كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا لائقاً بهذا الموضع فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعاً آخر من التسبيح وقالوا إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التسبيح وقالوا أيضاً إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح وإذا كان كونه جماداً لم يمنع من كونه مسبحاً فكسره كيف يمنع من ذلك فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة والله أعلم
المسألة الثانية قوله تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ تصريح بإضافة التسبيح إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم سبحان الله فهذا حقيقة فيلزم أن يكون قوله تُسَبّحُ لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور والله أعلم
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ قولان
القول الأول أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ القرآن على الناس روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار وعن أسماء أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب
ومعها فهر تريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي تقول
مذمماً أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا
فقال أبو بكر يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فجاءت فما رأت رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت إن قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك وروى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويستمعون إلى حديثه فقال النضر يوماً ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء وقال أبو سفيان أني لأرى بعض ما يقوله حقاً وقال أبو جهل هو مجنون وقال أبو لهب هو كاهن وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر فنزلت هذه الآية وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا ( الكهف 57 ) وفي النحل أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( النحل 108 ) وفي حم الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) إلى آخر الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله تعالى جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وفيه سؤال وهو أنه كان يجب أن يقال حجاباً ساتراً
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه الله تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستوراً من هذا الوجه احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضراً مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعاً يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاضراً وكانت حواس الكفار سليمة ثم إنهم ما كانوا يرونه وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه الله تعالى في عيونهم وكان ذلك المعنى مانعاً لهم من أن يروه ويبصروه
والوجه الثاني في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك لا يبعد أن يقال مستوراً معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول ويقال جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها
والوجه الثالث في الجواب قال الأخفش المستور ههنا بمعنى الساتر فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم هذا قول الأخفش وتابعه عليه قوم إلا أن كثيراً منهم طعن في هذا القول والحق هو الجواب الأول
القول الثاني أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً وهذه الآية مذكورة بعينها في
سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله أَن يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفقهوه وجعل في آذانهم وقراً ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه قالت المعتزلة ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى الأول قال الجبائي كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجاباً لا يمكنهم الوصول إليه معه وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته ويجوز أن يكون ذلك مرضاً شاغلاً يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن الثاني قال الكعبي إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك الثالث قال القفال إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال إنه فعل الحجاب السائر
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئاً وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس وذكر الزجاج في قوله وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً وجهين الأول المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا والثاني أن يكون نفوراً جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد
ثم قال تعالى نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب و بِهِ في موضع الحال كما تقول مستمعين بالهزؤ و إِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذَا هُمْ نَجْوَى أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من قوله وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا وفيه مباحث الأول قال المفسرون أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول فأخبر الله تعالى نبيه بأنهم يقولون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا
فإن قيل إنهم لم يتبعوا رسول الله فكيف يصح أن يقولوا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا
قلنا معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء هذا هو القول الصحيح وقال بعضهم المسحور هو الذي أفسد يقال طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها قال أبو عبيدة يريد بشراً ذا سحر أي ذارئة قال ابن قتيبة ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة وقال مجاهد مَّسْحُورًا أي مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة وذلك لأن المشركين كانوا يقولون إن محمداً يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات فلذلك قالوا إنه مسحور أي مخدوع وأيضاً كانوا يقولون إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا إنه مخدوع من قبل الشيطان
ثم قال انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ أي كل أحد شبهك بشيء آخر فقالوا إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والحق
وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة وقد ذكرنا كثيراً أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر وأيضاً أن القوم وصفوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكونه مسحوراً فاسد العقل فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً فإنه يعود حياً عاقلاً كما كان فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل قال الواحدي رحمه الله الرفت كسر الشيء بيدك تقول رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر يقال رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها ويقال للتبن الرفت لأنه دقاق الزرع قال الأخفش رفت رفتاً فهو مرفوت نحو حطم حطماً فهو محطوم والرفات والحطام الاسم كالجذاد والرضاض والفتات فهذا ما يتعلق باللغة أما تقرير شبهة القوم فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى وكيف يعقل عود الحياة
إليها بأعيانها مرة أخرى فهذا هو تقرير الشبهة
والجواب عنها أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته أما إذا سلما كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادراً على كل الممكنات كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية
أما قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً مثل أن تصير حجارة أو حديداً فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حياً عاقلاً كما كان والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلاً لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي وقادر على كل الممكنات وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواء صارت عظاماً ورفاتاً أو صارت شيئاً أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديداً فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع وقوله كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل للرجل أتطمع في وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي
فإن قيل ما المراد بقوله أَوْ خَلْقًا
قلنا المراد أن كون الحجر والحديد قابلاً للحياة أمر مستبعد فقيل لهم فافرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلاً للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء وقال ابن عباس المراد منه الموت يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال لو كنت عين الحياة فالله يميتك ولو كنت عين الغنى فإن الله يفقرك فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة أما في نفس الأمر فهذا محال لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضاً ثم بتقدير أن ينقلب عرضاً فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر وقال مجاهد يعني السماء والأرض
ثم قال فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمعنى أنه لما قال لهم كونوا حجارة أو
حديداً أو شيئاً أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنة فعند ذلك قالوا من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه قال تعالى قل يا محمد الذي فطركم أول مرة يعني أن القول بصحة الإعادة فرع على تسليم أن خالق الحيوانات هو الله تعالى
فإذا ثبت ذلك فنقول إن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل وإله العالم قادر لذاته عالم لذاته فلا يبطل علمه وقدرته ألبتة فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادراً على الإعادة وهذا كلام تام وبرهان قوي
ثم قال تعالى فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ قال الفراء يقال أنغض فلان رأسه ينغضه إنغاضاً إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له قد أنغض رأسه فقوله فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ يعني يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ثم قال تعالى رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ واعلم أن هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي حكيناها ثم إن الله تعالى بين بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالبحث الأول فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بامكانه فأما أنه متى يوجد فذاك لا يمكن إثباته من طريق العقل بل إنما يمكن إثباته بالدلائل السمعية فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته
واعلم أنه تعالى بين في القرآن أنه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعين فقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقال إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف 187 ) وقال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) فلا جرم قال تعالى قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا قال المفسرون عسى من الله واجب معناه أنه قريب
فإن قالوا كيف يكون قريباً وقد انقرض ستمائة سنة ولم يظهر
قلنا إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريباً قليلاً ثم قال تعالى يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وفيه قولان الأول أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار ثم نقول انتصب يوماً على البدل من قوله قريباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ق 41 ) يقال إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه وتكوينه وقال تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ ( القمر 6 ) وقوله فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة وقوله بِحَمْدِهِ قال سعيد بن جبير يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون سبحانك وبحمدك فهو قوله فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وقال قتادة بمعرفته وطاعته وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم فلهذا قال المفسرون حمدوا حين لا ينفعهم الحمد وقال أهل المعاني تستجيبون بحمده أي تستجيبون حامدين كما يقال جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب ( الكشاف ) بحمده حال منهم أي حامدين وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر أي
ستنتهي إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد
ثم قال وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت والدليل عليه قوله في سورة يس مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 ) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين وقال الحسن معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة
القول الثاني أن الكلام مع الكفار تم عند قوله عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا وأما قوله يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون لله بحمده ويحمدونه على إحسانه إليهم والقول الأول هو المشهور والثاني ظاهر الاحتمال
وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا
اعلم أن قوله قُل لّعِبَادِى َ فيه قولان
القول الأول أن المراد به المؤمنون وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ( الزمر 17 18 ) وقال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى ( الفجر 29 ) وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 )
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الإسراء 42 ) وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 51 ) قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطاً بالشتم والسب ونظير هذه الآية قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقوله وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق
الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيراً شديداً فهذا هو المراد من قوله وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ جامعاً للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سبباً لثوران الفتنة
ثم قال إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا والمعنى أن العداوة الحاصلة بين الشيطان وبين الإنسان عداوة قديمة قال تعالى حكاية عنه ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ( الأعراف 17 ) وقال كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذَا قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الحشر 16 ) وقال وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( الأنفال 48 ) وقال لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ إلى قوله إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ( الأنفال 48 )
ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ واعلم أنا إنما نتكلم الآن على تقدير أن قوله تعالى قُل لّعِبَادِى َ المراد به المؤمنون وعلى هذا التقدير فقوله رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ خطاب مع المؤمنين والمعنى إن يشأ يرحمكم والمراد بتلك الرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم ثم قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يا محمد عَلَيْهِمْ وَكِيلاً أي حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة ولا شيء عليك من كفرهم فإن شاء الله هدايتهم هداهم وإلا فلا
والقول الثاني أن المراد من قوله وَقُل لّعِبَادِى الكفار وذلك لأن المقصود من هذه الآيات الدعوة فلا يبعد في مثل هذا الموضع أن يخاطبوا بالخطاب الحسن ليصير ذلك سبباً لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق فكأنه تعالى قال يا محمد قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباداً لي يقولوا التي هي أحسن وذلك لأنا قبل النظر في الدلائل والبينات نعلم بالضرورة أن وصف الله تعالى بالتوحيد والبراءة عن الشركاء والأضداد أحسن من إثبات الشركاء والأضداد ووصفه بالقدرة على الحشر والنشر بعد الموت أحسن من وصفه بالعجز عن ذلك وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على تلك المذاهب الباطلة تعصباً للأسلاف لأن الحامل على مثل هذا التعصب هو الشيطان والشيطان عدو فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ثم قال لهم رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم للإيمان والهداية والمعرفة وإن يشأ يمتكم على الكفر فيعذبكم إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل والجهل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية ثم قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول والمقصود من كل هذه الكلمات إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود
ثم قال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أنه لما قال قبل ذلك رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ قال بعده رَبَّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسموات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أيضاً أن يؤتي محمداً القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق
فإن قيل ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر 0
قلنا فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض
ثم قال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً يعني أن داود كان ملكاً عظيماً ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال
والوجه الثاني أن السبب في تخصيصه بالدكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمداً خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم قال تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 ) وهم محمد وأمته
فإن قيل هل عرف كما في فقوله ولقد كتبنا في الزبور 5
قلنا التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً
والوجه الثالث أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة بنقض الله تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود وقرأ حمزة زبوراً بضم الزاي وذكرنا وجه ذلك في آخر سورة ( النساء 163 )
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة َ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَة َ وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة
إذا ثبت هذا فنقول إن قوماً عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم وقيل إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً وقيل إن قوماً عبدوا نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك الناس متمسكين
بعبادتهم فنزلت هذه الآية قال ابن عباس كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر وإيصال المنفعة وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فوجب القطع بأنها ليست آلهة
ولقائل أن يقول هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم فإن قلتم لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة
قلنا معارضة لذلك قد نرى أيضاً أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام
والجواب أن الدليل تام كامل وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة عباد الله وخالق الملائكة وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة وأقوى منهم وأكمل حالاً منهم
وإذا ثبت هذا فنقول كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة لأن كون الله مستحقاً للعبادة معلوم وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما ججوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله لاَّ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال حوله فتحول
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَة َ وفيه قولان الأول قال الفراء قوله يَدَّعُونَ فعل الآدميين العابدين وقوله يَبْتَغُونَ فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى
فإن قالوا لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه فنقول هؤلاء الملائكة إما أن يقال إنها واجبة الوجود لذواتها أو يقال ممكنة الوجود لذواتها والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا
معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة
والقول الثاني أن قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ ( الإسراء 55 ) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر الله تعالى واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء
قلنا الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 )
أما قوله إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا فالمراد أن من حقه أن يحذر فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه
وَإِن مِّن قَرْيَة ٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا
واعلم أنه تعالى لما قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( الإسراء 57 ) بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل أما الصالحة فبالموت وأما الطالحة فبالعذاب وقيل المراد من قوله وَإِن مّن قَرْيَة ٍ قرى الكفار ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا ومعناه ظاهر
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاٌّ وَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَة َ مُبْصِرَة ً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَة َ الْمَلْعُونَة َ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا
اعلم تعالى أنه لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَة ٍ ( طه 133 ) كَمَا أُرْسِلَ الاْوَّلُونَ ( الأنبياء 5 ) وقال آخرون المراد ما طلبوه بقولهم لَن نُّؤْمِنَ ذالِكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشي من هذه المعجزات فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وفي تفسير هذا الجواب وجوه
الوجه الأول المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي فطلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أريد ذلك بل تتأنى بهم ) فنزلت هذه الآية
الوجه الثاني في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضاً
الوجه الثالث أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها فعلم الله منكم أيضاً أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثاً والعبث لا يفعله الحكيم
ثم قال تعالى 6 وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وفيه أبحاث
البحث الأول المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى
البحث الثاني قوله تعالى وفيه أبحاث
البحث الأول المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى
البحث الثاني قوله تعالى مُبْصِرَة ً وفيه وجهان الأول قال الفراء مُبْصِرَة ً أي مضيئة قال تعالى وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) أي مضيئاً والثاني مُبْصِرَة ً أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول
البحث الثالث قوله فَظَلَمُواْ بِهَا أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها وقال ابن قتيبة ظَلَمُواْ بِهَا أي جحدوا بأنها من الله تعالى
ثم قال تعالى وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا قيل لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة
فإن قيل المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف
قلنا المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك
الآية معجزة أو مخوفة إلا أنهم يجوزون كونها معجزة وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات فالمراد من قوله وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا هذا الذي ذكرناه والله أعلم
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات القاهرة وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال وَإِذَا قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وفيه قولان
القول الأول المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره والمقصود كأنه تعالى يقول له ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا قال الحسن حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 )
والقول الثاني أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم ونظيره قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 45 ) وقال قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ( آل عمران 12 ) إلى قوله أَحَاطَ بِالنَّاسِ لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال أَحَاطَ بِالنَّاسِ وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول ( أللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي ) ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
ثم قال تعالى وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ وفي هذه الرؤيا أقوال
القول الأول أن الله أرى محمداً في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال ( والله كأني أنظر إلى مصارع القوم ) ثم أخذ يقول ( هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان ) فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا ندخل البيت ونطوف به فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى فلما جاء العام المقبل دخلها وأنزل الله تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ ( الفتح 27 ) اعترضوا على هذين القولين فقالوا هذه السورة مكية وهاتان الواقعتان مدنيتان وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة
والقول الثالث قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان
لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة منبر ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبراً يتداوله بنو أمية
والقول الرابع وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا وقال الأقلون هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة وقوله إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ معناه أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كان امتحاناً
ثم قال تعالى وَالشَّجَرَة َ الْمَلْعُونَة َ فِى القُرْءانِ وهذا على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى والشجرة الملعونة في القرآن كذلك واختلفوا في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( الدخان 43 44 ) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أن أبا جهل قال زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ ( التحريم 6 ) ثم يقول بأن في النار شجراً والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر والثاني قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر إِنَّا جَعَلْنَاكَ فِتْنَة ً لّلظَّالِمِينَ ( الصافات 63 ) الآيات
فإن قيل ليس في القرآن لعن هذه الشجرة
قلنا فيه وجوه الأول المراد لعن الكفار الذين يأكلونها الثاني العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون والثالث أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة
القول الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحكم يخبر برؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاشتد ذلك عليه واتهم عمر في إفشاء سره ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الواحدي هذه القصة كانت بالمدينة والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله
والقول الثالث أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( المائدة 78 )
فإن قال قائل إن القوم لما طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس
قلنا التقدير كأنه قيل إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سبباً لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتوراً في حالك ولا ضعفاً في أمرك والله أعلم
ثم قال تعالى وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغياناً كبيراً وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تمادياً في الجهل والعناد وإذا كان كذلك وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات والله أعلم
بداية الجزء الحادى والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى َّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى ي كيفية النظم وجوه الأول اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس الثاني أن القوم إنما نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق والثالث أنه تعالى لما وصفهم بقوله فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا الإسراء 60 بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس لأحتنكن ذريته إلا قليلا فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم فهذا هو الكلام في كيفية النظم
المسألة الثانية اعلم أنه هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة الأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص فظاهر لفظ الملائكة بفبد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات وله يسجدون الأعراف 206 يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم
المسألة الثانية أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية وعلى التقدير الأول
فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود
المسألة الثالثة إن إبليس هل هو من الملائكة أم لا وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله
المسألة الرابعة هل كان إبليس كافرا من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت
المسالة الخامسة الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك
االمسألة السادسة شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله أأسجد لمن خلقت طينا أو غيره
المسألة السابعة دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفا بربه إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله البتة
المسألة الثامنة ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة
ولنرجع إلى التفسير فنقول إنه تعالى حكة في هذه الآية عن إبليس نوعا واحدا من العمل ونوعين من القول أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله فسجدوا إلا إبليس وأما النوعان من القول فأولهما قوله أأسجد لمن خلقت طينا وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى والنوع الثاني من كلامه قوله أرأيتك هذا الذي كرمت علي قال الزجاج قوله أرأيت معناه أخبرني وقد استقصينا البحث في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام وقوله هذا الذي كرمت علي فيه وجوه الأول معناه أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه ثم اختصر الكلام لكونه مفهوما الثاني يمكن أن يقال خذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام والذي مع صلته خبر تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي وذلك على وجه محذوف منه حرف الاستفهام والذي مع صلته خبر تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي أغنى عن تكراره والوجه الثالث أن يكون هذا مفعول أرأيت لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها كأنه قال على وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي هذا هو حقيقة هذه الكلمة ثم قال تعالى حكاية عنه لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير لئن أخرتني إلى يوم القيامة بإثبات الياء في الوصل والوقف وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف
البحث الثاني في الاحتناك قولان أحدهما أنه عبارة عن الأخذ بالكلية يقال احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية والثاني أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به وقال أبو مسلم الأحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها
البحث الثالث قوله إلا قليلا هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان البقرة 30
فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم قلنا فيه وجوه الأول أنه سمع الملائكة يقولون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء البقرة 30 فعرف هذه الأحوال الثاني أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم الثالث أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية وقوة سبعية غضبية وقوة وهمية شيطانية وقوة عقلية ملكية وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازما واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه
ثم قال فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس طه 97 فإن قيل أليس الأولى أن يقال فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفورا ليكون هذا الضمير راجعا إلى قوله فمن تبعك قلنا فيه وجوه الأول التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم والثاني يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الالتفات والثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال { من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس ثم قال جزاء موفورا وهذه اللفظة قد تجيء متعديا ولازما أما المتعدي فيقال وفرته أفره وفرا و وفرة فهو موفور و موفر قال زهير ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله وفر المال يفر وفورا فهو وافر فعلى التقدير الأول يكون المعنى جزاء موفورا موفرا وعلى الثاني يكون المعنى جزاء موفورا وافرا وانتصب قوله جزاء على المصدر
قوله تعالى
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا
اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء أولها قوله اذْهَبْ ومعناه أمهلتك هذه المدة وثانيها قوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك وثالثها بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ في قوله وَأَجْلِبْ وجوه الأول قال الفراء إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح الثاني قال الزجاج في فعل وأفعل أجلب على العدو إجلاباً إذا جمع عليه الخيول الثالث قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه والرابع روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع فقوله وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك وعلى قول الزجاج أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله بخيلك زائدة على هذا القول وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله وهذا أيضاً يقرب من قول ابن الأعرابي واختلفوا في تفسير الخيل والرجل فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال ( كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده ) ويدخل فيه كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية والقول الثاني يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل والقول الثالث أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب والخيل تقع على الفرسان قال عليه الصلاة والسلام ( يا خيل الله اركبي ) وقد تقع على الأفراس خاصة والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس قال ابن الأنباري أخبرنا ثعلب عن الفراء قال يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد والنوع الرابع من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ نقول أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن وأما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً قال قتادة المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئاً لغير الله تعالى كما قال تعالى فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا ( الأنعام 136 ) والأصوب ما قاله القاضي وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوهاً أحدها أنها الدعاء إلى الزنا وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا وثانيها أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى وثالثها أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما ورابعها إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم وخامسها ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو
قبيح فهو داخل فيه
والنوع الخامس من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله وَعَدَّهُمْ
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة إذا ثبت هذا فنقول إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعله البتة وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر خذوا بنصيب من سرور ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولاً عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين الأول أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب والثاني أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثاً محضاً فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار فهذه مجامع تلبيس الشيطان فقوله وَعَدَّهُمْ يتناول كل هذه الأقسام قال المفسرون قوله وَعَدَّهُمْ أي بأنه لا جنة ولا نار وقال آخرون وَعَدَّهُمْ بتسويف التوبة وقال آخرون وَعَدَّهُمْ بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) وقال آخرون وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس واعلم أن الله تعالى لما قال وَعَدَّهُمْ أردفه بما يكون زاجراً عن قبول وعده فقال وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة أحدها أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام وثانيها وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها وثالثها أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض ورابعها أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة وخامسها أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة وسادسها أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة كان الترغيب فيها تغريراً ولهذا المعنى قال تعالى وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وفيه قولان
الأول أن المراد كل عباد الله من المكلفين وهذا قول أبي علي الجبائي قال والدليل عليه أن الله تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ ( الحجر 42 ) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) وأيضاً فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض
والقول الثاني أن المراد بقوله إِنَّ عِبَادِى أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان والدليل عليه أنه قال في آية أخرى إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ( النحل 100 )
ثم قال وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلاً وفيه بحثان
البحث الأول أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلاً ومعناه أن الشيطان وإن كان قادراً فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه
البحث الثاني هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان فلما لم يقل ذلك بل قال وَكَفَى بِرَبّكَ علمنا أن الكل من الله ولهذا قال المحققون لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أن إبليس هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ هو إله العالم أو لم يعلم ذلك فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم فكيف قال قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ
والجواب لعله كان شاكاً في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن
والسؤال الثاني ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة والحكيم إذا أراد أمراً وعلم أن شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع
والجواب أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب وأما المعتزلة فلهم قولان قال الجبائي علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده
مزيد مفسدة وقال أبو هاشم لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديداً للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر وبالغنا في الكشف عنهما والله أعلم
رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَة ً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الانعامات في أحوال ركوب البحر
فالنوع الأول كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ والمعنى ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيماً والخطاب في قوله رَبُّكُمْ وفي قوله إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها
والنوع الثاني قوله وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ والمراد من الضر الخوف الشديد كخوف الغرق ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك وإنما يتضرع إلى الله تعالى فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا لنعم الله بسبب أن عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره
والنوع الثالث قوله أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ قال الليث الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء يقال عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر فقوله ءانٍ يَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ
أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض وإنما قال جَانِبَ الْبَرّ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب والبر جانب خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر فلما نجاهم منه آمنوا فقال هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق أما من جانب التحت فبالخسف وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم وهو المراد من قوله أَوْ نُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال ومعنى الحصب في اللغة الرمي يقال حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي ومنه قوله تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ أي يلقون فيها ومعنى قوله حَاصِباً أي عذاباً يحصبهم أي يرميهم بحجارة ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً وقال الزجاج الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله ثم قال أَمْ أَمِنتُمْ أَن نُعِيدُكُمْ فِيهِ أي في البحر تارة أخرى وقوله فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا من الريح القاصف الكاسر يقال قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة والقاصف من الريح التي تكسر الشجر وأراد ههنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً قال الزجاج أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم وتبيع بمعنى تابع
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة وهي قوله ءانٍ نَخْسِفْ أَوْ نُرْسِلُ أَوْ نُعِيدُكُمْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون والباقون بالياء فمن قرأ بالياء فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ( الإسراء 67 ) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد ألا ترى أنه قد جاء وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم الله تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أنواع
النوع الأول قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس والبدن فالنفس
الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي وتقرير هذه الفضيلة في النفس الإنسانية هي أن النفس الإنسانية قواها الأصلية ثلاث وهي الأغتذاء والنمو والتوليد والنفس الحيوانية لها قوتان الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة والحركة بالاختيار فهذه القوى الخمسة أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس الإنسانية ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي وهي التي يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من تلقيح الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى النباتية والحيوانية وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وإن أردت أن تعرف فضائل القوة العقلية ونقصانات القوى الجسمية فتأمل ما كتبناه في هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) فإنا ذكرنا هناك عشرين وجهاً في بيان أن القوة العقلية أجل وأعلى من القوة الجسمية فلا فائدة في الإعادة وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم فالمفسرون إنما ذكروا في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ هذا النوع من الفضائل وذكروا أشياء أحدها روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ قال كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه وقيل إن الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له جاء في التفسير عن جدك في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه وثانيها قال الضحاك بالنطق والتمييز وتحقيق الكلام أن من عرف شيئاً فأما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفاً بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف
أما القسم الأول فهو حال جملة الحيوانات سوى الإنسان فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفاً تاماً وافيا
وأما القسم الثاني فهو الإنسان فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادراً على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقاً وبهذا البيان ظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريقة الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام وثالثها قال عطاء بامتداد القامة
واعلم أن هذا الكلام غير تام لأن الأشجار أطور من قامة الإنسان بل ينبغي أن يشترط فيه شرط وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية والقوى الحسية والحركية ورابعها قال بيان بحسن الصورة والدليل عليه قوله تعالى وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) لما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان قال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وقال صِبْغَة َ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً ( البقرة 138 ) وإن شئت فتأمل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض
الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب وخامسها قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلاً أما إذا استنبط الإنسان علماً وأودعه في الكتاب وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وسادسها أن أجسام هذا العالم إما بسائط وإما مركبات أما البسائط فهي الأرض والماء والهواء والنار والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة قال تعالى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ( طه 55 ) وقد سماها الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا وهي الفراش والمهد والمهاد وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر وأيضاً سخر البحر لنأكل منه لحماً طرياً ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه وأما الهواء فهو مادة حياتنا ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر ومن يرد في الشتاء فاكهة
فإن نار الشتاء فاكهته
وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية وإما المعادن والنبات وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد وكل ذلك يدل على كونه مخصوصاً من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل والله أعلم وسابعها أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية المحضة وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية ولا شك أيضاً أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين وذلك بحث آخر وثامنها الموجود إما أن يكون أزلياً وأبدياً معاً وهو الله سبحانه وتعالى وإما أن يكون ولا أزلياً لا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أخس الأقسام وإما أن يكون أزلياً لا أبدياً وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وإما أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى وتاسعها العالم العلوي أشرف من العالم السفلي وروح
الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي وعاشرها أشرف الموجودات هو الله تعالى وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم وجب أن يكون أشرف لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 1 4 ) ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الإنفطار 6 ) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان والله أعلم
والوجه الحادي عشر قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون ومن كان مخلوقاً بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل والله أعلم
النوع الثاني من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن وهذا أيضاً من مؤكدات التكريم المذكور أولاً لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له
النوع الثالث من المدائح قوله وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان
النوع الرابع قوله وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً وههنا بحثان
البحث الأول أنه قال في أول الآية وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وقال في آخرها وَفَضَّلْنَاهُمْ ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار والأقرب أن يقال إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل
البحث الثاني أنه تعالى لم يقل وفضلناهم على الكل بل قال وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلاً عليه وكل من أثبت هذا القسم قال إنه هو الملائكة فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين
البحث الأول أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 )
والبحث الثاني أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة فقال وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له كُنَّ فكان وقال أبو هريرة رضي الله عنه المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده هكذا أورده الواحدي في ( البسيط ) وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل
المسألة الأولى قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجهاً لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو
المسألة الثانية قوله يوم ندعو نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماضٍ ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب
المسألة الثالثة قوله بِإِمَامِهِمْ الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال القول الأول إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان الأول أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعاً وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك والثاني أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده والقول الثاني وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل والقول الثالث قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماماً قوله تعالى وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ ( ي س 12 ) فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته القول الرابع قال صاحب ( الكشاف ) ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب ( الكشاف ) وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته والقول الخامس أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده ثم قال تعالى فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً قال صاحب ( الكشاف ) إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلاً للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( مريم 60 ) فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( طه 112 ) وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارىء لأهل الحشر هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقه 19 ) فظهر الفرق والله أعلم ثم قال تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالامالة
والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالامالة فيهما قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الإمالة وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الأمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل والله أعلم
المسألة الثانية لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى عمى البصر بل المراد منه عمى القلب أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان القول الأول أن المراد منه أيضاً عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول قال عكرمة جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال اقرأ ما قبلها فقرأ رَبَّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ ( الإسراء 66 ) إلى قوله تَفْضِيلاً ( الإسراء 66 70 ) قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة وثانياً روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السموات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا وثالثها قال الحسن من كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة ورابعها أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة وخامسها أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى القول الثاني أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ( طه 124 126 ) وقال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا وهذا العمى زيادة في عقوبتهم والله أعلم
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا
إعلم أنه تعالى لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبي فقال وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه شططاً وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم وداخلهم الطمع فصاح عليهم عمر وقال أما ترون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله هذه الآية وروى صاحب ( الكشاف ) أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا ولا يجبون فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه وقال أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش أسعر الله قلوبكم ناراً فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمداً فنزلت هذه الآية واعلم أن هذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا إن هذه الآيات مدنية وروى أن قريشاً قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت هذه الآية وقال الحسن الكفار أخذوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة بمكة قبل الهجرة فقالوا كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها فلو كان ذلك حقاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك فوقع في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكف عن شتم آلهتهم وعلى هذا التقدير فهذه الآية مكية وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك حتى تستلم آلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من
الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والمعنى إن الشأن ( أنهم ) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين ( و ) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وقوله لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم قل الله أمرني بذلك وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلاً وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراضٍ بشركهم ثم قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم شيئاً قليلاً وقوله شَيْئاً عبارة عن المصدر أي ركوناً قليلاً قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلاناً شيئاً فأعطاه درهماً فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول إنا حسن إضمار العذاب في قوله ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ ( ص 61 ) وقال لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 38 ) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) فإن قيل قال عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائداً على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا وعقابنا والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه الأول أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على الله والفرية على الله من أعظم الذنوب والثاني أنها تدل على أنه لولا أن الله تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم والثالث أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد والجواب عن الأول أن كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلاناً لا يفهم منه أنه ضربه والجواب عن الثاني أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا علي لهلك عمر معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر فكذلك ههنا قوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ معناه
أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان حصول ذلك التثبيت مانعاً من حصول ذلك الركون والجواب عن الثالث أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقة 44 46 ) ومنها قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) ومنها قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) والله أعلم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى بقوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت الله تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين الله تعالى أن بقاءه معصوماً عن الكفر والضلال لم يحصل إلا باعانة الله تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى قالت المعتزلة المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده ومن ذكر أن كونه نبياً من عند الله تعالى يمنع من ذلك والجواب لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله الله يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور فنقول لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأن هذا المانع الذي فعله الله منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى والله أعلم
المسألة الخامسة قال القفال رحمه الله قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة ويمكن أيضاً تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأقصى ما يقدرون عليه فتارة كانوا يقولون إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك فأنزل الله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 1 2 ) وقوله وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( طه 131 ) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات والله أعلم
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
في هذه الآية قولان الأول قال قتادة هم أهل مكة هموا بإخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكن الله منعهم من اخراجه حتى أمره الله بالخروج ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من
مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد والقول الثاني قال ابن عباس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية والأرض في قوله لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ( المائدة 33 ) يعني من مواضعهم وقوله فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ ( يوسف 80 ) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة فإن قيل قال الله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ ( محمد 13 ) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا فكيف ( يمكن ) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة قلنا إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى فزال التناقض ثم قال تعالى وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم خلفك بفتح الخاء وسكون اللام والباقون خلافك زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ( التوبة 81 ) وقال الشاعر عفت الديار خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصير
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لا يلبثون وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذن فإن قيل ما وجه القراءتين قلنا أما السابقة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خير كاد واقع موقع الاسم وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ يَلْبَثُونَ عطف على جملة قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ثم قال تعالى سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم فقوله سَنَة ٍ نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً والمعنى أن ما أجرى الله تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجوه الأول أنه تعالى لما قرر أمر الالهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها الثاني أنه تعالى لما قال وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة الله تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالباً على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ ( طه 130 ) وقال وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 97 99 ) والوجه الثالث في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم ( صلى الله عليه وسلم ) على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطاناً نصيراً في تقرير دينك وإظهار شرعك والله أعلم
المسألة الثانية اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين أحدهما أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال دلوك الشمس غروبها وروى زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود قال دلوك الشمس غروبها وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين والقول الثاني أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه الحجة الأولى روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال ( طعم عندي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا حين دلكت الشمس ) الحجة الثانية روى صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر ) الحجة الثالثة قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك
قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة هكذا قاله الأزهري وقال القفال أصل الدلوك الميل يقال مالت الشمس للزوال ويقال مالت للغروب إذا عرفت هذا فنقول وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك والدلوك عبارة عن الميل والزوال فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال والله أعلم الحجة الرابعة قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار والمعنى أَقِمِ الصَّلَواة َ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم قال أَقِمِ الصَّلَواة َ فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر هذا مقام قدمي رباح
وقفت حتى دلكت براح
وبراح اسم الشمس أي حتى غابت واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم ولا أفلاكهن الدوالك
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعاً من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضاً على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها ( و ) عندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب والجواب أن الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى والله أعلم
المسألة الثالثة قال الواحدي اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس
المسألة الرابعة قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين وقال النضر بن شميل غسق الليل دخول أوله وأتيته حين غسق الليل أي حين يختلط ويسد المناظر وأصل هذا الحرف من السيلان يقال غسقت العين تغسق وهو هملان العين بالماء والغاسق السائل ومن هذا يقال لما يسيل من أهل النار الغساق فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم وأما قول المفسرين قال ابن جريج قلت لعطاء ما غسق الليل قال أوله حين يدخل وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق قال دخول الليل
بظلمته وقال الأزهري غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً بعذر السفر وعذر المطر وغيره أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر والله أعلم
المسألة الخامسة قوله وقرآن الفجر أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد الأولى أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة الفائدة الثانية أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجراً لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير والله أعلم الفائدة الثالثة أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله وقرآن الفجر الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره الفائدة الرابعة أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهوداً قال الجمهور معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم وأقول هذا أيضاً دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت
الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الإستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم والضوء مناسب للحياة والوجود وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهوداً عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحاً وراحة ومزيداً في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهوداً بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونوراً وراحة الفائدة الخامسة قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهوداً هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب
الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر إلا أن الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه إذا عرفت هذا فنقول مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم ( أن ) الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعاً والله أعلم بأسرار كلامه
أما قوله تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث
البحث الأول التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فتهجد به أي بالقرآن كما قال قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( المزمل 2 ) إلى قوله وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً ( المزمل 4 )
البحث الثاني قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد
هجدنا فقد طال السرى
كأنه قال نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجداً لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لألقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلباً لذلك الهجود فسمي تهجداً لهذا السبب وفيه وجه ثالث وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجوداً ورقاداً فلا يبعد أنه سمي تهجداً لهذا السبب
البحث الثالث قوله مِنْ في قوله وَمِنَ الَّيْلِ لا بد له من متعلق والفاء في قوله فَتَهَجَّدْ لا بد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله بِهِ أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن
البحث الرابع معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) ومعناها أيضاً في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة أي تطوعاً وزيادة على الفرائض وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها ( نافلة ) وجهاً حسناً قالا إنه تعالى غفر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب البتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوباً محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا في حق غيره فلهذا السبب قال نَافِلَة ً لَّكَ يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه وأما الذين قالوا إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجباً فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائداً على وجوب الصلوات الخمس والله أعلم
البحث الخامس قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصاً بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلاً والله أعلم ثم قال تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله تعالى أكرم من أن يطمع أحداً في شيء ثم لا يعطيه ذلك وقوله مَقَاماً مَّحْمُودًا فيه بحثان
البحث الأول في انتصاب قوله محموداً وجهان الأول أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محموداً والثاني أن يكون نعتاً للمقام وهو ظاهر
البحث الثاني في تفسير المقام المحمود أقوال الأول أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ( هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ) وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاماً أنعم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلاً في الحال وقوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا يدل على هذا المعنى وأيضاً التنكير في قوله مقاماً محموداً يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد
الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعاراً قوياً ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة والقول الثاني قال حذيفة يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول ( لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجاً منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ) فهذا هو المراد من قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محموداً وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز القول الثالث المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضاً ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني القول الرابع قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال ( يقعد الله محمداً على العرش ) وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد والثاني أنه تعالى قال مقاماً محموداً ولم يقل مقعداً والمقام موضع القيام لا موضع القعود والثالث لو كان تعالى جالساً على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدوداً متناهياً ومن كان كذلك فهو محدث والرابع يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بها مزيد شرف ورتبة والخامس أنه إذا قيل السلطان بعث فلاناً فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين والله أعلم ثم قال تعالى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وفيه مباحث
البحث الأول أنا ذكرنا في تفسير قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ ( الإسراء 76 ) قولين أحدهما المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها والثاني المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له أَقِمِ الصَّلَواة َ واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وهو المدينة وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وهو مكة وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منها
ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وهو المدينة وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي والقول الثاني في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى في الصلاة وَأَخْرِجْنِى منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك والقول الثالث وهو أكمل مما سبق أن المراد وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى فِى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى منها بعد الفراغ منها إخراجاً لا يبقى علي منها تبعة ربقية والقول الرابع وهو أعلى مما سبق وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات والقول الخامس أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلاً في كل دخول وخروج وحركة وسكون والقول السادس أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق
البحث الثاني مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلاً كما قال وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( المؤمنون 29 ) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( الإسراء 80 ) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وقال أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 22 ) وقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وهو دينه وشرعه وَزَهَقَ الْبَاطِلُ وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع وزهق بطل واضمحل وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت وعن ابن مسعود ( أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه ) وقوله إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه والله أعلم
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات والحشر والمعاد والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وإنما ذكر كل ذلك في القرآن أتبعه ببيان كون القرآن
شفاء ورحمة فقال وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ ولفظة من ها هنا ليست للتبعيض بل هي للجنس كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء فجميع القرآن شفاء للمؤمنين واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان الاعتقادات الباطلة والاخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب وإبطال المذاهب الباطلة فيها ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثاراً عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سبباً لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى ) وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والقرآن قسمان بعضهما يفيد الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة لا جرم بدأ الله تعالى في هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بين كونه سبباً للخسار والضلال في حق الظالمين والمراد به المشركون وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيدهم غيظاً وغضباً وحقداً وحسداً وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة وتزيد في تقوية تلك الأخلاق الفاسدة في جواهر نفوسهم ثم لا يزال الخلق الخبيث النفساني يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق فبهذا الطريق يصير القرآن سبباً لتزايد هؤلاء المشركين الضالين في درجات الخزي والضلال والفساد والنكال ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلا الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أن ذلك إنما يحصل بسبب جدهم واجتهادهم فقال وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وفيه مباحث
الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة وهذا بعيد بل المراد أن نوع الإنسان من شأنه أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله تعالى متمرداً عن طاعة الله كما قال إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 )
البحث الثاني قوله أعرض أي ولى ظهره أي عرضه إلى ناحية ونأى بجانبه أي تباعد ومعنى النأي
في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك عادة المتكبرين وفي قوله نأى قراءات إحداها وهي قراءة العامة بفتح النون والهمزة وفي حم السجدة مثله وهي اللغة الغالبة والنأي البعد يقال نأي أي بعد وثانيها قراءة ابن عامر ناء وله وجهان تقديم اللام على العين كقولهم راء في رأى ويجوز أن يكون من نأى بمعنى نهض وثالثها قراءة حمزة والكسائي بإمالة الفتحتين وذلك لأنهم أمالوا الهمزة من نأى ثم كسروا النون إتباعاً للكسرة مثل رأى ورابعها قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونصير عن الكسائي وحمزة نأى بفتح النون وكسر الهمزة على الأصل في فتح النون وإمالة الهمزة ثم قال تعالى وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوساً شديد اليأس من رحمة الله وَلاَ يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ ( يوسف 87 ) والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله ونظيره قوله تعالى فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ ( الفجر 15 ) إلى قوله رَبّى أَهَانَنِ ( الفجر 16 ) وكذلك قوله إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 20 21 ) ثم قال تعالى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قال الزجاج الشاكلة الطريقة والمذهب والدليل عليه أنه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعب منه طرق كثيرة ثم الذي يقوي عندي أن المراد من الآية ذلك قوله تعالى فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً وفيه وجه آخروهو أن المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفساً مشرقة خيرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وإن كانت نفسه نفساً كدرة نذلة خبيثة مضلة ظلمانية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وأقول العقلاء اختلفوا في أن النفوس الناطقة البشرية هل هي مختلفة بالماهية أم لا منهم من قال إنها مختلفة بالماهية وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهياتها ومنهم من قال إنها متساوية في الماهية واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك وذلك لأنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي ثم أتبعه بقوله قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه وهذا الكلام إنما يتم المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ها هنا عن ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي
هو سبب الحياة روى أن اليهود قالوا لقريش اسألوا محمداً عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الثلاثة فقال عليه السلام غداً أخبركم ولم يقل إن شاء الله فانقطع عنه الوحي أربعين يوماً ثم نزل الوحي بعده وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه أولها أن الروح ليس أعظم شأناً ولا أعلى مكاناً من الله تعالى فإذا كانت معرفة الله تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح وثانيها أن اليهود قالوا إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلاً على النبوة وأيضاً فالحكاية التي يذكرها إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلاً على صحة النبوة وثالثها أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء ورابعها أنه تعالى قال في حقه الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وقال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وقال في صفة القرآن وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 ) وكان عليه السلام يقول ( أرنا الأشياء كما هي ) فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة أحدها أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز وثانيها أن يقال الروح قديمة أو حادثة وثالثها أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى ورابعها أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة وقوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحُ ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها
أما البحث الأول فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه الأجسام والأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 )
فقالوا لم كان شيئاً مغايراً لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 )
وأما المبحث الثاني فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) وقال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ( هود 66 ) أي فعلنا فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية اعلم أن الناس ذكروا أقوالاً أخرى سوى ما تقدم ذكره فالقول الأول أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحاً واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين المقام الأول تسمية الله القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وأيضاً السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 82 ) والذي تأخر عنه قوله وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( الإسراء 86 ) إلى قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) فلما كان قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضاً أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله فقال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى أي القرآن ظهر بأمر ربي وليس من جنس كلام البشر والقول الثاني أن الروح المسؤول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السموات وهو أعظمهم قدراً وقوة وهو المراد من قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) ونقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق
الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن هذا التفصيل لما عرفه علي فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به وأيضاً أن علياً ما كان ينزل عليه الوحي فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره الثاني أن ذلك الملك إن كان حيواناً واحداً وعاقلاً واحداً لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيواناً آخر لم يكن ذلك ملكاً واحداً بل يكون ذلك مجموع ملائكة والثالث أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى والقول الرابع وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وفي قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ( مريم 17 ) ويؤكد هذا أنه تعالى قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( في جبريل ) وقال ( حكاية عن ) جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه والقول الخامس قال مجاهد الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضاً فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة والله أعلم بالصواب
المسألة الثالثة في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن ها هنا شيئاً إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسماً أو عرضاً أو مجموع الجسم والعرض أو شيئاً مغايراً للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول أما القسم الأول وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسماً داخلاً في هذه البنية أو جسماً خارجاً عنها أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المسحوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا الإنسان هو هذا الجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوساً فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة ( عن ) هذا الجسم وجوه الحجة الأولى أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة الحجة الثانية أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه وعن أعضائه وأبعاضه مجموعها ومفصلها وهو في تلك الحالة
غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و ( يكون ) المعلوم غير معلوم فالإنسان يجب أن يكون مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه الحجة الثالثة أن كل أحد يحكم عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء فإن قالوا قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي فإن كان المراد البدن فعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله أنا فلا نسلم أن الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته الحجة الرابعة أن كل دليل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسماً فهو أيضاً يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل الحجة الخامسة أن الإنسان قد يكون حياً حال ما يكون البدن ميتاً فوجب كون الإنسان مغايراً لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت
الحجة السادسة أن قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) وقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) يدل على أن الإنسان يحيا بعد الموت وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) وكذلك قوله عليه السلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى بعد موت الجسد وبديهة العقل والفطرة شاهدان بأن هذا الجسد ميت ولو جوزنا كونه حياً جاز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة وإذا ثبت أن الإنسان شيء وكان الجسد ميتاً لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد
الحجة السابعة قوله عليه السلام في خطبة طويلة له ( حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالغنى لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي ) وجه الاستدلال أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صرح بأن حال ما يكون الجسد محمولاً على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلاً له وكان جامعاً للمال من الحرام والحلال والذي بقي في رقبته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميتاً محمولاً كان ذلك الإنسان حياً باقياً
فاهماً وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ولهذا الهيكل
الحجة الثامنة قوله تعالى أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 27 28 ) والخطاب بقوله ارجعي إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون حياً راضياً عن الله ويكون راضياً عنه الله والذي يكون راضياً ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حياً بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد
الحجة التاسعة قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 61 62 ) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتاً فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميت
الحجة العاشرة نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق عنهم عبثاً والدعاء لهم عبثاً ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت بل ( الذي ) يموت هذا الجسد
الحجة الحادية عشرة أن كثيراً من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهباً دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايراً لهذا الجسد الميت
الحجة الثانية عشرة أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجوداً قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة
الحجة الثالثة عشرة أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلقاً لذلك الخنزير وليس هذا من المسخ في شيء وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول على ذلك التقدير ذلك الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئاً مغايراً لتلك البنية
الحجة الرابعة عشرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فها هنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن حقيقة الإنسان
غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية وهذا الهيكل والفرق بين هذه الحجة والتي قبلها أنه حصلت صورة هذه البنية مع عدم هذه البنية وهذا الهيكل
الحجة الخامسة عشرة أن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئاً آخر سوى الفرج وسوى الظهر ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر فيكون المتلذذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه تحصل تلك اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو
الحجة السادسة عشرة أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا أو لا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئاً من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئاً مغايراً لهذه الأعضاء وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أعضائه وأبعاضه قلنا بوجه التكليف على الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة فاهمة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حدة والأول يقتضي قيام العرض بالمحال الكثيرة وهو محال والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالماً فاهماً مدركاً على سبيل الاستقلال وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالماً فاهماً مدركاً بالاستقلال فسقط هذا السؤال
الحجة السابعة عشرة أن الإنسان يجب أن يكون عالماً والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالماً لأنه فاعل مختار والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصوداً امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً وثبت أن العلم ليس إلا في القلب هو هذا الجسد وهذا الهيكل
وأما البحث الثاني وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني
المسألة الرابعة في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولداً من امتزاجها ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسماً متولداً من
امتزاجات هذه الأربعة فنقول أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان أحدهما أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة والجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق ولا التمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم ونفاذ ماء الورد في جسم الورد ونفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ص 72 ) ثم إن البدن ما دام يبقى سليماً قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة بقي حياً فإذا تولدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول أما القسم الثاني وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن فهذا لا يقول به عاقل لأن من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبر والتصرف ومن كان كذلك كان جوهراً والجوهر لا يكون عرضاً بل الذي يمكن أن يقول به كل عاقل هو أن الإنسان يشترط أن يكون موصوفاً بأعراض مخصوصة وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال القول الأول أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحدة منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص هذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة والقول الثاني أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس وقالوا ليس ها هنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة والقول الثالث أن الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فها هنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة
فقد بطل اعتبار هذا الشكل في حصول معنى الإنسانية طرداً وعكساً أما القسم الثالث وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسمانية فهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معاداً روحانياً وثواباً وعقاباً وحساباً روحانياً وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي رحمهما الله ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان الأول وهم المحققون منهم من قال الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذه جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبرة للبدن فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلق النفس عن البدن
المسألة الخامسة في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية فلنذكر الوجوه القطعية
الحجة الأولى لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهراً متحيزاً أو غير متحيز والأول باطل فتعين الثاني والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهراً متحيزاً أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزاً غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزاً بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهراً متحيزاً فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة المقدمة الأولى لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان كونه متحيزاً عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة إما أن يكون متحيزاً أو لا يكون والقسمان باطلان فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزاً مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليس جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها والشيء الذي لا يكون متحيزاً لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة المقدمة الثانية لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولاً لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال
المقدمة الثالثة أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلاً بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالماً بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه عن عين المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهراً متحيزاً وذلك هو المطلوب فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهراً مجرداً لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهراً مجرداً وليس الأمر كذلك قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجرداً معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالاً في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوماً بخلاف كونه متحيزاً فأنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهراً متحيزاً يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولاً فظهر الفرق
الحجة الثانية النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات المقدمة الأولى هي قولنا النفس واحدة ولنا ها هنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته أما المقام الأول وهو إدعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحداً غير متعدد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحداً إلا أن ذلك الواحد يكون مركباً من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذه السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام أما المقام الثاني وهو مقام الاستدلال فالذي يدل على وحدة النفس وجوه
الحجة الأولى أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطاً بالشعور بكون الشيء ملايماً ومنافراً فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافراً امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى لدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعاً للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافراً فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركاً فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة
الحجة الثانية أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلاً بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعاً للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهراً ومحل الغضب جوهراً آخر ومحل الشهوة جوهراً ثالثاً وجب أن لا يكون اشتغال
القوة الغضبية بفعلها مانعاً للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مباديء مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقاً له عن الإشتغال بالفعل الآخر
الحجة الثالثة أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سبباً لحصول الشهوة وقد يصير سبباً لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايراً للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه
الحجة الرابعة أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإدارة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركاً للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية وأما المقدمة الثانية في بيان أنه لما كانت النفس شيئاً واحداً وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئاً من أجزائه فنقول أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءاً من أجزاء هذا البدن فانا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالأبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الأبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضاً أن شيئاً من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئاً عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئاً والعارف شيئاً ثانياً والمشتهي شيئاً ثالثاً والمتحرك شيئاً رابعاً لكان الذي أبصر لم يعرف والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يتحرك ومن المعلوم أن كون الشيء مبصراً لشيء لا يقتضي
صيرورة شيء آخر عالماً بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضاً فأنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضاً بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذ الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره وأيضاً العقلاء قالوا الحيوان لا بد أن يكون حساساً متحركاً بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائماً أو بكونه منافراً وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريداً للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركاً بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساساً فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد وأيضاً فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير ( عقلنا ) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني إذ ثبت هذا فنقول إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسماً واحداً لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ومعلوم أنه ليس كذلك وإن قلنا محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضاً أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضاً باطل بالضرورة وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحل العلوم والإرادات هو القلب ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئاً واحداً فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك ( أنه ) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالاً مختلفة بواسطة آلات محتلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم
المقدمة الثالثة لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حياً عالماً قادراً على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيواناً واحداً بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتاً واحدة لا حيوانات كثيرين وأيضاً فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيواناً واحداً على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقضتي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضاً حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حياً عاقلاً
عالماً فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناساً كثيرين ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة فإن قالوا لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية ولا معنى للعلم إلا العالمية وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناساً كثيرين وهو محال
المقدمة الرابعة أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست جسماً وتقرير هذه المنافاة من وجوه الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالاً تاماً مثاله أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئاً من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف ألبتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الإنسان فهماً وإدراكاً كلما ازداد تخرجاً وارتباطاً في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم والثاني أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سبباً لكماله ونقصانه معاً ولحياته وموته معاً وأنه محال والثالث أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفاً نحيفاً فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزناً ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك الرابع أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروماً عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك الخامس أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئاً إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتاً إذا سد أذنيه كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالماً به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس
ليست بجسم وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الاعادة
المسألة السادسة في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية
الحجة الأولى قوله تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) ومعلوم أن أحداً من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن
الحجة الثانية قوله تعالى أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( الأنعام 93 ) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) إلى قوله فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ( المؤمنون 14 ) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلاً من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولاً ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة
الحجة الرابعة قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله مِن رُّوحِى دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد
الحجة الخامسة قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( الشمس 7 8 ) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقاً لأن الإلهام عبارة عن الإدراك وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضاً بالإدراك والتحريك وموصوف أيضاً بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفاً بكل هذه الأمور
الحجة السادسة قوله تعالى ءانٍ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضواً من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات واعلم أن الأحاديث
الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم
المسألة السابعة في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحاً مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إِنَّهُ مِنَ أَمَرَ رَبّي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كُنْ فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 193 194 ) واحتج المنكرون بوجوه الأول لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال الثاني قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ( عبس 17 22 ) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة الثالث قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ( آل عمران 169 170 ) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام الجواب عن الأول أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلاً للإله أو جزءاً للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال والجواب عن الثاني أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف والجواب عن الثالث أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين أما المفسرون فقالوا إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فقال عليه الصلاة والسلام ( بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً ) فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول
( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) وساعة تقول هذا فنزل قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ ( لقمان 27 ) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلاً بالنسبة إلى شيء كثيراً بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جداً بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً بل يجب أن يكون محدثاً وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثاً وقوله ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة أحدهما تسهيل ذلك العلم عليه الثاني إبقاء حفظه عليه وقوله إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فيه قولان الأول المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك الثاني المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك
( 88 )
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) بالغنا في بيان إعجاز القرآن وللناس فيه قولان منهم من قال القرآن معجز في
نفسه ومنهم من قال إنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب وإن لم يكن معجزاً بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة وما كان لهم عنها صارف ومانع وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً لازماً فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب
المسألة الثانية لقائل أن يقول هب أنه قد ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف عرفتم عجز الجن عن معارضته وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إن هذا الكلام نظم الجن ألقوه على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخصوه به على سبيل السعي في إضلال الخلق فعلى هذا إنما تعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا عرفتم أن محمداً صادق في قوله أنه ليس من كلام الجن بل هو من كلام الله تعالى فحينئذ يلزم الدور وليس لأحد أن يقول كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجن لأنا نقول إن هذه الآية دلت على وقوع التحدي مع الجن وإنما يحسن هذا التحدي لو كانوا فصحاء بلغاء ومتى كان الأمر كذلك كان الاحتمال المذكور قائماً أجاب العلماء عن الأول بأن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزاً وعن الثاني أن ذلك لو وقع لوجب في حكمة الله أن يظهر ذلك التلبيس وحيث لم يظهر ذلك دل على عدمه وعلى أنه تعالى قد أجاب عن هذا السؤال بالأجوبة الشافية الكافية في آخر سورة الشعراء في قوله هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( الشعراء 221 222 ) وقد شرحنا هذه الأجوبة هناك فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضاً بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا
وهذا الكلام يحتمل وجوهاً أحدها أنه وقع التحدي بكل القرآن كما في هذه الآية ووقع التحدي أيضاً بعشر سور منه كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ( هود 13 ) ووقع التحدي بالسورة الواحدة كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ووقع التحدي بكلام من سورة واحدة كما في قوله فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) فقوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم وثانيها أن يكون المراد من قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مراراً وأطواراً ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر وثالثها أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفي الشركاء والأضداد في هذا القرآن مراراً كثيرة وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مراراً وأطواراً وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد
ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على الشرك وإنكار النبوة
يريد ( أبى ) أكثر أهل مكة إِلاَّ كُفُورًا أي جحودا للحق وذلك أنهم أنكروا ما لا حاجة إلى إظهاره فإن قيل كيف جاز فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ولا يجوز أن يقال ضربت إلا زيداً قلنا لفظ أبى يفيد النفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّة ٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاٌّ نْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِى َ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزاً وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحينئذ تم الدليل على كونه نبياً صادقاً لأنا نقول إن محمداً ادعى النبوة وظهر المعجزة على وفق دعواه وكل من كان كذلك فهو نبي صادق فهذا يدل على أن محمدالله ( صلى الله عليه وسلم ) صادق وليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزاً آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً التمسوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس ( أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعاً أي نهراً وعيوناً نزرع فيها فقال لا أقدر عليه فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً فقال لا أقدر عليه فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أي قطعاً بالعذاب وقوله كما زعمت إشارة إلى قوله إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلماً فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك
بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لاا ) فهذا شرح هذه القصة كما رواها ابن عباس
المسألة الثانية اعلم أنهم اقترحوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنواعاً من المعجزات أولها قولهم حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا قرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة واختاره أبو حاتم قال لأن الينبوع واحد والباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة ولم يختلفوا في الثانية مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع يقال فجرت الماء فجراً وفجرته تفجيراً فمن ثقل أراد به كثرة الأشجار من الينبوع وهو وإن كان واحداً فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول ضرب زيد إذا كثر الضرب منه فيكثر فعله وإن كان الفاعل واحداً ومن خفف فلأن الينبوع واحد وقوله ينبوعاً يعني عيناً ينبع الماء منه تقول نبع الماء ينبع نبعاً ونبوعاً ونبعاً ذكره الفراء قال القوم أزل عنا جبال مكة وفجر لنا الينبوع ليسهل علينا أمر الزراعة والحراثة وثانيها قولهم أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّة ٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا والتقدير كأنهم قالوا هب أنك لا تفجر هذه الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك وثالثها قولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر كسفاً بفتح السين ها هنا وفي سائر القرآن بسكونها وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الروم بفتح السين وفي باقي القرآن بسكونها وقرأ حفص في سائر القرآن بالفتح إلا في الروم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي في الروم بفتح السين وفي سائر القرآن بسكون السين قال الواحدي رحمه الله كسفاً فيه وجهان من القراءة سكون السين وفتحها قال أبو زيد يقال كسفت الثوب أكسفه كسفاً إذا قطعته قطعاً وقال الليث الكسف قطع العرقوب والكسفة القطعة وقال الفراء سمعت أعرابياً يقول لبزاز أعطني كسفة يريد قطعة فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوهاً أحدها قال الفراء أن يكون جمع كسفة مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وثانيها قال أبو علي إذا كان المصدر الكسف فالكسف الشيء المقطوع كما تقول في الطحن والطبخ السقي ويؤكد هذا قوله وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً ( الطور 44 ) وثالثها قال الزجاج من قرأ كسفاً كأنه قال أو يسقطها طبقاً علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته وأما فتح السين فهو جمع كسفة مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة
المسألة الثانية قوله كَمَا زَعَمْتَ فيه وجوه الأول قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا والثاني قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل الثالث يمكن أن يكون المراد ما ذكره الله تعالى في هذه السورة في قوله أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ( الإسراء 68 ) فقيل اجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا ورابعها قولهم أَوْ تَأْتِى َ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَة ِ قَبِيلاً وفي لفظ القبيل وجوه الأول القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً ( الأنعام 111 ) والقول الثاني ما قاله ابن عباس يريد فوجاً بعد فوج قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ القول الثالث إن قوله قبيلاً معناه ها هنا ضامناً وكفيلاً قال الزجاج يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل وعلى
هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) والقول الرابع قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( الفرقان 21 ) وخامسها قولهم أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ قال مجاهد كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن ذَهَبَ قال الزجاج الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب وسادسها قولهم أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء قال الفراء يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد أنت الذي كلفتني رقي الدرج
على الكلال والمشيب والعرج
وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ أي لن نؤمن لأجل رقيك حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا مّنَ السَّمَاء فيه تصديقك قال عبد الله بن أمية لَن نُّؤْمِنَ حتى نصنع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ولما حكى الله تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وفيه مباحث
المبحث الأول أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتاً في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا والجواب أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال
البحث الثاني هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على الله محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي وقوله سبحان ربي تنزيه لله تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق بالله إلا قولهم أو تأتي بالله فدل هذا على أن قوله سُبْحَانَ رَبّى تنزيه لله عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن الله تعالى يجيء ويذهب فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء قلنا القوم لم يتحكموا على الله وإنما قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن كنت نبياً صادقاً فاطلب من الله أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على الله فلا يليق حمل قوله سُبْحَانَ رَبّى على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي بالله
البحث الثالث تقرير هذا الجواب أن يقال إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من الله تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولاً حقاً من عند الله والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء والثاني أيضاً باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً جواب كاف في هذا الباب وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً كونهم على الضلال في الإلهيات
وفي النبوات أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجيء وذهاب وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وتقريره ما ذكرناه
