كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
ادعاء العلم ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زعموا مطية الكذب ) وعن شريح لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا ويتعدى إلى مفعولين تعدى العلم قال الشاعر ولم أزعمك عن ذلك معزولا
والذين كفروا هم أهل مكة بَلَى إثبات لما بعد أن وهو البعث وقيل قوله تعالى قُلْ بَلَى وَرَبّى يحتمل أن يكون تعليماً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أي يعلمه القسم تأكيداً لما كان يخبر عن البعث وكذلك جميع القسم في القرآن وقوله تعالى وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لا يصرفه صارف وقيل إن أمر البعث على الله يسير لأنهم أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً فأخبر أن إعادتهم أهون في العقول من إنشائهم وفي الآية مباحث
الأول قوله فَكَفَرُواْ يتضمن قوله وَتَوَلَّواْ فما الحاجة إلى ذكره نقول إنهم كفروا وقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية وذلك هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي ولهذا قال فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ
الثاني قوله وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ يوهم وجود التولي والاستغناء معاً والله تعالى لم يزل غنياً قال في ( الكشاف ) معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك
الثالث كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا رسالته نقول إنهم وإن أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار أظهر من الشمس عنده وفي اعتقاده والفائدة في الإخبار مع القسم ليس إلا هذا ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم
ولما بالغ في الإخبار عن البعث والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال
فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
قوله فَئَامِنُواْ يجوز أن يكون صلة لما تقدم لأنه تعالى لما ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية وذلك لكفرهم بالله وتكذيب الرسل قال فَئَامِنُواْ أنتم بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث ثم ذكر في ( الكشاف ) أنه عنى برسوله
والنور محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي بما تسرون وما تعلنون فراقبوه وخافوه في الحالين جميعاً وقوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يريد به يوم القيامة جمع فيه أهل السموات وأهل الأرض و ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ والتغابن تفاعل من الغبن في المجازاة والتجارات يقال غبنه يغبنه غبناً إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قوماً في النار يعذبون وقوماً في الجنة يتنعمون وقيل هو يوم يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل وأهل الهدى أهل الضلالة وأهل الإيمان أهل الكفر فلا غبن أبين من هذا وفي الجملة فالغبن في البيع والشراء وقد ذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة واشتروا الضلالة بالهدى ثم ذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ ( الصف 10 ) الآية وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين وقوله تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك ويعمل صالحاً أي يعمل في إيمانه صالحاً إلى أن يموت قرىء يجمعكم ويكفر ويدخل بالياء والنون وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أي بوحدانية الله تعالى وبقدرته وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أي بآياته الدالة على البعث أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثم في الآية مباحث
الأول قال قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ بطريق الإضافة ولم يقل ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة مع أن النور ههنا هو القرآن والقرآن كلامه ومضاف إليه نقول الألف واللام في النور بمعنى الإضافة كأنه قال ورسوله ونوره الذي أنزلنا
الثاني بم انتصب الظرف نقول قال الزجاج بقوله لَتُبْعَثُنَّ وفي ( الكشاف ) بقوله لَتُنَبَّؤُنَّ أو بخبير لما فيه من معنى الوعيد كأنه قيل والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار اذكر
الثالث قال تعالى في الإيمان وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ بلفظ المستقبل وفي الكفر وقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بلفظ الماضي فنقول تقدير الكلام ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآيتاتنا يدخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار
الرابع قال تعالى وَمَن يُؤْمِن بلفظ الواحد و خَالِدِينَ فِيهَا بلفظ الجمع نقول ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى
الخامس ما الحكمة في قوله وَبِئْسَ الْمَصِيرُ بعد قوله خَالِدِينَ فِيهَا وذلك بئس المصير فنقول ذلك وإن كان في معناه فلا يدل عليه بطريق التصريح فالتصريح مما يؤكده
ثم قال تعالى
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قوله تعالى إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر الله قاله الحسن وقيل بتقدير الله وقضائه وقيل بإرادة الله تعالى ومشيئته وقال ابن عباس رضي الله عنهما بعلمه وقضائه وقوله تعالى يَهْدِ قَلْبَهُ أي عند المصيبة أو عند الموت أو المرض أو الفقر أو القحط ونحو ذلك فيعلم أنها من الله تعالى فيسلم لقضاء الله تعالى ويسترجع فذلك قوله يَهْدِ قَلْبَهُ أي للتسليم لأمر الله ونظيره قوله الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ إلى قوله أُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 156 157 ) قال أهل المعاني يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما يهد قلبه إلى ما يحب ويرضى وقرىء أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ بالنون وعن عكرمة يَهْدِ قَلْبَهُ بفتح الدال وضم الياء وقرىء يهدأ قال الزجاج هدأ قلبه يهدأ إذا سكن والقلب بالرفع والنصب ووجه النصب أن يكون مثل مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ يحتمل أن يكون إشارة إلى اطمئنان القلب عند المصيبة وقيل عليم بتصديق من صدق رسوله فمن صدقه فقد هدى قلبه وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فيما جاء به من عند الله يعني هونوا المصائب والنوازل واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه
وقوله فَإِن تَوَلَّيْتُمْ أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ الظاهر والبيان البائن وقوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ يحتمل أن يكون هذا من جملة ما تقدم من الأوصاف الحميدة لحضرة الله تعالى من قوله لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ ( التغابن 1 ) فإن من كان موصوفاً بهذه الصفات ونحوها فَهُوَ الَّذِى لا إله إِلاَّ هُوَ أي لا معبود إلا هو ولا مقصود إلا هو عليه التوكل في كل باب وإليه المرجع والمآب وقوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بيان أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به لما أنه يعتقد أن القادر بالحقيقة ليس إلا هو وقال في ( الكشاف ) هذا بعث لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على التوكل عليه والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه فإن قيل كيف يتعلق مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ بما قبله ويتصل به نقول يتعلق بقوله تعالى قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ ( التغابن 8 ) لما أن من يؤمن بالله فيصدقه يعلم ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
قال الكلبي كان الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به بنوه وزوجته فقالوا أنت تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهله ويقيم فحذرهم الله طاعة نسائهم وأولادهم ومنهم من لا يطيع ويقول أما والله لو لم نهاجر ويجمع الله بيننا وبينكم في دار الهجرة لا ننفعكم شيئاً أبداً فلما جمع الله بينهم أمرهم أن ينفقوا ويحسنوا ويتفضلوا وقال مسلم الخراساني نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان أهله وولده يثبطونه عن الهجرة والجهاد وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم فهو قوله عدواً لكم فاحذروهم أن تطيعوا وتدعوا الهجرة وقوله تعالى وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ قال هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه الهجرة وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير فنزل وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ الآية يعني أن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ينهون عن الإسلام ويثبطون عنه وهم من الكفار فاحذروهم فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدواً لهم وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا عن الهجرة نزل إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تطيعوهم في معصية الله تعالى وفتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة وقيل أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جميع ما يقع بهم في الفتنة وهذا عام يعم جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله كغصب مال الغير وغيره وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي جزيل وهو الجنة أخبر أن عنده أجراً عظيماً ليتحملوا المؤونة العظيمة والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم وقوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قال مقاتل أي ما أطقتم يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) ومنهم من طعن فيه وقال لا يصح لأن قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لأنه فوق الطاقة والاستطاعة وقوله اسمعوا أي لله ولرسوله ولكتابه وقيل لما أمركم الله ورسوله به اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الله فيما يأمركم وَأَنْفِقُواْ من أموالكم في حق الله خيراً لأنفسكم والنصب بقوله وَأَنْفِقُواْ كأنه قيل وقدموا خيراً لأنفسكم وهو كقوله يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ ( النساء 170 ) وقوله تعالى وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح هو البخل وإنه يعم المال وغيره يقال فلان شحيح بالمال وشحيح بالجاه وشحيح بالمعروف وقيل يوق ظلم نفسه فالشح هو الظلم ومن كان بمعزل عن الشح فذلك من أهل الفلاح فإن قيل إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ يدل على أن الأموال والأولاد كلها من الأعداء و إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ يدل على أن بعضهم من الأعداء دون البعض فنقول هذا في حيز المنع فإنه لا يلزم أن يكون البعض من المجموع الذي مر ذكره من الأولاد يعني من الأولاد من يمنع ومنهم من لا يمنع فيكون البعض منهم عدواً دون البعض
ثم قال تعالى
إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
اعلم أن قوله إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي إن تنفقوا في طاعة الله متقاربين إليه يجزكم بالضعف لما أنه شكور يحب المتقربين إلى حضرته حليم لا يعجل بالعقوبة غفور يغفر لكم والقرض الحسن عند بعضهم هو التصدق من الحلال وقيل هو التصدق بطيبة نفسه والقرض هو الذي يرجى مثله وهو الثواب مثل الإنفاق في سبيل الله وقال في ( الكشاف ) ذكر القرض تلطف في الاستدعاء وقوله يُضَاعِفْهُ لَكُمْ أي يكتب لكم بالواحدة عشرة وسبعمائة إلى ما شاء من الزيادة وقرىء ( يضعفه ) شَكُورٍ مجاز أي يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب وكذلك حليم يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء فلا يعاجلكم بالعذاب مع كثرة ذنوبكم ثم لقائل أن يقول هذه الأفعال مفتقرة إلى العلم والقدرة والله تعالى ذكر العلم دون القدرة فقال عَالِمُ الْغَيْبِ فنقول قوله الْعَزِيزُ يدل على القدرة من عز إذا غلب و الْحَكِيمُ على الحكمة وقيل العزيز الذي لا يعجزه شيء والحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير والله تعالى كذلك فيكون عالماً قادراً حكيماً جل ثناؤه وعظم كبرياؤه والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً
سورة الطلاق
إثنتا عشرة آية مدنيةياأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّة َ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّة َ
أما التعلق بما قبلها فذلك أنه تعالى قال في أول تلك السورة لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ ( التغابن 1 ) والملك يفتقر إلى التصرف على وجه يحصل منه نظام الملك والحمد يفتقر إلى أن ذلك التصرف بطريق العدل والإحسان في حق المتصرف فيه وبالقدرة على من يمنعه عن التصرف وتقرير الأحكام في هذه السورة متضمن لهذه الأمور المفتقرة إليها تضمناً لا يفتقر إلى التأمل فيه فيكون لهذه السورة نسبة إلى تلك السورة وأما الأول بالآخر فلأنه تعالى أشار في آخر تلك السورة إلى كمال علمه بقوله عَالِمُ الْغَيْبِ ( التغابن 18 ) وفي أول هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام المخصوصة بطلاقهن فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات وقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طلق حفصة فأتت إلى أهلها فنزلت وقيل راجعها فإنها صوامة قوامة وعلى هذا إنما نزلت الآية بسبب خروجها إلى أهلها لما طلقها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله في هذه الآية وَلاَ يَخْرُجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ وقال الكلبي إنه عليه السلام غضب على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة فنزلت وقال السدي نزلت في عبد الله بن عمر لما طلق امرأته حائضاً والقصة في ذلك مشهورة وقال مقاتل إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل ابن عمر وهم عمرو بن سعيد بن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت فيهم وفي قوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء وجهان أحدهما أنه نادى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم خاطب أمته لما أنه سيدهم وقدوتهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب قال أبو إسحق هذا خطاب النبي عليه السلام والمؤمنون داخلون معه في الخطاب وثانيهما أن المعنى يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فأضمر القول وقال الفراء خاطبه وجعل الحكم للجميع كما تقول للرجل ويحك أما تتقون الله أما
تستحيون تذهب إليه وإلى أهل بيته و إِذَا طَلَّقْتُمُ أي إذا أردتم التطليق كقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ( المائدة 6 ) أي إذا أردتم الصلاة وقد مر الكلام فيه وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال عبد الله إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها طاهراً من غير جماع وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل والحسن قالوا أمر الله تعالى الزوج بتطليق امرأته إذا شاء الطلاق في طهر لم يجامعها فيه وهو قوله تعالى لِعِدَّتِهِنَّ أي لزمان عدتهن وهو الطهر بإجماع الأمة وقيل لإظهار عدتهن وجماعة من المفسرين قالوا الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرة من غير جماع وبالجملة فالطلاق في حال الطهر لازم وإلا لا يكون الطلاق سنياً والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآيسة والحامل إذ لا سنة في الصغير وغير المدخول بها والآيسة والحامل ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء وليس في عدد الطلاق سنة وبدعة على مذهب الشافعي حتى لو طلقها ثلاثاً في طهر صحيح لم يكن هذا بدعياً بخلاف ما ذهب إليه أهل العراق فإنهم قالوا السنة في عدد الطلاق أن يطلق كل طلقة في طهر صحيح وقال صاحب ( النظم ) فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ صفة للطلاق كيف يكون وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة للإضافة وهي أصلها ولبيان السبب والعلة كقوله تعالى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( الإنسان 9 ) وبمنزلة عند مثل قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) أي عنده وبمنزلة في مثل قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( الحشر 2 ) وفي هذه الآية بهذا المعنى لأن المعنى فطلقوهن في عدتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن فقال صاحب ( الكشاف ) فطلقوهن مستقبلات لعدتهن كقوله أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلاً لها وفي قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قبل عدتهن ) فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة العدة المراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه يخلين إلى أن تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات وقال مالك بن أنس لا أعرف طلاقاً إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض ما هكذا أمرك الله تعالى إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت والشافعي يراعي الوقت وحده وقوله تعالى وَأَحْصُواْ الْعِدَّة َ أي أقراءها فاحتفظوا لها واحفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة واحفظوا نفس ما تعتدون به وهو عدد الحيض ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج يحتمل وجهين أحدهما أنهم هم الذين يلزمهم الحقوق والمؤن وثانيهما ليقع تحصين الأولاد في العدة ثم في الآية مباحث
الأول ما الحكمة في إطلاق السنة وإطلاق البدعة نقول إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها عن عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلقة التي لا هي معتدة ولا ذات بعل والعقول تستقبح الإضرار وإذا كانت طاهرة مجامعة لم يؤمن أن قد علقت من ذلك الجمع بولد ولو علم الزوج لم يطلقها وذلك أن الرجل
قد يرغب في طلاق امرأته إذا لم يكن بينهما ولد ولا يرغب في ذلك إذا كانت حاملاً منه بولد فإذا طلقها وهي مجامعة وعنده أنها حائل في ظاهر الحال ثم ظهر بها حمل ندم على طلاقها ففي طلاقه إياها في الحيض سوء نظر للمرأة وفي الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وقد حملت فيه سوء نظر للزوج فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أمن هذان الأمران لأنها تعتد عقب طلاقه إياها فتجري في الثلاثة قروء والرجل أيضاً في الظاهر على أمان من اشتمالها على ولد منه
الثاني هل يقع الطلاق المخالف للسنة نقول نعم وهو آثم لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال له ( أو تلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم )
الثالث كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو غير ذلك نقول الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر وقال محمد وزفر لا يطلق للسنة إلا واحدة وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ولا يراعى الوقت
الرابع هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة نقول اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا والظاهر الكراهة
الخامس إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغار والحوامل فكيف يصح تخصيصه بذوات الأقراء والمدخول بهن نقول لا عموم ثمة ولا خصوص أيضاً لكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فلما قيل فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض كذا ذكره في ( الكشاف )
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ
قوله اتَّقُواْ اللَّهَ قال مقاتل اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم و لاَ تُخْرِجُوهُنَّ أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق فإن كانت المساكن عارية فارتجعت كان على الأزواج أن يعينوا مساكن أخرى بطريق الشراء أو بطريق الكراء أو بغير ذلك وعلى الزوجات أيضاً أن لا يخرجن حقاً لله تعالى إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت ليلاً أو نهاراً كان ذلك الخروج حراماً ولا تنقطع العدة
وقوله تعالى إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ قال ابن عباس هو أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن
قال الضحاك الأكثرون فالفاحشة على هذا القول هي الزنا وقال ابن عمر الفاحشة خروجهن قبل انقضاء العدة قال السدي والباقون الفاحشة المبينة هي العصيان المبين وهو النشوز وعن ابن عباس إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن وسوء خلقهن فيحل للأزواج إخراجهن من بيوتهن وفي الآية مباحث
البحث الأول هل للزوجين التراضي على إسقاطها نقول السكنى الواجبة في حال قيام الزوجية حق للمرأة وحدها فلها إبطالها ووجه هذا أن الزوجين ما داما ثابتين على النكاح فإنما مقصودهما المعاشرة والاستمتاع ثم لا بد في تمام ذلك من أن تكون المرأة مستعدة له لأوقات حاجته إليها وهذا لا يكون إلا بأنه يكفيها في نفقتها كطعامها وشرابها وأدمها ولباسها وسكناها وهذه كلها داخلة في إحصاء الأسباب التي بها يتم كل ما ذكرنا من الاستمتاع ثم ما وراء ذلك من حق صيانة الماء ونحوها فإن وقعت الفرقة زال الأصل الذي هو الانتفاع وزواله بزوال الأسباب الموصلة إليه من النفقة عليها واحتيج إلى صيانة الماء فصارت السكنى في هذه الحالة بوجوبها الإحصاء لأسبابها لأن أصلها السكنى لأن بها تحصينها فصارت السكنى في هذه الحالة لا اختصاص لها بالزوج وصيانة الماء من حقوق الله ومما لا يجوز التراضي من الزوجين على إسقاطه فلم يكن لها الخروج وإن رضي الزوج ولا إخراجها وإن رضيت إلا عن ضرورة مثل انهدام المنزل وإخراج غاصب إياها أو نقلة من دار بكراء قد انقضت إجارتها أو خوف فتنة أو سيل أو حريق أو غير ذلك من طريق الخوف على النفس فإذا انقضى ما أخرجت له رجعت إلى موضعها حيث كان الثاني قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ ولم يقل واتقوا الله مقصوراً عليه فنقول فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن لفظ الرب ينبههم على أن التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية الثاني ما معنى الجمع بين إخراجهم وخروجهن نقول معنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك الثالث قرىء بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ و مُّبَيّنَة ٍ فمن قرأ مبينة بالخفض فمعناه أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها تبين أنها فاحشة ومن قرأ مُّبَيّنَة ٍ بالفتح فمعناه أنها مبرهنة بالبراهين ومبينة بالحجج وقوله وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ والحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي والحد في الحقيقة هي النهاية التي ينتهي إليها الشيء قال مقاتل يعود ما ذكر من طلاق السنة وما بعده من الأحكام وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ وهذا تشديد فيمن يتعدى طلاق السنة ومن يطلق لغير العدة فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه ولا يبعد أن يكون المعنى ومن يتجاوز الحد الذي جعله الله تعالى فقد وضع نفسه موضعاً لم يضعه فيه ربه والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وقوله تعالى لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً قال ابن عباس يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها في العدة وهو دليل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقاً قال أبو إسحق إذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى في قوله لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
ثم قال تعالى
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَة َ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَى ْءٍ قَدْراً
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن انقضاء أجل العدة لا انقضاء أجلهن والمراد من بلوغ الأجل هنا مقاربة البلوغ وقد مر تفسيره قال صاحب ( الكشاف ) هو آخر العدة وشارفته فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة وإتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر العدة ثم يطلقها تطويلاً للعدة وتعذيباً لها
وقوله تعالى وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ أي أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة ذوي عدل وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( البقرة 282 ) وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وقيل فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث وقيل الإشهاد إنما أمروا به للاحتياط مخافة أن تنكر المرأة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجاً ثم خاطب الشهداء فقال وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَة َ وهذا أيضاً مر تفسيره وقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً قال الشعبي من يطلق للعدة يجعل الله له سبيلاً إلى الرجعة وقال غيره مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس قال الكلبي ومن يصبر على المصيبة يجعل الله له مخرجاً من النار إلى الجنة وقرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة وقال أكثر أهل التفسير أنزل هذا وما بعده في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابناً له فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة فقال له ( اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ) ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلاً وجاء بها إلى أبيه وقال صاحب ( الكشاف ) فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فذلك قوله ويرزقه من حيث لا يحتسب ويجوز أنه إن اتقى الله وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وقال في ( الكشاف ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة كما مر وقوله تعالى وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي من وثق به فيما ناله كفاه الله ما أهمه ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ) وقرىء إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ بالإضافة مَا أَمَرَهُ أي نافذ أمره وقرأ المفضل مَا أَمَرَهُ على أن قوله قَدْ جَعَلَ خبر ءانٍ و مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَى ْء قَدْراً أي تقديراً وتوقيتاً وهذا بيان لوجوب التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه قال الكلبي ومقاتل لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه قدر الله تعالى ذلك كله لا يقدم
ولا يؤخر وقال ابن عباس يريد قدرت ما خلقت بمشيئتي وقوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إلى قوله مَخْرَجاً آية ومنه إلى قوله قَدْراً آية أخرى عند الأكثر وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة ثم في هذه الآية لطيفة وهي أن التقوي في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال فقال تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وقريب من هذا قوله إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( النور 32 ) فإن قيل وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يدل على عدم الاحتياج للكسب في طلب الرزق وقوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 ) يدل على الاحتياج فكيف هو نقول لا يدل على الاحتياج لأن قوله فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ للإباحة كما مر والإباحة مما ينافي الاحتياج إلى الكسب لما أن الاحتياج مناف للتخيير
ثم قال تعالى
وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاٌّ حْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
قوله وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية ذكر الله تعالى في سورة البقرة عدة ذوات الأقراء والمتوفى عنها زوجها وذكر عدة سائر النسوة اللائي لم يذكرن هناك في هذه السورة وروي أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض فما عدة التي لم تحض فنزل وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن أشكل عليكم حكمهن في عدة التي لا تحيض فهذا حكمهن وقيل إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ الإياس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ فلما نزل قوله تعالى فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ قام رجل فقال يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض فنزل وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ أي هي بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر فقام آخر وقال وما عدة الحوامل يا رسول الله فنزل وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ معناه أجلهن في انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل وهذا عام في كل حامل وكان علي عليه السلام يعتبر أبعد الأجلين ويقول وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ( البقرة 234 ) لا يجوز أن يدخل في قوله وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ وذلك لأن أولات الأحمال إنما هو في عدة الطلاق وهي لا تنقض عدة الوفاة إذا كانت بالحيض وعند ابن عباس عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين وأما ابن مسعود فقال يجوز أن يكون قوله وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ مبتدأ خطاب ليس بمعطوف على قوله تعالى وَاللاَّئِى يَئِسْنَ ولما كان مبتدأ يتناول العدد كلها ومما يدل عليه خبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوماً فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تتزوج فدل على إباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال وقال الحسن إن وضعت
أحد الولدين انقضت عدتها واحتج بقوله تعالى أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ولم يقل أحمالهن لكن لا يصح وقرىء ( أحمالهن ) وقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح وقال عطاء يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة وقوله ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ يعني الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله بطاعته ويعمل بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يكفر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ويعظم له في الآخرة أجراً قاله ابن عباس فإن قيل قال تعالى أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ولم يقل أن يلدن نقول الحمل اسم لجميع ما في بطنهن ولو كان كما قاله لكانت عدتهن بوضع بعض حملهن وليس كذلك
ثم قال تعالى
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَة ٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
قوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( الطلاق 4 ) كأنه قيل كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل أَسْكِنُوهُنَّ قال صاحب ( الكشاف ) ( من ) صلة والمعنى أسكنوهن حيث سكنتم قال أبو عبيدة مّن وُجْدِكُمْ أي وسعكم وسعتكم وقال الفراء على قدر طاقتكم وقال أبو إسحاق يقال وجدت في المال وجداً أي صرت ذا مال وقرىء بفتح الواو أيضاً وبخفضها والوجد الوسع والطاقة وقوله وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ نهي عن مضارتهن بالتضييق عليهن في السكنى والنفقة وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهذا بيان حكم المطلقة البائنة لأن الرجعية تستحق النفقة وإن لم تكن حاملاً وإن كانت مطلقة ثلاثاً أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً وعند مالك والشافعي ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا سكنى لك ولا نفقة وقوله أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن يعني حق الرضاع وأجرته وقد مر وهو دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها وإلا لم يكن لها أن تأخذ الأجر وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات وإلا لكان لها بعض الأجر دون الكل وقوله تعالى وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قال عطاء يريد بفضل معروفاً منك وقال مقاتل بتراضي الأب والأم وقال المبرد ليأمر
بعضكم بعضاً بالمعروف والخطاب للأزواج من النساء والرجال والمعروف ههنا أن لا يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا هي في حق الولد ورضاعه وقد مر تفسير الائتمار وقيل الائتمار التشاور في إرضاعه إذا تعاسرت هي وقوله تعالى وَإِن تَعَاسَرْتُمْ أي في الأجرة فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى غير الأم ثم بين قدر الإنفاق بقوله لِيُنفِقْ ذُو سَعَة ٍ مّن سَعَتِهِ أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات على قدر سعتهم ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على مقدار ذلك ونظيره عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( البقرة 236 ) وقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا أي ما أعطاها من الرزق قال السدي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني وقوله سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء وكان الغالب في ذلك الوقت الفقر والفاقة فأعلمهم الله تعالى أن يجعل بعد عسر يسراً وهذا كالبشارة لهم بمطلوبهم ثم في الآية مباحث
الأول إذا قيل ( من ) في قوله مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ما هي نقول هي التبعيضية أي بعض مكان سكناكم إن لم يكن ( لكم ) غير بيت واحد فأسكنوها في بعض جوانبه
الثاني ما موقع مّن وُجْدِكُمْ نقول عطف بيان لقوله مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم وتفسير له أي مكاناً من مسكنكم على قدر طاقتكم
الثالث فإذا كانت كل مطلقة عندكم يجب لها النفقة فما فائدة الشرط في قوله تعالى وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ نقول فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار مدة الحمل فنفى ذلك الظن
ثم قال تعالى
وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَة ُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً
قوله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ الكلام في كأين قد مر وقوله عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وصف القرية بالعتو والمراد أهلها كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) قال ابن عباس عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا أي أعرضت عنه وقال مقاتل خالفت أمر ربها وخالفت رسله فحاسبناها حساباً شديداً فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب وهو قوله وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً أي عذاباً منكراً عظيماً فسر المحاسبة بالتعذيب وقال
الكلبي هذا على التقديم والتأخير يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً والمراد حساب الآخرة وعذابها فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا أي شدة أمرها وعقوبة كفرها وقال ابن عباس عاقبة كفرها وَكَانَ عَاقِبَة ُ أَمْرِهَا خُسْراً أي عاقبة عتوها خساراً في الآخرة وهو قوله تعالى أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمداً فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم وقوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ خطاب لأهل الإيمان أي فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله وقوله قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً هو على وجهين أحدهما أنزل الله إليكم ذكراً هو الرسول وإنما سماه ذكراً لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم وثانيهما أنزل الله إليكم ذكراً وأرسل رسولاً وقال في ( الكشاف ) رَسُولاً هو جبريل عليه السلام أبدل من ذِكْراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر والذكر قد يراد به الشرف كما في قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وقد يراد به القرآن كما في قوله تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ ( النحل 44 ) وقرىء ( رسول ) على هو رسول و يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ بالخفض والنصب والآيات هي الحجج فبالخفض لأنها تبين الأمر والنبي والحلال والحرام ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده
وقوله تعالى لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ يعني من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم
وفي الآية مباحث
الأولى قوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ يتعلق بقوله تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا أم لا فنقول قوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ يؤكد قول من قال المراد من قرية أهلها لما أنه يدل على أن خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول فمن لا عقل له فلا خطاب عليه وقيل قوله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ مشتمل على الترهيب والترغيب
الثاني الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة فكيف يقال لهم فَاتَّقُواْ اللَّهَ نقول للتقوى درجات ومراتب فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك
الثالث كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ أن يقال ليخرج الذين كفروا نقول يمكن أن يكون المراد ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ( آل عمران 55 ) أي وإذ يقول الله ويمكن أن يكون ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم
ثم قال تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً
قوله وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب وقرىء يُدْخِلْهُ بالياء والنون و قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ زُرْقاً قال الزجاج رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل رِزْقاً أي طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة ونظيره رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( البقرة 201 )
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاٌّ مْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عِلْمَا
قال الكلبي خلق سبع سموات بعضها فوق بعض مثل القبة ومن الأرض مثلهن في كونها طباقاً متلاصقة كما هو المشهور أن الأرض ثلاث طبقات طبقة أرضية محضة وطبقة طينية وهي غير محضة وطبقة منكشفة بعضها في البحر وبعضها في البر وهي المعمورة ولا بعد في قوله وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ من كونها سبعة أقاليم على حسب سبع سموات وسبع كواكب فيها وهي السيارة فإن لكل واحد من هذه الكواكب خواص تظهر آثار تلك الخواص في كل إقليم من أقاليم الأرض فتصير سبعة بهذا الاعتبار فهذه هي الوجوه التي لا يأباها العقل وما عداها من الوجوه المنقولة عن أهل التفسير فذلك من جملة ما يأباها العقل مثل ما يقال السموات السبع أولها موج مكفوف وثانيها صخر وثالثها حديد ورابعها نحاس وخامسها فضة وسادسها ذهب وسابعها ياقوت وقول من قال بين كل واحدة منها مسيرة خمسمائة سنة وغلظ كل واحدة منها كذلك فذلك غير معتبر عند أهل التحقيق اللهم إلا أن يكون نقل متوتر ( اً ) ويمكن أن يكون أكثر من ذلك والله أعلم بأنه ما هو وكيف هو فقوله اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ مبتدأ وخبر وقرىء مِثْلَهُنَّ بالنصب عطفاً على سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وبالرفع على الإبتداء وخبره مّنَ الاْرْضِ وقوله تعالى يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ قال عطاء يريد الوحي بينهن إلى خلقه في كل أرض وفي كل سماء وقال مقاتل يعني الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى وقال مجاهد يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلاً وقال قتادة في كل سماء من سماواته وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه وقرىء يُنَزّلٍ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ قوله تعالى لّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ قرىء لِيَعْلَمُواْ بالياء والتاء أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ من قبل ما تقدم ذكره وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَى ْء عِلْمَا يعني بكل شيء من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء عالم بجميع الأشياء وقادر على الإنشاء بعد الإفناء فتبارك الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة التحريم
اثنتا عشرة آية مدنيةياأَيُّهَا النَّبِى ُّلِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
أما التعلق بما قبلها فذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء واشتراك الخطاب بالطلاق في أول تلك السورة مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة لما كان الطلاق في الأكثر من الصور أو في الكل كما هو مذهب البعض مشتملاً على تحريم ما أحل الله وأما الأول بالآخر فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدل على عظمة حضرة الله تعالى كما أنه يدل على كمال قدرته وكمال علمه لما كان خلق السموات والأرض وما فيهما من الغرائب والعجائب مفتقراً إليهما وعظمة الحضرة مما ينافي القدرة على تحريم ما أحل الله ولهذا قال تعالى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ واختلفوا في الذي حرمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على نفسه قال في ( الكشاف ) روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية وروي أن عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك فنزل جبريل عليه السلام وقال راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وروي أنه ما طلقها وإنما نوه بطلاقها وروي أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له إنا نشم منك ريح المغافير وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكره التفل فحرم العسل فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل والأول قول الحسن ومجاهد وقتادة والشعبي ومسروق ورواية ثابت عن أنس قال مسروق حرم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم ولده وحلف أن لا يقربها فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له أما الحرام فحلال وأما اليمين التي حلفت عليها فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وقال
الشعبي كان مع الحرام يمين فعوتب في الحرام وإنما يكفر اليمين فذلك قوله تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ الآية قال صاحب ( النظم ) قوله لِمَ تُحَرّمُ استفهام بمعنى الإنكار والإنكار من الله تعالى نهي وتحريم الحلال مكروه والحلال لا يحرم إلا بتحريم الله تعالى وقوله تعالى تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ و تَبْتَغِى حال خرجت مخرج المضارع والمعنى لم تحرم مبتغياً مرضات أزواجك قال في ( الكشاف ) تَبْتَغِى إما تفسير لتحرم أو حال أو استئناف وهذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قد غفر لك ما تقدم من الزلة رَّحِيمٌ قد رحمك لم يؤاخذك به ثم في الآية مباحث
البحث الأول لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب وخطاب الوصف وهو النبي ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم فكيف هو نقول الظاهر أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن كما ينبغي
البحث الثاني تحريم ما أحل الله تعالى غير ممكن لما أن الإحلال ترجيح جانب الحل والتحريم ترجيح جانب الحرمة ولا مجال للاجتماع بين الترجيحين فكيف يقال لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ نقول المراد من هذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحل الله تعالى فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) امتنع عن الانتفاع معها مع اعتقاده بكونه حلالاً ومن اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله تعالى بعينه فقد كفر فكيف يضاف إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مثل هذا
البحث الثالث إذا قيل ما حكم تحريم الحلال نقول اختلفت الأئمة فيه فأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيء ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين وإن نوى ثلاثاً فكما نوى فإن قال نويت الكذب دين فيما بينه وبين ربه ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء وإن قال كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى ولا يراه الشافعي يميناً ولكن سبباً ( في الكفارة ) في النساء وحدهن وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده وأما اختلاف الصحابة فيه فكما هو في ( الكشاف ) فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك
ثم قال تعالى
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِى ّإِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِى َ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ قال مقاتل قد بين الله كما في قوله تعالى سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ( النور 1 ) وقال الباقون قد أوجب قال صاحب ( النظم ) إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كما في قوله تعالى قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ
( الأحزاب 50 ) وإذا وصل باللام احتمل الوجهين وقوله تعالى تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ أي تحليلها بالكفارة وتحلة على وزن تفعلة وأصله تحللة وتحلة القسم على وجهين أحدهما تحليله بالكفارة كالذي في هذه الآية وثانيهما أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما روي في الحديث ( لن يلج النار إلا تحلة القسم ) يعني زماناً يسيراً وقرىء ( كفارة أيمانكم ) ونقل جماعة من المفسرين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلف أن لا يطأ جاريته فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الحرام يمين يعني إذا قال أنت علي حرام ولم ينو طلاقاً ولا ظهاراً كان هذا اللفظ موجباً لكفارة يمين وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ أي وليكم وناصركم وهو العليم بخلقه الحكيم فيما فرض من حكمه وقوله تعالى وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِى ُّ إِلَى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه واستكتمها ذلك وقيل لما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين تحريم الأمة على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر قاله ابن عباس وقوله فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت به عائشة وأظهره الله عليه أطلع نبيه على قول حفصة لعائشة فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حفصة عند ذلك ببعض ما قالت وهو قوله تعالى عَرَّفَ بَعْضَهُ حفصة وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ لم يخبرها أنك أخبرت عائشة على وجه التكرم والإغضاء والذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر وعمر وقرىء ( عرف ) مخففاً أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك وقد عرفت ما صنعت قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ ( النساء 63 ) أي يجازيهم وهو يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين وقوله تعالى فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ حفصة مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِى َ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ وصفه بكون خبيراً بعد ما وصفه بكون عليماً لما أن في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم وفي الآية مباحث
البحث الأول كيف يناسب قوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ إلى قوله لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) نقول يناسبه لما كان تحريم المرأة يميناً حتى إذا قال لامرأته أنت علي حرام فهو يمين ويصير مولياً بذكره من بعد ويكفر
البحث الثاني ظاهر قوله تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ إنه كانت منه يمين فهل كفر النبي عليه الصلاة والسلام لذلك نقول عن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية
ثم قال تعالى
إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
قوله إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ خطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما والتوبة من التعاون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالإيذاء فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا أي عدلت ومالت عن الحق وهو حق الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك حق عظيم يوجد فيه استحقاق العتاب بأدنى تقصير وجواب الشرط محذوف للعلم به على تقدير كان خيراً لكما والمراد بالجمع في قوله تعالى قُلُوبُكُمَا التثنية قال الفراء وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح إثنان إثنان في الإنسان كاليدين والرجلين والعينين فلما جرى أكثره على ذلك ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى إثنين مذهب الإثنين وقد مر هذا وقوله تعالى وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ أي وإن تعاونا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالإيذاء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ أي لم يضره ذلك التظاهر منكما ومولاه أي وليه وناصره مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ رأس الكروبيين قرن ذكره بذكره مفرداً له من الملائكة تعظيماً له وإظهاراً لمكانته ( عنده ) وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يريد أبا بكر وعمر مواليين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على من عاداه وناصرين له وهو قول المقاتلين وقال الضحاك خيارالمؤمنين وقيل من صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحاً وقيل من برىء منهم من النفاق وقيل الأنبياء كلهم وقيل الخلفاء وقيل الصحابة وصالح ههنا ينوب عن الجمع ويجوز أن يراد به الواحد والجمع وقوله تعالى وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ أي بعد حضرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ظَهِيرٍ أي فوج مظاهر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأعوان له وظهير في معنى الظهراء كقوله وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) قال الفراء والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير قال أبو علي وقد جاء فعيل مفرداً يراد به الكثرة كقوله تعالى وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ( المعارج 10 11 ) ثم خوف نساءه بقوله تعالى عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مّنكُنَّ قال المفسرون عسى من الله واجب وقرأ أهل الكوفة أَن يُبْدِلَهُ بالتخفيف ثم إنه تعالى كان عالماً أنه لا يطلقهن لكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهم تخويفاً لهن والأكثر في قوله طَلَّقَكُنَّ الإظهار وعن أبي عمرو إدغام القاف في الكاف لأنهما من حروف الفم ثم وصف الأزواج اللاتي كان يبدله فقال مُسْلِمَاتٍ أي خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِنَاتٍ مصدقات بتوحيد الله تعالى مخلصات قَانِتَاتٍ طائعات وقيل قائمات بالليل للصلاة وهذا أشبه لأنه ذكر السائحات بعد هذا والسائحات الصائمات فلزم أن يكون قيام الليل مع صيام النهار وقرىء ( سيحات ) وهي أبلغ وقيل للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه فشبه بالصائم الذي يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره وقيل سائحات مهاجرات ثم قال تعالى ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً لأن أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار فالذكر على حسب ما وقع وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس على حسب الشهوة والرغبة بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى وفي الآية مباحث
البحث الأول قوله بَعْدَ ذَلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم وقرىء تَظَاهَرَا و تتظاهرا و سِحْرَانِ تَظَاهَرَا
البحث الثاني كيف يكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين نقول إذا طلقهن الرسول لعصيانهن له وإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله خيراً منهن
البحث الثالث قوله مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ يوهم التكرار والمسلمات والمؤمنات على السواء نقول الإسلام هو التصديق باللسان والإيمان هو التصديق بالقلب وقد لا يتوافقان فقوله مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ تحقيق للتصديق بالقلب واللسان
البحث الرابع قال تعالى ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً بواو العطف ولم يقل فيما عداهما بواو العطف نقول قال في ( الكشاف ) إنها صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات ( فلم يكن بد من الواو )
البحث الخامس ذكر الثيبات في مقام المدح وهي من جملة ما يقلل رغبة الرجال إليهن نقول يمكن أن يكون البعض من الثيب خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول لاختصاصهن بالمال والجمال أو النسب أو المجموع مثلاً وإذا كان كذلك فلا يقدح ذكر الثيب في المدح لجواز أن يكون المراد مثل ما ذكرناه من الثيب
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ عَلَيْهَا مَلَائِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
قُواْ أَنفُسَكُمْ أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه وقال مقاتل أن يؤدب المسلم نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر وقال في ( الكشاف ) قُواْ أَنفُسَكُمْ بترك المعاصي وفعل الطاعات وَأَهْلِيكُمْ بأن تؤاخذوهم بما تؤاخذون به أنفسكم وقيل قُواْ أَنفُسَكُمْ مما تدعو إليه أنفسكم إذ الأنفس تأمرهم بالشر وقرىء وأهلوكم عطفاً على واو ءامَنُواْ قُواْ وحسن العطف للفاصل و نَارًا نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة وعن ابن عباس هي حجارة الكبريت لأنها أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها وقرىء وَقُودُهَا بالضم وقوله عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم غِلاَظٌ شِدَادٌ في أجرامهم غلظة وشدة أي جفاء وقوة أو في أفعالهم جفاء وخشونة ولا يبعد أن يكونوا بهذه الصفات في خلقهم أو في أفعالهم بأن يكونوا أشداء على أعداء الله رحماء على أولياء الله كما قال تعالى أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) وقوله تعالى وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يدل على اشتدادهم لمكان الأمر لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله تعالى والانتقام من أعدائه وفيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به وبما ينهاهم عنه والعصيان منهم مخالفة للأمر والنهي
وقوله تعالى يُؤْمَرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ لما ذكر شدة العذاب بالنار واشتداد الملائكة في
انتقام الأعداء فقال لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم إذ الاعتذار هو التوبة والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار وقوله تعالى إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب في الحكمة وفي الآية مباحث
البحث الأول أنه تعالى خاطب المشركين في قوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ وقال أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 ) جعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته به المؤمنين نقول الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا قُواْ أَنفُسَكُمْ باجتناب الفسق مجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد
البحث الثاني كيف تكون الملائكة غلاظاً شداداً وهم من الأرواح فنقول الغلظة والشدة بحسب الصفات لما كانوا من الأرواح لا بحسب الذات وهذا أقرب بالنسبة إلى الغير من الأقوال
البحث الثالث قوله تعالى لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ في معنى قوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فما الفائدة في الذكر فنقول ليس هذا في معنى ذلك لأن معنى الأول أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا ينكرونها ومعنى الثاني أنهم ( يؤدون ) ما يؤمرون به كذا ذكره في ( الكشاف )
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
قوله تَوْبَة ً نَّصُوحاً أي توبة بالغة في النصح وقال الفراء نصوحاً من صفة التوبة والمعنى توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه وهو أنها الصادقة الناصحة ينصحون بها أنفسهم وعن عاصم نَّصُوحاً بضم النون وهو مصدر نحو العقود يقال نصحت له نصحاً ونصاحة ونصوحاً وقال في ( الكشاف ) وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي وهو أن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة لا يعودون وقيل من نصاحة الثوب أي خياطته و عَسَى رَبُّكُمْ إطماع من الله تعالى لعباده
وقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ نصب بيدخلكم و لا تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسق واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم ثم المعتزلة تعلقوا بقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ
وقالوا الإخزاء يقع بالعذاب فقد وعد بأن لا يعذب الذين آمنوا ولو كان أصحاب الكبائر من الإيمان لم نخف عليهم العذاب وأهل السنة أجابوا عنه بأنه تعالى وعد أهل الإيمان بأن لا يخزيهم والذين آمنوا ابتداء كلام وخبره يَسْعَى أو لا عَبْدُ اللَّهِ ثم من أهل السنة من يقف على قوله يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ أي لا يخزيه في رد الشفاعة والإخزاء الفضيحة أي لا يفضحهم بين يدي الكفار ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة وقوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي عند المشي وَبِأَيْمَانِهِم عند الحساب لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير ويسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم لأن خلفهم وشمالهم طريق الكفرة
وقوله تعالى يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا قال ابن عباس يقولون ذلك عند إطفاء نور المنافقين إشفاقاً وعن الحسن أنه تعالى متمم لهم نورهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى كقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) وهو مغفور وقيل أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطىء قدمه لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه وقيل السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فهم الذين يقولون رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا قاله في ( الكشاف ) وقوله تعالى الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ذكر المنافقين مع أن لفظ الكفار يتناول المنافقين وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي شدد عليهم والمجاهدة قد تكون بالقتال وقد تكون بالحجة تارة باللسان وتارة بالسنان وقيل جاهدهم بإقامة الحدود عليهم لأنهم هم المرتكبون الكبائر لأن أصحاب الرسول عصموا منها وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وقد مر بيانه وفي الآية مباحث
البحث الأول كيف تعلق ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بما سبق وهو قوله عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( التحريم 7 ) فنقول نبههم تعالى على دفع العذاب في ذلك اليوم بالتوبة في هذا اليوم إذ في ذلك اليوم لا تفيد وفيه لطيفة وهي أن التنبيه على الدفع بعد الترهيب فيما مضى يفيد الترغيب بذكر أحوالهم والإنعام في حقهم وإكرامهم
البحث الثاني أنه تعالى لا يخزي النبي في ذلك اليوم ولا الذين آمنوا فما الحاجة إلى قوله مَعَهُ فنقول هي إفادة الاجتماع يعني لا يخزي الله المجموع الذي يسعى نورهم وهذه فائدة عظيمة إذ الاجتماع بين الذين آمنوا وبين نبيهم تشريف في حقهم وتعظيم
البحث الثالث قوله وَاغْفِرْ لَنَا يوهم أن الذنب لازم لكل واحد من المؤمنين والذنب لا يكون لازماً فنقول يمكن أن يكون طلب المغفرة لما هو اللازم لكل ذنب وهو التقصير في الخدمة والتقصير لازم لكل واحد من المؤمنين
البحث الرابع قال تعالى في أول السورة عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ ( التحريم 1 ) ومن بعده الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ خاطبه بوصفه وهو النبي لا باسمه كقوله لآدم يا آدم ولموسى يا موسى ولعيسى يا عيسى نقول خاطبه بهذا الوصف ليدل على فضله عليهم وهذا ظاهر
البحث الخامس قوله تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ يدل على أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً إذ المطلق يدل على الدوام وغير المطلق لا يدل لما أنه يطهرهم عن الآثام
ثم قال تعالى
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَة َ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّة ِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً أي بين حالهم بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير اتقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كانوا فيه من القرابة بينهم وبين نبيهم وإنكارهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما جاء به من عند الله وإصرارهم عليه وقطع العلائق وجعل الأقارب من جملة الأجانب بل أبعد منهم وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً كحال امرأة نوح ولوط لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان وقيل لهما في اليوم الآخر ادخلا النار ثم بين حال المسلمين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم كحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى مع كونها زوجة ظالم من أعداء الله تعالى ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين وهما حفصة وعائشة لما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر وضرب مثلاً آخر في امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وقيل هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه وتلقف العصا فعذبها فرعون عذاباً شديداً بسبب الإيمان وعن أبي هريرة أنه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت رب نجني من فرعون فرقى بروحها إلى الجنة فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه قال الحسن رفعها إلى الجنة تأكل فيها وتشرب وقيل لما قالت رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّة ِ رأت بيتها في الجنة يبنى لأجلها وهو من درة واحدة والله أعلم كيف هو وما هو وفي الآية مباحث
البحث الأول ما فائدة قوله تعالى مّنْ عِبَادِنَا نقول هو على وجهين أحدهما تعظيماً لهم كما مر الثاني إظهاراً للعبد بأنه لا يترجح على الآخر عنده إلا بالصلاح
البحث الثاني ما كانت خيانتهما نقول نفاقهما وإخفاؤهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون وامرأة لوط كانت تدل على نزول ضيف إبراهيم ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط وقيل خيانتهما في الدين
البحث الثالث ما معنى الجمع بين عِندَكَ و فِى الْجَنَّة ِ نقول طلبت القرب من رحمة الله ثم بينت مكان القرب بقولها فِى الْجَنَّة ِ أو أرادت ارتفاع درجتها في جنة المأوى التي هي أقرب إلى العرش
ثم قال تعالى
وَمَرْيَمَ ابْنَة َ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
أحصنت أي عن الفواحش لأنها قذفت بالزنا والفرج حمل على حقيقته قال ابن عباس نفخ جبريل في جيب الدرع ومده بأصبعيه ونفخ فيه وكل ما في الدرع من خرق ونحوه فإنه يقع عليه اسم الفرج وقيل أَحْصَنَتْ تكلفت في عفتها والمحصنة العفيفة فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا أي فرج ثوبها وقيل خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان وقوله فِيهِ أي في عيسى ومن قرأ ( فيها ) أي في نفس عيسى والنفث مؤنث وأما التشبيه بالنفخ فذلك أن الروح إذا خلق فيه انتشر في تمام الجسد كالريح إذا نفخت في شيء وقيل بالنفخ لسرعة دخوله فيه نحو الريح وصدقت بكلمات ربها قال مقاتل يعني بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن ( بكلمة ربها ) وسمي عيسى ( كلمة الله ) في مواضع من القرآن وجمعت تلك الكلمة هنا وقال أبو علي الفارسي الكلمات الشرائع التي شرع لها دون القول فكأن المعنى صدقت الشرائع وأخذت بها وصدقت الكتب فلم تكذب والشرائع سميت بكلمات كما في قوله تعالى وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( البقرة 124 ) وقوله تعالى صَدَّقْتَ قرىء بالتخفيف والتشديد على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة يعني وصفتها بالصدق وهو معنى التصديق بعينه وقرىء ( كلمة ) و ( كلمات ) و ( كتبه ) و ( كتابه ) والمراد بالكتاب هو الكثرة والشياع أيضاً قوله تعالى وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ الطائعين قاله ابن عباس وقال عطاء من المصلين وفي الآية مباحث
البحث الأول ما كلمات الله وكتبه نقول المراد بكلمات الله الصحف المنزلة على إدريس وغيره وبكتبه الكتب الأربعة وأن يراد جميع ما كلم الله تعالى ( به ) ملائكته وما كتبه في اللوح المحفوظ وغيره وقرىء بِكَلِمَة ٍ اللَّهِ أي بعيسى وكتابه وهو الإنجيل فإن قيل ( لم قيل ) وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ على التذكير نقول لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه ومن للتبعيض قاله في ( الكشاف ) وقيل من القانتين لأن المراد هو القوم وأنه عام ك وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( آل عمران 43 ) أي كوني من المقيمن على طاعة الله تعالى ولأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام
وأما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة وامرأة لوط المسماة بواهلة فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى منها التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم والعذاب الأليم ومنها العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد وفساد الغير لا يضر المصلح ومنها أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه كالصادر من امرأتي نوح ولوط ومنها العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة كما أفاد مريم بنت عمران كما أخبر الله تعالى فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ ( آل عمران 42 ) ومنها التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب وإليه المرجع والمآب جلت قدرته وعلت كلمته لا إله إلا هو وإليه المصير والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم
سورة الملك
وهي ثلاثون آية مكيةسورة الملك وتسمى المنجية لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها في القبر وهي ثلاثون آية مكية
تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
أما قوله تَبَارَكَ فقد فسرناه في أول سورة الفرقان وأما قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً كما يقال بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك قال صاحب ( الكشاف ) بِيَدِهِ الْمُلْكُ على كل موجود وَهُوَ عَلَى كُلّ ما لم يوجد من الممكنات قَدِيرٌ وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء فقال قوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ يقتضي كون مقدوره شيئاً فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى إما أن يكون موجوداً أو معدوماً لا جائز أن يكون موجوداً لأنه لو كان قادراً على الموجود لكان إما أن يكون قادراً على إيجاده وهو محال لأن إيجاد الموجود محال وإما أن يكون قادراً على إعدامه وهو محال لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير والعدم نفي محض فيستحيل جعل العدم أثر القدرة فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود فوجب أن يكون معدوماً فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئاً واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئاً بهذه الآية فقالوا لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء والله قادر على كل شيء فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادراً على الجوهر من حيث إنه جوهر وعلى السواد من حيث هو سواد وإذا كان
كذلك كان كون الجوهر جوهراً والسواد سواداً واقعاً بالفاعل والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدماً على فعله فإذاً وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهراً أو السواد سواداً فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئاً وهو المطلوب ثم أجابوا عن شبهة الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل ولئن سلمنا ذلك لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئاً لأجل أنه سيصير شيئاً وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء
المسألة الثانية زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة ومحمود الخوارزمي وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل احتج القاضي بأن الموجودات أشياء والله على كل شيء قدير فهو إذاً قادر على الموجودات فإما أن يكون قادراً على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال أو على إعدامها وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل
المسألة الثالثة زعم الكعبي أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد وقال أصحابنا إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء والله على كل شيء قدير فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين
المسألة الرابعة زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدوراً له وذلك محال لأن ما سوى الله ممكن محدث فيكون أضعف قوة من قدرة الله والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى
المسألة الخامسة هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر فإن لم يقدر ألبتة على إيجاد شيء أصلاً لم يكن إلهاً وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً فيلزم كونه مقدوراً للإله الأول لقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال لأنه إذا كان واحد منهما مستقلاً بالإيجاد يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال
المسألة السادسة احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال لو كان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ لكن كونه قادراً على نفسه محال فيمتنع كونه شيئاً وقال أصحابنا لما دل قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ ( الأنعام 19 ) على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم فإذاً هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع
المسألة السابعة زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل والعبث والظلم
وزعم النظام أنه غير قادر عليه واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فوجب كونه تعالى قادراً عليها
المسألة الثامنة احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزاً عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمراً موجوداً لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشاراً إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزاً عن البعض في الحس وأن يكون مقصداً للمتحرك فإذن لو كان الله تعالى حاصلاً في حيز لكان ذلك الحيز موجوداً ولو كان ذلك الحيز موجوداً لكان شيئاً ولكان مقدور الله لقوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده فيلزم أن يكون الله متقدماً في الوجود على تحقق ذلك الحيز ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققاً من غير حيز وله جهة أصلاً والأزلي لا يزول ألبتة فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلاً وأبداً
المسألة التاسعة أنه تعالى قال أولاً بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثم قال بعده وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله لكان ذلك مشعراً بالعجز والضعف وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق فدل ذلك على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادراً على جميع الأشياء
المسألة العاشرة القدير مبالغة في القادر فلما كان قديراً على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه ألبتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعاً له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعاً له من الفعل فلا يكون كاملاً في القدرة فلا يكون قديراً والله أعلم
الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
قوله تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ فيه مسائل
المسألة الأولى قالوا الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت فقال قوم إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ والعدم لا يكون مخلوقاً هذا هو التحقيق وروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل والتصوير وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه
المسألة الثانية إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه أحدها قال مقاتل يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح وثانيها روى عطاء عن ابن عباس قال يريد
الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان وثالثها أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن منادياً ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح ويزداد أهل النار حزناً إلى حزن ) واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشاً بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم
المسألة الثالثة اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضاً في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم والموت أيضاً نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه قال عليه الصلاة والسلام ( أكثروا من ذكر هازم اللذات ) وقال لقوم ( لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى ) وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه فقال ( كيف ذكره الموت قالوا قليل قال فليس كما تقولون )
قوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات أزلاً وأبداً محال إلا أنا قد حققنا هذه المسألة في تأويل قوله وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( البقرة 124 ) والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه ( الابتلاء ) على المختبر
المسألة الثانية احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله لِيَبْلُوَكُمْ قالوا هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي مجازاً فكذا ههنا فإنه يشبه الغرض وإن لم يكن في نفسه غرضاً فذكر فيه حرف الغرض
المسألة الثالثة اعلم أنا فسرنا الموت والحياة بالموت حال كونه نطفة وعلقة ومضغة والحياة بعد ذلك فوجه الابتلاء على هذا الوجه أن يعلم أنه تعالى هو الذي نقله من الموت إلى الحياة وكما فعل ذلك فلا بد وأن يكون قادراً على أن ينقله من الحياة إلى الموت فيحذر مجيء الموت الذي به ينقطع استدراك ما فات ويستوي فيه الفقير والغني والمولى والعبد وأما إن فسرناهما بالموت في الدنيا وبالحياة في القيامة فالابتلاء فيهما أتم لأن الخوف من الموت في الدنيا حاصل وأشد منه الخوف من تبعات الحياة في القيامة والمراد من الابتلاء أنه هل ينزجر عن القبائح بسبب هذا الخوف أم لا
المسألة الرابعة في تعلق قوله لِيَبْلُوَكُمْ بقوله أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وجهان الأول وهو قول الفراء والزجاج إن المتعلق بأيكم مضمر والتقدير ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً والثاني قال صاحب ( الكشاف ) لِيَبْلُوَكُمْ في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أيكم أحسن عملاً
المسألة الخامسة ارتفعت ( أي ) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام فإنك إذا قلت لا أعلم أيكم أفضل كان المعنى لا أعلم أزيد أفضل أم عمرو واعلم أن مالا يعمل فيما بعد الألف فكذلك لا يعمل في ( أي ) لأن المعنى واحد ونظير هذه الآية قوله سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( القلم 40 ) وقد تقدم الكلام فيه
المسألة السادسة ذكروا في تفسير أَحْسَنُ عَمَلاً وجوهاً أحدها أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل وكذلك إذا كان صواباً غير خالص فالخالص أن يكون لوجه الله والصواب أن يكون على السنة وثانيها قال قتادة سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( يقول أيكم أحسن عقلاً ) ثم قال أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل لأنه يترتب على العقل فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملاً على ما ذكر في حديث قتادة وثالثها روي عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركاً لها واعلم أنه لما ذكر حديث الابتلاء قال بعده وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أي وهو العزيز الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل الغفور لمن تاب من أهل الإساءة
واعلم أن كونه عزيزاً غفوراً لا يتم إلا بعد كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بكل المعلومات أما أنه لا بد من القدرة التامة فلأجل أن يتمكن من إيصال جزاء كل أحد بتمامه إليه سواء كان عقاباً أو ثواباً وأما أنه لا بد من العلم التام فلأجل أن يعلم أن المطيع من هو والعاصي من هو فلا يقع الخطأ في إيصال الحق إلى مستحقه فثبت أن كونه عزيزاً غفوراً لا يمكن ثبوتها إلا بعد ثبوت القدرة التامة والعلم التام فلهذا السبب ذكر الله الدليل على ثبوت هاتين الصفتين في هذا المقام ولما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً لا جرم ذكر أولاً دلائل القدرة وثانياً دلائل العلم
الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ
أما دليل القدرة فهو قوله الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر صاحب ( الكشاف ) في طِبَاقاً ثلاثة أوجه أولها طباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق وهذا وصف بالمصدر وثانيها أن يكون التقدير ذات طباق وثالثها أن يكون التقدير طوبقت طباقاً
المسألة الثانية دلالة هذه السموات على القدرة من وجوه أحدها من حيث إنها بقيت في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة وثانيها من حيث إن كل واحد منها اختص بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص وثالثها أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة
معينة ورابعها كونها في ذواتها محدثة وكل ذلك يدل على استنادها إلى قادر تام القدرة
وأما دليل العلم فهو قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي مِن تَفَاوُتٍ والباقون مِن تَفَاوُتٍ قال الفراء وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر وتعهد وتعاهد وقال الأخفش تَفَاوُتٍ أجود لأنهم يقولون تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون تفوت واختار أبو عبيدة تَفَاوُتٍ وقال يقال تفوت الشيء إذا فات واحتج بما روي في الحديث أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله
المسألة الثانية حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم ( تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب ) وأما ألفاظ المفسرين فقال السدي من تفاوت أي من اختلاف عيب يقول الناظر لو كان كذا كان أحسن وقال آخرون التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ نظيره قوله وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ق 6 ) قال القفال ويحتمل أن يكون المعنى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثاً
المسألة الثالثة الخطاب في قوله مَّا تَرَى إما للرسول أو لكل مخاطب وكذا القول في قوله فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا
المسألة الرابعة قوله طِبَاقاً صفة للسموات وقوله بعد ذلك مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سموات طباقاً ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله خَلْقِ الرَّحْمَنِ تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب
المسألة الخامسة اعلم أن وجه الاستدلال بهذا على كمال علم الله تعالى هو أن الحس دل أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فإنه لا بد وأن يكون عالماً فدل هذه الدلالة على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ إشارة إلى كونها محكمة متقنة
المسألة السادسة احتج الكعبي بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله تعالى قال لأنه تعالى نفى التفاوت في خلقه وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص والعيب فوجب حمله على نفي التفاوت في خلقه من حيث الحكمة فيدل من هذا الوجه على أن أفعال العباد ليست من خلقه على ما فيها من التفاوت الذي بعضه جهل وبعضه كذب وبعضه سفه الجواب بل نحن نحمله على أنه لا تفوت فيه بالنسبة إليه من حيث إن الكل يصح منه بحسب القدرة والإرادة والداعية وإنه لا يقبح منه شيء أصلاً فلم كان حمل الآية على التفاوت من الوجه الذي ذكرتم أولى من حملها على نفي التفاوت من الوجه الذي ذكرناه ثم إنه تعالى أكد بيان كونها محكمة متقنة وقال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ والمعنى أنه لما قال مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ كأنه قال بعده ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك بالبصر
الواحد ولا تعتمد عليه بسبب أنه قد يقع الغلط في النظرة الواحدة ولكن ارجع البصر واردد النظرة مرة أخرى حتى تتيقن أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتة والفطور جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر ومنه فطر ناب البعير كما يقال شق ومعناه شق اللحم فطلع قال المفسرون هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ أي من فروج وصدوع وشقوق وفتوق وخروق كل هذا ألفاظهم
ثم قال تعالى
ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
أمر بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع هل يجد فيه عيباً وخللاً يعني أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل والعيب بل يرجع إليك خاسئاً أي مبعداً من قولك خسأت الكلب إذا باعدته قال المبرد الخاسيء المبعد المصغر وقال ابن عباس الخاسيء الذي لم ير ما يهوى وأما الحسير فقال ابن عباس هو الكليل قال الليث الحسر والحسور الإعياء وذكر الواحدي ههنا احتمالين أحدهما أن يكون الحسير مفعولاً من حسر العين بعد المرئي قال رؤبة يحسر طرف عيناه فضا
الثاني قول الفراء أن يكون فاعلاً من الحسور الذي هو الإعياء والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاده فإنه لا يجد عيباً ولا فطوراً بل البصر يرجع خاسئاً من الكلال والإعياء وههنا سؤالان
السؤال الأول كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرتين اثنتين الجواب التثنية للتكرار بكثرة كقولهم لبيك وسعديك يريد إجابات متوالية
السؤال الثاني فما معنى ثُمَّ اْرجِعِ الجواب أمره برجع البصر ثم أمره بأن لا يقنع بالرجعة الأولى بل أن يتوقف بعدها ويجم بصره ثم يعيده ويعاوده إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من فطور
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادراً عالماً وذلك لأن هذه الكواكب نظراً إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص وموضع معين وسير معين تدل على أن صانعها قادر ونظراً إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا وسبباً لانتفاعهم بها تدل على أن صانعها عالم ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ( الصافات 7 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى السَّمَاء الدُّنْيَا القربى وذلك لأنها أقرب السموات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس والمصابيح السرج سميت بها الكواكب والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح فقيل ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة أما قوله تعالى وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ فاعلم أن الرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به وذكروا في معرض هذه الآية وجهين الوجه الأول أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها فإن قيل جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوماً للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض قلنا ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها وتلك الشعل هي الشهب وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار باقية الوجه الثاني في تفسير كون الكواكب رجوماً للشياطين أنا جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح
واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرات السيارات واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن فيجب أن تكون كلها هناك وإنما قلنا إن بعضها في الفلك الثامن وذلك لأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا إن هذه الثوابت لما كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلها هناك لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة واحدة
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك لأنه لا يبعد وجود كرة تحت القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا فثبت أن مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف
المسألة الثالثة اعلم أن منافع النجوم كثيرة منها أن الله تعالى زين السماء بها ومنها أنه يحصل بسببها في الليل قدر من الضوء ولذلك فإنه إذا تكاثف السحاب في الليل عظمت الظلمة وذلك بسبب أن السحاب يحجب أنوارها ومنها أنه يحصل بسببها تفاوت في أحوال الفصول الأربعة فإنها أجسام عظيمة نورانية فإذا قارنت الشمس كوكباً مسخناً في الصيف صار الصيف أقوى حراً وهو مثل نار تضم إلى نار أخرى فإنه لا شك أن يكون الأثر الحاصل من المجموع أقوى ومنها أنه تعالى جعلها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر على ما قال تعالى وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( النحل 16 ) ومنها أنه تعالى جعلها رجوماً
للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر يروى أن السبب في ذلك أن الجن كانت تتسمع لخبر السماء فلما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حرست السماء ورصدت الشياطين فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النبي أمره ويرتاب الناس بخبره فهذا هو السبب في انقضاض الشهب وهو المراد من قوله وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ومن الناس من طعن في هذا من وجوه أحدها أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة قالوا إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس وإذا بلغ الناس التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب وثانيها أن هؤلاء الجن كيف يجوز أن يشاهدوا واحداً وألفاً من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم فإن العاقل إذا رأى الهلاك في شيء مرة ومراراً وألفاً امتنع أن يعود إليه من غير فائدة وثالثها أنه يقال في ثخن السماء فإنه مسيرة خمسمائة عام فهؤلاء الجن إن نفذوا في جرم السماء وخرقوا اتصاله فهذا باطل لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( الملك 3 ) وإن كانوا لا ينفذون في جرم السماء فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ثم إن جاز أن يسمعوا كلامهم من ذلك البعد العظيم فلا يسمعوا كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ورابعها أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها في اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها من وحي الله تعالى إليهم وعلى التقديرين فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يتمكن الجن من الوقوف عليها وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار بل تقويها فكيف يعقل أن يقال إن الشياطين زجروا عن استراق السمع بهذه الشهب وسادسها أنه كان هذا الحذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وسابعها أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض بدليل أنا نشاهد حركتها بالعين ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدنا حركتها كما لم نشاهد حركات الكواكب وإذا ثبت أن هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم وتاسعها لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء حتى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب
والجواب عن السؤال الأول أنا لا ننكر أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأسباب آخر إلا أن ذلك لا ينافي أنها بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام قد توجد بسبب آخر وهو دفع الجن وزجرهم يروى أنه قيل للزهري أكان يرمى في الجاهلية قال نعم قيل أفرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ( الجن 9 ) قال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم )
والجواب عن السؤال الثاني أنه إذا جاء القدر عمي البصر فإذا قضى الله على طائفة منها الحرق لطغيانها وضلالتها قيض لها من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها تقدم على العمل المفضي إلى الهلاك والبوار
ووالجواب عن السؤال الثالث أن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فلعله لا يكون عظيماً
وأما الجواب عن السؤال الرابع ما روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن ابن عباس قال بينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال ( ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا قالوا كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم ) قال عليه الصلاة والسلام ( فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ولا يزال ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ويتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه
والجواب عن السؤال الخامس أن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقوى يبطل الأضعف
والجواب عن السؤال السادس أنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا العذاب لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول عن بطلان الكهانة
والجواب عن السؤال السابع أن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك الموضع سمعوا كلام الملائكة
والجواب عن السؤال الثامن لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين
والجواب عن السؤال التاسع أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهذا ما يتعلق بهذا الباب على سبيل الاختصار والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الكواكب وذكر أن من جملة المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ أي أعتدنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عذاب السعير في الآخرة قال المبرد سعرت النار فهي مسعورة وسعير كقولك مقبولة وقبيل واحتج أصحابنا على أن النار مخلوقة الآن بهذه الآية لأن قوله وَأَعْتَدْنَا إخبار عن الماضي
وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أنه تعالى بين في أول السورة أنه قادر على جميع الممكنات ثم ذكر بعده أنه وإن كان قادراً على الكل إلا أنه إنما خلق ما خلق لا للعبث والباطل بل لأجل الابتلاء والامتحان وبين أن المقصود من ذلك الابتلاء أن يكون عزيزاً في حق المصرين على الإساءة غفوراً في حق التائبين ومن ذلك كان كونه عزيزاً وغفوراً لا يثبتان إلا إذا ثبت كونه تعالى كاملاً في القدرة والعلم بين ذلك بالدلائل المذكورة وحينئذ ثبت كونه قادراً على تعذيب العصاة فقال وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ أي ولكل من كفر بالله من
الشياطين وغيرهم عذاب جهنم ليس الشياطين المرجومون مخصوصين بذلك وقرىء عَذَابَ جَهَنَّمَ بالنصب عطف بيان على قوله عَذَابِ السَّعِيرِ ( الحج 4 ) ثم إنه تعالى وصف ذلك العذاب بصفاته كثيرة
إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِى َ تَفُورُ
الصفة الأولى قوله تعالى إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا
أَلْقَوْاْ طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به فيها ومثله قوله حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) وفي قوله سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وجوه أحدها قال مقاتل سمعوا لجهنم شهيقاً ولعل المراد تشبيه صوت لهب النار بالشهيق قال الزجاج سمع الكفار للنار شهيقاً وهو أقبح الأصوات وهو كصوت الحمار وقال المبرد هو والله أعلم تنفس كتنفس المتغيظ وثانيها قال عطاء سمعوا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها شهيقاً وثالثها سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( هود 106 ) والقول هو الأول
الصفة الثانية قوله وَهِى َ تَفُورُ قال الليث كل شيء جاش فقد فار وهو فور القدر والدخان والغضب والماء من العين قال ابن عباس تغلي بهم كغلي المرجل وقال مجاهد تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل ويجوز أن يكون هذا من فور الغضب قال المبرد يقال تركت فلاناً يفور غضباً ويتأكد هذا القول بالآية الآتية
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
الصفة الثالثة قوله تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ يقال فلان يتميز غيظاً ويتعصف غيظاً وغضب فطارت منه ( شعلة في الأرض وشعلة ) في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه وأقول لعل السبب في هذا المجاز أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فتتمدد تلك الأوعية عند ازدياد مقادير الرطوبات في البدن فكلما كان الغضب أشد كان الغليان أشد فكان الازدياد أكثر وكان تمدد الأوعية وانشقاقها وتميزها أكثر فجعل ذكر هذه الملازمة كناية عن شدة الغضب فإن قيل النار ليست من الأحياء فكيف يمكن وصفها بالغيظ قلنا الجواب من وجوه أحدها أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة فلعل الله يخلق فيها وهي نار حياة وثانيها أنه شبه صوت لهبها وسرعة تبادرها بصوت الغضبان وحركته وثالثها يجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية
الصفة الرابعة قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
الفوج الجماعة من الناس والأفواج الجماعات في تعرفه ومنه قوله فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ( النبأ 18 ) و خَزَنَتُهَا مالك وأعوانه من الزبانية أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وهو سؤال توبيخ قال الزجاج وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى احتجت المرجئة على أنه لا يدخل النار أحد إلا الكفار بهذه الآية قالوا لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا كذبنا النذير وهذا يقتضي أن من لم يكذب الله ورسوله لا يدخل النار واعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصر لا يدخل النار وأجاب القاضي عنه بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المحذرة المخوفة ولا أحد يدخل النار إلا وهو مخالف للدليل غير متمسك بموجبه
المسألة الثانية احتج القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع بهذه الآية وقالوا هذه الآية دلت على أنه تعالى إنما عذبهم لأنه أتاهم النذير وهذا يدل على أنه لو لم يأتهم النذير لما عذبهم
ثم إنه تعالى حكى عن الكفار جوابهم عن ذلك السؤال من وجهين
قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ
الأول قوله تعالى قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء
واعلم أن قوله بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء
أما قوله تعالى إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الوجه الأول وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين الوجه الثاني يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار والتقدير أن الكفار لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من الضلال الكبير ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الهلاك ويحتمل أن يكون سمي عقاب الضلال باسمه
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ
هذا هو الكلام الثاني مما حكاه الله تعالى عن الكفار جواباً للخزنة حين قالوا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( الملك 8 ) والمعنى لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل من كان متأملاً متفكراً لما كنا من أصحاب السعير وقيل إنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والإضلال بأن قالوا لفظة لو تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره فدلت الآية على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل لكن لا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة وأنهم ما كانوا صم الأسماع ولا مجانين فوجب أن يكون المراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية
المسألة الثانية احتج بهذه الآية من قال الدين لا يتم إلا بالتعليم فقال إنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد وهداية الهادي ثم إنه يترتب عليه فهم المستجيب وتأمله فيما يلقيه المعلم والجواب أنه إنما قدم السمع لأن المدعو إذا لقي الرسول فأول المراتب أنه يسمع كلامه ثم إنه يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً بهذا السبب على التعقل والتفهم لا جرم قدم عليه في الذكر
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ثم قال كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم
المسألة الرابعة احتج من فضل السمع على البصر بهذه الآية وقالوا دلت الآية على أن للسمع مدخلاً في الخلاص عن النار والفوز بالجنة والبصر ليس كذلك فوجب أن يكون السمع أفضل
فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاًّصْحَابِ السَّعِيرِ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار هذا القول قال فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ قال مقاتل يعني بتكذيبهم الرسول وهو قولهم فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء ( الملك 9 ) وقوله بِذَنبِهِمْ فيه قولان أحدهما أن الذنب ههنا في معنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال خرج عطاء الناس أي عطياتهم هذا قول الفراء والثاني يجوز أن يراد بالواحد المضاف الشائع كقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ ( النحل 34 )
ثم قال فَسُحْقًا لاِصْحَابِ السَّعِيرِ قال المفسرون فبعداً لهم اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم والسحق البعد وفيه لغتان التخفيف والتثقيل كما تقول في العنق والطنب قال الزجاج سحقاً منصوب على المصدر والمعنى أسحقهم الله سحقاً أي باعدهم الله من رحمته مباعدة وقال أبو علي الفارسي كان القياس سحاقاً فجاء المصدر على الحذف كقولهم عمرك الله واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
وفيه وجهان الوجه الأول أن المراد إن الذين يخشون ربهم وهم في دار التكليف والمعارف النظرية وبهم حاجة إلى مجاهدة الشيطان ودفع الشبه بطريق الاستدلال الوجه الثاني أن هذا إشارة إلى كونه متقياً من جميع المعاصي لأن من يتقي معاصي الله في الخلوة اتقاها حيث يراه الناس لا محالة واحتج أصحابنا بهذه الآية على انقطاع وعيد الفساق فقالوا دلت الآية على أن من كان موصوفاً بهذه الخشية فله الأجر العظيم فإذا جاء يوم القيامة مع الفسق ومع هذه الخشية فقد حصل الأمران فإما أن يثاب ثم يعاقب وهو بالإجماع باطل أو يعاقب ثم ينقل إلى دار الثواب وهو المطلوب
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ووعد المؤمنين على سبيل المغايبة رجع بعد ذلك إلى خطاب الكفار فقال
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
وفيه وجهان الوجه الأول قال ابن عباس كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فأنزل الله هذه الآية القول الثاني أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد فالحال واحد في علمه تعالى بهذا فاحذروا من المعاصي سراً كما تحترزون عنها جهراً
فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب
ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالماً بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالماً بهذه الأشياء فقال
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أن معنى الآية أن من خلق شيئاً لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضاً مقررة بالدلائل العقلية وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك الشيء فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصداً إليه وكما أنه ثبت أن الخالق لا بد وأن يكون عالماً بماهية المخلوق لا بد وأن يكون عالماً بكميته لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو أنقص لا بد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره والقصد مسبوق بالعلم فلا بد وأن يكون قد علم ذلك المقدار وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال فثبت أن من خلق شيئاً فإنه لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن العبد غير موجد لأفعاله من وجهين الوجه الأول قالوا لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها بيان الملازمة من وجهين الأول التمسك بهذه الآية الثاني أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلاً ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضاً ممكن فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص لا بد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعاً للممكن المحدث من غير مرجح لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلا بد وأن يكون عالماً بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص فثبت أن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه أحدها أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكوناً مع أنه لم يخطر ألبتة بباله أنه فعل ههنا حركة وههنا سكوناً وثانيها أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي ومعلوم أن ذلك غير معلوم وثالثها أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها ورابعها أن عند أبي علي وأبي هاشم الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله الوجه الثاني في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر وفي الصدور والقلوب فإنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مقتضياً كونه تعالى عالماً بتلك الأشياء وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء قلنا إنه لا يلزم من كونه خالقاً لغيره هذه الأشياء كونه عالماً بها لأن من يكون فاعلاً لشيء لا يجب أن يكون عالماً بشيء آخر نعم يلزم من كونه خالقاً لها كونه عالماً بها لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالماً به
المسألة الثانية الآية تحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مِنْ خَلَاقٍ في محل الرفع والمنصوب يكون مضمراً والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه وثانيها أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمراً والتقدير ألا يعلم الله من خلق والاحتمال الأول أولى لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالماً بذات من هو مخلوقه ولا يقتضي كونه عالماً بأحوال من هو مخلوقه والمقصود من الآية هذا لا الأول وثالثها أن تكون مِنْ في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
أما قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فاعلم أنهم اختلفوا في اللَّطِيفُ فقال بعضهم المراد العالم وقال آخرون بل المراد من يكون فاعلاً للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين ولهذا يقال إن لطف الله بعباده عجيب ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكراراً
هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعاً للمحن التي تهلك بسببها فكذا ههنا كأنه تعالى قال أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سبباً لنفعكم فامشوا في مناكبها فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن فهذا هو الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها
المسألة الثانية الذلول من كل شيء المنقاد الذي يذل لك ومصدره الذل وهو الانقياد واللين ومنه يقال دابة ذلول وفي وصف الأرض بالذلول أقوال أحدها أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة وثانيها أنه تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها وبناء الأبنية منها كما يراد ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك وثالثها أنها لو كانت حجرية أو
كانت مثل الذهب أو الحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وكانت تبرد جداً في الشتاء ولكانت الزراعة فيها ممتنعة والغراسة فيها متعذرة ولما كانت كفاتاً للأموات والأحياء ورابعها أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الهواء ولو كانت متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة لم تكن منقادة لنا
المسألة الثالثة قوله فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا أمر إباحة وكذا القول في قوله وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ
المسألة الرابعة ذكروا في مناكب الأرض وجوهاً أحدها قال صاحب ( الكشاف ) المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأبعده من إمكان المشي عليه فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي على منكبه فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة فثبت أن قوله فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا كناية عن كونها نهاية في الذلولية وثانيها قول قتادة والضحاك وابن عباس إن مناكب الأرض جبالها وآكامها وسميت الجبال مناكب لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضاً شاخصة والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها وهي أبعد أجزائها عن التذليل فكيف الحال في سائر أجزائها وثالثها أن مناكبها هي الطرق والفجاج والأطراف والجوانب وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ورواية عطاء عن ابن عباس واختيار الفراء وابن قتيبة قال مناكبها جوانبها ومنكبا الرجل جانباه وهو كقوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ( نوح 19 20 ) أما قوله وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ أي مما خلقه الله رزقاً لكم في الأرض وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر ثم إنه تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته وأنه لو شاء لقلب الأمر عليهم ولأمطر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات فقال تقريراً لهذا المعنى
أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِى َ تَمُورُ
واعلم أن هذه الآيات نظيرها قوله تعالى قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ( الأنعام 65 ) وقال فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 )
واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله ءامَنْتُمْ مَّن فِى السَّمَاء والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطاً به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون الله تعالى شيئاً حقيراً بالنسبة إلى العرش وذلك باتفاق أهل الإسلام محال ولأنه تعالى قال قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكاً لنفسه وهذا محال فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل ثم فيه وجوه أحدها لم لا يجوزأن يكون تقدير الآية أأمنتم من في السماء عذابه وذلك لأن عادة الله تعالى جارية بأنه إنما ينزل البلاء على من يكفر بالله ويعصيه من السماء فالسماء موضع عذابه تعالى كما أنه موضع نزول رحمته ونعمته وثانيها قال أبو مسلم كانت العرب مقرين بوجود الإله لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على وفق قول المشبهة فكأنه تعالى
قال لهم أتأمنون من قد أقررتم بأنه في السماء واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء أن يخسف بكم الأرض وثالثها تقدير الآية من في السماء سلطانه وملكه وقدرته والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته كما قال وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( الأنعام 3 ) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين فوجب أن يكون المراد من كونه في السموات وفي الأرض نفاذ أمره وقدرته وجريان مشيئته في السموات وفي الأرض فكذا ههنا ورابعها لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله مَّن فِى السَّمَاء الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه وقوله فَإِذَا هِى َ تَمُورُ قالوا معناه إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون والأرض فوقهم تمور فتلقيهم إلى أسفل السافلين وقد ذكرنا تفسير المور فيما تقدم
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
ثم زاد في التخويف فقال أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً
قال ابن عباس كما أرسل على قوم لوط فقال إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ( القمر 34 ) والحاصب ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقيل هو سحاب فيها حجارة
ثم هدد وأوعد فقال فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
قيل في النذير ههنا إنه المنذر يعني محمداً عليه الصلاة والسلام وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك والمعنى فستعملون رسولي وصدقه لكن حين لا ينفعكم ذلك وقيل إنه بمعنى الإنذار والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول و ( كيف ) في قوله كَيْفَ نَذِيرِ ينبىء عما ذكرنا من صدق الرسول وعقوبة الإنذار
واعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بهذه التخويفات أكد ذلك التخويف بالمثال والبرهان أما المثال فهو أن الكفار الذين كانوا قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم فقال
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
يعني عاداً وثمود وكفار الأمم وفيه وجهانأحدهما قال الواحدي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي إنكاري وتغييري أليس وجدوا العذاب حقاً والثاني قال أبو مسلم النكير عقاب المنكر ثم قال وإنما سقط الياء من نذيري ومن نكيري حتى تكون مشابهة لرؤوس الآي المتقدمة عليها والمتأخرة عنها وأما البرهان فهو أنه تعالى ذكر ما يدل على كمال قدرته ومتى ثبت ذلك ثبت كونه تعالى قادراً على إيصال جميع أنواع العذاب إليهم وذلك البرهان من وجوه
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ بَصِيرٌ
البرهان الأول هو قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ
صَافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها وَيَقْبِضْنَ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن فإن قيل لم قال وَيَقْبِضْنَ ولم يقل وقابضات قلنا لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارىء غير أصلي بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح
ثم قال تعالى يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ وذلك لأنها مع ثقلها وضخامة أجسامها لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بإمساك الله وحفظه وههنا سؤالان
السؤال الأول هل تدل هذه الآية على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله قلنا نعم وذلك لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري للطير
ثم إنه تعالى قال مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ فدل هذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى
السؤال الثاني أنه تعالى قال في النحل ( 79 ) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِى جَوّ السَّمَآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ وقال ههنا مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ فما الفرق قلنا ذكر في النحل أن الطير مسخرات في جو السماء فلا جرم كان إمساكها هناك محض الإلهية وذكر ههنا أنها صافات وقابضات فكان إلهامها إلى كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن
ثم قال تعالى إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء بَصِيرٌ وفيه وجهان الوجه الأول المراد من البصير كونه عالماً بالأشياء الدقيقة كما يقال فلان بصر في هذا الأمر أي حذق والوجه الثاني أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول إنه تعالى شيء والله بكل شيء بصير فيكون رائياً لنفسه ولجميع الموجودات وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه تعالى يصح أن يكون مرئياً وأن كل الموجودات كذلك فإن قيل البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم يقال فلان بصير بكذا إن كان عالماً به قلنا لا نسلم فإنه يقال إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات
أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ
اعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وكان تعويلهم على شيئين أحدهما القوة التي كانت حاصلة لهم بسبب مالهم وجندهم والثاني أنهم كانوا يقولون هذه الأوثان توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات وقد أبطل الله عليهم كل واحد من هذين الوجهين أما الأول فبقوله أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرَّحْمَنِ وهذا نسق
على قوله أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء ( الملك 17 ) والمعنى أم من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عذابه عليكم ثم قال إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم
أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
أما الثاني فهو قوله أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ
والمعنى من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم وهذا أيضاً مما لا ينكره ذو عقل وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية والنفور بسبب جهلهم وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين
بم فقال تعالى
أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي أكب مطاوع كبه يقال كببته فأكب ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع قال صاحب ( الكشاف ) ليس الأمر كذلك و ( جاء ) شيء من بناء أفعل مطاوعاً بل قولك أكب معناه دخل في الكب وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع وأنفض أي دخل في النفض وهو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر وألام دخل في اللوم وأما مطاوع كب وقشع فهو انكب وانقشع
المسألة الثانية ذكروا في تفسير قوله يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ وجوهاً أحدها معناه أن الذي يمشي في مكان غير مستو بل فيه ارتفاع وانخفاض فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه مكباً فحاله نقيض حال من يمشي سوياً أي قائماً سالماً من العثور والخرور وثانيها أن المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين وثالثها أن الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه لا يكون كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المعلوم ثم اختلفوا فمنهم من قال هذا حكاية حال الكافر في الآخرة قال قتادة الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة وقال آخرون بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا واختلفوا أيضاً فمنهم من قال هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار ومنهم من قال بل المراد منه شخص معين فقال مقاتل المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام وقال عطاء عن ابن عباس المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر
البرهان الثاني على كمال قدرته قوله تعالى
قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان أولاً من حال سائر الحيوانات وهو وقوف الطير في الهواء أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد ولقد تقدم شرح أحوال هذه الأمور الثلاثة في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة واعلم أن في ذكرها ههنا تنبيهاً على دقيقة لطيفة كأنه تعالى قال أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب فلهذا قال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة
البرهان الثالث قوله تعالى
قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولاً ثم بصفات الإنسان ثانياً وهي السمع والبصر والعقل ثم بحدوث ذاته ثالثاً وهو قوله هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزاً جسماً واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( الملك 2 ) ثم لأجل إثبات هذا المطلوب ذكر وجوهاً من الدلائل على قدرته ثم ختمها بقوله قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب
واعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين أحدهما أنهم طالبوه بتعيين الوقت
بم وهو قوله تعالى
وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم إنه تعالى قال يقول بلفظ المستقبل فهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ويحتمل الماضي والتقدير فكانوا يقولون هذا الوعد
المسألة الثانية لعلهم كانوا يقولون ذلك على سبيل السخرية ولعلهم كانوا يقولونها إبهاماً للضعفة أنه لما لم يتعجل فلا أصل له
المسألة الثالثة الوعد المسؤول عنه ما هو فيه وجهان أحدهما أنه القيامة والثاني أنه مطلق العذاب وفائدة هذا الاختلاف تظهر بعد ذلك إن شاء الله
ثم أجاب الله عن هذا السؤال بقوله تعالى
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
والمراد أن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع فالعلم الأول حاصل عندي وهو كاف في الإنذار والتحذير أما العلم الثاني فليس إلا لله ولا حاجة في كوني نذيراً مبيناً إليه
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِي ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ
ثم إنه تعالى بين حالهم عند نزول ذلك الوعد فقال تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة لأولى قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ الضمير للوعد والزلفة القرب والتقدير فلما رأوه قرباً ويحتمل أنه لما اشتد قربه جعل كأنه في نفس القرب وقال الحسن معاينة وهذا معنى وليس بتفسير وذلك لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة
المسألة الثانية قوله سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ قال ابن عباس اسودت وعلتها الكآبة والقترة وقال الزجاج تبين فيها السوء وأصل السوء القبح والسيئة ضد الحسنة يقال ساء الشيء يسوء فهو سيىء إذا قبح وسيىء يساء إذا قبح وهو فعل لازم ومتعد فمعنى سيئت وجوههم قبحت بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة وكلحوا وصارت وجوههم كوجه من يقاد إلى القتل
المسألة الثالثة اعلم أن قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً إخبار عن الماضي فمن حل الوعد في قوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ ( الملك 25 ) على مطلق العذاب سهل تفسير الآية على قوله فلهذا قال أبو مسلم في قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً يعني أنه لما أتاهم عذاب الله المهلك لهم كالذي نزل بعاد وثمود سيئت وجوههم عند قربه منهم وأما من فسر ذلك الوعد بالقيامة كان قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً معناه فمتى ما رأوه زلفة وذلك لأن قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً إخبار عن الماضي وأحوال القيامة مستقبلة لا ماضية فوجب تفسير اللفظ بما قلناه قال مقاتل فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً أي لما رأوا العذاب في الآخر قريباً
وأما قوله تعالى وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم القائلون هم الزبانية وقال آخرون بل يقول بعضهم لبعض ذلك
المسألة الثانية في قوله تَدْعُونَ وجوه أحدها قال الفراء يريد تدعون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به وتدعون وتدعون واحد في اللغة مثل تذكرون وتذكرون وتدخرون وتدخرون وثانيها أنه من الدعوى معناه هذا الذي كنتم تبطلونه أي تدعون أنه باطل لا يأتيكم أو هذا الذي كنتم بسببه وتدعون أنكم لا تبعثون وثالثها أن يكون هذا استفهاماً على سبيل الإنكار والمعنى أهذا الذي تدعون لا بل كنتم تدعون عدمه
المسألة الثالثة قرأ يعقوب الحضرمي تَدْعُونَ خفيفة من الدعاء وقرأ السبعة تَدْعُونَ مثقلة من الادعاء
قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِى َ اللَّهُ وَمَن مَّعِى َ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
اعلم أن هذا الجواب هو من النوع الثاني مما قاله الكفار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين خوفهم بعذاب الله يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المؤمنين بالهلاك كما قال تعالى أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) وقال بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ( الفتح 12 ) ثم إنه تعالى أجاب عن ذلك من وجهين الوجه الأول هو هذه الآية والمعنى قل لهم إن الله تعالى سواء أهلكني بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل فأي راحة لكم في ذلك وأي منفعة لكم فيه ومن الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم أتظنون أن الأصنام تجيركم أو غيرها فإذا علمتم أن لا مجير لكم فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث الوجه الثاني في الجواب قوله تعالى
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
والمعنى أنه الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فيعلم أنه لا يقبل دعاءكم وأنتم أهل الكفر والعناد في حقنا مع أنا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم ثم قال وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا لا على غيره كما فعلتم أنتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم وقرىء فَسَتَعْلَمُونَ على المخاطبة وقرىء بالياء ليكون على وفق قوله فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ ( الكافرين 28 )
واعلم أنه لما ذكر أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره ذكر الدليل عليه
بم فقال تعالى
قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ
والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلا بد وأن يقولوا هو الله فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في المعبودية وهو كقوله أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 68 69 ) وقوله غَوْرًا أي غائراً ذاهباً في الأرض يقال غار الماء يغور غوراً إذا نضب وذهب في الأرض والغور ههنا بمعنى الغائر سمي بالمصدر كما يقال رجل عدل ورضا والمعين الظاهر الذي تراه العيون فهو من مفعول العين كمبيع وقيل المعين الجاري من العيون من الإمعان في الجري كأنه قيل ممعن في الجري والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سورة القلم
وهي اثنتان وخمسون آية مكيةن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
ن فيه مسألتان
المسألة الأولى الأقوال المذكورة في هذا الجنس قد شرحناها في أول سورة البقرة والوجوه الزائدة التي يختص بها هذا الموضع أولها أن النون هو السمكة ومنه في ذكر يونس وَذَا النُّونِ ( الأنبياء 87 ) وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ثم القائلون بهذا منهم من قال إنه قسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ومنهم من قال إنه قسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه ومنهم من قال إنه قسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه والقول الثاني وهو أيضاً مروي عن ابن عباس واختيار الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة ومنه قول الشاعر إذا ما الشوق يرجع بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون هذا قسماً بالدواة والقلم فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق و ( تارة ) يتحرى بالكتابة والقول الثالث أن النون لوح تكتب الملائكة ما يأمرهم الله به فيه رواه معاوية بن قرة مرفوعاً والقول الرابع أن النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنا إذا جعلناه مقسماً به وجب إن كان جنساً أن نجره وننونه فإن القسم على هذا التقدير يكون بدواة منكرة أو بسمكة منكرة كأنه قيل وسمكة والقلم أو قيل ودواة والقلم وإن كان علماً أن نصرفه ونجره أو لا نصرفه ونفتحه إن جعلناه غير منصرف والقول الخامس أن نون ههنا آخر حروف الرحمن فإنه يجتمع من الرحمن ن اسم الرحمن فذكر الله هذا الحرف الأخير من هذا الاسم والمقصود القسم بتمام هذا الاسم وهذا أيضاً ضعيف لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق أنه إما أن يكون اسماً للسورة أو يكون الغرض منه التحدي أو سائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة
المسألة الثانية القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائه من قوله ن وَالْقَلَمِ فمن أظهرها فلأنه ينوي بها الوقف بدلالة اجتماع الساكنين فيها وإذا كانت موقوفة كانت في تقدير الانفصال مما بعدها وإذا انفصلت مما بعدها وجب التبيين لأنها إنما تخفى في حروف الفم عند الاتصال ووجه الإخفاء أن همزة الوصل لم تقطع مع هذه الحروف في نحو الم اللَّهِ ( آل عمران 1 ) وقولهم في العدد واحد إثنان فمن حيث لم تقطع الهمزة معها علمنا أنها في تقدير الوصل وإذا وصلتها أخفيت النون وقد ذكرنا هذا في طس ( النمل 1 ) و يس ( يس 1 ) وقال الفراء وإظهارها أعجب إلي لأنها هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل
وقوله تعالى وَالْقَلَمِ فيه قولان أحدهما أن القسم به هو الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به من في السماء ومن في الأرض قال تعالى وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ ( العلق 3 5 ) فمنّ بتيسير الكتابة بالقلم كما منَّ بالنطق فقال خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) ووجه الانتفاع به أن ينزل الغائب منزلة المخاطب فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب والثاني أن المقسم به هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن أول ما خلق الله القلم قال ابن عباس أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال قال وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض وروى مجاهد عنه قال أول ما خلق الله القلم فقال اكتب القدر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه قال القاضي هذا الخبر يجب حمله على المجاز لأن القلم الذي هو آلة مخصوصة في الكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة ومن الناس من زعم أن القلم المذكور ههنا هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات قالوا والدليل عليه أنه روي في الأخبار أن أول ما خلق الله القلم وفي خبر آخر أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض قالوا فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض
قوله تعالى وَمَا يَسْطُرُونَ
اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابة ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات الله كان المعنى ظاهراً وكأنه تعالى أقسم بكل قلم وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يَسْطُرُونَ لهم كأنه قيل وأصحاب القلم وسطرهم أي ومسطوراتهم وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين
فيحتمل أن يكون المراد بقوله وَمَا يَسْطُرُونَ أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله يَسْطُرُونَ ليس المراد منه الجمع بل التعظيم أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال
مَآ أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاّجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
اعلم أن قوله مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده فإذا به وجهه متغير بلا غبار فقالت له مالك فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) فهو أول ما نزل من القرآن قال ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال هكذا الصلاة يا محمد فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية فسألته فقال أرسلي إليَّ محمداً فأرسلته فأتاه فقال له هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحداً فقال لا فقال والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ثم مات قبل دعاء الرسول ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا إنه لمجنون فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة ثم قال ابن عباس وأول ما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ ( الأعلى 1 ) وهذه الآية هي الثانية
المسألة الثانية قال الزجاج أَنتَ هو اسم مَا و بِمَجْنُونٍ الخبر وقوله بِنِعْمَة ِ رَبّكَ كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال أنت بحمد الله عاقل وأنت بحمد الله لست بمجنون وأنت بنعمة الله فهم وأنت بنعمة الله لست بفقير ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه وقال عطاء وابن عباس يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وهو جواب لقولهم وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) واعلم أنه تعالى وصفه ههنا بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله بِنِعْمَة ِ رَبّكَ يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له إنه مجنون
الصفة الثانية قوله وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وفي الممنون قولان أحدهما وهو قول الأكثرين أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال منَّه السير أي أضعفه والمنين الضعيف ومنَّ الشيء إذا قطعه ومنه قول لبيد
غبش كواسب ما يمن طعامها
يصف كلاباً ضارية ونظيره قوله تعالى عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( هود 108 )
والقول الثاني وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي إنه غير مقدر عليك بسبب المنة قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل قال قوم معناه إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً وقال آخرون المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله
الصفة الثالثة قوله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله بِنِعْمَة ِ رَبّكَ وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ومن كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ( ص 86 ) أي لست متكلفاً فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً بل يرجع إلى الطبع وقال آخرون إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمداً بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم فكأن كل واحد منهم كان مختصاً بنوع واحد فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم وفيه دقيقة أخرى وهي قوله لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكلمة على للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور
المسألة الثانية الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهراً له وحصل له حق آخر وروي عن ابن عباس أنه قال معناه وإنك لعلى دين عظيم وروي أن الله تعالى قال له ( لم أخلق ديناً أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك ) يعني الإسلام واعلم أن هذا القول ضعيف وذلك لأن الإنسان له قوتان قوة نظرية وقوة عملية
والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر ويمكن أيضاً أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين الوجه الأول أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلاً فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق
المسألة الثالثة قال سعيد بن هشام قلت لعائشة ( أخبريني عن خلق رسول الله قالت ألست قرأ القرآن قلت بلى قالت فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام ) وسئلت مرة أخرى فقالت كان خلقه القرآن ثم قرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) إلى عشرة آيات وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب وإلى كل ما يتعلق بها وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة اللهم ارزقنا شيئاً من هذه الحالة وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت ( ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ) فلهذا قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال أنس ( خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي في شي فعلته لم فعلت ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ) وأقول إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم فقال وَعَلَّمَكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة
واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين وفيه قولان منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب ويصيرون دليلين ملعونين وتستولي عليهم بالقتل والنهب قال مقاتل هذا وعيد بالعذاب ببدر ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ ( القمر 26 )
بم وأما قوله تعالى
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ
ففيه وجوه أحدها وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنين 20 ) أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
والفراء طعن في هذا الجواب وقال إذا أمكن فيه بيان المعنى الصحيح من دون طرح الباء كان ذلك أولى وأما البيت فمعناه نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج أو نرجو النصر بالفرج وثانيها وهو اختيار الفراء والمبرد أن المفتون ههنا بمعنى الفتون وهو الجنون والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقود والميسور بمعنى العقد واليسر يقال ليس له معقود رأي أي عقد رأى وهذا قول الحسن والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس وثالثها أن الباء بمعنى في ومعنى الآية فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ورابعها المفتون هو الشيطان إذ لا شك أنه مفتون في دينه وهم لما قالوا إنه مجنون فقد قالوا إن به شيطاناً فقال تعالى سيعلمون غداً بأيهم شيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ثم قال تعالى
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
وفيه وجهان الأول هو أن يكون المعنى إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذي ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون الثاني أن يكون المعنى إنهم رموك بالجنون ووصفوا أنفسهم بالعقل وهم كذبوا في ذلك ولكنهم موصوفون بالضلال وأنت موصوف بالهداية والامتياز الحاصل بالهداية والضلال أولى بالرعاية من الامتياز الحاصل بسبب العقل والجنون لأن ذاك ثمرته السعادة الأبدية ( أ ) و الشقاوة وهذا ثمرته السعادة ( أ ) و الشقاوة في الدنيا
فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمر الرسول ونسبته إلى الجنون مع الذي أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق أتبعه بما يدعوه إلى التشدد مع قومه وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ يعني رؤساء أهل مكة وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم وهذا من الله إلهاب وتهييج التشدد في مخالفتهم ثم قال
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الليث الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام قال المبرد داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك وروى عطاء عن ابن عباس لو تكفر فيكفرون
المسألة الثانية إنما رفع فَيُدْهِنُونَ ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه قد عدل به إلى
طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون كقوله فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ قال سيبويه وزعم هارون وكان من القراء أنها في بعض المصاحف ( ودوا لو تدهن فيدهنوا ) واعلم أنه تعالى لما نهاه عن طاعة المكذبين وهذا يتناول النهي عن طاعة جميع الكفار إلا أنه أعاد النهي عن طاعة من كان من الكفار موصفاً بصفات مذمومة وراء الكفر وتلك الصفات هي هذه
الصفة الأولى كونه حلافاً والحلاف من كان كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ ( البقرة 224 )
الصفة الثانية كونه مهيناً قال الزجاج هو فعيل من المهانة ثم فيه وجهان أحدهما أن المهانة هي القلة والحقارة في الرأي والتمييز والثاني أنه إنما كان مهيناً لأن المراد الحلاف في الكذب والكذاب حقير عند الناس وأقول كونه حلافاً يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته ومن لم يكن عالماً بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهيناً فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية
الصفة الثالثة كونه همازاً وهو العياب الطعان قال المبرد هو الذي يهمز الناس أي يذكرهم بالمكروه وأثر ذلك يظهر العيب وعن الحسن يلوي شدقيه في أقفية الناس وقد استقصينا ( القول ) فيه في قوله وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ ( الهمزة 1 )
الصفة الرابعة كونه مشاء بنميم أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم يقال نم ينم وينم نماً ونميماً ونميمة
الصفة الخامسة كونه مناعاً للخير وفيه قولان أحدهما أن المراد أنه بخيل والخير المال والثاني كان يمنع أهله من الخير وهو الإسلام وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان له عشرة من البنين وكان يقول لهم وما قاربهم لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبداً فمنعهم الإسلام فهو الخير الذي منعهم وعن ابن عباس أنه أبو جهل وعن مجاهد الأسود بن عبد يغوث وعن السدي الأخنس بن شريق
الصفة السادسة كونه معتدياً قال مقاتل معناه أنه ظلوم يتعدى الحق ويتجاوزه فيأتي بالظلم ويمكن حمله على جميع الأخلاق الذميمة يعني أنه نهاية في جميع القبائح والفضائح
الصفة السابعة كونه أثيماً وهو مبالغة في الإثم
الصفة الثامنة العتل وأقوال المفسرين فيه كثيرة وهي محصورة في أمرين أحدهما أنه ذم في الخلق والثاني أنه ذم في الخلق وهو مأخوذ من قولك عتله إذا قاده بعنف وغلظة ومنه قوله تعالى فَاعْتِلُوهُ ( الدخان 47 ) أما الذين حملوه
على ذم الخلق فقال ابن عباس في رواية عطاء يريد قوي ضخم وقال مقاتل واسع البطن وثيق الخلق وقال الحسن الفاحش الخلق اللئيم النفس وقال عبيدة بن عمير هو الأكول الشروب القوي الشديد وقال الزجاج هو الغليظ الجافي أما الذين حملوه على ذم الأخلاق فقالوا إنه الشديد الخصومة الفظ العنيف
الصفة التاسعة قوله زَنِيمٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الزنيم أقوال الأول قال الفراء الزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم قال حسان وأنت زنيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنمة من كل شيء الزيادة وزنمت الشاة أيضاً إذا شقت أذنها فاسترخت ويبست وبقيت كالشيء المعلق فالحاصل أن الزنيم هو ولد الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم وكان الوليد دعياً في قريش وليس من سنخهم ادعاه بعد ثمان عشرة ( ليلة ) من مولده وقيل بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية والقول الثاني قال الشعبي هو الرجل يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها والقول الثالث روى عن عكرمة عن ابن عباس قال معنى كونه زنيماً أنه كانت له زنمة في عنقه يعرف بها وقال مقاتل كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة
المسألة الثانية قول بَعْدَ ذَلِكَ معناه أنه بعدما عدَّ له من المثالب والنقائص فهو عتل زنيم وهذا يدل على أن هذين الوصفين وهو كونه عتلاً زنيماً أشد معايبه لأنه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد ولهذا قال عليه الصلاة السلام ( لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ) وقيل ههنا بَعْدَ ذَلِكَ نظير ثُمَّ في قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) وقرأ الحسن ( عتل ) رفعاً على الذم
ثم إنه تعالى بعد تعديد هذه الصفات قال
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله إِن كَانَ يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله وأن يكون متعلقاً بما بعده أما الأول فتقديره ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين أي لا تطعه مع هذه المثالب ليساره وأولاده وكثرته وأما الثاني فتقديره لأجل أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين والمعنى لأجل أن كان ذا مال وبنين جعل مجازاة هذه النعم التي خولها الله له الكفر بآياته قال أبو علي الفاسي العامل في قوله إِن كَانَ إما أن يكون هو قوله تُتْلَى أو قوله قَالَ أو شيئاً ثالثاً والأول باطل لأن تُتْلَى قد أضيفت إِذَا إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله ألا ترى أنك لا تقول القتال زيداً حين يأتى تريد حين يأتي زيداً ولا يجوز أن يعمل فيه أيضاً قَالَ لأن قَالَ جواب إِذَا وحكم الجواب أن يكون بعدما هو جواب له ولا يتقدم عليه ولما بطل هذان القسمان علمنا أن العامل فيه شيء ثالث دل ما في الكلام عليه وذلك هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق أو نحو ذلك وإنما جاز أن يعمل المعنى فيه وإن كان متقدماً عليه لشبهه بالظرف والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه فإن
تقدير الآية لأن كان ذا مال وإذا صار كالظرف لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( سبأ 7 ) لما كان ظرفاً والعامل فيه القسم الدال عليه قوله إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ فكذلك قوله أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ تقديره إنه جحد آياتنا لأن كان ذا مال وبنين أو كفر بآياتنا لأن كان ذا مال وبنين
المسألة الثانية قرىء أَءن كَانَ على الاستفهام والتقدير ألأن كان ذال مال كذب أو التقدير أتطيعه لأن كان ذا مال وروى الزهري عن نافع إن كان بالكسر والشرط للمخاطب أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ونظير صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجى إليه في قوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ( طه 44 )
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه قبائح أفعاله وأقواله قال متوعداً له
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الوسم أثر الكية وما يشبهها يقال وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية وإما قطع في أذن علامة له
المسألة الثانية قال المبرد الخرطوم ههنا الأنف وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر
المسألة الثالثة الوجه أكرم موضع في الجسد والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة لأن السمة على الوجه شين فكيف على أكرم موضع من الوجه
المسألة الرابعة منهم من قال هذا الوسم يحصل في الآخرة ومنهم من قال يحصل في الدنيا أما على القول الأول ففيه وجوه أولها وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وثانيها أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة إنه كان غالياً في عداوة الرسول وفي إنكار الدين الحق وثالثها أن في الآية احتمالاً آخر عندي وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية فعبر عن هذا الاختصاص بقوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ وأما على القول الثاني وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه أحدها
قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال وثانيها أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهوراً بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم والمعنى سنلحق به شيئاً لا يفارقه ونبين أمره بياناً واضحاً حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة قد وسمه ميسم سوء والمراد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول ألبتة قال جرير لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
يريد أنه وسم الفرزدق ( والبعيث ) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عاراً لا يزول ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في زَنِيمٍ إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وثالثها يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد تظل يومك في لهو وفي طرب
وأنت بالليل شراب الخراطيم
فعلى هذا معنى الآية سنحده على شرب الخمر وهو تعسف وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال لأجل أن كان ذا مال وبنين جحد وكفر وعصى وتمرد وكان هذا استفهاماً على سبيل الإنكار بين في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان وليصرفه إلى طاعة الله وليواظب على شكر نعم الله فإن لم يفعل ذلك فإنه تعالى يقطع عنه تلك النعم ويصب عليه أنواع البلاء والآفات فقال إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أي كلفنا هؤلاء أن يشكروا على النعم كما كلفنا أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم روي أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيباً وافراً للفقراء فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان يفعل أبونا فأحرق الله جنتهم وقيل كانوا من بني إسرائيل وقوله إِذْ أَقْسَمُواْ إذ حلفوا لَيَصْرِمُنَّهَا ليقطعن ثمر نخيلهم مصبحين أي في وقت الصباح قال مقاتل معناه أغدوا سراً إلى جنتكم فاصرموها ولا تخبروا المساكين وكان أبوهم يخبر المساكين فيجتمعون عند صرام جنتهم يقال قد صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه وقوله وَلاَ يَسْتَثْنُونَ يعني ولم يقولوا إن شاء الله هذا قول جماعة المفسرين يقال حلف فلان يميناً ليس فيها ثنيا ولا ثنوى ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء وكله واحد وأصل هذا كله من الثنى وهو الكف والرد وذلك أن الحالف إذا قال والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد انعقاد ذلك اليمين واختلفوا في قوله وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فالأكثرون أنهم إنما لم
يستثنوا بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة وقال آخرون بل المراد أنهم يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إلى المساكين
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ
طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ أي عذاب من ربك والطائف لا يكون إلا ليلاً أي طرقها طارق من عذاب الله قال الكلبي أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون فأصبحت الجنة كالصريم
واعلم أن الصريم فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى المفعول وأن يكون بمعنى الفاعل وههنا احتمالات أحدها أنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمر وإن حصل الاختلاف في أمور أخر فإن الأشجار إذا احترقت فإنها لا تشبه الأشجار التي قطعت ثمارها إلا أن هذا الاختلاف وإن حصل من هذا الوجه لكن المشابهة في هلاك الثمر حاصلة وثانيها قال الحسن أي صرم عنها الخير فليس فيها شيء وعلى هذين الوجهين الصريم بمعنى المصروم وثالثها الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم وعلى هذا شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي لا تنبت شيئاً ينتفع به ورابعها الصبح يسمى صريماً لأنه انصرم من الليل والمعنى أن تلك الجنة يبست وذهبت خضرتها ولم يبق فيها شيء من قولهم بيض الإناء إذا فرغه وخامسها أنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم والليل يسمى صريماً وكذا النهار يسمى أيضاً صريماً لأن كل واحد منهما ينصرم بالآخر وعلى هذا الصريم بمعنى الصارم وقال قوم سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرف وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل وقال آخرون سميت الليلة بالصريم لأنها تصرم نور البصر وتقطعه
ثم قال تعالى
فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
قال مقاتل لما أصبحوا قال بعضهم لبعض اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ ويعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب ولذلك قال صارمين لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار فإن قيل لم لم يقل اغدوا إلى حرثكم وما معنى على قلنا لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم يغدي عليهم بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين
فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
أي يتسارون فيما بينهم وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى
كتم ومنه الخفدود للخفاش قال ابن عباس غدوا إليها بصدفة يسر بعضهم إلى بعض الكلام لئلا يعلم أحد من الفقراء والمساكين
ثم قال تعالى
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
ءانٍ مفسرة وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلها والنهي للمسكين عن الدخول نهي لهم عن تمكينه منه أي لا تمكنوه من الدخول ( حتى يدخل ) كقولك لا أرينك ههنا ثم قال
وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ
وفيه أقوال الأول الحرد المنع يقال حاردت السنة إذا قل مطرها ومنعت ريعها وحاردت الناقة إذا منعت لبنها فقل اللبن والحرد الغضب وهما لغتان الحرد والحرد والتحريك أكثر وإنما سمي الغضب بالحرد لأنه كالمانع من أن يدخل المغضوب منه في الوجود والمعنى وغدوا وكانوا عند أنفسهم وفي ظنهم قادرين على منع المساكين الثاني قيل الحرد القصد والسرعة يقال حردت حردك قال الشاعر أقبل سيل جاء من أمر الله
يحرد حرد الجنة المغلة
وقطاً حراد أي سراع يعني وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم يقولون نحن نقدر على صرامها ومنع منفعتها عن المساكين والثالث قيل حرد علم لتلك الجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
فيه وجوه أحدها أنهم لما رأوا جنتهم محترقة ظنوا أنهم قد ضلوا الطريق فقالوا إِنَّا لَضَالُّونَ ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنع الفقراء وثانيها يحتمل أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا إنا لضالون حيث كنا عازمين على منع الفقراء وحيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
قوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ يعني أعدلهم وأفضلهم وبينا وجهه في تفسير قوله أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ يعني هلا تسبحون وفيه وجوه الأول قال الأكثرون معناه هلا تستثنون فتقولون إن شاء الله لأن الله تعالى إنما عابهم بأنهم لا يستثنون وإنما جاز تسمية قول إن شاء الله بالتسبيح لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله لكان ذلك يوجب عودة نقص إلى قدرة الله فقولك إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً
واعلم أن لفظ القرآن يدل على أن القوم كانوا يحلفون ويتركون الاستثناء وكان أوسطهم ينهاهم عن ترك الاستثناء ويخوفهم من عذاب الله فلهذا حكى عن ذلك الأوسط أنه قال بعد وقوع الواقعة أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ
الثاني أن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام الأول وقال لَوْلاَ تُسَبّحُونَ فلا جرم اشتغل القوم في الحال بالتوبة و
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به لكن بعد خراب البصرة الثالث قال الحسن هذا التسبيح هو الصلاة كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة وإلا لكانت ناهية لهم عن الفحشاء والمنكر ولكانت داعية لهم إلى أن يواظبوا على ذكر الله وعلى قول إن شاء الله ثم إنه تعالى لما حكى عن ذلك الأوسط أنه أمرهم بالتوبة وبالتسبيح حكى عنهم أشياء أولها أنهم اشتغلوا بالتسبيح وقالوا في الحال سبحان ربنا عن أن يجري في ملكه شيء إلا بإرادته ومشيئته ولما وصفوا الله تعالى بالتنزيه والتقديس اعترفوا بسوء أفعالهم وقالوا إنا كنا ظالمين وثانيها
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ
أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول ذاك لهذا أنت خوفتنا بالفقر ويقول الثالث لغيره أنت الذي رغبتني في جمع المال فهذا هو التلاوم ثم نادوا على أنفسهم بالويل
قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
والمراد أنهم استعظموا جرمهم ثم قالوا عند ذلك
عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ
عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا قرىء يُبْدِلَنَا بالتخفيف والتشديد إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ طالبون منه الخير راجون لعفوه واختلف العلماء ههنا فمنهم من قال إن ذلك كان توبة منهم وتوقف بعضهم في ذلك قالوا لأن هذا الكلام يحتمل أنهم إنما قالوه رغبة منهم في الدنيا
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى كَذَلِكَ الْعَذَابُ يعني كما ذكرنا من إحراقها بالنار وههنا تم الكلام في قصة أصحاب الجنة
واعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة أمران أحدهما أنه تعالى قال أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( القلم 14 15 ) والمعنى لأجل أن أعطاه المال والبنين كفر بالله كلا بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمر الله على جنتهم فكيف يكون الحال في حق من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية والثاني أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها فقلب الله عليهم القضية فكذا أهل مكة لما خرجوا إلى بد حلفوا على أن يقتلوا محمداً وأصحابه وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة
ثم إنه لما خوف الكفار بعذاب الدنيا قال وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وهو ظاهر لا حاجة به إلى التفسير
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال السعداء فقال
إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
عِندَ رَبّهِمْ أي في الآخرة جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي جنات ليس لهم فيه إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا قال مقاتل لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة
ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الكلام بقوله
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
ومعنى الكلام أن التسوية بين المطيع والعاصي غير جائزة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي فيه دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي فالفاسق لما كان مجرماً وجب أن لا يكون مسلماً والجواب أنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور فإنهما يتماثلان في الجوهرية والجسمية والحدوث والحيوانية وغيرها من الأمور الكثيرة بل المراد إنكار استوائهما في الإسلام والجرم أو في آثار هذين الأمرين أو المراد إنكار أن يكون أثر إسلام المسلم مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله وهذا مسلم لا نزاع فيه فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع أن يجتمع فيه كونه مسلماً ومجرماً
المسألة الثانية قال الجبائي دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتة في الجنة لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما ولو حصلا في الجنة لحصلت التسوية بينهما في الثواب بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم إذا كان المجرم أطول عمراً من المسلم وكانت طاعاته غير محبطة الجواب هذا ضعيف لأنا بينا أن الآية لا تمنع من حصول التسوية في شيء أصلاً بل تمنع من حصول التسوية في درجة الثواب ولعلهما يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى على أنا نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة وذلك لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرف
المسألة الثالثة أن الله تعالى استنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين في الثواب فدل هذا على أنه يقبح عقلاً ما يحكى عن أهل السنة أنه يجوز أن يدخل الكفار في الجنة والمطيعين في النار والجواب أنه تعالى استنكر ذلك بحكم الفضل والإحسان لا أن ذلك بسبب أن أحداً يستحق عليه شيئاً
واعلم أنه تعالى لما قال على سبيل الاستبعاد أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قرر هذا الاستبعاد بأن قال على طريقة الالتفات مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المعوج ثم قال
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
وهو كقوله تعالى أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ( الصافات 156 ) والأصل تدرسون أن لكم ما تتخيرون بفتح أن لأنه مدرس فلما جاءت اللام كسرت وتخير الشيء واختاره أي أخذ خيره ونحوه تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله
ثم قال تعالى
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَة ٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال لفلان على يمين بكذا إذا ضمنته منه وخلقت له على الوقاء به يعني أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد فإن قيل إلى في قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ بم يتعلق قلنا فيه وجهان الأول أنها متعلقة بقوله بَالِغَة ٌ أي هذه الأيمان في قوتها وكمالها بحيث تبلغ إلى يوم القيامة والثاني أن يكون التقدير أيمان ثابتة إلى يوم القيامة ويكون معنى بالغة مؤكدة كما تقول جيدة بالغة وكل شيء متناه في الصحة والجودة فهو بالغ وأما قوله إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ فهو جواب القسم لأن معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا أم أقسمنا لكم
المسألة الثانية قرأ الحسن بالغة بالنصب وهو نصب على الحال من الضمير في الظرف ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام
سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ
والمعنى أيهم بذلك الحكم زعيم أي قائم به وبالاستدلال على سحته كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم ثم قال
أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
وفي تفسيره وجهان الأول المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله فيعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب وإنماأضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوها شركاء لله وهذا كقوله هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَى ْء ( الروم 40 ) الوجه الثاني في المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في هذا المذهب وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب ولا دليل نقلي وهو كتاب يدرسونه فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول وذلك يدل على أنه باطل من كل الوجوه
واعلم أنه تعالى لما أبطل قولهم وأفسد مقالتهم شرح بعد ذلك عظمة يوم القيامة
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ
فقال يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى يوم منصوب بماذا فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه منصوب بقوله فَلْيَأْتُواْ في قوله فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ( القلم 41 ) وذلك أن ذلك اليوم يوم شديد فكأنه تعالى قال إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم ونشفع لهم وثانيها أنه منصوب بإضمار اذكر وثالثها أن يكون التقدير يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ وأن ثم من الكوائن مالا يوصف لعظمته
المسألة الثانية هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق أهو يوم القيامة أو في الدنيا فيه قولان الأول وهو الذي عليه الجمهور أنه يوم القيامة ثم في تفسير الساق وجوه الأول أنه الشدة وروي أنه سئل ابن
عباس عن هذه الآية فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر سن لنا قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال وهو كرب وشدة وروى مجاهد عنه قال هو أشد ساعة في القيامة وأنشد أهل اللغة أبياتاً كثيرة ( منها ) فإن شمرت لك عن ساقها
فدنها ربيع ولا تسأم
ومنها كشفت لكم عن ساقها
وبدا من الشر الصراح
وقال جرير ألا رب سام الطرف من آل مازن
إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال آخر في سنة قد شمرت عن ساقها
حمراء تبرى اللحم عن عراقها
وقال آخر قد شمرت عن ساقها فشدوا
وجدت الحرب بكم فجدوا
ثم قال ابن قتيبة أصل هذا أن الرجل إذاوقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه يشمر عن ساقه فلا جرم يقال في موضع الشدة كشف عن ساقه واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز وأعلم أن صاحب ( الكشاف ) أورد هذا التأويل في معرض آخر فقال الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر فمعنى قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثم ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل ثم أخذ يعظم علم البيان ويقول لولاه لما وقفنا على هذه الأسرار وأقول إما أن يدعى أنه صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل أو يقول إنه لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة والأول باطل بإجماع المسلمين ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد فإنهم يقولون في قوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البقرة 25 ) ليس هناك لا أنهار ولا أشجار وإنما هو مثل للذة والسعادة ويقولون في قوله ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ ( الحج 77 ) ليس هناك لا سجود ولا ركوع وإنما هو مثل للتعظيم ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع وفساد الدين وأما إن قال بأنه لا يصار إلى هذا التأويل إلا بعد قيام الدلالة على أنه لا يجوز حمله على ظاهره فهذا هو الذي لم يزل كل أحد من المتكلمين ( إلا ) قال به وعول عليه فأين هذه الدقائق التي استبد هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطة علم البيان فرحم الله أمراً عرف قدره وما تجاوز طوره القول الثاني وهو
قول أبي سعيد الضرير يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ أي عن أصل الأمر وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها القول الثالث يوم يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب عظيم واللفظ لا يدل إلا على ساق فأما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه والقول الرابع وهو اختيار المشبهة أنه ساق الله تعالى الله عنه روى عن ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام ( أنه تعالى يتمثل للخلق يوم القيامة حين يمر المسلمون فيقول من تعبدون فيقولون نعبد الله فيشهدهم مرتين أو ثلاثاً ثم يقول هل تعرفون ربكم فيقولون سبحانه إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجداً ويبقى المنافقون ظهورهم كالطبق الواحد كأنما فيها السفافيد ) واعلم أن هذا القول باطل لوجوه أحدها أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث لأن كل جسم متناه وكل متناه محدث ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون وكل ما كان كذلك فهو محدث ولأن كل جسم ممكن وكل ممكن محدث وثانيها أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن أما لو حملناه على الشدة ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم كأنه قيل يوم يكشف عن شدة وأي شدة أي شدة لا يمكن وصفها وثالثها أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق وإنما يحصل بكشف الوجه القول الثاني أن قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ليس المراد منه يوم القيامة بل هو في الدنيا وهذا قول أبي مسلم قال أنه لا يمكن حمله على يوم القيامة لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَة َ لاَ بُشْرَى ( الفرقان 22 ) ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها وهو لا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها وإما حال الهرم والمرض والعجز وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم ونظير هذه الآية قوله فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الواقعة 83 ) واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم فأما قوله إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل ههنا والتكاليف زائلة يوم القيامة فجوابه أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلتم إن ذلك غير جائز
المسألة الثالثة قرىء يَوْمٍ بالنون و تكشف بالتاء المنقوطة من فوق على البناء للفاعل والمفعول جميعاً والفعل للساعة أو للحال أي يوم يشتد الحال أو الساعة كما تقول كشف الحرب عن ساقها على المجاز وقرىء ( تكشف ) بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه أكشف الرجل فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا
قوله تعالى وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ
اعلم أنا بينا أنهم لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ثم إنه تعالى حال ما يدعوهم إلى السجود يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالموا الأطراف والمفاصل قال الجبائي لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل ذلك على أنهم في الدنيا كانوا يستطيعون فبطل بهذا قول من قال الكافر لا قدرة له على الإيمان وإن القدرة على الإيمان لا تحصل إلا حال وجود الإيمان والجواب عنه أن علم الله بأنه لا يؤمن مناف لوجود الإيمان والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي
أما قوله خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ فهو حال من قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم مثل العبد الذي أعرض عنه مولاه فإنه يكون ذليلاً فيما بين الناس وقوله وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ يعني حين كانوا يدعون إلى الصلوات بالأذان والإقامة وكانوا سالمين قادرين على الصلاة وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة
فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف فخوفهم بما عنده وفي قدرته من القهر فقال ذرني وإياه يريد كله إليَّ فإني أكفيكه كأنه يقول يا محمد حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إلي وتخلي بيني بينه فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك ثم قال سَنَسْتَدْرِجُهُم يقال استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه وقوله مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ قال أبو روق سَنَسْتَدْرِجُهُم أي كلما أذنبوا ذنباً جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار فالإستدراج إنما حصل في الاغتناء الذي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم ثم قال
وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
أي أمهلهم كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) وأطيل لهم المدة والملاوة المدة من الدهر يقال أملى الله له أي أطال الله له الملاوة والملوان الليل والنهار والملأ مقصوراً الأرض الواسعة سميت به لامتدادها وقيل وَأُمْلِى لَهُمْ أي بالموت فلا أعاجلهم به ثم إنه إنما سمي إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكون في صورة الكيد ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك واعلم أن الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات فقالوا هذا الذي سماه بالاستدراج وذلك الكيد إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو يكون له فيه أثر والأول باطل وإلا لكان هو سائر الأشياء الأجنبية بمثابة واحدة فلا يكون استدراجاً ألبتة ولا كيداً وأما الثاني فهو يقتضي كونه تعالى مريداً لذلك الفعل الذي ينساق إليه ذلك الاستدراج وذلك الكيد لأنه إذا
كان تعالى لا يزال يؤكد هذا الجانب ويفتر ذلك الجانب الآخر واعلم أن تأكيد هذا الجانب لا بد وأن ينساق بالآخرة إلى فعله ودخوله في الوجود فلا بد وأن يكون مريداً لدخول ذلك الفعل في الوجود وهو المطلوب أجاب الكعبي عنه فقال المراد سنستدرجهم إلى الموت من حيث لا يعلمون وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة فإنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه لصاروا آمنين إلى ذلك الوقت ولأقدموا على المعاصي وفي ذلك إغراء بالمعاصي وأجاب الجبائي عنه فقال سنستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون في الآخرة وأملي لهم في الدنيا توكيداً للحجة عليهم إن كيدي متين فأمهله وأزيح الأعذار عنه ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة فهذا هو المراد من الكيد المتين ثم قال والذي يدل على أن المراد ما ذكرنا أنه تعالى قال قبل هذه الآية فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ( القلم 44 ) ولا شك أن هذا التهديد إنما وقع بعقاب الآخرة فوجب أن يكون المراد من الاستدراج والكيد المذكورين عقيبه هو عذاب الآخرة أو العذاب الحاصل عند الموت واعلم أن أصحابنا قالوا الحرف الذي ذكرناه وهو أن هذا الإمهال إذا كان متأدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان واعلم أن قولهم سَنَسْتَدْرِجُهُم إِلَى قَوْلُهُ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ مفسر في سورة الأعراف
ثم قال تعالى
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
وهذه الآية مع ما بعدها مفسرة في سورة الطور وأقول إنه أعاد الكلام إلى ما تقدم من قوله أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء ( القلم 41 ) والمغرم الغرامة أي لم يطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان
ثم قال تعالى
أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
وفيه وجهان الأول أن عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر والشرك فلذلك أصروا عليه وهذا استفهام على سبيل الإنكار الثاني أن الأشياء الغائبة كأنها حضرت في عقولهم حتى إنهم يكتبون على الله أي يحكمون عليه بما شاءوا وأرادوا
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ
ثم إنه تعالى لما بالغ في تزييف طريقة الكفار وفي زجرهم عما هم عليه قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وفيه وجهان الأول فاصبر لحكم ربك في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم والثاني فاصبر لحكم ربك في أن أوجب عليك التبليغ والوحي وأداء الرسالة وتحمل ما يحصل بسبب ذلك من الأذى والمحنة
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى العامل في إِذْ معنى قوله كَصَاحِبِ الْحُوتِ يريد لا تكن كصاحب الحوت حال ندائه وذلك لأنه في ذلك الوقت كان مكظوماً فكأنه قيل لا تكن مكظوماً
المسألة الثانية صاحب الحوت يونس عليه السلام إذ نادى في بطن الحوت بقوله لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) وَهُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا ملأه والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبلى ببلائه
ثم قال تعالى
لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
وقرىء ( رحمة من ربه ) وههنا سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل لولا أن تداركته نعمة من ربه الجواب إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه وقرأ ابن عباس وابن مسعود تداركته وقرأ الحسن تداركه أي تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه كما يقال كان زيد سيقوم فمنعه فلان أي كان يقال فيه سيقوم والمعنى كان متوقعاً منه القيام
السؤال الثاني ما المراد من قوله نِعْمَة ٌ مّن رَّبّهِ الجواب المراد من تلك النعمة هو أنه تعالى أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الصالحات والطاعات إلا بتوفيقه وهدايته
السؤال الثالث أين جواب لولا الجواب من وجهين الأول تقدير الآية لولا هذه النعمة لنبذ بالعراء مع وصف المذمومية فلما حصلت هذه النعمة لا جرم لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف لأنه لما فقد هذا الوصف فقد فقد ذلك المجموع الثاني لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ويدل على هذا قوله فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( الاصفات 143 144 ) وهذا كما يقال عرصة القيامة وعراء القيامة
السؤال الرابع هل يدل قوله وَهُوَ مَذْمُومٌ على كونه فاعلاً للذنب الجواب من ثلاثة أوجه الأول أن كلمة لَوْلاَ دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل الثاني لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ( القلم 50 ) والفاء للتعقيب
السؤال الخامس ما سبب نزول هذه الآيات الجواب يروى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ما حل فأراد أن يدعوا على الذين انهزموا وقيل حين أراد أن يدعو على ثقيف
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان أحدهما قال ابن عباس رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه والثاني قال قوم ولعله ما كان رسولاً صاحب وحي قبل هذه الواقعة ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً وهو المراد من قوله فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا القول الأول لأن احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصاً ولا كرامة فلا بد وأن يكون معجزة وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحالة
المسألة الثانية احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فالآية تدل على أن ذلك الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه قال الجبائي يحتمل أن يكون معنى جعله أنه أخبر بذلك ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني والجواب أن هذين الوجهين اللذين ذكرتم مجاز والأصل في الكلام الحقيقة
وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
قوله تعالى وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ فيه مسألتان
المسألة الأولى إن مخففة من الثقيلة واللام علمها
المسألة الثانية قرىء لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء وفتحها وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال زلق الرأس وأزلقه حلقه وقرىء ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها ثم فيه وجوه أحدها أنهم من أشدة تحديقهم ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم نظر إليَّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله قال الشاعر يتقارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزل مواطىء الأقدام
وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه نظروا إلي بأعين محمرة
نظر التيوس إلى شفار الجازر
وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للقرآن وهو قوله لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ الثاني منهم من حمله على الإصابة بالعين وههنا مقامان أحدهما الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا الثاني أن بتقدير كونها صحيحة فهل الآية ههنا مفسرة بها أم لا
المقام الأول من الناس من أنكر ذلك وقال تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة وههنا لا مماسة فامتنع حصول التأثير
واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً اختلافها في لوازمها وآثارها فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير وإن كان الثاني لم يمتنع أيضاً أن يكون مزاج إنسان واقعاً على وجه مخصوص يكون له أثر خاص وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم وليس في بطلانه شبهة فضلاً عن حجة والدلائل السمعية ناطقة بذلك كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( العين حق ) وقال ( العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر )
والمقام الثاني من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا كانت العين في بني أسد وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه لم أر كاليوم مثله إلا عانه فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فعصمه الله تعالى وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه بل كانوا يمقتونه ويبغضونه والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين
واعلم أن هذا السؤال ضعيف لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته وإيراده للدلائل وعن الحسن دواء الإصابة بالعين قراءة هذه الآية
وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وهو على ما افتتح به السورة
وَمَا هُوَ أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ فإنه تذكير لهم وبيان لهم وأدلة لهم وتنبيه لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد وفيه من الآداب والحكم وسائر العلوم مالا حد له ولا حصر فكيف يدعى من يتلوه مجنوناً ونظيره مما يذكرون مع أنه من أدلة الأمور على كمال الفضل والعقل والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سورة الحاقة
خمسون وآيتان مكيةالْحَاقَّة ُ مَا الْحَآقَّة ُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة ُ
المسألة الأولى أجمعوا على أن الحاقة هي القيامة واختلفوا في معنى الحاقة على وجوه أحدها أن الحق هو الثابت الكائن فالحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها وثانيها أنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته جعل الفعل لها وهو لأهلها وثالثها أنها ذوات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق والثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة أمور واجبة الوقوع والوجود فهي كلها حواق ورابعها أن الْحَاقَّة ُ بمعنى الحقة والحقة أخص من الحق وأوجب تقول هذه حقتي أي حقي وعلى هذا الْحَاقَّة ُ بمعنى الحق وهذا الوجه قريب من الوجه الأول وخامسها قال الليث الْحَاقَّة ُ النازلة التي حقت بالجارية فلا كاذبة لها وهذا معنى قوله تعالى لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ ( الواقعة 2 ) وسادسها الْحَاقَّة ُ الساعة التي يحق فيها الجزاء على كل ضلال وهدى وهي القيامة وسابعها الْحَاقَّة ُ هو الوقت الذي يحق على القوم أن يقع بهم وثامنها أنها الحق بأن يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين فإن في ذلك اليوم يحصل الثواب والعقاب ويخرج عن حد الانتظار وهو قول الزجاج وتاسعها قال الأزهري والذي عندي في الْحَاقَّة ُ أنها سميت بذلك لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه من قولك حاققته فحققته أي غالبته فغلبته وفلجت عليه وعاشرها قال أبو مسلم الْحَاقَّة ُ الفاعلة من حقت كلمة ربك
المسألة الثانية الحاقة مرفوعة بالابتداء وخبرها مَا الْحَاقَّة ُ والأصل الْحَاقَّة ُ ما هي أي أي شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها ومثله قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ
( القارعة 1 2 ) وقوله وَمَا أَدْرَاكَ أي وأي شيء أعلمك مَا الْحَاقَّة ُ يعني إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها يعني أنه في العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وَمَا في موضع الرفع على الابتداء و أَدْرَاكَ معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ
قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ الْقَارِعَة ُ هي التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار وإنما قال كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ ولم يقل بها ليدل على أن معنى القرع حاصل في الحاقة فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ
اعلم أن في الطاغية أقوالاً الأول أن الطاغية هي الواقعة المجاوزة للحد في الشدة والقوة قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء ( الحاقة 1 ) أي جاوز الحد وقال مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) فعلى هذا القول الطاغية نعت محذوف واختلفوا في ذلك المحذوف فقال بعضهم إنها الصيحة المجاوزة في القوة والشدة للصيحات قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَة ً واحِدَة ً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( القمر 31 ) وقال بعضهم إنها الرجفة وقال آخرون إنها الصاعقة والقول الثاني أن الطاغية ههنا الطغيان فهي مصدر كالكاذبة والباقية والعاقبة والعافية أي أهلكوا بطغيانهم على الله إذ كذبوا رسله وكفروا به وهو منقول عن ابن عباس والمتأخرون طعنوا فيه من وجهين الأول وهو الذي قاله الزجاج أنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيء الذي وقع به العذاب وهو قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( الحاقة 6 ) وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تكون المناسبة حاصلة والثاني وهو الذي قاله القاضي وهو أنه لو كان المراد ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال أهلكوا لها ولأجلها والقول الثالث بِالطَّاغِيَة ِ أي بالفرقة التي طغت من جملة ثمود فتآمروا بعقر الناقة فعقروها أي أهلكوا بشؤم فرقتهم الطاغية ويجوز أن يكون المراد بالطاغية ذلك الرجل الواحد الذي أقدم على عقر الناقة وأهلك الجميع لأنهم رضوا بفعله وقيل له طاغية كما يقول فلان راوية الشعر وداهية وعلامة ونسابة
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَة ٍ
الصرصر الشديدة الصوت لها صرصرة وقيل الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها وأما العاتية ففيها أقوال الأول قال الكلبي عتت على خزنتها يومئذ فلم يحفظوا كم خرج منها ولم يخرج قبل ذلك ولا بعده منها شيء إلا بقدر معلوم قال عليه الصلاة والسلام طغى الماء على خزانه يوم نوح وعتت الريح على خزانها يوم عاد فلم يكن لها عليها سبيل فعلى هذا القول هي عاتية على الخزان الثاني قال عطاء عن ابن عباس يريد
الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببناء أو ( استناد إلى جبل ) فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم القول الثالث أن هذا ليس من العتو الذي هو عصيان إنما هو بلوغ الشيء وانتهاؤه ومنه قولهم عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ( مريم 8 ) فعاتية أي بالغة منتهاها في القوة والشدة
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ
قوله تعالى سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً قال مقاتل سلطها عليهم وقال الزجاج أقلعها عليهم وقال آخرون أرسلها عليهم هذه هي الألفاظ المنقولة عن المفسرين وعندي أن فيه لطيفة وذلك لأن من الناس من قال إن تلك الرياح إنما اشتدت لأن اتصالاً فلكياً نجومياً اقتضى ذلك فقوله سَخَّرَهَا فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب وبيان أن ذلك إنما حصل بتقدير الله وقدرته فإنه لولا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف والتحذير عن العقاب وقوله سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً الفائدة فيه أنه تعالى لو لم يذكر ذلك لما كان مقدار زمان هذا العذاب معلوماً فلما قال سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ صار مقدار هذا الزمان معلوماً ثم لما كان يمكن أن يظن ظان أن ذلك العذاب كان متفرقاً في هذه المدة أزال هذا الظن بقوله حُسُوماً أي متتابعة متوالية واختلفوا في الحسوم على وجوه أحدها وهو قول الأكثرين ( حسوماً ) أي متتابعة أي هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المهلكة فلم يكن فيها فتور ولا انقطاع وعلى هذا القول حسوم جمع حاسم كشهود وقعود ومعنى هذا الحسم في اللغة القطع بالاستئصال وسمي السيف حساماً لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ عداوته فلما كانت تلك الرياح متتابعة ما سكنت ساعة حتى أتت عليهم أشبه تتابعها عليهم تتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم وثانيها أن الرياح حسمت كل خير واستأصلت كل بركة فكانت حسوماً أو حسمتهم فلم يبق منهم أحد فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم وثالثها أن يكون الحسوم مصدراً كالشكور والكفور وعلى هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمراً والتقدير يحسم حسوماً يعني استأصل استئصالاً أو يكون صفة كقولك ذات حسوم أو يكون مفعولاً له أي سخرها عليهم للاستئصال وقرأ السدي حُسُوماً بالفتح حالاً من الريح أي سخرها عليهم مستأصلة وقيل هي أيام العجوز وإنما سميت بأيام العجوز لأن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء
قوله تعالى فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى أي في مهابها وقال آخرون أي في تلك الليالي والأيام صَرْعَى جمع صريع قال مقاتل يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم فهم مصرعون صرع الموت
ثم قال كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها والنخل يؤنث ويذكر قال الله تعالى في موضع آخر كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( القمر 20 ) وقرىء ( أعجاز نخيل ) ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعاً ضخاماً كأصول النخل وأما وصف النخل بالخواء فيحتمل أن يكون وصفاً للقوم فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف ويحتمل أن تكون الخالية بمعنى البالية لأنها إذا بليت خلت أجوافها فشبهوا بعد أن أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال
فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَة ٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الباقية ثلاثة أوجه أحدها إنها البقية وثانيها المراد من نفس باقية وثالثها المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان
المسألة الثانية ذهب قوم إلى أن المراد أنه لم يبق من نسل أولئك القوم أحد واستدل بهذه الآية على قوله قال ابن جريج كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عقاب الله من الريح فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذاك هو قوله فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَة ٍ وقوله فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ( الأحقاف 25 )
القصة الثانية قصة فرعون
وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَة ِ
أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو و ( من ) لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وَمِن قَبْلِهِ بكسر القاف وفتح الباء قال سيبويه قبل لما ولي الشيء تقول ذهب قبل السوق ولى قبلك حق أي فيما يليك واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك فمعنى مِن قَبْلِهِ أي من عنده من أتباعه وجنوده والذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن ابن مسعود وأبياً وأبا موسى قرؤا وَمِنْ روى عن أبي وحده أنه قرأ مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أما قوله وَالْمُؤْتَفِكَاتِ فقد تقدم تفسيرها وهم الذين أهلكوا من قوم لوط على معنى والجماعات المؤتفكات وقوله بِالْخَاطِئَة ِ فيه وجهان الأول أن الخاطئة مصدر كالخطأ والثاني أن يكون المراد بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم
فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَة ً رَّابِيَة ً
الضمير إن كان عائداً إلى فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ ( الحاقة 9 ) فرسول ربهم هو موسى عليه السلام وإن كان عائداً إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط قال الواحدي والوجه أن يقال المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله فَعَصَوْاْ فيكون كقوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) وقوله فَأَخَذَهُمْ أَخْذَة ً رَّابِيَة ً يقال ربا الشيء يربو إذا زاد ثم فيه وجهان
الأول أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار الثاني أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة لقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَة ِ
طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج وليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة ولا بعدها إلا بكيل معلوم وسائر المفسرين قالوا طَغَى الْمَاء أي تجاوز حده حتى علا كل شيء وارتفع فوقه و حَمَلْنَاكُمْ أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ولا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في السفينة وقوله فِى الْجَارِيَة ِ يعني في السفينة التي تجري في الماء وهي سفينة نوح عليه السلام والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله وَلَهُ الْجَوَارِ ( الرحمن 24 )
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَة ً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَة ٌ
قوله تعالى لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَة ً الضمير في قوله لِنَجْعَلَهَا إلى ماذا يرجع فيه وجهان الأول قال الزجاج إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة وإن كانت ههنا غير مذكورة والتقدير لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة وعبرة الثاني قال الفراء لنجعل السفينة وهذا ضعيف والأول هو الصواب ويدل على صحته قوله وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَة ٌ فالضمير في قوله وَتَعِيَهَا عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول لكن الضمير في قوله وَتَعِيَهَا لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول
قوله تعالى وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَة ٌ فيه مسألتان
المسألة الأولى يقال لكل شيء حفظته في نفسك وعيته ووعيت العلم ووعيت ما قلت ويقال لكل ما حفظته في غير نفسك أوعيته يقال أوعيت المتاع في الوعاء ومنه قول الشاعر
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ونفاذ مشيئته ونهاية حكمته ورحمته وشدة قهره وسطوته وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول هذه الآية ( سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي قال علي فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسى ) فإن قيل لم قال أُذُنٌ واعِيَة ٌ على التوحيد والتنكير قلنا للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله وأن ما سواها لا يلتفت إليهم وإن امتلأ العالم منهم
المسألة الثانية قراءة العامة وَتَعِيَهَا بكسر العين وروى عن ابن كثير وَتَعِيَهَا ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف وإنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل فأشبه ما هو من نفس الكلمة وصار كقول من قال وهو وهي ومثل ذلك قوله وَيَتَّقْهِ ( النور 52 ) في قراءة من سكن القاف
واعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث ونبه بها عن ثبوت القدرة والحكمة للصانع فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة وثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة
ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة فذكر أولاً مقدماتها فقال
فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَة ٌ وَاحِدَة ٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء نَفْخَة ٌ بالرفع والنصب وجه الرفع أسند الفعل إليها وإنما حسن تذكير الفعل للفصل ووجه النصب أن الفعل مسند إلى الجار والمجرور ثم نصب نفخة على المصدر
المسألة الثانية المراد من هذه النفخة الواحدة هي النفخة الأولى لأن عندها يحصل خراب العالم فإن قيل لم قال بعد ذلك يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( الحاقة 18 ) والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية قلنا جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب فلذلك قال يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ كما تقول جئته عام كذا وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته
وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً وَاحِدَة ً
فيه مسألتان
المسألة الأولى رفعت الأرض والجبال إما بالزلزلة التي تكون في القيامة وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال أو بملك من الملائكة أو بقدرة الله من غير سبب فدكتا أي فدكت الجملتان جملة الأرض وجملة الجبال فضرب بعضها ببعض حتى تندق وتصير كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً والدك أبلغ من الدق وقيل فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً من قولك اندك السنام إذا انفرش وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان
المسألة الثانية قال الفراء لا يجوز في دكة ههنا إلا النصب لارتفاع الضمير في دكتا ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كالواحدة والأرض كالواحدة كما قال ءانٍ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً ( الأنبياء 30 ) ثم قال تعالى ولم يقل كن
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ
أي فيومئذ قامت القيامة الكبرى وانشقت السماء لنزول الملائكة فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ أي مسترخية ساقطة القوة كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ بعدما كانت محكمة شديدة
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ
ثم قال تعالى وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَالْمَلَكُ لم يرد به ملكاً واحداً بل أراد الجنس والجمع
المسألة الثانية الأرجاء في اللغة النواجي يقال رجا ورجوان والجمع الأرجاء ويقال ذلك لحرف البئر وحرف القبر وما أشبه ذلك والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء فإن قيل الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( الزمر 68 ) فكيف يقال إنهم يقفون على أرجاء السماء قلنا الجواب من وجهين الأول أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون الثاني أن المراد الذين استثناهم الله في قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 )
قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ فيه مسائل
المسألة الأولى هذا العرش هو الذي أراده الله بقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ( غافر 7 ) وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 )
المسألة الثانية الضمير في قوله فَوْقَهُمُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول وهو الأقرب أن المراد فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش الثاني قال مقاتل يعني أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم و ( مجيء ) الضمير قبل الذكر جائز كقوله في بيته يؤتي الحكم
المسألة الثالثة نقل عن الحسن رحمه الله أنه قال لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف أو ثمانية آلاف صف واعلم أن حمله على ثمانية أشخاص أولى لوجوه أحدها ما روى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية ) ويروى ( ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون ) ( وقيل بعضهم على صورة الإنسان ) وقيل بعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر وروي ثمانية أملاك في صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك الوجه الثاني في بيان أن الحمل على ثمانية أشخاص أولى من الحمل على ثمانية آلاف وذلك لأن الثمانية أشخاص لا بد منهم في صدق اللفظ ولا حاجة في صدق اللفظ إلى ثمانية آلاف فحينئذ يكون اللفظ دالاً على ثمانية أشخاص ولا دلالة فيه على ثمانية آلاف فوجب حمله على الأول الوجه الثالث وهو أن الموضع موضع التعظيم والتهويل فلو كان المراد ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل فحيث لم يذكر ذلك علمنا أنه ليس المراد إلا ثمانية أشخاص
المسألة الرابعة قالت المشبهة لو لم يكن الله في العرش لكان حمل العرش عبثاً عديم الفائدة ولا سيما وقد تأكد ذلك بقوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( الحاقة 18 ) والعرض إنما يكون لو كان الإله حاصلاً في العرش أجاب أهل التوحيد عنه بأنه لا يمكن أن يكون المراد منه أن الله جالس في العرش وذلك لأن كل من كان حاملاً للعرش كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإله في العرش للزم الملائكة أن يكونوا حاملين لله تعالى وذلك محال لأنه يقتضي احتياج الله إليهم وأن يكونوا أعظم قدرة من الله تعالى وكل ذلك كفر
صريح فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل فنقول السبب في هذا الكلام هو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق لنفسه بيتاً يزورونه وليس أنه يسكنه تعالى الله عنه وجعل في ركن البيت حجراً هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم وجعل على العباد حفظة ليس لأن النسيان يجوز عليه سبحانه لكن هذا هو المتعارف فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس إليهم على سرير ووقف الأعوان حوله أحضر الله يوم القيامة عرشاً وحضرت الملائكة وحفت به لا لأنه يقعد عليه أو يحتاج إليه بل لمثل ما قلناه في البيت والطواف
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ
قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله ونظيره قوله وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا وروى ( أن في القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ وأما الثالثة ففيها تنثر الكتب فيأخذ السعيد كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله )
ثم قال لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول تقرير الآية تعرضون لا يخفى أمركم فإنه عالم بكل شيء ولا يخفى عليه منكم خافية ونظيره قوله لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء فيكون الغرض منه المبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلاً الوجه الثاني المراد لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفياً منكم في الدنيا فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم وتظهر أحوال أهل العذاب فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم وهو المراد من قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ وفي هذا أعظم الزجر والوعيد وهو خوف الفضيحة
المسألة الثانية قراءة العامة لاَ تَخْفَى بالتاء المنقطة من فوقها واختار أبو عبيدة الياء وهي قراءة حمزة والكسائي قال لأن الياء تجوز للذكر والأنثى والتاء لا تجوز إلا للأنثى وههنا يجوز إسناد الفعل إلى المذكر وهو أن يكون المراد بالخافية شيء ذو خفاء وأيضاً فقد وقع الفصل ههنا بين الاسم والفعل بقوله منكم
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما ينتهي هذا العرض إليه قال
فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى هاء صوت يصوت به فيفهم منه معنى خذ كأف وحس وقال أبو القاسم الزجاجي وفيه لغات وأجودها ما حكاه سيبويه عن العرب فقال ومما يؤمر به من المبنيات قولهم هاء يا فتى ومعناه تناول ويفتحون الهمزة ويجعلون فتحها علم المذكر كما قالوا هاك يا فتى فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر
ويقال للإثنين هاؤما وللجمع هاؤموا وهاؤم والميم في هذا الموضع كالميم في أنتما وأنتم وهذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤم إنما هي ضمة ميم الجمع لأن الأصل فيه هاؤموا وأنتموا فاشبعوا الضمة وحكموا للإثنين بحكم الجمع لأن الإثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام
المسألة الثانية إذا اجتمع عاملان على معمول واحد فإعمال الأقرب جائز بالاتفاق وإعمال الأبعد هل يجوز أم لا ذهب الكوفيون إلى جوازه والبصريون منعوه واحتج البصريون على قولهم بهذه الآية لأن قوله هَاؤُمُ ناصب وقوله اقْرَؤُاْ ناصب أيضاً فلو كان الناصب هو الأبعد لكان التقدير هاؤم كتابيه فكان يجب أن يقول اقرأوه ونظيره اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن هذه الآية دلت على أن الواقع ههنا إعمال الأقرب وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يجوز إعمال الأبعد أم لا وليس في الآية تعرض لذلك وأيضاً قد يحذف الضمير لأن ظهوره يغني عن التصريح به كما في قوله وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ فلم لا يجوز أن يكون ههنا كذلك ثم احتج الكوفيون بأن العامل الأول متقدم في الوجود على العامل الثاني والعامل الأول حين وجد اقتضى معمولاً لامتناع حصول العلة دون المعمول فصيرورة المعمول معمولاً للعامل الأول متقدم على وجود العامل الثاني والعامل الثاني إنما وجد بعد أن صار معمولاً للعامل الأول فيستحيل أن يصير أيضاً معمولاً للعامل الثاني لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين ولامتناع تعليل ما وجد قبل بما يوجد بعد وهذه المسألة من لطائف النحو
المسألة الثالثة الهاء للسكت فِى كِتَابيَهْ وكذا في حِسَابِيَهْ وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ولما كانت هذه الهاءات مثبتة في المصحف والمثبتة في المصحف لا بد وأن تكون مثبتة في اللفظ ولم يحسن إثباتها في اللفظ إلا عند الوقف لا جرم استحبوا الوقف لهذا السبب وتجاسر بعضهم فأسقط هذه الهاءات عند الوصل وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغيرها وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعاً لاتباع المصحف
المسألة الرابعة اعلم أنه لما أوتي كتابيه بيمينه ثم إنه يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ دل ذلك على أنه بلغ الغاية في السرور لأنه لما أعطى كتابه بيمينه علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله وقيل يقول ذلك لأهل بيته وقرابته
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول
إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ
وفيه وجوه الأول المراد منه اليقين الاستدلالي وكل ما ثبت بالاستدلال فإنه لا ينفك من الخواطر المختلفة فكان ذلك شبيهاً بالظن الثاني التقدير إني كنت أظن أني ألاقي حسابي فيؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل علي بالعفو ولم يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كتابيه وثالثها روي أبو هريرة أنه عليه السلام قال ( إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه فتظهر حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح ثم يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ءانٍ ظَنَنتُ عِندَ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ
على سبيل الشدة وأما الآن فقد فرح الله عني ذلك الغم وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا ورابعها ظننت أي علمت وإنما أجرى مجرى العلم لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام يقال أظن ظناً كاليقين أن الأمر كيت وكيت وخامسها المراد إني ظننت في الدنيا أن بسبب الأعمال التي كنت أعملها في الدنيا سأصل في القيامة إلى هذه الدرجات وقد حصلت الآن على اليقين فيكون الظن على ظاهره لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك
ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال
فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى وصف العيشة بأنها راضية فيه وجهان الأول المعنى أنها منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل والنسبة نسبتان نسبة بالحروف ونسبة بالصيغة والثاني أنه جعل الرضا للعيشة مجازأ مع أنه صاحب العيشة
المسألة الثانية ذكروا في حد الثواب أنه لا بد وأن يكون منفعة ولا بد وأن تكون خالصة عن الشوائب ولا بد وأن تتكون دائمة ولا بد وأن تكون مقرونة بالتعظيم فالمعنى إنما يكون مرضياً به من جميع الجهات لو كان مشتملاً على هذه الصفات فقوله عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ كلمة حاوية لمجموع هذه الشرائط التي ذكرناها
فِى جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ
ثم قال فِى جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ وهو أن من صار في عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ أي يعيش عيشاً مرضياً في جنة عالية والعلو إن أريد به العلو في المكان فهو حاصل لأن الجنة فوق السموات فإن قيل أليس أن منازل البعض فوق منازل الآخرين فهؤلاء السافلون لا يكونون في الجنة العالية قلنا إن كون بعضها دون بعض لا يقدح في كونها عالية وفوق السموات وإن أريد العلو في الدرجة والشرف فالأمر كذلك وإن أريد به كون تلك الأبنية عالية مشرفة فالأمر أيضاً كذلك
قُطُوفُهَا دَانِيَة ٌ
ثم قال قُطُوفُهَا دَانِيَة ٌ أي ثمارها قريبة التناول يأخذها الرجل كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً وإن أحب أن تدنو إلي فيه دنت والقطوف جمع قطف وهو المقطوف
ثم قال تعالى
كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاٌّ يَّامِ الْخَالِيَة ِ
والمعنى يقال لهم ذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من قال قوله كُلُواْ ليس بأمر إيجاب ولا ندب لأن الآخرة ليست دار تكليف ومنهم من قال لا يبعد أن يكون ندباً إذا كان الغرض منه تعظيم ذلك الإنسان وإدخال السرور في قلبه
المسألة الثانية إنما جمع الخطاب في قوله كلوا بعد قوله فهو في عيشة لقوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ ومن مضمن معنى الجمع
المسألة الثالثة قوله مَا أَسْلَفْتُمْ أي قدمتم من أعمالكم الصالحة ومعنى الإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالإقراض ومنه يقال أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله والمعنى بما عملتم من الأعمال الصالحة والأيام الخالية المراد منها أيام الدنيا والخالية الماضية ومنه قوله وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى و تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ وقال الكلبي بِمَا أَسْلَفْتُمْ يعني الصوم وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنه بالصوم طاعة لله تعالى
المسألة الرابعة قوله بِمَا أَسْلَفْتُمْ يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب وأيضاً لو كانت الطاعات فعلاً لله تعالى لكان قد أعطى الإنسان ثوباً لا على فعل فعله الإنسان وذلك محال وجوابه معلوم
وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
واعلم أنه تعالى بين أنه لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله خجل منها وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار فقال ليتهم عذبوني بالنار وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة وهذا ينبهك على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني وقوله وَلَمْ أَدْرِ أي ولم أدر أي شيء حسابيه لأنه حاصل ولا طائل له في ذلك الحساب وإنما كله عليه
يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ
ثم قال حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ الضمير في يا ليتها إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول إلى الموتة الأولى وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة و يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ القاطعة عن الحياة وفيها إشارة إلى الإنتهاء والفراغ قال تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ ( الجمعة 10 ) ويقال قضى على فلان أي مات فالمعنى يا ليت الموتة التي متها كانت القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما وصلت إليه قال قتادة تمني الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت وشر من الموت ما يطلب له الموت قال الشاعر وشر من الموت الذي إن لقيته
تمنيت منه الموت والموت أعظم
والثاني أنه عائد إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب والمعنى يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته فتمناه عندها ثم قال
مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَة ٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ
مَا أَغْنَى نفي أو استفهام على وجه الإنكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار ونظيره قوله وَيَأْتِينَا فَرْداً وقوله هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ في المراد بلسطانيه وجهان أحدهما قال ابن عباس ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا وقال مقاتل ضلت عني حجتي يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك والثاني ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً وقيل معناه إنني إنما كنت أنازع المحقين بسبب الملك والسلطان فالآن ذهب ذلك الملك وبقي الوبال
واعلم أنه تعالى ذكر سرور السعداء أولاً ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب كذا ههنا ذكر غم الأشقياء وحزنهم ثم ذكر أحوالهم في الغل والقيد وطعام الغسلين فأولها أن تقول خزنة جهنم خذوه فيبتدر إليه مائة ألف ملك وتجمع يده إلى عنقه فذاك قوله فَغُلُّوهُ وقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ قال المبرد أصليته النار إذا أوردته إياها وصليته أيضاً كما يقال أكرمته وكرمته وقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ معناه لا تصلوه إلى الجحيم وهي النار العظمى لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ثم في سلسلة وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل وقوله ذَرْعُهَا معنى الذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد يقال ذرع الثوب يذرعه ذرعاً إذا قدره بذراعه وقوله سَبْعُونَ ذِرَاعاً فيه قولان أحدهما أنه ليس الغرض التقدير بهذا المقدار بل الوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة والثاني أنه مقدر بهذا المقدار ثم قالوا كل ذراع سبعون باعاً وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة وقال الحسن الله أعلم بأي ذراع هو وقوله فَاْسْلُكُوهُ قال المبرد يقال سلكه في الطريق وفي القيد وغير ذلك وأسلكته معناه أدخلته ولغة القرآن سلكته قال الله تعالى مَا سَلَكَكُمْ فِى وقال كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( الشعراء 200 ) قال ابن عباس تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه وقال الكلبي كما يسلك الخيط في اللؤلؤ ثم يجعل في عنقه سائرها وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في تطويل هذه السلسلة الجواب قال سويد بن أبي نجيح بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة وإذا كان الجمع من الناس مقيدين بالسلسة الواحدة كان العذاب على كل واحد منهم بذلك السبب أشد
السؤال الثاني سلك السلسلة فيهم معقول أما سلكهم في السلسلة فما معناه الجواب سلكه في السلسلة أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أجزاؤها وهو فيما بينها مزهق مضيق عليه لا يقدر على حركة وقالوا الفراء المعنى ثم اسلكوا فيه السلسلة كما يقال أدخلت رأسي في القلنسوة وأدخلتها في رأسي ويقال الخاتم لا يدخل في إصبعي والإصبع هو الذي يدخل في الخاتم
السؤال الثالث لم قال في سلسلة فاسلكوه ولم يقل فاسلكوه في سلسلة الجواب المعنى في تقديم السلسلة على السلك هو الذي ذكرناه في تقديم الجحيم على التصلية أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة لأنها أفظع من سائر السلاسل السؤال الرابع ذكر الأغلال والتصلية بالفاء وذكر السلك في هذه السلسة بلفظ ثم فما الفرق الجواب ليس المراد من كلمة ثم تراخي المدة بل التفاوت في مراتب العذاب
واعلم أنه تعالى لما شرح هذا العذاب الشديد ذكر سببه فقال
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
فالأول إشارة إلى فساد حال القوة العاقلة والثاني إشارة إلى فساد حال القوة العملية وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه قولان أحدهما ولا يحض على بذل طعام المسكين والثاني أن الطعام ههنااسم أقيم مقام الإطعام كما وضع العطاء مقام الإعطاء في قوله
وبعد عطائك المائة الرتاعا
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين أحدهما عطفه على الكفر وجعله قرينة له والثاني ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بمن يترك الفعلا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة وهو المراد من قولنا إنهم مخاطبون بفروع الشرائع وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقيا وقيل المراد منه منع الكفار وقولهم أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( يس 47 )
ثم قال
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ
أي ليس له في الآخرة حميم أي قريب يدفع عنه ويحزن عليه لأنهم يتحامون ويفرون منه كقوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً وكقوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ
بم قوله تعالى
وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ
فيه مسألتان
المسألة الأولى يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال لا أدري ما الغسلين وقال الكلبي وهو ماء يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو غِسْلِينٍ فعلين من الغسل
المسألة الثانية الطعام ما هيء للأكل فلما هيء الصديد ليأكله أهل النار كان طعاماً لهم ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم لهم مقام الطعام فسمى طعاماً كما قال
تحية بينهم ضرب وجيع
والتحية لا تكون ضرباً إلا أنه لما أقيم مقامه جاز أن يسمى به
لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ
ثم إنه تعالى ذكر أن الغسلين أكل من هو فقال لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب وهم المشركون وقرىء الخاطيون بإبدال الهمزة ياء والخاطون بطرحها وعن ابن عباس أنه طعن في هذه القراءة وقال ما الخاطيون كلنا نخطو إنما هو الخاطئون ما الصابون إنما هو الصابئون ويجوز أن يجاب عنه بأن المراد الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على إمكان القيامة ثم على وقوعها ثم ذكر أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال
فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى منهم من قال المراد أقسم ولا صلة أو يكون رد الكلام سبق ومنهم من قال لا ههنا نافية للقسم كأنه قال لا أقسم على أن هذا القرآن قَوْلَ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( الحاقة 40 ) يعني أنه لوضوحه يستغني عن القسم والاستقصاء في هذه المسألة سنذكره في أول سورة لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 )
المسألة الثانية قوله بِمَا تُبْصِرُونَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ يوم جميع الأشياء على الشمول لأنها لا تخرج من قسمين مبصر وغير مبصر فشمل الخالق والخلق والدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة
ثم قال تعالى
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
واعلم أنه تعالى ذكر في سورة ( التكوير 1 ) إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ مثل هذا الكلام والأكثرون هناك على أن المراد منه جبريل عليه السلام والأكثرون ههنا على أن المراد منه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واحتجوا على الفرق بأن ههنا لما قال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن والقوم ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة بل كانوا يصفون محمداً بهذين الوصفين وأما في سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ لما قال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ثم قال بعده وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ( التكوير 25 ) كان المعنى إنه قول ملك كريم لا قول شيطان رجيم فصح أن المراد من الرسول الكريم ههنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي تلك السورة هو جبريل عليه السلام وعند هذا يتوجه السؤال أن الأمة مجمعة على أن القرآن كلام الله تعالى وحينئذ يلزم أن يكون الكلام الواحد كلاماً لله تعالى ولجبريل ولمحمد وهذا غير معقول والجواب أنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب فهو كلام الله تعالى بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ وهو الذي رتبه ونظمه وهو كلام جبريل عليه السلام بمعنى أنه هو الذي أنزله من السموات إلى الأرض وهو كلام محمد بمعنى أنه هو الذي أظهره للخلق ودعا الناس إلى الإيمان به وجعله حجة لنبوته
ثم قال تعالى
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور تؤمنون وتذكرون بالتاء المنقوطة من فوق على الخطاب إلا ابن كثير
فإنه قرأهما بالياء على المغايبة فمن قرأ على الخطاب فهو عطف على قوله بِمَا تُبْصِرُونَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ( الحاقة 38 39 ) ومن قرأ على المغايبة سلك فيه مسلك الالتفات
المسألة الثانية قالوا لفظة ما في قوله قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ لغو وهي مؤكدة وفي قوله قَلِيلاً وجهان الأول قال مقاتل يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله والمعنى لا يؤمنون أصلاً والعرب يقولون قلما يأتينا يريدون لا يأتينا الثاني أنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ولا يتمون الاستدلال ألا ترى إلى قوله إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ إلا أنه في آخر الأمر قال إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( المدثر 24 )
المسألة الثالثة ذكر في نفي الشاعرية قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وفي نفي الكاهنية مَّا تَذَكَّرُونَ والسبب فيه كأنه تعالى قال ليس هذا القرآن قولاً من رجل شاعر لأن هذا الوصف مباين لصنوف الشعر كلها إلا أنكم لا تؤمنون أي لا تقصدون الإيمان فلذلك تعرضون عن التدبر ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم إنه شاعر لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر ولا أيضاً بقول كاهن لأنه وارد بسبب الشياطين وشتمهم فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين إلا أنكم لا تتذكرون كيفية نظم القرآن واشتماله على شتم الشياطين فلهذا السبب تقولون إنه من باب الكهانة
بم قوله تعالى
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء أَنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 192 194 ) فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله وهو قول جبريل لأنه نزل به وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به فههنا أيضاً لما قال فيما تقدم إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( الحاقة 40 ) أتبعه بقوله تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ حتى يزول الإشكال وقرأ أبو السمال تنزيلاً أي نزل تنزيلاً
ثم قال تعالى
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّ قَاوِيلِ
قرىء وَلَوْ تَقَوَّلَ على البناء للمفعول التقول افتعال القول لأن فيه تكلفاً من المفتعل وسمي الأقوال المنقولة أقاويل تحقيراً لها كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول والمعنى ولو نسب إلينا قولاً لم نقله
ثم قال تعالى
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجوه الأول معناه لأخذنا بيده ثم لضربنا رقبته وهذا ذكره على سبيل التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه بل يضربون رقبته في الحال وإنما خص اليمين بالذكر لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحقه بالسيف وهو أشد على المعمول به ذلك العمل لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ومعناه لأخذنا بيمينه
كماأن قوله لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ لقطعنا وتينه وهذا تفسير بين وهو منقول عن الحسن البصري القول الثاني أن اليمين بمعنى القوة والقدرة وهو قول الفراء والمبرد والزجاج وأنشدوا قول الشماخ إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
والمعنى لأخذ منه اليمين أي سلبنا عنه القوة والباء على هذا التقدير صلة زائدة قال ابن قتيبة وإنما قام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في ميامنه والقول الثالث قال مقاتل لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الصافات 28 ) يعني انتقمنا منه بالحق واليمين على هذا القول بمعنى الحق كقوله تعالى إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ أي من قبل الحق
اعلم أن حاصل هذه الوجوه أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك إما بواسطة إقامة الحجة فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدماً لكلامه وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك القول وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب
المسألة الثانية الوتين هو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات الحيوان قال أبو زيد وجمعه الوتن و ( يقال ) ثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه قال ابن قتيبة ولم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قطع وتينه ونظيره قوله علي السلام ( ما زالت أكله خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع ابهرى ) والأبهر عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال هذا أوأن يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره ثم قال
فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
قال مقاتل والكلبي معناه ليس منكم أحد يحجزنا عن ذلك الفعل قال الفراء والزجاج إنما قال حاجزين في صفة أحد لأن أحداً هنا في معنى الجمع لأنه اسم يقع في النفي العام مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 ) وقوله لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 ) واعلم أن الخطاب في قوله فَمَا مِنكُم للناس
واعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن تنزيل من الله الحق بواسطة جبريل على محمد الذي من صفته أنه ليس بشاعر ولا كاهن بين بعد ذلك أن القرآن ما هو فقال
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة ٌ لِّلْمُتَّقِينَ
وقد بينا في أول سورة البقرة ( 2 ) في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ما فيه من البحث ثم قال
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ
له بسبب حب الدنيا فكأنه تعالى قال أما من اتقى حب الدنيا فهو يتذكر بهذا القرآن وينتفع وأما من مال إليها فإنه يكذب بهذا القرآن ولا يقربه
وأقول للمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله وذلك لأنه وصف القرآن بأنه تذكرة للمتقين ولم يقل بأنه إضلال للمكذبين بل ذلك الضلال نسبه إليهم فقال وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ونظيره قوله في سورة النحل وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا ( النحل ) واعلم أن الجواب عنه ما تقدم
ثم قال تعالى
وَإِنَّهُ لَحَسْرَة ٌ عَلَى الْكَافِرِينَ
الضمير في قوله إِلَى َّ أَنَّهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه عائد إلى القرآن فكأنه قيل وإن القرآن لحسرة على الكافرين إما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به أو في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين والثاني قال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ودل عليه قوله وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ ( الحاقة 49 )
ثم قال تعالى
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ
معناه أنه حق يقين أي حق لا بطلان فيه ويقين لا ريب فيه ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد ثم قال
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
إما شكراً على ما جعلك أهلاً لإيحائه إليك وإما تنزيهاً له عن الرضا بأن ينسب إليه الكاذب من الوحي ما هو بريء عنه وأما تفسير قوله فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ فمذكور في أول سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى وفي تفسير قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والله سبحانه وتعالى أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة المعارج
أربعون وأربع آياتسَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ
اعلم أن قوله تعالى سَأَلَ فيه قراءتان منهم من قرأه بالهمزة ومنهم من قرأه بغير همزة أما الأولون وهم الجمهور فهذه القراءة تحتمل وجوهاً من التفسير الأول أن النضر بن الحرث لما قال اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى قوله سَأَلَ سَائِلٌ أي دعا داع بعذاب واقع من قولك دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ ( الدخان 55 ) قال ابن الأنباري وعلى هذا القول تقدير الباء الإسقاط وتأويل الآية سأل سائل عذاباً واقعاً فأكد بالباء كقوله تعالى وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ ( مريم 25 ) وقال صاحب الكشاف لما كان سَأَلَ معناه ههنا دعا لا جرم عدى تعديته كأنه قال دعا داع بعذاب من الله الثاني قال الحسن وقتادة لما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض سلوا محمداً لمن هذا العذاب وبمن يقع فأخبره الله عنه بقوله سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ قال ابن الأنباري والتأويل على هذا القول ( سأل سائل ) عن عذاب والباء بمعنى عن كقوله فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وقال تعالى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ( الفرقان 59 ) وقال صاحب ( الكشاف ) سَأَلَ على هذا الوجه في تقدير عنى واهتم كأنه قيل اهتم مهتم بعذاب واقع الثالث قال بعضهم هذا السائل هو رسول الله استعجل بعذاب الكافرين فبين الله أن هذا العذاب واقع بهم فلا دافع له قالوا والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر الآية فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ( المعارج 5 ) وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره بالصبر
الجميل أما القراءة الثانية وهي ( سال ) بغير همز فلها وجهان أحدهما أنه أراد سَأَلَ بالهمزة فخفف وقلب قال سألت قريش رسول الله فاحشة
ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
والوجه الثاني أن يكون ذلك من السيلان ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل والسيل مصدر في معنى السائل كالغور بمعنى الغائر والمعنى اندفع عليهم واد بعذاب وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد قالا سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع أما سَائِلٌ فقد اتفقوا على أنه لا يجوز فيه غير الهمز لأنه إن كان من سأل المهموز فهو بالهمز وإن لم يكن من المهموز كان بالهمز أيضاً نحو قائل وخائف إلا أنك إن شئت خففت الهمزة فجعلتها بين بين وقوله تعالى بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ فيه وجهان وذلك لأنا إن فسرنا قوله سَأَلَ بما ذكرنا من أن النضر طلب العذاب كان المعنى أنه طلب طالب عذاباً هو واقع لا محالة سواء طلب أو لم يطلب وذلك لأن ذلك العذاب نازل للكافرين في الآخرة واقع بهم لا يدفعه عنهم أحد وقد وقع بالنضر في الدنيا لأنه قتل يوم بدر وهو المراد من قوله لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وأما إذا فسرناه بالوجه الثاني وهو أنهم سألوا الرسول عليه السلام أن هذا العذاب بمن ينزل فأجاب الله تعالى عنه بأنه واقع للكافرين والقول الأول وهو السديد وقوله مِنَ اللَّهِ فيه وجهان الأول أن يكون تقدير الآية بعذاب واقع من الله للكافرين الثاني أن يكون التقدير ليس له دافع من الله أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته فإنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله وقوله ذِي الْمَعَارِجِ المعارج جمع معرج وهو المصعد ومنه قوله تعالى وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال ابن عباس في رواية الكلبي ذِي الْمَعَارِجِ أي ذي السموات وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها وثانيها قال قتادة ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة وثالثها أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة وعندي فيه وجه رابع وهو أن هذه السموات كما أنها متفاوتة في الارتفاع والانخفاض والكبر والصغر فكذا الأرواح الملكية مختلفة في القوة والضعف والكمال والنقص وكثرة المعارف الإلهية وقوتها وشدة القوة على تدبير هذا العالم وضعف تلك القوة ولعل نور إنعام الله وأثر فيض رحمته لا يصل إلى هذا العالم إلا بواسطة تلك الأرواح إما على سبيل العادة أولا كذلك على ما قال فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ( النازعات 5 ) فالمراد بقوله مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ الإشارة إلى تلك الأرواح المختلفة التي هي كالمصاعد لارتفاع مراتب الحاجات من هذا العالم إليها وكالمنازل لنزول أثر الرحمة من ذلك العالم إلى ما ههنا
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ
وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر كما في هذه الآية وكما في قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) وهذا يقتضي أن الروح أعظم ( من ) الملائكة قدراً ثم ههنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج
الملائكة أولاً والروح ثانياً كما في هذه الآية وذكر عند القيام الروح أولاً والملائكة ثانياً كما في قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً وهذا يقتضي كون الروح أولاً في درجة النزول وآخراً في درجة الصعود وعند هذا قال بعض المكاشفين إن الروح نور عظيم هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ومنه تتشعب أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح وبين الطرفين معارج مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأنوار القدسية ولا يعلم كميتها إلا الله وأما ظاهر قول المتكلمين وهو أن الروح هو جبريل عليه السلام فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 )
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الله في مكان إما في العرش أو فوقه بهذه الآية من وجهين الأول أن الآية دلت على أن الله تعالى موصوف بأنه ذو المعارج وهو إنما يكون كذلك لو كان في جهة فوق والثاني قوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فبين أن عروج الملائكة وصعودهم إليه وذلك يقتضي كونه تعالى في جهة فوق والجواب لما دلت الدلائل على امتناع كونه في المكان والجهة ثبت أنه لا بد من التأويل فأما وصف الله بأنه ذو المعارج فقد ذكرنا الوجوه فيه وأما حرف ( إلى ) في قوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فليس المراد منه المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ ( هود 123 ) المراد الانتهاء إلى موضع العز والكرامة كقوله إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 ) ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها
المسألة الثالثة الأكثرون على أن قوله فِى يَوْمٍ من صلة قوله تَعْرُجُ أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وقال مقاتل بل هذا من صلة قوله بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وعلى التقدير الأول فذلك اليوم إما أن يكون في الآخرة أو في الدنيا وعلى تقدير أن يكون في الآخرة فذلك الطول إما أن يكون واقعاً وإما أن يكون مقدراً فهذه هي الوجوه التي تحملها هذه الآية ونحن نذكر تفصيلها القول الأول هو أن معنى الآية أن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنة وهو يوم القيامة وهذا قول الحسن قال وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ولفنيت الجنة والنار عند تلك الغاية وهذا غير جائز بل المراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم بعد ذلك يستقر أهل النار في دركات النيران نعوذ بالله منها واعلم أن هذا الطول إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا والدليل عليه الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) واتفقوا على ( أن ) ذلك ( المقيل والمستقر ) هو الجنة وأماالخبر فما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما طول هذا اليوم فقال ( والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ) ومن الناس من قال إن ذلك الموقف وإن طال فهو يكون سبباً لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة ويكون سبباً لمزيد الحزن والغم لأهل النار الجواب عنه أن الآخرة دار جزاء فلا بد من أن يعجل للمثابين ثوابهم ودار الثواب هي الجنة لا الموقف فإذن لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار القول الثاني هو أن هذه المدة واقعة في الآخرة لكن على سبيل التقدير لا على سبيل التحقق والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء
والحكومة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا وأيضاً الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة قليلة وهذا قول وهب وجماعة من المفسرين القول الثالث وهو قول أبي مسلم إن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي القول الرابع تقدير الآية سأل سائل بعذاب واقع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار ويحتمل أن يكون المراد تقدير مدته وعلى هذا فليس المراد تقدير العذاب بهذا المقدار بل المراد التنبيه على طول مدة العذاب ويحتمل أيضاً أن العذاب الذي سأله ذلك السائل يكون مقدراً بهذه المدة ثم إنه تعالى ينقله إلى نوع آخر من العذاب بعد ذلك فإن قيل روى ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية وعن قوله فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ ( السجدة 5 ) فقال أيام سماها الله تعالى هو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها مالا أعلم فإن قيل فما قولكم في التوفيق بين هاتين الآيتين قلنا قال وهب في الجواب عن هذا ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى فقوله تعالى فِى يَوْمٍ يريد من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ومقدار ألف سنة لو صعدوا إلى أعالي العرش
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
فيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا متعلق بسأل سائل لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله والتكذيب بالوحي وكان ذلك مما يضجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر بالصبر عليه وكذلك من يسأل عن العذاب لمن هو فإنما يسأل على طريق التعنت من كفار مكة ومن قرأ سَأَلَ سَائِلٌ فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر فقد جاء وقت الانتقام
المسألة الثانية قال الكلبي هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً
الضمير في يَرَوْنَهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه عائد إلى العذاب الواقع والثاني أنه عائد إلى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ ( المعارج 4 ) أي يستبعدونه على جهة الإحالة و نحن يَكُونَ قَرِيبًا هيناً في
قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً
فيه مسألتان
المسألة الأولى يَوْمَ تَكُونُ منصوب بماذا فيه وجوه أحدها بقريباً والتقدير ونراه قريباً يوم تكون السماء كالمهل أي يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم وثانيها التقدير سأل سائل بعذاب واقع يوم تكون السماء كالمهل والثالث التقدير يوم تكون السماء كالمهل كان كذا وكذا والرابع أن يكون بدلاً من يوم والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم تكون السماء كالمهل
المسألة الثانية أنه ذكر لذلك اليوم صفات
الصفة الأولى أن السماء تكون فيه كالمهل وذكرنا تفسير المهل عند قوله بِمَاء كَالْمُهْلِ قال ابن عباس كدردى الزيت وروى عنه عطاء كعكر القطران وقال الحسن مثل الفضة إذا أذيبت وهو قول ابن مسعود
الصفة الثانية أن تكون الجبال فيه كالعهن ومعنى العهن في اللغة الصوف المصبوغ ألواناً وإنما وقع التشبيه به لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح
الصفة الثالثة قوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس الحميم القريب الذي يعصب له وعدم السؤال إنما كان لاشتغال كل أحد بنفسه وهو كقوله تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وقوله يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ إلى قوله لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) ثم في الآية وجوه أحدها أن يكون التقدير لا يسأل حميم عن حميمه فحذف الجار وأوصل الفعل الثاني لا يسأل حميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام الثالث لا يسأل حميم حميماً شفاعة ولا يسأل حميم حميماً إحساناً إليه ولا رفقاً به
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وَلاَ يَسْئَلُ بضم الياء والمعنى لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه وهذا أيضاً على حذف الجار قال الفراء أي لا يقال لحميم أين حميمك ولست أحب هذه القراءة لأنها مخالفة لما أجمع عليه القراء
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
قوله تعالى يُبَصَّرُونَهُمْ يقال بصرت به أبصر قال تعالى بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ( طه 96 ) ويقال بصرت زيد بكذا فإذا حذفت الجار قلت بصرني زيد كذا فإذا أثبت الفعل للمفعول به وقد حذفت الجار
قلت بصرني زيداً فهذا هو معنى يبصرونهم وإنما جمع فقيل يبصرونهم لأن الحميم وإن كان مفرداً في اللفظ فالمراد به الكثرة والجميع والدليل عليه قوله تعالى فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ( الشعراء 100 ) ومعنى يبصرونهم يعرفونهم أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه فإن قيل ما موضع يبصرونهم قلنا فيه وجهان الأول أنه متعلق بما قبله كأنه لما قال وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج 10 ) قيل لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم ولكنهم لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم الثاني أنه متعلق بما بعده والمعنى أن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه لكل ما يملكه فإن الإنسان إذا كان في البلاد الشديد ثم رآه عدوه على تلك الحالة كان ذلك في نهاية الشدة عليه
الصفة الرابعة قوله يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المجرم هو الكافر وقيل يتناول كل مذنب
المسألة الثانية قرىء يَوْمَئِذٍ بالجر والفتح على البناء لسبب الإضافة إلى غير متمكن وقرىء أيضاً مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بتنوين عَذَابِ ونصب يَوْمَئِذٍ وانتصابه بعذاب لأنه في معنى تعذيب
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُأوِيهِ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
فصيلة الرجل أقاربه الأقربون الذين فصل عنهم وينتهي إليهم لأن المراد من الفصيلة المفصولة لأن الولد يكون منفصلاً من الأبوين قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) فلما كان هو مفصولاً منهما كانا أيضاً مفصولين منه فسميا فصيلة لهذا السبب وكان يقال للعباس فصيلة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن العم قائم مقام الأب وأما قوله تُوِيهِ فالمعنى تضمه انتماء إليها في النسب أو تمسكاً بها في النوائب
وقوله ثُمَّ يُنجِيهِ فيه وجهان الأول أنه معطوف على يَفْتَدِي ( المعارج 11 ) والمعنى يود المجرم لو يفتدي بهذه الأشياء ثم ينجيه والثاني أنه متعلق بقوله وَمَن فِى الاْرْضِ والتقدير يود لو يفتدي بمن في الأرض ثم ينجيه و ثُمَّ لاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه
بم قوله تعالى
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَة ً لِّلشَّوَى
كَلاَّ ردع للمجرم عن كونه بحيث يود الافتداء ببنيه وعلى أنه لا ينفعه ذلك الافتداء ولا ينجيه من العذاب ثم قال أَنَّهَا وفيه وجهان الأول أن هذا الضمير للنار ولم يجر لها ذكر إلا أن ذكر العذاب دل عليها والثاني يجوز أن يكون ضمير القصة ولظى من أسماء النار قال الليث اللظى اللهب الخالص يقال لظت النار تلظى لظى وتلظت تلظياً ومنه قوله نَاراً تَلَظَّى ولظى علم للنار منقول من اللظى وهو معرفة لا ينصرف فلذلك لم ينون وقوله نَزَّاعَة ً مرفوعة وفي سبب هذا الارتفاع وجوه الأول أن تجعل الهاء في أنها عماد أو تجعل لظى اسم إن ونزاعة خبر إن كأنه قيل إن لظى نزاعة والثاني أن تجعل الهاء ضمير القصة ولظى مبتدأ ونزاعة خبراً وتجعل الجملة خبراً عن ضمير القصة والتقدير إن القصة لظى نزاعة للشوى والثالث أن ترتفع على الذم والتقدير إنها لظى وهي نزاعة للشوى وهذا قول الأخفش والفراء والزجاج وأما قراءة النصب
ففيها ثلاثة أوجه أحدها قال الزجاج إنها حال مؤكدة كما قال هُوَ الْحَقُّ مُصَدّقاً وكما يقول أنا زيد معروفاً اعترض أبو علي الفارسي على هذا وقال حمله على الحال بعيد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال فإن قلت في قوله لَظَى معنى التلظي والتلهب فهذا لا يستقيم لأن لظى اسم علم لماهية مخصوصة والماهية لا يمكن تقييدها بالأحوال إنما الذي يمكن تقييده بالأحوال هو الأفعال فلا يمكن أن يقال رجلاً حال كونه عالماً ويمكن أن يقال رأيت رجلاً حال كونه عالماً وثانيها أن تكون لظى اسماً لنار تتلظى تلظياً شديداً فيكون هذا الفعل ناصباً لقوله نَزَّاعَة ً وثالثها أن تكون منصوبة على الاختصاص والتقدير إنها لظى أعنيها نزاعة للشوى ولم تمنع
المسألة الثالثة الشوى الأطراف وهي اليدان والرجلان ويقال للرامي إذا لم يصب المقتل أشوى أي أصاب الشوى والشوى أيضاً جلد الرأس واحدتها شواة ومنه قول الأعشى قالت قتيلة ماله
قد جللت شيباً شواته
هذا قول أهل اللغة قال مقاتل تنزع النار الهامة والأطراف فلا تترك لحماً ولا جلداً إلا أحرقته وقال سعيد بن جبير العصب والعقب ولحم الساقين واليدين وقال ثابت البناني لمكارم وجه بني آدم واعلم أن النار إذا أفنت هذه الأعضاء فالله تعالى يعيدها مرة أخرى كما قال نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ
بم قوله تعالى
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى
فيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر فذكروا وجوهاً أحدها أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل سل الأرض من أشق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك جؤاراً أجابتك اعتباراً فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم وثانيها أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحاً إلي يا كافر إلي يا منافق ثم تلتقطهم التقاط الحب وثالثها المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف ورابعها تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله أي أهلكك وقوله مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان وَجُمِعَ المال فَأَوْعَى أي جعله في وعاء وكنزه ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله وطاعته وقوله وَجَمَعَ فَأَوْعَى إشارة إلى حب الدنيا فجمع إشارة إلى الحرص وأوعى إشارة إلى الأمل ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه
بم قوله تعالى
إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم المراد بالإنسان ههنا الكافر وقال آخرون بل هو على عمومه بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين
المسألة الثانية يقال هلع الرجل يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هالع وهلوع وهو شدة الحرص وقلة الصبر يقال جاع فهلع وقال الفراء الهلوع الضجور وقال المبرد الهلع الضجر يقال نعوذ بالله من الهلع عند منازلة الأقران وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبدالله بن طاهر ما الهلع فقلت قد فسره الله ولا تفسير أبين من تفسيره هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً نظير لقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف والدليل عليه أن الله تعالى ذمه عليه والله تعالى لا يذم فعله ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة المذمومة ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين أحدهما الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع والثاني تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق الله تعالى لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه ومن خلق شجاعاً بطلاً لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار
بم قوله تعالى
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً
المراد من الشر والخير الفقر والغنى أو المرض والصحة فالمعنى أنه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزع والشكاية وإذا صار غنياً أو صحيحاً أخذ في منع المعروف وشح بماله ولم يلتفت إلى الناس فإن قيل حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضار طالب للراحة وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله عليه قلنا إنما ذمه عليه لأنه قاصر النظر على الأحوال الجسمانية العاجلة وكان من الواجب عليه أن يكون مشغولاً بأحوال الآخرة فإذا وقع في مرض أو فقر وعلم أنه فعل الله تعالى كان راضياً به لعلمه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية واعلم أنه استثنى من هذه الحالة المذكورة المذمومة من كان موصوفاً بثمانية أشياء
( 22 )
إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ
أولها قوله إِلاَّ الْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ فإن قيل قال عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ثم عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( المعارج 34 ) قلنا معنى دوامهم عليها أن لا يتركوها في شيء من الأوقات ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه وهذا الاهتمام إنما يحصل تارة بأمور سابقة على الصلاة وتارة بأمور لاحقة بها وتارة بأمور متراخية عنها أما الأمور السابقة فهو أن يكون قبل دخول وقتها متعلق القلب بدخول أوقاتها ومتعلق بالوضوء وستر العورة وطلب القبلة ووجدان الثوب
والمكان الطاهرين والإتيان بالصلاة في الجماعة وفي المساجد المباركة وأن يجتهد قبل الدخول في الصلاة في تفريغ القلب عن الوساوس والإلتفات إلى ما سوى الله تعالى وأن يبالغ في الاحتراز عن الرياء والسمعة وأما الأمور المقارنة فهو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً وأن يكون حاضر القلب عند القراءة فاهماً للأذكار مطلعاً على حكم الصلاة وأما الأمور المتراخية فهي أن لا يشتغل بعد إقامة الصلاة باللغو واللهو واللعب وأن يحترز كل الاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي
وثانيها قوله تعالى
وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ
اختلفوا في الحق المعلوم فقال ابن عباس والحسن وابن سيرين إنه الزكاة المفروضة قال ابن عباس من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق قالوا والدليل على أن المراد به الزكاة المفروضة وجهان الأول أن الحق المعلوم المقدر هو الزكاة أما الصدقة فهي غير مقدرة الثاني وهو أنه تعالى ذكر هذا على سبيل الاستثناء ممن ذمه فدل على أن الذي لا يعطى هذا الحق يكون مذموماً ولا حق على هذه الصفة إلا الزكاة وقال آخرون هذا الحق سوى الزكاة وهو يكون على طريق الندب والاستحباب وهذا قول مجاهد وعطاء والنخعي وقوله لَّلسَّائِلِ يعني الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم
وثالثها قوله
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
أي يؤمنون بالبعث والحشر
ورابعها قوله تعالى
وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ
والإشفاق يكون من أمرين إما الخوف من ترك الواجبات أو الخوف من الإقدام على المحظورات وهذا كقوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 ) وكقوله سبحانه الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحج 35 ) ومن يدوم به الخوف والإشفاق فيما كلف يكون حذراً من التقصير حريصاً على القيام بما كلف به من علم وعمل
ثم إنه تعالى أكد ذلك الخوف فقال
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
والمراد أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي واحترز عن المحظورات بالكلية بل يجوز أن يكون قد وقع منه تقصير في شيء من ذلك فلا جرم يكون خائفاً أبد
وخامسها قوله تعالى
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ
وقد مر تفسيره في سورة المؤمنين
وسادسها قوله
وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
وقد تقدم تفسيره أيضاً
وسابعها قوله
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
قرىء بشهادتهم وبشهاداتهم قال الواحدي والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإن أضيف لجمع كقوله لصوت الحمير ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات وكثرت ضروبها فحسن الجمع من جهة الاختلاف وأكثر المفسرين قالوا يعني الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها وهذه الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وفي تركها إبطالها وتضييعها وروى عطاء عن ابن عباس قال يريد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له
وثامنها قوله
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
وقد تقدم تفسيره
ثم وعد هؤلاء وقال
أُوْلَائِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ
ثم ذكر بعده ما يتعلق بالكفار فقال
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
المهطع المسرع وقيل الماد عنقه وأنشدوا فيه بمكة أهلها ولقد أراهم
بمكة مهطعين إلى السماع
والوجهان متقاربان روى أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون إذا دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت هذه الآية فقوله مُهْطِعِينَ أي مسرعين نحوك مادين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك وقال أبو مسلم ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون فهم الذين كانوا عنده وإسراعهم المذكور هو الإسراع في الكفر كقوله لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ ثم قال
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ
وذلك لأنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين ومعنى عِزِينَ جماعات في تفرقة واحدها عزة وهي العصبة من الناس قال الأزهري وأصلها من قولهم عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزواً إذا انتهى إليهم والاسم العزوة وكان العزة كل جماعة اعتزوها إلى أمر واحد واعلم أن هذا من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضاً من المحذوف وأصلها عزوة والكلام في هذه كالكلام في عِضِينَ ( الحجر 91 ) وقد تقدم وقيل كان المستهزئون خمسة أرهط ثم قال
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّة َ نَعِيمٍ
والنعيم ضد البؤس والمعنى أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
ثم قال كَلاَّ وهو ردع لهم عن ذلك الطمع الفاسد
ثم قال إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الغرض من هذا الاستدلال على صحة البعث كأنه قال لما قدرت على أن أخلقكم من النطفة وجب أن أكون قادراً على بعثكم
المسألة الثانية ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث فكأنه قيل لهم كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون في دخول الجنة وثانيها أن المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين فقال تعالى هؤلاء المستهزئون مخلوقون مما خلقوا فكيف يليق بهم هذا الاحتقار وثالثها أنهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة فلو لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة فكيف يليق بالحكيم إدخالهم الجنة ثم قال
فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ
يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه أو مشرق كل كوكب ومغربه أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبي وبالمغرب موته أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ وهو مفسر في قوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وقوله فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ مفسر في آخر سورة والطور واختلفوا في أن ما وصف الله نفسه بالقدرة عليه من ذلك هل خرج إلى الفعل أم لا فقال بعضهم بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين فإن حالتهم في نصرة الرسول مشهورة وقال آخرون بل بدل الله كفر بعضهم بالإيمان وقال بعضهم لم يقع هذا التبديل فإنهم أو أكثرهم بقوا على جملة كفرهم إلى أن ماتوا وإنما كان يصح وقوع التبديل بهم لو أهلكوا لأن مراده تعالى بقوله إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ بطريق الإهلاك فإذا لم يحصل ذلك فكيف يحكم بأن ذلك قد وقع وإنما هدد تعالى القوم بذلك لكي يؤمنوا
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ
ثم ذكر تعالى ذلك اليوم الذي تقدم ذكره فقال يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ عَنْهُمْ سِرَاعاً وهو كقوله فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ
قوله تعالى كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ
اعلم أن في نَصَبٌ ثلاث قراءات أحدها وهي قراءة الجمهور نَصَبٌ بفتح النون والنصب كل شيء نصب والمعنى كأنهم إلى علم لهم يستبقون والقراءة الثانية نَصَبٌ بضم النون وسكون الصاد وفيه وجهان أحدهما النصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف وثانيهما أن يكون جمع نصب كشقف
جمع شقف والقراءة الثالثة نَصَبٌ بضم النون والصاد وفيه وجهان أحدهما أن يكون النصب والنصب كلاهما يكونان جمع نصب كأسد وأسد جمع أسد وثانيهما أن يكون المراد من النصب الأنصاب وهي الأشياء التي تنصب فتعبد من دون الله كقوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وقوله يُوفِضُونَ يسرعون ومعنى الآية على هذا الوجه أنهم يوم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصارهم وبقية السورة معلومة والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة نوح عليه السلام
عشرون وثمان آيات مكيةإِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ في قوله ءانٍ وجهان أحدهما أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار الثاني قال الزجاج يجوز أن تكون مفسرة والتقدير إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أي أنذر قومك وقرأ ابن مسعود أُنذِرَ بغير أن على إرادة القول
ثم قال مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال مقاتل يعني الغرق بالطوفان
واعلم أن الله تعالى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر
قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
أَنِ اعْبُدُواْ هو نظير أَنْ أَنذِرِ ( نوح 1 ) في الوجهين ثم إنه أمر القوم بثلاثة أشياء بعبادة الله وتقواه وطاعة نفسه فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح والأمر بتقواه يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات وقوله وَأَطِيعُونِ يتناول أمرهم بطاعته وجميع المأمورات والمنهيات وهذا وإن كان داخلاً في الأمر بعبادة الله وتقواه إلا أنه خصه بالذكر تأكيداً في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها
بشيئين أحدهما أن يزيل مضار الآخرة عنهم وهو قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ الثاني يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان وههنا سؤالات
السؤال الأول ما فائدة مِنْ في قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ والجواب من وجوه أحدها أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به فلو قال يغفر لكم ذنوبكم لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع فله أن يقول لا أطالبك بمجموع ذنوبك ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط أما لما قال يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضاً على كل فرد من أفراد المجموع الثالث أن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفوراً أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفوراً فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض
السؤال الثاني كيف قال وَيُؤَخّرْكُمْ مع إخباره بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلا تناقض الجواب قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى أي إلى وقت سماه الله وجعله غاية الطول في العمر وهو تمام الألف ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول لا بد من الموت
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الجواب الغرض الزجر عن حب الدنيا وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت بم قوله تعالى
قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِى إِلاَّ فِرَاراً
اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سبباً لحصول الهداية والميل والرغبة وفي حق الثاني سبباً لمزيد العتو والتكبر ونهاية النفرة وليس لأحد أن يقول إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف فإن هذا مكابرة في المحسوس فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره فإن قيل هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره لكن حصول العصيان عند النفرة يكون باختياره فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع قلنا إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع
شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع فبأن يصير الفعل ممتنعاً أولى فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر
وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً
ثم قال تعالى وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
اعلم أن نوحاً عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 4 ) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء
أولها قوله جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة
وثانيها قوله وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ أي تغطوا بها إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه ولا أن يروا وجهه وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك صار المانع من السماع أقوى
وثالثها قوله وَأَصَرُّواْ والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق
ورابعها قوله وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً أي عظيماً بالغاً إلى النهاية القصوى
ثم قال تعالى
ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر فعاملوه بالأمور الأربعة ثم ثنى بالمجاهرة فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار وكلمة ثُمَّ دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان أو بحسب الرتبة لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده فإن قيل بم انتصب جِهَاراً قلنا فيه وجوه أحدها أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً أي مجاهراً به ورابعها أن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً
بم قوله تعالى
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً
قال مقاتل إن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فرجعوا فيه إلى نوح فقال نوح استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه
واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات ويدل عليه وجوه أحدها أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ( مريم 90 91 ) فلما كان الكفر سبباً لخراب العالم وجب أن يكون الإيمان سبباً لعمارة العالم وثانيها الآيات منها هذه الآية ومنها قوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ ( الأعراف 96 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ( المائدة 66 ) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَة ِ لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( الجن 16 ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ( طه 132 ) وثالثها أنه تعالى قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة ونوءه يكون عزيزاً شبه عمر إلا استغفاراً بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وعن بكر بن عبدالله أن أكثر الناس ذنوباً أقلهم استغفاراً وأكثرهم استغفاراً أقلهم ذنوباً وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال استغفر الله وشكا إليه آخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له بعض القوم أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا له الآية وههنا سؤالات
الأول أن نوحاً عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار الجواب أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقاً فلم تأمرنا بتركه وإن كان باطلاً فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه فقال نوح عليه السلام إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب فإنه سبحانه كان غفاراً
السؤال الثاني لم قال إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ولم يقل إنه غفار قلنا المراد إنه كان غفاراً في حق كل من استغفروه كأنه يقول لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن بل هو أبداً هكذا كان فكأن هذا هو حرفته وصنعته
بم وقوله تعالى
يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً
واعلم أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة ولذلك قال تعالى وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
فلا جرم أعلمهم الله تعالى ههنا أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا
والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة أولها قوله يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وفي السماء وجوه أحدها ( أن ) المطر منها ينزل إلى السحاب وثانيها أن يراد بالسماء السحاب وثالثها أن يراد بالسماء المطر من قوله إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار الكثير الدرور ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كقولهم رجل أو امرأة معطار ومتفال وثانيها قوله وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وهذا لا يختص بنوع واحد من المال بل يعم الكل وثالثها قوله وَبَنِينَ ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه ورابعها قوله وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وخامسها قوله وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ثم قال
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً
وفيه قولان الأول أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ومنه قول الهذلي
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والوقار العظمة والتوقير التعظيم ومنه قوله تعالى وَتُوَقّرُوهُ بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة وهذا القول عندي غير جائز لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة فلو قلنا إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحاً للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتاً وإثباته نفياً بهذا الطريق الوجه الثاني ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن المعنى مالكم لا تأملون لله توقيراً أي تعظيماً والمعنى مالكم لا تكونوا على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم و لِلَّهِ بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار
بم وقوله تعالى
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
في موضع الحال كأنه قال مالكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أي تارات خلقكم أولاً تراباً ثم خلقكم نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً ثم أنشأكم خلقاً آخر وعندي فيه وجه ثالث وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم الله تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به فكأنه قال لهم إنكم إذا وقرتم نوحاً وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل الله فما لكم لا ترجون وقاراً وتأتون به لأجل الله ولأجل أمره وطاعته فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل الله فإنه لا بد وأن يرجوا منه خيراً ووجه رابع وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر فكأنه قال مَالَكُمْ وعند هذا تم الكلام ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( الجن 13 ) أي لا ترجون لله ثباتاً وبقاء فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره والمراد من قوله تَرْجُونَ أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له
واعلم أنه لما أمر في هذه الآية بتعظيم الله استدل على التوحيد بوجوه من الدلائل
الأول قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً وفيه وجهان الأول قال الليث الطورة التارة يعني حالاً بعد حال كما ذكرنا أنه كان نطفة ثم علقة إلى آخر التارات الثاني قال ابن الأنباري الطور الحال والمعنى خلقكم أصنافاً مختلفين لا يشبه بعضكم بعضاً ولما ذكر هذا الدليل من الأنفس على التوحيد أتبعه بذكر دليل التوحيد من الآفاق على العادة المعهودة في كل القرآن
الدليل الثاني على التوحيد قوله تعالى
أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً
واعلم أنه تعالى تارة يبدأ بدلائل الأنفس وبعدها بدلائل الآفاق كما في هذه الآية وذلك لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه فلا جرم بدأ بالأقرب وتارة يبدأ بدلائل الآفاق ثم بدلائل الأنفس إما لأن دلائل الآفاق أبهر وأعظم فوقعت البداية بها لهذا السبب أو لأجل أن دلائل الأنفس حاضرة لا حاجة بالعاقل إلى التأمل فيها إنما الذي يحتاج إلى التأمل فيه دلائل الآفاق لأن الشبه فيها أكثر فلا جرم تقع البداية بها وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً يقتضي كون بعضها منطبقاً على البعض وهذا يقتضي أن لا يكون بينها فرج فالملائكة كيف يسكنون فيها الجواب الملائكة أرواح فلعل المراد من كونها طباقاً كونها متوازية لا أنها متماسة
السؤال الثاني كيف قال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا والجواب هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا
السؤال الثالث السراج ضوءه عرضي وضوء القمر عرضي متبدل فتشبيه القمر بالسراج أولى من تشبيه الشمس به الجواب الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس لما كانت سبباً لزوال ظل الأرض كانت شبيهة بالسراج وأيضاً فالسراج له ضوء والضوء أقوى من النور فجعل الأضعف للقمر والأقوى للشمس ومنه قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 )
الدليل الثالث على التوحيد قوله تعالى
وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
واعلم أنه تعالى رجع ههنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ( نوح 14 ) فإنه بين أنه تعالى
خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى أما قوله أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية وجهان أحدهما معنى قوله أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ أي أنبت أباكم من الأرض كما قال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) والثاني أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض
المسألة الثانية كان ينبغي أن يقال أنبتكم إنباتاً إلا أنه لم يقل ذلك بل قال أنبتكم نباتاً والتقدير أنبتكم فنبتم نباتاً وفيه دقيقة لطيفة وهي أنه لو قال أنبتكم إنباتاً كان المعنى أنبتكم إنباتاً عجيباً غريباً ولما قال أنبتكم نباتاً كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع أما لما قال أَنبَتَكُمْ نَبَاتاً على معنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً كاملاً كان ذلك وصفاً للنبات بكونه عجيباً كاملاً وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى فكان هذا موافقاً لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف أما قوله ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء كان قادراً على الإعادة وقوله وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً أكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقاً لا محالة
الدليل الرابع قوله تعالى
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
أي طرقاً واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
فالأول قوله قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وذلك لأنه قال في أول السورة أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( نوح 3 ) فكأنه قال قلت لهم أطيعون فهم عصوني
الثاني قوله وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر وقوله مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سبباً للخسارة في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار
والأمر كذلك في الحقيقة لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فإذا صارت المنافع الدنيوية أسباباً للخسار في الآخرة صار ذلك جارياً مجرى اللقمة الواحدة من الحلو إذا كانت مسمومة سم الوقت واستدل بهذه الآية من قال إنه ليس لله على الكافر نعمة لأن هذه النعم استدراجات ووسائل إلى العذاب الأبدي فكانت كالعدم ولهذا المعنى قال نوح عليه السلام في هذه الآية لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
المسألة الثانية قرىء وَوَلَدُهُ بضم الواو واعلم أن الولد بالضم لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعاً إما جمع ولد كالفلك وههنا يجوز أن يكون واحداً وجمعاً
النوع الثالث من قبائح أفعالهم قوله تعالى
وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى وَمَكَرُواْ معطوف على مَن لَّمْ يَزِدْهُ ( نوح 21 ) لأن المتبوعين هم الذين مكروا وقالوا للأتباع لاَ تَذَرُنَّ وجمع الضمير وهو راجع إلى مِنْ لأنه في معنى الجمع
المسألة الثانية قرىء كُبَّاراً و كُبَّاراً بالتخفيف والتثقيل وهو مبالغة في الكبير فأول المراتب الكبير والأوسط الكبار بالتخفيف والنهاية الكبار بالتثقيل ونظيره جميل وجمال وجمال وعظيم وعظام وعظام وطويل وطوال وطوال
المسألة الثالثة المكر الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً فهم منعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك ولما كان التوحيد أعظم المراتب لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر فلهذا وصفه الله تعالى بأنه كبار واستدل بهذا من فضل علم الكلام على سائر العلوم فقال الأمر بالشرك كبار في القبح والخزي فالأمر بالتوحيد والإرشاد وجب أن يكون كباراً في الخير والدين
المسألة الرابعة أنه تعالى إنما سماه مَكْرًا لوجهين الأول لما في إضافة الإلهية إليهم من الحيلة الموجبة لاستمرارهم على عبادتها كأنهم قالوا هذه الأصنام آلهة لكم وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين كافرين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه وعلى جميع أسلافه بالقصور والنقص والجهل شاقاً شديداً صارت الإشارة إلى هذه المعاني بلفظ ءالِهَتَكُمْ صارفاً لهم عن الدين فلأجل اشتمال هذا الكلام على هذه الحيلة الخفية سمى الله كلامهم مَكْرًا الثاني أنه تعالى حكى عن أولئك المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد فلعلهم قالوا لأتباعهم إن آلهتكم خير من إله نوح لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد وإله نوح لا يعطيه شيئاً لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح وهذا مثل مكر فرعون إذ قال أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( الزخرف 51 ) وقال أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِى َ عَلَيْهِ أَسْوِرَة ٌ مّن ذَهَبٍ ( الزخرف 52 53 )
المسألة الخامسة ذكر أبو زيد البلخي في كتابه في الرد على عبدة الأصنام أن العلم بأن هذه الخشبة
المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات والأرض والنبات والحيوان علم ضروري والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء وعبادة الأوثان دين كان موجوداً قبل مجيء نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل وإلا لما بقي هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم فإذاً لا بد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات أحدها قال أبو معشر جعفر بن محمد المنجم هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن الله جسم وفي مكان وذلك لأنهم قالوا إن الله نور هو أعظم الأنوار والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنماً هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه واتخذوا أصناماً متفاوتة بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم الوجه الثاني وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها فالبشر عبيد هذه الكواكب والكواكب عبيد الإله الأعظم فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى فاتخذوا أصناماً على صورها واشتغلوا بعبادتها وغرضهم عبادة الكواكب الوجه الثالث أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام في إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب فكانوا يتخذون ذلك الطلسم وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص فقيل كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر الوجه الرابع أنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) الوجه الخامس أنه ربما مات ملك عظيم أو شخص عظيم فكانوا يتخذون تمثالاً على صورته وينظرون إليه فالذين جاؤا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء خمسة من أولاد آدم فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور أولاً ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة السادس الذين يقولون إنه تعالى جسم وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان أو في شخص صنم فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ولذلك فإن جمعاً من قدماء الروافض لما رأوا أن علياً عليه السلام قلع باب خيبر وكان ذلك على خلاف المعتاد قالوا إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله الوجه السابع لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو الله فهذا
جملة ما في هذا الباب وبعضها باطلة بدليل العقل فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله وبطل القول أيضاً بالحلول والنزول ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات بطل القول بالوسايط والطلسمات ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء
المسألة السادسة هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بعبد ود وعبد يغوث هكذا قيل في الكتب وفيه إشكال لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان فكيف بقيت تلك الأصنام وكيف انتقلت إلى العرب ولا يمكن أن يقال إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها
المسألة السابعة قرىء لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً بفتح الواو وبضم الواو قال الليث ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح ود بالضم صنم لقريش وبه سمي عمرو بن عبد ود وأقول على قول الليث وجب أن لا يجوز ههنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة نوح لا في أحوال قريش وقرأ الأعمش وَلاَ بالصرف وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف إما التعريف ووزن الفعل وإما التعريف والعجمة فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا
واعلم أن نوحاً لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ قال وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً فيه وجهان الأول أولئك الرؤساء قد أضلوا كثيراً قبل هؤلاء الموصين ( بأن يتمسكوا ) بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال الثاني يجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الأصنام كقوله إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ وأما قوله تعالى وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ففيه سؤالان
الأول كيف موقع قوله وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ الجواب كأن نوحاً عليه السلام لما أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظاً وغضباً عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم
السؤال الثاني إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم الجواب من وجهين الأول لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين بل الضلال في أمر دنياهم وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني الضلال العذاب لقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 47 )
مِّمَّا خَطِي ئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً
ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده مّمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) صلة كقوله فَبِمَا نَقْضِهِم ( النساء 155 ) فَبِمَا رَحْمَة ٍ ( النساء 159 ) والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها وقرأ ابن مسعود مِنْ فأخر كلمة ما وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر
واعلم أن تقديم قوله مّمَّا خَطَايَاهُمْ لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان ( فإدخالهم النار ) إلا من أجل خطيآتهم فمن قال من المنجمين إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذباً لصريح هذه الآية فيجب تكفيره
المسألة الثانية قرىء خَطِيئَاتِهِمْ بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و خَطَايَاهُمْ و خَطِيئَاتِهِمْ بالتوحيد على إرادة الجنس ويجوز أن يراد به الكفر واعلم أن الخطايا والخطيئآت كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة وقد تقدم الكلام فيها في ( البقرة 58 ) عند قوله نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وفي ( الأعراف 161 ) عند قوله خَطِيئَاتِكُمْ
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً وذلك من وجهين الأول أن الفاء في قوله فَأُدْخِلُواْ نَاراً تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني أنه قال فَادْخُلُواْ على سبيل الإخبار عن الماضي وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك قال مقاتل والكلبي معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ ( الأعراف 50 ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 44 ) واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل فإن قيل إنما تركنا هذا الظاهر لدليل وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً والجواب هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ومعلوم أن الباقي غير المتبدل فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن فلم لا يجوز أن يقال إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن الله تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب
ثم قال تعالى فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب الله عنهم وهو كقوله أَمْ لَهُمْ الِهَة ٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً
قال المبرد دَيَّاراً لا تستعمل إلا في النفي العام يقال ما بالدار ديار ولا تستعمل في جانب الإثبات قال أهل العربية هو فيعال من الدور
وأصله ديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى قال الفراء والزجاج وقال ابن قتيبة ما بها ديار أي نازل دار ثم قال تعالى
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
فإن قيل كيف عرف نوح عليه السلام ذلك قلنا للنص والاستقراء أما النص فقوله تعالى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وجربهم وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك وقوله وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً فيه وجهان أحدهما أنهم يكونون في علمك كذلك والثاني أنهم سيصيرون كذلك
رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِى َ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً
واعلم أنه عليه السلام لما دعا على الكفار قال بعده رَبّ اغْفِرْ لِى أي فيما صدر عني من ترك الأفضل ويحتمل أنه حين دعا على الكفار إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام فاستغفر عن ذلك لما فيه من طلب حظ النفس
ثم قال وَلِوَالِدَى َّ أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقال عطاء لم يكن بين نوح وآدم عليهما السلام من آبائه كافر وكان بينه وبين آدم عشرة آباء وقرأ الحسن بن علي ( ولولدي ) يريد ساما وحاما
ثم قال تعالى وَلَمْ دَخَلَ بَيْتِى َ مُؤْمِناً قيل مسجدي وقيل سفينتي وقيل لمن دخل في ديني فإن قيل فعلى هذا التفسير يصير قوله مُؤْمِناً مكرراً قلنا إن من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً بقلبه وقد لا يكون والمعنى ولمن دخل في ديني دخولاً مع تصديق القلب
ثم قال تعالى وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إنما خص نفسه أولاً بالدعاء ثم المتصلين به لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عم المؤمنين والمؤمنات
ثم ختم الكلام مرة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً أي هلاكاً ودماراً وكل شيء أهلك فقد تبر ومنه قوله إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وقوله وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالكلية فإن قيل ما جرم الصبيان حين أغرقوا والجواب من وجوه الأول أن الله تعالى أيبس أصلاب آبائهم وأعقم أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة أو ( تسعين ) فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويدل عليه قوله اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 10 12 ) وهذا يدل بحسب المفهوم على أنهم إذا لم يستغفروا فإنه تعالى لا يمددهم بالبنين الثاني قال الحسن علم الله براءة الصبيان فأهلكهم بغير عذاب الثالث غرقوا معهم لا على وجه العقاب بل كما يموتون بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين