمل الذي يشتهونه ويريدونه وذلك الناهي ليس إلا لوطاً وقومه وفي قوله يَتَطَهَّرُونَ وجوه الأول أن ذلك العمل تصرف في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر والثاني أن البعد عن الإثم يسمى طهارة فقوله يَتَطَهَّرُونَ أي يتباعدون عن المعاصي والآثام الثالث أنهم إنما قالوا أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ على سبيل السخرية بهم وتطهرهم من الفواحش كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم ابعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أن قوله فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب قال ابن عباس المراد ابنتاه وقوله إِلاَّ امْرَأَتَهُ أي زوجته يقال امرأة الرجل بمعنى زوجته ويقال رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام تعرف الزوجية وقوله كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ يقال غبر الشيء
يغبر غبوراً إذا مكث وبقي قال الهذلي فغبرت بعدهم بعيش ناصب
وأخال أني لاحق مستتبع
يعني بقيت فمعنى الآية أنها كانت من الغابرين عن النجاة أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة يقال فلان غبر هذا الأمر أي لم يدركه ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب
ثم قال وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا يقال مطرت السماء وأمطرت والأول أفصح وأمطرهم مطراً وعذاباً وكذلك أمطر عليهم والمراد أنه تعالى أمطر عليهم حجارة من السماء بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( الحجر 74 )
ثم قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظاهر هذا اللفظ وإن كان مخصوصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد سائر المكلفين ليعتبروا بذلك فينزجروا
فإن قيل كيف يعتبرون بذلك وقد آمنوا من عذاب الاستئصال
قلنا إن عذاب الآخرة أعظم وأدون من ذلك فعند سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنبة على عذاب الاستئصال ويكون ذلك زجراً وتحذيراً
المسألة الثانية مذهب الشافعي رضي الله عنه أن اللواطة توجب الحد وقال أبو حنيفة لا توجبه وللشافعي رحمه الله أن يحتج بهذه الآية من وجوه الأول أنه ثبت في شريعة لوط عليه السلام رجم اللوطي والأصل في الثابت البقاء إلا أن يظهر طريان الناسخ ولم يظهر في شرع محمد عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الحكم فوجب القول ببقائه الثاني قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) قد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن شرع من قبلنا حجة علينا والثالث أنه تعالى قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ والظاهر أن المراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره وهو إنزال الحجر عليهم ومن المجرمين الذين يعملون عمل قوم لوط لأن ذلك هو المذكور السابق فينصرف إليه فصار تقدير الآية فانظر كيف أمطر الله الحجارة على من يعمل ذلك العمل المخصوص وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فهذه الآية تقتضي كون هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص وإذا ظهرت العلة وجب أن يحصل هذا الحكم أينما حصلت هذه العلة
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وقد ذكرنا أن التقدير وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين وذكرنا الوجوه فيه واختلفوا في مدين فقيل أنه اسم البلد وقيل إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام ومدين صار اسماً للقبيلة كما يقال بكر وتميم وشعيب من أولاده وهو شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء الأول أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء فقال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ والثاني أنه ادعى النبوة فقال قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة لأنه لا بد لمدعي النبوة منها وإلا لكان متنبئاً لا نبياً فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا قال صاحب ( الكشاف ) ومن معجزات شعيب أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا حاربت التنين وأيضاً قال لموسى أن هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها منك فكان الأمر كما أخبر عنه ثم قال وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا وبين المعتزلة وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبياً ورسولاً بعد ذلك يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي ويسمى ذلك إرهاصاً للنبوة فهذا الإرهاص عندنا جائز وعند المعتزلة غير جائز فالأحوال التي حكاها صاحب ( الكشاف ) هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز والثالث أنه قال فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وههنا سؤالان
السؤال الأول الفاء في قوله فَأَوْفُواْ توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ فكيف الوجه فيه
والجواب كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة فلم يبق لكم فيه عذر فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
السؤال الثاني كيف قال الكيل والميزان ولم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود
والجواب أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو يسمى ما يكال به بالكيل كما يقال العيش لما
يعاش به والرابع قوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بطريق الحيل والخامس قوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة وهما يوجبان الفساد لا جرم قال بعده وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وقد سبق تفسير هذه الكلمة وذكروا فيه وجوهاً فقيل وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن لأن ذلك يتبعه الفساد وقيل أراد به المنع من كل ما كان فساداً حملاً للفظ على عمومه وقيل قوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ منع من مفاسد الدنيا وقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين واختلفوا في معنى بَعْدَ إِصْلَاحِهَا قيل بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه فنهاهم عن الفساد وقد صارت صالحة وقيل المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة والشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء كأنه تعالى يقول إيصال النفع إلى الكل متعذر وأما كف الشر عن الكل فممكن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة قال ذالِكُمْ وهو إشارة إلى هذه الخمسة والمعنى خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة والمراد أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي إن كنتم مصدقين لي في قولي
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن شعيباً عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء الأول أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ قولان الأول يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس روي أنهم كانوا يجلسون على
الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام والثاني أن يحمل الصراط على مناهج الدين قال صاحب ( الكشاف ) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وقوله بِكُلّ صِراطٍ يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا وفي مكان كذا وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا فالباء للإلصاق وهو قد التصق بذلك المكان
وأما قوله تُوعَدُونَ فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال والتقدير ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجاً في سبيل الله والحاصل أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض وجب حصول المغايرة بينها فقوله تُوعَدُونَ يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد فقد يكون بالإيعاد بالمضار وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه
أما قوله وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيباً منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة وإذا تأملت علمت أن أحداً لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة
ثم قال وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية قال الزجاج وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه كثر عددكم بعد القلة وكثركم بالغني بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة فأما تكثير عددهم بعد القلة فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط فولدت حتى كثر عددهم
ثم قال بعده وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال ليصير ذلك زاجراً لكم عن العصيان والفساد فقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا وقوله وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولاً والترهيب ثانياً
ثم قال وَإِن كَانَ طَائِفَة ٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَة ٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن لأن قوله فَاصْبِرُواْ تهديد وكذلك قوله حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا والمراد إعلاء درجات المؤمنين وإظهار هوان الكافرين وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة
ثم قال وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية والكافر الشقي بأنواع العقوبات ونظيره قوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ ( ص 28 )
قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية وإما أن تعود إلى ملتنا والإشكال فيه أن يقال إن قولهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك وذلك في غاية الفساد وقوله قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ يدل أيضاً على هذا المعنى
والجواب من وجوه الأول أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم الثاني أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام الثالث أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه فتوهموا أنه كان على دين قومه الرابع لا يبعد أن يقال إن شعيباً كان على شريعتهم ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه الخامس المراد من قوله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء تقول العرب قد عاد إلي من فلان مكروه يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء قال الشاعر فإن تكن الأيام أحسن مدة
إلى فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين الأول قوله وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ الهمزة
للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين الثاني قوله قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب فالعود في ملتكم يبطل النبوة ويزيل الرسالة وقوله إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا فيه وجوه الأول معنى إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على أنه باطل الثاني أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب والثالث أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم أو اعتقدوا أنه كان كذلك فقوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا أي حسب معتقدكم وزعمكم
أما قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن عَبْدُ اللَّهِ
فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح أما وجه استدلال أصحابنا بهذه فمن وجهين الأول قوله إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على خلاف مقتضى قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا الثاني أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ولما كانت تلك الملة كفراً كان هذا تجويزاً من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر فكاد هذا يكون تصريحاً من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر وذلك غير مذهبنا قال الواحدي ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 ) وكثيراً ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك ) وقال يوسف تَوَفَّنِى مُسْلِمًا ( يوسف 101 ) أجابت المعتزلة عنه من وجوه الأول أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء والثاني أن هذا مذكور على طريق التبعيد كما يقال لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشاب الغراب فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته ومن المعلوم أنه لا يكون نفياً لذلك أصلاً فهو على طريق التبعيد لا على وجه الشرط الثالث أن قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره وما كان جائزاً كان مراداً لله تعالى وكون الضمير أفضل من الإظهار لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل الرابع أن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ ( الأعراف 88 ) المراد الإخراج عن القرية فيحمل قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا أي القرية لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته الخامس أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر لأن قوله وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ معناه أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها وقوله لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا أي يكون ذلك العود جائزاً
والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم ولا يجوز له فعله إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر فكان التقدير إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها والشريعة التي صارت منسوخة لا يبعد أن يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم
والوجه السادس للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي فقال المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما فقال شعيب وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا مِلَّتِكُمْ ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير منسوخ لا جرم قال إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه فحينئذ نعود إليها فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير ألبتة فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب وأما المعتزل فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين
الوجه الأول لما قالوا ظاهر قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ولم يكن حراماً قالوا وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله كان حسناً مأذوناً فيه وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى
والوجه الثاني لهم أن قالوا إن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله وإذا كان حصول القسمين بخلق الله لم يبق للفرق بين القسمين فائدة
واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب
أما قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه قال القاضي قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا معناه إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء فلذلك أتبعه بهذا القول وقال أصحابنا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله هو أن القوم لما قالوا لشعيب إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا فقال شعيب وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَى ْء عِلْماً فربما كان في علمه حصول قسم ثالث وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي لأن قوله عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا لائق بهذا الوجه لا بما قاله القاضي
المسألة الثانية قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء لأن قوله واسِعُ فعل ماض فيتناول كل ماض وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع
المعلومات وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله والشقي من شقي في علم الله
المسألة الثالثة قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا يدل على أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون فهذه أقسام أربعة ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه أما الماضي فإنه علم أنه لما كان ماضياً فإنه كيف كان وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حاضراً فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال وبحسب المستقبل وبحسب المعدوم المحض فيكون المجموع ستة عشر ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها فحينئذ يلوح لعقلك من قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله
المسألة الرابعة قال الواحدي قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا منصوب على التمييز
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين الأول بالتوكل على الله فقال عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا فهذا يفيد الحصر أي عليه توكلنا لا على غيره وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب والثاني الدعاء فقال رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي احكم واقض وقال الفراء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كنت أدري قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحك أي أحاكمك قال الزجاج وجائز أن يكون قوله افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه يراد به الكشف والتبيين
ثم قال وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ والمراد منه الثناء على الله واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه هو الذي يخلق الإيمان من العبد وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين فلا شك أن الإيمان كذلك
إذا ثبت هذا فنقول لو كان الموجد للإيمان هو العبد لكان خير الفاتحين هو العبد وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين
وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ
اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك حتى أضلوا غيرهم ولاموهم على متابعته فقالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ واختلفوا فقال بعضهم خاسرون في الدين وقال آخرون خاسرون في الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولاً وفي الإضلال ثانياً فاستحقوا الإهلاك فلهذا قال تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ وهي الزلزلة الشديدة المهلكة فإذا انضاف إليها الجزاء الشديد المخوف على ما ذكره الله تعالى من قصة الظلمة كان الهلاك أعظم لأنه أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ أي في مساكنهم جَاثِمِينَ أي خامدين ساكنين بلا حياة وقد سبق الاستقصاء في تفسير هذه الألفاظ
ثم قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا وفيه بحثان
البحث الأول في قوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا قولان أحدهما يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها والثاني المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني قال الشاعر ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها وعلى هذا الوجه كان قوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها
والقول الثاني قال الزجاج كأن لم يغنوا فيها كأن لم يعيشوا فيها مستغنين يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى وهو من الغني الذي هو ضد الفقر
وإذا عرفت هذا فنقول على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
البحث الثاني قوله الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كأن لم يغنوا فيها الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصاً بأولئك المكذبين وذلك يدل على أشياء أحدها أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار والثاني يدل
على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي وثالثها يدل على المعجز العظيم في حق شعيب لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات
ثم قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ وإنما كرر قوله الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم فيقول الرجل لغيره أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا وأيضاً أن القوم لما قالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون
ثم قال تعالى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ واختلفوا في أنه تولى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك وقد سبق ذكر هذه المسألة قال الكلبي خرج من بين أظهرهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم
ثم قال فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ الأسى شدة الحزن قال العجاج وانحلبت عيناه من فرط الأسى
إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان
القول الأول أنه اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة ثم عزى نفسه وقال فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر
والقول الثاني أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فَكَيْفَ ءاسَى عَلَيْكُمْ يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ يحيى بن وثاب فَكَيْفَ بكسر الهمزة
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مِّن نَّبِى ٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَة ِ الْحَسَنَة َ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وأحوال ما جرى على أممهم كان من الجائز أن يظن
أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وبين العلة التي بها يفعل ذلك قال تعالى كَافِرِينَ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام وقوله مّن نَّبِى ٍّ فيه حذف وإضمار والتقدير من نبي فكذب أو كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء قال الزجاج البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم والضراء ما نالهم من الأمراض وقيل على العكس ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا معناه يتضرعوا والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى ولما علمت أن قوله لَعَلَّهُمْ لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى وجب حمله على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة وقال أصحابنا لما ثبت بالدليل أن تعليل أفعال الله وأحكامه محال وجب حمل الآية على أنه تعالى فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك شبيهاً بالعلة والغرض ثم بين تعالى أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد وإنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب فقال ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَة ِ الْحَسَنَة َ ( الأعراف 95 ) لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر ومعنى الحسنة والسيئة ههنا الشدة والرخاء قال أهل اللغة السَّيّئَة ُ كل ما يسوء صاحبه و الْحَسَنَة َ ما يستحسنه الطبع والعقل والمعنى أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء أخرى وقوله حَتَّى عَفَواْ قال الكسائي يقال قد عفا الشعر وغيره إذا كثر يعفو فهو عاف ومنه قوله تعالى حَتَّى عَفَواْ يعني كثروا ومنه ما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أمر أن تحف الشوارب وتعفى اللحى يعني توفر وتكثر وقوله وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فالمعنى أنهم متى نالهم شدة قالوا ليس هذا بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل وتلك عادة الدهر ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله وهذه الحكاية تدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة وأمن بعد خوف بل عدلوا إلى أن هذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة فبين تعالى أنه أزال عذرهم وأزاح علتهم فلم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال وقوله فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً والمعنى أنهم لما تمردوا على التقديرين أخذهم الله بغتة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم في الحسرة وقوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أي يرون العذاب والحكمة في حكاية هذا المعنى أن يحصل الاعتبار لمن سمع هذه القصة وعرفها
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم الله بغتة بين في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخيرات فقال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ أي آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْاْ ما نهى الله عنه وحرمه لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ بركات السماء بالمطر وبركات الأرض بالنبات والثمار وكثرة المواشي والأنعام وحصول الأمن والسلامة وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب والأرض تجري مجرى الأم ومنها يحصل جميع المنافع والخيرات بخلق الله تعالى وتدبيره وقوله وَلَاكِن كَذَّبُواْ يعني الرسل فَأَخَذْنَاهُمْ بالجدوبة والقحط بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ من الكفر والمعصية
ثم إنه تعالى أعاد التهديد بعذاب الاستئصال فقال أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم والمقصود أنه تعالى خوفهم بنزول ذلك العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه وقوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بأمور الدنيا فهي لعب ولهو ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع قرأ أكثر القراء أَوَ أَمِنَ بفتح الواو وهو حرف العطف دخلت عليه همزة الاستفهام كما دخل في قوله أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ( يونس 51 ) وقوله أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ ( البقرة 100 ) وهذه القراءة أشبه بما قبله وبعده لأن قبله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى وما بعده أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ ( الأعراف 99 ) أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ ( الأعراف 100 ) وقرأ ابن عامر أَوَ أَمِنَ ساكنة الواو واستعمل على ضربين أحدهما أن تكون بمعنى أحد الشيئين كقوله زيد أو عمرو جاء والمعنى أحدهما جاء
والضرب الثاني أن تكون للاضراب عما قبلها كقولك أنا أخرج أو أقيم أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة كأنك قلت لا بل أقيم فوجه هذه القراءة أنه جعل ( أو ) للاضراب لا على أنه أبطل الأول وهو الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ ( السجدة 1 2 ) فكان المعنى من هذه الآية استواء هذه الضروب من العذاب وإن شئت جعلت ( أو ) ههنا التي لأحد الشيئين ويكون المعنى أفأمنوا إحدى هذه العقوبات وقوله ضُحًى الضحى صدر النهار وأصله الظهور من قولهم ضحا للشمس إذا ظهر لها
ثم قال تعالى أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ وقد سبق تفسير المكر في اللغة ومعنى المكر في حق الله تعالى في سورة آل عمران عند قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) ويدل قوله أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ أن المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون قاله على وجه التحذير وسمي هذا العذاب مكراً توسعاً لأن الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به فسمي العذاب مكراً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون وبين أنه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ وهم الذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربهم فلا يخافونه ومن هذه سبيله فهو أخسر الخاسرين في الدنيا والآخرة لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر وفي الآخرة في أشد العذاب
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم من الآيات حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال مجملاً ومفصلاً أتبعه ببيان أن الغرض من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء فقرأ بعضهم أَوَلَمْ يَهْدِ بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالنون قال الزجاج إذا قرىء بالياء المعجمة من تحت كان قوله أَن لَّوْ نَشَاء مرفوعاً بأنه فاعله بمعنى أو لم يهد للذين يخلفون أولئك المتقدمين ويرثون أرضهم وديارهم وهذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين إذا قرىء بالنون فهو منصوب كأنه قيل أولم نهد للوارثين هذا الشأن بمعنى أو لم نبين لهم أن قريشاً أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم
المسألة الثانية المعنى أو لم نبين للذين نبعثهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها فنهلكهم بعدهم وهو معنى لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي عقاب ذنوبهم وقوله وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه
المسألة الثالثة استدل أصحابنا على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان بقوله وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد على ما قررناه في آيات كثيرة قال الجبائي المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان وقال الكعبي إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 )
واعلم أن البحث عن حقيقة الطبع والختم قد مر مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة
المسألة الرابعة قوله وَنَطْبَعُ هل هو منقطع عما قبله أو معطوف على ما قبله فيه قولان
القول الأول أنه منقطع عن الذي قبله لأن قوله أصبنا ماض وقوله بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ مستقبل وهذا العطف ليس بمستحسن بل هو منقطع عما قبله والتقدير ونحن نطبع على قلوبهم
والقول الثاني أنه معطوف على ما قبله قال صاحب ( الكشاف ) هو معطوف على ما دل عليه معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو معطوف على قوله يَرِثُونَ الارْضَ ثم قال ولا يجوز أن يكون معطوفاً على أَصَبْنَاهُمْ لأنهم كانوا كفاراً وكل كافر فهو مطبوع على قلبه فقوله بعد ذلك وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يجري مجرى تحصيل الحاصل وهو محال هذا تقرير قول صاحب ( الكشاف ) على أقوى الوجوه وهو ضعيف لأن كونه مطبوعاً عليه إنما يحصل حال استمراره وثباته عليه فهو يكفر أولاً ثم يصير مطبوعاً عليه في الكفر فلم يكن هذا منافياً لصحة العطف
ثم قال تعالى تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا قوله تِلْكَ مبتدأ والقرى صفة و نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ خبر والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام فلم نقصها عليك وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيهاً لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال
ثم عزاه الله تعالى بقوله وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ فيه قولان الأول قال ابن عباس والسدي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب الثاني قال الزجاج فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات الثالث ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنواب ما كذبوا به من قبل إهلاكهم ونظيره قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الإنعام 28 ) الرابع قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضاً الخامس ليؤمنوا في الزمان المستقبل
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ قال الزجاج والكاف في كَذالِكَ نصب والمعنى مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبداً والله أعلم بحقائق الأمور
وَمَا وَجَدْنَا لاًّكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
فيه أقوال الأول قال ابن عباس يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال
أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) فلما أخذ الله منهم هذا العهد وأقروا به ثم خالفوا ذلك صار كأنه ما كان لهم عهد فلهذا قال وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ والثاني قال ابن مسعود العهد هنا الإيمان والدليل عليه قوله تعالى إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 87 ) يعني آمن وقال لا إله إلا الله والثالث أن العهد عبارة عن وضع الأدلة الدالة على صحة التوحيد والنبوة وعلى هذا التقدير فالمراد ما وجدنا لأكثرهم من الوفاء بالعهد
ثم قال وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ أي وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وذكر في هذه القصة من الشرح والتفصيل ما لم يذكر في سائر القصص لأجل أن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات سائر الأنبياء وجهل قومه كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام
واعلم أن الكناية في قوله مّن بَعْدِهِمْ يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم ذكرهم بإهلاكهم وقوله بِئَايَاتِنَا فيه مباحث
البحث الأول هذه الآية تدل على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن غيره إذ لو لم يكن مختصاً بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره
والبحث الثاني هذه الآية تدل على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ومعجزات كثيرة
والبحث الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما أول آياته العصا ثم اليد ضرب بالعصا باب فرعون ففزع منها فشاب رأسه فاستحيا فخضب بالسواد فهو أول من خضب قال وآخر الآيات الطمس قال وللعصا فوائد كثيرة منها ما هو مذكور في القرآن كقوله قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ ( طه 18 ) وذكر الله من تلك المآرب في القرآن قوله اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا ( البقرة 60 ) وذكر ابن عباس أشياء أخرى منها أنه كان يضرب الأرض بها فتنبت ومنها أنه كانت تحارب اللصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه ومنها أنها كانت تشتعل في الليل كاشتعال الشمعة ومنها أنها كانت تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة
واعلم أن الفوائد المذكورة في القرآن معلومة فأما الأمور التي هي غير مذكورة في القرآن فكل ما ورد به خبر صحيح فهو مقبول وما لا فلا وقوله أنه كان يضرب بها الأرض فتخرج النبات ضعيف لأن القرآن يدل على أن موسى عليه السلام كان يفزع إلى العصا في الماء الخارج من الحجر وما كان يفزع إليها في طلب الطعام
أما قوله فَظَلَمُواْ بِهَا أي فظلموا بالآيات التي جاءتهم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما كانت تلك الآيات قاهرة ظاهرة ثم إنهم كفروا بها فوضعوا الإنكار في موضع الإقرار والكفر في موضع الإيمان كان ذلك ظلماً منهم على تلك الآيات
ثم قال فَانظُرْ أي بعين عقلك كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ وكيف فعلنا بهم
وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأايَة ٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه كان يقال لملوك مصر الفراعنة كما يقال لملوك فارس الأكاسرة فكأنه قال يا ملك مصر وكان اسمه قايوس وقيل الوليد بن مصعب بن الريان
المسألة الثانية قوله إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ فيه إشارة إلى ما يدل على وجود الإله تعالى فإن قوله رَبّ الْعَالَمِينَ يدل على أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه وإله يوجده ويخلقه
ثم قال حَقِيقٌ عَلَى َّ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ والمعنى أن الرسول لا يقول إلا الحق فصار نظم الكلام كأنه قال أنا رسول الله ورسول الله لا يقول إلا الحق ينتج أني لا أقول إلا الحق ولما كانت المقدمة الأولى خفية وكانت المقدمة الثانية جلية ظاهرة ذكر ما يدل على صحة المقدمة الأولى وهو قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وهي المعجزة الظاهرة القاهرة ولما قرر رسالة نفسه فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ ولما سمع فرعون هذا الكلام قال قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ واعلم أن دليل موسى عليه السلام كان مبنياً على مقدمات إحداها أن لهذا العالم إلهاً
قادراً عالماً حكيماً والثانية أنه أرسله إليهم بدليل أنه أظهر المعجز على وفق دعواه ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون رسولاً حقاً والثالثة أنه متى كان الأمر كذلك كان كل ما يبلغه من الله إليهم فهو حق وصدق ثم إن فرعون ما نازعه في شيء من هذه المقدمات إلا في طلب المعجزة وهذا يوهم أنه كان مساعداً على صحة سائر المقدمات وقد ذكرنا في سورة طه أن العلماء اختلفوا في أن فرعون هل كان عارفاً بربه أم لا ولمجيب أن يجيب فيقول إن ظهور المعجزة يدل أولاً على وجود الإله القادر المختار وثانياً على أن الإله جعله قائماً مقام تصديق ذلك الرسول فلعل فرعون كان جاهلاً بوجود الإله القادر المختار وطلب منه إظهار تلك البينة حتى أنه إن أظهرها وأتى بها كان ذلك دليلاً على وجود الإله أولاً وعلى صحة نبوته ثانياً وعلى هذا التقدير لا يلزم من اقتصار فرعون على طلب البينة كونه مقراً بوجود الإله الفاعل المختار
المسألة الثالثة قرأ نافع حَقِيقٌ عَلَى َّ مشدد الياء والباقون بسكون الياء والتخفيف أما قراءة نافع فحقيق يجوز أن يكون بمعنى فاعل قال الليث حق الشيء معناه وجب ويحق عليك أن تفعل كذا وحقيق علي أن أفعله بمعنى فاعل والمعنى واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق ويجوز أن يكون بمعنى مفعول وضع فعيل في موضع مفعول تقول العرب حق علي أن أفعل كذا وإني لمحقوق على أن أفعل خيراً أي حق علي ذلك بمعنى استحق
إذا عرفت هذا فنقول حجة نافع في تشديد الياء أن حق يتعدى بعلي قال تعالى طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا وقال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فحقيق يجوز أن يكون موصولاً بحرف على من هذا الوجه وأيضاً فإن قوله حَقِيقٌ بمعنى واجب فكما أن وجب يتعدى بعلي كذلك حقيق إن أريد به وجب يتعدى بعلي وأما قراءة العامة حَقِيقٌ عَلَى َّ بسكون الياء ففيه وجوه الأول أن العرب تجعل الباء في موضع ( علي ) تقول رميت على القوس وبالقوس وجئت على حال حسنة وبحال حسنة قال الأخفش وهذا كما قال وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ( الأعراف 86 ) فكما وقعت الباء في قوله بِكُلّ صِراطٍ موضع ( علي ) كذلك وقعت كلمة ( علي ) موقع الباء في قوله حَقِيقٌ عَلَى َّ أَنْ لا أَقُولَ يؤكد هذا الوجه قراءة عبدالله حَقِيقٌ بِأَنَّ لا أَقُولَ وعلى هذه القراءة فالتقدير أنا حقيق بأن لا أقول وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء وخبره أَن لا أَقُولَ الثاني أن الحق هو الثابت الدائم والحقيق مبالغة فيه وكان المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق الثالث الحقيق ههنا بمعنى المحقوق وهو من قولك حققت الرجل إذا ما تحققته وعرفته على يقين ولفظة عَلَى َّ ههنا هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) وتقول جاءت فلان على هيئته وعادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات فمعنى الآية أني لم أعرف ولم أتحقق إلا على قول الحق والله أعلم
أما قوله فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ أي أطلق عنهم وخلهم وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب فعند هذا الكلام قال فرعون قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ وفيه بحثان
البحث الأول أن لقائل أن يقول كيف قال له فَأْتِ بِهَا بعد قوله قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ
وجوابه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فاتني بها وأحضرها عندي ليصح دعواك ويثبت صدقك
والبحث الثاني أن قوله قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ جزاء وقع بين شرطين فكيف حكمه وجوابه أن نظيره قوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وههنا المؤخر في اللفظ يكون متقدماً في المعنى وقد سبق تقرير هذا المعنى فيما تقدم
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
اعلم أن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة على صحة نبوته بين الله تعالى أن معجزته كانت قلب العصا ثعباناً وإظهار اليد البيضاء والكلام في هذه الآية يقع على وجوه الأول أن جماعة الطبيعيين ينكرون إمكان انقلاب العصا ثعباناً وقالوا الدليل على امتناعه أن تجويز انقلاب العصا ثعباناً يوجب ارتفاع الوثوق عن العلوم الضرورية وذلك باطل وما يفضي إلى الباطل فهو باطل إنما قلنا إن تجويزه يوجب ارتفاع الوثوق على العلوم الضرورية وذلك لأنا لو جوزنا أن يتولد الثعبان العظيم من العصا الصغيرة لجوزنا أيضاً أن يتولد الإنسان الشاب القوي عن التبنة الواحدة والحية الواحدة من الشعير ولو جوز ذلك لجوزناه في هذا الإنسان الذي نشاهده الآن أنه إنما حدث الآن دفعة واحدة لا من الأبوين ولجوزنا في زيد الذي نشاهده الآن أنه ليس هو زيد الذي شاهدناه بالأمس بل هو شخص آخر حدث الآن دفعة واحدة ومعلوم أن من فتح على نفسه أبواب هذه التجويزات فإن جمهور العقلاء يحكمون عليه بالخبل والعته والجنون ولأن لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يقال إن الجبال انقلبت ذهباً ومياه البحار انقلبت دماً ولجوزنا في التراث الذي كان في مزبلة البيت أنه انقلب دقيقاً وفي الدقيق الذي كان في البيت أنه نقلب تراباً وتجويز أمثال هذه الأشياء مما يبطل العلوم الضرورية ويوجب دخول الإنسان في السفسطة وذلك باطل قطعاً فما يفضي إليه كان أيضاً باطلاً
فإن قال قائل تجويز أمثال هذه الأشياء مختص بزمان دعوة الأنبياء وهذا لزمان ليس كذلك فقد حصل الأمان في هذا الزمان عن تجويز هذه الأحوال