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولاً من البشر بل اعتقدوا أن الله تعالى لو أرسل رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه الأول قوله وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في إدعاء رسالة الله تعالى فالمراد من قوله تعالى إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون من الملائكة تحكماً فاسداً وتعنتاً باطلاً الوجه الثاني من الأجوبة التي ذكرها الله في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً الوجه الثالث من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وتقريره أن الله تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ومن شهد الله على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق
وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل أما قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ فالمقصود تسلية الرسول وهو أن الذين سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال واحتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم في الهدى والضلال والمعتزلة حملوا هذا الإضلال تارة على الإضلال عن طريق الجنة وتارة على منع الألطاف وتارة على التخلية وعدم التعرض له بالمنع وهذه المباحث قد ذكرناها مراراً فلا فائدة في الإعادة أما قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين الأول إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 ) الثاني روى أبو هريرة قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم وأما قوله عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا فاعلم أن واحداً قال لابن عباس رضي الله عنه أليس أنه تعالى يقول وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ( الكهف 53 ) وقال سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( الفرقان 12 ) وقال دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) وقال يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ( النحل 111 ) وقال حكاية عن الكفار وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال ههنا عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأول قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه بكماً عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين صماً عن ثناء الله تعالى على أوليائه الثالث قال مقاتل إنه حين يقال لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) يصيرون عمياً بكماً صماً أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون الرابع أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا على أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا إلزام حجة الله عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله عمياً وبكماً وصماً والجواب أن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون أما قوله تعالى مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فظاهر وأما قوله كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ففيه مباحث
البحث الأول قال الواحدي الخبو سكون النار يقال خبت النار تخبوا إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبىء إخباء أي أخمدها ثم قال زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا قال ابن قتيبة زدناهم سعيراً أي تلهباً
البحث الثاني لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله كُلَّمَا خَبَتْ يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار أما لا يدل هذا على أنه يخف
العذاب في ذلك الوقت
البحث الثالث قوله كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفاً والجواب الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديداً ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ بالله منه ولما ذكر تعالى أنواع هذا الوعيد قال ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ والباء في قوله بأنهم كفروا باء السببية وهو حجة لمن يقول العمل علة الجزاء والله أعلم
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
قوله تعالى وَقَالُواْ وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ورميماً يبعد أن يعود هو بعينه وأجاب الله تعالى عنه بأن من قدر على خلق السموات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم وفي قوله قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ قولان الأول المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء القول الثاني المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( إبراهيم 19 ) وقوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ( التوبة 39 ) قال الواحدي والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( الإسراء 99 ) ثم قال تعالى فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَة ِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَة َ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن الكفار لما قالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) طلبوا
إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم والله أعلم
المسألة الثانية قوله لَّوْ أَنتُمْ فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان أما البحث النحوي فهو أن كلمة لَوْ من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفى هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة لَوْ مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
نصبت لهم فوق العرانين مأتما
والمعنى لو أراد غير أخوالي وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله أَنتُمْ تَمْلِكُونَ دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل
المسألة الثالثة خزائن فضل الله ورحمته غير متناهية فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ثم قال تعالى وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا أي بخيلاً يقال قتر يقتر قتراً وأقتر إقتاراً وقتر تقتيراً إذا قصر في الانفاق فإن قيل فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه الأول أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل الثاني أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل الثالث إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق وَهُمْ الَّذِينَ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 )
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلا ءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُواْ الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَة ِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذا الكلام أيضاً الجواب عن قولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة فقال تعالى أَنَاْ مُوسَى الْكِتَابَ معجزات مساوية لهذه الأشياء التي طلبتموها بل أقوى منها وأعظم فلو حصل في علمنا أن جعلها في زمانكم مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حق موسى فدل هذا على إنا إنما لم نفعلها في زمانكم لعلمنا أنه لا مصلحة في فعلها
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أحدها أن الله تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحاً وثانيها إنقلاب العصا حية وثالثها تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها ورابعها اليد البيضاء وخمسة أخر وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) والحادي عشر الحجر وهو قوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ ( الأعراف 160 ) الثاني عشر إظلال الجبل وهو قوله تعالى وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ والثالث عشر إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه والرابع عشر والخامس عشر قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ ( الأعراف 130 ) والسادس عشر الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير روى ابن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ فذكر محمد بن كعب في مسألة التسع حل عقدة اللسان والطمس فقال عمر بن عبد العزيز هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنا بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما ولما لم تكن تلك الأحوال مستندة إلى حجة ظنية فضلاً عن حجة يقينية لا جرم تركت تلك الروايات وفي تفسير قوله تعالى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ أقوال أجودها ما روى صفوان بن عسال أنه قال إن يهودياً قال لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات فذهبا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسألاه عنها فاقل هن أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي ولولا نخاف القتل وإلا اتبعناك
المسألة الثالثة قوله فَاسْأَلْ بَنِى إِسْراءيلَ إِذْ جَاءهُمْ فيه مباحث
البحث الأول فيه وجوه الوجه الأول أنه اعتراض دخل في الكلام والتقدير وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد والوجه الثاني أن يكون قوله فاسأل بني إسرائيل أي سلهم عن فرعون وقل له
أرسل معي بني إسرائيل والوجه الثالث سل بني إسرائيل أي سلهم أن يوافقوك والتمس منهم الإيمان الصالح وعلى هذا التأويل فالتقدير فقلنا له سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك
البحث الثاني أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسأل بني إسرائيل معناه الذين كانوا موجودين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام هم الذين كانوا في زمانه إلا أن الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما كانوا أولاد أولئك الذين كانوا في زمان موسى حسنت هذه الكناية ثم أخبر تعالى أن فرعون قال لموسى إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى مُوسَى مَّسْحُورًا ( الإسراء 45 ) وفي لفظ المسحور وجوه الأول قال الفراء إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون وذكرنا هذا في قوله حِجَابًا مَّسْتُورًا أنه مفعول من السحر أي أن الناس سحروك وخبلوك فتقول هذه الكلمات لهذا السبب الثالث قال محمد بن جرير الطبري معناه أعطيت علم السحر فهذه العجائب التي تأتي بها من ذلك السحر ثم أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ الكسائي علمت بضم التاء أي علمت أنها من علم الله فإن علمت وأقررت وإلا هلكت والباقون بالفتح وضم التاء قراءة علي وفتحها قراءة ابن عباس وكان علي رضي الله عنه يقول والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فاحتج بقوله وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( النمل 14 ) على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه السلام قال الزجاج الأجود في القراءة الفتح لأن علم فرعون بأنها آيات نازلة من عند الله أوكد في الحجة فاحتجاج موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج بعلم نفسه وأجاب الناصرون لقراءة علي عليه السلام عن دليل ابن عباس فقالوا قوله وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ يدل على أنهم استيقنوا شيئاً ما فأما أنهم استيقنوا كون هذه الآيات نازلة من عند الله فليس في الآية ما يدل عليه وأجابوا عن الوجه الثاني بأن فرعون قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) قال موسى لَقَدْ عَلِمْتَ فكأنه نفي ذلك وقال لقد علمت صحة ما أتيت به علماً صحيحاً علم العقلاء واعلم أن هذه الآيات من عند الله ولا تشك في ذلك بسبب سفاهتك
البحث الثاني التقدير ما أنزل هؤلاء الآيات ونظيره قوله والعيش بعد أولئك الأقوام
وقوله بصائر أي حججاً بينة كأنها بصائر العقول وتحقيق الكلام أن المعجزة فعل خارق للعادة فعله فاعله لغرض تصديق المدعى ومعجزات موسى عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بهذين الوصفين لأنها كانت أفعالاً خارقة للعادة وصرائح العقول تشهد بأن قلب العصا حية معجزة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله ثم إن تلك الحية تلقفت حبال السحرة وعصيهم على كثرتها ثم عادت عصا كما كانت فأصناف تلك الأفعال لا يقدر عليها أحد إلا الله وكذا القول في فرق البحر وإظلال الجبل فثبت أن تلك الأشياء ما أنزلها إلا رب السموات الصفة الثانية أنه تعالى إنما خلقها لتدل على صدق موسى في دعوة النبوة وهذا هو المراد من قوله مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حال كونها بصائر أي دالة على صدق موسى في دعواه وهذه الدقائق لا يمكن فهمها من القرآن إلا بعد إتقان علم الأصول وأقول يبعد أن يصير غير علم الأصول العقلي قاهراً في تفسير كلام الله ثم حكى تعالى أن موسى قال لفرعون إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ( الإسراء 103 ) واعلم أن فرعون
قال لموسى وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ مُوسَى مَّسْحُورًا فعارضه موسى وقال له وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا قال الفراء المثبور الملعون المحبوس عن الخير والعرب تقول ما ثبرك عن هذا أي ما منعك منه وما صرفك وقال أبو زيد يقال ثبرت فلاناً عن الشيء أثبره أي رددته عنه وقال مجاهد وقتادة هالكاً وقال الزجاج يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك والثبور الهلاك ومن معروف الكلام فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله وقال تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( الفرقان 13 14 ) واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحوراً أجابه موسى بأنك مثبور يعني هذه الآيات ظاهرة وهذه المعجزات قاهرة ولا يرتاب العاقل في أنها من عند الله وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور ثم قال تعالى فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الاْرْضِ يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر قال الزجاج لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا المعنى ما ذكره الله تعالى في قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه وقال لِبَنِى إِسْراءيلَ اسْكُنُواْ الاْرْضَ خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ يريد القيامة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا من ها هنا وها هنا واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه التفت الساق بالساق والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطاً يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاٌّ ذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ
( الإسراء 88 ) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات ثم أجاب الله بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم الله تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم الله فكذا ها هنا ثم إنه تعالى لو آتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمناً ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد الفائدة الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف وأيضاً فهذا الكتاب كتاب تكفل الله بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) فكان هذا الكتاب حقاً من كل الوجوه الفائدة الثانية أن قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ يفيد الحصر ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين الله الفائدة الثالثة قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ يدل على أن الإنزال غير النزول فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم الفائدة الرابعة قال أبو علي الفارسي الباء في قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله وَبِالْحَقّ نَزَلَ فيه احتمالان أحدهما أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن القرآن نزل به أي عليه الثاني أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ ثم قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشراً للمطيعين ونذيراً للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء
ثم قال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وفيه مباحث
البحث الأول أن القوم قالوا هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقاً شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب الله عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل
البحث الثاني قال سعيد بن جيبر نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى ثم فصل في السنين التي نزل فيها قال قتادة كان بين أوله وآخره عشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ننزله جملة لتقرأه على الناس على مكث بالفتح والضم على مهل وتؤدة أي لا على فورة قال الفراء يقال مكث ومكث يمكث والفتح قراءة عاصم في قوله فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( النمل 22 )
البحث الثالثة الاختيار عند الأئمة فرقناه بالتخفيف وفسره أبو عمرو بيناه قال أبو عبيد التخفيف أعجب إلي لأن تفسيره بيناه ومن قرأ بالتشديد لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرقاً فالفرق يتضمن التبيين ويؤكده ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام ويدل عليه أيضاً قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) ولم يقل يفترقا والتفرق مطاوع التفريق والافتراق مطاوع الفرق ثم قال وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً أي على الحد المذكور والصفة المذكورة ثم قال قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي أنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خروا سجداً منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ثم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا وفيه أقوال القول الأول قال الزجاج الذقن مجمع اللحيين وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذقن والقول الثاني أن الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخضوع والخشوع ربما مسح لحيته على التراب فإن اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب فقد أتى بغاية التعظيم والقول الثالث أن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه ومتى كان الأمر كذلك كان خروره على الذقن في موضع السجود فقوله يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته ثم بقي في الآية سؤالان السؤال الأول لم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا ولم يقل يسجدون والجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون السؤال الثاني لم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ ولم يقل على الأذقان والجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن والله أعلم ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً والمعنى أنهم يقولون في سجودهم سُبْحَانَ رَبّنَا أي ينزهونه ويعظمونه إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً أي بإنزال القرآن وبعث محمد وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهما خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن ويدل عليه قوله وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ويجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم وقوله يَبْكُونَ معناه الحال وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا أي تواضعاً واعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه وأنهم وإن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم
قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاٌّ سْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا
قال صاحب ( الكشاف ) المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في أَيّا عوض عن المضاف إليه و مَا صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى والضمير في قوله فَلَهُ ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى أَيّا مَّا تَدْعُواْ فهو حسن فوضع موضعه قوله فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فادعوه بها واحتج الجبائي بهذه الآية فقال لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة والجواب أنا لا نسلم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السموات والأرض فكذا قولنا هنا ثم قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وفيه مباحث
البحث الأول قوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيه أقوال الأول روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا القول الثاني روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طاف بالليل على دور الصحابة وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر لم تخفي صوتك فقال أناجي ربي وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً القول الثالث معناه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كلها وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار والقول الرابع أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي الله عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه والقول الخامس قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسىء بسريتها
البحث الثاني الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت
فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء
البحث الثالث يقال خفت صوته يخفت خفتاً وخفوتاً إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وقال في مدح المؤمنين وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وأمر الله رسوله فقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) فكذا ههنا نهى عن الطرقين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وهو بعيد واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلّ فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات النوع الأول من الصفات أنه لم يتخذ ولداً والسبب فيه وجوه الأول أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد الثاني أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده الثالث أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر والنوع الثالث قوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلّ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله على ذلك الإنعام أو منعه منه أما إذا كان منزهاً عن الولد وعن الشريك وكان منزهاً عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأجل أقسام الشكر ثم قال تعالى وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقروناً بالتكبير ويحتمل أنواعاً من المعاني أولها تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه وثانيها تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه أولها أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص وثالثها أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات ورابعها أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال النوع الثالث من تكبير الله تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر فقال أهل السنة إنا نحمد الله ونكبره ونعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء الله وقدرته ومشيئته وإرادته وقالت المعتزلة إنا نكبر الله ونعظمه عن أن يكون فاعلاً لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت
أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالساً في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء النوع الرابع تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء النوع الخامس تكبير الله في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة النوع السادس من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله ولسانه لا يفي بشكره وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافياً بكنه مجده وعزته وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل الله تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وبالله العصمة والتوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية مكيةبسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في حقائق قولنا الْحَمْدُ للَّهِ فقد سبق والذي أقوله ههنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد ألا ترى أنه يقال سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ إذا عرفت هذا فنقول إنه جل جلاله ذكر التسبيح عندما أخبر أنه أسرى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وذكر التحميد عندما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وفيه فوائد
الفائدة الأولى أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته والتحميد عبارة عن كونه مكملاً لغيره ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملاً في ذاته ونهاية الأمر كونه مكملاً لغيره فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا سبحان الله ثم ذكر بعده الحمد لله تنبيهاً على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية إذا عرفت هذا فنقول ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد وهذا تنبيه على أن الإسراء به أول درجات كماله وإنزال الكتاب غاية درجات كماله والأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب عليه يقتضي
كونه مكملاً للأرواح البشرية وناقلاً لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية ولا شك أن هذا الثاني أكمل وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاماً أن يصير ( العبد ) عالماً في ذاته معلماً لغيره ولهذا روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من تعلم وعلم فذاك يدعى عظيماً في السموات )
الفائدة الثانية أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت ولا شك أن هذا الثاني أكمل
الفائدة الثالثة أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه ألا ترى أنه تعالى قال هنالك لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ( الإسراء 1 ) ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية ألا ترى أنه قال لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ والفوائد المتعدية أفضل من القاصرة
المسألة الثانية المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق والجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( الأعراف 54 )
المسألة الثالثة إنزال الكتاب نعمة عليه ونعمة علينا أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات وتصيير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت وينكشف فيها قدس اللاهوت فلا شك أن ذلك من أعظم النعم وأما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والثواب والعقاب وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول وعلى جميع أمته أن يحمدوا الله عليه فعلمهم الله تعالى كيفية ذلك التحميد فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً وفيه أبحاث
البحث الأول أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره ويجب أن يكون تاماً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير إذا عرفت هذا فنقول في قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله قَيِّماً إشارة إلى كونه مكملاً لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قائم مقام قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ وقوله قَيِّماً قائم مقام قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وهذه أسرار لطيفة
البحث الثاني قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان والمراد منه وجوه أحدها نفي التناقض عن آياته كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) وثانيها أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها البتة وثالثها أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجهاً إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجهاً إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا الصفة الثانية للكتاب وهي قوله قَيِّماً قال ابن عباس يريد مستقيماً وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه قَيِّماً أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم
البحث الثالث قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا يدل على كونه كاملاً في ذاته وقوله قَيِّماً يدل على كونه مكملاً لغيره وكونه كاملاً في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملاً لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله تعالى وهو قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه
البحث الرابع اختلف النحويون في انتصاب قوله قَيِّماً وذكروا فيه وجوهاً الأول قال صاحب ( الكشاف ) لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأن قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا معطوف على قوله أَنَزلَ فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالاً من الكتاب يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة وأنه لا يجوز قال ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا وجعله قَيِّماً الوجه الثاني قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا حال وقوله قَيِّماً حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجاً قيماً الوجه الثالث قال السيد صاحب ( حل العقد ) يمكن أن يكون قوله قَيِّماً بدلاً من قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا لأن معنى لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا أنه جعله مستقيماً فكأنه قيل أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وجعله قَيِّماً الوجه الرابع أن يكون حالاً من الضمير في قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا أي حال كونه قائماً بمصالح العباد وأحكام الدين واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( النبإ 40 ) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله لّيُنذِرَ الذين كفروا بَأْسًا شَدِيدًا كما قال في ضده وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ والبأس مأخوذ من قوله تعالى بِعَذَابٍ بَئِيسٍ وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل
بأساً وبآسة وقوله مِن لَّدُنْهُ أي صادراً من عنده قال الزجاج وفي لَّدُنْ لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين ولما كان دفع الضرر أهم عند ( ذوي ) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ويبشر بالتخفيف والتثقيل وقوله مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا قال القاضي الآية دالة على صحة قولنا في مسائل أحدها أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير الثاني وصفه بكونه كتاباً والكتب هو الجمع وهو سمي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث الثالث أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة الرابع أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق وثانيها مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه الأول نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلاً بنفسه أما إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيماً أثر في استقامة فعله أما إذا كان العبد قادراً على الفعل مختاراً فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله والثاني أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك والثالث قوله لّيُنذِرَ وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه ( صلى الله عليه وسلم ) إنذار الكل وتبشير الكل وبتقدير أنه يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ وإذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلاً قصيراً وأسود وأبيض مما لا قدرة له عليه والرابع وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق الله تعالى فلا عمل لهم البتة الخامس إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان الله تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب ولا استحقاق
المسألة الرابعة قال قوله لّيُنذِرَ يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لأبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا معطوف على قوله لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ ( الكهف 2 ) والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه فالأول عام في حق كل من استحق العذاب والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) فكذا ههنا العطف يدل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى
المسألة الثانية الذين أثبتوا الولد لله تعالى ثلاث طوائف أحدها كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله وثانيها النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله وثالثها اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله والكلام في أن إثبات الولد لله كفر عظيم ويلزم منه محالات عظيمة قد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 10 ) وتمامه مذكور في سورة مريم ثم إنه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد لله تعالى من وجهين الأول قوله مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَائِهِمْ فإن قيل اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم قلنا انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ونظيره قوله وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلاً وتمام تقريره مذكور في قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وقوله وَلاَ لائَبَائِهِمْ أي ولا أحد من أسلافهم وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة النوع الثاني مما ذكره الله في إبطاله قوله كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرىء كَبُرَتْ كَلِمَة ً بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراء فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار أما من رفع فلم يضمر شيئاً كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة
البحث الثاني قوله كَبُرَتْ أي كبرت الكلمة والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة
البحث الثالث احتج النظام في إثبات قوله أن الكلام جسم بهذه الآية قال إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة والحركة لا تصح إلا على الأجسام والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق فلما كان خروج النفس سبباً لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة
البحث الرابع قوله تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يدل على أن هذا الكلام مستكره جداً عند العقل كأنه يقول هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ومعناه ظاهر واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا ومن الناس من قال شرط كونه كذباً أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق وهذا القيد عندنا باطل والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك ولا يعلم كونه باطلاً فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقاً أو لم يعلم ثم قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً وفيه مباحث
البحث الأول المقصود منه أن يقال للرسول لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذراً ومبشراً فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه والغرض تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه
البحث الثاني قال الليث بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد يقال بخعت لك نفسي أي جهدتها وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك وقال الكسائي بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه هكذا قال الواحدي
البحث الثالث قوله عَلَى ءاثَارِهِمْ أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية فإذا كان موته قريباً من موت الأول كان موته حاصلاً حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان
البحث الرابع قوله إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ المراد بالحديث القرآن قال القاضي وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة
البحث الخامس قوله أَسَفاً الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله غَضْبَانَ أَسِفًا في سورة الأعراف وعند قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وفي انتصابه وجوه الأول أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف الثاني يجوز أن يكون مفعولاً له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير والثالث قال الزجاج أَسَفاً منصوب لأنه مصدر في موضع الحال
البحث السادس الفاء في قوله فَلَعَلَّكَ جواب الشرط وهو قوله إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ قدم عليه ومعناه التأخير
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي وجه النظم كأنه تعالى يقول يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضاً يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان وقال القاضي الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به وقوله زِينَة ً لَّهَا أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب أما قوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ففيه مسائل
المسألة الأولى ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجباً فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلاً له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً بل يكون موجباً بالذات وأيضاً فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال يجري قوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً على ظاهره وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الإبتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً كثيرة
المسألة الثانية قال القاضي معنى قوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمراراً على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى فدل ذلك على بطلان قول من يقول خلق بعضهم للنار
المسألة الثالثة اللام في قوله لِنَبْلُوَهُمْ تدل ظاهراً على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة وأصحابنا قالوا هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال
المسألة الرابعة قال الزجاج أيهم رفع بالإبتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملاً أم ذاك ثم قال تعالى وَأَنْ لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الإمتحان والإبتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً أبداً لأنه يزهد فيها بقوله وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا الآية ونظيره قوله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) وقوله فَيَذَرُهَا قَاعاً ( طه 106 ) الآية وقوله وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ( الإنشقاق 13 ) الآية والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضاً لا تبقى وهو قوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) قال أبو عبيدة الصعيد المستوي من الأرض وقال الزجاج هو الطريق الذي لا نبات فيه وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم وأما الجرز فقال الفراء الجرز الأرض التي لا نبات عليها يقال جرزت الأرض فهي مجروزة وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها وامرأة جروز إذا كانت أكولاً وسيف جراز إذا كان مستأصلاً ونظيره قوله تعالى نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ ( السجدة 27 )
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَة ُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً وَهَيِّى ءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان فقال تعالى أم حسبت أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادراً على تخليق السموات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ثم يجعلها بعد ذلك صعيداً جرزاً خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم هذا هو الوجه في تقرير النظم والله أعلم
المسألة الثانية قد ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال كان النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام فقال أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم إن قريشاً بعثوه وبعثوا معه عتبة بن
أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود سلوه عن ثلاث عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح وما هو فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبروا بما قاله اليهود فجاؤوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسألوه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أخبركم بما سألتم عنه غداً ) ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به وقالوا وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطواف
المسألة الثالثة الكهف الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار وفي الرقيم أقوال الأول روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كل القرآن اعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم الثاني روى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول السدي الثالث قال سعيد بن جبير ومجاهد الرقيم لوح من حجارة وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ذلك اللوح على باب الكهف وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا الرقيم الكتاب والأصل فيه المرقوم ثم نقل إلى فعيل والرقم الكتابة ومنه قوله تعالى كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( المطففين 9 ) أي مكتوب قال الفراء الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ونظن أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه وقيل الناس رقموا حديثهم نقراً في جانب الجبل وقوله كَانُواْ مِنْ ءايَاتِنَا عَجَبًا المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في أحوال مخلوقاتنا فلا تحسب ذلك فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به والتقدير كانوا معجوباً منهم فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر ثم قال تعالى إِذْ أَوَى الْفِتْيَة ُ إِلَى الْكَهْفِ لا يجوز أن يكون إذ هنا متعلقاً بما قبله على تقدير أم حسبت إذ أوى الفتية لأنه كان بين النبي وبينهم مدة طويلة فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف بل يتعلق بمحذوف والتقدير اذكر إذ أوى ومعنى أوى الفتية في الكهف صاروا إليه وجعلوه مأواهم قال فقالوا رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر والرزق والأمن من الأعداء وقوله من لدنك يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده وهيىء لنا أي أصلح من قولك هيأت الأمر فتهيأ مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا الرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان الأول التقدير وهيىء لنا أمراً ذا رشد حتى نكون بسببه راشدين مهتدين الثاني اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً ثم قال تعالى فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ قال المفسرون معناه أنمناهم وتقدير الكلام أنه تعالى ضرب على آذانهم حجاباً يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة والتقدير ضربنا عليهم حجاباً إلا أنه حذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة ثم إنه تعالى بين أنه ضرب على آذانهم في الكهف وهو ظرف المكان وقوله سنين عدداً ظرف الزمان وفي قوله عدداً بحثان الأول قال الزجاج ذكر العدد ههنا يفيد كثرة السنين وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقداره بدون
التعديد أما إذا أكثر فهناك يحتاج إلى التعديد فإذا قلت أقمت أياماً عدداً أردت به الكثرة
البحث الثاني في انتصاب قوله عدداً وجهان أحدهما نعت لسنين المعنى سنين ذات عدد أي معدودة هذا قول الفراء وقول الزجاج وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير أحدهما حذف المضاف والثاني تسمية المفعول باسم المصدر قال الزجاج ويجوز أن ينتصب على المصدر المعنى تعد عداً ثم قال تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا فيه مسائل
المسألة الأولى قوله ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لنعلم اللام لام الغرض فيدل على أن أفعال الله معللة بالأغراض وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يقتضي أنه تعالى إنما بعثهم ليحصل له هذا العلم وعند هذا يرجع إلى أنه تعالى هل يعلم الحوادث قبل وقوعها أم لا فقال هشام لا يعلمها إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية والكلام فيه قد سبق ونظائر هذه الآية كثيرة في القرآن منها ما سبق في هذه السورة ومنها قوله في سورة البقرة إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( البقرة 143 ) وفي آل عمران وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( التوبة 16 ) وقوله إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ ( الكهف 7 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ( محمد 31 )
المسألة الثالثة أَيُّ رفع بالإبتداء وَأَحْصَى خبره وهذه الجملة بمجموعها متعلق العلم فلهذا السبب لم يظهر عمل قوله لَنَعْلَمُ في لفظة أَيُّ بل بقيت على ارتفاعها ونظيره قوله اذهب فاعلم أيهم قام قال تعالى سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( القلم 40 ) وقوله ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ( مريم 69 ) وقرىء ليعلم على فعل ما لم يسم فاعله وفي هذه القراءة فائدتان إحداهما أن على هذا التقدير لا يلزم إثبات العلم المتجدد لله بل المقصود أنا بعثناهم ليحصل هذا العلم لبعض الخلق والثانية أن على هذا التقدير يجب ظهور النصب في لفظة أي لكن لقائل أن يقول الإشكال بعد باق لأن ارتفاع لفظة أي بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ولمجيب أن يجيب فيقول إنه لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد لأن العوامل النحوية علامات ومعرفات ولا يمتنع اجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في الحزبين فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك فالملوك حزب وأصحاب الكهف حزب والقول الثاني قال مجاهد الحزبان من هذه الفتية لأن أصحاب الكهف لما انتبهوا اختلفوا في أنهم كم ناموا والدليل عليه قوله تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ( الكهف 19 ) فالحزبان هما هذان وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول القول الثالث قال الفراء إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم
المسألة الخامسة قال أبو علي الفارسي قوله أحصى ليس من باب أفعل التفضيل لأن هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس فأما قولهم ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق فمن الشواذ والشاذ لا يقاس عليه بل الصواب أن أحصى فعل ماضٍ وهو خبر المبتدأ والمبتدأ
والخبر مفعول نعلم وأمداً مفعول به لأحصى وما في قوله تعالى لِمَا لَبِثُواْ مصدرية والتقدير أحصى أمداً للبثهم وحاصل الكلام لنعلم أي الحزبين أحصى أمد ذلك اللبث ونظيره قوله أَحْصَاهُ اللَّهُ ( المجادلة 6 ) وقوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً ( الجن 28 )
المسألة السادسة احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات نفتقر إلى تقديم مقدمتين
المقدمة الأولى في بيان أن الولي ما هو فنقول ههنا وجهان الأول أن يكون فعيلاً مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية الثاني أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) وقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( الأعراف 196 ) وقوله تعالى أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( البقرة 286 ) وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) وقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( المائدة 55 ) وأقول الولي هو القريب في اللغة فإذا كان العبد قريباً من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه وكان الرب قريباً منه برحمته وفضله وإحسانه فهناك حصلت الولاية
المقدمة الثانية إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان فذاك إما أن يكون مقروناً بالدعوى أو لا مع الدعوى والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين فهذه أربعة أقسام القسم الأول إدعاء الإلهية وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل أن فرعون كان يدعي الإلهية وكانت تظهر خوارق العادات على يده وكما نقل ذلك أيضاً في حق الدجال قال أصحابنا وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس والقسم الثاني وهو ادعاء النبوة فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً وجب ظهور الخوارق على يده وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء وإن كان كاذباً لم يجز ظهور الخوارق على يده وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة وأما القسم الثالث وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا وأما القسم الرابع وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده وعند المعتزلة لا يجوز وأما القسم الثاني وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى فذلك الإنسان إما أن يكون صالحاً مرضياً عند الله وإما أن يكون خبيثاً مذنباً والأول هو القول بكرامات الأولياء وقد اتفق أصحابنا على جوازه وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وأما القسم الثالث وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردوداً عن طاعة الله تعالى فهذا هو المسمى بالاستدراج فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين إذا عرفت ذلك فنقول الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات
الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها
الحجة الثانية قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس كما قال وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ( الكهف 18 ) إلى قوله وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ( الهف 17 ) ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 39 ) وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان فسقط هذا الاستدلال أجاب القاضي عنه بأن قال لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علماً له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات قلنا إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة سنين وتسع سنين وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحساناً إليهم أما الأخبار فكثيرة الخبر الأول ما أخرج في ( الصحيحين ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر أما عيسى فقد عرفتموه وأما جريج فكان رجلاً عابداً ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت يا جريج فقال يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى فدعته ثانياً فقال مثل ذلك حتى قال ثلاث مرات وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه قالت اللهم لا تمته حتى تريه المومسات وكانت زانية هناك فقالت لهم أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء وكان هناك راعٍ يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أعياها راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت ولدي هذا من جريج فأتاها بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام قال أبو هريرة كأني أنظر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال بيده يا غلام من أبوك فقال الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي اللهم لا تجعلني مثله ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذا فقال الصبي اللهم اجعلني مثلها فقالت له أمه في ذلك فقال إن الشاب كان جباراً من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإن هذه قيل إنها زنت ولم تزن وقيل إنها سرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله ) الخبر الثاني وهو خبر الغار وهو مشهور في ( الصحاح ) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار فقالوا والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي انتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا
ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه ثم قال الآخر كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقها فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال يا عبد الله أد إلي أجرتي فقلت له كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق فقال يا عبد الله أتستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بك فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون ) وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه الخبر الثالث قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله الخبر الرابع روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ) الخبر الخامس عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( بينما رجل يسمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فعدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له ما اسمك قال فلان بن فلان بن فلان قلت فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها قال ولم تسأل عن ذلك قلت لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي وأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً ) ( أما الآثار ) فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم بما ظهر عن سائر الصحابة أما أبو بكر رضي الله عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد انفتح وإذا بهاتف يهتف من القبر ادخلوا الحبيب إلى الحبيب وأما عمر رضي الله عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته وأحدها ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فكتبت تاريخ تلك الكلمة فقدم رسول مقدم الجيش فقال يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت قلت سمعت بعض المذكرين قال كان ذلك معجزة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم الثاني روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه
جارية واحدة حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر فكتب عمر على خزفة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليكا فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك الثالث وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الرابع وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال الخامس روى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر رضي الله عنه وضع درته تحت رأسه ونام على التراب فعجب الرسول من ذلك وقال إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ا ثم قال في نفسه إني وجدته خالياً فأقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم وأقول هذه الوقائع رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات وأما عثمان رضي الله عنه فروى أنس قال سرت في الطريق فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان فقال ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لا ولكن فراسة صادقة الثاني أنه لما طعن بالسيف فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 137 ) الثالث أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته وأما علي كرم الله وجهه فيروي أن واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتى به إلى علي فقال له أسرقت قال نعم فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا فقال ابن الكرا من قطع يدك فقال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول فقال قطع يدك وتمدحه فقال ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النارا فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة فنذكر منها شيئاً قليلاً الأول روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إلي يريدني فقلت يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع الثاني روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله الثالث قالوا لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه زق خمر فقال ما هذا قال خل فقال خالد اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى
أصحابه فقال أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلهاا فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا والله ما جئتنا إلا بخل فقال هذا والله دعاء خالد بن الوليد الرابع الواقعة المشهورة وهي أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وماضره الخامس روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثم قال إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء السادس روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر فمن أرادها طالعها وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات فمن وجوه
الحجة الأولى أن العبد ولي الله قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) والرب ولي العبد قال تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) وقال وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( الأعراف 166 ) وقال إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( المائدة 55 ) وقال أَنتَ مَوْلَانَا ( البقرة 286 ) وقال ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( محمد 11 ) فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب وأيضاً الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب قال تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) وقال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( البقرة 222 ) وإذا ثبت هذا فنقول العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ولهذا قال تعالى أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 45 )
الحجة الثانية لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أن المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأول قدح في قدرة الله وهو كفر والثاني باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مني مفازة أو تسخير حية أو أسد فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفاً في مفازة فأي بعد فيه
الحجة الثالثة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن رب العزة ( ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً وقلباً ويداً ورجلاً بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي ) وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه وبصره إذا ثبت هذا فنقول لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة ماء في مفازة
الحجة الرابعة قال عليه السلام حاكياً عن رب العزة ( من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وهذا قريب من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً ( الأحزاب 36 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ
( الأحزاب 57 ) فجعل بيعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيعة مع الله ورضاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رضاء الله وإيذاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إيذاء الله فلا جرم كانت درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال ( من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذاء نفسه ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول ( يوم القيامة مرضت فلم تعدني استسقيتك فما سقيتني استطعمتك فما أطعمتني فيقول يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمينا فيقول إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي ) وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلباً أو ورداً
الحجة الخامسة أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس فقد يخصه أيضاً بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلاً والمنصب تبعاً وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبداً بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض
الحجة السادسة لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النمل 20 ) وقال عليه السلام ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علماً بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلباً وأقل ضعفاً ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية وذلك لأن علياً كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعاً وبصراً فإذا صار نور جلال الله سمعاً له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصراً له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يداً له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب
الحجة السابعة وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السموات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبهاً بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته وقل انغماسها في تدبير
هذا البدن وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال وذلك هو الكرامات وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة وفيها النورانية والكدرة وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضاً كذلك ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 ) وقال في قوم آخرين من الملائكة وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً ( النجم 26 ) فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة ولنقبض ههنا عنان البيان فإن وراءها أسراراً دقيقة وأحوالاً عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات واحتج المنكرون للكرامات بوجوه الشبهة الأولى وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلاً على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلاً وذلك باطل والشبهة الثانية تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) قالوا هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك الشبهة الثالثة تمسكوا بقوله تعالى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ ( النحل 7 ) والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد الشبهة الرابعة قالوا هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهماً فهل نطالبه بالبينة أم لا فإن طالبناه بالبينة كان عبثاً لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم نطالبه بها فقد تركنا قوله عليه السلام ( البينة على المدعي ) فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل الشبهة الخامسة إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقاً للعادة وذلك يقدح في المعجزة والكرامة ( والجواب ) عن الشبهة الأولى أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية فقال قوم من المحققين إن ذلك لا يجوز فعلى هذا القول يكون الفرق بين المعجزات والكرامات أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفراً ولا معرفتها إيماناً فكان دعوى الولاية طلباً لشهوة النفس فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة
والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق أما الذين قالوا يجوز للولي دعوى الولاية فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه الأول أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءاً عن المعصية ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقاً في دعوى النبوة وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقاً في دعوى الولاية وبهذا الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعناً في معجزات الأنبياء عليهم السلام الثاني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعي المعجزة ويقطع بها والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها لأن المعجزة يجب ظهورها أما الكرامة ( ف ) لا يجب ظهورها الثالث أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة الرابع أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعناً في نبوة النبي بل يصير مقوياً لها ( والجواب ) عن الشبهة الثانية أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل أما الولي فإنما يكون ولياً إذا كان آتياً بالفرائض والنوافل ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض فظهر الفرق ( والجواب ) على الشبهة الثالثة أن قوله تعالى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ محمول على المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم وهذا هو ( الجواب ) عن الشبهة الرابعة وهي التمسك بقوله عليه السلام البينة على المدعي ( والجواب ) عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وكما قال إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحاً في كونها على خلاف العادة
المسألة السابعة في الفرق بين الكرامات والاستدراج اعلم أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد وقد يكون استدراجاً له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن أحدها الاستدراج قال الله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ( الأعراف 182 ) ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعداً من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج وثانيها المكر قال تعالى فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( الأعراف 99 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( آل عمران 54 ) وقال وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( النمل 50 ) وثالثها الكيد قال تعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وقال يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ ( البقرة 9 ) ورابعها الإملاء قال تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرًا لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل
عمران 178 ) وخامسها الإهلاك قال تعالى حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ ( الأنعام 44 ) وقال في فرعون وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( القصص 39 40 ) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات فنقول إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة فلهذا المعنى قال المحققون أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه
الحجة الأولى أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذ الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقاً لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) وقال تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) وأيضاً قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق
الحجة الثانية أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور
الحجة الثالثة أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرىء في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى ( ذكره ) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول
الحجة الرابعة أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي
الحجة الخامسة أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيماً ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً
( الجمعة 5 ) وقيل أيضاً في حقهم وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( آل عمران 19 ) فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد
الحجة السادسة أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه أما إليك فلا فالاستغناء بالفقير فقر والتقوي بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول
الحجة السابعة أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون قال إبليس أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( الأعراف 12 ) وقال فرعون أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( الزخرف 51 ) وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات وختمها بقوله وإعجاب المرء بنفسه )
الحجة الثامنة أنه تعالى قال فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( الأعراف 144 ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية
الحجة التاسعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خيره الله بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً ترك الملك ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكاً كان افتخاره بعبيده فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) وقيل في المعراج سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 )
الحجة العاشرة أن محب المولى غير ومحب ما للمولى غير فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محباً للمولى بل كان محباً لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه وما كان المولى محبوباً له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء