كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
أن يكون العمرة مأموراً بها لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ ( البينه 5 ) والأمر للوجوب وحينئذ يحصل المقصود
الحجة الثانية في وجوب العمرة أن قوله تعالى يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ ( التوبة 3 ) يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل وما ذاك إلا العمرة بالإتفاق وإذا ثبت أن العمرة حج وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ ولقوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 )
الحجة الثالثة في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن فقال عليه الصلاة والسلام حج عن أبيك واعتمر فأمر بهما والأمر للوجوب ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال ( الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ) ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد فقال عليه الصلاة والسلام عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة
الحجة الرابعة في وجوب العمر قال الشافعي رضي الله عنه اعتمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الحج ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب وحجة من قال العمرة ليست واجبة وجوه
الحجة الأولى قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي هل على غير هذا قال لا إلا أن تطوع فقال الأعرابي لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق وقال عليه الصلاة والسلام ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ) وقال عليه الصلاة والسلام ( صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم ) فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا فقال لا وإن تعتمر خير لك وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الحج جهاد والعمرة تطوع )
والجواب من وجوه أحدها أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث ثم نزل بعدها قوله
الحجة الثالثة في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن فقال عليه الصلاة والسلام حج عن أبيك واعتمر فأمر بهما والأمر للوجوب ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال ( الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت ) ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد فقال عليه الصلاة والسلام عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة
الحجة الرابعة في وجوب العمر قال الشافعي رضي الله عنه اعتمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الحج ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب وحجة من قال العمرة ليست واجبة وجوه
الحجة الأولى قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي هل على غير هذا قال لا إلا أن تطوع فقال الأعرابي لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق وقال عليه الصلاة والسلام ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ) وقال عليه الصلاة والسلام ( صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم ) فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا فقال لا وإن تعتمر خير لك وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الحج جهاد والعمرة تطوع )
والجواب من وجوه أحدها أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث ثم نزل بعدها قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وهذا هو الأقرب لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة وثالثها أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف
المسألة الثالثة اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام الإفراد والقران والتمتع فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة والقران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال الشافعي رضي الله عنه أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران وقال في اختلاف الحديث التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك رضي الله عنه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه القران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع وهو قول المزني وأبي إسحق والمروزي من أصحابنا وقال أبو يوسف ومحمد القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد حجة الشافعي رضي الله عنه في أن الإفراد أفضل من وجوه الأول التمسك بقوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ والإستدلال به من ثلاثة أوجه الأول أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد فأما عند القران فالموجود شيء واحد وهو حج وعمرة وذلك مانع من صحة العطف الثاني قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ يقتضي الافراد بدليل أنه تعالى قال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ والقارن يلزمه هديان عند الحصر وأيضاً أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة والقارن يلزمه فديتان عند الحصر الثالث هذه الآية تدل على وجوب الإتمام والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان الأول أن السفر مقصود في الحج بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت ويدل عليه أيضاً أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكباً يلزمه دم فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر لأن بسببه يصير السفران سفراً واحداً فثبت أن الاتمام لا يحصل إلا بالافراد الثاني أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة ومشاهد مشرفة والحاج زائر الله والله تعالى مزوره ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الافراد وتصير واحدة عند القران فثبت أن الافراد أقرب إلى التمام فكان الافراد إن لم يكن واجباً عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل
الحجة الثانية في بيان أن الافراد أفضل أن الافراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة ثم بالعمرة بعد ذلك فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام ( أفضل الأعمال أحمزها ) أي أشقها
الحجة الثالثة أنه عليه السلام كان مفرداً فوجب أن يكون الإفراد أفضل أما قولنا إنه كان مفرداً فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفرد بالحج وروى جابر وابن عمر أنه أفرد وأما أنس فقد روى عنه أنه قال كنت واقفاً عند
جران ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول ( لبيك بحج وعمرة معاً ) ثم الشافعي رضي الله عنه رجح رواية عائشة رضي الله عنها وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه أحدها بحال الرواة أما عائشة فلأنها كانت عالمة ومع علمها كانت أشد الناس التصاقاً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأشد الناس وقوفاً على أحواله وأما جابر فانه كان أقدم صحبة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أنس وإن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قبل العلم وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غيره لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن عدم القران متأكد بالاستصحاب والثالث أن الافراد يقتضي تكثير العبادة والقران يقتضي تقليلها فكان إلحاق الإفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام أولى وإذا ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مفرداً وجب أن يكون الافراد أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل لنفسه ولأنه قال ( خذوا عني مناسككم ) أي تعلموا مني
الحجة الرابعة أن الافراد يقتضي تكثير العبادة والقران يقتضي تقليلها فكان الأول أولى لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى التمسك بقوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحُجَّة ُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد أيجاب كل واحد منهما أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام فلو جملناه على الأول لا يفيد الثاني ولو حملناه على الثاني أفاد الأول فكان الثاني أكثر فائدة فوجب حمل اللفظ عليه لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة
الحجة الثانية أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد
الحجة الثالثة أن في القران مسارعة إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله وَسَارِعُواْ ( آل عمران 133 )
والجواب عن الأول أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن حيث قلتم حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا
والجواب عن الثاني والثالث أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضاً إلا أن القران كان حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصاً فيه فأما أن يكون أفضل فلا وبالجملة فالشافعي رضي الله عنه لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة لكنه يقول من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الاتيان بالحجة المقرونة
المسألة الرابعة في تفسير الإتمام في قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وفيه وجوه أحدها روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله وثانيها قال أبو مسلم المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع
حتى يتم هذا الفرض ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الاتمام وثالثها قال الأصم إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة وذكر الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الاحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الاحرام ثمانية الأول في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه الثاني في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير معينا عليه إن نسي ذكره وإن ذكر ساعده وإن جبن شجعه وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً والسنة في الوداع أن يقول أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الثالث في الخروج من الدار فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( الكافرون 1 ) وفي الثانية الاخلاص وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالاخلاص الرابع إذا حصل على باب الدار قال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى الخامس في الركوب فإذا ركب الراحلة قال بسم الله وبالله والله أكبر توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون السادس في النزول والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً السابع إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار فليقرأ آية الكرسي وشهد الله والاخلاص والمعوذتين ويقول تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت الثامنة مهما علا شرفا من الأرض في الطريق فيستحب أن يكبر ثلاثاً التاسع أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها العاشرة أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ثم بعد الاتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى فقوله الْمُحْسِنِينَ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعاً ملة إبراهيم حيث قال تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 )
الوجه الرابع في تفسير قوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ أن المراد أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد وقد بيناه بالدليل وهذا التأويل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد يروى مرفوعاً عن أبي هريرة وكان عمر يترك القران والتمتع ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج فإن الله تعالى يقول الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ( البقرة 197 ) وروى نافع عن ابن عمر أنه قال فرقوا بين حجكم وعمرتكم
المسألة الخامسة قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم الْحَجُّ بفتح الحاء في كل القرآن وهي لغة الحجاز وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالكسر في آل عمران قال
الكسائي وهما لغتان بمعنى واحد كرطل ورطل وقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم
وقوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه يقال للذي لا يبوح بسره حصر لأنه حبس نفسه عن البوح والحصر احتباس الغائط والحصير الملك لأنه كالمحبوس بين الحجاب وفي شعر لبيد جن لدي باب الحصير قيام
والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض تشبيهاً باحتباس الشيء مع غيره
إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول وهو اختيار أبي عبيدة وابن الكسيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض قال ابن السكيت يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر وقال ثعلب في فصيح الكلام أحصر بالمرض وحصر بالعدو
والقول الثاني أن لفظ الاحصار يفيد الحبس والمنع سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء
والقول الثالث أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو وهو قول الشافعي رضي الله عنه وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر فانهما قالا لا حصر إلا حصر العدو وأكثر أهل اللغة يردون هذا القول على الشافعي رضي الله عنه وفائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع قال أبو حنيفة رضي الله عنه يثبت وقال الشافعي لا يثبت وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان أحدهما الذين قالوا الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصاً صريحاً في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم والثاني الذين قالوا الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلاً بسبب المرض أو بسبب العدو وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضاً لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار فوجب أن يكون الحكم ثابتاً عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض وأما على القول الثالث وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو ظاهر قوي وأما تقرير مذهب الشافعي رضي الله عنه فهو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل
الحجة الأولى أن الإحصار إفعال من الحصر والافعال تارة يجيء بمعنى التعدية نحو ذهب زيد وأذهبته أنا ويجيء بمعنى صار ذا كذا نحو أغد البعير إذا صار ذا غدة وأجرب الرجل إذا صار ذا أبل جربى ويجيء بمعنى وجدته بصفة كذا نحو أحمدت الرجل أي وجدته محموداً والإحصار لا يمكن أن
يكون للتعدية فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين ثم إن أهل اللغة أتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض فوجب أن يكون معنى الاحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو أو وجدوا ممنوعين بالعدو وذلك يؤكد مذهبنا
الحجة الثانية أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده إذا كان قادراً عن ذلك الفعل متمكناً منه ثم إنه منعه مانع عنه والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر أالبتة على الفعل فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضى أما إذا كان ممنوعاً بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو فصح ههنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل فثبت أن لفظة الاحصار حقيقة في العدو ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض
الحجة الثالثة أن معنى قوله أُحْصِرْتُمْ أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس والمنع لا بد له من مانع ويمتنع وصف المرض بكونه حابساً ومانعاً لأن الحبس والمنع فعل وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلاً لأن المرض عرض لا يبقى زمانين فكيف يكون فاعلا وحابسا ومانعا أما وصف العدو بأنه حابس ومانع فوصف حقيقي وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه
الحجة الرابعة أن الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض فلفظ الإحصار وجب أن يكون خالياً عن الاشعار بالمرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة
الحجة الخامسة أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فعطف عليه المريض فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلاً فيه لكان هذا عطفاً للشيء على نفسه
فإن قيل إنه خص هذا المرض بالذكر لأن له حكماً خاصاً وهو حلق الرأس فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم
قلنا هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشيء على نفسه أما إذا لم يكن المحصر مفسراً بالمريض لم يلزم عطف الشيء على نفسه فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال فكان ذلك أولى
الحجة السادسة قال تعالى في آخر الآية فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض فإنه يقال في المرض شفي وعفي ولا يقال أمن
فإن قيل لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف فإنه يقال أمن المريض من الهلاك وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها
قلنا لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها
قلنا بل يوجب لأن قوله فَإِذَا أَمِنتُمْ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا فلا بد
وأن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو الاحصار فصار التقدير فإذا أمنتم من ذلك الاحصار ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو وجب أن يكون المراد من هذا الاحصار منع العدو فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط أما قول من قال إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل وفيه دليل آخر وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه فلو كان الإحصار اسماً لمنع المرض لكان سبب نزول الآية خارجاً عنها وذلك باطل بالإجماع فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو وإذا ثبت هذا فنقول لا يمكن قياس منع المرض عليه وبيانه من وجهين الأول أن كلمة إن شرط عند أهل اللغة وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهراً فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياساً كان ذلك نسخا للنص بالقياس وهو غير جائز
الوجه الثاني أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير
أما قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله في الآية إضمار والتقدير فحللتم فما استيسر وهو كقوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر فعدة وفيها إضمار آخر وذلك لأن قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ كلام غير تنام لا بد فيه من إضمار ثم فيه احتمالان أحدهما أن يقال محل ما رفع والتقدير فواجب عليكم ما استيسر والثاني قال الفراء لو نصبت على معنى اهدوا ما تيسر كان صواباً وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع
المسألة الثانية اسْتَيْسَرَ بمعنى تيسر ومثله استعظم أي تعظم واستكبر أي تكبر واستصعب أي تصعب
المسألة الثالثة الْهَدْى ِ جمع هدية كما تقول تمر وتمرة قال أحمد بن يحيى أهل الحجاز يخففون الْهَدْى ِ وتميم تثقله فيقولون هدية وهدي ومطية ومطي قال الشاعر حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات
ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقرباً إليه بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقرباً إليه ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة الهدي أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأخسه شاة فعليه ما تيسر من هذه الأجناس
المسألة الرابعة المحصر إذا كان عالما بالهدي هل له بدل ينتقل إليه للشافعي رضي الله عنه فيه قولان أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه والحجة في أنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التعيين وما أثبت له بدلاً والثاني أن له بدلاً ينتقل إليه وهو قول أحمد فإذا قلنا بالقول الأول هل له أن يتحلل في الحال أو يقيم على إحرامه فيه قولان أحدهما أنه يقيم على إحرامة حتى يجده وهو قول أبي حنيفة ويدل عليه ظاهر الآية والثاني أن يتحلل في الحال للمشقة وهو الأصح فإذا قلنا بالقول الثاني ففيه اختلافات كثيرة وأقربها أن يقال يقوم الهدي بالدراهم ويشتري بها طعام ويؤدي وإنما قلنا ذلك لأنه أقرب إلى الهدي
المسألة الخامسة المحصر إذا أراد التحلل وذبح وجب أن ينوي التحلل عند الذبح ولا يتحلل البتة قبل الذبح
المسألة السادسة اختلفوا في العمرة فأكثر الفقهاء قالوا حكمها في الإحصار كحكم الحج وعن ابن سيرين أنه لا إحصار فيه لأنه غير مؤقت وهذا باطل لأن قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائداً إليهما
أما قوله تعالى وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر فتقدير الآية حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله تعالى عنه يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم بل حيث حبس وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يجوز ذلك إلا في الحرم ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة إنه اسم للمكان
حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوه الأول إنه عليه الصلاة والسلام أحصر بالحديبية ونحر بها والحديبية ليست من الحرم قال أصحاب أبي حنيفة إنه إنما أصحر في طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم قال الواقدي الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة أجاب القفال رحمه الله في ( تفسيره ) عن هذا السؤال فقال الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( الفتح 25 ) فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم
الحجة الثانية أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدى
بيان المقام الأول أن قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل أو في الحرم وقوله بعد ذلك فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ معناه فما استيسر من الهدي نحوه واجب أو معناه
فانحروا فانحروا ما استيسر من الهدي وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصراً في الحل أو في الحرم وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم لأن المكلف بالشيء أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر
الحجة الثالثة أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفى الخوف وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان كالمسجد والمجلس فقوله حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل وهو عندكم بالغ محله في الحال
جوابه المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور إن محل الدين هو وقت وجوبه الثاني هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الإحتمال بقوله ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) وفي قوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) ولا شك أن المراد منه الحرم فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء
جوابه قال الشافعي رضي الله عنه كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين أحدهما من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين والثاني دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة الثالث قالوا الهدي سمي هدياً لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم
جوابه هذا التمسك بالاسم ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة الرابع أن سائر دماء الحج كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم فكذا هذا
جوابه أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة قال كعب مر بي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زمن الحديبية وكان في شعر رأسي كثير من القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي فقال عليه الصلاة والسلام تؤذيك هوام رأسك قلت نعم يا رسول الله قال أحلق رأسك فأنزل الله تعالى هذه الآية والمقصود منها أن المحرم إذا تأذى بالمرض أو بهوام رأسه أبيح له المداواة والحلق بشرط الفدية والله أعلم
المسألة الثانية ففدية رفع لأنه مبتدأ خبره محذوف والتقدير فعليه فدية وأيضاً ففيه إضمار آخر والتقدير فحلق فعليه فدية
المسألة الثالثة قال بعضهم هذه الآية مختصة بالمحصر وذلك لأن قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله أذن له في ذلك بشرط بذل الفدية وقال آخرون بل الكلام مستأنف لكل محرم لحقه المرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو لحقه أذى في رأسه فاحتاج إلى الحلق فبين الله تعالى أن له ذلك وبين ما يجب عليه من الفدية
إذا عرفت هذا فنقول المرض قد يحوج إلى اللباس فتكون الرخصة في اللباس كالرخصة في الحلق وقد يكون ذلك بغير المرض من شدة البرد وما شاكله فأبيح له بشرط الفدية وقد يحتاج أيضاً إلى استعمال الطيب في كثير من الأمراض فيكون الحكم فيه ذاك وأما من يكون به أذى من رأسه فقد يكون ذلك بسبب القمل والصئبان وقد يكون بسبب الصداع وقد يكون عند الخوف من حدوث مرض أو ألم وبالجملة فهذا الحكم عام في جميع محظورات الحج
المسألة الرابعة اختلفوا في أنه هل يقدم الفدية ثم يترخص أو يؤخر الفدية عن الترخص والذي يقتضيه الظاهر أنه يؤخر الفدية عن الترخص لأن الإقدام على الترخص كالعلة في وجوب الفدية فكان مقدماً عليه وأيضاً فقد بينا أن تقدير الآية فحلق فعليه فدية ولا ينتظم الكلام إلا على هذا الحد فإذن يجب تأخير الفدية
أما قوله تعالى مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَة ٍ أَوْ نُسُكٍ فالمراد أن تلك الفدية أحد هذه الأمور الثلاثة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أصل النسك العبادة قال ابن الأعرابي النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة ثم قيل للمتعبد ناسك لأنه خلق نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث هذا أصل معنى النسك ثم قيل للذبيحة نسك من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله
المسألة الثانية اتفقوا في النسك على أن أقله شاة لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة الجمل والبقرة والشاة ولما كان أقلها الشاة لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة أما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه فيه قولان أحدهما أنه حصل عن كعب بن عجرة وهو ما روى أبو داود في سننه أنه عليه الصلاة والسلام لما مر بكعب بن عجرة ورأى كثرة الهوام في رأسه قال له احلق ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين
والقول الثاني ما يروى عن ابن عباس والحسن أنهما قالا الصيام للمتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في العدة وحجتهما أن الصيام والإطعام لما كانا مجملين في هذا الموضع وجب حملهما على المفسر فيما جاء بعد ذلك وهو الذي يلزم المتمتع إذا لم يجد الهدي والقول الأول عليه أكثر الفقهاء
المسألة الثالثة الآية دلت على حكم من أقدم على شيء من محظورات الحج بعذر أم من حلق رأسه عامداً بغير عذر فعند الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة الواجب عليه الدم وقال مالك رضي الله عنه حكمه حكم من فعل ذلك بعذر والآية حجة عليه لأن قوله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَة ٌ مّن صِيَامٍ يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط وقوله تعالى فَإِذَا أَمِنتُمْ فاعلم أن تقديره فإذا أمنتم من الإحصار وقوله فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ فيه مسائل
المسألة الأولى معنى التمتع التلذذ يقال تمتع بالشيء أي تلذذ به والمتاع كل شيء يتمتع به وأصله من قولهم حبل ماتع أي طويل وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم بمكة حلالاً ينشىء منها الحج فيحج من عامه ذلك وإنما سمي متمتعاً لأنه يكون مستمتعاً بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه وههنا نوع آخر من التمتع مكروه وهو الذي حذر عنه عمر رضي الله عنه وقال متعتان كانتا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ روي عن أبي ذر أنه قال ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصاً بهم
المسألة الثانية قوله تعالى فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ أي فمن يتمتع بسبب العمرة فكأنه لا يتمتع بالعمرة ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة وهذا هو معنى التمتع بالعمرة إلى الحج
أما قوله تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أصحابنا لوجوب دم التمتع خمس شرائط أحدها أن يقدم العمرة على الحج والثاني أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج فإن أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بشيء من الطواف وإن كان شرطاً واحداً ثم أكمل باقيه في أشهر الحج وحج في هذه السنة لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج وإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج وأتى بأعمالها في أشهر الحج فيه قولان قال في ( الأم ) وهو الأصح لا يلزمه دم التمتع لأنه أتى بركن من أركان العمرة قبل أشهر الحج كما لو طاق قبله وقال في ( القديم والإملاء ) يلزمه ذلك ويجعل استدامة الإحرام في أشهر الحج كابتدائه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إذا أتى ببعض الطواف قبل أشهر الحج فهو متمتع إذا لم يأت بأكثره الشرط الثالث أن يحج في هذه السنة فإن حج في سنة أخرى لا يلزمه الدم لأنه لم يوجد مزاحمة الحج والعمرة في عام واحد الشرط الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وحاضر المسجد الحرام من كان أهله على مسافة أقل من مسافة القصر فإن كان على مسافة القصر فليس من الحاضرين وهذه المسافة تعتبر من مكة أو من الحرم وفيه وجهان الشرط الخامس أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع لأن لزوم الدم لترك الإحرام من الميقات ولم يوجد فهذه هي الشروط المعتبرة في لزوم دم التمتع
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه دم التمتع دم جبران الإساءة فلا يجوز له أن يأكل منه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إنه دم نسك ويأكل منه حجة الشافعي من وجوه
الحجة الأولى أن التمتع حصل فيه خلل فوجب أن يكون الدم دم جبران بيان حصول الخلل فيه من وجوه ثلاثة الأول روي أن عثمان كان ينهي عن المتعة فقال له علي رضي الله عنهما عمدت إلى رخصة بسبب الحاجة والغربة وذلك يدل على حصول نقص فيها الثاني أنه تعالى سماه تمتعاً والتمتع عبارة عن التلذذ والإرتفاع ومبنى العبادة على المشقة فيدل على أنه حصل في كونه عبادة نوع خلل الثالث وهو بيان الخلل على سبيل التفصيل أن في التمتع صار السفر للعمرة وكان من حقه أن يكون للحج فإن الحج الأكبر هو الحج وأيضاً حصل الترفه وقت الإحلال بينهما وذلك خلل وأيضاً كان من حقه جعل الميقات للحج فإنه أعظم فلما جعل الميقات للعمرة كان ذلك نوع خلل وإذا ثبت كون الخلل في هذا الحج وجب جعل الدم دم جبران لا دم نسك
الحجة الثانية أن الدم ليس بنسك أصلي من مناسك الحج أو العمرة كما لو أفرد بهما وكما في حق المكي والجمع بين العبادتين لا يوجب الدم أيضاً بدليل أن من جمع بين الصلاة والصوم والإعتكاف لا يلزمه الدم فثبت بهذا أن هذا الدم ليس دم نسك فلا بد وأن يكون دم جبران
الحجة الثالثة أن الله تعالى أوجب الهدي على التمتع بلا توقيت وكونه غير مؤقت دليل على أنه دم
جبران لأن المناسك كلها مؤقتة
الحجة الرابعة أن للصوم فيه مدخلاً ودم النسك لا يبدل بالصوم وإذا عرفت صحة ما ذكرنا فنقول أن الله تعالى ألزم المكلف إتمام الحج في قوله وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وقد دللنا على أن حج التمتع غير تام فلهذا قال تعالى فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ وذلك لأن تمتعكم يوقع نقصاً في حجتكم فأجبروه بالهدي لتكمل به حجتكم فهذا معنى حسن مفهوم من سياق الآية وهو لا يتقرر إلا على مذهب الشافعي رضي الله عنه
المسألة الثالثة الدم الواجب بالتمتع دم شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ولو تشارك ستة في بقرة أو بدنة جاز ووقت وجوبه بعدما أحرم بالحج لأن الفاء في قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ِ يدل على أنه وجب عقيب التمتع ويستحب أن يذبح يوم النحر فلو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز وأصل هذا أن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات وعنده دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر
أما قوله تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فالمعنى أن المتمتع إن وجد الهدي فلا كلام وإن لم يجد فقد بين الله تعالى بدله من الصيام فلهذا الهدي أفضل أم الصيام الظاهر أن يكون المبدل الذي هو الأصل أفضل لكنه تعالى بين في هذا البدل أنه في الكمال والثواب كالهدي وهو كقوله تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية نص فيما إذا لم يجد الهدي والفقهاء قاسوا عليه ما إذا وجد الهدي ولم يجد ثمنه أو كان ماله غائباً أو يباع بثمن غال فهنا أيضاً يعدل إلى الصوم
المسألة الثانية قوله فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ أي فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج ويتفرع عليه مسألة فقهية وهي أن المتمتع إذا لم يجد الهدي لا يصح صومه بعد إحرام العمرة قبل إحرام الحج وقال أبو حنيفة رحمه الله يصح حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه الأول أنه صام قبل وقته فلا يجوز كمن صام رمضان قبله وكما إذا صام السبعة أيام قبل الرجوع وإنما قلنا إنه صام قبل وقته لأن الله تعالى قال فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وأراد به إحرام الحج لأن سائر أفعال الحج لا تصلح طرفاً للصوم والإحرام يصلح فوجب حمله عليه الثاني أن ما قبل الإحرام بالحج ليس بوقت للهدي الذي هو أفضل فكذا لا يكون وقتاً للصوم الذي هو بدله اعتبار بسائر الأصول والإبدال وتحقيقه أن البدل حال عدم الأصل يقوم مقامه فيصير في الحكم كأنه الأصل فلا يجوز أن يحصل في وقت لو وجد الأصل لم يجز إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أنه يجوز بعد الشروع في الحج إلى يوم النحر والأصح أنه لا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام ( ولا تصوموا في هذه الأيام ) والمستحب أن يصوم في أيام الحج حيث يكون يوم عرفة مفطراً
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد من الرجوع في قوله إِذَا رَجَعْتُمْ فقال الشافعي رضي الله عنه في ( الجديد ) هو الرجوع إلى الأهل والوطن وقال أبو حنيفة رضي الله عنه المراد من الرجوع الفراغ من
أعمال الحج والأخذ في الرجوع ويتفرع عليه أنه إذا صام الأيام السبعة بعد الرجوع عن الحج وقبل الوصية إلى بيته لا يجزيه عند الشافعي رضي الله عنه ويجزيه عند أبي حنيفة رحمه الله حجة الشافعي وجوه الأول قوله إِذَا رَجَعْتُمْ معناه إلى الوطن فإن الله تعالى جعل الرجوع إلى الوطن شرطاً وما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط والرجوع إلى الوطن لا يحصل إلا عند الانتهاء إلى الوطن فقبله لم يوجد الشرط فوجب أن لا يوجد المشروط ويتأكد ما قلنا بأنه لو مات قبل الوصول إلى الوطن لم يكن عليه شيء الثاني ما روي عن ابن عباس قال لما قدمنا مكة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ) فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فلما فرغنا قال ( عليكم الهدي فإن لم تجدوا فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى إمصاركم ) الثالث أن الله تعالى أسقط الصوم عن المسافر في رمضان فصوم التمتع أخف شأناً منه
المسألة الرابعة قرأ ابن أبي عبلة سَبْعَة ُ بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام كأنه قيل فصيام ثلاثة أيام كقوله أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ( البلد 14 )
أما قوله تعالى تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني أن قوله كَامِلَة ٌ يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول أن الواو في قوله وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( النساء 3 ) وكما في قولهم جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا فالله تعالى ذكر قوله عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ إزالة لهذا الوهم النوع الثاني أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله كَامِلَة ٌ كأنه لو قال تلك كاملة جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة أو السبعة المفردة عن الثلاثة فلا بد في هذا من ذكر العشرة ثم اعلم أن قوله كَامِلَة ٌ يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه وثالثها أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً مثل حج من لم يأت بهذا التمتع
النوع الثالث أن الله تعالى إذا قال أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف فلو قال ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد
النوع الرابع أن مراتب الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئين وألوف وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف فصار
تقدير الكلام إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب
النوع الخامس أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب كقوله وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) وقال وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة
النوع السادس في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب وهذا كما روي أنه قال في الشهر هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين وبالثانية على تسعة وعشرين
النوع السابع أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه
النوع الثامن أن قوله فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة
النوع التاسع أن اللفظ وإن كان خبراً لكن المعنى أمر والتقدير فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابراً للخلل الواقع في ذلك الحج الذي يجب أن يكون تاماً كاملاً والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاماً وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً جداً فالظاهر دخول المكلف به في الوجود فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به ومبالغة الشرع في إيجابه
النوع العاشر أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى فلما قال بعده تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص على ما قال تعالى يَأْذَنَ لِى والحج أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص على ما قال وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى فالعقل دل أيضاً على ذلك أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على
وجه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق على النفس جداً فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى والحج أيضاً عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن ويوجب التباعد عن أكثر اللذات فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين شيئين شاقين جداً وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعلى صيام هذه الأيام العشرة وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو فقال تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال فكأنه قال عشرة وأية عشرة عشرة كاملة فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين
أما قوله تعالى ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم وأقرب الأمور المذكورة ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله وأبعد منهم ذكر تمتعهم فلهذا السبب اختلفوا فقال الشافعي رضي الله عنه إنه راجع إلى الأقرب وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع أي إنما يكون إذا لم يكن المتمتع من حاضري المسجد الحرام فأما إذا كان من أهل الحرم فإنه لا يلزمه الهدي ولا بدله وذلك لأن عند الشافعي رضي الله عنه هذا الهدي إنما لزم الآفاقي لأنه كان من الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبوراً بهذا الدم والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللاً في حجه فلا جرم لا يجب عليه الهدي ولا بدل وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن قوله ذالِكَ إشارة إلى الأبعد وهو ذكر التمتع وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ومن تمتع أو قرن كان عليه دم هو دم جناية لا يأكل منه حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَة ِ إِلَى الْحَجّ عام يدخل فيه الحرمي
الحجة الثانية قوله ذالِكَ كناية فوجب عودها إلى المذكور الأقرب وهو وجوب الهدي وإذا خص إيجاد الهدي بالمتمتع الذي يكون آفاقياً لزم القطع بأن غير الأفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً
الحجة الثالثة أن الله تعالى شرع القران والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج والنسخ يثبت في حق الناس كافة
الحجة الرابعة أن من كان من أهل الإفراد كان من أهل المتعة قياساً على المدني إلا أن المتمتع المكي لا دم عليه لما ذكرناه حجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن قوله ذالِكَ كناية فوجب عودها إلى كل ما تقدم لأنه ليس البعض أولى من البعض
وجوابه لم لا يجوز أن يقال عوده إلى الأقرب أولى لأن القرب سبب للرجحان أليس أن مذهبه أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختص بالجملة الأخيرة وإنما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا ههنا
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بحاضري المسجد الحرام فقال مالك هم أهل مكة وأهل ذي
طوى قال فلو أن أهل منى أحرموا بالعمرة من حيث يجوز لهم ثم أقاموا بمكة حتى حجوا كانوا متمتعين وسئل مالك رحمه الله عن أهل الحرم أيجب عليهم ما يجب على المتمتع قال نعم وليس هم مثل أهل مكة فقيل له فأهل منى فقال لا أرى ذلك إلا لأهل مكة خاصة وقال طاوس حاضروا المسجد الحرام هم أهل الحرم وقال الشافعي رضي الله عنه هم الذي يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه حاضروا المسجد الحرام أهل المواقيت وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات العرق فكل من كان من أهل موضع من هذه المواضع أو من أهل ما وراءها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام هذا هو تفصيل مذاهب الناس ولفظ الآية موافق لمذهب مالك رحمه الله لأن أهل مكة هم الذي يشاهدون المسجد الحرام ويحضرونه فلفظ الآية لا يدل إلا عليهم إلا أن الشافعي قال كثيراً ما ذكر الله المسجد الحرام والمراد منه الحرم قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما أسري به من الحرم لا من المسجد الحرام وقال ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) والمراد الحرم لأن الدماء لا تراق في البيت والمسجد إذا ثبت هذا فنقول المراد من المسجد الحرام ههنا ما ذكرناه ويدل عليه وجهان الأول الحاضر ضد المسافر وكل من لم يكن مسافراً كان حاضراً ولما كان حكم السفر إنما ثبت في مسافة القصر فكل من كان دون مسافة القصر لم يكن مسافراً وكان حاضراً الثاني أن العرب تسمي أهل القرى حاضرة وحاضرين وأهل البر بادية وبادين ومشهور كلام الناس أهل البدو والحضر يراد بهما أهل الوبر والمدر
المسألة الثالثة قال الفراء اللام في قوله لِمَنْ بمعنى على أي ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله عليه الصلاة والسلام ( واشترطي لهم الولاء ) أي عليهم
المسألة الرابعة الله تعالى ذكر حضور الأهل والمراد حضور المحرم لا حضور الأهل لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون
المسألة الخامسة المسجد الحرام إنما وصف بهذا الوصف لأن أصل الحرام والمحروم الممنوع عن المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه والمسجد الحرام الممنوع من أن يفعل فيه ما منع عن فعله قال الفراء ويقال حرام وحرم مثل زمان وزمن
أما قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ قال ابن عباس يريد فيما فرض عليكم وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن تهاون بحدوده قال أبو مسلم العقاب والمعاقبة سيان وهو مجازاة المسيء على إساءته وهو مشتق من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعل المسيء كقول القائل لتذوقن عاقبة فعلك
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ
فيه مسائل
المسألة الأولى من المعلوم بالضرورة أن الحج ليس نفس الأشهر فلا بد ههنا من تأويل وفيه وجوه أحدها التقدير أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وهو كقولهم البرد شهران أي وقت البرد شهران والثاني التقدير الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها كما كان أهل الجاهلية يستجيزونها في غيرها من الأشهر فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر الثالث يمكن تصحيح الآية من غير إضمار وهو أنه جعل الأشهر نفس الحج لما كان الحج فيها كقولهم ليل قائم ونهار صائم
المسألة الثانية أجمع المفسرون على أن شوالاً وذا القعدة من أشهر الحج واختلفوا في ذي الحجة فقال عروة بن الزبير إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك رحمه الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله الشعر الأول من ذي الحجة من أشهر الحج وهو قول ابن عباس وابن عمر والنخعي والشعبي ومجاهد والحسن وقال الشافعي رضي الله عنه التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر من أشهر الحج حجة مالك رضي الله عنه من وجوه الأول أن الله تعالى ذكر الأشهر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة
الحجة الثانية أن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج وهو رمي الجمار والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيام بعد العشر ومذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) والثاني أنه نزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا إنما رآه في ساعة منها والجواب عن الثاني أن رمي الجمار يفعله الإنسان وقد حج بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء وأما الذين قالوا إن عشرة أيام من أول ذي الحجة هي من أشهر الحج فقد تمسكوا فيه بوجهين الأول أن من المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر والثاني أن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه احتج على قوله بأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر والعبادة لا تكون فائته مع بقاء وقتها فهذا تقرير هذه المذاهب
بقي ههنا إشكالان الأول أنه تعالى قال من قبل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) فجعل كل الأهلة مواقيت للحج الثاني أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص والجواب من الأول أن تلك الآية عامة وهذه الآية وهي قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ خاصة والخاص مقدم على العام وعن الثاني أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة
المسألة الثالثة قوله تعالى مَّعْلُومَاتٍ فيه وجوه أحدها أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة
في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقرراً له الثاني أن المراد بها معلومات ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها لا كما يفعله الذين نزل فيهم إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ ( التوبة 37 )
المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم لا يجوز في جميع السنة حجة الشافعي رضي الله عنه قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير فلا يتناول الكل وإنما أكثره إلى عشرة وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة شوال وذو القعدة وبعض من ذي الحجة وإذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة الثاني أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكما فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى الثالث أن الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( الحج 189 ) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج وهي ليست بمواقيت للحج فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازاً كما سمي الوقت حجاً في قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ بل هذا أولى لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت
والحجة الثانية أن الإحرام التزام للحج فجاز تقديمه على الوقت كالنذر
والجواب عن الأول أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها
والجواب عن الثاني أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر للأداء والاتصال للنذر بالاداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت
وقوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فيه مسألتان
المسألة الأولى معنى فَرَضَ في اللغة ألزم وأوجب يقال فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع قال ابن الأعرابي الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره وفرضة القوس الحز الذي يقع فيه الوتر وفرضة الوتد الحز الذي فيه ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوم الحز للقدح ففرض ههنا بمعنى أوجب وقد جاء في القرآن فرض بمعنى أبان وهو قوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ( النور 1 ) بالتخفيف وقوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ ( التحريم 2 ) وهذا أيضاً راجع إلى معنى القطع لأن من قطع شيئاً فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئاً أبانه عن غيره ففرض بمعنى أوجب وفرض بمعنى أبان كلاهما يرجع إلى أصل واحد
المسألة الثانية اعلم أن في هذه الآية حذفا والتقدير فمن ألزم نفسه فيهن الحج والمراد بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرماً إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجاً إلا بفعل يفعله فيخرج عن أن يكون حلالاً ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرماً لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه ولهذا السبب أيضاً سميت البقعة حرماً لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجاً ومحرماً ثم اختلف الفقهاء في أن ذلك الفعل ما هو قال الشافي رضي الله عنه أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى قال القفال رحمه الله في ( تفسيره ) يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم وروى نافع عن ابن عمر أنه قال إذا قلد أو أشعر فقد أحرم وعن ابن عباس إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه
الحجة الأولى قوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار ألبتة في التلبية بكونه محرما لا بحقيقة ولا بمجاز فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله تعالى فَلاَ رَفَثَ فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج
الحجة الثانية ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام ( وإنما لكل امرىء ما نوى )
الحجة الثالثة القياس وهو أن ابتداء الحج كف عن المحظورات فيصح الشروع فيه بالنية كالصوم حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول ما روى أبو منصور الماتريدي في ( تفسيره ) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لا يحرم إلا من أهل أو لبى الثاني أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيه إلا بنفس النية كالصلاة
وأما قوله تعالى فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ بالرفع والتنوين وَلاَ جِدَالَ بالنصب والباقون قرؤا الكل بالنصب
واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمتين الأولى أن كل شيء له اسم فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى فقولك رجل يفيد الماهية المخصوصة وحركات هذه اللفظة أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل والصفة بإزاء الصفة فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال رحل جدار حجر وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خالياً عن الحركات فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون
المقدمة الثانية إذا قلت لا رجل بالنصب فقد نفيت الماهية وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعاً أما إذا قلت لا رجل بالرفع والتنوين فقد نفيت رجلاً منكراً مبهماً وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل فثبت أن قولك لا رجل بالنصب أدل على عموم النفي من قولك لا رجل بالرفع والتنوين
إذا عرفت هاتين المقدمتين فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول أما الذين قرؤا ثلاثة بالنصب فلا إشكال وأما الذين قرؤا الأولين بالرفع مع التنوين والثالث بالنصب فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الإهتمام بنفي الرفث والفسوق وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله والمجادل لا ينقاد للحق وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء فلما كان الجدال مشتملاً على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي أما المفسرون فإنهم قالوا من قرأ الأولين بالرفث والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي كأنه قيل فلا يكون رفث ولا فسوق وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي
المسألة الثانية أما الرفث فقد فسرناه في قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) والمراد الجماع وقال الحسن المراد منه كل ما يتعلق بالجماع فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها والرفث باليد اللمس والغمز والرفث بالفرج الجماع وهؤلاء قالوا التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثاً واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير ننك لميسا
فقال له أبو العالية أترفث وأنت محرم قال إنما الرفث ما قيل عند النساء وقال آخرون الرفث هو قول الخنا والفحش واحتج هؤلاء بالخبر واللغة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم ) ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش وأما اللغة فهو أنه روى عن أبي عبيد أنه قال الرفث الإفحاش في المنطق يقال أرفث الرجل إرفاثاً وقال أبو عبيدة الرفث اللغو من الكلام
أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي قالوا لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل وهذا متأكد بقوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وبقوله وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ( الحجرات 7 )
وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها
الأول المراد منه السباب واحتجوا عليه بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( الحجرات 11 ) وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( سباب المسلم
فسوق وقتاله كفر ) والثاني المراد منه الإيذاء والإفحاش قال تعالى لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( البقرة 282 ) والثالث قال ابن زيد هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج ولأجل الأصنام وقال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) وقوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( الأنعام 145 ) والرابع قال ابن عمر إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه والخامس أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا والسادس قال محمد بن الطبري الفسوق هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته
وأما الجدال فهو فعال من المجادلة وأصله من الجدل الذي من القتل يقال زمام مجدول وجديل أي مفتول والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولاً وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال
فالأول قال الحسن هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل
والثاني قال محمد بن كعب القرظي إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم حجنا أتم وقال آخرون بل حجنا أتم فنهاهم الله تعالى عن ذلك
والثالث قال مالك في ( الموطأ ) الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب قال الله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاْمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ الحج 67 68 ) قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم
والرابع قال القاسم بن محمد الجدال في الحج أن يقول بعضهم الحج اليوم وآخرون يقولون بل غداً وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة وأخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول بل غدا فالله تعالى نهاهم عن ذلك فكأنه قيل لهم قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة
الخامس قال القفال رحمه الله تعالى يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا فقال عليه الصلاة والسلام ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) وتركوا الجدال حينئذ
السادس قال عبد الرحمن بن زيد جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام
السابع أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب
وذكر القاضي كلاما حسناً في هذا المواضع فقال قوله تعالى فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون نهياً كقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ آل عمران 9 ) أي لا ترتابوا فيه وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفراً فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسداً ويجب على صاحبه المضي فيه وإذا كان الحج باقياً معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج قلنا المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه وبالجدال جميع أنواعه لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهياً عن جميع أقسامها وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة والتمسك بالآداب الحسنة والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات
المسألة الثالثة الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص وهو قوله فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة قوة شهوانية بهيمية وقوة غضبية سبعية وقوة وهمية شيطانية وقوة عقلية ملكية والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة أعني الشهوانية والغضبية والوهمية فقوله فَلاَ رَفَثَ إشارة إلى قهر الشهوانية وقوله وَلاَ فُسُوقَ إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب وقوله وَلاَ جِدَالَ إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم والمخاصمة معهم في كل شيء فلما كان منشأ الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله والانخراط في سلك الخواص من عباده فلا يكون فيه هذه الأمور وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلاً عنها ومن الله التوفيق في كل الأمور
المسألة الرابعة من الناس من عاب الإستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها أنه تعالى قال وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلاً إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج بل على ذلك التقدير كان الإشتغال بالجدال في الحج
ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه وثانيها قوله تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) عابهم بكونهم من أهل الجدل وذلك يدل على أن الجدل مذموم وثالثها قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( الأنفال 46 ) نهى عن المنازعة
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا الجدال في الدين طاعة عظيمة واحتجوا عليه بقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين
إذا ثبت هذا فنقول لا بد من التوفيق بين هذه النصوص فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله والذب عن دين الله تعالى
أما قوله تعالى وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ لِلَّهِ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة 197 ) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة فقال وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَة َ لِلَّهِ ( البقرة 196 ) وقال فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ونهى عما هو شر ومعصية فقال فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ثم عقب الكل بقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال وما تفعلوا من شيء يعلمه الله حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العقبى وثانيها أن من المفسرين من قال في تفسير قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) معناه لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية كأنه قيل للعبد ما تفعله من خير علمته وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه كان هذا وعداً له بالثواب العظيم ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعداً بالعقاب الشديد ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب ورابعها أن جبريل عليه السلام لما قال ما الإحسان فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذاً به وأقل نفرة عنه وخامسها أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
أما قوله تعالى وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ففيه قولان أحدهما أن المراد وتزودوا من التقوى والدليل عليه قوله بعد ذلك فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران
سفر في الدنيا وسفر من الدنيا فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه الأول أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن وثانيها أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وثالثها أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة آمنة من الانقطاع والزوال ورابعها أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول وخامسها أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية فكأنه تعالى قال لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيث بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
والقول الثاني أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون إنا متوكلون ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي وهذا بعيد لأن قوله فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى راجع إلى قوله وَتَزَوَّدُواْ فكان تقديره وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى
أما قوله تعالى وَاتَّقُونِ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن قوله وَاتَّقُونِ فيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله وهو كقول الشاعر أنا أبو النجم وشعري شعري
المسألة الثانية أثبت أبو عمرو الياء في قوله وَاتَّقُونِ على الأصل وحذفها الآخرون للتخفيف ودلالة الكسر عليه أما قوله تعالى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه ثم اختلفوا بعد ذلك
فقال بعضهم إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة واستعد به للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين وقال آخرون أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 37 ) فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل فقوله وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ معناه يا أولي العقول وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور فإنه يقال لمن له غيرة وحمية فلان له نفس ولمن ليس له حمية فلان لا نفس له فكذا ههنا فإن قيل إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ قلنا معناه إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح ولهذا قال الشاعر ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
ولهذا قال تعالى أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) يعني الأنعام معذورة بسبب العجز أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش فلا جرم كانوا أضل
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فضلاً والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن الشبهة كان حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه
أحدها أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سبباً لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سبباً لحرمة التجارة مه قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلاً عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج فلهذا السبب بين الله تعالى ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة فإذا عرفت
هذا فنقول المفسرون ذكروا في تفسير قوله أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وجهين الأول أن المراد هو التجارة ونظيره قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ ( المزمل 20 ) وقوله جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ فِى الْعِقَابِ الْحَجُّ والثاني الروايات المذكورة في سبب النزول
فالرواية الأولى قال ابن عباس كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية وكانوا يسمون التاجر في الحج الداج ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج المكتسب الملتقط وهو مشتق من الدجاجة وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع فأزال الله تعالى هذا الوهم وبين أنه لا جناح في التجارة ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج وما بعدها أيضاً في الحج وهو قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج فلهذا السبب استغنى عن ذكره
والرواية الثانية ما روي عن ابن عمر أن رجلاً قال له إنا قوم نكري وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا فقال سأل رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فدعاه وقال أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت رداً على من يقول لا حج للتجار والأجراء والجمالين
والرواية الثالثة أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا بتجرون في أيام الموسم فيها وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية
والرواية الرابعة قال مجاهد إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولامنى فنزلت هذه الآية
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج قال والتقدير فاتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ونظيره قوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 )
واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها الفاء في قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج وثانيها أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لاعلى موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجاً لا يقال بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية لأنا نقول هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطاً
القول الثالث أن المراد بقوله تعالى أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجاً أعمالاً أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب ولا يقال في مثله لا جناح عليكم فيه وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات
والجواب لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ ( النساء 101 ) والقصر بالإتفاق من المندوبات وأيضاً فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللاً في الحج ونقصاً فيه فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله لا يَتْلُو عَلَيْكُمْ ( الممتحنة )
المسألة الثالثة اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصاناً في الطاعة لم تكن مباحة أما إن لم توقع نقصاناً ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البنيه 5 ) والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ) والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص
قوله تعالى فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فيه مسائل
المسألة الأولى الإفاضة الإندفاع في السير بكثرة ومنه يقال أفاض البعير بجرته إذا وقع بها فألقاها منبثة وكذلك أفاض الأقداح في الميسر معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة وإفاضة الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الإندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه وعليه قوله تعالى إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ( يونس 61 ) ومنه يقال للناس فوض وأيضاً جمعهم فوضى ويقال أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء حتى يتفرق فقوله تعالى أَفَضْتُمْ أي دفعتم بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه
المسألة الثانية عَرَفَاتٍ جمع عرفة سميت بها بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق وبرمة أعشار وأرض سباسب والتقدير كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات فإن قيل هلا منعت من الصرف وفيها السببان التعريف والتأنيث قلنا هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منه مسماة بعرفة وعلى هذا التقدير لم يكن علماً ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف
المسألة الثالثة اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوهاً أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما من روي يروي تروية إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت فلما بناه تفكر فقال رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل قال إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك قال يا رب زدني قال أغفر لأولادك إذا طافوا به قال زدني قال أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك قال حسبي يا رب حسبي وثانيها أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكراً هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات
أما القول الثاني وهو اشتقاقه من تروية الماء ففيه ثلاثة أقوال أحدها أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر ويتسعون في الماء ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( الشفع 3 ) عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة والوتر يوم النحر وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( صيام عشر الأضحى كل يوم منها كالشهر ولمن يصوم يوم التروية سنة ولمن يصوم يوم عرفة سنتان ) وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مريم عليه السلام )
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصة به وخمسة مشتركة بينه وبين غيره أما الخمسة الأولى فأحدها عرفة وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال أحدها أنه مشتق من المعرفة وفيه ثمانية أقوالالأول قول ابن عباس إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى اليوم عرفة والموضع عرفات وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب وحواء بجدة وإبليس بنيسان والحية بأصفهان فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا وثانيها أن آدم علمه جبريل مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له أعرفت قال نعم فسمى عرفات وثالثها قول علي وابن عباس وعطاء والسدي سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة ورابعها أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك وأوصله إلى عرفات وقال له أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف قال نعم وخامسها أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين ثم التقيا يوم عرفة بعرفات وسادسها ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام وسابعها أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا وثامنها أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة
القول الثاني في اشتقاق عرفة أنه من الإعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والإستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما
والقول الثالث أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( محمد 6 ) أي طيبها لهم ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة قال عليه الصلاة والسلام ( خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) الثاني يوم إياس الكفار من دين الإسلام الثالث يوم إكمال الدين الرابع يوم إتمام النعمة الخامس يوم الرضوان وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات في قوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ( المائدة 3 ) الآية قال عمر وابن عباس نزلت هذه الآية عشية عرفة وكان يوم الجمعة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام وذلك في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم بنيان الجاهلية فقال عليه الصلاة والسلام ( لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم ) فقال يهودي لعمر لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر أما نحن فجعلناه عيدين كان يوم عرفة ويوم الجمعة فأما معنى إياس المشركين فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُشْرِكُونَ ( المائدة 6 ) ولما جاء البشير وقدم على يعقوب قال على أي دين تركت يوسف قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين وقيل هذا اليوم يوم صلة الواصلين الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) ويوم قطيعة القاطعين أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( الشورى 25 ) وهو أيضاً يوم وفد الوافدين وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً ( الحج 27 ) وفي الخبر ( الحاج وفد الله والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره )
وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة فأحدها يوم الحج الأكبر قال الله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ ( التوبة 3 ) وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه فمنهم من قال إنه عرفة وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك وقال ابن سيرين إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده ومنهم من قال إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزىء في الليل وروى القولان جميعاً عن علي وابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها الشفع وثالثها الوتر ورابعها الشاهد وخامسها المشهود في قوله وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( البروج 3 ) وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية
واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل منها أنه تعالى خص صومه بكثرة
الثواب قال عليه الصلاة والسلام ( صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين ) وعن أنس كان يقال في أيام العشر كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس
المسألة الرابعة اعلم أنه لا بد وأن نشير إشارة حقيقية إلى ترتيب أعمال الحج حتى يسهل الوقوف على معنى الآية فمن دخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج وكذلك من أراد الحج من أهل مكة والسنة للإمام أن يخطب بمكة يوم السابع من ذي الحجة بعدما يصلي الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فبها بالذهاب غداً بعدما يصلون الصبح إلى منى ويعلمهم تلك الأعمال ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بها ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ثم إذا طلعت الشمس على ثبير يتوجهون إلى عرفات فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل يضرب فيه الإمام بنمرة وهي قريبة من عرفة فينزلون هناك حتى تزول الشمس فيخطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف إذا فرغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ثم يقيمون في الحال ويصلي بهم العصر وهذا الجمع متفق عليه ثم بعد الفرغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقف هناك وإذا وقفوا استقبلوا القبلة يذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس
واعلم أن الوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به فمن فاته الوقوف في وقته وموضوعه فقد فاته الحج ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس من يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار فقد كفى وقال أحمد وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر فإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة
وفي تسمية المزدلفة أقوال أحدها أنهم يقربون فيها من منى والإزدلاف القرب والثاني أن الناس يجتمعون فيها والإجتماع الإزدلاف والثالث أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف ويقال للمزدلفة جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب وهذا قول قتادة وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع المغرب والعشاء بإقامتين ثم يبيتون بها فإن يبت بها فعليه دم شاة فإذا طلع الفجر صلوا صلاة الصبح بغلس والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها وهو متفق عليه فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي يأخذ كل إنسان منها سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام وهو جبل يقال له قزح وهو المراد من قوله تعالى فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهذا الجبل أقصى المزدلفة مما يلي منى فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن لم يمكنه وبحمد الله تعالى يهلله ويكبره ولا
يزال كذلك حتى يسفر جداً ثم يدفع قبل طلوع الشمس ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر فإذا بلغوا بطن محسر فيستحب لمن كان راكباً أن يحرك دابته ومن كان ماشياً أن يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا ابتدأ الرمي فإذا رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر والتقصير أن يقطع أطراف شعوره ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ثم بعد ذلك يعودون إلى منى في بقية يوم النحر وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي واتفقوا على أنه متى حصل الرمي والحلق والطواف فقد حصل التحلل والمراد من التحلل حل اللبس والتقليم والجماع فهذا هو الكلام في أعمال الحج والله أعلم
المسألة الخامسة اعلم أن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام وذلك أن قريشاً وقوماً آخرين سموا أنفسهم بالحمس وهم أهل الشدة في دينهم والحماسة الشدة يقال رجل أحمس وقوم حمس ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات ويقولون لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير ومعناه أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض وهو المنخفض منها وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض فأمر الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بمخالفة القوم في الدفعتين وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس والآية لا دلالة فيها على ذلك بل السنة دلت على هذه الأحكام
المسألة السادسة الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج فإذا لم يأت به فلم يكن آتياً بالحج المأمور به فوجب أن لا يخرج عن العهدة وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً أقصى ما في الباب أن الحج يحصل عند ترك بعض المأمورات إلا أن الأصل ما ذكرناه وإنما يعدل عنه بدليل منفصل وذهب كثير من العلماء إلى أن الآية لا دلالة فيها على أن الوقوف شرط ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجب إلا أنه إن فاته ذلك قام الوقوف بجميع الحرم مقامه وسائر الفقهاء أنكروا ذلك واتفقوا على أن الحج لا يحصل إلا بالوقوف بعرفة
المسألة السابعة قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يدل أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ويكفي فيه المرور به كما في عرفة فأما الوقوف هناك فمسنون وروي عن علقمة والنخعي أنهما قالا الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف بعرفة وحجتهما قوله تعالى فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وذلك لأن الوقوف بعرفة لا ذكر له صريحاً في الكتاب وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة والمشعر الحرام فيه أمر جزم وقال جمهور الفقهاء إنه ليس بركن واحتجوا بقوله عليه السلام
( الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه ) وبقوله ( من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج ) قالوا وفي الآية إشارة إلى ما قلنا لأن الله تعالى قال فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أمر بالذكر لا بالوقوف فعلم أن الوقوف عند المشعر الحرام تبع للذكر وليس بأصل وأما الوقوف بعرفة فهو أصل لأنه قال فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ولم يقل من الذكر بعرفات
المسألة الثامنة الْمَشْعَرِ المعلم وأصله من قولك شعرت بالشيء إذا علمته وليت شعري ما فعل فلان أي ليس علمي بلغه وأحاط به وشعار الشيء أعلامه فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام لأنه معلم من معالم الحج ثم اختلفوا فقال قائلون المشعر الحرام هو المزدلفة وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده هكذا قاله الواحدي في ( البسيط ) قال صاحب ( الكشاف ) الأصح أنه قزح وهو آخر حد المزدلفة والأول أقرب لأن الفاء في قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة
المسألة التاسعة اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام فقال بعضهم المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك والصلاة تسمى ذكراً قال الله تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) والدليل عليه أن قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أمر وهو للوجوب ولا ذكر هناك يجب إلا هذا وأما الجمهور فقالوا المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون
أما قوله تعالى وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول لما قال اذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فلم قال مرة أخرى وَاذْكُرُوهُ وما الفائدة في هذا التكرير
والجواب من وجوه أحدها أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولاً اذْكُرُواْ اللَّهَ أمر بالذكر وقوله ثانياً وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس وثانيها أنه تعالى أمر بالذكر أولاً ثم قال ثانياً وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام فكأنه تعالى قال إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان فقال وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّة َ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( البقرة 185 ) وقال في ( الأضاحي ) كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وثالثها أن قوله أولاً فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أمر بالذكر باللسان وقوله ثانياً وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أمر بالذكر بالقلب وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان أحدهما ذكر هو ضد النسيان والثاني الذكر بالقول فما هو خلاف النسيان قوله وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ( الكهف 63 ) وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول محمول على الذكر باللسان والثاني على الذكر بالقلب فإن بهما يحصل تمام
العبودية ورابعها قال ابن الأنباري معنى قوله وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته وخامسها يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر كأنه قيل لهم اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكراً بعد ذكر كما هداكم هداية بعد هداية ويرجع حاصله إلى قوله عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) وسادسها أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة ثم قال بعده وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام بل عن من سواه فيصير مستغرقاً في نور جلاله وصمديته ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكراً له ومشتغلاً بالثناء عليه وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ورابعها أن يكون المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى والمراد بالذكر الثاني الاشتغال بشكر نعمائه والشكر مشتمل أيضاً على الذكر فصح أن يسمي الشكر ذكراً والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية فقال كَمَا هَدَاكُمْ والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر وثامنها أنه تعالى لما قال فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني اذكروه على كل حال وفي كل مكان لأن هذا الذكر إنما وجب شكراً على هدايته فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمراً غير منقطع وتاسعها أن قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك ثم قوله وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ والمراد منه التهليل والتسبيح
السؤال الثاني ما المراد من الهداية في قوله كَمَا هَدَاكُمْ
الجواب منهم من قال إنها خاصة والمراد منه كما هداكم بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم عليه السلام ومنهم من قال لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه
السؤال الثالث الضمير في قوله مِن قَبْلِهِ إلى ماذا يعود
الجواب يحتمل أن يكون راجعاً إلى الْهُدَى والتقدير وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين وقال بعضهم إنه راجع إلى القرآن والتقدير واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بين لكم معالم دينه وإن كنتم من قبل إنزاله ذلك عليكم من الضالين
أما قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ فقال القفال رحمة الله عليه فيه وجهان أحدهما وما كنتم من قبله إلا الضالين والثاني قد كنتم من قبله من الضالين وهو كقوله إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( الطارق 4 ) وقوله وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( الشعراء 186 )
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه قولان الأول المراد به الإفاضة من عرفات ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم لكان ذلك يوهم نقصاً في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة فأنزل الله تعالى هذه الآية أمراً لهم بأن يقفوا في عرفات وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها وعلى هذا التأويل فقوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإضافة من عرفات من يقول قوله ثُمَّ أَفِيضُواْ أمر عام لكل الناس وقوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدي به وهو كقوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) يعني نعيم بن مسعود إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) يعني أبا سفيان وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور ومنه قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله وهو أن يكون قوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال هذا مما فعله الناس قديماً فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال المراد من هذه الإفاضة من عرفات
القول الثاني وهو اختيار الضحاك أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالاً
أما الإشكال على القول الأول فهو أن قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ( البقرة 198 ) لمكان ثُمَّ فإنها توجب الترتيب ولو كان المراد من هذه الآية الإفاضة من عرفات مع أنه معطوف على قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ
كان هذا عطفاً للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية فإذا أفضتم من عرفات ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذه الآية متقدمة على ما قبلها والتقدير فاتقون يا أولي الألباب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله وعلى هذا التريتب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها
قلنا هذا وإن كان محتملاً إلا أن الأصل عدمه وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه
وأما الإشكال على القول الثاني فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ مّنْ حَيْثُ في قوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ على الزمان وذلك غير جائز فإنه مختص بالمكان لا بالزمان
أجاب القائلون بالقول الأول عن ذلك السؤال بأن ثُمَّ ههنا على مثال ما في قوله تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ فَكُّ رَقَبَة ٍ ( البلد 13 ) إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) أي كان مع هذا من المؤمنين ويقول الرجل لغيره قد أعطيتك اليوم كذا وكذا ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة ثُمَّ ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه
وأجاب القائلون بالقول الثاني بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جداً فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملاً في الآخر على سبيل المجاز
أما قوله مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فقد ذكرنا أن المراد من النَّاسِ إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وأتباعهما وفيه قول ثالث وهو قول الزهري أن المراد بالناس في هذه الآية آدم عليه السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وقال هو آدم نسي ما عهد إليه ويروى أنه قرأ النَّاسِ بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء والمعنى أن الإفاضة مع عرفات شرع قديم فلا تتركوه
أما قوله تعالى وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما وأما الإستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب
فإن قيل كيف أمر بالإستغفار مطلقاً وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار
والجواب أنه إن كان مذنباً فالإستغفار واجب وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات وجب عليه الإستغفار أيضاً تداركاً لذلك الخلل المجوز وإن قطع بأنه لم يصدر عنه ألبتة خلل في شيء من الطاعات فهذا كالممتنع في حق البشر فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد فكيف في أعمال كل العمر إلا أن بتقدير إمكانه فالإستغفار أيضاً
واجب وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق ولهذا قالت الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فكان الإستغفار لازماً من هذه الجهة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة )
وأما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قد علمت أن غفوراً يفيد المبالغة وكذا الرحيم ثم في الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب لأنه تعالى لما أمر المذنب بالإستغفار ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة فهذا يدل قطعاً على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه
المسألة الثانية اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع وقال آخرون إنها عند الدفع من الجمع إلى منى وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله ثُمَّ أَفِيضُواْ على أي الأمرين يحمل قال القفال رحمه الله ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر قال خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية يوم عرفة فقال ( يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله ) فقال أصحابه يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيباً حزيناً وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً فقال عليه الصلاة والسلام ( إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئاً لم يجد لي به سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقرئك السلام ويقول لك التبعات ضمنت عوضها من عندي ) اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا
فيه مسائل
المسألة الأولى روى ابن عباس أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار ويتكلمون بالمنثور من الكلام ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم وروى القفال في ( تفسيره ) عن ابن عمر قال طاف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على راحلته القصوى يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ( أما بعد أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وتفككها يا أيها الناس إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله أو فاجر شقي هين على الله ثم تلا رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( الحجرات 13 ) أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) وعن السدي أن العرب بمنى بعد فراغهم من الحج كان أحدهم يقول اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القدر كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية اعلم أن القضاء إذا علق بفعل النفس فالمراد به الإتمام والفراغ وإذا علق على فعل الغير فالمراد به الالزام نظير الأول قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ وقال عليه الصلاة والسلام ( وما فاتكم فاقضوا ) ويقال في الحاكم عند فصل الخصومة قضي بينهما ونظير الثاني قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ ( الإسراء 23 ) وإذا استعمل في الإعلام فالمراد أيضاً ذلك كقوله وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) يعني أعلمناهم
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه خصوصاً وذكر كثير منه قد تقدم من قبل وقال بعضهم يحتمل أن يكون المراد اذكروا الله عند المناسك ويكون المراد من هذا الذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات والمشعر الحرام والطواف والسعي ويكون قوله فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كقول القائل إذا حججت فطف وقف بعرفة ولا يعني به الفراغ من الحج بل الدخول فيه وهذا القول ضعيف لأنا بينا أن قوله فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ مشعر بالفراغ والاتمام من الكل وهذا مفارق لقول القائل إذا حججت فقف بعرفات لأن مراده هناك الدخول في الحج لا الفراغ وأما هذه الآية فلا يجوز أن يكون المراد منها إلا الفراغ من الحج
المسألة الثالثة ( المناسك ) جمع منسك الذي هو المصدر بمنزلة النسك أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج وإن جعلنها جمع منسك الذي هو موضع العبادة كان التقدير فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف
إذا عرفت هذا فنقول قال بعض المفسرين المراد من المناسك ههنا ما أمر الله تعالى به الناس في الحج من العبادات وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ يدلى على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا اختلفوا في أن هذا الذكر أي ذكر هو فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشويق على حسب اختلافهم في وقته أولاً وآخراً لأن بعد الفراغ من الحج لا ذكر مخصوص إلا هذه التكبيرات ومنهم من قال بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحج من ذكر التفاخر بأحوال الآباء لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة فكأنه تعالى قال فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحج وحللتم فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء ومنهم من قال بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء والاستغفار وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والإنقطاع إلى الله تعالى وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة وفيه وجه خامس وهو أن المقصود من الاشتغال بهده العبادة قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة ثم هذا العزم ليس مقصوداً بالذات بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلى فيه نور جلال الله والتقدير فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وأمطتم الأذى عن طريق السلوك فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فالأول نفي والثاني إثبات والأول إزالة ما دون الحق من سنن الآثار والثاني استنارة القلب بذكر الملك الجبار
أما قوله تعالى كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ ففيه وجوه أحدها وهو قول جمهور المفسرين أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ أَبَاكُمْ يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذباً فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقاً فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور وكل ذلك من أمهات المهلكات فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي وثانيها قال الضحاك والربيع اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه أمه أمه أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه وثالثها قال أبو مسلم جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله ورابعها قال ابن الأنباري في هذه الآية إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله وأبي وأبيكم وجدي وجدكم فقال تعالى عظموا الله كتعظيمكم آبائكم وخامسها قال بعض المذكورين المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية بل المبالغة في التوحيد ههنا أولى من هناك وهذا هو المراد بقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وسادسها أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكراً له بالتعظيم فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك وسابعها يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكره إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يحلفوا بآبائهم فقال ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) إذا كان ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره وثامنها روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين
أما قوله تعالى أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى عامل الإعراب في أَشَدَّ قيل الكاف فيكون موضعه جراً وقيل اذْكُرُواْ فيكون موضعه نصباً والتقدير اذكروا الله مثل ذكركم آباءكم واذكروه أَشَدَّ ذِكْرًا من آبائكم
المسألة الثانية قوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا معناه بل أشد ذكراً وذلك لأن مفاخر آبائهم كانت قليلة أما صفات الكمال لله عز وجل فهي غير متناهية فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حق الله
تعالى أشد من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم قال القفال رحمه الله ومجاز اللغة في مثل هذا معروف يقول الرجل لغيره افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه لا يريد به التشكيك إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه
فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاٌّ خِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج ثم أمر بعدها بالذكر فقال فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ( البقرة 198 ) ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره فقال فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وما أحسن هذا الترتيب فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ثم بعد العبادة لا بد من الإشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) ثم قال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ فقدم الذكر على الدعاء
إذا عرفت هذا فنقول بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما أن يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب الدنيا والثاني الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة وقد كان في التقسيم قسم ثالث وهو من يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا والأكثرون على أنه غير مشروع وذلك أن الإنسان خلق محتاجاً ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة روى القفال في ( تفسيره ) عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال كنت أقول اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجل به في الدنيا فقال النبي عليه السلام ( سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) قال فدعا له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشفي
واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة لشوش الأمر
على الإنسان وصار بسببه محروماً عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين وأهمل هذا القسم الثالث
المسألة الثانية اختلفوا في أن الذين حكى الله عنهم أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم فقال قوم هم الكفار روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا اللهم أرزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماء وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد وعن أنس كانوا يقولون اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر فأخبر الله تعالى أن من كان من هذا الفريق فلا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب له فيها من كرامة ونعيم وثواب نقل عن الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله أنه قال أهل النار يستغيثون ثم يقولون أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا طلباً للمأكول والمشروب فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال آخرون هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة وقد يقال لمن فعل ذلك إنه لا خلاق له في الآخرة وإن كان الفاعل مسلماً كما روى في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( آل عمران 77 ) أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمين فاجرة روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ثم معنى ذلك على وجوه أحدها أنه لا خلاق له في الآخرة إلا أن يتوب والثاني لا خلاق له في الآخرة إلا أن يعفو الله عنه والثالث لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمين فاجرة كخلاق من تورع عن ذلك والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حذف مفعول أَتَانَا من الكلام لأنه كالمعلوم واعلم أن مراتب السعادات ثلاث روحانية وبدنية وخارجية أما الروحانية فإثنان تكميل القوة النظرية بالعلم وتكميل القوة العملية بالأخلاق الفاضلة وأما البدنية فإثنان الصحة والجمال وأما الخارجية فإثنان المال والجاه فقوله فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً يتناول كل هذه الأقسام فإن العلم إذا كان يراد للتزين به في الدنيا والترفع به على الأقران كان من الدنيا والأخلاق الفاضلة إذا كانت تراد للرياسة في الدنيا وضبط مصالحها كانت من الدنيا وكل من لا يؤمن بالبعث والمعاد فإنه لا يطلب فضيلة لا روحانية ولا جمسانية إلا لأجل الدنيا ثم قال تعالى في حق هذا الفريق لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ أي ليس له نصيب في نعيم الآخرة ونظير هذه الآية قوله تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ( الشورى 20 ) ثم إنه تعالى لم يذكر في هذه الآية أن الذي طلبه في الدنيا هل أجيب له أم لا قال بعضهم إن مثل هذا الإنسان ليس بأهل للإجابة لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح فلا تثبت إلا لمن كان ولياً لله تعالى مستحقاً للكرامة لكنه وإن لم يجب فإنه ما دام مكلفاً حيا فالله تعالى يعطيه رزقه على ما قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وقال آخرون إن مثل هذا الإنسان قد يكون مجاباً لكن تلك الإجابة قد تكون مكراً واستدراجاً
أما قوله تعالى وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فالمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبهه ( حسنة ) فقال إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ ( التوبة 50 ) وقيل في قوله قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ( التوبة 52 ) أنهما الظفر والنصرة والشهادة وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثوب والخلاص من العقاب وبالجملة فقوله رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس ادع لنا فقال ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) قالوا زدنا فأعادها قالوا زدنا قال ما تريدون قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه وثانيها أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً دعا ربه فقال في دعائه رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئاً من أمر الدنيا فقال بعض الصحابة بلى يا رسول الله إنه قال ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه يقول آتنا في الدنيا عملا صالحاً وهذا متأكد بقوله تعالى وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ ( الفرقان 74 ) وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية وثالثها قال قتادة الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين وعن الحسن الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى وفي الآخرة الجنة واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ولكنه قال فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة
فإن قيل أليس أنه لو قيل آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولاً لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير
قلت الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقاً لقضائك وقدرك فأعطني ذلك فلو قال اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما وقد بينا أنه غير جائز أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين
أما قوله تعالى أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أُوْلَائِكَ فيه قولان أحدهما إنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين
سألوا الدنيا والآخرة والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ
والقول الثاني أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه فمن أنكر البحث وحج التماساً لثواب الدنيا فذلك منه كفر وشرك والله مجازيه أو يكون المراد أن من عمل للدنيا أعطى نصيب مثله في دنياه كما قال مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ( الشورى 20 )
أما قوله تعالى لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ ففيه سؤالات
السؤال الأول قوله لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ يجري مجرى التحقير والتقليل فما المراد منه
الجواب المراد لهم نصيب من الدنيا ومن الآخرة بسبب كسبهم وعملهم فقوله مِنْ في قوله مِمَّا كَسَبُواْ لابتداء الغاية لا للتبعيض
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن الجزاء على العمل
الجواب نعم ولكن بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق الذاتي
السؤال الثالث ما الكسب
الجواب الكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله فيكون كسبه ومكتسبه بشرط أن يكون ذلك جر منفعة أو دفع مضرة وعلى هذا الوجه يقال في الأرباح إنها كسب فلان وأنه كثير الكسب أو قليل الكسب لأن لا يراد إلا الربح فأما الذي يقوله أصحابنا من أن الكسب واسطة بين الجبر والخلق فهو مذكور في الكتب القديمة في الكلام
أما قوله تعالى وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ففيه مسائل
المسألة الأولى سَرِيعُ فاعل من السرعة قال ابن السكيت سرع يسرع سرعاً وسرعة فهو سريع وَالْحِسَابَ مصدر كالمحاسبة ومعنى الحساب في اللغة العد يقال حسب يحسب حساباً وحسبة وحسبا إذا عد ذكره الليث وابن السكيت والحسب ما عد ومنه حسب الرجل وهو ما يعد من مآثره ومفاخره والاحتساب الاعتداد بالشيء وقال الزجاج الحساب في اللغة مأخوذ من قولهم حسبك كذا أي كفاك فسمى الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم به ما فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان
المسألة الثانية اختلف الناس في معنى كون الله تعالى محاسباً لخلقه على وجوه أحدها أن معنى الحساب أنه تعالى يعلمهم ما لهم وعليهم بمعنى أنه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها وبمقادير ما لهم من الثواب والعقاب قالوا ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له وعليه فاطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهذا مجاز مشهور ونقل عن ابن عباس أنه قال إنه لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله تعالى ويعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ثم يعطون حسناتهم ويقال هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم
والقول الثاني أن المحاسبة عبارة عن المجازاة قال تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً ( الطلاق 8 ) ووجه المجاز فيه أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز فحسن إطلاق لفظ الحساب عن المجازاة
والقول الثالث أنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها من الثواب والعقاب فمن قال إن كلامه ليس بحرف ولا بصوت قال إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما أنه يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة ومن قال إنه صوت قال إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا تبلغ قوة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلف به فهذ هو المراد من كونه تعالى محاسباً لخلقه
المسألة الثالثة ذكروا في معنى كونه تعالى سريع الحساب وجوهاً أحدها أن محاسبته ترجع إما إلى أنه يخلق علوماً ضرورية في قلب كل مكلف بمقادير أعماله ومقادير ثوابه وعقابه أو إلى أنه يوصل إلى كل مكلف ما هو حقه من الثواب أو إلى أنه يخلق سمعاً في أذن كل مكلف يسمع به الكلام القديم أو إلى أنه يخلق في أذن كل مكلف صوتاً دالاً على مقادير الثواب والعقاب وعلى الوجوه الأربعة فيرجع حاصل كونه تعالى محاسباً إلى أنه تعالى يخلق شيئاً ولما كانت قدرة الله تعالى متعلقة بجميع الممكنات ولا يتوقف تخليقه وإحداثه على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ولا يشتغله شأن عن شأن لا جرم كان قادراً على أن يخلق جميع الخلق في أقل من لمحة البصر وهذا كلام ظاهر ولذلك ورد في الخبر أن الله تعالى يحاسب الخلق في قدر حلب ناقة وثانيها أن معنى كونه تعالى سَرِيعُ الْحِسَابِ أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وذلك لأنه تعالى في الوقت الواحد يسأله السائلون كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك ولو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العد واتصل الحساب فأعلم الله تعالى أنه سَرِيعُ الْحِسَابِ أي هو عالم بجملة سؤالات السائلين لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد ولا إلى فكرة وروية وهذا معنى الدعاء المأثور ( يا من لا يشغله شأن عن شأن ) وحاصل الكلام في هذا القول أن معنى كونه تعالى سَرِيعُ الْحِسَابِ كونه تعالى عالماً بجميع أحوال الخلق وأعمالهم ووجه المجاز فيه أن المحاسب إنما يحاسب ليحصل له العلم بذلك الشيء فالحساب سبب لحصول العلم فأطلق اسم السبب على المسبب وثالثها أن محاسبة الله سريعة بمعنى آتية لا محالة
وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُو ا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
اعلم أنه لما ذكر ما يتعلق بالمشعر الحرام لم يذكر الرمي لوجهين أحدهما أن ذلك كان أمراً مشهوراً فيما بينهم وما كانوا منكرين لذلك إلا أنه تعالى ذكر ما فيه من ذكر الله لأنهم كانوا لا يفعلونه والثاني لعله إنما لم يذكر الرمي لأن في الأمر بذكر الله في هذه الآيام دليلاً عليه إذ كان من سننه التكبير على كل حصاة
منها ثم قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات والأيام المعلومات فقال هنا وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ وقال في سورة الحج لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ( الحج 28 ) فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر وهي أيام التشريق واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريع بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة ثم قال بعده فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا يقتضي أن يكون المراد فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ من هذه الأيام المعدودات وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق والقفال أكد هذا بما روى في ( تفسيره ) عن عبد الرحمن بن نعمان الذيلمي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر منادياً فنادى ( الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق قال الواحدي رحمة الله عليه أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها يوم النفر وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى والثالث يوم النفر الثاني وهذه الآيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر وأيام رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التبكير إدبار الصلوات على ما سنشرح مذاهب الناس فيه
المسألة الثانية المراد بالذكر في هذه الأيام الذكر عند الجمرات فإنه يكبر مع كل حصاة والذكر إدبار الصلوات والناس أجمعوا على ذلك إلا أنهم اختلفوا في مواضع
الموضع الأول أجمعت الأمة على أن التكبيرات المقيدة بإدبار الصلوات مختصة بعيد الأضحى ثم في ابتدائها وانتهائها خلاف
القول الأول أنها تبتدأ من الظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات على هذا القول في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما في أحد أقواله والحجة فيه أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج قال تعالى فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ ثم قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا إنما يحصل في حق الحاج فدل على أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج وسائر الناس تبع لهم في ذلك ثم إن صلاة الظهر هي أول صلاة يكبر الحاج فيها بمنى فإنهم يلبون قبل ذلك وآخر صلاة يصلونها بمنى هي صلاة الصبح من آخر أيام التشريق فوجب أن تكون هذه التكبيرات في حق غير الحاج مقيد بهذا الزمان
القول الثاني للشافعي رضي الله عنه أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق وعلى هذا القول تكون التكبيرات بعد ثماني عشرة صلاة
والقول الثالث للشافعي رضي الله عنه أن يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة
العصر من يوم النحر فتكون التكبيرات بعد ثمان صلوات وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة
والقول الرابع أنه يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات بعد ثلاث وعشرين صلاة وهو قول أكابر الصحابة كعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس ومن الفقهاء قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني وابن شريح وعليه عمل الناس بالبلدان ويدل عليه وجوه الأول ما روى جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال الله أكبر ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق والثاني أن الذي قاله أبو حنيفة أخذ بالأقل وهذا القول أخذ بالأكثر والتكثير في التكبير أولى لقوله تعالى اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ( الأحزاب 41 ) الثالث أن هذا هو الأحوط لأنه لو زاد في التكبيرات فهو خير من أن ينقص منها والرابع أن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق فوجب أن يؤتى بها إلى آخر أيام التشريق
فإن قيل هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة
قلنا فهذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع وأيضاً لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق صح أن يضاف التكبير إليها
الموضع الثاني قال الشافعي رضي الله عنه المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثاً نسقاً أي متتابعاً وهو قول مالك وقال أبو حنيفة وأحمد يكبر مرتين حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً ولأنه زيادة في التكبير فكان أولى لقوله تعالى اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ثم قال الشافعي رضي الله عنه ويقول بعد الثلاث ( لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد ) ثم قال وما زاد من ذكر الله فهو حسن وقال في التلبية وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها وههنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت وأما التكبير على الجمار فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر مع كل حصاة فينبغي أن يفعل ذلك
أما قوله تعالى فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ففيه سؤالات
السؤال الأول لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل
الجواب قال صاحب ( الكشاف ) تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله
السؤال الثاني قوله وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فيه إشكال وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج فما معنى قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل
والجواب من وجوه أحدها أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول القصر
عزيمة والإتمام غير جائز فلما كان هذا الإحتمال قائماً لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة ولا إثم عليه في الأمرين جميعاً وثانيها قال بعض المفسرين إن منهم من كان يتعجل ومنهم من كان يتأخر ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل وثالثها أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث فكأنه قيل إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه ورابعها أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له الآن إن تناولت السم فلا ضرر وإن لم تتناول فلا ضرر مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى وحد فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفراً لكل الذنوب لا بيان أن التعجل وتركه سيان ومما يدل على كونه الحج سبباً قوياً في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وخامسها أن كثيراً من العلماء قالوا الجوار مكروه لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه وإذا كان غائباً إزداد شوقه إليه وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل وأيضاً من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الإستعجال في الطواف فهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما وسادسها قال الواحدي رحمه الله تعالى إنما قال وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقوله فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان فإذا حمل على موافقة اللفظ م لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه
السؤال الثالث هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة
الجواب نعم كما كان في قوله فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ( البقرة 198 ) دليل على وقوفهم بها
واعلم أن الفقهاء قالوا إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث هذا مذهب الشافعي وقول كثير من فقهاء التابعين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد
أما قوله تعالى لِمَنِ اتَّقَى ففيه وجوه أحدها أن الحاج يرجع مغفوراً له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق وثانيها أن هذه المغفرة إنما
تحصل لمن كان متقياً قبل حجه كما قال تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجة وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر وثالثها أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام ( من حج فلم يرفث ولم يفسق ) واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال والتحقيق أنه لا بد من الكل وقال بعض المفسرين المراد بقوله لِمَنِ اتَّقَى ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوماً وربما صار عمله محبطاً وهذا ضعيف من وجهين الأول أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل الثاني أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم لكن ذاك ليس للإحرام لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام فسقط هذا الوجه
أما قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ فهو أمر في المستقبل وهو مخالف لقوله لِمَنِ اتَّقَى الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات
فأما قوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشديد فيه لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى وأما الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور والمراد بقوله إِلَيْهِ أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه ولا يستطيع أحد دفعاً عن نفسه كما قال تعالى يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الإنفطار 19 )
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان كافر وهو الذي يقول رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا ومسلم وهو الذي يقول رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً ( البقرة 201 ) بقي المنافق فذكره في هذه الآية وشرح صفاته وأفعاله فهذا ما يتعلق بنظم الآية والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف
المفسرون على قولين منهم من قال هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال إنها عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية أما الأولون فقد اختلفوا على وجوه
فالرواية الأولى أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف لبني زهرة أقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأظهر الإسلام وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك وهذا هو المراد بقوله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ غير أنه كان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن ثم خرج من عند النبي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر وهو المراد بقوله وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وقال آخرون المراد بقوله تعالى يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم إن محمداً ابن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به قالوا نعم الرأي ما رأيت قال فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسمي لهذا السبب أخنس وكان اسمه أبي بن شريق فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعجبه وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم وقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه بل القول الأول هو الأصح
والرواية الثانية في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس والضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع ووصل الخبر إلى الكفار فركب منهم سبعون راكباً وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت هذه الآية ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبهاً بذلك على حال هؤلاء الشهداء
القول الثاني في الآية وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة ونقل عن محمد بن كعب القرظي أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية فقال إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفاً بتلك الصفات والتحقيق في المسألة أن قوله وَمِنَ النَّاسِ إشارة إلى بعضهم فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع وقوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم بل نقول فيها ما يدل على العموم وهو من وجوه أحدها أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فلما ذم الله تعالى قوماً ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات فيلزم أن كل من كان موصوفاً بتلك الصفات أن يكون مستوجباً للذم وثانيها أن الحمل على العموم أكثر فائدة وذلك لأنه يكون زجراً لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة وثالثها أن هذا أقرب إلى الإحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى إذا عرفت هذا فنقول اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه الصفات منافق أم لا والصحيح أنها لا تدل على ذلك لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة وشيء منها لا يدل على النفاق فأولها قوله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وهذا لا
دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ لأن الإنسان إذا قيل إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أوهم نوعاً من المذمة وثانيها قوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وهذ لا دلالة فيه على حالة منكرة فإن أضمرنا فيه أن يشهد الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقاً بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائياً وثالثها قوله وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وهذا أيضاً لا يوجب النفاق ورابعها قوله وَإِذْ تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا والمسلم الذي يكون مفسداً قد يكون كذلك وخامسها قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ فهذا أيضاً لا يقتضي النفاق فعلمنا أن كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقاً إلا أن المنافق داخل في الآية وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفاً بهذه الصفات الخمسة بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي وإذا عرفت هذه الجملة فنقول الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة
الصفة الأولى قوله يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا والمعنى يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس
أما في قوله وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ففيه وجوه أحدهما أنه نظير قول القائل يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني أن يكون التقدير يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والإحتباس خوفاً من هيبة الله وقهر كبريائه
الصفة الثانية قوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول الله يشهد بأن الأمر كما قلت فهذا يكون استشهاداً بالله ولا يكون يميناً وعامة القراء يقرؤن وَيُشْهِدُ اللَّهَ بضم الياء أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره وقرأ ابن محيصن يَشْهَدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ بفتح الياء والمعنى أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره
فالقراءة الأولى تدل على كونه مرائياً وعلى أنه يشهد الله باطلاً على نفاقه وريائه
وأما القراءة الثانية فلا تدل إلا على كونه كاذباً فأما على كونه مستشهداً بالله على سبيل الكذب فلا فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألد الشديد الخصومة يقال رجل ألد وقوم لد وقال الله تعالى وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( مريم 97 ) وهو كقوله بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) يقال منه لد يلد بفتح اللام في يفعل منه فهو ألد إذا كان خصماً ولددت الرجل ألده بضم اللام إذا غلبته بالخصومة قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه ولديدي الوادي وهما جانباه وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين
وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه
وأما الْخِصَامِ ففيه قولان أحدهما وهو قول خليل إنه مصدر بمعنى المخاصمة كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة فيكون المعنى وهو شديد المخاصمة ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما أنه بمعنى فِى والتقدير ألد في الخصام والثاني أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة
والقول الثاني أن الخصام جمع خصم كصعاب وصعب وضخام وضخم والمعنى وهو أشد الخصوم خصومة وهذا قول الزجاج قال المفسرون هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه وفيه نزل أيضاً قوله وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ ( الهمزة 1 ) وقوله وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ( القلم 10 11 ) ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة قال مجاهد أَلَدُّ الْخِصَامِ معناه طالب لا يستقيم وقال السدي أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل شديد القصوة في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل
المسألة الثانية تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية قالوا إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديداً في الجدل ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم وإلا لما جاز ذلك وجوابه ما تقدم في قوله وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ ( البقرة 197 )
الصفة الرابعة قوله تعالى وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَإِذَا تَوَلَّى فيه قولان أحدهما معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما ما كان من اتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم
والوجه الثاني في تفسير الفساد أنه كان بعد الإنصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين وباستخراج الحيل في تقوية الكفر وهذا المعنى يسمى فساداً قال تعالى حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) أي يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شريعتهم وقال أيضاً إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ ( البقرة 11 ) ما يقرب من هذا الوجه وإنا سمي هذا المعنى فساداً في الأرض لأنه يوقع الإختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ( محمد 22 ) فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في
الأرض وقطع الارحام وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب لأنه تعالى قال وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة
القول الثاني في تفسير قوله وَإِذَا تَوَلَّى وإذا صار والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل وقيل يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل والقول الأول أقرب إلى نظم الآية لأن المقصود بيان نفاقه وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد
المسألة الثانية قوله سَعَى فِى الاْرْضِ أي اجتهد في إيقاع القتال وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس ومنه يقال فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ ( التوبة 47 )
المسألة الثالثة من فسر الفساد بالتخريب قال إنه تعالى ذكره أولاً على سبيل الإجمال وهو قوله لِيُفْسِدَ فِيهَا ثم ذكره ثانياً على سبيل التفصيل فقال وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم وثانيهما العمل فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشهبات وثانيهما فعل المنكرات فههنا ذكر تعالى أولاً من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات وهو المراد بقوله لِيُفْسِدَ فِيهَا ثم ذكر ثانياً إقدامه على المنكرات وهو المراد بقوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال المراد بالحرث الزرع وبالنسل تلك الحمر والحرث هو ما يكون منه الزرع قال تعالى أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( الواقعة 63 ) وهو يقع على كل ما يحرث ويرزع من أصناف النبات وقيل إن الحرث هو شق الأرض ويقال لما يشق به محرث وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب والنسل في اللغة الولد واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم نسل ينسله إذا خرج فسقط ومنه نسل ريش الطائر ووبر البعير وشعر الحمار إذا خرج فسقط والقطعة منها إذا سقطت نسالة ومنه قوله تعالى إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ ( يس 51 ) أي يسرعون لأنه أسرع الخروج بحدة والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه والناس نسل آدم وأصل الحرف من النسول وهو الخروج وأما من قال إن سبب نزول الآية أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً فالمراد بالحرث إما النسوان لقوله تعالى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ( البقرة 223 ) أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد وأما النسل فالمراد منه الصبيان
واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول إهلاك النبات والحيوان وعلى التفسير الثاني إهلاك الحيوان بأصله وفرعه وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه فإذن قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) وقال أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ( النازعات 31 )
فإن قيل أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل أو تدل على أنه أراد ذلك
قلنا إن قوله سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك ثم قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك فإن تقدير الآية هكذا سعى في الأرض ليفسد فيها وسعى ليهلك الحرث والنسل وإن جعلناه كلاماً مبتدأ منقطعاً عن الأول دل على وقوع ذلك والأول أولى وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود
المسألة الرابعة قرأ بعضهم وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ على أن الفعل للحرث والنسل وقرأ الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو أبى يأبى وروي عنه وَيُهْلِكَ على البناء للمفعول
المسألة الخامسة استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ قالوا والمحبة عبارة عن الإرادة والدليل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ ( النور 19 ) والمراد بذلك أنهم يريدون وأيضاً نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال ( إن الله أحب لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ) فجعل الكراهة ضد المحبة ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضداً للإرادة وأيضاً لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة قالوا وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ ( غافر 31 ) بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقاً له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال والأصحاب أجابوا عنه بوجهين الأول أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه والثاني إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة ولكن قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان الأول أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجح الفساد على الصلاح إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال إنه لا يريده والثاني أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلاً وذلك محال
الصفة الخامسة قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم
واعلم أن هذا التفسير ضعيف لأن قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك
برواية وجب المصير إليه وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الكل إلى التقوى من غير تخصيص
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها استشهاده بالله كذباً وبهتاناً وثالثها لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها سعيه في الفساد وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله إِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقِ اللَّهَ فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد وفي اللجاج الباطل وفي الإستشهاد بالله كذلك وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض
المسألة الثالثة قوله أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ بِالإثْمِ فيه وجوه أحدها أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلاناً بأن يعمل كذا أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه فتقدير الآية أخذته العزة بأن يعمل الإثم وذلك الإثم هو ترك الإلتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها أَخَذَتْهُ الْعِزَّة ُ أي لزمته يقال أخذته الحمى أي لزمته وأخذه الكبر أي اعتراه ذلك فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذين في قلبه فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل ونظيره قوله تعالى بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّة ٍ وَشِقَاقٍ ( ص 2 ) والباء ههنا في معنى اللام يقول الرجل فعلت هذا بسببك ولسببك وعاقبته بجنايته ولجنايته
أما قوله تعالى فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ قال المفسرون كافيه جهنم جزاء له وعذاباً يقال حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله أي كافينا الله وأما جهنم فقال يونس وأكثر النحويين هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وقال آخرون جهنم اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها حكى عن رؤبة أنه قال ركية جهنام بريد بعيدة القعر
أما قوله تعالى وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ففيه وجهان الأول أن المهاد والتمهيد التوطئة وأصله من المهد قال تعالى وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( الذاريات 48 ) أي الموطئون الممكنون أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( الروم 44 ) أي يفرشون ويمكنون والثاني أن يكون قوله وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ أي لبئس المستقر كقوله جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( إبراهيم 29 ) وقال بعض العلماء المهاد الفراش للنوم فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك معاداً له وفراشاً
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
اعلم أنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين فقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول روايات أحدها روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان وفي عمار بن ياسر وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه وفي بلال مولى أبي
بكر وفي خباب بن الأرت وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم فأما صهيب فقال لأهل مكة إني شيخ كبير ولي مال ومتاع ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف راجعاً إلى المدينة فنزلت الآية وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له ربح بيعك فقال له صهيب وبيعك فلا نخسر ما ذاك فقال أنزل الله فيك كذا وقرأ عليه الآية وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا وفيهم نزل قول الله تعالى وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ النحل 41 ) بتعذيب أهل مكة وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً ( النحل 41 ) بالنصر والغنيمة ولأجر الآخرة أكبر وفيهم نزل إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ
والرواية الثانية أنها نزلت في رجل أمر معروف ونهى عن منكر عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم
والرواية الثالثة نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة خروجه إلى الغار ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية
المسألة الثانية أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء البيع قال تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ( يوسف 20 ) أي باعوه وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله كان ما يبذله من نفسه كالسلعة وصار الباذل كالبائع والله كالمشتري كما قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة فاقل الْمُشْرِكُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( الصف 10 11 ) وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأان نفسه كانت له فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار والعذاب فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه أبداً لكن المكاتب عبد ما بقي عليه دارهم فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ( مريم 31 ) وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
فإن قيل إن الله تعالى جعل نفسه مشترياً حيث قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ( التوبة 111 ) وهذا يمنع كون المؤمن مشترياً
قلنا لا منافاة بين الأمرين فهو كمن اشترى ثوباً بعبد فكل واحد منهما بائع وكل واحد منهما مشتر
فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع
إذا عرفت هذا فنقول يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين فيدخل فيه المجاهد ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل كما فعله أبو عمار وأمه ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشاً فحاصروا قصراً فتقدم منهم واحد فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر كذبتم رحم الله أبا فلان وقرأ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل قال قتادة أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهاً آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضباً لله وجهاداً في سبيله
المسألة الثانية يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ أي لابتغاء مرضاة الله و يَشْرِى بمعنى يشتري
أما قوله تعالى وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب وأعطاه الثواب الدائم ومن رأفته أن النفس له والمال ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّة ً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل أمر المسلمين بما يضاد ذلك وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه فقال بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع والكسائي السَّلَامُ بفتح السين وكذا في قوله وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ ( الأنفال 61 ) وقوله وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( محمد 35 ) وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش السَّلَامُ بكسر السين في السكل وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين في هذه والتي في البقرة والتي في سورة محمد في قوله وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وقرأ ابن عامر بكسر السين في هذه التي في البقرة وحدها وبفتح السين في الأنفال وفي سورة محمد فذهب ذاهبون إلى أنهما لغتان بالفتح والكسر مثل رطل ورطل وجسر وجسر
وقرأ الأعمش بفتح السين واللام
المسألة الثانية أصل هذه الكلمة من الإنقياد قال الله تعالى إِذَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ ( البقرة 131 ) والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه قال أبو عبيدة وفيه لغات ثلاث السلم والسلم والسلم
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن كثيراً من المفسرين حملوا السلم على الإسلام فيصير تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام والإيمان هو الإسلام ومعلوم أن ذلك غير جائز ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوهاً في تأويل هذه الآية
أحدها أن المراد بالآية المنافقون والتقدير يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق
وثانيها أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي عليه السلام أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها وكانوا يقولون ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة فنحن نتركها احتياطاً فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة أي في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقاداً له وعملاً به لأنها صارت منسوخة وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة والقائلون بهذا القول جعلوا قوله كَافَّة ً من وصف السلم كأنه قيل ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقاداً وعملاً
وثالثها أن يكون هذا الخطاب واقعاً على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام فقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي بالكتاب المتقدم ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد عليه السلام وبكتابه في السلم على التمام ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة
ورابعها هذا الخطاب واقع على المسلمين ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بالألسنة ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية ومن قال بهذا التأويل قال هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في
صفة ذلك المنافق في قوله سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين فكأنه تعالى قال دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( البقرة 210 ) يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة
فإن قيل الموقوف بالشيء يقال له دم عليه ولكن لا يقال له ادخل فيه والمذكور في الآية هو قوله أَدْخِلُواْ
قلنا إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال وإن كان كائناً فيها في الحال لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخلها فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام وخامسها أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمتنازعة والتقدير يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس وهو كقوله وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( آل عمران 103 ) وقال تعالى الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ ( آل عمران 200 ) وقال وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( آل عمران 103 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه ) وهذه الوجوه في التأويل ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر أحدها أن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب وقوله ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله فيصح أن يسمي تركها بالسلم أو يكون المراد منه كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات وترك المحظورات وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر وثانيها أن يكون المراد من السلم كون العبد راضياً ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث ( الرضا بالقضاء باب الله الأعظم ) وثالثها أن يكون المراد ترك الإنتقام كما في قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وفي قوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) فهذا هو كلام في وجوه تأويلات هذه الآية
المسألة الرابعة قال القفال كَافَّة ً يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تفرقوا ولا تختلفوا قال قطرب تقول العرب رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه قال الواحدي رحمه الله هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها ومعنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة يقال كففت فلاناً عن السوء أي منعته ويقال كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار وقيل لطرف اليد كف لأنه يكف بها عن سائر البدن ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر فالكافة معناها المانعة ثم صارت اسماً للجملة الجامعة وذلك لأن الإجتماع يمنع من التفرق والشذوذ فقوله ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً أي ادخلوا في شرائع
الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئاً من شرائعه أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحداً من أن لا يدخل فيه
أما قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فالمعنى ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره ولا فرق بين ذلك وبين قوله اتبعت خطواته وخطوات جمع خطوة وقد تقدم ذلك
أما قوله تعالى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فقال أبو مسلم الأصفهاني إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره وأقول الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( الزخرف 1 الدخان 1 ) ولا يعني بقوله مبيناً إلا ذلك
فإن قيل كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه
قلنا إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال إن فلاناً عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال وعندي فيه وجه آخر وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمي بياناً لهذا المعنى فإنه يقطع بعض الإحتمالات عن بعض فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه
فإن قيل كون الشيطان عدواً لنا إما أن يكون بسبب أن يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب والأول باطل إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد ومعلوم أنه ليس كذلك وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ابراهيم 22 ) إذا ثبت هذا فكيف يقال إنه عدو مبين العداوة والحال ما ذكرناه
الجواب أنه عدو من الوجهين معاً أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك وليس يلزم من كونه مريداً لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادراً عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروماً عن الثواب فكان ذلك من أعظم جهات العداوة
فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو السمال زَلَلْتُمْ بكسر اللام الأولى وهما لغتان كضللت وضللت
المسألة الثانية يقال زل يزل زلولاً وزلزالاً إذا دحضت قدمه وزل في الطين ويقال لمن زل في حال كان عليها زلت به الحال ويسمى الذنب زلة يريدون به الزلة للزوال عن الواجب فقوله فَإِن زَلَلْتُمْ أي أخطأتم
الحق وتعديتموه وأما سبب نزول هذه الآية فقد اختلفوا في السلم كافة فمن قال في الأول إنه في المنافقين فكذا الثاني ومن قال إنه في أهل الكتاب فكذا الثاني وقس الباقي عليه
يروى عن ابن عباس فَإِن زَلَلْتُمْ في تحريم السبت ولحم الإبل مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشرائعه فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بالنقمة حَكِيمٌ في كل أفعاله فعند هذا قالوا لئن شئت يا رسول الله لتتركن كل كتاب غير كتابك فأنزل الله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 136 )
المسألة الثالثة قوله فَإِن زَلَلْتُمْ فيه سؤال وهو أن الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفاً بعواقب الأمور وأجاب قتادة عن ذلك فقال قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه
المسألة الرابعة قوله تعالى فَإِن زَلَلْتُمْ يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الإنحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل فتوعد تعالى على كل ذلك زجراً لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقاً به وحينئذ يجب الاحتراز عنه
المسألة الخامسة قوله تعالى مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بالمعلومات كلها قادراً على الممكنات كلها غنياً عن الحاجات كلها ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزوال عند حصول كل هذه البينات
المسألة السادسة قال القاضي دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلاً أولى ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة وقال أيضاً دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والإستدلال يلحقه الوعيد كالعارف فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف
أما قوله تعالى فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن قوله تعالى فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم فكيف يدل قوله أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ على الزجر والتهديد
الجواب أن العزيز من لا يمنع عن مراده وذلك إنما يحصل بكمال القدرة وقد ثبت أنه سبحانه
وتعالى قادر على جميع الممكنات فكان عزيزاً على الإطلاق فصار تقدير الآية فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب وربما قال الوالد لولده إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره فإن قيل أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد قلنا نعم من حيث أتبعه بقوله حَكِيمٌ فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة
المسألة الثانية احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات ولفظ الْبَيِّنَاتُ لفظ جمع يتناول الكل فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات فوجب أن لا يحصل الوعيد فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع
المسألة الثالثة قال أبو علي الجبائي لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم لأن من فعل السفه وأراده كان سفيهاً والسفيه لا يكون حكيماً أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيماً إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ومريداً لها بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه
قلنا هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمراً بما لا يتم إلا به وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق قلنا هذا عندنا جائز والله أعلم
المسألة الرابعة يحكى أن قارئاً قرأ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فسمعه أعرابي فأنكره وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ وَقُضِى َ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى الكلام المستقصي في لفظ النظر مذكور في تفسير قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 32 33 ) وأجمعوا على أنه يجيء بمعنى الانتظار قال الله تعالى فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( النمل 35 ) فالمراد من قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ هو الانتظار
المسألة الثانية أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب ويدل عليه وجوه أحدها ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة
والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثاً مخلوقاً والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك وثانيها أن كل ما يصح عليه الإنتقال من مكان إلى مكان فأما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئاً كبيراً فيكون أحد جانبيه مغايراً للآخر فيكون مركباً من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركباً فإن ذلك المركب يكون مفتقراً في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب هو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك وثالثها أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتنه فيكون مختصاً بمقدار معين مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك كان فعلاً لفاعل مختار وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك ورابعها أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلهاً قديماً أزلياً فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله وخامسها أن الله تعالى حكى عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك
سادسها أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) وطلب منه الماهية والجنس والجوهر فلو كان تعالى جسماً موصوفاً بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل والقدر فكان جواب موسى عليه السلام بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( مريم 65 ) رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الدخان 8 ) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( المزمل 9 الشعراء 28 ) خطأ وباطلاً وهذا يقتضي بخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب وتصويب فرعون في قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) ولما كان كل ذلك باطلاً علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسماً وأن يكون في مكان ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب وسابعها أنه تعالى قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين فلما كان تعالى أحداً امتنع أن يكون جسماً أو متحيزاً فلما لم يكن جسماً ولا متحيزاً امتنع عليه المجيء والذهاب وأيضاً قال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) أي شبيهاً ولو كان جسماً متحيزاً لكان مشابهاً للأجسام في الجسمية إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات وأيضاً قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) ولو كان جسماً لكان مثلاً للأجسام
وثامنها لو كان جسماً متحيزاً لكان مشاركاً لسائر الأجسام في عموم الجسمية فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفاً في خصوص ذاته المخصوصة وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة فعموم كونه جسماً مغاير لخصوص ذاته المخصوصة وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسماً كنا قد جعلنا الجسم صفة وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسماً وغير موصوف بكونه جسماً فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئاً مغايراً للمفهوم من الجسم وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسماً وإما إن قيل إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسماً لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية فحينئذ يكون مثلاً لها مطلقاً وكل ما صح عليها فقد صح عليه فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك وكل ذلك محال فثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بمتحيز وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه
إذا عرفت هذا فنقول اختلف أهل الكلام في قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال علمنا قطعاً أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب وأن مراده بعد ذلك شيء آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ فالأولى السكوت عن التأويل وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال نزل القرآن على أربعة أوجه وجه لا يعرفه أحد لجهالته ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط ووجه لا يعلمه إلا الله وهذا القول قد استقصينا القول فيه في تفسير قوله تعالى الم
الوجه الثالث وهو قول جمهور المتكلمين أنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول المراد هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي آيات الله فجعل مجيء الآيات مجيئاً له على التفخيم لشأن الآيات كما يقال جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 209 ) فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزجر لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سبباً للتهديد والوعيد فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية
والوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي أمر الله ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلاً وأضافه إلى شيء فإن كان ذلك محالاً فالواجب صرفه إلى التأويل كما قاله العلماء في قوله الَّذِينَ عَبْدُ اللَّهِ والمراد يحاربون أولياءه وقال وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) والمراد واسأل أهل القرية فكذا قوله يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ المراد به يأتيهم أمر الله وقوله وَجَاء رَبُّكَ ( الفجر 22 ) المراد جاء أمر ربك وليس فيه إلا حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وهو
مجاز مشهور يقال ضرب الأمير فلاناً وصلبه وأعطاه والمراد أنه أمر بذلك لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه ثم الذي يؤكد القول بصحة هذا التأويل وجهان الأول أن قوله ههنا يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وقوله وَجَاء رَبُّكَ إخبار عن حال القيامة ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ أَمْرُ رَبّكَ ( النحل 33 ) فصار هذا الحكم مفسراً لذلك المتشابه لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض والثاني أنه تعالى قال بعده وَقُضِى َ الاْمْرُ ( هود 24 البقرة 21 ) ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي يأتيهم أمر الله
فإن قيل أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال وعند المعتزلة أنه أصوات فتكون أعراضاً فالإتيان عليها أيضاً محال
قلنا الأمر في اللغة له معنيان أحدهما الفعل والشأن والطريق قال الله تعالى وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( هود 97 ) وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( القمر 50 ) وفي المثل لأمر ما جدع قصير أنفه لأمر ما يسود من يسود فيحمل الأمر ههنا على الفعل وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة وهذا هو التأويل الأول الذي ذكرناه وأما إن حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان أحدهما أن يكون التقدير أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا فذاك هو إتيان الأمر وقوله فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ أي مع ظلل والتقدير إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد والثاني أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب
الوجه الثالث في التأويل أن المعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم وذهاب فكرهم في ك لوجه ومثله قوله تعالى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ ( الحشر 2 ) والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا وكذلك قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ ( النحل 26 ) فقوله وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ كالتفسير لقوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر قد جاءنا فلان بجوره وظلمه ولا شك أن هذا مجاز مشهور
الوجه الرابع في التأويل أن يكون فِى بمعنى الباء وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة
الوجه الخامس أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهراً وأكبرهم هيبة فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع ونظيره قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الزمر 67 ) من غير تصوير قبضة وطي ويمين وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي فكذا ههنا والله أعلم
الوجه السادس وهو أوضح عندي من كل ما سلف أنا ذكرنا أن قوله تعالى بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً ( البقرة 208 ) إنما نزلت في حق اليهود وعلى هذا التقدير فقوله فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 209 ) يكون خطاباً مع اليهود وحينئذ يكون قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 ) حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب وكانوا يقولون إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل ولا إلى حمل اللفظ على المجاز وبالجملة فالآية تدل على أن قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال
فإن قيل فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ
قلنا الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق والله أعلم بحقيقة كلامه
الوجه السابع في التأويل ما حكاه الفقال في ( تفسيره ) عن أبي العالية وهو أن الإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة فأما المضاف إلى الله جل جلاله فهو الإتيان فقط فكان حمل الكلام على التقديم والتأخير ويستشهد في صحته بقراءة من قرأ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَئِكَة ُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ قال القفال رحمه الله هذا التأويل مستنكر
أما قوله فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ فاعلم أن الظلل جمع ظلة وهي ما أظلك الله به والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً متراكماً فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم فكل قطعة ظلة والجمع ظلل قال تعالى شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ ( لقمان 32 ) وقرأ بعضهم إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظِلَالٍ مّنَ الْغَمَامِ فيحتمل أن يكون الظلال جمع ظلة كقلال وقلة وأن يكون جمع ظل
إذا عرفت هذا فنقول المعنى ما ينظرون إلا أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام
فإن قيل ولم يأتيهم العذاب في الغمام
قلنا لوجوه أحدها أن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع لأن السر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهول وأفظع كما أن الخير إذا جاء منحيث لا يحتسب كان أكثر تأثيراً في السرور فكيف إذاجاء الشر من حيث يحتسب الخير ومن هذا اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وثانيها أن نزول الغمام علامة لظهور ما يكون أشد الأهوال في القيامة قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ( الفرقان 25 26 ) وثالثها أن الغمام تنزل عنه قطرات كثيرة غير محصورة ولا محدودة فكذا هذا الغمام ينزل عنه قطرات العذاب نزولاً غير محصور
أما قوله تعالى وَالْمَلَئِكَة ُ فهو عطف على ما سبق والتقدير وتأتيهم الملائكة وإتيان الملائكة يمكن أن يحمل على الحقيقة فوجب حمله عليها فصار المعنى أن يأتي أمر الله وآياته والملائكة مع ذلك يأتون ليقوموا بما أمروا به من إهانة أو تعذيب أو غيرهما من أحكام يوم القيامة
أما قوله تعالى وَقُضِى َ الاْمْرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه فرغ ما كانوا يوعدون به فعند ذلك لا تقال لهم عثرة لهم ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة
المسألة الثانية قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ معناه ويقضي الأمر والتقدير إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن وخصوصاً في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيراً بالماضي قال الله سبحانه وتعالى إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ ( المائدة 116 ) والسبب في اختيار هذا المجاز أمران أحدهما التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه والثاني المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل
المسألة الثالثة الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته من الجنة والنار قال تعالى وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ ( إبراهيم 22 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ يدل على أن أحوال القيامة توجد دفعة من غير توقف فإنه تعالى ليس لقضائه دافع ولا لحكمه مانع
المسألة الرابعة قرأ معاذ بن جبل قُضِى َ الاْمْرُ على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة
أما قوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ففيه مسائل
المسألة الأولى من المجسمة من قال كلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة أجاب أهل التوحيد عنه من وجهين الأول أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيراً
من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) وهذا كقولهم رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( آل عمران 28 ) مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه الثاني قال أبو مسلم إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أموراً امتحاناً فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم تُرْجَعُ بضم التاء على معنى ترد يقال رجعته أي رددته قال تعالى وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى ( فصلت 50 ) وفي موضع آخر وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى ( الكهف 36 ) وفي موضع آخر ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) وقال تعالى رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً ( المؤمنون 99 100 ) أي ردني وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تُرْجَعُ بفتح التاء أي تصير كقوله تعالى أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( الشورى 53 ) وقوله إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ( هود 4 المائدة 48 الغاشية 25 ) قال القفال رحمه الله والمعنى في القراءتين متقارب لأنها ترجع إليه جل جلاله وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بافناء الدنيا وإقامة القيامة ثم قال وفي قوله تُرْجَعُ الامُورُ بضم التاء ثلاث معان أحدها هذا الذي ذكرناه وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية وَقُضِى َ الاْمْرُ وهو قاضيها والثاني أنه على مذهب العرب في قولهم فلان يعجب بنفسه ويقول الرجل لغيره إلى أين يذهب بك وإن لم يكن أحد يذهب به والثالث أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم فقوله تُرْجَعُ الامُورُ أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم وهو كما قال يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجمعة 1 التغابن 1 ) فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال لا بحسب النطق باللسان وعليه يحمل أيضاً قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ( الرعد 15 ) قيل إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ويسجد له الكفار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله فكذا يجوز أن يقال إن العباد يردون أمورهم إلى الله ويعترفون برجوعها إليه أما المؤمنون فبالمقال وأما الكفار فبشهادة الحال
بداية الجزء السادس من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَة ٍ بَيِّنَة ٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَة َ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى سَلْ كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفاً ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها وعند هذا التصريف استغنى عن ألف الوصل وقال قطرب يقال سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر وسأل يسأل مثل خاف يخاف والأمر فيه سل مثل خف وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر سَأَلَ سَائِلٌ على وزن قال وكال وقوله كَمْ هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد يقال إنه من تأليف كاف التشبيه مع مَا ثم قصرت ( ما ) وسكنت الميم وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر والنصب عند الاستفهام ومن العرب ينصب به في الخبر ويجر به في الاستفهام وهي ههنا يحتمل أن تكون استفهامية وأن تكون خبرية
المسألة الثانية اعلم أنه ليس المقصود سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى وبيان هذاالكلام أنه تعالى قال بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ( البقرة 208 ) فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر ثم قال فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيّنَاتُ أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد بقوله فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 209 ) ثم بين ذلك التهديد بقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 ) ثم ثلث ذلك التهديد بقوله سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه
والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم كما قال تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وقال لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 ) فهذا بيان وجه النظم
المسألة الثالثة فرق أبو عمرو في سَلْ بين الاتصال بواو وفاء وبين الاستئناف فقرأ سَلْهُمْ و سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ بغير همزة وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) فاسأل الذين يقرؤن الكتاب وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( النساء 32 ) بالهمز وسوى الكسائي بين الكل وقرأ الكل بغير همز وجه الفرق أن التخفيف في الاستئناف وصلة إلى أسقاط الهمزة المبتدأة وهي مستقلة وليس كذلك في الاتصال والكسائي اتبع المصحف لأن الألف ساقطة فيها أجمع
المسألة الرابعة قوله مّنْ آيَة ٍ بَيّنَة ٍ فيه قولان أحدها المراد به معجزات موسى عليه السلام نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى ونتق الجبل وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب وإنزال التوراة عليهم وتبيين الهدى من الكفر لهم فكل ذلك آيات بينات
والقول الثاني أن المعنى كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد عليه الصلاة والسلام يعلم بها صدقه وصحة شريعته
أما قوله تعالى وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَة َ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَمَن يُبَدّلْ بالتخفيف
المسألة الثانية قال أبو مسلم في الآية حذف والتقدير كم آتيناهم من آية بينة وكفروا بها لكن لا يدل على هذا الإضمار قوله وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَة َ اللَّهِ
المسألة الثالثة في نعمة الله ههنا قولان أحدهما أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام قال المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) ومن قال المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد عليه السلام قال المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها
والقول الثاني المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فإن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ أي من بعد ما تمكن من معرفتها أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( البقرة 75 ) لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة عنه وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح فلهذا قال فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ قال الواحدي رحمه الله تعالى وفيه
إضمار والمعنى شديد العقاب له وأقول بين عبد القاهر النحوي في كتاب ( دلائل الإعجاز ) أن ترك هذا الإضمار أولى وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك ثم قال الواحدي رحمه الله والعقاب عذاب يعقب الجرم
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يبدل نعمة الله من بعدما جاءته وهم الكفار الذين كذبوا بالدلالة والأنبياء وعدلوا عنها أتبعه الله تعالى بذكر السبب الذي لأجله كانت هذه طريقتهم فقال زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا ومحصول هذا الكلام تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار والمشركين في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من درجات الآخرة
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إنما لم يقال زينت لوجوه أحدها وهو قول الفراء أن الحياة والإحياء واحد فإن أنث فعلى اللفظ وإن ذكر فعلى المعنى كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) وثانيها وهو قول الزجاج أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي لأنه ليس حيواناً بإزائه ذكر مثل امرأة ورجل وناقة وجمل بل معنى الحياة والعيش والبقاء واحد فكأنه قال زين للذين كفروا الحياة الدنيا والبقاء وثالثها وهو قول ابن الأنباري إنما لم يقل زينت لأنه فصل بين زين وبين الحياة الدنيا بقوله لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الإسم بفاصل حسن تذكير الفعل لأن الفاصل يغني عن تاء التأنيث
المسألة الثانية ذكروا في سبب النزول وجوهاً
فالرواية الأولى قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعود وعمار وخباب وسالم مولى أبي حذيفة وعامر بن فهيرة وأبي عبيدة بن الجراح بسبب ما كانوا فيه من الفقر والضرر والصبر على أنواع البلاء مع أن الكفار كانوا في التنعم والراحة
والرواية الثانية نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم
والرواية الثالثة قال مقاتل نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين وفقراء المهاجرين واعلم أنه لا مانع من نزولها في جميعهم
والمسألة الثالثة اختلفوا في كيفية هذا التزيين أما المعتزلة فذكروا وجوهاً أحدها قال الجبائي المزين هو غواة الجن والإنس زينوا للكفار الحرص على الدنيا وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا قال وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فإن كان المزين هو الله تعالى فأما أن يكون صادقاً في ذلك التزين وإما أن يكون كاذباً فإن كان صادقاً وجب أن يكون مازينه حسناً فيكون فاعله المستحسن له مصيباً وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته وهذا القول كفر وإن كان كاذباً في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر وهذا أيضاً كفر قال فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في ( تفسيره )
وأقول هذا ضعيف لأن قوله تعالى زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ يتناول جميع الكفار فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم إلا أن يقال إن كل واحد منهم كان يزين للآخر وحينئذ يصير دوراً فثبت أن الذين يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم فبطل قوله إن المزين هم غواة الجن والإنس وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضاً وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم فثبت أن هذا التأويل ضعيف وأما قوله المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزيناً وعلى هذا التقدير سقط كلامه ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فلم لا يجوز أن يقال الله تعالى أخبر عن حسنه والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والرحات والإخبار عن ذلك لس بكذب والتصديق بها ليس بكفر فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية
التأويل الثاني قال أبو مسلم يحتمل في زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ أنهم زينوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم أين يذهب بك لا يريدون أن ذاهباً ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( المائدة 75 التوبة 30 المنافقون 4 ) أَنَّى يُصْرَفُونَ ( غافر 69 ) إلى غير ذلك وأكده بقوله تعالى يَعْلَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( المنافقون 9 ) فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه واعلم أن هذا ضعيف وذلك لأن قوله زُيّنَ يقضي أن مزيناً زينه والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن
التأويل الثالث أن هذا المزين هو الله تعالى ويدل على صحة هذا التأويل وجهان أحدهما قراءة من قرأ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا على البناء للفاعل الثاني قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ( الكهف 7 ) ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوهاً الأول يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده ونظيره قوله تعالى زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( آل عمران 14 ) إلى قوله قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ ( آل عمران 15 ) وقال أيضاً الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ( الكهف 46 ) وقالوا فهذه الآيات متوافقة والمعنى في الكل أن
الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الإمتحان وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام الثاني أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين
واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر وهذا محال ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة أو ما رجح فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه فهذا يمنع كونه تزييناً في قلبه والنص دل على أنه حصل هذا التزيين وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة فقد زال الاختيار لأن حال الإستواء لما امتنع حصول الرجحان فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً كان أولى بامتناع الوقوع وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فهذا هو توجيه السؤال ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة
الوجه الثالث في تقرير هذا التأويل أن المراد أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وعلى هذا الوجه سقط الإشكال وهذا أيضاً ضعيف وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص به الكافر فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات وأيضاً فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها وليس كذلك الكافر فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالباً على ظنه لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات وأيضاً أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة وتحملهم المشاق الواجبة فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات
وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء بل خلق تلك الأفعال والأحوال وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية
أما قوله تعالى وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوهاً من الروايات قال الواحدي قوله وَيَسْخُرُونَ مستأنف غير معطوف على زين ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي وذلك لأن الله أخبر عنهم بزين وهو ماض ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها
ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه بل قال بعض المحققين الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاساً معدودة وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمراً متعيناً فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ففيه سؤالات
السؤال الأول لم قال مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ ثم قال وَالَّذِينَ اتَّقَواْ
الجواب ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى
السؤال الثاني ما المراد بهذه الفوقية
الجواب فيه وجوه أحدها أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان لأن المؤمنين يكونون في عليين من السماء والكافرين يكونون في سجين من الأرض وثانيها يحتمل أن يكون المراد بالفوقية الفوقية في الكرامة والدرجة
فإن قيل إنما يقال فلان فوق فلان في الكرامة إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالاً من الآخر في تلك الكرامة والكافر ليس له شيء من الكرامة فكيف يقال المؤمن فوقه في الكرامة
قلنا المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين وثالثها أن يكون المراد أنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك بل تزول الشبهات ولا تؤثر وساوس الشيطان كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلُهُ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( المطففين 29 34 ) الآية ورابعها أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة وهي مع بطلانها منقضية وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ومع حقيتها هي دائمة باقية
السؤال الثالث هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد فإن لقائل أن يقول إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار
الجواب هذا تمسك بالمفهوم فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ فيحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين فإذا حملناه على رزق الآخرة احتمل وجوهاً أحدها أنه يرزق من يشاء في الآخرة وهم المؤمنون بغير حساب أي رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع وهو كقوله فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ( غافر 40 ) فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب وثانيها أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ ( النساء 173 ) فالفضل منه بلا حساب وثالثها أنه لا يخاف نفادها عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقي فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به والله لا يحتاج إلى الحساب لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته ورابعها أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً انتقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب وخامسها أراد أن الذي يعطي لا نسبة له إلى ما في الخزانة لأن الذي يعطي في كل وقت يكون متناهياً لا محالة والذي في خزانة قدرة الله غير متناه والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فهذا هو المراد من قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى وسادسها بِغَيْرِ حِسَابٍ أي بغير استحقاق يقال لفلان على فلان حساب إذا كان له عليه حق وهذا يدل على أنه لا يستحق عليه أحد شيئاً وليس لأحد معه حساب بل كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان لا بسبب الاستحقاق وسابعها بِغَيْرِ حِسَابٍ أي يزيد على قدر الكفاية يقال فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية فأما إذا زاد عليه فإنه يقال ينفق بغير حساب وثامنها بِغَيْرِ حِسَابٍ أي يعطي كثيراً لأن ما دخله الحساب فهو قليل
واعلم أن هذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها والله أعلم
أما إذا حملنا الآية على ما يعطي في الدنيا أصناف عباده من المؤمنين والكافرين ففيه وجوه
أحدها وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدينوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً وذلك متعلق بمحض المشيئة فقد وسع الدنيا على قارون وضيقها على أيوب عليه السلام فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان ولهذا قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) وثانيها أن المعنى أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه
ولا مطالبة ولا تبعة ولا سؤال سائل والمقصود منه أن لا يقول الكافر لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا وأن لا يقول المؤمن إن كان الكافر مبطلاً فلم وسع عليه في الدنيا بل الإعتراض ساقط والأمر أمره والحكم حكمه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وثالثها قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ أي من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره لم يكن هذا في حسابي فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين قال القفال رحمه الله وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود وبما فتح على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر
فإن قيل قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم عَطَاء حِسَاباً ( النبأ 36 ) أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية
قلنا أما من حمل قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ على التفضل وحمل قوله عَطَاء حِسَاباً على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا أو بحسب الإستحقاق على ما هو قول المعتزلة فالسؤال ساقط وأما من حمل قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ على سائر الوجوه فله أن يقول إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حساباً ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ
كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما بين في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان بل كان حاصلاً في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال الأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض وهو مأخوذ من الأئتمام
المسألة الثانية دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل واختلف المفسرون فيه على ثلاثة أقوال
القول الأول أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق وهذا قول أكثر المحققين ويدل عليه وجوه الأول ما ذكره القفال فقال الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الإختلاف ويتأكد هذا بقوله تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ ( يونس 19 ) ويتأكد أيضاً بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ إِلَى قَوْلُهُ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ
إذا عرفت هذا فنقول الفاء في قوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ تقتضي أن يكون بعثهم بعد الإختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل هذا الإختلاف أولى لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقاً وبعضهم مبطلاً فلأن يبعثوا حين ماكانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه الله حسن في هذا الموضوع وثانيها أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه وبحسب قراءة ابن مسعود ثم قال وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ والظاهر أن المراد من هذا الإختلاف هو الإختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه بقوله كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً ثم حكم على هذا الإختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي وهذا يدل على أن الاتفاق الذي كان حاصلاً قبل حصول هذا الإختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل وثالثها أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولاً إلى أولاده فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين إلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد كما حكى الله عن ابني آدم إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ ( المائدة 27 ) فلم يكن ذلك القتل والكفر بالله إلا بسبب البغي والحسد وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه ورابعها أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ثم اختلفوا بعد ذلك وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك ولم يثبت ألبتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل
وخامسها وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل
بها إلى النتائج وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات وكما أن المقدمات يجب إنتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضاً إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج فأما إذا عرض له سبب خارجي فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الإستحقاق وبحسب الزمان أيضاً هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال كان الناس أمة واحدة في الدين الحق ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه
فإن قيل فما المراد من قوله وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ ( هود 188 119 )
قلنا المعنى ولأجل أن يرحمهم خلقهم
وسادسها قوله عليه السلام ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد وسابعها أن الله تعالى لما قال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثاً كثيرة ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول
أما الوجه الثاني هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل فهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس واحتجوا بالآية والخبر أما الآية فقوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وهو لا يليق إلا بذلك وأما الخبر فما روي عن النبي عليه السلام ( أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب )
وجوابه ما بينا أن هذا لا يليق إلا بضده وذلك لأن عند الإختلاف لما وجبت البعثة فلو كان الإتفاق السابق اتفاقاً على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الإتفاق كان اتفاقاً على الحق لا على الباطل ثم اختلف القائلون بهذا القول أنه متى كان الناس متفقين على الكفر فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفاراً ثم سألوا أنفسهم سؤالاً وقالوا أليس فيهم من كان مسلماً نحو هابيل وشيث وإدريس وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير وقد يقال دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون
القول الثالث وهو اختيار أبي مسلم والقاضي أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الإعتراف بوجود الصانع وصفاته والإشتغال بخدمته وشكر نعمته والإجتناب عن القبائح العقلية
كالظلم والكذب والجهل والعبث وأمثالها
واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والإستغراق وحرف الفاء يفيد التراخي فقوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت متأخرة عن كون الناس أمة واحدة فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه وأيضاً فالعلم بحسن شكر المنعم وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق والعدل مشترك فيه بين الكل والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة ثم سأل نفسه فقال أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبياً فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولاً ثم إن الله تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرساً فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه والكلام فيه مشهور في الأصول
القول الرابع أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر فهو موقوف على الدليل
القول الخامس أن المراد من الناس ههنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى عليه السلام وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله بِالْعِبَادِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّة ً ( البقرة 208 ) وذكرنا أن كثيراً من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود فقوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة على دين واحد ومذهب واحد ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين وهم الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب كما بعث الزبور إلى داود والتوراة إلى موسى والإنجيل إلى عيسى والفرقان إلى محمد عليه السلام لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله كَانَ النَّاسُ بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضاً للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية
أما قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار والتقدير كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ واعلم أنه الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث
الصفة الأولى كونهم مبشرين
الصفة الثانية كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( النساء 165 ) وإنما قدم البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة والإنذار يجري مجرى إزالة المرض ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر
الصفة الثالثة قوله وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ فإن قيل إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر
والنهي إلى المكلفين ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب أجاب القاضي عنه فقال لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزاً أو لم يكن كذلك لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقتضي شيئاً من ذلك
أما قوله تعالى لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فاعلم أنه قوله لِيَحْكُمَ فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة فأقربها إلى هذا اللفظ الكتاب ثم النبيون ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحاً فيكون المعنى ليحكم الله أو النبي المنزل عليه أو الكتاب ثم إن كل واحد من هذه الإحتمالات يختص بوجه ترجيح أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال حمله على الكتاب أولى أقصى ما في الباب أن يقال الحاكم هو الله فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول أنه مجاز مشهور يقال حكم الكتاب بكذا وقضى كتاب الله بكذا ورضينا بكتاب الله وإذا جاز أن يكون هدي وشفاء جاز أن يكون حاكماً قال تعالى إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 9 ) والثاني أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله
أما قوله تعالى فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ فاعلم أن الهاء في قوله فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ يجب أن يكون راجعاً إما إلى الكتاب وإما إلى الحق لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم لكن رجوعه إلى الحق أولى لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكماً فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم والمختلف فيه محكوم عليه والحاكم يجب أن يكون مغايراً للمحكوم عليه
أما قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية إلى الكتاب والتقدير وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب ثم قال أكثر المفسرين المراد بهؤلاء اليهود والنصارى والله تعالى كثيراً ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ( المائدة 5 ) قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( آل عمران 64 ) ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضاً كقوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَى ْء وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ( البقرة 113 ) ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم فقوله وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الإختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الإختلاف في الحق حاصلاً بل كان الإتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أن قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً معناه أمة واحدة في دين الحق
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم
أما قوله تعالى بَغْياً بَيْنَهُمْ فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا ونظيره هذه الآية قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ( البينة 4 )
أما قوله تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيا أهل الكتاب يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ونحن أولى الناس دخولاً الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا لله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا له والناس له فيه تبع وغداً لليهود وبعد غد للنصارى ) قال ابن زيد اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود كان يهودياً وقالت النصارى كان نصرانياً فقلنا أنه كان حنيفاً مسلماً واختلفوا في عيسى فاليهود فرطوا والنصارى أفرطوا وقلنا القول العدل وبقي في الآية مسائل
المسألة الأولى من الأصحاب من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق لله تعالى قال لأن الهداية هي العلم والمعرفة وقوله فَهَدَى اللَّهُ نص في أن الهداية حصلت بفعل الله تعالى فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق لله تعالى
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير والاهتداء غير والذي يدل ههنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان الأول أن الهداية إلى الإيمان غير الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان والثاني أنه تعالى قال في آخر الآية بِإِذْنِهِ ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله فَهَدَى اللَّهُ إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد ههنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليه والتقدير فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر والمعتزلة أجابوا عنه من وجوه أحدها أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصة
كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) ثم قال هُدًى لّلنَّاسِ وثانيها أن المراد به الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة وثالثها هداهم إلى الحق بالألطاف
المسألة الثالثة قوله لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( المجادلة 3 ) أي إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ أي إلى ما قالوا ويقال هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق
فإن قيل لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ولم يقل هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الإختلاف
والجواب من وجهين الأول أنه لما كانت العناية بذكر الإختلاف لهم بدأ به ثم فسره بمن هداه الثاني قال الفراء هذا من المقلوب أي فهداهم لما اختلفوا فيه
المسألة الرابعة قوله بِإِذْنِهِ فيه وجهان أحدها قال الزجاج بعلمه الثاني هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال قطعت بالسكين وذلك لأن الحق لم يكن متميزاً عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه الثالث قال بعضهم لا بد فيه من إضمار والتقدير هداهم فاهتدوا بإذنه
أما قوله وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فاستدلال الأصحاب به معلوم والمعتزلة أجابوا من ثلاثة أوجه أحدها المراد بالهداية البيان فالله تعالى خص المكلفين بذلك والثاني المراد بالهداية الطريق إلى الجنة الثالث المراد به اللطف فيكون خاصاً لمن يعلم أنه يصلح له وهو قول أبي بكر الرازي
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
في النظم وجهان الأول أنه تعالى قال في الآية السالفة وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم الآية الثاني أنه في الآية السالفة ما بين أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى فكذا أنتم يا أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استقصينا الكلام في لفظ أَمْ في تفسير قوله تعالى أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ ( البقرة 133 ) والذي نريده ههنا أن نقول أَمْ استفهام متوسط كما أن هَلُ استفهام سابق فيجوز أن يقول هل عندك رجل أعندك رجل ابتداء ولا يجوز أن يقال أم عندك رجل فأما إذا كان متوسطاً جاز سواء كان مسبوقاً باستفهام آخر أو لا يكون أما إذاكان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك أنت رجل لا تنصف أفعن جهل تفعل هذا أم لك سلطان وأما الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام فهو كقوله الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 1 3 ) وهذا القسم يكون في تقدير القسم الأول والتقدير أفيؤمنون بهذا أم يقولون أفتراه فكذا تقدير هذه الآية فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فصبروا على استهزاء قومهم بهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم هذا ما لخصه القفال رحمه الله والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم أي ولم يأتكم مثل الذين خلوا وذكر الكوفيون من أهل النحو أن لَّمّاً إنما هي لَمْ و مَا زائدة وقال سيبويه مَا ليست زائدة لأن لَّمّاً تقع في مواضع لا تقع فيها لَمْ يقول الرجل لصاحبه أقدم فلان فيقول لَّمّاً ولا يقول لَمْ مفردة قال المبرد إذا قال القائل لم يأتني زيد فهو نفي لقولك أتاك زيد وإذا قال لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه قال النابغة أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
فعلى هذا قوله وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم يدل على أن إتيان ذلك متوقع منتظر
المسألة الثالثة قال ابن عباس لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم أَمْ حَسِبْتُمْ وقال قتادة والسدي نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن وكان كما قال سبحانه وتعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) وقيل نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبياً لما سلط الله عليكم الأسر والقتل فأنزل الله تعالى هذه الآية
واعلم أن تقدير الآية أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه وأن ينالكم من أذى الكفار ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين وهو المراد من قوله وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم والمثل هو المثل وهو الشبة وهما لغتان مثل ومثل كشبه وشبه إلا أن المثل مستعار لحالة غريبة أو قصة عجيبة لها شأن ومنه قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاْعْلَى ( النحل 60 ) أي الصفة التي لها شأن عظيم
واعلم أن في الكلام حذفاً تقديره مثل محنة الذين من قبلكم وقوله مَسَّتْهُمْ بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال فكيف كان ذلك المثل فقال مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ( البقرة 214 )
أما الْبَأْسَاء فهو اسم من البؤس بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة ومنه يقال فلان في بؤس وشدة
وأما الضَّرَّاء فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف وعندي أن البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه
وأما قوله وَزُلْزِلُواْ أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا قال الزجاج أصل الزلزلة في اللغة من أزال الشيء عن مكانه فإذا قلت زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه وكل ما كان فيه تكرير كررت فيه فاء الفعل نحو صر وصرصر وصل وصلصل وكف وكفكف وأقل الشيء أي رفعه من موضعه فإذا كرر قيل قلقل وفسر بعضهم زلزلوا ههنا بخوفوا وحقيقته غير ما ذكرنا وذلك لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه ولذلك لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد لأنه يذهب السكون فيجب أن يكون زلزلوا ههنا مجازاً والمراد خوفوا ويجوز أن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف ثم أنه تعالى بعد ذكر هذه الأشياء ذكر شيئاً آخر وهو النهاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ وذلك لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إجابة لهم إلى طلبهم فتقدير الآية هكذا كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق فإن نصر الله قريب لأنه آت وكل ما هو آت قريب وهذه الآية مثل قوله الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ( العنكبوت 1 3 ) وقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) والمقصود من هذه الآية ما ذكرنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين والمنافقين واليهود ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك والمصيبة إذا عمت طابت وذكر الله من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به ومن أمر سائر الأنبياء عليهم السلام في مصابرتهم على أنواع البلاء ما صار ذلك في سلوة المؤمنين
روى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما نلقى من المشركين فقال ( إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه وايم الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )
المسألة الرابعة قرأ نافع حَتَّى يَقُولَ برفع اللام والباقون بالنصب ووجهه أن حَتَّى إذا نصبت المضارع تكون على ضربين أحدهما أن تكون بمعنى إلى وفي هذا الضرب يكون الفعل الذي حصل قبل حَتَّى والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا تقول سرت حتى أدخلها أي إلى أن أدخلها
فالسير والدخول قد وجدا مضياً وعليه النصب في هذه الآية لأن التقدير وزلزلوا إلى أن يقول الرسول والزلزلة والقول قد وجدا والثاني أن تكون بمعنى كي كقوله أطعت الله حتى أدخل الجنة أي كي أدخل الجنة والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه وأما الرفع فاعلم أن الفعل الواقع بعد حَتَّى لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت كما حكيت الحال في قوله هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ ( القصص 15 ) وفي قوله وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) لأن هذا لا يصح إلا على سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام ويقال شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنة والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال يجيء البعير يجر بطنه ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب كقولك سرت حتى أدخل البلد فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى
المسألة الخامسة في الآية إشكال وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد مَتَى
نَصْرُ اللَّهِ
والجواب عنه من وجوه أحدها أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء قال تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ( الحجر 97 ) وقال تعالى لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال تعالى حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّى َ ( يوسف 110 ) وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك قال عند ضيق قلبه مَتَى نَصْرُ اللَّهِ حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطالب قلبه والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعاً عن القرب ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال وهذا هو الجواب المعتمد
والجواب الثاني أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكر كلامين أحدهما مَتَى نَصْرُ اللَّهِ والثاني أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين فالذين آمنوا قالوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر أما القرآن فقوله وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار وأما من الشعر فقول امرىء القيس كأن قلوب الطير رطباً ويابسا
لدي وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جداً
المسألة السادسة أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يحتمل أن يكون جواباً من الله تعالى لهم إذ قالوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ثم قال الله عند ذلك أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ويحتمل أن يكون ذلك قولاً لقوم منهم كأنهم لما قالوا مَتَى نَصْرُ اللَّهِ رجعوا إلى أنفسكم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم فقالوا أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك
فإن قيل قوله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها وذلك غير ثابت
قلنا لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام ويمكن أن يكون ذلك عاماً في حق الكل إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين إما أن يتخلص عنه وإما أن يموت وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصر وإنما جعله قريباً لأن الموت قريب
يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بالغ في بيان أنه يجب على كل مكلف أن يكون معرضاً عن طرب العاجل وأن يكون مشتغلاً بطلب الآجل وأن يكون بحيث يبذل النفس والمال في ذلك شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ( البقرة 243 ) لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطاً بعضها بالبعض ليكون كل واحد منها مفوياً للآخر ومؤكداً له
الحكم الأول
فيما يتعلق بالنفقة هو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال عطاء عن ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل أتى للنبي عليه الصلاة والسلام فقال إن لي ديناراً فقال أنفقه على نفسك قال إن لي دينارين قال أنفقهما على أهلك قال إن لي ثلاثة قال أنفقها على خادمك قال إن لي أربعة قال أنفقها على والديك قال إن لي خمسه قال أنفقها على قرابتك قال إن لي ستة قال أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها وروى الكلبي عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً هرماً وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم فقال ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية للنحويين في مَاذَا قولان أحدهما أن يجعل مَا مع ذَا بمنزلة اسم واحد ويكون الموضع نصباً بينفقون والدليل عليه أن العرب يقولون عماذا تسأل بإثبات الألف في مَا فلولا
أن مَا مع ذَا بمنزلة اسم واحد لقالوا عماذا تسأل بحذف الألف كما حذفوها من قوله تعالى عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) وقوله فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( النازعات 43 ) فلما لم يحذفوا الألف من آخر مَا علمت أنه مع ذَا بمنزلة اسم واحد ولم يحذفوا الألف منه لما لم يكن آخر الاسم والحذف يلحقها إذا كان آخراً إلا أن يكون في شعر كقوله غلاماً قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
والقول الثاني أن يجعل ذَا بمعنى الذي ويكون مَا رفعاً بالابتداء خبرها ذَا والعرب قد يستعملون ذَا بمعنى الذي فيقولون من ذا يقول ذاك أي من ذا الذي يقول ذاك فعلى هذ يكون تقدير الآية يسألونك ما الذي ينفقون
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف أجابهم بهذا
والجواب عنه من وجوه أحدها أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود وذلك لأن قوله مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ جواب عن السؤال ثم إن ذلك الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفاً إلى جهة الإستحقاق فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلاً للبيان وثانيها قال القفال إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ مَا إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذين أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال ونظيره قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ ( البقرة 70 71 ) وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا فقوله مَا هِى َ لا يمكن حمله على طلب الماهية فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها فبهذا الطريق قلنا إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم مَاذَا يُنفِقُونَ ليس هو طلب الماهية بل طلب المصرف فلهذا حسن الجواب وثالثها يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا السؤال فكأنهم قيل لهم هذا السؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالاً حلالاً وبشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان فقال للطبيب ماذا آكل فيقول الطبيب كل في اليوم مرتين كان المعنى كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا ههنا المعنى أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق فقدم الوالدين وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه ولذلك قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ ( الإسراء 23 ) وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين لأن
الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض والترجيح لا بد له من مرجح والقرابة تصلح أن تكون سبباً للترجيح من وجوه أحدها أن القرابة مظنة المخالطة والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر فإذا كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً كان اطلاع الفقير على الغني أتم واطلاع الغني على الفقير أتم وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها أنه لو لم يراع جانب الفقير احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعاً للضرر عن النفس وثالثها أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب وأشرب على الضياع ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الاحتياج والفقر فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلباً لجزيل ثوابه وهرباً من أليم عقابه فإن الله به عليم والعليم مبالغة في كونه عالماً يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ( آل عمران 19 ) وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 )
المسألة الخامسة المراد من الخير هو المال لقوله عز وجل وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) وقال إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة ُ ( البقرة 180 ) فالمعنى وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر وفيه قول آخر وهو أن يكون قوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يتناول هذا الإنفاق وسائر وجوه البر والطاعة وهذا أولى
المسألة السادسة قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها أحدها قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال أنها منسوخة بآية المواريث لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت وأيضاً فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة وثانيها أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى
فيكون المراد به التطوع وثالثها أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة ورابعها يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ
الحكم الثاني
فيما يتعلق بالقتال
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين ثم أذن له في قتال المشركين عامة ثم فرض الله الجهاد واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم إنها تقتضي وجوب القتال على الكل وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب ونقل عن ابن عمر وعطاء أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط حجة الأولين أن قوله كِتَابَ يقتضي الوجوب وقوله عَلَيْكُمْ يقتضيه أيضاً والخطاب بالكاف في قوله عَلَيْكُمْ لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد بعد ذلك كما في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 )
فإن قيل ظاهر الآية هل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان أو على الكفاية
قلنا بل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان لأن قوله عَلَيْكُمْ أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ حجة عطاء أن قوله كِتَابَ يقتضي الإيجاب ويكفي في العمل به مرة واحدة وقوله عَلَيْكُمْ يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت إلا أنا قلنا إن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك بدلالة منفصلة وهي الإجماع وتلك الدلالة مفقودة ههنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلى قالوا ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( النساء 95 ) ولو كان القاعد مضيعاً فرضاً لما كان موعوداً بالحسنى اللهم إلا أن يقال الفرض كان ثابتاً ثم نسخ إلا أن التزام القوم بالنسخ من غير أن يدل عليه دليل غير جائز ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض الكفايات إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ فيه إشكال وهو أن الظاهر من قوله كُتِبَ عَلَيْكُمْ أن هذا الخطاب مع المؤمنين والعقل يدل عليه أيضاً لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر وإذا كان كذلك فكيف قال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارهاً لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله تعالى وتكاليفه بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده
والجواب من وجهين الأول أن المراد من الكره كونه شاقاً على النفس والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلاً شاقاً على النفس لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة فلذلك أشق الأسياء على النفس القتال الثاني أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم
المسألة الثالثة الكره بضم الكاف هو الكراهة بدليل قوله وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ثم فيه وجهان أحدهما أن يكون المعنى وضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقول الخنساء فإنما هي إقبال وإدبار
كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له والثاني أن يكون فعلاً بمعنى مفعول كالخبر بمعنى المخبور أي وهو مكروه لكم وقرأ السلمي بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم ومنه قوله تعالى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ( الأحقاف 15 ) والله أعلم وقال بعضهم الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه وإذا كان بالإكراه فبالفتح
أما قوله وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى عَسَى فعل درج مضارعه وبقي ماضيه فيقال منه عسيتما وعسيتم قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ ( محمحد 22 ) ويرتفع الاسم بعده كما يرتفع بعد الفعل فتقول عسى زيد كما تقول قام زيد ومعناه قرب قال تعالى قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم ( النمل 72 ) أي قرب فقولك عسى زيد أن يقوم تقديره عسى قيام زيد أي قرب قيام زيد
المسألة الثانية معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد ولأجله حسن شرب الدوا المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ولكن فيه أنواع من المضار منها أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطراً إلى تحمل أضعاف تلك النفرة
والمشقة والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت ومنها وجدان الغنيمة ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقرباً وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله ومنها أن من أقدم على القتال طلباً لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله وما لم يصر الرجل متيقناً بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا وذلك من أعظم سعادات الإنسان
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ
المسألة الثالثة الشَّرَّ السوء وأصله من شررت الشيء إذا بسطته يقال شررت اللحم والثوب إذا بسطته ليجف ومنه قوله وحتى أشرت بالأكف المصاحف
والشرر اللهب لانبساطه فعلى هذا لِلنَّاسِ الشَّرَّ انبساط الأشياء الضارة
المسألة الرابعة عَسَى توهم الشك مثل لَعَلَّ وهي من الله تعالى يقين ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل أما إن قلنا بأنها بمعنى لَعَلَّ فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 183 ) قال الخليل عَسَى من الله واجب في القرآن قال فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ ( المائدة 52 ) وقد وجد وَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ( يوسف 83 ) وقد حصل والله أعلم
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه وكمال علم الله تعالى ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته علم قطعاً أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله سواء كان مكروهاً للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَة ُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأُوْلائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع فنزلت الآية فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين
الفريق الثاني وهم أكثر المفسرين رووا عن ابن عباس أنه قال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين وبعد سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة في ثمانية رهط وكتب له كتاباً وعهداً ودفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه فإذا فيه أما بعد فسر على بركة الله تعالى بمن اتبعك حتى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير فقال عبد الله سمعاً وطاعة لأمره فقال لأصحابه من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره ومن أحب التخلف فليتخلف فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف فمر عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه فلما رأوا أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتى قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فضجت قريش وقالوا قد استحل محمد الشهر الحرام شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء والمسلمون أيضاً قد استبعدوا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام وقال عبد الله بن جحش يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فوقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العير والأسارى فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام الغنيمة وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه أحدها أن أكثر الحاضرين عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مسلمين وثانيها أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب
مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وهو خطاب مع المسلمين وقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( البقرة 219 220 ) وثالثها روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
والقول الثاني أن هذا السؤال كان من الكفار قالوا سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين ثم أنزل الله تعالى بعده قوله الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز
المسألة الثانية قوله تعالى قِتَالٍ فِيهِ خفص على البدل من الشهر الحرام وهذا يسمى بدل الإشتمال كقولك أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله وسلب زيد ثوابه قال تعالى قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ( البروج 4 5 ) وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع ونظيره قوله تعالى لِلَّذِينَ الاْعْرَافِ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ وقرأ عكرمة قَتْلَ فِيهِ
أما قوله تعالى قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قِتَالٍ فِيهِ مبتدأ و كَبِيرٌ خبره وقوله قِتَالٍ وإن كان نكرة إلا أنه تخصص بقوله فِيهِ فحسن جعله مبتدأ والمراد من قوله كَبِيرٌ أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة قال تعالى كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ( الكهف 5 )
فإن قيل لم نكر القتال في قوله تعالى قِتَالٍ فِيهِ ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( الشرح 6 )
قلنا نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش فقال تعالى قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الفكر فكيف يكون هذا من الكبائر إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه وباطنه يكون موافقاً للحق وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة فسبحان من له تحت كل كلمة من
كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب
المسألة الثانية اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا على سبيل الدفع روى جابر قال لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام قال نعم قال أبو عبيد والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز
والحجة في إباحته قوله تعالى فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام والذي عندي أن قوله تعالى قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فرداً واحداً ولا يتناول كل الأفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقاً في الشهر الحرام فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه
أما قوله تعالى وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى للنحويين في هذه الآية وجوه الأول قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج أن قوله وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ كلها مرفوعة بالابتداء وخبرها قوله أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ والمعنى أن القتال الذي سألتم عنه وإن كان كبيراً إلا أن هذه الأشياء أكبر منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذراً ظاهراً فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ ( البقرة 44 ) ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 ) وهذا وجه ظاهر إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وذكروا فيه وجهين أحدهما أنه عطف على الهاء في به والثاني وهو قول الأكثرين أنه عطف على سَبِيلِ اللَّهِ قالوا وهو متأكد بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الحج 25 )
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير فإنه لا يقال مررت به وعمرو وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فقوله عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( المائدة 2 ) صلة للصد والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزاً
أجيب عن الأول لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير وكفر به وبالمسجد الحرام والإضمار في كلام الله ليس بغريب ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) على سبيل الخفض ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولاً بالاتفاق فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولاً وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين الأول أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى فكأنه لا فصل الثاني أن موضع قوله وَكُفْرٌ بِهِ عقيب قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلا أنه قدم
عليه لفرط العناية كقوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدًا كان من حق الكلام أن يقال ولم يكن له أحد كفواً إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا
الوجه الثاني في هذه الآية وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عطف بالواو على الشهر الحرام والتقدير يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام ثم بعد هذا طريقان أحدهما أن قوله قِتَالٍ فِيهِ مبتدأ وقوله كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ خبر بعد خبر والتقدير إن قتلاً فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله وبأنه كفر بالله
والطريق الثاني أن يكون قوله قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ جملة مبتدأ وخبر وأما قوله وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فهو مرفوع بالابتداء وكذا قوله وَكُفْرٌ بِهِ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير ونظيره قولك زيد منطلق وعمرو تقديره وعمرو منطلق طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا أما قولكم تقدير الآية يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعاً عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً بالله وهو خطأ بالإجماع وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر وهو خطأ بالإجماع
وأقول للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام بل الظاهر أنه وقع لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً
قلنا يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفراً ونحن نقول به لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم وعندنا أن قتالاً واحداً في المسجد الحرام كفر ولا يلزم أن كل قتال كذلك وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر قلنا المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفراً فهو ظلم لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلماً وكفراً أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفراً وحده فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء
القول الثالث في الآية قوله قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سُبُلَ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وجهه ظاهر وهو أن قتالاً فيه موصوف بهذه الصفات وأما الخفض في قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزناً
المسألة الثانية أما الصد عن سبيل الله ففيه وجوه أحدها أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد عليه السلام وثانيها صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام وثالثها صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت ولقائل أن يقول الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في
معلوم الله تعالى كان كالواقع وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلاً للرسل مستحقاً للعبادة قادراً على البعث وأما قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فإن عطفناه على الضمير في بِهِ كان المعنى وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع ومن قال إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى وصد عن المسجد الحرام وذلك لأنهم صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكين والركع السجود
وأما قوله تعالى وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلُهَا ( الفتح 26 ) وقال تعالى وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهذا تفريع على قول الزجاج وإنما قلنا إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين أحدهما أن كل واحد من هذه الأشياء كفر والكفر أعظم من القتال والثاني أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش وهو ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر
أما قوله تعالى وَالْفِتْنَة ُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فقد ذكروا في الفتنة قولين أحدهما هي الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين وهو عندي ضعيف لأن على قول الزجاج قد تقدم ذكر ذلك فإنه تعالى قال وَكُفْرٌ بِهِ أَكْبَرَ فحمل الفتنة على الفكر يكون تكراراً بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء
والقول الثاني أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم وتارة بالتعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر وهذا قول محمد بن إسحاق وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه ومنه قوله تعالى إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ ( التغابن 15 ) أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده فصار ذلك مانعاً له عن الإنفاق وقال تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 1 2 ) أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء وقال وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( طه 40 ) وإنما هو الامتحان بالبلوى وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 10 ) والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ( البروج 10 ) والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم وقال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( النساء 101 ) وقال مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 162 163 ) وقال فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ ( آل عمران 7 ) أي المحنة في الدين وقال وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( المائدة 49 ) وقال رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( الممتحنة 5 ) وقال رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( يونس 85 ) والمعنى أن يفتنوا
بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 65 ) قيل المفتون المجنون والجنون فتنة إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان وإنما قلنا إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي
روى أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش صاحب هذه السرية إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام قال ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا والمعنى ظاهر ونظيره قوله تعالى والمعنى ظاهر ونظيره قوله تعالى وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ( البقرة 120 )
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما زال يفعل كذا ولا يزال يفعل كذا قال الواحدي هذا فعل لا مصدر له ولا يقال منه فاعل ولا مفعول ومثاله في الأفعال كثير نحو عَسَى ليس له مصدر ولا مضارع وكذلك ذو وما فتىء وهلم وهاك وهات وتعال ومعنى لا يَزَالُونَ أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي فإذا أدخلت عليه ما كان ذلك نفياً للنفي فيكون دليلاً على الثبوت الدائم
المسألة الثانية قوله حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ أي إلى أن يردوكم وقيل المعنى ليردوكم
المسألة الثالثة قوله إِنِ اسْتَطَاعُواْ استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه إن ظفرت بي فلا تبق على وهو واثق بأنه لا يظفر به
ثم قال تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي قوله وَمَن يَرْتَدِدْ أظهر التضعيف مع الجزم لسكون الحرف الثاني وهو أكثر في اللغة من الإدغام وقوله فَيَمُتْ هو جزم بالعطف على يَرْتَدِدْ وجوابه لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
المسألة الثانية لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم ذكر بعده وعيداً شديداً على الردة فقال وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ واستوجب العذاب الدائم في النار
المسألة الثالثة ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه قالوا لأن من كان مؤمناً ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال وإما