فالجواب عنه من وجوه الأول أن هذا التجويز إذا كان قائماً في الجملة كان تخصيص هذا التجويز بزمان دون زمان مما لا يعرف إلا بدليل غامض فكان يلزم أن يكون الجاهل بذلك الدليل الغامض جاهلاً باختصاص ذلك التجويز بذلك الزمان المعين فكان يلزم من جمهور العقلاء الذين لا يعرفون ذلك الدليل
الغامض أن يجوزوا كل ما ذكرناه من الجهات وأن لا يكونوا قاطعين بامتناع وقوعها وحيث نراهم قاطعين بامتناع وقوعها علمنا أن ما ذكرتموه فاسد والثاني أنا لو جوزنا أمثال هذه الأحوال في زمان دعوة النبوة فإنه يبطل أيضاً به القول بصحة النبوة فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً جاز في الشخص الذي شاهدناه أنه ليس هو الشخص الأول بل الله أعدم الشخص الأول دفعة واحدة وأوجد شخصاً آخر يساويه في جميع الصفات وعلى هذا التقدير فلا يمكننا أن نعلم أن هذا الذي نراه الآن هو الذي رأيناه بالأمس وحينئذ يلزم وقوع الشك في الذين رأوا موسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام أن ذلك الشخص هل هو الذي رأوه بالأمس أم لا ومعلوم أن تجويزه يوجب القدح في النبوة والرسالة والثالث وهو أن هذا الزمان وإن لم لكن زمان جواز المعجزات إلا أنه زمان جواز الكرامات عندكم فيلزمكم تجويزه فهذا جملة الكلام في هذا المقام
واعلم أن القول بتجويز انقلاب العادات عن مجاريها صعب مشكل والعقلاء اضطربوا فيه وحصل لأهل العلم فيه ثلاثة أقوال
القول الأول قول من يجوز ذلك على الإطلاق وهو قول أصحابنا وذلك لأنهم جوزوا تولد الإنسان وسائر أنواع الحيوان والنبات دفعة واحدة من غير سابقة مادة ولا مدة ولا أصل ولا تربية وجوزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً عاقلاً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ولا رطوبة ولا تركيب وجوزوا في الأعمى الذي يكون بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقعة التي تكون بأقصى المشرق مع أن الإنسان الذي يكون سليم البصر لا يرى الشمس الطالعة في ضياء النهار فهذا هو قول أصحابنا
والقول الثاني قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين وقالوا وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوماً لا دافع له وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر وعلى التقديرين فالقول الذي ذكرناه لازم أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر فهذا القول باطل في صريح العقل إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين ومن تجويز انقلاب الجبل ذهباً والبحر دماً فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجباً بالذات وأما أن يكون فاعلاً بالاختيار أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة وتقريره أنه إذا كان مؤثراً ومرجحه موجباً بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سبباً لحدوث المعلول الحادث المتغير
وءذا ثبت هذا فنقول كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية وحينئذ
تعود جميع الإلزامات المذكورة وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلاً مختاراً فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال أن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنساناً دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهباً والبحر دماً فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها ألبتة
والقول الثالث وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين ويجوزون انقلاب الماء ناراً وبالعكس ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفاً بالعلم والقدرة والحياة بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضراً وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلاً للصفات التي باعتبارها تصير ثعباناً وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعباناً أمراً ممكناً لذاته وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فلزم القطع بكونه تعالى قادراً على قلب العصا ثعباناً وذلك هو المطلوب وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم قوله فَإِذَا هِى َ أي العصا وهي مؤنثة والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء فعن ابن عباس إنها ملأت ثمانين ذراعاً ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعاً ووضع لحيها الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر وصاح فرعون يا موسى خذها فأنا أومن بك فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبيناً وجوه الأول تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات والثاني في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه الثالث المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب
وأما قوله وَنَزَعَ يَدَهُ فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله تعالى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ
وقوله فَإِذَا هِى َ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ قال ابن عباس وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء
فإن قيل بم يتعلق قوله لِلنَّاظِرِينَ
قلنا يتعلق بقوله بَيْضَاء والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب وبقي ههنا مباحث فأولها أن انقلاب العصا ثعباناً من كم وجه يدل على المعجز والثاني أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه والثالث أن المعجز الواحد كان كافياً فالجمع بينهما كان عبثاً
وجوابه أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك ومن الملحدين من قال المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي قوة كاملة ومرتبة ظاهرة واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات حكى عن قوم فرعون أنهم قالوا إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ وذلك لأن السحر كان غالباً في ذلك الزمان ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالباً للملك والرياسة
فإن قيل قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه فكيف الجمع بينهما وجوابه من وجهين الأول لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكى الله تعالى قوله ثم وقولهم ههنا والثاني لعل فرعون قاله ابتداء فتلقنه الملأ منه فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فإن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة فكذا ههنا
وأما قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه الأول أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيباً لهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين أحدهما أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خطاب للجمع لا للواحد فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيماً لشأنه لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً
( نوح 1 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 )
والحجة الثانية أنه تعالى لما ذكر قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قال بعده قَالُواْ أَرْجِهْ ولا شك أن هذا كلام القوم وجعله جواباً عن قولهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فوجب أن يكون القائل لقوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ غير الذي قالوا أرجه وذلك يدل على أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ كلام لغير الملأ من قوم فرعون وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن القوم قالوا إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ثم أتبعوه بقولهم أَرْجِهْ وَأَخَاهُ فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولاً ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة
والقول الثاني أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ من بقية كلام القوم واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم والثاني أن الرتبة معتبرة في الأمر فوجب أن يكون قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خطاباً من الأدنى مع الأعلى وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه
وأجيب عن هذا الثاني بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته ماذا تأمرون ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظماً لهم ومعتقداً فيهم ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين أحدهما أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده فإنه يقال للرئيس المطاع ما ترون في هذه الواقعة أي ما ترى أنت وحدك والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله والثاني أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي والله أعلم
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَآءَ السَّحَرَة ُ فِرْعَوْنَ قَالْوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع والكسائي أَرْجِهْ بغير همز وكسر الهاء والإشباع وقرأ عاصم وحمزة أَرْجِهْ بغير الهمز وسكون الهاء وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وأرجئه بالهمز وضم الهاء ثم أن ابن كثير
أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون قال الواحدي رحمه الله قَالُواْ أَرْجِهْ مهموز وغير مهموز لغتان يقال أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته ومنه قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ ( التوبة 106 ) بِهَا مَن تَشَاء ( الأجزاب 51 ) قرىء في الآيتين باللغتين وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز وسكون الهاء فقال الفراء هي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها وأنشد فيصلح اليوم ويفسده غداً
قال وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون هذه طلحة قد أقبلت وأنشد لما رأى أن لا دعه ولا شبع
ثم قال الواحدي ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس وقال الزجاج هذا شعر لا نعرف قائله ولو قاله شاعر مذكور لقيل له أخطأت
المسألة الثانية في تفسير قوله أَرْجِهْ قولان الأول الإرجاء التأخير فقوله أَرْجِهْ أي أخره ومعنى أخره أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم فتصير عجلتك حجة عليك والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام
والقول الثاني وهو قول الكلبي وقتادة أَرْجِهْ احبسه قال المحققون هذا القول ضعيف لوجهين الأول أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس والثاني أن فرعون ما كان قادراً على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا
أما قوله وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وإلا لم يصح قوله وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارفة وإنها إذا أمكنت فلا نبوة وإذا تعذرت فقد صحت النبوة وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه فقد سبق الاستقصاء فيه في سورة البقرة
المسألة الثانية نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي أنه قال ختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال
القول الأول أنها فعيلة لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن وهي فعائل كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة
والقول الثاني أنها مفعلة وعلى هذا الوجه فمعنى المدينة المملوكة من دانه يدينه فقولنا مدينة من دان مثل معيشة من عاش وجمعها مداين على مفاعل كمعايش غير مهموز ويكون اسماً لمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم
والقول الثالث قال المبرد مدينة أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها واجتمع ساكنان الواو المزيدة التي هي واو المفعول والياء التي هي من نفس الكلمة فحذفت الواو لأنها زائدة وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي ثم كسروا الدال لتسلم الياء فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل ثم قال الواحدي والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن
المسألة الثالثة وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالاً يحشروا إليك ما فيها من السحرة قال ابن عباس وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ونقل القاضي عن ابن عباس أنهم كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم وكان الذي يعلمهم رجلاً مجوسياً من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام وهي قرية بالموصل وأقول هذا النقل مشكل لأن المجوس أتباع زرادشت وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام
أما قوله يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي بكل سحار والباقون بكل ساحر فمن قرأ سحار فحجته أنه قد وصف بعليم ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة في السحر ومن قرأ ساحر فحجته قوله وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ ( الأعراف 120 ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ ( الشعراء 40 ) والسحرة جمع ساحر مثل كتبه وكاتب وفجرة وفاجر واحتجوا أيضاً بقوله سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 116 ) واسم الفاعل من سحروا ساحر
المسألة الثانية الباء في قوله بِكُلّ سَاحِرٍ يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وهذا يدل على صحة ما يقوله المتكلمون من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى عليه السلام كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفاً للسحر في الحقيقة ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة
ثم قال تعالى وَجَاء السَّحَرَة ُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم أن لنا لأجراً بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام ثم اختلفوا فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله الاستفهام أحسن في هذا الموضع لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ ( الشعراء 22 ) فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه