كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
ثم قال تعالى وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وفي المحصنات قولان أحدهما أنها الحرائر والثاني أنها العفائف وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة والقول الأول أولى لوجوه أحدها أنه تعالى قال بهد هذه الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها وثانيها أنا بينا في تفسير قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( النساء 25 ) أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين عدم طول الحرة وحصول الخوف من العنت وثالثها أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية وقد ثبت أنه غير محرم أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات ورابعها أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتاً منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلاّ أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من الليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) ويقول لا أعلم شركاً أعظم من قولها إن ربها عيسى ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بوجوه الأول أن المراد الذين آمنوا منهم فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا فبيّن تعالى بهذه الآية جواز ذلك والثاني روي عن عطاء أنه قال إنما رخص الله تعالى في الزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة والثالث الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) و قوله لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ ( آل عمران 118 ) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة الرابع قوله تعالى في خاتمة هذه الآية وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا من أعظم الكافرات عن التزوج بالكافرة فلو كان المراد بقوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز
المسألة الثانية إن قلنا المراد بالمحصنات الحرائر لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية وإن قلنا المراد بالمحصنات العفائف دخلت وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند
الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكاتبية قال لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان الكفر والرق وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثالثة قالل سعيد بن المسب والحسن وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يدخل فيه الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط وهذا قول ابن عباس فإنه قال من نساء أهل الكتاب من يحل لنا ومنهن من لا يحل لنا وقرأ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ ( التوبة 29 ) فمن أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل
المسألة الرابعة اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي عن ابن المسيب أنه قال إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس وقال أبو ثور وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس
المسألة الخامسة قال الكثير من الفقهاء إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن قالوا والدليل عليه قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ فقوله مِن قَبْلِكُمْ يدل على أن من دان الكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب
ثم قال تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات
ثم قال تعالى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى قال الشعبي الزنا ضربان السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر والله تعالى حرّمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان وهو التزوج
ثن قال تعالى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام يعني ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة والثاني قال القفال المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفرق بينهم وبين المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب بل كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة
المسألة الثانية قوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فيه إشكال وهو أن الكفر إنما يعقل بالله ورسوله فأما الكفر بالإيمان فهو محال فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه الأول قال ابن عباس ومجاهد وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ أي ومن يكفر بالله إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز والثاني قال الكلبي وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ أي بشهادة
أن لا إله إلاّ الله فجعل كلمة التوحيد إيماناً فإن الإيمان بها لما كان واجباً كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور والثالث قال قتادة إن ناساً من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير دينناا فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا فسمى القرآن إيماناً لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لا بدّ منه في الإيمان
المسألة الثالثة القائلون بالاحباط قالوا المراد بقوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب إيمانه والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها فهذا هو المراد من قوله فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
المسألة الرابعة قوله تعالى وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ مشروط بشرط غير مذكور في الآية وهو أن يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين والدليل على أنه لا بدّ من هذا الشرط قوله تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( البقرة 217 ) الآية
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ثم قال تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا باللعقود ( المائدة 1 ) وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية فقوله بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية فكأنه قيل إل هنا العهد نوعان عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان فقال تعالى نعم أنا أوفي أولاً بعهد الربوبية والكرم ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين لذات المطعم ولذات المنكح فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح وعند تمام هذا البيان كأنه يقول قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلاّ بالطهارة لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أن المراد بقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ليس نفس القيام ويدل عليه وجهان الأول أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وأنه باطل بالإجماع الثاني أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لكان قد خرج عن العهدة بل المراد منه إذا شمرتم
للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه مشهور متعارف ويدل عليه وجهان الأول أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور الثاني قوله تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء ( النساء 34 ) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب يقال فلان قائم بذلك الأمر قال تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وليس المراد منه ألبتة الانتصاب بل المراد كونه مريداً لذلك الفعل متهيئاً له مستعداً لإدخاله في الوجود فكذا ههنا قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها
المسألة الثانية قال قوم الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس ذلك تكليفاً مستقلاً بنفسه واحتجوا بأن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ جملة شرطية الشرط فيها القيام إلى الصلاة والجزاء الأمر بالغسل والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وقال آخرون المقصود من الوضوء الطهارة والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام ( بني الدين على النظافة ) وقال ( أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة ) ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب والله أعلم
المسألة الثالثة قال داود يجب الوضوء لكل صلاة وقال أكثر الفقهاء لا يجب احتج داود بهذه الآية من وجهين لأول أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك فإن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إما أن يكون المراد منه قياماً واحداً وصلاة واحدة فيكون المراد منه الخصوص أو يكون المراد منه العموم والأول باطل لوجوه الأول أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة وذلك خلاف الأصل وثانيها أنه يصح إدخال الاستثناء عليه ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل وذلك يوجب العموم وثالثها أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل فتصير هذه الآية وحدها مجملة وقد بينا أنه خلاف الأصل فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الووء عند كل قيام إلى الصلاة
الوجه الثاني أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقوناً بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم ومن وجوه التعظيم كونه آتياً بالخدمة حال كونه في غاية النظافة ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف المناسب وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه فيلزم وجو الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة ثم قال داود ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو يقال إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه قال أما القراءة الشاذة فمردودة قطعاً لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن وهو أن يقال إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل وأيضاً فلأن
معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها فلو كان ذلك قرآناً لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ وأما التمسك بخبر الواحد فقال هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر وذلك لا يجوز قال الفقهاء ءن كلمة إِذَا لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت ثم لو دخلت ثانياً لم تطلق ثانياً وذلك يدل على أن كلمة إِذَا لا تفيد العموم وأيضاً أن السيد إذ قال لعبده إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة
وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم فلعله يلتزم العموم وأيضاً فله أن يقول إنا قد دللنا على أن كلمة إِذَا في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير وأما الفقهاء فإنهم استدولا على صحة قولهم بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد قال عمر رضي الله عنه فقلت له في ذلك فقال عمداً فعلت ذلك يا عمر
أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن وأيضاً فهذا الخبر يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مواظباً على تجديد الوضوء لكل صلاة وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى فَاتَّبَعُوهُ ( سبأ 20 ) بقي أن يقال قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح فنقول لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه الأول هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب والظاهر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها والثاني أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحاً لقوله عليه الصلاة والسلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) الثالث أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد والرابع أن دلالة القرآن على قولنا لفظية ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم
والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء وذلك يدل على كون كل واحد منهما سبباً لوجوب الطهارة عند وجود الماء وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة وذلك يدل على ما قلناه
المسألة الرابعة اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة والأصح أنها تدل عليه من وجيهن الأول أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء ثم بيّن أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم ولو لم يكن شرطاً لما صح ذلك الثاني أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به وتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله النيّة شرط لصحة الوضوء والغسل وقال أبو حنيفة رحمه
الله ليس كذلك
وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية
أما الشافعي رحمه الله فإنه قال الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً فالوضوء يجب أن يكون منوياً وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطاً لأنه لا قائل بالفرق وإنما قلنا إن الوضوء مأمور به لقوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ( المائدة 6 ) ولا شك أن قوله فاغْسِلُواْ وَامْسَحُواْ أمر وإنما قلنا إن كل مأمور به أن يكون منوياً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) واللام في قوله لِيَعْبُدُواْ ظاهر للتعليل لكن تعليل أحكام الله تعالى محال فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض فيصير التقدير وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة ومتى كانتالنية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبراً وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً مخصوص في بعض الصور لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص والعام حجة في غير محل التخصيص
وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطاً لصحة الوضوء فقال إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز
وجوابنا إنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله الترتيب شرط لصحة الوضوء وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله ليس كذلك احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على قوله من وجوه الأول أن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق
فإن قالوا فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال
قلنا فاء التعقيب إنما دخلت على الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر الوجه ثم ءن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع فكان قولنا أولى
والوجه الثاني أن نقول وقعت البداءة في الذكر بالوجه فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( هود 112 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( ابدؤا بما بدأ الله ) وهذا الخبر وإن ورد في قصة الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص والثالث أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع وذلك يدل على أن الترتيب واجب بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلاً إلى القدم أو من القدم صاعداً إلى الرأس والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك وأما الترتيب المعتبر في لاشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة ويفرد الممسوحة عنها والآية ليست كذلك فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات إذ ثبت هد فنقول هذا يدل على أن الترتيب واجب والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملاً للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل الرابع أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص بيان المقام الأول من وجوه أحدها أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول وثانيها أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكلمة ءنما للحصر وقوله عليه الصلاة والسلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً وتطهير الطاهر محال وثالثها أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة وخاسمها أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة بل ههنا أولى لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال الواو لا توجب الترتيب فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص وهو نسخ وهو غير جائز
وجوابنا أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم
المسألة السابعة موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة وهو قوله وتطهير الطاهر محال وثالثها أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة وخاسمها أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة بل ههنا أولى لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال الواو لا توجب الترتيب فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص وهو نسخ وهو غير جائز
وجوابنا أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم
المسألة السابعة موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة وهو قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ فثبت أن الوضوء بدون الموالاة يفيد حصول الطهارة فوجب أن نقول بجواز الصلاة بها لقوله عليه الصلاة والسلام ( مفتاح الصلاة الطهارة )
المسألة الثامنة قال أبو حنيفة رحمه الله الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء وقال الشافعي
رحمه الله لا ينقض احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال ظاهرها يقتضي لإتيان بالوضوء لكل صلاة على ما بينا ذلك فيما تقدم ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس والشافعي رحمه الله عول على ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) احتجم وصلّى ولم يزد على غسل أثر محاجمه
المسألة التاسعة قال مالك رحمه الله لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة وقال ربيعة لا وضوء أيضاً في دم الاستحضانة لنا التمسك بعموم الآية
المسألة العاشرة قال أبو حنيفة رحمه الله القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء وقال الباقون لا تنقض ولأبي حنيفة رحمه الله التمسك بعموم الآية على ما قررناه
المسألة الحادية عشرة قال الشافعي رحمه الله لمس المرأة ينقض الوضوء وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه للشافعي أن يتمسك بعموم الآية وهذا العموم متأكد بظاهر قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء وحجة الخصم خبر واحد أو قياس فلا يصير معارضاً له
المسألة الثانية عشرة مس الفرج ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه للشافعي رحمه الله أن يتمسك بعموم الآية وهذا العموم متأكد بقوله عليه الصلاة والسلام ( من مسّ ذكره فليتوضأ ) والخبر الذي يتمسك به الخصم على خلاف عموم الآية فكان الترجيح معنا
المسألة الثالثة عشرة لو كان على بدنه أو وجهه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة عن الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوؤه ما رأيت هذه المسألة موضوعة في كتب أصحابنا والذي أقوله إنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله فاغْسِلُواْ وقد أتى به فيخرج عن العهدة لأنه عند احتياجه إلى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه كذا ههنا وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام ( لكل امريء ما نوى ) وهذا الإنسان نوى فيجب أن يحصل له المنوي والله أعلم
المسألة الرابعة عشر لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أم لا يمكن أن يقال لا يصح لأنه أمر بالغسل والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل ويمكن أن يقال يصح لأن الغسل عبارة عن الفعل المفضي إلى الإنغسال والوقوف تحت الميزاب يفضي إلى الإنغسال فكان ذلك الوقوف غسلاً
المسألة الخامسة عشرة إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقضرت الجلدة عنها فلا شك أن ما ظهر تحت الجلدة غير مغسول إنما المغسول هو تلك الجلدة وقد تقلصت وسقطت
المسألة السادسة عشرة الغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو فلو رطب هذه الأعضاء ولكن ما سال الماء عليها لم يكف لأن الله تعالى أمر بإمرا الماء على العضو وفي غسل الجنابة احتمال أن يكفي ذلك والفرق أن المأمور به في الوضوء الغسل وذلك لا يحصل إلا عند إمرار الماء وفي الجناية المأمور به الطهر وهو قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وذلك حاصل بمجرد الترطيب
المسألة السابعة عشرة لو أخذ الثلج وأمره على وجهه فإن كان الهواء حاراً يذيب الثلج ويسيل
جاز وإن كان بخلافه لم يجز خلافاً لمالك والأوزاعي لنا أن قوله فاغْسِلُواْ يقتضي كونه مأموراً بالغسل وهذا لا يسمى غسلاً فوجب أن لا يجزى ء
المسألة الثامنة عشرة التثليث في أعمال الوضوء سنة لا واجب إنما الواجب هو المرة الواحدة والدليل عليه أنه تعالى أمر بالغسل فقال فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وماهية الغسل تدخل في الوجود بالمرة الواحدة ثم إنه تعالى رتب على هذا القدر حصول الطهارة فقال وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ فثبت أن المرة الواحدة كافية في صحة الوضوء ثم تأكد هذا بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به
المسألة التاسعة عشرة السواك سنة وقال داود واجب ولكن تركه لا يقدح في الصلاة لنا أن السواك غير مذكور في الآية ثم حكم بحصول الطهارة بقوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وإذا حصلت الطهارة حصل جواز الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام ( مفتاح الصلاة الطهارة )
المسألة العشرون التسمية في أول الوضوء سنة وقال أحمد وإسحاق واجبة وإن تركها عامداً بطلت الطهارة لنا أن التسمية غير مذكورة في الآية ثم حكم بحصول الطهارة وقد سبق تقرير هذه الدلالة ثم تأكد هذا بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من توضأ فذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه )
المسألة الحادية والعشرون قال بعض الفقهاء تقديم غسل اليدين على الوضوء واجب وعندنا أنه سنة وليس بواجب والاستدلال بالآية كما قررناه في السواك وفي التسمية
المسألة الثانية والعشرون حد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل كل ذلك
المسألة الثالثة والعشرون قال ابن عباس رضي الله عنهما يجب إيصال الماء إلى داخل العين وقال الباقون لا يجب حجة ابن عباس أنه وجب غسل كل الوجه لقوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ والعين جزء من الوجه فوجب أن يجب غسله حجة الفقهاء أنه تعالى قال في آخر الآية مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ولا شك أن في إدخال لماء في العين حرجاً والله أعلم
المسألة الرابعة والعشرون المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء والغسل عند الشافعي رحمه الله وعند أحمد وإسحاق رحمهما الله واجبان فيهما وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب في الغسل غير واجب في الوضوء لنا أنه تعالى أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهاً وداخل الأنف والفم غير مواجه فلا يكون من الوجه
إذ ثبت هذا فنقول إيصال الماء إلى الأعضاء الأربعة يفيد الطهارة لقوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ والطهارة تفيد جواز الصلاة كما بيناه
المسألة الخامسة والعشرون غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رحمهم الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجب لنا أنه من الوجه والوجه يجب غسله بالآية
ولأنا أجمعنا على أنه يجب غسله قبل نبات الشعر فحيلولة الشعر بينه وبين الوجه لا تسقط كالجبهة لما وجب غسلها قبل نبات شعر الحاجب وجب أيضاً بعده
المسألة السادسة والعشرون قال الشافعي رحمه الله يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب لنا أن قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ يوجب غسل الوجه والوجه اسم للجلدة الممتدة من الجبهة إلى الذقن ترك العمل به عند كثافة اللحية عملاً بقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وعند خفة اللحية لم يحصل هذا الحرج فكانت الآية دالة على وجوب غسله
المسألة السابعة والعشرون هل يجب إمرار الماء على ما نزل من اللحية عن حد الوجه وعلى الخارج منها إلى الأذنين عرضاً للشافعي رحمه الله فيه قولان أحدهما أنه يجب والثاني أنه لا يجب وهو قول مالك وأبي حنيفة والمزني حجة الشافعي رحمه الله أنا توافقنا على أن في اللحية الكثيفة لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعور وهي الجلد وإنما أسقطنا هذا التكليف لأنا أقمنا ظاهر اللحية مقام جلدة الوجه في كونه وجهاً وإذا كان ظاهر اللحية يسمى وجهاً والوجه يجب غسله بالتمام بدليل قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ لزم بحكم هذا الدليل إيصال الماء إلى ظاهر جميع اللحية
المسألة الثامنة والعشرون لو نبت للمرأة لحية يجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت تلك اللحية كثيفة وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب غسل الوجه والوجه عبارة عن الجلدة الممتدة من مبدأ الجبهة إلى منتهى الذقن تركنا العمل به في حق الرجال دفعاً للحرج ولحية المرأة نادرة فتبقى على الأصل
واعلم أنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع العنفقة والحاجبان والشاربان والعذاران وأهداب العين لأن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ يدل على وجوب غسل كل جلد الوجه ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج وهذه الشعور خفيفة فلا حرج في إيصال الماء إلى الجلدة فوجب أن تبقى على الأصل
المسألة التاسعة والعشرون قال الشعبي ما أقبل من الأذن معدود من الوجه فيجب غسله مع الوجه وما أدبر منه فهو معدود من الرأس فيمسح وعندنا الأذن ليست البتة من الوجه إذ الوجه ما به المواجهة والأذن ليست كذلك
المسألة الثلاثون قال الجمهور غسل اليدين إلى المرفقين واجب معهما وقال مالك وزفر رحمهما الله لا يجب غسل المرفقين وهذا الخلاف حاصل أيضاً في قوله وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ حجة زفر أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجاً عنه كما في قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) فوجب أن لا يجب غسل المرفقين
والجواب من وجهين الأول أن حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس وهاهنا يكون الحد خارجاً عن المحدود وهو كقوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ فإن النهار منفصل عن الليل انفصالاً محسوساً لأن انفصال النور عن الظلمة محسوس وقد لا يكون كذلك كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس
إذا عرفت هذا فنقول لا شك أن امتياز المرفق عن الساعد ليس له مفصل معين وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب القول بإيجاب غسل كل المرفق
الوجه الثاني من الجواب سلمنا أن المرفق لا يجب غسله لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم فإنه هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله وهذا الجواب اختيار الزجاج والله أعلم
المسألة الحادية والثلاثون الرجل إن كان أقطع فإن كان أقطع مما دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من المرفق لأن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ يقتضي وجوب غسل اليدين إلى المرفقين فإذا سقط بعضه بالقطع وجب غسل الباقي بحكم الآية وأما إن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً وأما إذا كان أقطع من المرفق قال الشافعي رحمه الله يجب إمساس الماء لطرف العظم وذلك لأن غسل المرفق لما كان واجباً والمرفق عبارة عن ملتقى العظمين فإذا وجب إمساس الماء لملتقى العظمين وجب إمساس الماء لطرف العظم الثاني لا محالة
المسألة الثانية والثلاثون تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب وقال أحمد هو واجب لنا أنه تعالى ذكر الأيدي والأرجل ولم يذكر فيه تقديم اليمنى على اليسرى وذلك يدل على أن الواجب هو غسل اليدين بأي صفة كان والله أعلم
المسألة الثالثة والثلاثون السنة أن يصب الماء على الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرفق فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف فقال بعضهم هذا لا يجوز لأنه تعالى قال وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ فجعل المرافق غاية الغسل فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية فوجب أن لا يجوز وقال جمهور الفقهاء أنه لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركاً للسنة
المسألة الرابعة والثلاثون لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ كما أنه لو نبت على الكف أصبع زائدة فإنه يجب غسلها بحكم هذه الآية
المسألة الخامسة والثلاثون قوله تعالى إِلَى الْمَرَافِقِ يقتضي تحديد الأمر لا تحديد المأمور به يعني أن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ أكر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد فبقي الواجب الواجب هو هذا القدر فقط أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة
المسألة السادسة والثلاثون قال الشافعي رحمه الله الواجب في مسح الرأس أقل شيء يسمى مسحاً للرأس وقال مالك يجب مسح الكل وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب مسح ربع الرأس حجة الشافعي أنه لو قال مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية أما لو قال مسحت يدي بالمنديل فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل
إذا ثبت هذا فنقول قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ يكفي في العمل به مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس ثم ذلك الجزء غير مقدر في الآية فإن أوجبنا تقديره بمقدار معين لم يمكن تعيين ذلك المقدار إلا بدليل
مغاير لهذه الآية فيلزم صيرورة الآية مجملة وهو خلاف الأصل وإن قلنا أنه يكفي فيه إيقاع المسح على أي جزء كان من أجزاء الرأس كانت الآية مبينة مفيدة ومعلوم أن حمل الآية على محمل تبقى الآية معه مفيدة أولى من حملها على محمل تبقى الآية معه مجملة فكان المصير إلى ما قلناه أولى وهذا استنباط حسن من الآية
المسألة السابعة والثلاثون لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة وقال الأوزاعي والثوري وأحمد يجوز لنا أن الآية دالة على أنه يجب المسح على الرأس ومسح العمامة ليس مسحاً للرأس واحتجبوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة
جوابنا لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة
المسألة الثامنة والثلاثون اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل الفقال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية من الشيعة وقال جمهور الفقهاء والمفسرين فرضهما الغسل وقال داود الأصفهاني يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري المكلف مخير بين المسح والغسل
حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله وَأَرْجُلَكُمْ فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب فنقول أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله جحر ضب خرب وقوله
كبير أناس في بجاد مزمل
قلنا هذا باطل من وجوه الأول أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله جحر ضب خرب فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل وثالثها أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً إنها توجب المسح وذلك لأن قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس والجر عطفاً على الظاهر وهذا مذهب مشهور للنحاة
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله وَامْسَحُواْ ويجوز أن يكون هو قوله فاغْسِلُواْ لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى فوجب أن يكون عامل النصب في قوله وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله وَامْسَحُواْ فثبت أن قراءة وَأَرْجُلَكُمْ
بنصب اللام توجب المسح أيضاً فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ثم قالوا ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخير الواحد لا يجوز
واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها والثاني أن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح والقوم أجابوا عنه بوجهين الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم وعلى هذا التقدير فيجب المسح على ظهر القدمين والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال
المسألة التاسعة والثلاثون مذهب جمهور الفقهاء أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح إن الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول الطرفان الناتئان يسميان المنجمين هكذا رواه القفال في تفسيره
حجة الجمهور وجوه الأول أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً فكان ينبغي أن يقال وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً لا جرم قال وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ والثاني أن العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكل أحد ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا أمراً خفياً الثالث روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ألصقوا الكعب بالكاعب ) ولا شك أن المراد ما ذكرناه الرابع أن الكعب مأخوذ من الشرف والارتفاع ومنه جارية كاعب إذا نتأ ثدياها ومنه الكعب لكل ما له ارتفاع
حجة الإمامية أن اسم الكعب واقع على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع الحيوانات فوجب أن يكون في حق الإنسان كذلك وأيضاً المفصل يسمى كعباً ومنه كعوب الرمح لمفاصله وفي وسط القدم مفصل فوجب أن يكون الكعب هو هو
والجواب أن مناط التكاليف الظاهرة يجب أن يكون شيئاً ظاهراً والذي ذكرناه أظهر فوجب أن يكون الكعب هو هو
المسألة الأربعون أثبت جمهور الفقهاء جواز المسح على الخفين وأطبقت الشيعة والخوارج على إنكاره واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ يقتضي إما غسل الرجلين أو مسحهما والمسح على الخفين ليس مسحاً للرجلين ولا غسلاً لهما فوجب أن لا يجوز بحكم نص هذه الآية ثم قالوا إن القائلين بجواز المسح على الخفين إنما يعولون على الخبر لكن الرجوع إلى القرآن أولى من الرجوع إلى هذا الخبر ويدل عليه وجوه الأول أن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز والثاني أن هذه الآية في سورة المائدة وأجمع المفسرون على أن هذه السورة لا منسوخ فيها ألبتة إلا قوله
تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( المائدة 2 ) فإن بعضهم قال هذه الآية منسوخة وإذا كان كذلك امتنع القول بأن وجوب غسل الرجلين منسوخ والثالث خبر المسح على الخفين بتقدير أنه كان متقدماً على نزول الآية كان خبر الواحد منسوخاً بالقرآن ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخاً للقرآن ولا شك أن الأول أولى لوجوه الأول أن ترجيح القرآن المتواتر على خبر الواحد أولى من العكس وثانيها أن العمل بالآية أقرب إلى الاحتياط وثالثها أنه قد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ) وذلك يقتضي تقديم القرآن على الخبر ورابعها أن قصة معاذ تقتضي تقديم القرآن على الخبر
الوجه الرابع في بيان ضعف هذا الخبر أن العلماء اختلفوا فيه فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأن تقطع قدماي أحب إليّ من أن أمسح على الخفين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لأن أمسح على جلد حمار أحبّ إلي من أن أمسح على الخفين وأما مالك فإحدى الروايتين عنه أنه أنكر جواز المسح على الخفين ولا نزاع أنه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة فلولا أنه عرف فيه ضعفاً وإلا لما قال ذلك والرواية الثانية عن مالك أنه ما أباح المسح على الخفين للمقيم وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه
وأما الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء فإنهم جوزوه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها من وقت الحدث بعد اللبس وقال الحسن البصري ابتداؤه من وقت لبس الخفين وقال الأوزاعي وأحمد يعتبر وقت المسح بعد الحدث قالوا فهذا الاختلاف الشديد بين الفقهاء يدل على أن الخبر ما بلغ مبلغ الظهور والشهرة وإذا كان كذلك وجب القول بأن هذه الأقوال لما تعارضت تساقطت وعند ذلك يجب الرجوع إلى ظاهر كتاب الله تعالى الخامس أن الحاجة إلى معرفة جواز المسح على الخفين حاجة عامة في حق كل المكلفين فلو كان ذلك مشروعاً لعرفه الكل ولبلغ مبلغ التواتر ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر ضعفه فهذا جملة كلام من أنكر المسح على الخفين
وأما الفقهاء فقالوا ظهر عن بعض الصحابة القول به ولم يظهر من الباقين إنكار فكان ذلك إجماعاً من الصحابة فهذا أقوى ما يقال فيه وقال الحسن البصري حدّثني سبعون من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مسح على الخفين وأما إنكار ابن عباس رضي الله عنهما فروي أن عكرمة روى ذلك عنه فلما سئل ابن عباس عنه فقال كذب علي وقال عطاء كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم وأما عائشة رضي الله عنها فروي أن شريح بن هانيء قال سألتها عن مسح الخفين فقالت اذهب إلى علي فاسأله فإنه كان مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أسفاره قال فسألته فقال امسح وهذا يدل على أن عائشة تركت ذلك الإنكار
المسألة الحادية والأربعون رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه يسقط عنه ذلك أيضاً لأن قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ مشروط بالقدرة عليه لا محالة فإذا فاتت القدرة سقط التكليف فهذا جملة ما يتعلق من المسائل بآية الوضوء
قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ قال الزجاج معناه فتطهروا إلا أن التاء تدغم في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا أدغمت التاء في الطاء سكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ليبتدأ بها فقيل اطهروا
واعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية الطهارة الصغرى ذكر بعدها كيفية الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجناية وفيه مسائل
المسألة الأولى لحصول الجناية سببان الأول نزول المني قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الماء من الماء ) والثاني التقاء الختانين وقال زيد بن ثابت ومعاذ وأبو سعيد الخدري لا يجب الغسل إلا عند نزول الماء لنا قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا التقى الختانان وجب الغسل )
واعلم أن ختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة وأمات ختان المرأة فاعلم أن شفريها محيطان بثلاثة أشياء ثقبة في أسفل الفرج وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير والثالث فوق ثقبة البول موضع ختانها وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانه
المسألة الثانية قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر على الاطلاق بحيث لم يكن مخصوصاً بعضو معين دون عضو فكان ذلك أمراً بتحصيل الطهارة في كل البدن على الاطلاق ولأن الطهارة لما كانت مخصوصة ببعض الأعضاء لا جرم ذكر الله تعالى تلك الأعضاء على التعيين فههنا لما لم يذكر شيئاً من الأعضاء على التعيين علم أن هذا الأمر أمر بطهارة كل البدن
واعلم أن هذا التطهير هو الاغتسال كما قال في موضع آخر وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ( النساء 43 )
المسألة الثالثة الدلك غير واجب في الغسل وقال مالك رحمه الله واجب لنا أن أقوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن الاغتسال من الجناية قال ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات خفيفات من الماء فإذا أنا قد طهرت ) أثبت حصول الطهارة بدون الدلك فدل على أن التطهير لا يتوقف على الدلك
المسألة الربعة لا يجوز للجنب مس المصحف وقال داود يجوز لنا قوله فَاطَّهَّرُواْ فدل على أنه ليس بطاهر وإلا لكان ذلك أمراً بتطهير الطاهر وإنه غير جائز وإذا لم يكن طاهراً لم يجز له مس المصحف لقوله تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( الواقعة 79 )
المسألة الخامسة لا يجب تقديم الوضوء على الغسل وقال أبو ثور وداود يجب لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بالتطهير والتطهير حاصل بمجرد الاغتسال ولا يتوقف على الوضوء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت )
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل وقال أبو
حنيفة رحمه الله هما واجبان
حجة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت )
وحجة أبي حنيفة الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى فَاطَّهَّرُواْ وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ترك العمل به في الأجزاء الباطنة التي يتعذر تطهيرها وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فوجب بقاؤهما تحت النص وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( بلوا الشعر وانقوا البشرة ) فإن تحت كل شعرة جنابة ) فقوله ( بلوا الشعر ) يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعراً وقوله ( وانقوا البشرة ) يدخل فيه جلدة داخل الفم
المسألة الرابعة شعر الرأس إن كان مفتولاً لا مشدوداً بعضه ببعض نظر فإن كان ذلك يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس وجب نقضه وقال مالك لا يجب وإن كان لا يمنع لم يجب وقال النخعي يجب لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ عبارة عن إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن فإن كان شد بعض الشعور بالبعض مانعاً منه وجب إزالة ذلك الشد ليزول ذلك المانع فإن لم يكن مانعاً منه لم يجب إزالته لأن ما هو المقصود قد حصل فلا حاجة إليه
المسألة الثامنة قال الأكثرون لا ترتيب في الغسل وقال إسحاق تجب البداءة بأعلى البدن لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بالتطهير المطلق وذلك حاصل بإيصال الماء إلى كل البدن فإذا حصل التطهير وجب أن يكون كافياً في الخروج عن العهدة
قوله تعالى وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء ( النساء 43 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى يجوز للمريض أن يتيمم لقوله تعالى وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ولا يجوز أن يقال إنه شرط فيه عدم الماء لأن عدم الماء يبيح التيمم فلا معنى لضمه إلى المرض وإنما يرجع قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء إلى المسافر
المسألة الثانية المرض على ثلاثة أقسام أحدها أن يخاف الضرر والتلف فههنا يجوز التيمم بالاتفاق الثاني أن لا يخاف الضرر ولا التلف فههنا قال الشافعي لا يجوز التيمم وقال مالك وادود يجوز وحجتهما أن قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى يتناول جميع أنواع المرض الثالث أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه الله وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله والدليل عليه عموم قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى الرابع أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه قال في ( الجديد ) لا يتيمم قال في ( القديم ) يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية
المسألة الثالثة إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلاً في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي رحمه الله إنه يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم وقال أبو حنيفة رحمه الله إن كان أكثر البدن صحيحاً غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحاً يكفيه التيمم حجة الشافعي رحمه الله الأخذ
بالاحتياط وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الله تعالى جعل المرض أحد أسباب جواز التيمم والمرض إذا كان حالاً في بعض أعضائه فهو مريض فكان داخلاً تحت الآية
المسألة الرابعة لو ألصق على موضع التيمم لصوقاً يمنع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف قال الشافعي رحمه الله يلزمه نزع اللصوق عند التيمم حتى يصل التراب إليه وقال الأكثرون لا يجب حجة الشافعي رعاية الاحتياط وحجة الجمهور أن مدار الأمر في التيمم على التخفيف وإزالة الحرج على ما قال تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 87 ) فإيجاب نزع للصوق حرج فوجب أن لا يجب
المسألة الخامسة يجوز التيمم في السفر القصير وقال بعض المتأخرين من أصحابنا لا يجوز لنا أن قوله تعالى أَوْ عَلَى سَفَرٍ مطلق وليس فيه تفصيل أن السفر هل هو طويل أو قصير ولقائل أن يقول أنا إذا قلنا السفر الطويل والقصير سببان للرخصة لكون لفظ السفر مطلقاً وجب أن نقول المرض الخفيف والشديد سببان للرخصة لكون لفظ المرض مطلقاً ويدل أيضاً على أن السفر القصير يبيح التيمم ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه انصرف من قومه فبلغ موضعاً مشرفاً على المدينة فدخل وقت العصر فطلب الماء للوضوء فلم يجد فجعل يتيمم فقال له مولاه أتتيمم وها هي تنظر إليك جدران المدينة ا فقال أو أعيش حتى أبلغها وتيمم وصلّى ودخل المدينة والشمس حية بيضاء وما أعاد الصلاة
المسألة السادسة المسافر إذا كان معه ماء ويخاف الاعطش جاز له أن يتيمم لقوله تعالى في آخر الآية مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ولأن فرض الوضوء سقط عنه إذا أضر بماله لدليل أنه إذا لم يجد الماء إلا بثمن كثير لم يجب عليه الوضوء فإذا أضر بنفسه كان أولى
المسألة السابعة إذا كان معه ماء وكان حيوان آخر عطشاناً مشرفاً على الهلاك يجوز له التيمم لأن ذلك الماء واجب الصرف إلى ذلك الحيوان لأن حق الحيوان مقدم على الصلاة ألا ترى أنه يجوز له قطع الصلاة عند إشراف صبي أو أعمى على غرق أو حرق فإذا كان كذلك كان ذلك الماء كالمعدوم فدخل حينئذٍ تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ
المسألة الثامنة إذ لم يكن معه ماء ولكن كان مع غيره ماء ولا يمكنه أن يشتري إلا بالغبن الفاحش جاز التيمم له لأن قوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) رفع عنه تحمل الغبن الفاحش وحينئذٍ يكون كالفاقد للماء فيدخل تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وكذا القول إذا كن واجداً لثمن المثل ولم يكن به إليه حاجة ضرورية فهنا يجب شراء الماء
المسألة التاسعة إذا وهب منه ذلك الماء هل يجوز له التيمم قال أصحابنا يجوز له التيمم ولا يجب عليه قبول ذلك الماء لأن المنة في قبول الهبة شاقة وأنا أتعجب منهم فإنهم لما جعلوا هذا القدر من الحرج سبباً لجواز التيمم فلم لم يجدوا خوف زيادة الألم في المرض سبباً لجواز التيمم
المسألة العاشرة إذا أعير منه الدول والرشاء فههنا الأكثرون قالوا لا يجوز له التيمم لأن المنة في هذه الإعارة قليلة وكان هذا الإنسان واجداً للماء من غير حرج فلم يجز له التيمم لأن قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ
دليل على أنه يشترط لجواز التيمم عدم وجدان الماء
المسألة الحادية عشرة قوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ كناية عن قضاء الحاجة وأكثر العلماء ألحقوا به كل ما يخرج من السبيلين سواء كان معتاداً أو نادراً لدلالة الأحاديث عليه
المسألة الثانية عشرة قال الشافعي رحمه الله الاستنجاء واجب إما بالماء وءما بالأحجار وقال أبو حنيفة رحمه الله غير واجب
حجة الشافعي قوله فليستنج بثلاثة أحجار وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ أوجب عند المجيء من الغائط الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحد وذلك يدل على أنه غير واحب
المسألة الثالثة عشرة لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله ولا ينقض عند أبي حنيفة رحمه الله
المسألة الرابعة عشرة ظاهر قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء يدل على انتقاض وضوء اللامس أما انتقاض وضوء الملموس فغير مأخوذ من الآية بل ءنما أخذ من الخبر أو من القياس الجلي
قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً وفيه مسائل وهي محصورة في نوعين أحدهما الكلام في أن الماء المطهر ما هو والثاني الكلام في أن التيمم كيف هو
أما النوع الأول ففيه مسائل
المسألة الأولى الوضوء بلماء المسخن جاز ولا يكره وقال مجاهد يكره لنا وجهان الأول قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ والغسل عبارة عن إمرار المء على العضو وقد أتى به فيخرج عن العهدة الثاني أنه قال فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم بفقدان الماء وههنا لم يحصل فقدان الماء فوجب أن لا يجوز التيمم
المسألة الاثانية قال أصحابنا الماء إذا قصد تشميسه في الإناء كره الوضوء به وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله لا يكره حجة أصحابنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلومن إلا نفسه ) ومن أصحابنا من قال لا يكره ذلك من جهة الشرع بل من جهة الطب وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه أمر بالغسل في قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وهذا غسل فيكون كافياً الثاني أنه واجد للماء فلم يجز له التيمم
المسألة الثالثة لا يكره الوضوء بما فضل عن وضوء المشرك وكذا لا يكره الوضوء بالماء الذي يكون في أواني المشركين وقال أحمد وإسحاق لا يجوز لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأنه واجد للماء فلا يتيمم وروى أنه عليه الصلاة والسلام توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جرة نصرانية
المسألة الرابعة يجوز الوضوء بماء البحر وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لا يجوز لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأن شرط جواز التيمم عدم الماء ومن وجد ماء البحر فقد وجد الماء
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز ذلك في السفر حجة الشافعي قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ أوجب الشارع عند عدم الماء التيمم وعند الخصم يجوز له الترك للتيمم بل يجب وذلك بأن يتوضأ بنبيذ التمر فكان ذلك على خلاف الآية فإن تمسكوا بقصة الجن قلنا قيل إن ذلك كان ماء نبذت فيه تميرات لإزالة الملوحة وأيضاً فقصة الجن كانت بمكة وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن فجعل هذا ناسخاً لذلك أولى
المسألة السادسة ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة وقال الأكثرون لا يجوز لنا أن عند عدم الماء أوجب الله التيمم وتجويز الوضوء بسائر المائعات يبطل ذلك احتجوا بأن قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو يسمى غسلاً كقول الشاعر
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
وإذا كان الغسل اسماً للقدر المشترك بين ما يحصل بالماء وبين ما يحصل بسائر المائعات كان قوله فاغْسِلُواْ إذناً في الوضوء بكل المائعات
قلنا هذا مطلق والدليل الذي ذكرناه مقيد وحمل المطلق على المقيد هو الواجب
لمسألة السابعة قال الشافعي رحمه الله الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به وقال بو حنيفة رحمه ا يجوز حجة الشافعي أن مثل هذا الماء لا يسمى ماء على الإطلاق قواجده غير واجد للكاء فوجب أن يجب عليه التيمم وحجة أبي حنيفة رحمه الله أو واجده واجد للماء لأن الماء المتغير بالزعفران ماى موصوف بصفة معينة فكان أصل الماى موجوداً لا محالة فواجده يكون واجداً للماء فوجب أن لا يجوز التيمم لقوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم بعدم الماء
المسألة الثامنة الماء الذي تغير وتعفن بطول المكث طاهر طهور لدليل قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم على عدم الماء وهذا الماء المتعفن ماء فوجب أن لا يجوز التيمم عند وجوده
المسألة التاسعة قال مالك وداود الماء المتسعمل في الوضوء يبقى طاهراً طهوراً وهو قول قديم للشافعي رحمه الله والقول الجديد للشافعي أنه لم يبق طهوراً ولكنه طاهر وهو قول محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة رحمه الله في أكثر الروايات أنه نجس حجة مالك أن جواز التيمم معلق على عدم وجدان الماء وهو قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وواجد الماء المستعمل واجد للماء فوجب أن لا يجوز التيمم وإذا لم يجز التيمم جاز له التوضوء لأنه لا قائل بالفرق وأيضاً قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) والطهور هو الذي يتكرر منه هذا الفعل كالضحوك والقتول والأكول والشروب والتكرار إنما يحصل إذا كان المستعمل في الطهارة يجوز استعماله فيها مرة أخرى
المسألة العاشرة قال مالك الماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم يتغير الماء بتلك النجاسة بقي طاهراً
طهوراً سواء كان قليلاً أو كثيراً وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وقال الشافعي رحمه الله إن كان أقل من القلتين ينجس وقال أبو حنيفة إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس حجة مالك أن الله جعل في هذه الآية عدم الماء شرطاً لجواز لتيمم وواجد هذا الماء الذي فيه النزاع واجد للماء فوجب أن لا يجوز له التيمم أقصى ما في الباب أن يقال هذا المعنى موجود عند صيرورة الماء القليل متغيراً إلا أنا نقول العام حجة في غير محل التخصيص وأيضاً قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ أمر بمطلق الغسل ترك العمل به في سائر المائعات وفي الماء القليل الذي تغير بالنجاسة فيبقى حجة في الباقي وقال مالك رحمه الله ثم تأيد التمسك بهذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام ( خلق الماى طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه ) ولا يعارض هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) لأن القرآن أولى من خبر الواحد والمنطوق أولى من المفهوم
المسألة الحادية عشرة يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب وقال أحمد وإسحاق لا يجوز بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب لنا قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وواجد هذا الماء فلم يجز له التيمم وإذا لم يجز له ذلك جاز له الوضوء لأنه لا قائل بالفرق
المسألة الثانية عشرة أسار السباع طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار وقال أبو حنيفة رحمه الله نجسة لنا أن واجد هذا السؤر واجد للماء فلم يجز له التيمم ولأن قوله فاغْسِلُواْ يتناول جميع أنواع الماء على ما تقدم تقرير هذين الوجهين
المسألة الثالثة عشرة الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة مغيرة بقي طاهراف مطهورة عند الشافعي رحنه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله ينجس لنا أنه واجد للماء فلم يجز له لتيمم ولأنه أمر بالغسل وقد أتى به فخرج عن العهدة
المسألة الرابعة عشرة الماء الذي تفتتت الأوراق فيه للناس فيه تفاصيل لكن هذه الآية دالة على كونه طاهراً مطهراً ما لم يزل عنه اسم الماء المطلق وبالجملة فهذه الآية دالة على أنه كلما بقي اسم الماىء المطلق كان طاهراف مطهوراً
النوع الثاني من المسائل المستخرجة من هذه الآية من مسائل التيمم
المسألة الأولى قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون رحمهم الله لا بدّ في التيمم من النية وقال زفر رحمه الله لا يجب لنا قوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ والتيمم عبارة عن القصد فدل على أنه لا بدّ من لنية
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة يجب تيمم اليدين إلى المرفقين وعن علي وابن عباس إلى الرسغين وعن مالك إلى الكوعين وعن الزهري إلى الآباط
لنا اليد اسم لهذا العضو إلى الإبط فقوله فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ يقتضي المسح إلى الإبن تركنا العمل بهذا النص في العضدين لأنا نعلم أن التيمم بدل عن الوضوء ومبناه على التخفيف بدليل أن الواجب تطهير أعضاء أربعة في الوضوء وفي التيمم الواجب تطهير عضوين وتأكد هذا المعنى بقوله تعالى في آية التيمم مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ فإذا كان العضدان غير معتبرين في
الوضوء فبأن لا يكونا معتبرين في التيمم أولى وإذا خرج العضدان عن ظاهر النص بهذا الدليل بقي اليدان إلى المرفقين فيه فالحاصل أنه تعالى إنما ترك تقييد التيمم في اليدين بالمرفقين لأنه بدل عن الوضوء فتقييده بهما في الوضوء يغني عن ذكر هذا التقييد في التيمم
المسألة الثالثة يجب استيعاب العضوين في التيمم ونقل الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز
لنا قوله فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ والوجه واليد اسم لجملة هذين العضوين وذلك لا يحصل إلا بالاستيعاب ولقئل أن يقول قد ذكرتم في قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ أن الباء تفيد التبغيض فكذا ههنا
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله إذا وضع يده على الأرض فما لم يعلق بيده شيء من الغبار لم يجزه وهو قول أبي يوسف رحمه لله وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله يجزئه
لنا قوله تعالى فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ وكلمة مِنْهُ تدل على التمسح بشيء من ذلك التراب كما أن من قال فلان يمسح من الدن أفاد هذا المعنى وقد بالغنا في تقرير هذا في تفسير آية التيمم من سورة النساء والله أعلم
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص وهو قول أبي يوسف رحمه اا وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز بالتراب وبالرمل وبالخزف المدقوق والجص والنورة والزرنيخ
لنا ما روي أن ابن عباس قال الصعيد هو التراب وأيضاً التيمم طهارة غير معقولة المعنى فوجب الاقتصار فيه على مورد النص والنص المفصل إنما ورد في التراب قال عليه الصلاة والسلام ( التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) وقال ( جعلت لي الأرض مسجداً وتربها طهوراً ) والله أعلم
المسألة السادسة لو وقف على مهب الرياح فسفت الرياح التراب عليه فأمر يده عليه أو لم يمر ظاهر مدهب الشافعي رحمه الله أنه لا يكفي وقال بعض المحققين يكفي لأنه لما وصل الغبار إلى أعضائه ثم أمر الغبار على تلك الأعضاء فقد قصد إلى استعمال الصعيد الطيب في أعضائه فكان كافياً
المسألة السابعة المذهب أنه إذا يممه غيره صح وقيل لا يصح لأن قوله فَتَيَمَّمُواْ أمر له بالفعل ولم يوجد
المسألة الثامنة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز
لنا قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ والقيام إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها
والمسألة التاسعة إذا ضرب رجله حتى ارتفع عنه غبار قال أبو حنيفة رحمه الله يجوز له أن يتيمم وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز حجة أبي يوسف قوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً والغبار المنفصل عن
التراب لا يقال إنه صعيد طيب فوجب أن لا يجزى
المسألة العاشرة لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً والنجس لا يكون طيباً
المسألة الحادية عشرة قال الشافعي رحمه الله المسافر إذا لم يجد الماء بقربه لم يجز له التيمم إلا بعد الطلب عن اليمين واليسار وإن كان هناك وادٍ هبط إليه وإن كان جبل صعده وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا غلب على ظنه عدم الماء لم يجب طلبه
لنا قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ جعل عدم وجدان الماء شرطاً لجواز التيمم وعدم الوجدان مشروط بتقديم الطلب فدل هذا على أنه لا بدّ من تقديم الطلب
المسألة الثانية عشرة لا يصح الطلب إلاّ بعد دخول وقت الصلاة فإن طلب قبله يلزمه الطلب ثانياً بعد دخول الوقت إلاّ أن يحصل عنده يقين أن الأمر بقي كما كان ولم يتغير
لنا قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ فقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا عبارة عن دخول الوقت فوجب أن يكون قوله فَلَمْ تَجِدُواْ عبارة عن عدم الوجدان بعد دخول الوقت وعدم الوجدان بعد دخول الوقت مشروط بحصول الطلب بعد دخول الوقت فعلمنا أنه لا بدّ من الطلب بعد دخول الوقت
المسألة الثالثة عشرة لا خلاف في جواز التيمم بدلاً عن الوضوء وأما التيمم بدلاً عن الغسل في حق الجنب فعن علي وابن عباس جوازه وهو قال أكثر الفقهاء وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز
لنا أن قوله إما أن يكون مختصاً بالجماع أو يدخل فيه الجماع فوجب جواز التيمم بدلاً عن الغسل لقوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً
المسألة الرابعة عشرة قال الشافعي رحمه الله لا يجمع بالتيمم بين فرضين وإن لم يحدث كما في الوضوء وقال أحمد يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين
حجة الشافعي قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى قوله وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء
وجه الاستدلال به أن ظاهره يقتضي الأمر بكل وضوء عند كل صلاة إن وجد الماء وبالتيمم إن فقد الماء ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيبقى في التيمم على مقتضى ظاهر الآية
المسألة الخامسة عشرة قال الشافعي رحمه الله إذا لم يجد الماء في أول الوقت ويتوقع وجدانه في آخر الوقت جاز له التيمم في أول الوقت وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بل يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت
حجة الشافعي قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ليس المراد منه القيام إلى الصلاة بل المراد دخول وقت الصلاة وهذا يدل على أن عند دخول الوقت إذا لم يجد الماء جاز له التيمم
المسألة السادسة عشرة إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه وقال أبو موسى الأشعري والشعبي لا يبطل
لنا قوله تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ شرط عدم وجدان الماء بجواز الشروع في الصلاة بالتيمم ومن وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة فقد فاته هذا الشرط فوجب أن لا يجوز له الشروع في الصلاة بذلك التيمم
المسألة السابعة عشرة لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة قال طاوس يلزمه
لنا قوله تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ جوّز له الشروع في الصلاة بالتيمم عند عدم وجدان الماء وقد حصل ذلك فوجب أن يكون سبباً لخروجه عن عهدة التكليف لأن الإتيان بالمأمور به سبب للأجزاء
المسألة الثامنة عشرة لو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة والثوري وهو اختيار المزني وابن شريح
لنا أن عدم وجدان الماء يقتضي جواز الشروع في الصلاة بحكمم التيمم على ما دلّت الآية عليه فقد انعقدت عليه صلاته صحيحة فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة فنقول ما لم يبطل صلاته لا يصير قادراً على استعمال الماء وما لم يصر قادراً على استعمال الماء لا تبطل صلاته فيتوقف كل واحد منهما على الآخر فيكون دوراً وهو باطل والله أعلم
المسألة التاسعة عشرة لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلّى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي رحمه الله وهو قول أحمد وأبي يوسف والقول الثاني أنه لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة حجة القول الثاني أنه عاجز عن الماء لأن عدم الماء كما أنه سبب للعجز عن استعمال الماء فكذلك النسيان سبب للعجز فثبت أنه عند النسيان عاجز فيه فيدخل تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وحجة القول الأول أنه غير معذور في ذلك النسيان
المسألة العشرون إذا ضل رحله في الرحال ففيه الخلاف المذكور والأولى أن لا تجب الإعادة
المسألة الحادية والعشرون إذا نسي كون الماء في رحله ولكنه استقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلّى ثم وجده فالأكثرون على أنه تجب الإعادة لأن العذر ضعيف وقال قوم لا تجب الإعادة لأنه لما استقصى في الطلب صار عاجزاً عن استعمال الماء فدخل تحت قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً
المسألة الثانية والعشرون لو صلّى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكن استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أولاً ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله وإن لم يكن عالماً بها قط فإن كان عليها علامة ظاهرة لزمه الإعادة وإن لم يكن عليها علامة فلا إعادة لأنه عاجز عن استعمال الماء فدخل تحت قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فهذا جملة الكلام في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه الآية وهي مائة مسألة وقد كتبناها في موضع ما كان معنا شيء من الكتب الفقهية المعتبرة وكان القلب مشوشاً بسبب
استيلاء الكفار على بلاد المسلمين فنسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم وأن يجعل كدنا في استنباط أحكام الله من نص الله سبباً لرجحان الحسنات على السيآت أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول
قوله تعالى مَا يُرِيدُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلّت الآية على أنه تعالى مريد وهذا متفق عليه بين الأئمة إلاّ أنهم اختلفوا في تفسير كونه مريداً فقال الحسن النجار أنه مريد بعمنى أنه غير مغلوب ولا مكره وعلى هذا التقدير فكونه تعالى مَّرِيداً صفة سلبية ومنهم من قال إنه صفة ثبوتية ثم اختلفوا فقال بعضهم معنى كونه مريداً لأفعال نفسه أنه دعاه الداعي إلى أيجادها ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره أنه دعاه الداعي إلى الأمر بها وهو قول الجاحظ وأبي قاسم الكعبي وأبي الحسين البصري من المعتزلة وقال الباقون كونه مريداً صفة زائدة على العلم وهو الذي سميناه بالداعي ثم منهم من قال إنه مريد لذاته وهذه هي الرواية الثانية عن الحسن النجار وقال آخرون إنه مريد بإرادة ثم قال أصحابنا مريد بإرادة قديمة قالت المعتزلة البصرية مريد بإرادة محدثة لا في محله وقالت الكرامية مريد بإرادة محدثة قائمة بذاته والله أعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أن تكليف ما لا يطاق لا يوجد لأنه تعالى أخبر أنه ما جعل عليكم في الدين من حرج ومعلوم أن تكليف ما لا يطاق أشد أنواع الحرج قال أصحابنا لما كان خلاف المعلوم محال الوقوع فقد لزمكم ما ألزمتموه علينا
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ويدل عليه أيضاً أن دفع الضرر مستحسن في العقول فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) وأما بيان أن الأصل في المنافع الإباحة فوجوه أحدها قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وثانيها قوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) وقد بينا أن المراد من الطيبات المستلذات والأشياء التي ينتفع بها وإذا ثبت هذان الأصلان فعند هذا قال نفاة القياس لا حاجة البتة أصلاً إلى القياس في الشرع لأن كل حادثة تقع فحكمها المفصل إن كان مذكوراً في الكتاب والسنة فذاك هو المراد وإن لم يكن كذلك فإن كان من باب المضار حرمناه بالدلائل الدالة على أن الأصل في المضار الحرمة وإن كان من باب المنافع إبحناه بالدلائل الدالة على إباحة المنافع وليس لأحد أن يقدح في هذين الأصلين بشيء من الأقسية لأن القياس المعارض لهذين
الأصلين يكون قياساً واقعاً في مقابلة النص وأنه مردود فكان باطلاً
المسألة الرابعة قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ اختلفوا في تفسير هذا التطهير فقال جمهور أهل النظر من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية وهذا الكلام عندنا بعيد جداً ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكلمة إِنَّمَا للحصر وهذا يدل على أن المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة الثاني قوله عليه السلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه الثالث أجمعت الأمة على أن بدن المحدث لو كان رطباً فأصابه ثوب لم يتنجس ولو حمله إنسان وصلّى لم تفسد صلاته وذلك بدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث الرابع أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك الخامس أن خروج النلجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخرا السادس أن قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ مذكور عقيب التيمم ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة وأنه لا يزيل شيئاً من النجاسات أصلاً السابع أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئاً البتة عن الرجلين الثامن أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك وإن كان من جملة الإعراض فهو محال لأن انتقال الأعراض محال فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد
الوجه الثاني في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده والكفر المعاصي كذلك فكانت نجاسات روحانية وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة ولهذا التأويل قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فجعل رأيهم نجاسة وقال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم وقال في حق عيسى عليه السلام إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( آل عمران 55 ) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيراً له
وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إللى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة وتأكد هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجائه
واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب الشافعي رحمه الله وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة والله أعلم
أما قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ففيه وجهان الأول أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولاً وهي نعمة الدنيا والنعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين الثاني أن المراد وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والكلام في ( لعل ) مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 ) والله أعلم
وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
إعلم أٌّ ه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد وذلك من وجهين الأول كثرة نعمة الله عليهم وهو المراد من قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ولم يقل نعم الله عليكم لأنه ليس المقصود منه التأمل في إعداد نعم الله بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنيس جنس لا يقدر غير الله عليه فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فقوله تعالى وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل
المسألة الثانية قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ مشعر بسبق النسيان فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات إلاّ أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سبباً لوقوعها في محل النيسان ولهذا المعنى قال المحققون إنه تعالى إنما كان باطناً لكونه ظاهراً وهو المراد من قولهم سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره
السبب الثاني من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف الله تعالى هو الميثاق الذي واثقهم به والمواثقة المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على نفسه وهذه الآية مشابهة لقوله في أول السورة عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وللمفسرين في تفسير هذا الميثاق وحوه الأول أن المراد هو المواثيق التي
جرت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهم في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته مع الأنصار في أول الأمر ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة وغيرهما ثم إنه تعالى أضاف الميثاق الصادر عن الرسول إلى نفسه كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 ) ثم إنه تعالى أكد ذلك بأن ذكرهم أنهم التزموا ذلك وقبلوا تلك التكاليف وقالوا سمعنا وأطعنا ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق فقال وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يعني لا تنقضوا تلك العهود ولا تعزموا بقلوبكم على نقضها فإنه إن خطر ذلك ببالكم فالله يعلم بذلك وكفى به مجازياً والثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل حين قالوا آمنا بالتوراة وبكل ما فيها فلما كان من جملة ما في التوراة البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزمهم الإقرار بمحمد عليه الصلاة والسلام والثالث قال مجاهد والكلبي ومقاتل هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى منهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
فإن قيل على هذا القول أن بني آدم لا يذكرون هذا العهد والميثاق فكيف يؤمرون بحفظه
قلنا لما أخبر الله تعالى بأنه كان ذلك حاصلاً حصل القطع بحصوله وحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد الرابع قال السيد المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
قوله تعالى الصُّدُورِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ هذا أيضاً متصل بما قبله والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها محصورة في نوعين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله فقوله كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ إشارة إلى النوع الأولل وهو التعظيم لأمر الله ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية وقوله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان الأول قال عطاء يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك الثاني قال الزجاج المعنى تبينون عن دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه
ثم قال تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم وفي الآية قولان الأول أنها عامة والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساءوا إليكم وأحسنوا إليهم
وإن بالغوا في إيحاشكم فهذا خطاب عام ومعناه أمر الله تعالى جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحداً إلاّ على سبيل العدل والانصاف وترك الميل والظلم والاعتساف والثاني أنها مختصة بالكفار فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام
فإن قيل فعلى هذا القول كيف يعقل ظلم المشركين مع أن المسلمين أمروا بقتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم
قلنا يمكن ظلمهم أيضاً من وجوه كثيرة منها أنهم إذا أظهروا الإسلام لا يقبلونه منهم ومنها قتل أولادهم الأطفال لاغتمام الآباء ومنها إيقاع المثلة بهم ومنها نقض عهودهم والقول الأول أولى
ثم قال تعالى اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فنهاهم أولاً عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ونظيره قوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) أي هو أقرب للتقوى وفيه وجهان الأول هو أقرب إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى والثاني هو أقرب إلى الاتقاء من عذاب الله وفيه تنبيه عظيم على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله تعالى فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه
ثم ذكر الكلام الذي يكون وعداً مع المطيعين ووعيداً للمذنبين وهو قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يعني أنه عالم بجميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء من أْوالكم
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
ثم ذكر وعد المؤمنين فقال تعاللى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فالمغفرة إسقاط السيئات كما قال فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) والأجر العظيم إيصال الثواب وقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فيه وجوه الأول أنه قال أولاً وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فكأنه قيل وأي شيء وعدهم فقال لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الثاني التقدير كأنه قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجرٌ عظيم والثالث أجرى قوله وَعْدُ مجرى قال والتقدير قال الله في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والرابع أن يكون وَعْدُ واقعاً على جملة لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي وعدهم بهذا المجموع
فإن قيل لم أخبر عن هذا الوعد مع أنه لو أخبر بالموعود به كان ذلك أقوى
قلنا بل الأخبار عن كون هذا الوعد وعد الله أقوى وذلك لأنه أضاف هذا الوعد إلى الله تعالى فقال وَعَدَ اللَّهُ والإله هو الذي يكون قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات وهذا يمتنع الخلف في وعده لأن دخول الخلف إنما يكون إما للجهل حيث ينسى وعده وإما للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده وإما للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء بالوعد وإما للحاجة فإذا كان الإله هو الذي يكون منزّهاً عن كل هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالاً فكان الإخبار عن
هذا الوعد أوكد وأقوى من نفس الأخبار عن الموعود به وأيضاً فلأن هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سكرات الموت فتسهل بسببه تلك الشدائد وبعد الموت يسهل عليه بسببه البقاء في ظلمة القبر وفي عرصة القيامة عند مشاهدة تلك الأهوال
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
ثم ذكر بعد ذلك وعيد الكفار فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
هذه الآية نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار لأن قوله أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يفيد الحصر والمصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال أصحاب الصحراء أي الملازمون لها
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
وقوله تعالى الْجَحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية وجهان الأول أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين ولقد كان المشركون أبداً يريدون أيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كن يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين فقال تعالى اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وهو المشركون أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والنهب والنفي فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون ومثل هذا الأنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعات الله تعالى
الوجه الثاني أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة ثم فيه وجوه الأول قال ابن عباس والكلبي ومقاتل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث سرية إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلا ثلاثة نفر أحدهم عمرو بن امية الضمري وانصرف هو وآخر معه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبراه خبر القوم فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلاهما ولم يعلما أن معهما أمانا فجاء قومهما يطلبون الدية فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى حتى دخلوا على بني النضير وقد كانوا عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما فأريد أن تعينوني فقالوا أجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد ثم خموا بالفتك برسول الله وبأصحابه فنزل جبريل وأخبره بذلك فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحال مع أصحابه وخرجوا فقال اليهود إن قدورنا تغلي فأعلمهم الرسول أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه قال عطاء توامروا على أن يطرحوا عليه رحاً أو حجراً وقيل بل
ألقوا فأخذه جبريل عليه السلام والثاني قال آخرون إن الرسول نزل منزلاً وتفرق الناس عنه وعلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلاحه بشجرة فجاء إعرابي وسل سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال من يمنعك مني فقال لا أحد ثم صاح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه وعلى هذين القولين فالمراد من قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم فأنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن والثالث روي أن المسلمين قاموا ءلى صلاة الظهر بالجماعة وذلك بعسفان فلما صلوا ندم المشركون وقالوا ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم فقيل لهم إن للمسلمين بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم يعنون صلاة العصر فهموا بأن يوقعوا بهم إذ قامو إليه فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف
المسألة الثانية يقال بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به ومعنى بسط اليد مده إلى المطبوش به ألا ترى أن قولهم فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى واحد فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ أي منعها أن تصل إليكم
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وفيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ اللَّهَ وَأَطَعْنَا ( المئدة 7 ) ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة والثاني أنه لما ذكر قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ( المائدة 11 ) وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود وأنهم أرادوا أيقاع الشر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبداً كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق الثالث أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم بل هي عادة جارية له مع جميع عباده
المسألة الثانية قال الزجاج النقيب فعيل أصله من النقب وهو الثقب الواسع يقال فلان نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ومنه المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ونقبت الحائط أي بلغت في النقب إلى آخرة ومنه النقبة السراويل بغير رجلين لأنه قد بولغ في فتحها ونقبها ويقال كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف
إذ عرفت هذا فنقول النقيب فعيل والفعيل يحتمل الفاعل والمفعول فإن كان بمعنى الفاعل فهو الناقب عن أحوال القوم المفتش عنها وقال أبو مسلم النقيب ههنا فعيل بمعنى مفعول يعني اختارهم على بهم ونظيره أنه يقال للمضروب ضريب وللمقتول قتيل وقال الأصم هم المنظور إليهم والمسند إليهم أمور القوم وتدبير مصالحهم
المسألة الثالثة أن بني إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطاً فاختار الله تعالى من كل سبط رجلاً يكون نقيباً لهم وحاكماً فيهم وقال مجاهد والكلبي والسدي أن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف وهما اللذان قال الله تعالى فيهما قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( المائدة 23 ) الآية
قوله تعالى وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير وقال الله لهم إني معكم إلا أنه حذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم
المسألة الثانية قوله إِنّى مَعَكُمْ خطاب لمن فيه قولان الأول أنه خطاب للنقباء أي وقال الله للنقباء إني معكم والثاني أنه خطاب لكل بني إسرائيل وكلاهما محتمل إلا أن الأول أولى لأن الضمير يكون عائداً إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكور هنا النقباء والله أعلم
المسألة الثالثة أن الكلام قد تم عند قوله وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ والمعنى إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم فقوله إِنّى مَعَكُمْ مقدمة معتبرة جداً في الترغيب والترهيب ثم لما وضع الله تعالى هذه المقدمة الكلية ذكر بعدها جملة شرطية والشرط فيها مركب من أمور خمسة وهي قوله لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً والجزاء هو قوله لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ وذلك إشارة إلى إزالة العقاب وقوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهو إشارة إلى إيصال الثواب وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها
والجواب أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسلد فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل
والسؤال الثاني ما معنى التعزيز الجواب قال الزجاج العزز في اللغة الرد وتأويل عززت فلاناً أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه ولهذا قال الأكثرون معنى قوله وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم وذلك لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه قال ولو كان التعزيز هو التوقير لكان قوله وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ ( الفتح 9 ) تكراراً
والسؤال الثالث قوله وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دخل تحت إيتاء الزكاة فما الفائدة في الإعادة
والجواب المراد بإيتاء الزكاة الواجبات وبهذا الاقراض الصدقات المندوبة وخصها بالذكر تنبيهاً على شرفها وعلو مرتبتها قال الفرّاء ولو قال وأقرضتم الله إقراضاً حسناً لكان صواباً أيضاً إلا أنه قد يقام الإسم مقام المصدر ومثله قوله فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ( آل عمران 37 ) ولم يقل يتقبل وقوله وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ولم يقل إنباتاً
ثم قال تعالى فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم
فإن قيل من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل
قلنا أجل ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية القصوى
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَة ٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ثم قال تعالى فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في نقضهم الميثاق وجوه الأول بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء الثاني بكتمانهم صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث مجموع هذه الأمور
المسألة الثانية في تفسير ( اللعن ) وجوه الأول قال عطاء لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا الثاني قال الحسن ومقاتل مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكساي ( قسية ) بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية والباقون بالألف والتخفيف وفي قوله ( قسية ) وجهان أحدهما أن تكون القسية بمعنى القاسية إلا أن القسي أبلغ من القاسي كما يقال قادر وقدير وعالم وعليم وشاهد وشهيد فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي الثاني أنه مأخوذ من قولهم درهم قسي على وزن شقي أي فاسد رديء قال صاحب ( الكشاف ) وهو أيضاً من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وضلابة وقرىء ( قسية ) بكسر القاف للاتباع
المسألة الثانية قال أصحابنا وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل وقالت المعتزلة وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال فلان جعل فلاناً فاسقاً وعدلاً
ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل ويحتمل تغيير اللفظ وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ
ثم قال تعالى وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ قال ابن عباس تركوا نصيباً مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَة ٍ مّنْهُمْ وفي الخائنة وجهان الأول أن الخائنة بمعنى المصدر ونظيره كثير كالكافية والعافية وقال تعالى فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ ( الحاقة 5 ) أي بالطغيان وقال لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ ( الواقعة 2 ) أي كذب وقال لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) أي لغواً وتقول العرب سمعت راغية الإبل وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها وقال الزجاج ويقال عافاه الله عافية والثاني أن يقال الخائنة صفة والمعنى تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة وقيل أراد الخائن والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء على خيانة منهم
ثم قال تعالى إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه وقيل يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه
ثم قال فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وفيه قولان الأول أنه منسوخ بآية السيف وذلك لأنه عفو وصفح عن الكفار ولا شك أنه منسوخ بآية السيف
والقول الثاني أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان أحدهما المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم والثاني أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر الله رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد وهو قول أبي مسلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وفيه وجهان الأول قال ابن عباس إذا عفوت فأنت
محسن وإذا كنت محسناً فقد أحبك الله والثاني أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ وهم الذين نقضوا عهد الله والقول الأول أولى لأن صرف قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على القول الأول إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح وعلى القول الثاني إلى غير الرسول ولا شك أن الأول أولى
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
والمراد أن سبيل الصنارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله وإنما قال وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ولم يقل ومن النصارى وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله تعالى وهم الذين قالوا لعيسى نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح فبيّن الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى وقوله أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتنكير الحظ في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم الله تعالى به لأن هدا هو المعظم والمهم وقوله بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم يقال أغرى فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به ويقال لما التصق به ويقال لما التصق به الشيء الغراء وفي قوله بَيْنَهُمْ وجهان أحدهما بين اليهود والنصارى والثاني بين فرق النصارى فءن بعضهم يكفر بعضاً إلى يوم القيامة ونظيره قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ( الأنعام 65 ) وقوله وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وعيد لهم
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
وأعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى وإنما وحد الكتاب لأنه خرج الجنس ثم وصف الرسول بأمرين الأول أنه يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون قال ابن عباس أخفوا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأخفوا أمر الرجم ثم إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بيّن ذلك لهم وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً من أحد فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً
والوصف الثاني للرسول قوله وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ أي لا يظهر كثيراً مما تكتمونه أنتم وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالماً بكل ما يخفونه فيصير ذلك داعياً لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا
ثم قال تعالى قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ وفيه أقوال الأول أن المراد بالنور محمد وبالكتاب القرآن والثاني أن المراد بالنور الإسلام وبالكتاب القرآن الثالث النور والكتاب هو القرآن وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة والنور الباطن أيضاً هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات
يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
ثم قال تعالى يَهْدِى بِهِ اللَّهُ أي بالكتاب المبين مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى فأما من كان مطلوبه من دينه تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذخ من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال فمن كان كذلك فهو غير متبع رضوان الله تعالى
ثم قال تعالى سُبُلَ السَّلَامِ أي طرق السلامة ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي سبل دار السلام ونظيره قوله وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ( محمد 4 5 ) ومعلوم أنه ليس المراد هداية الإسلام بل الهداية إلى طريق الجنة
ثم قال وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وذلك أن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام ويهتدي بالإيمان إلى طرق الجنة كما يهتدي بالنور وقوله بِإِذْنِهِ أي بتوفيقه والباء تتعلق بالاتباع أي اتبع رضوانه بإذنه ولا يجوز أن تتعلق بالهداية ولا بالإخراج لأنه لا معنى له فدل ذلك على أنه لا يتبع رضوان الله إلاّ من أراد الله منه ذلك
وقوله تعالى وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو الدين الحق لأن الحق واحد لذاته ومتفق من جميع جهاته وأما الباطل ففيه كثرة وكلها معوجة
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وقوله تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ في الآية سؤال وهو أن أحداً من النصارى لا يقول إن الله هو المسيح ابن مريم فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به
وجوابه أن كثيراً من الحلولية يقولون إن الله تعالى قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال إن قوماً من النصارى ذهبوا إلى هذا القول بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى وذلك لأنهم يقولون أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتاً أو صفة فإن كان ذاتاً فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإل ه على هذا القول وإن قلنا إن الأقنوم عبارة عن الصفة فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى يلزم خلو ذات الله عن العلم ومن لم يكن عالماً لم يكن إل هاً فحينئذ يكون الإل ه هو عيسى على قولهم فثبت أن النصارى وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول إلاّ أن حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك
ثم أنه سبحانه احتج على فساد هذا المذهب بقوله قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط والتقدير إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره وقوله فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده وقوله وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المعارج 14 ) يعني أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال فلما سلمتم كونه تعالى خالقاً للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى
ثم قال تعالى وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إنما قال وَمَا بَيْنَهُمَا بعد ذكر السماوات والأرض ولم يقل بينهن لأنه ذهب بذلك مذهب الصنفين والنوعين
ثم قال يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وفيه وجهان الأول يعني يخلق ما يشاء فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى كما هو معتاد وتارة لا من الأب والأم كما في خلق آدم عليه السلام وتارة من الأم لا من الأب كما في حق عيسى عليه السلام والثاني يخلق ما يشاء يعني أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فالله تعالى يخلق فيه اللحمية والحياة والقدرة معجزة لعيسى وتارة يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص معجزة له ولا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وفيه سؤال وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة فكيف نقل هذا القول عنهم وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق
أنفسهم فكيف يجوز هذا النقل عنهم
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول أن هذا من باب حذف المضاف والتقدير نحن أبناء رسل الله فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله ونظيره قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) والثاني أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضاً على من يتخذ ابناً واتخاذه ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله الثالث أن اليهود لما زعموا أن عزيراً ابن الله والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله ثم زعموا أن عزيراً والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنساناً آخر فقد يقولون نحن ملوك الدنيا ونحن سلاطين العالم وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا والرابع قال ابن عباس إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه
ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم وفيه سؤال وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه والاشكال عليه أن يقال إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة فإن كان موضع الالزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا انظروا إلى وقعة أحد وإلى قتل الحسن والحسين وإن كان موضع الالزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك ومجرد إخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بكاف في هذا الباب إذ لو كان كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافياً وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعاً
والجواب من وجوه الأول أن موضع الالزام هو عذا الدنيا والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال الثاني أن موضع الالزام هو عذاب الآخرة واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) والثالث المراد بقوله قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم فلم مسخكم فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ أنهم لما كانوا من جنيس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قوياً متيناً
ثم قال تعالى بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم
وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلاً إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إل هيته ولخرج عن صفة الحكمة وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وكما أن قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء إبطال لقول اليهود فبأن يكون إبطالاً لقول المعتزلة أولى وأكمل
ثم قال تعالى وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقاً واجباً وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه ديناً إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذباً
ثم قال تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الانفطار 19 )
يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة ٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله يُبَيّنُ لَكُمْ وجهان الأول أن يقدر المبين وعلى هذا التقدير ففيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع وثانيها أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره
الوجه الثاني أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة
المسألة الثانية قوله يُبَيّنُ لَكُمْ في محل النصب على الحال أي مبيناً لكم
المسألة الثالثة قوله عَلَى فَتْرَة ٍ مَّنَ الرُّسُلِ قال ابن عباس يريد على انقطاع من الأنبياء يقال فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع
واعلم أن قوله عَلَى فَتْرَة ٍ متعلق جَاءكُمْ أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل قيل كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو أقل ألأ أكثر وعن الكلبي كان بين موسى وعيسى
عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة وألفا نبي وبين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي
المسألة الرابعة الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب وصار ذلك عذراً ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا يا إل هنا عرفنا أنه لا بدّ من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد فبعث الله تعالى في هذا الوقت محمداً عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر وهو أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير
ثم قال تعالى فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فزالت هذه العلة وارتفع هذا العذر
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ والمعنى أن حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرسل والله تعالى قادر على كل شيء فكان قادراً على البعثة ولكا كان الخلق محتاجين إلى البعثة والرحيم الكريم قادراً على البعثة وجب في كرمه ورحمته أن يبعث الرسل إليهم فالمراد بقوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ الإشارة إلى الدلالة التي قررناها
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ
واعلم أن وجه الاتصال هو أن الواو في قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ واو عطف وهو متصل بقوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ ( المائدة 12 ) كأنه قيل أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى نعم الله تعالى وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في القول في الميثاق وخالفوه في محاربة الجبارين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى منّ عليهم بأمور ثلاثة أولها قوله إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل وأيضاً كانوا من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهؤلاء الثلاثة بالاتفاق كانوا من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب أيضاً كانوا على قول الأكثرين أنبياء والله تعالى أعلم موسى أنه لا يبعث الأنبياء إلاّ من ولد بعقوب ومن ولد إسماعيل فهذا الشرف حصل بمن مضى من الأنبياء وبالذين كانوا حاضرين مع موسى وبالذين أخبر الله موسى أنه سيبعثهم من ولد يعقوب وإسماعيل بعد ذلك ولا شك أنه شرف عظيم وثانيها قوله وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وفيه وجوه أحدها قال السدي يعني وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما
كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا ولا يغلبكم على أنفسكم غالب وثانيها أن كل من كان رسولاً ونبياً كان ملكاً لأنه يملك أمر أمته ويملك التصرف فيهم وكان نافذ الحكم عليهم فكان ملكاً ولهذا قال تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) وثالثها أنه كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء وقد يقال فيمن حصل فيهم ملوك أنتم ملوك على سبيل الاستعارة ورابعها أن كل من كان مستقلاً بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجاً في مصالحه إلى أحد فهو ملك قال الزجاج الملك من لا يدخل عليه أحد إلاّ بإذنه وقال الضحاك كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكاً
والنوع الثالث من النعم التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ وذلك لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الاكرام أحدها أنه تعالى فلق البحر لهم وثانيها أنه أهلك عدوهم وأورثهم أموالهم وثالثها أنه أنزل عليهم المن والسلوى ورابعها أنه أخرج لهم المياه العذبة من الحجر وخامسها أنه تعالى أظلل فوقهم الغمام وسادسها أنه لم يجتمع لقوم الملك والنبوّة كما جمع لهم وسابعها أنهم في تلك الأيام كانوا هم العلماء بالله وهم أحباب الله وأنصار دينه
واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكرهم هذه النعمة وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بمجاهدة العدو فقال
يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك وقيل لما خرج قوم موسى عليه السلام من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشام وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد ثم بعث موسى عليه السلام اثنى عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة قال المفسرون لما بعث موسى عليه السلام النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم ثم انصرف أولئك النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما عاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا فإنهما سهلا الأمر وقالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسادهم عظيمة إلا أن قلوبهم ضعيفة وأما العشرة الباقية فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم فقالوا لموسى عليه السلام إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( المائدة 24 ) فدعا موسى عليه السلام عليهم فعاقبهم الله تعالى بأن أبقاهم في التيه أربعين سنة قالوا وكانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين يوماً فعوقبوا بالتيه أربعين سنة ومات أولئك العصاة في التيه وأهلك النقباء العشرة في التيه بعقوبات غليظة ومن الناس من قال إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا أيضاً في التيه ومنهم من قال إن موسى عليه السلام بقي وخرج معه يوشع وكالب وقاتلوا الجبارين وغلبوهم
ودخلوا تلك البلاد فهذه هي القصة والله أعلم بكيفية الأمور
المسألة الثانية الأرض المقدسلا هي الأرض المطهرة طهرت من الآفات قال المفسرون طهرت من الشرك وجعلت مسكناً وقراراً للأنبياء وهذا فيه نظر لأن تلك الأرض لما قال موسى عليه الصلاة والسلام ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ ما كانت مقدسة عن الشرك وما كانت مقراً للأنبياء ويمكن أن يجاب بأنها كانت كذلك فيما قبل
المسألة الثالثة اختلفوا في تلك الأرض فقال عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحا وقال الكلبي دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقيل الطور
المسألة الرابعة في قوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وجوه أحدها كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم وثانيها وهبها الله لكم وثالثها أمركم بدخولها
فإن قيل لم قال كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثم قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ ( المائدة 26 )
والجواب قال ابن عباس كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم وقيل اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد هو الخصوص فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم وقيل إن الوعد بقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط وقيل إنها محرمة عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب
المسألة الخامسة في قوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فائدة عظيمة وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعاً أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلا بدّ وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة
ثم قال وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ وفيه وجهان الأول لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعداً بأن الله تعالى ينصرهم عليهم فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوّة
والوجه الثاني المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها يروى أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مثر وقوله فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ فيه وجوه أحدها خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب وثانيها ترجعون إلى الذل وثالثها تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة
قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وفي تفسير الجبارين وجهان الأول الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهذا هو اختيار الفرّاء والزجاج قال الفرّاء لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك والثاني أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ويقال رجل جبار إذا كان طويلاً عظيماً قوياً تشبيهاً بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم فسموهم جبارين لهذا المعنى
ثم قال القوم وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ( الأعراف 40 )
ثم قال تعالى
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الرجلان هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وكانا من الذين يخافون الله وأنعم الله عليهما بالهداية والثقة بعون الله تعالى والاعتماد على نصرة الله قال القفال ويجوز أن يكون التقدير قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا وقالا هذا القول لقوم موسى تشجيعاً لهم على قتالهم وقراءة من قرأ يَخَافُونَ بالضم شاهدة لهذا الوجه
المسألة الثانية في قوله أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وجهان الأول أنه صفة لقوله رَجُلاَنِ والثاني أنه اعتراض وقع في البين يؤكد ما هو المقصود من الكلام
المسألة الثالثة قوله ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار فلا تخافوهم والله أعلم
المسألة الرابعة إنما جزم هذان الرجلان في قولهما فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ لأنهما كانا جازمين بنبوّة موسى عليه السلام فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن الله قال ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ( المائدة 21 ) لا جرم قطعاً بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم ولذلك ختموا كلامهم بقولهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني لما وعدكم الله تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم بل توكلوا على الله في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإل ه القادر ومؤمنين بصحة نبوّة موسى عليه السلام
ثم قال تعالى
قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
وفي قوله اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ وجوه الأول لعلّ القوم كانوا مجسمة وكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى الثاني يحتمل أن لا يكون المراد حقيقة الذهاب بل هو كما يقال كلمته قذهب يجيبني يعني يردي أن يجيبني فكأنهم قالوا كن أنت وربك مردين لقتالهم والثالث التقدير اذهب أنت وربك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء
فإن قيل إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل قوله فَقَاتِلا خبراً أيضاً
قلنا لا يمتنع خبر بعد خبر والرابع المراد بقوله وَرَبُّكَ أخوه هارون وسموه رباً لأنه كان أكبر من موسى قال المفسرون قولهم اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة فهو فسق ولقد فسقوا بهذا الكلام بدليل قوله تعالى في هذه القصة فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 26 ) والمقصود من هذه القصة شرح خلاف هؤلاء اليهود وشدة بغضهم وغلوهم في المنازعة مع أنبياء الله تعالى منذ كانوا
قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى ذكر الزجاج في إعراب قوله وَأَخِى وجهين الرفع والنصب أما الرفع فمن وجهين أحدهما أن يكون نسقاً على موضع إِنّى والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي وأخي كذلك ومثله قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) والثاني أن يكون عطفاً على الضمير في أَمْلِكُ وهو ( أنا ) والمعنى لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا وأما النصب فمن وجهين أحدهما أن يكون نسقاً على الياء والتقدير إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا والثاني أن يكون أَخِى معطوفاً على نَفْسِى فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي ولا أملك إلا أخي لأن أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته
فإن قيل لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي وكان معه الرجلان المذكوران
قلنا كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد وأيضاً لعلّه إنما قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه وأيضاً يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله وَأَخِى
ثم قال فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون وهو في معنى الدعاء عليهم ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم وهو كقوله وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( القصص 21 )
ثم إنه تعالى قال
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَإِنَّهَا أي الأرض المقدسة محرمة عليهم وفي قوله أَرْبَعِينَ سَنَة ً قولان أحدهما أنها منضصوبة بالتحريم أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة هكذا ذكره الربيع بن أنس
والقول الثاني أنها منصوبة بقوله يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة
المسألة الثانية يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 25 ) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب بل أخف منه فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه فقال فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قال مقاتل إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذكل فقالوا له لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل فأوحى الله تعالى إليه لا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ وجائز أن يكون ذلك خطاباً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم
المسألة الثالثة اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا فقال قوم إنهما ما كانا في التيه قالوا ويدل عليه وجوه الأول أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع والثاني أن ذلك التيه كان عذاباً والأنبياء لا يعذبون والثالث أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب وقال آخرون إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها برداً وسلاماً ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه فقال قوم إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته وهو الذي فتح الأرض المقدسة
وقيل إنه ملك الشأم بعد ذلك وقال آخرون بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد وقيل يجوز أيضاً أن يكون تحريم تعبد فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم
المسألة الخامسة اختلفوا في التيه فقال الربيع مقدار ستة فراسخ وقيل تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً وقيل ستة في اثنى عشر فرسخاً وقيل كانوا ستمائة ألف فارس
فإن قيل كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغيرل من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقاً إلى الخروج عنها ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم فكيف في المفازة الصغيرة
قلنا فيه وجهان الأول أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات وإنه باطل الثاني إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرّم عليهم الرجوع إلى أوطانهم بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاءً لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال
المسألة السادسة يقال تاه يتيه تيهاً وتيهاً وتوها والتيه أعمها والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها قال الحسن كانوا يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بدّ وأن يخرجوا عن المفازة بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءْادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاٌّ خَرِ قَالَ لاّقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى قال فيما تقدم الْجَحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ( المائدة 11 ) فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصاً كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسداً وبغياً فذكر أولاً قصة النقباء الاثني عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما آتاه الله من الدين الحق ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان ثم ذكر بعده قصة ابنى آدم أن أحدهما قتل الآخر حسداً منه على أن الله تعالى قبل قربانه وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود فلما كانت نعم الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة والثاني أن هذا متعلق بقوله دَابَّة ٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( المائدة 15 ) وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة والثالث أن هذه القصة متعلقة بما قبلها وهي قصة محاربة الجبارين أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر والرابع قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبياً معظماً عند الله تعالى الخامس لما كفر أهل الكتاب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حسداً أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة والمقصود منه التحذير عن الحسد
المسألة الثانية قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ فيه قولان أحدهما واتل على الناس والثاني واتل على أهل
الكتاب وفي قوله ابْنَى ْ ءادَمَ قولان الأول أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل وفي سبب وقوع المنازعة بينهما قولان أحدهما أن هابيل كان صاحب غنم وقابيل كان صاحب زرع فقرب كل واحد منهما قرباناً فطلب هابيل أحسن شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً وطلب قابيل شر حنطة في زرعه فجعلها قرباناً ثم تقرب كل واحد بقربانه إلى الله فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ولم تحمل قربان قابيل فعلم قابيل أن الله تعالى قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه فحسده وقصد قتله وثانيهما ما روي أن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن غلام وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام من بطن آخر فولد له قابيل وتوأمته وبعدهما هابيل وتوأمته وكانت توأمة قابيل أحسن الناس وجهاً فأراد آدم أن يزوجها من هابيل فأبى قابيل ذلك وقال أن أحق بها وهو أحق بأخته وليس هذا من الله تعالى وإنما هو رأيك فقال آدم عليه السلام لهما قربا قرباناً فأيكما قبل قربانه زوجتها منه فقبل الله تعالى قربان هابيل بأن أنزل الله تعالى على قربانه ناراً فقتله قابيل حسداً له
والقول الثاني وهو قول الحسن والضحاك أن ابنى قوله تعالى في آخر القصة مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ( المائدة 32 ) إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابنى آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سبباً لإيجاب القصاص عليهم زجراً لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب ومما يدل على ذلك أيضاً أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبداً من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل الله قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد فإنه لما شاهد أن قربان مقبول عند الله تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل
واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار وفي الآية أيضاً ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر وهو الحق والله أعلم
المسألة الثالثة قوله بِالْحَقّ فيه وجوه الأول بالحق أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى والثاني أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل الثالث بالحق أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبعون عليه الرابع بالحق أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها وإنما هي لهو الحديث وهذا يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية ونظيره قوله تعالى لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 )
ثم قال تعالى إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى إذ نصب بماذا فيه قولان الأول أنه نصب بالنبأ أي قصتهم في ذلك الوقت الثاني يجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف
المسألة الثانية القربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران
المسألة الثالثة تقدير الكلام وهو قوله إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا وقيل إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد وأيضاً فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع
ثم قال تعالى فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين وقال مجاهد علامة الرد أن تأكله النار والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه وقيل ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى فكانت النار تنزل من السماء فتأكله
المسألة الثانية إنما صار القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ( الحج 37 ) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام ( التقوى هاهنا ) وأشار إلى القلب وحقيقة التقوى أمور أحدها أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير وثانيها أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى وثالثها أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة وما أصعب رعاية هذه الشرائطا وقيل في هذه القصة إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه وقيل إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل وقيل كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة فلذلك لم يقبل الله قربانه
ثم حكى الله تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل اقتلنك فقال هابيل قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وفي الكلام حذف والتقدير كأن هابيل قال لم تقتلني قال لأن قربانك صار مقبولاً فقال هابيل وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين وقيل هذا من كلام الله تعالى لنبيّه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اعتراضاً بين القصة كأنه تعالى بيّن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقياً ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم أنه قال
لَئِن بَسَطتَ إِلَى َّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى َ إِلَيْكَ لاًّقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
والسؤال الأول وهو أنه لم لم يدفع القاتل عن نفسه مع أن الدفع عن النفس واجب وهب أنه ليس بواجب فلا أقل من أنه ليس بحرام فلم قال إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
والجواب من وجوه الأول يحتمل أن يقال لاح للمقتول بأمرات تغلب على الظن أنه يريد قتلهد فذكر له هذا الكلام على سبيل الوعظ والنصيحة يعني أنا لا أجوز من نفسي أن أبدأك بالقتل الظلم العدوان وإنما لا أفعله خوفاً من الله تعالى وإنما ذكر له هذا الكلام قبل إقدام القاتل على قتله وكان غرضه منه تقبيح القتل العمد في قلبه ولهذا يروى أن قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله
والوجه الثاني في الجواب أن المذكور في الآية قوله مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى َ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ يعني لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع وقال أهل العلم الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجل عليه أن يقصد الدفع ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك
الوجه الثالث قال بعضهم المقصود بالقتل إن أراد أن يستسلم جاز له ذلك وهكذا فعل عثمان رضي الله تعالى عنه وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة ( ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل )
الوجه الرابع وجوب الدفع عن النفس أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع وقال مجاهد ءن الدفع عن النفس ما كان مباحاً في ذلك الوقت
السؤال الثاني لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله لَئِن بَسَطتَ إِلَى َّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ
والجواب ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ولذلك أكده بالباء المؤكد للنفي ثم قال تعالى
إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ
وفيه سؤالان
الأول كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال وَلاَ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 )
والجواب من وجهين الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم معناه تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي وهذا بحذف المضاف والثاني قال الزجاج معناه ترجع إلى الله فلم قال إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ
والجواب من وجوه الأول قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه
يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به وكأنه لما وعظه ونصحه قال له وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بدّ وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلاً عنك وعاجزاً عن دفعك فحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداءً بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراماً بل هو عين الطاعة ومحض الاخلاص
والوجه الثاني في الجواب أن المراد إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه والثالث روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم فعلى هذا يجوز أن يقال إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جواباً عن السؤال الأول والله أعلم ثم قال تعالى
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
ثم قال المفسرون سهلت له نفسه قتل أخيه ومنهم من قال شجعته وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفاً له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه ألبتة فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلاً عليه فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه فهذا هو المراد بقوله فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قالت المعتزلة لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافاً إلى الله تعالى لا إلى النفس
وجوابه أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى
ثم قال تعالى فَقَتَلَهُ قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيراً وضرب رأسه بحجر فتعلم قابيل ذلك منه ثم إنه وجد هابيل نائماً يوماً فضرب رأسه بحجر فمات وعن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ) وذلك أنه أول من سن القتل
ثم قال تعالى فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ قال ابن عباس خسر دنياه وآخرته أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة وأما الآخرة فهو العقاب العظيم قيل إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدت النار أيضاً حصل مقصودك فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة وكان قتله عند عقبة حراء وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وروي أنه لما قتله اسود جسد وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلاً فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط قال صاحب ( الكشاف ) يروى أنه رثاه بشعر قال وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون والأنبياء معصومون عن الشعر وصدق صاحب ( الكشاف ) فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة
ثم قال تعالى
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَة َ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَة َ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غراباً وفيه وجوه الأول بعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم قابيل ذلك من الغراب الثاني قال الأصم لما قتله وتركه بعث الله غراباً يحثو التراب على المقتول فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال يا ويلتى الثالث قال أبو مسلم عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه
المسألة الثانية لِيُرِيَهُ فيه وجهان الأول ليريه الله أو ليريه الغراب أي ليعلمه لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز
المسألة الثالثة مِنْ أَخِيهِ عورة أخيه وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده والسوأة الفضيحة لقبحها وقيل سوأة أخيه أي جيفة أخيه
ثم قال تعالى قَالَ يَاءادَمُ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءة َ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن قوله يا ويلتى كلمة تحسر وتلهف وفي الآية احتمالان الأول أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علماً منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته فندم وتلهف وتحسر على فعله الثاني أنه كان عالماً بكيفية دفنه فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العلمل إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله فتلهف على فعله وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض فلا جرم قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب
المسألة الثانية قوله يا ويلتى اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك وذكر يا زيادة بيان كما في قوله يا ويلتى أأكد ( هود 72 ) والله أعلم
المسألة الثالثة لفظ الندم وضع للزوم ومنه سمي النديم نديماً لأنه يلازم المجلس وفيه سؤال
وهو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الندم توبة ) فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته
أجابوا عنه من وجوه أحدها أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة والثاني أنه صار من النادمين على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية والثالث أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجد الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم ثم قال تعالى
مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ أي بسبب فعلته
فإن قيل عليه سؤالان الأول ى ن قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ أي من أجل ما مرّ من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل الثاني أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل
والجواب عن الأول من وجهين أحدهما قال الحسن هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم والثاني أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه ولكن قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام منها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( المائدة 30 ) ومنها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( المائدة 31 ) فقوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا وقوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له ألبتة فقوله مِنْ أَجِدُ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أي من أجد ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل وهذا جواب حسن والله أعلم
وأما السؤال الثاني والجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عاماً في جميع لأديان والملل إلا أن التشديد المذكور ههنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم ههنا
بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبأكابر أصحابه كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود
المسألة الثانية قرىء ( من أجل ذلك ) بحذف الهمزة وفتح النوق لالقاء حركتها عليها وقرأ أبو جعفر ( من أجل ذلك ) بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسر الهمزة عليها
المسألة الثالثة قال القائلون بالقياس دلت الآية على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل وذلك لأنه تعالى قال مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ كذا وكذا وهذا تصريح بأن كتبة تلك الأحكام معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ والمعزلة أيضاً قالوا دلت هذه الآية على أن أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد ومتى ثبت ذلك امتنع كونه تعالى خالقاً للكفر والقبائح فيهم مريداً وقوعها منهم لأن خلق القبائح وإرادتها تمنع من كونه تعالى مراعياً للمصالح وذلك يبطل التعليل المذكور في هذه الآية
قال أصحابنا القول بتعليل أحكام الله تعالى محال لوجوه أحدها أن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول وإن كانت محدثة وجب تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل وثانيها لو كان معللاً بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى الله تعالى إن كان على السوية امتنع كونه علة وإن لم يكن على السوية فأحدهما به أولى وذلك يقتضي كونه مستفيداً تلك الأولوية من ذلك الفعل فيكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وهو محال وثالثها أنه قد ثبت توقف الفعل على الوداعي ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي بل يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا من العبد بل من الله وثبت أن عند حدوث الداعية يجب الفعل وعلى هذا التقدير فالكل من الله وهذا يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه فثبت أن ظاهر هذه الآية من المتشابهات لا من المحاكمات والذي يؤكد ذلك قوله تعالى قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المائدة 17 ) وذلك نص صريح في أنه يحسن من الله كل شيء ولا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح
المسألة الرابعة قوله أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ قال الزجاج إنه معطوف على قوله نَفْسٌ والتقدير من قتل نفساً بغير نفس أو بغير فساد في الأرض وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد بقوله مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ ومنها الكفر مع الحراب ومنها الكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ
المسألة الخامسة قوله فكأنما قتل الناس جميعاً وفيه إشكال وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل وذكر المفسرون بسبب هذا
السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه لأن قولنا هذا يشبه ذاك أعم من قولنا ءنه يشبهه من كل الوجوه أو من بعض الوجوه وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول الجواب من وجوه الأول المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى وفيه إشكال وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه لأن قولنا هذا يشبه ذاك أعم من قولنا ءنه يشبهه من كل الوجوه أو من بعض الوجوه وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول الجواب من وجوه الأول المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ( النساء 93 )
الوجه الثاني في الجواب هو أن جميع الناس لو علموا من إنسان واحد أنه يقصد قتلهم بأجمعهم فلا شك أنهم يدفعونه دفعاً لا يمكنه تحصيل مقصوده فكذلك إذا علموا منه أنه يقصد قتل إنسان واحد معين يجب أن يكون جدهم واجتهادهم في منعه عن قتل ذلك الإنسان مثل جدهم واجتهادهم في الصورة الأولى
الوجه الثالث في الجواب وهو أنه لما أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجّح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة ومتى كان الأمر كذلك كان هذا الترجيح حاصلاً بالنسبة إلى كل واحد فكان في قلبه أن كل أحد نازعه في شيء من مطالبه فإنه لو قدر عليه لقتله ونيّة المؤمن في الخيرات خير من عمله فكذلك نيّة المؤمن في الشرور شر من عمله فيصير المعنى ومن يقتل إنساناً قتلاً عمداً عدواناً فكأنما قتل جميع الناس وهذه الأجوبة الثلاثة حسنة المسألة السادسة قوله وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً المراد من إحياء النفس تخليصها عن المهلكات مثل الحرق والغرق والجوع المفرط والبرد والحر المفرطين والكلام في أن إحياء النفس الواحدة مثل إحياء النفوس على قياس ما قررناه في أن قتل النفس الواحدة مثل قتل النفوس
ثم قال تعالى وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ
والمعنى أن كثيراً من اليهود بعد ذلك أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لمسرفون يعني في التقل لا يبالون بعظمته
إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو فإن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب قتل فقال إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في أول الآية سؤال وهو أن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازاً لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة فلفظ يحاربون في قوله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يلزم أن يكون محمولاً على المجاز والحقيقة معاً وذلك ممتنع فهذا تقرير السؤال
وجوابه من وجهين الأول أنا نحمل المحاربة على المخالفة الأمر والتكليف والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فساداً كذا وكذا والثاني تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا وفي الخبر أن الله تعالى قال ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة )
المسألة الثانية من الناس من قال هذا الوعيد مختص بالكفار ومنهم من قال إنه في فساق المؤمنين أما الأولون فقد ذكروا وجوها الأول أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم فبعثهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أثرهم وإمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا فنزلت هذه الآية نسخاً لما فعله الرسول فصارت تلك السنة مسنوخة بهذا القرآن وعند الشافعي رحمه الله لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاً للسنة الناسخة والثاني أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي وكان قد عاهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم الثالث أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى الله تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ الله عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا
والوجه الرابع أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء قالوا والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه أحدها أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام والآية تقتضي ذلك وثانيها لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي والآية تقتضي ذلك وثالثها أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ( المائدة 34 ) والمرتد يسقط حذه بالتوبة قبل القدرة وبعدها فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين ورابعها أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هاهنا فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد وخامسها أن قوله الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً يتناول كل من كان موصوفاً بهذه الصفة سواء كان كافراً أو مسلماً أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثالثة المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون ولهلم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضاً ويقصدون المسلمين في أرواحهم ودمائهم وإنما اعتبرنا القوة والشوكة لأن
قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد واتفقوا على أن هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطاع الطريق فأما لو حصلت في نفس البلدة فقال الشافعي رحمه الله إنه يكون أيضاً ساعياً في الأرض بالفساد ويقام عليه هذا الحد قال وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنباً فلا أقل من المساواة وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا حصل ذلك في المصر فإنه لا يقام عليه الحد وجه قول الشافعي رحمه الله النص والقياس أما النص فعموم قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً ومعلوم أنه إذا حصل هذا المعنى في البلد كان لا محالة داخلاً تحت عموم هذا النص وأما القياس فهو أن هذا حد فلا يختلف في المصر وغير المصر كسائر الحدود وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الداخل في المصر يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكن من المقاتلة فصار في حكم السارق
المسألة الرابعة قوله أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ للعلماء في لفظ أَوْ في هذه الآية قولان الأول أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل وقال ابن عباس في رواية عطاء كلمة أَوْ هاهنا ليست للتخيير بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات فمن اقتصر على القتل قتل ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نفي من الأرض وهذا قول الأكثرين من العلماء وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان الأول أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير والثاني أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلاً على حدة فصار التقدير أن يقتلوا أن قتلوا أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا ممن الأرض إن أخافوا السبل والقياس الجلي أيضاً يدل على صحة ما ذكرناه لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق وصار القتل حتماً لا يجوز العفو عنه وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع الطريق فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين وإن جمعوا بين القتل وبين أخد المال جمع في حقهم بين القتل وبني الصلب لأن بقاءه مصلوباً في ممر الطريق يكون سبباً لاشتهار إيقاع هذه العقوبة فيصير ذلك زاجراً لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية وأما إن اقتصر على مجرد الإخافة اقتصر الشرع منه على عقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض
المسألة الخامسة قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء أن يقتلهم فقط أو يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم قبل القتل أو يقتلهم ويصلبهم وعند الشافعي رحمه الله لا بدّ من الصلب وهو قول أبي يوسف رحمه الله
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب
كما لم يجز إسقاط القتل ثم اختلفوا في كيفية الصلب فقيل يصلب حياً ثم بطنه برمح حتى يموت وقال الشافعي رحمه الله يقتل ويصلى عليه ثم يصلب
المسألة السادسة اختلفوا في تفسير النفي من الأرض قال الشافعي رحمه الله معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن لم يجدهم طلبهم أبداً حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة قالوا ويدل علليه أن قوله أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ إما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة وإما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى وهو أيضاً غير جائز لأن الغرض من هذا النفي دفع شره عن المسلمين فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضاً غير جائز لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز ولما بطل الكل لم يبق إلاّ أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلاّ مكان الحبس قالوا والمحبوس قد يسمى منفياً من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبان الدنيا ولذاتها ولا يرى أحداً من أحبابه فصار منفياً عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هنالك ذكر شعراً منه قوله
خرجان عن الدنيا وعن وصل أهلها
فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين الأول أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي الثاني القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فيقوم الشافعي هاهنا إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير والله أعلم
ثم قال تعالى ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا أي فضيحة وهوان وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قالت المعتزلة الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق وثبت القول بالإحباط
والجواب لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعاً على جهة الخزي والاستخفاف إذا لم تحصل التوبة فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط فنحن أيضاً نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو وحينئذ لا يبقى الكلام إلاّ في أنه هل دلّ هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) ثم قال تعالى
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنساناً ثم تابوا قبل القدرة علليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة وإن أخذ مالاً وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه قال الشافعي رحمه الله تعالى ويحتمل أن يسقط كل حد الله بالتوبة لأن ماعزاً لما رجم أظهر توبته فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( هلا تركتموه ) أو لفظ هذا معناه وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى
يَأأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجهان الأول اعلم أنا قد بينا أنه تعالى لما أخبر رسوله أن قوماً من اليهود هموا أن يبسطوا أيديهم إلى الرسول وإلى إخوانه من المؤمنين وأصحابه بالغدر والمكر ومنعهم الله تعالى عن مرادهم فعند ذلك شرح للرسول شدة عيتهم على الأنبياء وكمال إصرارهم على إيذائهم وامتد الكلام إلى هذا الموضع فعند هذا رجع الكلام إلى المقصود الأول وقال رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ كأنه قيل قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذنوب وبعدهم عن الطاعات التي هي الوسائل للعبد إلى الرب فكونوا يا أيها المؤمنون بالضد من ذلك وكونوا متقين عن معاصي الله متوسلين إلى الله بطاعات الله
الوجه الثاني في النظم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) أي نحن أبناء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا ليكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم فاتقوا وابتغوا إليه اللوسيلة والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما أحدهما ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله اتَّقُواْ اللَّهَ وثانيهما فعل المأمورات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ ولما كان ترك المنهيات مقدماً على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدمه تعالى عليه في الذكر وإنما قلنا إن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي والفعل هو الايقاع والتحصيل ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجودها فكان الترك قبل الفعل لا محالة
فإن قيل ولم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنا نعلم أن ترك المعاصي قد يتوسل به إلى الله تعالى
قلنا الترك إبقاء الشيء على عدمه الأصلي وذلك العدم المستمر لا يمكن التوسل به إلى شيء البتة فثبت أن الترك لا يمكن أن يكون وسيلة بل من دعاه داعي الشهورة إلى فعل قبيح ثم تركه لطلب مرضاة الله تعالى فهاهنا يحصل الوسل بذلك الامتناع إلى الله تعالى إلا أن ذلك الامتناع من باب الأفعال ولهذا قال المحققون ترك الشيء عبارة عن فعل ضده
إذا عرفت هذا فنقول إن الترك والفعل أمران معتبران في ظاهر الأفعال فالذي يجب تركه هو المحرمات والذي يجب فعله هو الواجبات ومعتبران أيضاً في الأخلاق فالذي يجب حصوله هو الأخلاق الفاضلة والذي يجب تركه هو الأخلاق الذميمة ومعتبران أيضاً في الأفكار فالذي يجب فعله هو الفتكر في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوّة والمعاد والذي يجب تركه هو الالتفات إلى الشبهات ومعتبران أيضاً في مقام التجلي فالفعل هن الاستغراق في الله تعالى والترك هو الالتفات إلى غير الله تعالى وأهل الرياضة يسمون الفعل والترك بالتحلية والتخلية وبالمحو والصحو وبالنفي والاثبات وبالفناء والبقاء وفي جميع المقامات النفي مقدم على الاثبات ولذلك كان قولنا ( لا إل ه إلاّ الله ) النفي مقدم فيه إلى الاثبات
المسألة الثالثة الوسيلة فعلية من وسل إليه إذا تقرب إليه قال لبيد الشاعر
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
ألاكل ذي لب إلى الله واسل أي متوسل فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود قالت التعليمية دلت الآية على أنه لا سبيل إلى الله تعالى إلا بمعلم يعلمنا معرفته ومرشد يرشدنا إلى العلم به وذلك لأنه أمر بطلب الوسيلة إليه مطلقاً والإيمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد فلا بدّ فيه من الوسيلة
وجوابنا أنه تعالى إنما أمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان به والإيمان به عبارة عن المعرفة به فكان هذا أمراً بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان وبعد معرفته فيمتنع أن يكون هذا أمراً بطلب الوسيلة إليه في معرفته فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات
ثم قال تعالى وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله اتَّقُواْ اللَّهَ وبفعل ما ينبغي بقوله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة الله وطاعته والاعراض عن المحصوصات وكان بين الحالتين تضاد وتناف ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان
تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين وبالمشرق والمغرب وبالليل والنهار وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تهالى اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلاً على الطبع فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله ومنهم من يعبده لغرض آخر
والمقام الأول هو المقام الشريف العالي وإليه الإشارة بقوله وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته
والمقام الثاني دون الأول وإليه الإشارة بقوله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب
واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
أحدهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا وفيه مسائل
فإن قيل لم وحد الراجع في قوله لِيَفْتَدُواْ بِهِ مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعاً ومثله
قلنا التقدير كأنه قيل ليفتدوا بذلك المذكور
المسألة الثانية قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون في موضع الحال ويحتمل أن يكون عطفاً على الخبر
المسألة الثالثة المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت )
النوع الثاني من الوعيد المذكور في هذه الآية
قوله يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إرادتهم الخروج تحتمل وجهين الأول أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج منها كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 2 )
قيل إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج وقيل يكادون يخرجون من النار لقوة النار ودفعها للمعذبين والثاني أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم كقوله تعالى في موضع آخر رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ بضم الياء
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذا الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال ( لا إله إلا الله ) على سبيل الإخلاص قالوا لأنه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد ولولا أن هذا لامعنى مختص بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى والله أعلم ومما يؤيد هذا الذي قلناه قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وهذا يفيد الحصر فكان المعنى ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم كما أن قوله لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) أي لكم لا لغيركم فكذا ههنا
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في اتصال الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بيّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً والثاني أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ( المائدة 32 ) ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام فذكر أولاً قطع الطريق وثانياً أمر السرقة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أختلف النحويون في الرفع في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ على وجوه الأول وهو قول سيبويه والأخفش أن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ مرفوعان بالابتداء والخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما كذا وكذا القول في قوله دالزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ( النور 2 ) وفي قوله ( النور 2 ) وفي قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا ( النساء 16 ) وقرأ عيسى بن عمر وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَة ُ بالنصب ومثله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى والاختيار عند سيبويه النصب في هذا قال لأن قول القائل زيداً فاضربه أحسن من قولك زيد فاضربه وأيضاً لا يجوز أن يكون فاطعوا خبر المبتدأ لأن خبر المبتدأ لا يدخل عليه الفاء
والقول الثاني وهو اختيار الفراء أن الرفع أولى من النصب لأن الألف واللام في قوله مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يقومان مقام ( الذي ) فصار التقدير الذي سرق قاقطعوا يده وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر لأنه صار جزاء وأيضاً النصب إنما يحسن إذا أردت سارقاً بعينه أو سارقة بعينها فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل فالرفع أولى وهذا القول اختاره الزجاج وهو المعتمد
ومما يدل على أن المراد من الآية الشرط والجزاء وجوه الأول أن الله تعالى صرّح بذلك وهو قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا وهذا دليل على أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط والثاني أن السرقة جناية والقطع عقوبة وربط العقوبة بالجناية مناسب وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على أن الوصف علة لذلك الحكم والثالث أنا لو حملنا الآية على هذا الوجه كانت الآية مفيدة ولو حملناها على سارق معين صارت مجملة غير مفيدة فكان الأول أولى
وأما القول الذي ذهب إليه سيبويه فليس بشيء ويدل عليه وجوه الأول أنه طعن في القررن المنقول بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن جميع الأمة وذلك باطل قطعاً فإن قال لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ولكني أقول القراءة بالنصب أولى فنقول وهذا أيضاً رديء لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر وكلام مردود والثاني أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ ( واللذين يأتيانها منكم ) بالنصب ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول
الوجه الثالث أنا إذا قلنا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ مبتدأ وخبره هو الذي نضمره وهو قولنا فيما يتلى عليكم فحينئذٍ قد تمت هذه الجملة بمتداها وخبرها فبأي شيء تتعلق الفاء في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا فإن قال الفاء تتعلق بالفعل الذي دلّ عليه قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يديه فنقول إذا احتجت في آخر الأمر إلى أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق فاذكر هذا أولاً حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته والرابع أنا إذا اخترنا القراءة بالنصب لم يدل ذلك على كون السرقة علة لوجوب القطع وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ثم هذا المعنى متأكد بقوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا فثبت أن القراءة بالرفع أولى الخامس أن سيبويه قال هم يقدمون الأهم فالأهم والذي هم بشأنه أعنى فالقراءة بالرفع تقتضي تقديم ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتلعق بحال السارق من حيث إنه سارق وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقاً ومعلوم أنه ليس كذلك فءن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً والله أعلم
المسألة الثانية قال كثير من المفسرين الأصوليين هذه الآية مجملة من وجوه أحدها أن الحكم
معلق على السرقة ومطلق السرقة غير موجب للقطع بل لا بدّ وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة وثانيها أنه تعالى أوجب قطع الأيدي وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل وبالاجماع لا يجب قطعهما معاً فكانت الآية مجملة وثالثها أن اليد اسم يتناول الأصابع فقط ألا ترى أنه لو حلف لا يمس فلاناً بيده فمسه بأصابعه فإنه يحنث في يمينه فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها ويقع على الأصابع مع الكف ويقع على الأصابع والكف والسعدين إلى المرفقين ويقع على كل ذلك إلى المنكبين وإذا كان لفظ اليد محتملاً لكل هذه الأقسام والعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة ورابعها أن قوله فَاقْطَعُواْ خطاب مع قوم فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعاً على مجموع الأمة وأن يكون واقعاً على طائفة مخصوصة منهم وأن يكون واقعاً على شخص معين منهم وهو إمام الزمان كما يذهب إليه الأكثرون ولما لم يكن التعيين مذكوراً في الآية كانت الآية مجملة فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية مجملة على الإطلاق هذا تقرير هذا المذهب
وقال قوم من المحققين الآية ليست مجملة ألبتة وذلك لأنا بينا أن الألف واللام في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ قائمام مقام ( الذي ) والفاء في قوله فَاقْطَعُواْ للجزاء فكان التقدير الذي سرق فاقطعوا يده ثم تأكد هذا بقوله تعالى جَزَاء بِمَا كَسَبَا وذلك الكسب لا بدّ وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره وهو السرقة فصار هذا دليلاً على أن مناط الحكم ومتعلقه هو ماهية السرقة ومقتضاه أن يعم الجزاء فيما حصل هذا الشرط اللهم إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العام وءما قوله ( الأيدي ) عامة فنقول مقتضاه قطع الأيدي لكنه لما انعقد الاجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً ولا الاتبداء باليد اليسرى أخرجناه عن العموم
وأما قوله لفظ اليد دائر بين أشياء فنقول لا نسلم بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب ولهذا السبب قال تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ( المائدة 6 ) فلولا دخول العضدين في هذا الاسم وإلا لما احتيج إلى التقيد بقوله إِلَى الْمَرَافِقِ فظاهر الآية يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج إلا أنا تركنا ذلك لدليل منفصل
وأما قوله رابعا يحتمل أن يكون الخطاب مع كل واحد وأن يكون مع واحد معين
قلنا ظاهره أنه خطاب مع كل أحد ترك العمل به فيما صار مخصوصاً بدليل منفصل فيبقى معمولاً به في الباقي
والحاصل أنا نقول الآية عامة فصارت مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصور فتبقى حجة فيما عداها ومعلوم أن هذا القول أولى من قول من قال إنها مجملة فلا تفيد فائدة أصلاً
المسألة الثالثة قال جمهور الفقهاء القطع لا يجب إلا عند شرطين قدر النصاب وأن تكون السرقة من الحرز وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن البصري القدر غير معتبر فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير والحرز أيضاً غير معتبر وهو قول داود الأصفهاني وقول الخوارج وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه فإن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من
الحرز أو من غير الحرز
إذا ثبت هذا فنقول لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد أو بالقياس وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص بل نقول إن لفظ السرقة لفظة عربية ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير أو تبنة واحدة أو كسرة صغيرة من خبز إنه سرق ماله فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة وأيضاً السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمراً يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل لأن ما لا يكون موضوعاً في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة وقال داود نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة ولا في سرقة التبنة الواحدة بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة فربما استحقر الملك الكبير لآلافاً مؤلفة وربما استعظم الفقير طسوجاً ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو قال لفلان على مال عظيم ثم فسر بالحبة يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيماً عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالاً وليس لقائل أن يستبعد ويقول كيد يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعناً في الشريعة فقالوا اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب فكيف تقطع لأجل القليل من المال ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن أيضاً مقبولاً منا في إيجاب القطع في القليل والكثير قال ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن ههنا بخبر الواحد وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه فقال الشافعي رحمه لله يجب القطع في ربع دينار وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا ربع دينار ) وقال أو حنيفة رحمه الله لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ثمن المجن ) والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم وقال مالك وأحمد وإسحاق إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار وقال ابن أبي ليلى مقدر بخمسة دراهم وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن قال وليس لأحد أن يقول إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين قال لأن الحسن البصري كان يوجب القطع بمطلق السرقة وكان يقول احذر من قطع يدك بدرهم ولو كان الاجماع منعقداً لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين فهذا تقرير مذهب الحسن البصري وداود الأصفهاني
وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لا بدّ في وجوب القطع من القدر ثم قال الشافعي رحمه الله القطع في ربع دينار فصاعداً وهو نصاب السرقة وسائر الأشياء تقوم به وقال أبو حنيفة والثوري لا يجب القطع
في أقل من عشرة دارهم مضروبة ويقوم غيرها بها وقال مالك رحمه الله ربع دينار أو ثلاثة دراهم وقال ابن أبي ليلى خمسة دراهم
حجة الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا يوجب القطع في القليل والكثير إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعداً على ظاهر النص ثم أكد هذ بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لا قطع إلا في ربع دينار )
وأما الذي تمسك به أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ثمن المجن ) فهو ضعيف لوجهين الأول أن ثمن المجن مجهول فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز الثاني أنه إن كان ثمن المجن مقدراً بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ربع دينار ) فكان الترجيح لهذا الجانب
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى وفي الثانية رجله اليسرى وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وقال أبو حنيفة والثوري لا يقطع في المرة الثالثة والرابعة
واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجيهن الأول أن السرقة علة لوجوب القطع وقد وجدت في المرة الثالثة فوجب القطع في المرة الثالثة أيضاً إنما قلنا إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا وقد بيّنا أن المعنى الذي سرق فاقطعوا يده وأيضاً الفاء في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة فالسرقة علة لوجوب القطع ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة فلا بدّ وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعاً آخر وهو المطلوب والثاني أنه تعالى قال فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ولفظ الأيدي لفظ جمع وأقله ثلاثة والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولاً به عند السرقة الثالثة
فإن قالوا إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما فكان هذا الحكم مختصاً باليمين لا في مطلق الأيدي والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد
قلنا القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضاً القراءة الشذة ليست بحجة عندنا لأنا نقطع أنها ليست قرآناً إذ لو كانت قرآناً لكانت متواترة فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن ولعلّه كان في القررن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصاً وما نقلت إلينا ولعلّه كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلاً بأنه لو كان قرآناً لكان متواتراً فلما لم يكن متواتراً قطعنا أنه ليس بقرآن فثبت أن لاقراءة الشاذة ليست بحجة ألبتة
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله أغرم السارق ما سرق وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق لا يجمع بين القطع والعزم فإن غرم فلا قطع وإن قطع فلا غرم وقال مالك رحمه لله يقطع بكل حال وأما الغرم فليزمه إن كان غنياً ولا يلزمه إن كان فقيراً
حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع وقوله عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) يوجب الضمان وقد احتج الأمران في هذه السرقة فوجب أن يحب القطع والضمان فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة وعليه الدليل على أنا نقول ءن حد الله لا يمنع حق العباد بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك وبدليل أنه لو كان المسروق باقياً وجب رده بالإجماع ويدل عليه أيضاً أن المسروق كان باقياً على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق فعند حصول القطع إما أن يحصل الملك فيه مقتصراً على وقت القطع أو مسنداً إلى أول زمان السرقة والأول لا يقول به الخصم والثاني يقتضي أن يقال إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقاً على ذلك الوقت وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي وهذا محال
حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء والجزاء هو الكافي فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة وإذا كان كافياً وجب أن لا يضم الغرم إليه
والجواب لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائماً والله أعلم بالصواب
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على المماليك وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يملك
حجة الشافعي أن قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا عام في حق الكل لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصاً بالبغض دون البعض ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضاً ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإمام والمولى
المسألة السابعة احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماماً معيناً والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة فلا بدّ من شخص يكون مخاطباً بهذا الخطاب وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام فلما كان هذا التكليف تكليفاً جازماً ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام وما لا يتأتى الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذٍ
المسألة الثامنة قال المعتزلة قوله نَكَالاً مّنَ اللَّهِ يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف والإهانة وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقاً للاستخفاف والذم والإهانة ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال إنه بقي مستحقاً للمدح والتعظيم لأنهما ضدان والجمع بينهما محال وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات
وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى ( دلا تبطلوا صداقاتكم بالمن والأذى ( البقرة 264 )
فلا نعيدها ههنا
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل بل تكون على سبيل الامتحان لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو
المسألة التاسعة قالت المعتزلة قوله ( البقرة 264 ) فلا نعيدها ههنا
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل بل تكون على سبيل الامتحان لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو
المسألة التاسعة قالت المعتزلة قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ لِلَّهِ يدل على تعليل أحكام الله فإن الباء في قوله بِمَا كَسَبَا صريح في أن القطع إنما وجب معللاً بالسرقة
وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ( المائدة 32 )
المسألة العاشرة قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا قال الزجاج جزاء نصب لأنه مفعول له والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم وكذلك نَكَالاً مّنَ اللَّهِ فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دلّ عليه فَاقْطَعُواْ والتقدير جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله
أما قوله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ فالمعنى عزيز في انتقامه حكيم في شرائعه وتكاليفه قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية فقلت وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سهواً فقال الأعرابي كلام من هذا فقلت كلام الله قال أعد فأعدت والله غفورٌ رحيم ثم تنبهت فقلت وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ فقال الآن أصبت فقلت كيف عرفت قال يا هذا عزيزٌ حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ثم قال تعالى
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلّت الآية على أن من تاب فإن الله يقبل توبته فإن قيل قوله وَأَصْلَحَ يدل على أن مجرّد التوبة غير مقبول
قلنا المراد من قوله وَأَصْلَحَ أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض
المسألة الثانية إذا تاب قبل القطع تاب الله عليه وهل يسقط عنه الحد قال بعض العلماء التابعين يسقط عنه الحد لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد فظاهر الآية يقتضي سقوطها وقال الجمهور لا يسقط عنه هذا الحد بل يقام عليه على سبيل الإمتحان
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان لا بأداء الواجبات ثم قال تعالى
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
واعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة قال الواحدي الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع ووجوب العذاب للعاصي على الله وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك
وأقول فيه وجه آخر يبطل قولهم وذلك لأنه تعالى ذكر أولاً قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم رتب عليه قوله يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وهذا يدل على أنه إنما حسن منه التعذيب تارة والمغفرة أخرى لأنه مالك الخلق وربهم وإل ههم وهذا هو مذهب أصحابنا فإنهم يقولون إنه تعالى يحسن منه كل ما يشاء ويريد لأجل كونه مالكاً لجميع المحدثات والمالك له أنه يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد أما المعتزلة فإنهم يقولون حسن هذه الأفعال من الله تعالى ليس لأجل كونه إل هاً للخلق ومالكاً لهم بل لأجل رعاية المصالح والمفاسد وذلك يبطله صريح هذه الآية كما قررناه
ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قوله تعالى قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ
اعمل أنه تعالى لما بيّن بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم من بعض الناس كونهم متسارعين إلى الكفر لا جرم صبر رسوله على تحمل ذلك وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك فقال قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى خاطب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله يا أيها النبي في مواضع كثيرة وما خاطبه
بقوله يا أيها الرسول إلا في موضعين أحدهما ههنا والثاني قوله يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ( المائدة 67 ) وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم
المسألة الثانية قرىء لاَ يَحْزُنكَ بضم الياء ويسرعون والمعنى لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه الكيد والمكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم يقال أسرع فيه الشيب وأسرع فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة وقوله مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ فيه تقديم وتأخير والتقدير من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون
ثم قال تعالى وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر الفرّاء والزجاج ههنا وجهين الأول أن الكلام إنما يتم عند قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ثم يبتدأ الكلام منقوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين
الوجه الثاني أن الكلام تمّ عند قوله وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ من قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وعلى هذا التقدير فقوله سَمَّاعُونَ صفة محذوف والتقدير ومن الذين هادوا قوم سماعون وقيل خبر مبتدأ محذوف يعني هم سماعون
المسألة الثانية ذكر الزجاج في قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وجهين الأول أن معناه قابلون للكذب والسمع يستعمل ويراد منه القبول كما يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه ومنه ( سمع الله لمن حمده ) وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى في تحريف التوراة وفي الطعن في محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والوجه الثاني أن المراد من قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ نفس السماع واللام في قوله لِلْكَذِبِ لام كي أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك وأما قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك فعلى هذا التقدير قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي سماعون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء اليهود بصفة أخرى فقال يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه الله مواضعه أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه قال المفسرون إن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وكان حد الزنا في التوراة الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوا قوماً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا وقالوا إن أمركم بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا فلما سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل
عليه السلام اجعل بينك وبينخم ( ابن صوريا ) فقال الرسول هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض فرضوا به حكماً فقال له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدك الله الذي لا إل ه إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ) قال ابن صوريا نعم فوثبت عليه سفلة اليهود فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فقال ابن صوريا أشهد أن إل ه إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون ثم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالزانيين فرجما عند باب مسجده
إذا عرفت القصة فنقول قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ أي وضعوا الجلد مكان الرجم
وقوله تعالى يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ أي إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن الثيب الذمي يرجم قال لأنه صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أمر برجمه فإن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول فقد ثبت المقصود وإن كان إنما أمر بذلك بناء على ما ثبت في شريعة موسى عليه السلام وجب أن يكون ذلك مشروعاً في ديننا ويدل عليه وجهان الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أفتى على وفق شريعة التوراة في هذه المسألة كان الإقتداء به في ذلك واجباً لقوله فَاتَّبَعُوهُ ( الأعراف 58 ) والثاني أن ما كان ثابتاً في شرع موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخ هذا الحكم فوجب أن يكون باقياً وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) حكمه باق في شرعنا
ولما شرح الله تعالى فضائح هؤلاء اليهود قال وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً
واعلم أن لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد إلا أنه لما كان هذا اللفظ مذكوراً عقيب أنواع كفرهم التي شرحها الله تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالمراد ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه
ثم أكد تعالى هذا فقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ
قال أصحابنا دلّت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل ذلك لآمن وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تفسير الفتنة وجوهاً أحدها أن الفتنة هي العذاب قال تعالى عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) أي يعذبون فالمراد ههنا أنه يريد عذابه لكفره ونفاقه وثانيها الفتنة الفضيحة يعني ومن يرد الله فضيحته الثالث فتنته إضلاله والمراد من الأضلال الحكم بضلاله وتسميته ضالاً ورابعها الفتنة الاختبار يعني من يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فلن تملك له من الله ثواباً ولا نفعاً
وأما قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ فذكروا فيه وجوهاً أحدها لم يرد الله أن يمد قلوبهم بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم وثانيها لم يرد الله
أن يطهر قلوبهم عن الحرج والغم والوحشة الدالة على كفرهم وثالثها أن هذا استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله والكلام عن هذه الوجوه قد تقدم مراراً
ثم قال تعالى لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وخزي المنافقين هتك سترهم باطلاع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على كذبهم وخوفهم من القتل وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص الله تعالى في إيجاب الرجم وأخذ الجزية منهم
وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود في النار
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
ثم قال تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي السحت بضم السين والحاء حيث كان وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة برفع السين وسكون الحاء على لفظ المصدر من سحته ونقل صاحب ( الكشاف ) السحت بفتحتين والسحت بكسر السين وسكون الحاء وكلها لغات
المسألة الثانية ذكروا في لفظ السحت وجوهاً قال الزجاج أصله من سحته إذا استأصله قال تعالى فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( طه 61 ) وسميت الرشا التي كانوا يأخذونها بالسحت إما لأن الله تعالى يسحتهم بعذاب أي يستأصلهم أو لأنه مسحوت البركة قال تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( البقرة 276 ) الثاني قال الليث إنه حرام يحصل منه العار وهذا قريب من الوجه الأول لأن مثل هذا الشيء يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها والثالث قال الفرّاء أصل السحت شدة الجوع يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يلقى إلا جائعاً أبداً فالسحت حرام يحمل عليه شدة الشره كشره من كان مسحوت المعدة وهذا أيضاً قريب من الأول لأن من كان شديد الجوع شديد الشره فكأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام ويشتهيه
إذا عرفت هذا فنقول السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستئجار في المعصية روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد وزاد بعضهم ونقص بعضهم وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة ومعلوم أن أخذ الرشوة كذلك فكان سحتاً لا محالة
المسألة الثالثة في قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وجوه الأول قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلاً في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت الثاني قال بعضهم كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالاً ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم الثالث سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة أكالون للربا لقوله تعالى وَأَخْذِهِمُ الرّبَا ( النساء 161 )
ثم قال تعالى فَانٍ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ثم إنه تعالى خيّره بين الحكم فيهم
والاعراض عنهم واختلفوا فيه على قولين الأول أنه في أمر خاص ثم اختلف هؤلاء فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري أنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم الثاني أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة وفي قريظة نصف دية فتحاكموا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل الدية سواء الثالث أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم
القول الثاني أن الآية عاملاة في كل من الكفار ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ وهو قول النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم ومنهم من قال إنه منسوخ بقوله تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( المائدة 49 ) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين
ثم قال تعالى وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فبيّن تعالى أنه لا تضره عداوتهم له
ثم قال تعالى وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاة ُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
ثم قال تعالى وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاة ُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا تعجيب من الله تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه أحدها عدولهم عن حكم كتابهم والثاني رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطن والثالث إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه فبيّن الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله وههنا سؤالان
السؤال الأول قوله فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ما موضعه من الاعراب
الجواب إما أن ينصب حالاً من التوراة وهي مبتدأ خبرها عِندَهُمُ وإما أن يرتفع خبراً عنها كقولك وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله تعالى وءما أن لا يكون له محل ويكون المقصود أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره
السؤال الثاني لم أنث التوراة والجواب الأمر فيه مبني على ظاهر اللفظ
المسألة الثانية احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما
لم ينسخ وهو ضعيف ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه لكن الشرع نهى عن النظر فيها بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم
ثم قال تعالى ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قوله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ معطوف على قوله يُحَكّمُونَكَ وقوله ذالِكَ إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة ويجوز أن يعود إلى التحكيم وقوله وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فيه وجوه الأول أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها والثاني ما أولئك بالمؤمنين إخبار بأنهم لا يؤمنون أبداً وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي الثالث أنهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وذلك يدل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن كل مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط
بداية الجزء الثانى عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِأايَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء
اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم وفيه مسائل
المسألة الأولى العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد قال الزجاج فِيهَا هُدًى أي بيان الحكم الذي جاؤا يستفتون فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَنُورٌ بيان أن أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق
المسألة الثانية احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخاً بهذه الآية وتقريره أنه تعالى قال إن في التوراة هدى ً ونوراً والمراد كونه هدى ً ونوراً في أصول الشرع وفروعه ولو كان منسوخاً غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدى ٌ ونور ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معاً هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار وأيضاً أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بدّ وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلاً فيها
المسالة الثالثة قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ يريد النبيّين الذين كانوا بعد
موسى وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء ليس معهم كتاب إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها
فإن قيل كل نبي لا بدّ وأن يكون مسلماً فما الفائدة في قوله النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ
قلنا فيه وجوه الأول المراد بقوله دأسلموا أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام الثاني قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهوديين بالرجم وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله تعالى أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام الثاني قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهوديين بالرجم وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً ( النحل 120 ) وقوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ( النساء 45 ) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصالل الهير ما كان حاصلاً لأكثر الأنبياء الثالث قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى فقال تعالى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه الرابع المراد بقوله النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه والغرض من التنبيه على قبح طريعة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام
المسألة الرابعة قوله لِلَّذِينَ هَادُواْ فيه وجهان الأول المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا أي لأجلهم وفيما بينهم والثاني يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ً ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا
المسألة الخامسة أما الربانيون فقد تقدم تفسيره وأما الأحبار فقال ابن عباس هم الفقهاء واختلف أهل اللغة في واحده قال الفرّاء إنما هو ( حبر ) بكسر الحاء يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك أنه يكون صاحب كتب وكان أبو عبيدة يقول حبر بفتح الحاء قال الليث هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها وقال الأصمعي لا أدري أهو الحبر أو الحبر وأما اشتقاقه فقال قوم أصله من التحبير وهو التحسين وفي الحديث ( يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره ) أي جماله وبهاؤه والمحبر للشيء المزين ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به وقال آخرون اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به وهو قول الفرّاء والكسائي وأبي عبيدة والله أعلم
المسألة السادسة دلّت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالاً من الأحبار فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحباء كآحاد العلماء
ثم قال بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى حفظ كتاب الله على وجهين الأول أن يحفظ فلا ينسى الثاني أن يحفظ فلا يضيع وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين أحدهما أن يحفظون في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه
المسألة الثانية الباء في قوله بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ فيه وجهان الأول أن يكون صلة الأحبار على معنى العلماء بما استحفظوا الثاني أن يكون المعنى يحكمون بما استحفظوا وهو قول الزجاج
ثم قال تعالى وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير
ثم قال تعالى فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِى
واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة خاطب اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومنعهم من التحريف والتغيير
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بدّ وأن يكون لخوف ورهبة أو لطمع ورغبة ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال فَلاَ تَخْشَوُاْ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين من الناس بل كونوا خائفين مني ومن عقابي
ولما ذكر أمر الرهبة ابتعه بأمر الرغبة فقال وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة والرشوة لكونها سحتاً تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد والسعادات التي لا نهاية لها
ويحتمل أيضاً أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة ولما منعهم الله من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهاناً قاطعاً في المنع من التحريف والتبديل
ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد فقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفليه مسألتان
المسألة الأولى المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في ءقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب فهم كافرون على الاطلاق لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن
المسألة الثانية قالت الخوارج كل من عصى الله فهو كافر وقال جمهور الأئمة ليس الأمر كذلك أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة الأول أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ كلام أدخل فيه كلمة مِنْ في معرض الشرط فيكون للعموم وقول من يقول المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز الثاني قال عطاء هو كفر دون كفر وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين وهو أيضاً ضعيف لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين والثالث قال ابن الأنباري يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضالهي أفعال الكفار ويشبه من أجل ذلك الكافرين وهذا ضعيف أيضاً لأنه عدولل عن الظاهر والرابع قال عبد العزيز بن يحيى الكناني قوله بِمَا أنزَلَ اللَّهُ صيغة عموم فقوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلاّ في القليل وهو العمل أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم فيدل على سقوط هذا الجواب والخامس قال عكرمة قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاٌّ نْفَ بِالاٌّ نْفِ وَالاٍّ ذُنَ بِالاٍّ ذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
ثم قال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص
والمعنى أنه تعالى بيّن في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم واليهود غيروه وبدلوه وبيّن في هذه الآية أيضاً أنه تعالى بيّن في التوراة أن النفس بالنفس وهؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم أيضاً ففضلوا بني النضير على بني قريظة وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا هو وجه النظم من الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي العين والأنف والأذن والسن والجروح كلها بالرفع وفيه وجوه أحدها العطف على محل أن النفس لأن المعنى وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس لأن معنى كتبنا قلنا وثانيها أن الكتابة تقع على مثل هذه الجمل تقول كتبت ( الحمد لله ) وقرأت ( سورة أنزلناها ) وثالثها أنها ترتفع على الاستئناف وتقديره أن النفس مقتولة بالنفس والعين مفقوءة بالعين ونظيره قوله تعالى في هذه السورة إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ( البقرة 62 ) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عممرو بنصف الكل سوى الجروح فإنه بالرفع فالعين والأنف والأذن نصب عطفاً على النفس ثم الجروح مبتدأ و وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ خبره وقرأ نافع وعاصم وحمزة كلها بالنصب عطفاً لبعض ذلك على بعض وخبر الجميع قصاص وقرأ نافع الأذن بسكون الذال حيث وقع والباقون بالضم مثقلة وهما لغتان
المسألة الثانية قال ابن عباس يريد وفرضنا عليهم في التوراة أن النفس بالنفس يريد من قتل نفساً بغير قود قيد منه ولم يجعل الله له دية في نفس ولا جرح إنما هو العفو أو القصاص وعن ابن عباس كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت هذه الآية وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف ولما ذكر الله تعالى بعض الأعضاء عمم الحكم في كلها فقال بِالسِنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ وهو كل ما يمكن أن يقتص منه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والأنف والقدمين واليدين وغيرها فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم أو جراحة في بطن يخاف منه التلف ففيه أرش وحكومة
واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا كان شرعاً في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ بالتفصيل قال هذه الآية حجة في شرعنا ومن أنكر ذلك قال إنها ليست بحجة علينا
المسألة الثالثة قِصَاصٌ هاهنا مصدر يراد به المفعول أي والجروح متقاصة بعضها ببعض
ثم قال تعالى فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ الضمير في قوله لَهُ يحتمل أن يكون عائداً إلى العافي أو إلى المعفو عنه أما الأول فالتقدير أن المجروح أو ولي المقتول إذا عفا كان ذلك كفارة له أي للعافي ويتأكد هذا بقوله تعالى في آية القصاص 3 في سورة البقرة وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ويقرب منه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس ) وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه ) وهذا قول أكثر المفسرين
والقول الثاني أن الضمير في قوله فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ عائد إلى القاتل والجارح يعني أن المجنى عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني يعني لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو وأما المجنى عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه سؤال وهو أنه تعالى قال أولاً فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وثانياً هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم فلما ذكر أعظم التهديدات أولاً فأي فائدة في ذكر الأخف بعده
وجوابه أن الكفر من حيث أنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه
وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاة ِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ
قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ثم يقال عقبته بفلان وقفيته به فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء
فإن قيل فأين المفعول الأول في الآية
قلنا هو محذوف والظرف وهو قوله عَلَى ءاثَارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه والضمير في ءاثَارِهِمْ للنبيّين في قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ( المائدة 44 ) وهاهنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة ومعلوم أنه لم يكن كذلك فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام فلذلك قال في آخر هذه الآية وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ( المائدة 47 ) فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين
والجواب معنى كون عيسى مصدقاً للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزّل من عند الله وأنه كان حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ
السؤال الثاني لم كرر قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والجواب ليس فيه تكرار لأن في الأول أن المسيح يصدق التوراة وفي الثاني الإنجيل يصدق التوراة
السؤال الثالث أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ وفيه مباحثات ثلاثة أحدها ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة وثانيها لم ذكر الهدى مرتين وثالثها لم خصصه بكونه موعظة للمتقين
والجواب على الأول أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد وعلى النبوّة وعلى المعاد فهذا هو المراد بكونه هدى ً وأما كونه نوراً فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف وأما كونه مصدقاً لما بين يديه فيمكن حمله على كونه مبشراً بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبمقدمه وأما كونه هدى ً مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سبب لاهتداء الناس إلى نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان هذى في هذه اللمسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )
السأال الرابع قوله في صفة الإنجيل وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ عطف على ماذا
الجواب أنه عطف على محل فِيهِ هُدًى ومحله النصب على الحال والتقدير وآتيناه الإنجيل حال كونه هدى ً ونوراً ومصدقاً لما بين يديه
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ قرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بكسر اللام وفتح الميم جعل اللام متعلقة بقوله وَقَفَّيْنَا عَلَى ( المائدة 46 ) لأن إيتاء الإنجيل إنزال ذلك عليه فكان المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم وأما الباقون فقرؤا بجزم اللام والميم على سبيل الأمر وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير وقلنا ليحكم أهل الإنجيل فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وَكَتَبْنَا وَقَفَّيْنَا يدل عليه وحذف القول كثير كقوله تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) أي يقولون سلام عليكم والثاني أن يكون قوله وَلْيَحْكُمْ ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل
فإن قيل كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول الأصم والثاني وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن والثالث المراد من قوله وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة فالمعنى بقوله وَلْيَحْكُمْ أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ واختلف المفسرون فمنهم من جعل هذه الثلاثة أعني قوله ( الكافرون والظالمون الفاسقون ) صفت لموصوف واحد قال القفال وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى بل هو كما يقال من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو البر من أطاع الله فهو المتقي لأن كل ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد وقال آخرون الأول في الجاحد والثاني والثالث في المقر التارك وقال الأصم الأول والثاني في اليهود والثالث في النصارى
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وهذا خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقوله وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ أي القرآن وقوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ أي كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن
وقوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فيه مسائل
المسألة الأولى في المهيمن قولان الأول قال الخليل وأبو عبيدة يقال قد هيمن إذا كان رقيباً على الشيء وشاهداً عليه حافظاً قال حسّان فإن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألبب
والثاني قالوا الأصل في قولنا آمن يؤمن فهو مؤمن أأمن يؤامن فهو مؤامن بهمزتين ثم قبلت الأولى هاء كما في هرقت وأرقت وهياك وإياك وقبلت الثانية ياء فصار مهيمناً فلهذا قال المفسرون وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي أميناً على الكتب التي قبله
المسألة الثانية إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير مسنوخاً ألبتة ولا يتطرق إليه البتديل والتحريف على ما قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبداً فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ بفتح الميم لأنه مشهود عليه من عند الله تعالى بأن يصونه عن التحريف والتبديل لما قررنا من الآيات ولقوله لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) والمهيمن عليه هو الله تعالى
ثم قال تعالى فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ يعني فاحكم بين اليهود بالقرآن والوحي الذي نزله الله تعالى عليك
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى وَلاَ تَتَّبِعِ يريد ولا تنحرف ولذلك عداه بعن وكأنه قيل ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم
المسألة الثانية روي أن جماعة من اليهود قالوا تعالوا نذهب إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لعلنا نفتنه عن دينه ثم دخلوا عليه وقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود وإن بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا ونحن نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثالثة تمسك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقال لولا جواز المعصية عليهم وإلا لما قال وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ
والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي وقيل الخطاب له والمراد غيره
ثم قال تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( الشرعة في اشتقاقه وجهان الأول معنى شرع بين وأوضح قال ابن لسكيت لفظ الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وسلخته الثاني شرع مأخوذ من الشروع في الشيء وهو الدخول فيه والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها فالشريعة فعلية بمعنى المعفولة وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها وأما المنهاج فهو الطريق الواضح يقال نهجب لك الطريق وأنهجب لغتان
المسألة الثانية احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلفة بشريعة الرسول الآخر
المسألة الثالثة وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل وآيات دالة على حصول التباين فيها
أما النوع الأول فقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( الشورى 13 ) إلى قوله أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ( الشورى 13 ) وقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 )
وأما النوع الثاني فهو هذه الآية وطريق الجمع أن نقول النوع الأول من الآيات مصروف إلى ما يتعلق بأصول الدين والنوع الثاني مصروف إلى ما يتعلق بفروع الدين
المسألة الرابعة الخطاب في قوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً خطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) ثم قال وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( المائدة 46 ) ثم قال وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( المائدة 48 )
ثم قال لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً يعني شرائع مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة
المسألة الخامسة قال بعضهم الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما الدين وقال آخرون بينهما فرق فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة وهي المراد بالمنهاج فالشريعة أول والطريقة رخر وقال المبرد الشريعة ابتداء الطريقة والطريقة المنهاج المستمر وهذا تقرير ما قلناه والله أعلم بأسرار كلامه
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً أي جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه قال الأصحاب هذا يدل على أن الكل بمشيئة الله تعالى والمعتزلة حملوه على مشيئة الالجاء
ثم قال تعلى وَلَاكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ من الشرائع المختلفة هل تعملون بها منقادين لله خاضعين لتكاليف الله أم تتبعون الشبه وتقصرون في العمل
فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي فابدروها وسابقوا نحوها
إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات
فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيخربكم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وموفيكم ومقصركم في العمل والمراد أن الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الكشوك ويحصل مع اليقين وذلك عند مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ يَتَّبِعُ أَهْوَاءهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل قوله وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا
قلنا على الْكِتَابِ في قوله وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( المائدة 48 ) كأنه قيل وأنزلنا إليك أن أحكم و ءانٍ وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله بِالْحَقّ ( المائدة 48 ) أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم وقوله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك
المسألة الثانية قالوا هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( المائدة 42 )
المسألة الثالثة أعيد ذكر الأمة بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد وءما لأنهما حكمان أمر بهما جميعاً لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن ثم احتكموا في قتيل كان فيهم
ثم قال تعالى وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
قال ابن عباس يريد به يردوك إلى أنوائهم فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن ومنه قوله وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ( الإسرار 73 ) والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أعوذ بك من فتنة المحيا ) قال هو أن يعدل عن الطريق قال أهل العلم هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول لأن الله تعالى قال وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول فلم يبق إلا الخطأ والنسيان
ثم قال تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ أي فإن لم يقبلوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء وإنما خصّ الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وكان مجازاتهم بالبعض كافياً في إهلاكهم والتدمير عليهم والله أعلم
المسألة الثانية دلت الآية على أن الكل بإرادة الله تعالى لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر
ثم قال تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه يعني أن التولي عن حكم الله تعالى من التمرد العظيم ولاعتداء في الكفر
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
ثم قال تعالى أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تبغون بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على المغايبة وقرأ المسلمي لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ برفع الحكم على الابتداء وإيقاع يَبْغُونَ خبراً وإسقاط الاراجع عنه لظهوره وقرأ قتادة تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبيّيين حكماً كأولئك الحكام
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول قال مقاتل كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام فلما بعث تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً من تمر وأروش جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم فقال عليه السلام فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري ودم النضري وفاء من دم القرظي ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة فغضب بنو النضير وقالوا لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ يعني حكمهم الأول وقيل إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية الثاني أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى
ثم قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللام في قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في هَيْتَ لَكَ ( يوسف 23 ) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً ولا أحسن منه بياناً
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أعلم أنه تمّ الكلام عند قوله أَوْلِيَاء ثم ابتدا فقال بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وروي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتبرأ عنده من موالاة اليهود فقال عبد الله بن أبي لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر فنزلت هذه الآية ومعنى لا تتخذوهم أولياء أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تتوددوا إليهم
ثم قال وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال ابن عباس يريد كأنه مثلهم وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانية المخالف في الدين ونظيره قوله وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 )
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً فقال مالك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً أما سمعت قول الله تعالى يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء قلت له فينه ولي كتابته فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدينهم إذ أبعدهم الله قلت لا يتم أمر البصرة إلا به فقال مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره
فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَة ٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ
ثم قال تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة ٌ
وأعلم أن المراد بقوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ المنافقون مثل عبد الله بن ابي وأصحابه وقوله يسارعون فيهم أي يسارعون في مودة اليهود ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهماتهم ويقرضونهم ويقول المنافقون إنما نخالطهم لأنا نخشى أن تصيبنا دائرة قل الواحدي رحمه الله الدائرة من دوائر الدهر كالدولة وهي التي تدور من قوم إلى قوم والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث الخوفة فالدوائر تدور والدوائل تدول قال الزجاج أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيدور الأمر كما كان قبل ذلك
ثم قال تعالى فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
قال المفسرون ( عسى ) من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسول الله على أعدائه وإظهار المسلمين على أعدائهم أو أمر من عنده يقطع أصل اليهود أو يخرجهم عن بلادهم فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم وذلك لأنهم كانوا يشكون في أمر الرسول ويقولون لا نظن أنه يتم له أمره والأظهر أن تصير الدولة والغلبة لأعدائه وقيل أو أمر من عنده يعني أن يؤمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على فعالهم
فإن قيل شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين وقوله عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ ليس كذلك لأن الاتيان بالفتح داخل في قوله أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ
قلنا قوله أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ معناه أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر ثم قال تعالى
وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُؤُلا ءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يِقُولُ بغير واو وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والشام والباوقن بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل العراق قال الواحدي رحمه الله وحدف الواو ههن كإثباتها وذلك لأن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها فإن الموصوف بقوله يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ( المائدة 52 ) هم الذين قال فيهم المؤمنون أَهُاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ فلما حصل في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حصن العطف بالواو وبغير الواو ونظيره قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة ٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم أغنى ذلك عن ذكر الواو ثم قال وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( الكهف 22 ) فأدخل الواو فدل ذلك على أن حذف الواو وذكرها جائز وقال صاحب ( الكشاف ) حذف الواو على تقدير أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ فقيل يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا واختلفوا في قراءة هذه الآية من وجه آخر فقرأ أبو عمروا وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُواْ نصبا على معنى وعسى أن يقول الذين آمنوا وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة ويدل على قراءة الرفع قراءة من حذف الواو
المسألة الثانية الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى وقالوا إنهم يقسمون بالله جهد أيمانهم معنا ومن أنصارنا
فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم
المسألة الثالثة قوله حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى والمعنى ذهب ما أظهروه من الإيمان وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة فإنه لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لا ئِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ونافع يَرْتَدِدْ بدالين والباقون بدال واحدة مشددة والأول لإظهار التضعيف والثاني للإدغام قال الزجاج إظهار الدالين هو الأصل لأن الثاني من المضاعف إذا سكن ظهر التضعيف نحو قوله إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ( آل عمران 140 ) ويجوز في اللغة إن يمسكم
المسألة الثانية روى صاحب ( الكشاف ) أنه كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة ثلاث في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهناً ادعى النبوّة في اليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله فكتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى معاذبن جبل وسادات اليمن فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول
وبنو حنيفة قوم مسيلمة ادعى النبوّة وكتب إلى رسول الله من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك فأجابه الرسول من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل
على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وفي إسلامي
وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد ادعى النبوّة فبعث إليه رسول الله خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه
وسبع في عهد أبي بكر فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر التي ادعت النبوّة وزوجت نفسها من مسيلمة الكذاب وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر وكان يطوف ذات يوم جاراً رداءه فوطىء رجل طرف ردائه فغضب فلطمه فتظلم إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلا أن يعفو عنه فقال أن أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلا القصاص فاستنظر عمر فأنظره عمر فهرب إلى الروم وارتد
المسألة الثالثة معنى الآية يا أيها الذين آمنوا من يتول منكم الكفار فيرتد عن دينه فليعلم أن الله تعالى يأتي بأقوام آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه وقال الحسن رحمه الله علم الله أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع المخبر على وفقه فيكون معجزاً
المسألة الرابعة اختلفوا في أن أولئك القوم من هم فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريح هم أبو بكر وأصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الردة وقالت عائشة رضي الله عنها مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وارتدت العرب واشتهر النفاق ونزل بأبي مالو نزل بالجبال الراسيات لهضابها وقال السدي نزلت الآية في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا الرسول وأعانوه على إظهار الدين وقال نجاهد نزلت في أهل اليمن وروي مرفوعاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت هذه الآية أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال هم قوم هذا وقال آخرون هم الفرس لأنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن هذه الآية ضرب بيده على عاتق سلمان وقال هذا وذووه ثم قال ( لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس ) وقال قوم إنها نزلت في علي عليه السلام ويدل عليه وجهان الأول أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال ( لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) وهذا هو الصفة المذكورة في الآية
والوجه الثاني أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) وهذه الآية في حق علي فكان الأولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه فهذه جملة الأقوال في هذه الآية
ولنا في هذه الآية مقامات
المقام الأول أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض وتقرير مذهبهم
أن الذين أقرنا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول ( لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبداً منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم وهذا كلام ظاهر لمن أنصف
المقام الثاني أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه والدليل عليه وجهان الأول أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين ولأنه تعالى قال فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ وهذا للاستقبال لا للحال فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب
فإن قيل هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي الله عنه كان موجوداً في ذلك الوقت
قلنا الجواب من وجهين الأول أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال والثاني أن معنى الآية أن الله تعالى قال فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب وأبو بكر وإن كان موجوداً في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلاً في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي فزال السؤال فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام ولا يمكن أيضاً أن يكون المراد هو علي عليه السلام لأن علياً لم يتفق له قتال مع أهل الردة فكيف تحمل هذه الآية عليه
فإن قالوا بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً
قلنا هذا باطل من وجهين الأول أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر وما كان أحد يقول إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم الله بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضاً الثاني أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين ولا يمكن أيضاً أن يقال إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين وبتقدير أن يقال اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعاً وأذنابا وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلاً في هذه العبادة ورئيساً مطاعاً فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر
والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر هو أنا نقول هب أن علياً كان قد حارب
المرتدين ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالاً وأكثر موقعاً في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة وذلك لأنه علم بالتواتر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين وهو الذي حارب مانعي الزكاة ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب وصار ملوك الدنيا مقهورين وصار الإسلام مستولياً على جميع الأديان والملل فثبت أن محاربة أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيراً في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية
المقام الثالث في هذه الآية وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به فنقول إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات أولها أنه يحبهم ويحبونه
فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو إبو بكر ثبت أن قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وصف لأبي بكر ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالماً وذلك يدل على أنه كان محقاً في إمامته وثانيها قوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وهو صفة أبي بكر أيضاً الدليل الذي ذكرناه ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ارحم أمتي بأمتي أبو بكر ) فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام وكيف كان يلازمه ويخدمه وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد وأصر على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزمة وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام فكان قوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ لا يليق إلا به وثالثها قوله يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث وهناك الإسلام كان في غاية الضعف والكفر كان في غاية القوة وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته ويذب عن رسول الله بغاية وسعه وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأُحد وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً وكانت العساكر مجتمعة فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين الأول أنه كان متقدماً عليه في الزمان فكان إفضل لقوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) والثاني أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وجهاد علي كان في وقت القوة ورابعها قوله ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة ِ ( النور 22 ) وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بدّ وأن تكون في أبي بكر ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بدّ وأن تكون
لأبي بكر وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه كان موصوفاً بهذه الصفات حال حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت
قلنا هذا باطل قطعاً لأنه تعالى قال فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفاً بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة وذلك هو حال إمامته فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته أما قول الروافض لعنهم الله إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم خيبر ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) وكان ذلك هو علي عليه السلام فنقول هذا الخبر من باب الآحاد وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل فكيف يجوز التمسك به في العلم وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محباً لله ولرسوله وكون الله محباً له وراضياً عنه قال تعالى في حق أبي بكر وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 21 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة ) وقال ( ما صب الله شيئاً في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر ) وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
وأما الوجه الثاني وهو قولهم الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي فجوابنا أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة على وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم
أما قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) فلا فائدة في الإعادة وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له وهذا حق لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له
ثم قال تعالى أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وهو كقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) قال صاحب ( الكشاف ) أذلة جمع ذليل وأما ذلول فجمعه ذلل وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئاً من التكبر والترفع بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا فقوله أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين وقيل يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم عزه يعزه إذا غلبه كأنهم
مشدون عليهم بالقهر والغلبة
فإن قيل هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين
قلنا فيه وجهان أحدهما أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة كأنه قيل راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع والثاني أنه تعالى ذكر كلمة عَلَى حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع وقرىء ( أذلة وأعزة ) بالنصب على الحال
ثم قال تعالى يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة دين الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ وفيه وجهان الأول أن تكون هذه الواو للحال فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن من كان قوياً في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم الثاني أن تكون هذه الواو للعطف والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين واللومة المرة الواحدة من اللوم والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة كأنه قيل لا يخافون قط من لوم أحد من اللائمين
ثم قال تعالى ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء فقوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمبة والذلة والعة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة فبيّن تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الالطاف وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل فلا بدّ في التخصيص من فائدة زائدة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فالواسع إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ
وجه النظم أنه تعالى لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته وقال إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ قولان الأول أن المراد عامة المؤمنين وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله نزلت هذه الآية يعلى وفق قوله وروي أيضاً أن عبدالله بن سلام قال يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية فقال
رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء فعلى هذا الآية عامة في حق كل المؤمنين فكل من كان مؤمناً فهو ولي كل المؤمنين ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وعلى هذا فقوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ صفة لك المؤمنين والمراد بذكر هذه الصفلات تمييز عن المنافقين لأنهم كانوا يدعون الإيمان إلا أنهم ما كانوا مداومين على الصلوات والزكوات قال تعالى في صفة صلاتهم وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواة َ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ( التوبة 54 ) وقال يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 142 ) وقال في صفة زكاتهم أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ ( الأحزاب 19 ) وأما قوله وَهُمْ رَاكِعُونَ ففيه على هذا القول وجوه الأول قال أبو مسلم المراد من الركوع الخضوع يعني ( أنهم يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر الله ونواهيه والثاني أن يكون المراد من شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر تشريفاً له كما في قوله وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( البقرة 43 ) والثالث قال بعضهم إن أصحابه كانوا عند نزول هذه الآية مختلفون في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد في الصلاة وكان راكعاً فلما كانوا مختلفين في هذه الصفات لا جرم ذكر الله تعالى كل هذه الصفات
القول الثاني أن المراد من هذه الآية شخص معين وعلى هذا ففيه أقوال روى عكرمة أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه والثاني روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام روي أن عبدالله بن سلام قال لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال الّلهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فما أعطاني أحد شيئاً وعلي عليه السلام كان راكعاً فأومأ إليهخ بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( الّلهم إن أخي موسى سألك ) فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى إلى قوله وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى ( طه 25 32 ) فأنزلت قرآناً ناطقاً سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ( القصص 35 ) الّلهم وأنا محمد نبيّك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري قال أبو ذر فوالله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال يا محمد إقرأ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلى أخرها فهذا مجموع مع يتعلق بالروايات في هذه المسألة
المسألة الثانية قالت الشيعة هذه الآية دالة على أن الإمام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو علي بن ابي طالب وتقريره أن نقول هذه الآية دالة على أن المراد بهذه الآية إمام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن ابي طالب
بيان المقام الأول أن الولي في اللغة قد جاء بمعنى الناصر والمحب كما في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وجاء بمعنى المتصرف قال عليه الصلاة والسلام ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ) فنقول ههنا وجهان الأول أن لفظ الولي جاء بهذين المعنيين ولم يعين الله مراده ولا منافاة بين المعنيين فوجب حمله عليهما فوجب دلالة الآية على أن المؤمنين المذكورين في
الآية متصرفون في الأمة الثاني أن نقول الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر فوجب أن يكون بمعنى المتصرف وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر لأن الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة في كل المؤمنين بدليل أنه تعالى ذكر بكلمة إِنَّمَا للحصر كقوله إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) والولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة وإذا لم تكن بمعنى النصرة كانت بمعنى التصرف لأنه ليس للولي معنى سوى هذين فصار تقدير الآية إنما المتصرف فيكم أيها المؤمنون هو الله ورسوله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية وهذا يقتضي أن المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه لآية متصرفون في جميع الأمة ولا معنى للإمام إلا الإنسان الذي يكون متصرفاً في كل الأمة فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن الشخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الأمة
أما بيان المقام الثاني وهو أنه لما ثبت ما ذكرنا وجب أن يكون ذلك الإنسان هو علي بن ابي طالب وبيانه من وجوه الأول أن كل من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال إن ذلك الشخص هو علي وقد ثبت بما قدمنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص فوجب أن يكون ذلك الشخص هو علي ضرورة أنه لا قائل بالفرق والثاني تظاهرت الروايات على أن هذه الآية نزلت في حق علي ولا يمكن المصير إلى قول من يقول ءنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنها لو نزلت في حقه لدلت على إمامته وأجمعت الأمة على أن هذه الآية لا تدل على إمامته فبطل هذا القول والثالث أن قوله وَهُمْ رَاكِعُونَ لا يجوز جعله عطفاً على ما تقدم لأن الصلاة قد تقدمت والصلاة مشتملة على الركوع فكانت إعادة ذكر الركوع تكراراً فوجب جعله حالاً أي يؤتون الزكاة حال كونهم ءاكعين وأجمعوا على أن إيتاء الزكاة حال الركوع لم يكن إلا في حق علي فكانت الآية مخصوصة به ودالة على إمامته من الوجه الذي قررناه وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة علي عليه السلام
والجواب أما حمل لفظ الولي على الناصر وعلى المتصرف معاً فغير جائز لما ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز حمل اللفظ المشترك على مفهومية معاً
أما الوجه الثاني فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف ثم نجيب عما قالوه فنقول الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه الأول أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( المائدة 51 ) وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنون والموصوف والظاهر أن الولاية المأمور بها ههنا هي المنهي عنها فيما قبل ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله
الْغَالِبُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم ( المائدة 57 ) فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة فكذلك الولاية في قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ يجب أن تكون هي بمعنى النصرة وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ليس إلا بمعنى الناصر والمحب ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه
الحجة الثانية أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين فلا بدّ وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظم لكنه مجاز لا حقيقة والأصل حمل الكلام على الحقيقة
الحجة الرابعة أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ( المائدة 54 ) إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر فلو دلّت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين وذلك باطل فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن علياً هو الإمام بعد الرسول
الحجة الخامسة أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل وليس للقوم أن يقولوا إنه تركه للتقية لإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك ألبتة بهذه الآية في إثبات امامته وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله
الحجة السادسة هب أنها دالة على إمامة علي لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال لأن علياً ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن علياً سيصير إماماً بعد ذلك ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت فإن قالوا الأمة في هذه الآية على قولين منهم من قال إنها لا تدل على إمامة علي ومنهم من قال ءنها تدل على إمامته وكل من قال بذلك قال إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل فالقول بدلالة الآية على ءمامة علي
لا على هذا الوجه قول ثالث وهو باطل لأنا نجيب عنه فنقول ومن الذين أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول فإن من المحتمل بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي فإن السائل يورد على ذلك لاستدلال هذا السؤال فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقروناً بذكر هذا الاستدلال
الحجة السابعة أن قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لا شك أنه خطاب مع الأمة وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله وإنما ذكر الله تعالى هذا الكلام تطييباً لقول المؤمنين وتعريفاً لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار وذلك لأن من كان الله ورسوله ناصراً له ومعيناً له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة فلما أريد به ههنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معاف
الحجة الثامنة أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) فإذا حملنا قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ على معنى المحبة والنصرة كان قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يفيد فائدة قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وقوله يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( المائدة 54 ) يفيد فائدة قوله يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف
أما الوجه الذي عولوا عليه وهو أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة والولاية بمعنى النصرة عامة فجوابه من وجهين
الأول لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ولا نسلم أن كلمة إِنَّمَا للحصر والدليل عليه قوله إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء ( يونس 24 ) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل وقال إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( محمد 36 ) ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها الثاني لا نسلم أن الولاية بمعنى النصرة عامة في كل المؤمنين وبيانه أنه تعالى قسم المؤمنين قسمين أحدهما الذين جعلهم مولياً عليهم وهم المخاطبون بقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ والثاني الأولياء وهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فإذا فسرنا الولاية ههنا بمعنى النصرة كان المعنى أنه تعالى جعل أحد القسمين أنصاراً للقسم الثاني ونصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين ولو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم وذلك محال فثبت أن نصرة أحد قسمي الأمة غير ثابتة لكل الأمة بل مخصوصة بالقسم الثاني من الأمة فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصة أن لا تكون بمعنى النصرة وهذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التأمل فيه
وأما استدلالهم بأن الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في
حق الأمة والمراد أن الله تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين ومنهم من يقول إنها نزلت في حق أبي بكر
وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع وذلك هو علي بن أبي طالب فنقول هذا أيضاً ضعيف من وجوه الأول أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب وذلك عند أكثر العلماء معصية وأنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله وَإِذْ أَخَذْنَا ظاهرة يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب الثاني هو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه ولهذا قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) ومن كان قبله مستغرقاً في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير الثالث أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه ولذلك فإنهم يقولون إنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة أَهْلُ أَتَى ( الإنسان 1 ) وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيراً فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ عليه
الوجه الخامس هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لم يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثالثة أعلم أن الذين يقولون المراد من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ هو أنهم يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين احتجوا بالآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة فإنه دفع الزكاة إلى السائل وهو في الصلاة ولا شك أنه نوى إيتاء الزكاة وهو في الصلاة فدل ذلك على أن هذه الأعمال لا تقطع الصلاة وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول المذكور في الآية هو الله تعالى ورسوله والمؤمنون فلم لم يقل إنما أولياؤكم
والجواب أصل الكلام إنما وليكم الله فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله والمؤمنين على سبيل التبع ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله إنما مولاكم الله
السؤال الثاني الَّذِينَ يُقِيمُونَ ما محله
الجواب الرفع على البدل من الَّذِينَ كَفَرُواْ أو يقال هم الذين يقيمون أو النصب على المدح والغرض من ذكره تمييز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان ويكون منافقاً لأن ذلك الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظباً على الصلاة في حال الركوع أي في حال الخضوع والخشوع والإخبات لله تعالى
وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم وللمفسرين عبارات قال الحسن جند الله وقال أبو روق أولياء الله وقال أبو العالية شيعة الله وقال بعضهم أنصار الله وقال الأخفش حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم
المسألة الثانية قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ جملة واقعة موقع خبر المبتدأ والعائ غير مذكور لكونه معلوماً والتقدير فهو غالب لكونه من جند الله وأنصاره
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
أعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياى وساق الكلام في تقريره ثم ذكر ههنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرون والكسائي الْكُفَّارِ بالجر عطفاً على قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ومن الكفار والباقون بالنصب عطفاً على قوله الَّذِينَ اتَّخَذُواْ بتقدير ولا الكفار
المسألة الثانية قيل كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهر الإيمان ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية
المسألة الثالثة هذه الآية تقتضي امتياز أهل الكتاب عن الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة وقوه لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( البينة 1 ) صريح في كونهم كفاراً وطريق التوفيق بينهما أن كفر المشركين أعظم وأغلظ فنحن لهذا السبب نخصصهم باسم الكفر والله أعلم
المسألة الرابعة معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزواً وسخرية فلا تتخذوهم أولياء وأنصاراً وأحباباً فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواة ِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
لما حكى في الآية الأولى عنهم أنهم اتخذوا دين المسلمين هزواً ولعباً ذكر ههنا بعض ما يتخذونه من هذا الدين هزواً ولعباً فقال مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواة ِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله اتَّخَذُوهَا للصلاة أو المناداة
قيل كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن بالمدينة يقول أشهد أن محمداً رسول الله يقول احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت منها شرارة البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله
وقيل كان منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها فقالت اليهود قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء فنزلت الآية
وقيل كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيراً للناس عنها
وقيل قالوا يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم يسمع فيما مضى فإن كنت نبياً فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثانية قالوا دلت الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده
المسألة الثالثة قوله هُزُواً وَلَعِباً أمران وذلك لأنهم عند إقامة الصلاة يقولون هذه الأعمال التي أتينا بها استهزاءً بالمسلمين وسخرية منهم فإنهم يظنون أنا على دينهم مع أنا لسنا كذلك ولما اعتقدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا إنها لعب
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن تعظيم الخالق المنعم وخدمته مقرونة بغاية التعظيم لا يكون هزواً ولعباً بل هو أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم ولذلك قال بعض الحكماء أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
أعلم أن وجه النظم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزواً ولعباً قال لهم ما الذين تنقمون من هذا الدين وما الذي تجدون فه مما يوجب اتخاذه هزواً ولعباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن هَلْ تَنقِمُونَ بفتح القاف والفصيح كسرها يقال نقمت الشيء ونقمته بكسر القاف وفتحها إذا أنكرته وللمفسرين عبارات هل تنقمون منا هل تعيبون هل تنكرون هل
تكرهون قال بعضهم سمي العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل وقال آخرون الكراهة التي يتبعها سخط من الكاره تسمى نقمة لأنها تتبعها النقمة التي هي العذاب فعلى القول الأول لفظ النقمة موضوع أولاً للمكروه ثم سمي العذاب نقمة لكونه مكروهاً وعلى القول الثاني لفظ النقمة موضوع للعذاب ثم سمي المنكر والمكروه نقمة لأنه يتبعه العذاب
المسألة الثانية معنى الآية أنه يقول لأهل الكتاب لم اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً ثم قال على سبيل التعجب هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله والإيمان بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والإيمان بجميع الأنبياء الذين كانوا قبل محمدا يعني أن هذا ليس مما ينقم أما الإيمان بالله فهو رأس جميع الطاعات وأما الإيمان بمحمد وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء في ادعاء الرسالة والنبوّة هو المعجز ثم رأينا أن المعجز حصل على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب الإقرار بكونه رسولاً فأما الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك كلام متناقض ومذهب باطل فثبت أن الذي نحن عليه هو الدين الحق والطريق المستقيم فلم تنقموه عليناا قال ابن عباس إن نفراً من اليهود أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال أؤمن بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها
وأما قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فالقراءة العامة ءانٍ بفتح الألف وقرأ نعيم بن ميسرة ءانٍ بالكسر وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف ينقم اليهود على المسلمين مع كون أكثر اليهود فاسقين
والجواب من وجوه الأول قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تخصيص لهم بالفسق فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم فكان المعنى وما تنقمون منا إلا أن آمنا وما فسقنا مثلكم الثاني لما ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل وليس ذلك ببما ينعم ذكر في مقابله فسقهم وهو مما ينقم ومثل هذا حسن في الازدواج يقول القائل هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر وأني غني وأنت فقير فيحسن ذلك لإتمام المعنى على سبيل المقابلة والثالث أن يكون الواو بمعنى ( مع ) أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أن أكثركم فاسقون فإن أحد الخصمين إذا كان موصوفاً بالصفات الذميمة واكتسب الثاني شيئاً كثيراً من الصفات الحميدة كان اكتسابه للصفات الحميدة مع كون خصمه مكتسباً للصفات الذميمة أشد تأثيراً في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم والرابع أن يكون على تقدير حذف المضاف أي واعتقاد أنكم فاسقون الخامس أن يكون التقدير وما تنقمون منا إلا بأن آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون يعني بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا السادس يجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف كأنه قيل وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل أن أكثركم فاسقون
السؤال الثاني اليهود كلهم فساق وكفار فلم خص الأكثر بوصف الفسق
والجواب من وجهين الأول يعني أن أكثركم إنما يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون طلباً للرياسة والجاه وأخذ الرشوة والتقرب إلى الملوك فأنتم في دينكم فساق لا عدول فإن الكافر والمبتدع قد
يكون عدل دينه وقد يكون فاسق دينه ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلذلك خصّ أكثرهم بهذا الحكم والثاني ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَة ً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَة َ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ
فيه مسائل
المساألة الأولى قوله مّن ذالِكَ إشالرة إلى المنقم ولا بدّ من حذف المضاف وتقديره بشر من أهل ذلك لأنه قال مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ولا يقال الملعون شر من ذلك الدين بل يقال إنه شر ممن له ذلك الدين
فإن قيل فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشر ومعلوم أنه ليس كذلك
قلنا إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم فإنهم حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم هب أن الأمر كذلك ولكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك
المسألة الثانية مَثُوبَة ً نصب على التمييز ووزنها مفعلة كقولك مقولة ومجوزة وهو بمعنى المصدر وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول والميسور
فإن قيل المثوبة مختصة بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة
قلنا هذا على طريقة قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) وقول الشاعر
تحية بينهم ضرب وجيع
المسألة الثالثة مِنْ في قوله مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ يحتمل وجهين الأول أنه في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف فإنه لما قال قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ فكأن قائلاً قال من ذلك فقيل هو من لعنه الله ونظيره قوله تعالى قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ ( الحج 72 ) كأنه قال هو النار الثاني يجوز أن يكون في موضع خفض بدلاً من ( شر ) والمعنى أنبئكم بمن لعنه الله
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى ذكر من صفاتهم أنواعاً أولها أنه تعالى لعنهم وثانيها أنه غضب عليهم وثالثها أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت قال أهل التفسير عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى وروي أيضاً أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير
المسألة الخامسة ذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أنواعاً من القرآات أحدها قرأ
أُبي وعبدوا الطاغوت وثانيها قرأ ابن مسعود ومن عبدوا وثالثها وعابد الطاغوت عطفاً على القردة ورابعها وعابدي وخامسها وعباد وسادسها وعبد وسابعها وعبد بوزن حطم وثامنها وعبيد وتاسعها وعبد بضمتين جميع عبيد وعاشرها وعبدة بوزن كفرة والحادي عشر وعبد وأصله عبدة فحذفت التاء للإضافة أو خهو كخدم في جمع خادم والثاني عشر عبد والثالث عشر عباد والرابع عشر وأعبد والخامس عشر وعبد الطاغوت على البناء للمفعول وحذف الراجع بمعنى وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم والسادس عشر وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله تعالى كقولك أمر إذا صار أميراً والسابع عشر قرأ حمزة عبد الطاغزت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت وعابوا هذه القراءة على حمزة ولحنوه ونسبوه إلى ما لا يجوز ذكره وقال قوم إنها ليست بلحن ولا خطأ وذكروا فيها وجوهاً الأول أن العبد هو العبد إلا أنهم ضموا الباء للمبالغة كقولهم رجل حذر وفطن للبليغ في الحذر والفطنة فتأويل عبد الطاغوت أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان وهذا أحسن الوجوه الثاني أن العبد والعبد لغتان كقوللهم سبع وسبع والثالث أن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر ثم استثلقوا ضمتين متواليتين فأبدلت الأولى بالفتحة الرابع يحتمل أنه أراد أعبد الطاغوت فيكون مثل فلس وأفلس ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى العين الخامس يحتمل أنه أراد وعبدة الطاغوت كما قريء ثم حذف الهاء وضم الباء لئلا يشتبه بالفعل
المسألة السادسة قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قال الفرّاء تأويله وجعلل منهم القردة ومن عبد الطاغوت فعلى هذا الموصول محذوف
المسألة السابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله قالوا لأن تقدير الآية وجعل الله منهم من عبد الطاغوت وإنما يعقل معنى هذا الجعل إذا كان هو الذي جعل فيهم تلك العبادة إذ لو كان جعل تلك العبادة منهم لكان الله تعالى ما جعلهم عبدة الطاغوت بل كانوا هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك وذلك على خلاف الآية قالت المعتزلة معناه أنه تعالى حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) والكلام فيه قد تقدم مراراً
المسألة الثامنة قيل الطاغوت العجل وقيل الطاغوت الأحبار وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً أي أولئك الملعونون الممسوخون شر مكاناً من المؤمنين وفي لفظ المكان وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لأن مكانهم سقر ولا مكان أشد شراً منه والثاني أنه أضعف الشر في اللفظ إلى المكان وهو في الحقيقة لأهله وهو من باب الكناية كقولهم فلان طويل النجاد كثير الرماد ويرجع حاصله إلى الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه وتوابعه
ثم قال وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ أي عن قصد السبيل والدين الحق قال المفسرون لما نزلت هذه الآية عبر المسلمون أهل الكتاب وقالوا يا إخوان القردة والخنازير فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم