كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
عباس أنه كان ابن خالته ثم قيل إنه كان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري
أما قوله فَبَغَى عَلَيْهِمْ ففيه وجوه أحدها أنه بغى بسبب ماله وبغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله والثاني أنه من الظلم قيل ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم الثالث قال القفال بغى عليهم أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده الرابع قال الضحاك طغى عليهم واستطال عليهم فلم يوفقهم في أمر الخامس قال ابن عباس تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم السادس قال شهر بن حوشب بغيه عليهم أنه زاد عليهم في الثياب شبراً وهذا يعود إلى التكبر السابع قال الكلبي بغيه عليهم أنه حسد هرون على الحبورة يروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر وأغرق الله تعالى فرعون جعل الحبورة لهرون فحصلت له النبوة والحبورة وكان صاحب القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة فوجد قارون من ذلك في نفسه فقال يا موسى لك الرسالة ولهرون الحبورة ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا فقال موسى عليه السلام والله ما صنعت ذلك لهرون ولكن الله جعله له فقال والله لا أصدقك أبداً حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهرون قال فأمر موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل أن يجىء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله تعالى فدعا ربه أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هرون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون أما ترى ما صنع الله لهرونا فقال والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل قارون ومعه ناس كثير وولى هرون الحبورة والمذبح والقربان فكان بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هرون فيضعها في المذبح وتنزل النار من السماء فتأكلها واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى )
أما قوله إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ أُوْلِى الْقُوَّة ِ ففيه أبحاث
الأول قال الكعبي ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف الله مال قارون إلى نفسه بقوله وَءاتَيْنَاهُ وأجاب بأنه لا حجة في أنه كان حراماً ويجوز أن من تقدمه من الملوك جمعوا وكنزوا فظفر قارون بذلك وكان هذا الظفر طريق التملك أو وصل إليه بالإرث من جهات ثم بالتكسب من جهة المضاربات وغيرها وكان الكل محتملاً
البحث الثاني المفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به وقيل هي الخزائن وقياس واحدها مفتح بفتح الميم ويقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة الجماعة الكثيرة والعصابة مثلها فالعشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف عليه السلام وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ ( يوسف 8 ) وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم
إذا عرفت معنى الألفاظ فنقول ههنا قولان أحدهما أن المراد بالمفاتح المفاتيح وهي التي يفتح بها الباب قالوا كانت مفاتيحه من جلود الإبل وكل مفتاح مثل إصبع وكان لكل خزانة مفتاح وكان إذا ركب
قارون حملت المفاتيح على ستين بغلاً ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول أن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح الثاني أن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتيح والجواب عن الأول أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقد جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد وأيضاً فهذا الذي يقال إن تلك المفاتيح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن فلا تقبل هذه الرواية وتفسير القرآن أن تلك المفاتيح كانت كثيرة وكان كل واحد منها معيناً لشيء آخر فكان يثقل على العصبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد وعن الثاني أن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق القول الثاني وهو اختيار ابن عباس والحسن أن تحمل المفاتح على نفس المال وهذا أبين وعن الشبهة أبعد قال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء وكانت خزائنه أربعمائة ألف فيحمل كل رجل عشرة آلاف القول الثالث وهو اختيار أبي مسلم أن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام 59 ) والمراد آتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أولي القوة والهداية أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها والقائمين عليها أن يحفظوها ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور أحدها قوله لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة أصلاً وقال بعضهم إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح بها وما أحسن ما قال المتنبي أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) قال ابن عباس كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى وثانيها قوله وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَة َ والظاهر أنه كان مقراً بالآخرة والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ويسلك طريقة التواضع وثالثها قوله وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وفيه وجوه أحدها لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا فلأجل ذلك ما كان يتفرغ للتنعم والالتذاذ فنهاه الواعظ عن ذلك وثانيها لما أمره الواعظ بصرف المال إلى الآخرة بين له بهذا الكلام أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة وثالثها المراد منه الإنفاق في طاعة الله فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب قال عليه السلام ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار ) ورابعها قوله وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر وإنما قال كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ تنبيهاً على قوله لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبراهيم 7 ) وخامسها قوله وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ والمراد ما كان عليه من الظلم والبغي وقيل إن هذا القائل هو موسى عليه السلام وقال آخرون بل مؤمنو قومه وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما لو قيل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه بكفر النعمة فقال إنما أوتيته على علم عندي وفيه وجوه أحدها قال
قتادة ومقاتل والكلبي كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك وثانيها قال سعيد بن المسيب والضحاك كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وكالب ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة والنحاس فيجعله ذهباً وثالثها أراد به علمه بوجوه المكاسب والتجارات ورابعها أن يكون قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أي الله أعطاني ذلك مع كونه عالماً بي وبأحوالي فلو لم يكن ذلك مصلحة لما فعل وقوله عِندِى أي عندي أن الأمر كذلك كما يقول المفتى عندي أن الأمر كذلك أي مذهبي واعتقادي ذلك ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّة ً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وفيه وجهان الأول يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله تعالى قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة وأخبر به موسى عليه السلام وسمعه من حفاظ التواريخ كأنه قيل له أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته الثاني يجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك كأنه لما قال أوتيته على علم عندي فتصلف بالعلم وتعظم به قيل أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين
أما قوله وَأَكْثَرُ جَمْعاً فالمعنى أكثر جمعاً للمال أو أكثر جماعة وعدداً وحاصل الجواب أن اغتراره بماله وقوته وجموعه من الخطأ العظيم وأنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً
فأما قوله وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فالمراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة به إلى السؤال فإن قيل كيف الجمع بينه وبين قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) قلنا يحمل ذلك على وقتين على ما قررناه وذكر أبو مسلم وجهاً آخر فقال السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتقرير والتبكيت وقد يكون للاستعتاب وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( النحل 84 ) هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 35 36 )
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِى َ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَة ٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ
أما قوله فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ فيدل على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر إلا أن الناس ذكروا وجوهاً مختلفة في كيفية تلك الزينة قال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول وعليها الثياب الأرجوانية ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والثياب الحمر على البغال الشهب وقال بعضهم بل خرج في تسعين ألفاً هكذا وقال آخرون بل على ثلثمائة والأولى ترك هذه التقريرات لأنها متعارضة ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ من هذه الأمور والأموال والراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا وأما العلماء وأهل الدين فقالوا للذين تمنوا هذا ويلكم ثواب الله خير من هذه النعم لأن للثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ودائمة وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاث قال صاحب ( الكشاف ) ويلك أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى
أما قوله وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فقال المفسرون لا يوفق لها والضمير في يلقاها إلى ماذا يعود فيه وجهان أحدهما إلى ما دل عليه قوله وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصابرون والثاني قال الزجاج يعني ولا يلقى هذه الكلمة وهي قولهم ثواب الله خير إلا الصابرون على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار
وأما قوله فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ففيه وجهان أحدهما أنه لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره والفاء تدل على ذلك لأن الفاء تشعر بالعلية وثانيها قيل إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت نفسه فجمع بني إسرائيل وقال إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا أنت سيدنا وكبيرنا فمرنا بما شئت قال نبرطل فلانة البغي حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستاً من ذهب مملوءاً ذهباً فلما كان يوم عيد قام موسى فقال يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن زنى وهو ( غير ) محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه فقال قارون وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يقولون إنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى بالله الذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله تعالى فقالت كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله عز وجل إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك فقال يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال خذيهم فانطبقت الأرض عليهم فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ما أفظك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم أما وعزتي لودعوني مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون
بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله ثم إن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة قال القاضي إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك فإنه لا يمتنع ما روى على وجه المبالغة في الزجر وأما قولهم إنه تعالى قال لو استغاث بي لأغثته فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف لأن موسى عليه السلام ما فعله إلا عن أمره فبعيد وقولهم إنه يتجلجل في الأرض أبداً فبعيد لأنه لا بد له من نهاية وكذا القول فيما ذكر من عدد القامات والذي عندي في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة مسألة عملية حتى يكتفى فيها بالظن ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب
أما قوله وَمَا كَانَ مِنَ فالمراد من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب الله تعالى يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه منه فامتنع
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاٌّ مْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ
اعلم أن القوم الذين شاهدوا قارون في زينته لما شاهدوا ما نزل به من الخسف صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى عليه السلام وداعياً إلى الرضا بقضاء الله تعالى وقسمته وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبياء الله ورسله
أما قوله يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ فاعلم أن وي كلمة مفصولة عن كأن وهي كلمة مستعملة عند التنبه للخطأ وإظهار التندم فلما قالوا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ ( القصص 79 ) ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم فقالوا وي ثم قالوا كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة قال سيبويه سألت الخليل عن هذا الحرف فقال إن وي مفصولة من كان وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وذكر الفراء وجهين أحدهما أن المعنى ويلك فحذف اللام وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم أن الله وهذا قول قطرب حكاه عن يونس الثاني وي منفصلة من كأن وهو للتعجب يقول الرجل لغيره وي أما ترى ما بين يديك فقال الله وي ثم استأنف كان الله يبسط فالله تعالى إنما ذكرها تعجيباً لخلقه قال الواحدي وهذا وجه مستقيم غير أن العرب لم تكتبها منفصلة ولو كان على ما قالوه لكتبوها
منفصلة وأجاب الأولون بأن خط المصحف لا يقاس عليه ثم قالوا لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وهذا تأكيد لما قبله
أما قوله تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَة ُ فتعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما وعن علي عليه السلام إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها قال صاحب ( الكشاف ) ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) والفساد لقارون لقوله وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ ( القصص القصص 77 ) ويقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبره علي بن أبي طالب عليه السلام
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَى ْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل لهم فقال مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وفيه وجوه أحدهما المعنى من جاء بالحسنة حصل له من تلك الكلمة خير وثانيها حصل له شيء هو أفضل من تلك الحسنة ومعناه أنهم يزادون على ثوابهم وقد مر تفسيره في آخر النمل وأما قوله وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فظاهره أن لا يزادوا على ما يستحقون وإذا صح ذلك في السيئات دل أن المراد في الحسنات بما هو خير منها ما ذكرناه من مزيد الفضل على الثواب قال صاحب ( الكشاف ) تقدير الآية ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون لكنه كرر ذلك لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ويجزي بالحسنة عشر أمثالها وههنا سؤالان
السؤال الأول قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) كرر ذلك الإحسان واكتفى بذكر الإساءة بمرة واحدة وفي هذه الآية كرر ذكر الإساءة مرتين واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة فما السبب الجواب لأن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في الزجر عن المعصية لائقة بهذا الباب لأن المبالغة في الزجر عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة وأما الآية الآخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى
السؤال الثاني كيف قال لا تجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد والجواب لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه قال الجبائي وهذا يدل على بطلان مذهب من يجوز على الله تعالى أن يعذب الأطفال عذاباً دائماً بغير جرم قلنا لا يجوز أن يفعله وليس في الآية ما يدل عليه ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة واستقصى في ذلك شرح له ما يتصل بأحواله فقال إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قال أبو علي الذي فرض عليك أحكامه وفرائضه لرادك بعد الموت إلى معاد وتنكير المعاد لتعظيمه كأنه قال إلى معاد وأي معاد أي ليس لغيرك من البشر مثله وقيل المراد به مكة ووجهه أن يراد برده إليها يوم الفتح ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن عظيم لاستيلاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفر والسورة مكية فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهراً ظافراً وقال مقاتل إنه عليه السلام خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه فنزل جبريل عليه السلام وقال تشتاق إلى بلدك ومولدك فقال عليه السلام نعم فقال جبريل عليه السلام فإن الله تعالى يقول إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ يعني إلى مكة ظاهراً عليهم وهذا أقرب لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل العود وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب قال أهل التحقيق وهذا أحد ما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ثم قال قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ووجه تعلقه بما قبله أن الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد قال قُلْ للمشركين رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ثم قال لرسوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ ففي كلمة إلا وجهان أحدهما أنها للاستثناء ثم قال صاحب ( الكشاف ) هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل ( وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) ويمكن أيضاً إجراؤه على ظاهره أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك أي ما كنت ترجو إلا على هذا والوجه الثاني أن إلا بمعنى لكن للاستدراك أي ولكن رحمة من ربك ألقى إليك ونظيره قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَة ً مّن رَّبِكَ ( القصص 46 ) خصصك به ثم إنه كلفه بأمور أحدها كلفه بأن لا يكون مظاهراً للكفار فقال فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لّلْكَافِرِينَ وثانيها أن قال وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ الميل إلى المشركين قال الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطراً من مالهم أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله وثالثها قوله وَادْعُ إِلَى رَبّكَ أي
إلى دين ربك وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين فلذلك قال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ورابعها قوله وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ وهذا وإن كان واجباً على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل التعظيم فإن قيل الرسول كان معلوماً منه أن لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة فما فائدة هذا النهي قلنا لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد ثم بين أنه لا إله إلا هو أي لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( المزمل 9 ) فلا يجوز اتخاذ إله سواء ثم قال كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به ومنهم من قال معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للعدم فكان قابلاً للهلاك فأطلق عليه اسم الهلاك نظراً إلى هذا الوجه
واعلم أن المتكلمين لما أرادوا إقامة الدلالة على أن كل شيء سوى الله تعالى يقبل العدم والهلاك قالوا ثبت أن العالم محدث وكل ما كان محدثاً فإن حقيقته قابلة للعدم والوجود وكل ما كان كذلك وجب أن يبقى على هذه الحالة أبداً لأن الإمكان من لوازم الماهية ولازم الماهية لا يزول قط إلا أنا لما نظرنا في هذه الدلالة ما وجدناها وافية بهذا الغرض لأنهم إنما أقاموا الدلالة على حدوث الأجسام والأعراض فلو قدروا على إقامة الدلالة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز أو قائم بالمتحيز لتم غرضهم إلا أن الخصم يثبت موجودات لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز فالدليل الذي يبين حدوث المتحيز والقائم بالمتحيز لا يبين حدوث كل ما سوى الله تعالى إلا بعد قيام الدلالة على نفي ذلك القسم الثالث ولهم في نفي هذا القسم الثالث طريقان أحدهما قولهم لا دليل عليه فوجب نفيه وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية والثاني قولهم لو وجد موجود هكذا لكان مشاركاً لله تعالى في نفي المكان والزمان والإمكان ولو كان كذلك لصار مثلاً لله تعالى وهو ضعيف لاحتمال أن يقال إنهما وإن اشتركا في هذا السلب إلا أنه يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية وحقيقة وإذا كان كذلك ظهر أن دليلهم العقلي لا يفي بإثبات أن كل شيء هالك إلا وجهه والذي يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول ثبت أن صانع العالم واجب الوجود لذاته فيستحيل وجود موجود آخر واجب لذاته وإلا لاشتركا في الوجوب وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بخصوصيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً عما به المشاركة وعما به الممايزة وكل مركب ممكن مفتقر إلى جزئه ثم إن الجزأين إن كانا واجبين كانا مشتركين في الوجوب ومتمايزين باعتبار آخر فيلزم تركب كل واحد منهما أيضاً ويلزم التسلسل وهو محال وإن لم يكونا واجبين فالمركب عنهما المفتقر إليهما أولى أن لا يكون واجباً فثبت أن واجب الوجود واحد وأن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح وافتقاره إلى المرجح إما حال عدمه أو حال وجوده فإن كان الأول
ثبت أنه محدث وإن كان الثاني فافتقار الموجود إلى المؤثر إما حال حدوثه أو حال بقائه والثاني باطل لأنه يلزم إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن الافتقار لا يحصل إلا حال الحدوث وثبت أن كل ما سوى الله تعالى محدث سواء كان متحيزاً أو قائماً بالمتحيز أو لا متحيزاً ولا قائماً بالمتحيز فإن نقضت هذه الدلالة بذات الله وصفاته فاعلم أن هناك فرقاً قوياً وإذا ثبت حدوث كل ما سواه وثبت أن كل ما كان محدثاً كان قابلاً للعدم ثبت بهذا البرهان الباهر أن كل شيء هالك إلا وجهه بمعنى كونه قابلاً للهلاك والعدم ثم إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا هذا أولى وذلك لأنه سبحانه حكم بكونها هالكة في الحال وعلى ما قلناه فهي هالكة في الحال وعلى ما قلتموه أنها ستهلك لا إنها هالكة في الحال فكان قولنا أولى وأيضاً فالممكن إذا وجد من حيث هو لم يكن مستحقاً لا للوجود ولا للعدم من ذاته فهذه الاستحقاقية مستحقة له من ذاته وأما الوجود فوارد عليه من الخارج فالوجود له كالثوب المستعار له وهو من حيث هو هو كالإنسان الفقير الذي استعار ثوباً من رجل غني فإن الفقير لا يخرج بسبب ذلك عن كونه فقيراً كذا الممكنات عارية عن الوجود من حيث هي هي وإنما الوجود ثوب حصل لها بالعارية فصح أنها أبداً هالكة من حيث هي هي أما الذين حملوه على أنها ستعدم فقد احتجوا بأن قالوا الهلاك في اللغة له معنيان أحدهما خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به الثاني الفناء والعدم لا جائز حمل اللفظ على الأول لأن هلاكها بمعنى خروجها عن حد الانتفاع محال لأنها وإن تفرقت أجزاؤها فإنها منتفع بها لأن النفع المطلوب كونها بحيث يمكن أن يستدل بها على وجود الصانع القديم وهذه المنفعة باقية سواء بقيت متفرقة أو مجتمعة وسواء بقيت موجودة أو صارت معدومة وإذا تعذر حمل الهلاك على هذا الوجه وجب حمله على الفناء أجاب من حمل الهلاك على التفرق قال هلاك الشيء خروجه عن المنفعة التي يكون الشيء مطلوباً لأجلها فإذا مات الإنسان قيل هلك لأن الصفة المطلوبة منه حياته وعقله وإذا تمزق الثوب قيل هلك لأن المقصود منه صلاحيته للبس فإذا تفرقت أجزاء العالم خرجت السموات والكواكب والجبال والبحار عن صفاتها التي لأجلها كانت منتفعاً بها انتفاعاً خاصاً فلا جرم صح إطلاق اسم الهالك عليها فأما صحة الاستدلال بها على الصانع سبحانه فهذه المنفعة ليست منفعة خاصة بالشمس من حيث هي شمس والقمر من حيث هو قمر فلم يلزم من بقائها أن لا يطلق عليها اسم الهالك ثم احتجوا على بقاء أجزاء العالم بقوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وهذا صريح بأن تلك الأجزاء باقية إلا أنها صارت متصفة بصفة أخرى فهذا ما في هذا الموضع
المسألة الثانية احتج أهل التوحيد بهذه الآية على أن الله تعالى شيء قالوا لأنه استثنى من قوله كُلّ شَى ْء استثناء يخرج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت اللفظ فوجب كونه شيئاً يؤكده ما ذكرناه في سورة الأنعام وهو قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) واحتجاجهم على أنه ليس بشيء بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والكاف معناه المثل فتقدير الآية ليس مثل مثله شيء ومثل مثل الله هو الله فوجب أن لا يكون الله شيئاً جوابه أن الكاف صلة زائدة
المسألة الثالثة استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين الأول قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه وذلك يقتضي الجسمية والثاني قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وكلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك لا يعقل إلا في الأجسام والجواب لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه
إلا الوجه وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة وهو بيان ابن سمعان وذلك لا يقول به عاقل ثم من الناس من قال الوجه هو الوجود والحقيقة يقال وجه هذا الأمر كذا أي حقيقته ومنهم من قال الوجه صلة والمراد كل شيء هالك إلا هو وأما كلمة إلى فالمعنى وإلى موضع حكمه وقضائه ترجعون
المسألة الرابعة استدلت المعتزلة به على أن الجنة والنار غير مخلوقتين قالوا لأن الآية تقتضي فناء الكل فلو كانتا مخلوقتين لفنيتا وهذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) والجواب هذا معارض بقوله تعالى في صفة الجنة أُعِدَّتْ ( آل عمران 133 ) وفي صفة النار الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 ) ثم إما أن يحمل قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ على الأكثر كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) أو يحمل قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ على أن زمان فنائهما لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائهما لا جرم أطلق لفظ الدوام عليه
المسألة الخامسة قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ يدل على أن الذات ذات بالفعل لأنه حكم بالهلاك على الشيء فدل على أن الشيء في كونه شيئاً قابل للهلاك فوجب أن لا يكون المعدوم شيئاً والله أعلم والحمد لله رب العالمين
سورة العنكبوت
مكية وقيل مدنية وقيل نزلت من أولها إلى رأس عشر بمكةوباقيها بالمدينة أو نزل إلى آخر العشر بالمدينة
وباقيها بمكة وبالعكس وهي سبعون أو تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
ال م أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
المسألة الأولى في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول لما قال الله تعالى قبل هذه السورة إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ( القصص 85 ) وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهراً غالباً على الكفار ظافراً طالباً للثأر وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة وَادْعُ إِلَى رَبّكَ ( القصص 87 ) وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ الوجه الثالث هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني ليس كل شيء هالكاً من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله إذا تبين هذا فاعليم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال فلا فائدة فيها فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه بل حسن التكليف ليثيب الشكور ويعذب الكفور فقال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم
المسألة الثانية في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه ثم يشرع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفعوم كقول القائل اسمع واجعل بالك إلى وكن لي وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم كان المقدم على المقصود أكثر ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد إذا ثبت هذا فنقول إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز والله أعلم بجميع الأشياء لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) الم اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 1 3 ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ( الأعراف 1 2 ) يس وَالْقُرْءانِ ( ي س 1 2 ) ص وَالْقُرْءانِ ( ص 1 ) ق وَالْقُرْءانِ ( ق 1 ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( السجدة 1 2 ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( الجاثية 1 2 ) إلا ثلاث سور كهعيص ( مريم 1 ) الضَّالّينَ الم أَحَسِبَ النَّاسُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( المزمل 5 ) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظاً أو لم يكن فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه وأيضاً فقد وردت سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وقوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا ( النور 1 ) وقوله تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( الفرقان 1 ) وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) لأنا نقول جواباً عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ط 1 2 ) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما وكتاب آخر يرد منه عليه فيه إنا كتبنا إليك كتباً إليك كتباً فيها أوامرنا فامتثلها لا شك
أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله الْحَمْدُ اللَّهِ وَتَبَارَكَ الَّذِى تسبيحات مقصودة وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر انزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل
وأما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فنقول هذا ليس وارداً على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ الهاء راجع إلى معلوم عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان متنبهاً له فلم ينبه واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى تَصِفُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) وقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( لأحزاب 1 ) عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ ( التحريم 1 ) لأنها أشياء هائلة عظيمة فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيهاً وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الإبتداء بالكتاب والقرآن وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( التوبة 16 ) ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور وهو أن هذا ابتداء كلام ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال أَحَسِبَ وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه وأما الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في الحروف
المسألة الثالثة في إعراب الم وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ههنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة
المسألة الرابعة في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال الأول أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث أنها نزلت في مهجع بن عبد الله قتل يوم بدر
المسألة الخامسة في التفسير قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية واختلف أئمة النحو في قوله أَن يَقُولُواْ فقال بعضهم أن يتركوا بأن يقولوا وقال بعضهم أن يتركوا يقولون آمنا ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك وهذا بعيد فإن الله لا يمنع أحداً من أن يقول آمنت ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم
المسألة السادسة في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى
في العبادة حصول محبة الله كما ورد في الخبر ( لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله لكن للقلب ترجمان وهو اللسان وللسان مصدقات هي الأعضاء ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل الله نفسه وماله وزكى بترك ما سواه أعماله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله فيحرر في جرائد المحبين اسمه ويقرر في أقسام المقربين قسمه وإليه الإشارة بقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين
فائدة ثانية وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلماً فإن ما دونه دركات الكفر فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضاً في شغله ماضياً في فعله فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة ومنهم من يكون كسلاناً متخلفاً فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه فكذلك عباد الله قد يكون المسلم عابداً مقبلاً على العبادة مقبولاً للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلاً بالخلاعة فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروماً ويلحق بأهل العناد مرجوماً ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله فقال الله بشارة للمطيع الناهض أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( المجادلة 11 ) فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً ( النساء 95 ) وقال بضده للكسلان أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني إذا قال آمنت ويتخلف بالعصيان يترك ويرضى منه لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم مِنَ بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وجوه الأول قول مقاتل فليرين الله الثاني فليظهرن الله الثالث فليميزن الله فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيداً مثلا سيطيع وعمراً سيعصي ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال وإنما
المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقاً عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقاً كذلك يبين وفي قوله الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل وقوله الْكَاذِبِينَ باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر الْكَاذِبِينَ بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) بلفظ اسم الفاعل وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما بين حسن التكليف بقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الإستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزاً عن العذاب عاجلاً فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الإستعجال
ثم قال تعالى سَاء مَا يَحْكُمُونَ يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة
ثم قال مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما بين بقوله أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى وبين في قوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو الله تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض فقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا ( العنكبوت 2 ) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( العنكبوت 2 3 ) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ مع قوله مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر
المسألة الثانية ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء الله أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر
المسألة الثالثة قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ من كان يخاف الله وهو أيضاً ضعيف فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل الله ولا يفهم منه أخاف فضل الله وإذا كان وارداً لهذا لا يكون لغيره دفعاً للاشتراك
المسألة الرابعة يمكن أن يكون المراد بأجل الله الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر فإن كان هو الموت فهذا ينبىء عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلاً بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء
المسألة الخامسة قوله مَن كَانَ يَرْجُو شرط وجزاؤه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له وهذا باطل فما الجواب عنه نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب يعني من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت بثواب الله يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتياً على وجه يثاب هو
المسألة السادسة قال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما وذلك لأنه سبق القول في قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ وسبق الفعل بقوله وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وبقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وبقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال ممن كذب وأيضاً عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة
وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد كما وصف في الخبر في وصف الجنة
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
لما بين أن التكليف حسن واقع وأن عليه وعداً وإيعاداً ليس لهما دافع بين أن طلب الله ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه فإنه غني مطلقاً ليس شيء غيره يتوقف كما له عليه ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ( فصلت 46 ) وقوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ ( الإسراء 7 وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية السابقة مع هذه الآية يوجبان إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له وذلك لأن من يفعل فعلاً لأجل ملك ويعلم أن الملك يراه ويبصره يحسن العمل ويتقنه وإذا علم أن نفعه له ومقدر بقدر عمله يكثر منه فإذا قال الله إنه سميع عليم فالعبد يتقن عمله ويخلصه له وإذا قال بأن جهاده لنفسه يكثر منه
المسألة الثانية لقائل أن يقول هذا يدل على أن الجزاء على العمل لأن الله تعالى لما قال مِنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ فهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح فنقول هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق وبيانه هو أن الله تعالى لما بين أن المكلف إذا جاهد يثيبه فإذا أتى به هو يكون جهاداً نافعاً له ولا نزاع فيه وإنما النزاع في أن الله يجب عليه أن يثيب على العمل لولا الوعد ولا يجوز أن يحسن إلى أحد إلا بالعمل ولا دلالة للآية عليه
المسألة الثالثة قوله فَإِنَّمَا يقتضي الحصر فينبغي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره وليس كذلك فإن من جاهد ينتفع به ومن يريد هو نفعه حتى أن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعان فنقول ذلك نفع له فإن انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر ههنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وفيه مسائل
الأولى تدل الآية على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه بالأصلح لا يستفيد فائدة وإلا لكان مستكملاً بتلك الفائدة وهي غيره وهي من العالم فيكون مستكملاً بغيره فيكون محتاجاً إليه وهو غني عن العالمين وأيضاً أفعاله غير معللة لما بينا
المسألة الثانية تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص فإنه من العالم والله غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز
العقل إدراك جسم لا في مكان وإنه محال
المسألة الثالثة لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجاً إلى قدرة هي غيره وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجاً وهو غني نقول لم قلتم إن قدرته من العالم وهذا لأن العالم كل موجود سوى الله بصفاته أي كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر والعلم ليس خارجاً عن مفهوم العالم
المسألة الرابعة الآية فيها بشارة وفيها إنذار أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنياً عن العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم وهذا يوجب الخوف العظيم وأما البشارة فلأنه إذا كان غنياً فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه وهذا يوجب الرجاء التام
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ
لما بين إجمالاً أن من يعمل صالحاً فلنفسه بين مفصلاً بعض التفصيل أن جزاء المطيع الصالح عمله فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنها تدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يوجب التغاير
المسألة الثانية أنها تدل على أن الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأن تكفير السيئات والجزاء بالأحسن معلق عليها وهي ثمرة الإيمان ومثال هذا شجرة مثمرة لا شك في أن عروقها وأغصانها منها والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان وأيضاً الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان
المسألة الثالثة الإيمان هو التصديق كما قال وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( يوسف 17 ) أي بمصدق واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال الله وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل إن علم مفصلاً أنه قول الله أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحاً بأمره ولو نهى عنه لما كان صالحاً فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح والمسألة بطولها في ( كتب ) الأصول
المسألة الرابعة العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض ولا يبقى بالعامل أيضاً لأنه هالك كما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق لكن الباقي هو وجه الله لقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحاً وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحاً فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصاً لله
المسألة الخامسة هذا يقتضي أن تكون النية شرطاً في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع لله ويندرج فيها النية في الصوم خلافاً لزفر وفي الوضوء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله
المسألة السادسة العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل ولهذا قدم الإيمان على العمل وههنا لطيفة وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب ) والتائب النادم بقلبه وكذلك قوله عليه السلام ( يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم ) يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله وحضر ذهنه فعلم أن لعمل القلب يأتي الله وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله وهذا تنبيه على فضل عمل القلب
المسألة السابعة ذكر الله من أعمال العبد نوعين الإيمان والعمل الصالح وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح وهذا يقتضى أموراً الأول المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يبعد أن يكون هو الرؤية
الأمر الثالث هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر الله عيوبه في الأخرى والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم والله أعلم
المسألة الثامنة قوله لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بأسرها من أين يكون لهم سيئة فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن وعد
الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء مثاله إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن إليكم لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه أو يحترم ابن من لم يولد له ولد بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب ويحترم ابن من له ابن فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ولهذا قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 )
المسألة التاسعة قوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ يحتمل وجهين أحدهما لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما لنجزينهم أحسن من أعمالهم وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي وعلى الوجه الثاني معناه قريب من معنى قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) وقوله فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ( النمل 89 )
المسألة العاشرة ذكر حال المسيء مجملاً بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا إشارة إلى التعذيب مجملاً وذكر حال المحسن مجملاً بقوله وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ومفصلاً بهذه الآية ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضاً للمكلف على الطاعة ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلاً عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله
المسألة الثانية في القراءة قرىء حسناً وإحساناً وحسناً أظهر ههنا ومن قرأ إحساناً فمن قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً البقرة 83 ) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن الله تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول ونكر حسناً ليدل على الكمال كما يقال إن لزيد مالاً
المسألة الثالثة في قوله وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين فاتباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة
المسألة الرابعة الإحسان بالوالدين مأمور به لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية
المعتادة فهما سبب مجازاً والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه ثم قال تعالى وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا فقوله مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلاً عن التقليد في الكفر فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلاً لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول فإذا لم يشرك تقليداً ويستحيل الشرك مع العلم فالشرك لا يحصل منه قط
ثم قال تعالى إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني عاقبتكم ومآلكم إلي وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر
ثم قوله تعالى فَأُنَبِئُكُم فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في إعادة الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مرة أخرى نقول الله تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتدياً وضالاً بقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) وذكر حال الضال مجملاً وحال المهتدي مفصلاً بقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هادياً ومضلاً فقوله وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بيان إضلالهما وقوله إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مرة لبيان حال المهتدي ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولاً لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وقال ثانياً لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( يوسف 101 )
المسألة الثانية قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه الله باق والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل
المسألة الثالثة قيل في معنى قوله لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء
المسألة الرابعة قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء وعالم السموات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك تراباً بخلاف الإنسان فإنه يصير تراباً أو شيئاً آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله تعالى لندخلهم في الصالحين أي في المجردين الذين لا فساد لهم
أي في المجردين الذين لا فساد لهم
وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده وكافر مجاهر بكفره وعناده ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده والله تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) وبين أحوالهما بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( العنكبوت 4 ) إلى قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العنبكوت 7 ) بين القسم الثالث وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ وقوله جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ وذلك لأن المنافق كان يشبه نفسه بالمؤمن ويقول إيماني كإيمانك فقال مِنَ يعني أنا والمؤمن حقاً آمنا إشعاراً بأن إيمانه كإيمانه وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلاناً واستقبلناه ينكر لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول مِنَ أي أنا والمحق
المسألة الثانية قوله فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ هو في معنى قوله وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( آل عمران 195 ) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( آل عمران 195 ) وقال ههنا أُوذِى َ فِى اللَّهِ ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان فلا يترك الله ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية والمؤمن أوذي ولم يترك
سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة
المسألة الثالثة قوله جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ قال الزمخشري جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديداً ولا يكون مديداً لأن العذاب إن كان شديداً كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب وإن كان مديداً كالحبس والحصر لا يكون شديداً وعذاب الله شديد وزمانه مديد وأيضاً عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع وأيضاً عذاب الناس عليه ثواب عظيم وعذاب الله بعده عذاب أليم والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذاباً كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذاباً
المسألة الرابعة قال فِتْنَة َ النَّاسِ ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحاناً من الإنسان كالصبر على العبادات
المسألة الخامسة لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازاً عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله فنقول ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في باطنه الإيمان ثم قال تعالى وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ( العنكبوت 10 ) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية وفيه فوائد نذكرها في مسائل
المسألة الأولى قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ ولم يقل من الله مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله أُوذِى َ فِى اللَّهِ وقوله كَعَذَابِ اللَّهِ وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة
المسألة الثانية لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن كما قال تعالى وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( الروم 47 ) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر في
الحال فالعاقبة للمتقين فالنصر لهم في الحقيقة
المسألة الثالثة في ليقولن قراءتان إحداهما الفتح حملاً على قوله مَن يِقُولُ ءامَنَّا يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما الضم على الجمع إسناداً للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم والمنافق وإن تكلم فقال وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وقد سبق تفسيره لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وقال ههنا وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن والكافر والكافر في قوله كاذب فإنه يقول الله أكثر من واحد والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول الله واحد ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر فكان الحاصل هناك قسمين صادقاً وكاذباً وكان ههنا المنافق صادقاً في قوله فإنه كان يقول الله واحد فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَى ْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
لما بين الله تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة وبين أن عذاب الله فوقها وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ولنحمل صيغة أمر والمأمور غير الآمر فكيف يصح أمر النفس من الشخص فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم قال صاحب ( الكشاف ) هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء فقوله ولنحمل أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب
المسألة الثانية قال وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ وقال بعد هذا وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ
( العنكبوت 13 ) فهناك نفى الحمل وههنا أثبت الحمل فكيف الجمع بينهما فنقول قول القائل فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزاراً بسبب إضلالهم ويحملون أوزاراً بسبب ضلالتهم كما قال النبي عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء )
المسألة الثالثة الصيغة أمر والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب فكيف يفهم قوله إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء فكأنهم قالوا إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئاً
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها كان قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ( العنكبوت 12 ) صادراً لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها أن قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ كان عن اعتقاد أن لا حشر فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق يالثواب العظيم وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك بل قبله كان كذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( العنكبوت 3 ) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما ثم قال تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في ذكر مدة لبثه نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحاً لبث ألف سنة تقريباً في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك وأيضاً كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم
المسألة الثانية قال بعض العلماء الاستثناء في العدد تكلم بالباقي فإذا قال القائل لفلان علي عشرة إلا ثلاثة فكأنه قال علي سبعة إذا علم هذا فقوله أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً كقوله تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها فنقول قال الزمخشري فيه فائدتان إحداهما أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب فإن من قال عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة تقريباً لا تحقيقاً فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ويفهم منه التحقيق الثانية هي أن ذكر لبث نوح عليه السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه السلام أولى بالصبر مع قصر مدة دعائه وإذا كان كذلك فذكر العدد الذي في أعلى مراتب الأعداد التي لها اسم مفرد موضوع فإن مراتب الأعداء هي الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف ثم بعد ذلك يكون التكثير بالتكرير فيقال عشرة آلاف ومائة ألف وألف ألف
المسألة الثالثة قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة والآية تدل على خلاف قولهم والعقل يوافقها فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته وإلا لما بقي ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام وإن كان غيره فله مؤثر وينتهي إلى الواجب وهو دائم فتأثيره يجوز أن يكون دائماً فأذن البقاء ممكن في ذاته فإن لم يكن فلعارض لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع فظهر أن كلامهم على خلاف العقل والنقل ( ثم نقول ) لا نزاع بيننا وبينهم لأنهم يقولون العمر الطبيعي لا يكون أكثر من مائة وعشرين سنة ونحن نقول هذا العمر ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي وأما العمر الطبيعي فلا يدوم عندنا ولا لحظة فضلاً عن مائة أو أكثر
قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
فيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم وإلا لعذب من ظلم وتاب فإن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم فقوله وَهُمْ ظَالِمُونَ يعني أهلكهم وهم على ظلمهم ولو كانوا تركوه لما أهلكهم
فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ وَجَعَلْنَاهَآ ءَايَة ً لِّلْعَالَمِينَ
في الراجع إليه الهاء في قوله جَعَلْنَاهَا وجهان أحدهما أنها راجعة إلى السفينة المذكورة وعلى هذا ففي كونها آية وجوه أحدها أنه اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحاً وإنباؤه إياه به لما اشتغل بها فلا تحصل لهم النجاة وثانيها أن نوحاً أمر بأخذ قوم معه ورفع قدر من القوت والبحر العظيم لا يتوقع أحد نضوبه ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة وثالثها أن الله تعالى كتب سلامة السفينة عن الرياح المرجفة والحيوانات المؤذية ولولا ذلك لما حصلت النجاة والثاني أنها راجعة إلى الواقعة أو إلى النجاة أي جعلنا الواقعة أو النجاة آية للعالمين
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما النصب وهو المشهور و الثاني الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم و الأول فيه وجهان أحدهما أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى اذكر إبراهيم والثاني أنه منصوب بمذكور وهو قوله وَلَقَدْ أَرْسَلنَا ( العنكبوت 14 ) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم وعلى هذا ففي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبله نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلاً وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج لكن لما كان الوقوف ممتداً إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال ولما كان هو مشتغلاً بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى وقوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله اعْبُدُواْ اللَّهَ إشارة إلى الاثبات وقوله وَاتَّقُوهُ إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في مكله يكون قد أتى بأعظم الجرائم ويمكن أن يقال اعْبُدُواْ اللَّهَ إشارة إلى الاتيان بالواجبات وقوله وَاتَّقُوهُ إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله وفي الثاني الامتناع من الشرك ثم قوله ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يعني عبادة الله وتقواه خير والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعطيم وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلاً واعتباراً أما عقلاً فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكناً قطعاً للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله وأما التشريك فبطلانه عقلاً وكون خلافه خيراً وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجباً فكيف يكون شريكاً وإن كان واجباً لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل وأما اعتباراً فلأن الشرف لن يكون ملكاً أو قريب ملك لكن الإنسان لا يكون ملكاً للسموات والأرضين فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( العلق 19 ) وقال ( لن يتقرب المتقربون إلى بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وقال ( لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي ) فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلاً وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور إما لكونه مستحقاً للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع وإما لكونه نافعاً في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة وإما لكونه نافعاً في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعاً منه أمراً في المستقبل وإما لكونه خائفاً منه فقال إبراهيم إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثاناً لا شرف لها
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل وهذا لأن النفع إما في الوجود وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق وليس منهم ذلك ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ فقوله اللَّهِ إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله الْرّزْقِ إشارة إلى حصول النفع منه عاجلاً وآجلاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نكرة وقال فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ معرفاً فما الفائدة فنقول قال الزمخشري قال لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) والرزق من الأوثان غير معلوم فقال لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لعدم حصول العلم به وقال فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ الموعود به ثم قال فَاعْبُدُوهُ أي اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي اعبدوه لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا غير
وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال وَإِن تُكَذّبُواْ وفي المخاطب في هذه الآية وجهان أحدهما أنه قوم إبراهيم والآية حكاية عن قوم إبراهيم كأن إبراهيم قال لقومه ءانٍ تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وأنا أتيت بما علي من التبليغ فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان والثاني أنه خطاب مع قوم محمد عليه السلام ووجهه أن الحكايات أكثرها إنما تكون لمقاصد لكنها تنسى لطيب الحكاية ولهذا كثيراً ما يقول الحاكي لأي شيء حكيت هذه الحكاية فالنبي عليه السلام كان مقصوده تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب فقال في أثناء حكايتهم يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام وأهلكوا فإن كذبتم أخاف عليكم ما جاء على غيركم وعلى الوجه الأول في الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ كيف يفهم مع أن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمة واحدة والجواب عنه من وجهين أحدهما أن قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم والثاني أن نوحاً عاش ألفاً وأكثر وكان القرن يموت ويجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الاتباع فكفى بقوم نوح أمماً
المسألة الثانية ما الْبَلَاغُ وما الْمُبِينُ فنقول البلاغ هو ذكر المسائل والإبانة هي إقامة البرهان عليه
المسألة الثالثة الآية تدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فإنه لم يأت بالبلاغ المبين فلا يكون آتياً بما عليه
أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِى ءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
لما بين الأصل الأول وهو التوحيد وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر وقد ذكرنا مراراً أن الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها عن بعض في الذكر الإلهي فأينما يذكر الله تعالى منها اثنين يذكر الثالث وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ فنقول المراد العلم الواضح الذي كالرؤية والعاقل بعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول فهو من الله هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولاً وبالإعادة خلق ثانياً فنقول العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام فذلك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية وقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أي ألم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ يخلقه من تراب يجمعه فكذبك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم فإن من نحت حجارات ووضع شيئاً بجنب شيء ففرقه أمر ما فإنه يقول وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل علي لأن الحجارات منحوتة ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى وعلى هذا المخرج خرج كلام الله في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ ( الروم 27 ) وإليه الإشارة بقوله إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
المسألة الثانية قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال أو لم يروا أن الله خلق أو بدأ الخلق والكيفية غير معلومة فنقول هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يكن شيئاً مذكوراً وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة فإن الإعادة مثله
المسألة الثالثة لم قال ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فأبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل إن ذلك عليه يسير كما قال ثم يعيده من غير إبراز نقول مع إقامة البرهان على أنه يسير فأكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكون ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحي القادر بقدرة كاملة لا يعجزه شيء العالم بعلم محيط بذرات كل جسم نافذ الإرادة لا رادَّ لما أراده يقطع بجواز الإعادة
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِى ءُ النَّشْأَة َ الاٌّ خِرَة َ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي وهو الحاصل من غير طلب فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ على سبيل الاستفهام بمعنى استبعاد عدمه وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئاً من غير تعليم وإقامة برهان له وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة وبعضهم لا يفهمه أصلاً فقال إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض أي سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال في الآية الأولى بلفظ الرؤية وفي هذه بلفظ النظر ما الحكمة فيه نقول العلم الحدسي أتم من العلم الفكري كما تبين والرؤية أتم من النظر لأن النظر يفضي إلى الرؤية يقال نظرت فرأيت والمفضي إلى الشيء دون ذلك الشيء فقال في الأول أما حصلت لكم الرؤية فانظروا في الأرض لتحصل لكم الرؤية
المسألة الثانية ذكر هذه الآية بصيغة الأمر وفي الآية الأولى بصيغة الاستفهام لأن العلم الحدسي إن حصل فالأمر به تحصيل الحاصل وإن لم يحصل فلا يحصل إلا بالطلب لأن بالطلب يصير الحاصل فكرياً فيكون الأمر به تكليف ما لا يطاق وأما العلم الفكري فهو مقدور فورد الأمر به
المسألة الثالثة أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال ثُمَّ اللَّهُ لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البدء فقال يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ ثم قال ثُمَّ يُعِيدُهُ كما يقول القائل ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسنداً إلى الله فاكتفى به ولم يبرزه كقوله القائل أما علمت كيف خرج زيد اسمع مني كيف خرج ولا يظهر اسم زيد وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً حيث قال ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء مع أنه كان يكفي أن يقول ثم ينشيء النشأة الآخرة فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسماً من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال الله مظهراً مبرزاً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال
قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته فإن قيل فلم لم يقل ثم الله يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة نقول لوجهين أحدهما أن الله كان مظهراً مبزراً بقرب منه وهو في قوله كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن مذكوراً عند البدء فأظهره وثانيهما أن الدليل ههنا تم على جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ وعندهما تم الدليلان فأكده بإظهار اسمه وما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل ثم الله يعيده
المسألة الرابعة في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء وههنا قال بلفظ الماضي فقال فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ولم يقل كيف يبدأ فنقول الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق فقال إن كان ليس لكم علم بأن الله في كل حال يبدأ خلقاً فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقاً ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشيء كما بدأ ذلك
المسألة الخامسة قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وقال في الآية الأولى إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وفيه فائدتان إحداهما أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى الله ووجوده منه وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه فتم علمه بأن كل شيء من الله فقال عند تمام ذكر الدليلين إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وقال عند الدليل الواحد إِنَّ ذالِكَ وهو إعادته عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الثانية هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم وكون الأمر يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير فنقول قال الله تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلاً وحكمة وإثابة أهل الإنابة فضلاً ورحمة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام
حاكياً عنه ( سبقت رحمتي غضبي ) فنقول ذلك لوجهين أحدهما أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة وكما ذكر بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد التهديد بقوله وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ ( العنبكوت 18 ) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب وذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا يحقق قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه
المسألة الثانية إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله يُعَذّبُ مَن يَشَاء لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه فنقول هذا أبلغ في التخويف وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى ولنضرب له مثلاً فنقول إذا قيل إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال من خالفني أضربه يحصل الخوف التام لمن يخالفه وإذا قيل إنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين فإذا قال من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع فلا يقدر علي أيضاً لكوني مثله وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً
المسألة الثالثة قال ثُمَّ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين فقال تعالى فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم ولهذا قال بعدها وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ يعني لا تفوتون الله بل الانقلاب إليه ولا يمكن الإنفلات منه وفي تفسير هذه الآية لطائف إحداها هي إعجاز المعذب عن التعذيب إما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع وذكر الله القسمين فقال وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله فلا مطمع في الإعجاز بالهرب وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال فإنكم مالكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز لا بالهروب ولا بالثبات الثانية قال وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية فإن من قال إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط الثالثة قدم الأرض على السماء والولي على النصير لأن هربهم الممكن في الأرض فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره والشفاعة أجمل ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَائِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ إشارة إلى الكفار بالله فإن لله في كل شيء آية دالة على وحدانيته فإذا أشرك كفر بآيات الله وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء الله فقال أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى لما أركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلاً للرحمة فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة الله ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقاً للأمر عليهم وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر ثم إن في الآية فوائد إحداها قوله أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ حتى يكون منبئاً عن حصر الناس فيهم وقال أيضاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لذلك ولو قال أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله أُوْلَائِكَ مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحداً منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاماً لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة أضاف اليأس إليهم بقوله أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر بالله واعترف بالحشر أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن بالله فنقول معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمناً بالله لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كيف سمى قولهم اقْتُلُوهُ جواباً مع أنه ليس بجواب فنقول ( الجواب عنه ) من وجهين أحدهما أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابله بالجواب وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه الثاني هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات أما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه
المسألة الثانية القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضاً هم فيكون الآمر نفس المأمور فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع
المسألة الثالثة لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد ويقال هذا إنسان أو حيوان يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان ولا يصح أن يقال هذا حيوان أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون أَوْ مستعملا في موضع بل كما يقول القائل أعطيته ديناراً أو دينارين وكما يقول القائل أعطه ديناراً بل دينارين قال الله تعالى قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( المزمل 2 4 ) فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه الجواب الثاني هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله
ثم قال تعالى فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ اختلف العقلاء في كيفية الإنجاء بعضهم قال برد النار وهو الأصح الموافق لقوله تعالى قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً ( الأنبياء 69 ) وبعضهم قال خلق في إبراهيم كيفية استبرد معها النار وقال بعضهم ترك إبراهيم على ما هو عليه والنار على ما كانت عليه ومنع أذى النار عنه والكل ممكن والله قادر عليه وأنكر بعض الأطباء الكل أما سلب الحرارة عن النار قالوا الحرارة في النار ذاتية كالزوجية في الأربعة لا يمكن أن تفارقها وأما خلق كيفية تستبرد النار فلأن المزاج الإنساني له طرفا تفريط وإفراط فلو خرج عنهما لا يبقى إنساناً أو لا يعيش مثلا المزاج إن كان البارد فيه عشرة أجزاء يكون إنساناً
فإن صار أحد عشر لا يكون إنساناً وإن صارت الأجزاء الباردة خمسة يبقى إنساناً فإذا صارت أربعة لا يبقى إنساناً لكن البرودة التي يستبرد معها النار مزاج السمندل فلو حصل في الإنسان لمات أو لكان ذلك فإن النفس تابعة للمزاج وأما الثالث فمحال أن تكون القطنة في النار والنار كما هي والقطنة كما هي ولا تحترق فنقول الآية رد عليهم والعقل موافق للنقل أما الأول فلوجهين أحدهما أن الحرارة في النار تقبل الاشتداد والضعف فإن النار في الفحم إذا نفخ فيه يشتد حتى يذيب الحديد وإن لم ينفخ لا يشتد لكن الضعف هو عدم بعض من الحرارة التي كانت في النار فإذا أمكن عدم البعض جاز عدم بعض آخر من ذلك عليها إلى أن ينتهي إلى حد لا يؤذي الإنسان ولا كذلك الزوجية فإنها لا تشتد ولا تضعف والثاني وهو أن في أصول الطب ذكر أن النار لها كيفية حارة كما أن الماء له كيفية باردة لكن رأينا أن الماء تزول عنه البرودة وهو ماء فكذلك النار تزول عنها الحرارة وتبقى ناراً وهو نور غير محرق وأما الثاني فأيضاً ممكن وقولهم مدفوع من وجهين أحدهما منع أصلهم من كون النفس تابعة للمزاج بل الله قادر على أن يخلق النفس الإنسانية في المزاج الذي مثل مزاج الجمد وثانيهما أن نقول على أصلكم لا يلزم المحال لأن الكيفية التي ذكرناها تكون في ظاهر كالأجزاء الرشية عليه ولا يتأدى إلى القلب والأعضاء الرئيسة ألا ترى أن الإنسان إذا مس الجمد زماناً ثم مس جمرة نار لا تؤثر النار في إحراق يده مثل ما تؤثر في إحراق يد من أخرج يده من جيبه ولهذا تحترق يده قبل يد هذا فإذا جاز وجود كيفية في ظاهر جلد الإنسان تمنع تأثير النار فيه بالإحراق زماناً فيجوز أن تتجدد تلك الكيفية لحظة فلحظة حتى لا تحترق وأما الثالث فمجرد استبعاد بيان عدم الاعتياد ونحن نسلم أن ذلك غير معتاد لأنه معجز والمعجز ينبغى أن يكون خارقاً للعادة
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني في إنجائه من النار لآيات وهنا مسائل
المسألة الأولى قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة جَعَلْنَاهَا ءايَة ً ( العنكبوت 15 ) وقال ههنا لاَيَاتٍ بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام الله إياه بالاتخاذ وقت الحاجة فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب وبسبب أن الله صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه آيات
المسألة الثانية قال هناك لّلْعَالَمِينَ إِنَّ ( الأنبياء 91 ) وقال ههنا لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد وأما تبريد النار ( فإنه ) لم يبق فلم يظهر لمن يعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق وفيه لطيفة وهي أن الله لما برد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه وقد قال الله للمؤمنين بأن لهم أسوة حسنة في إبراهيم فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة فقال إن في ذلك التبريد لآيات لقوم يؤمنون
المسألة الثالثة قال هناك جَعَلْنَاهَا وقال ههنا جَعَلْنَاهُ لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح سفها فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه فليس هذا إلا تقليداً فإن بين بعضكم وبعض مودة فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق وهو أن يقال قوله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مَّوَدَّة َ بَيْنِكُمْ أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم ولا يمينهم ولا يسارهم ولا قدامهم ولا وراءهم ولا يكون جسماً من الأجسام ولا شيئاً يدخل في الأوهام ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان ثم قال تعالى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضاً ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ثم قال تعالى وَمَا لَكُمْ مّن نَّاصِرِينَ يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم وههنا مسائل
المسألة الأولى قال قبل هذا وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( التوبة 116 ) على لفظ الواحد وقال ههنا على لفظ الجمع وَمَا لَكُمْ مّن نَّاصِرِينَ والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( الأنبياء 68 ) فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم أي للأوثان وعبدتها من ناصرين وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله وَلاَ نَصِيرٍ
المسألة الثانية قال هناك مَالَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ وما ذكر الولي ههنا فنقول قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء كما قال تعالى عنهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا ( يونس 18 ) والشفيع لا يكون له شفيع فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى
المسألة الثالثة قال هناك مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ اللَّهِ فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصراً وولياً هو الله وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا مَا لَكُم مّنْ نَّاصِرِينَ من غير استثناء فنقول كان ذلك وارداً على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم بل الله تعالى ينصركم إن تبتم فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقاً
فَأامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يعني لما رأى لوط معجزته آمن وقال إبراهيم إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى أي إلى حيث أمرني بالتوجه إليه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعزته وحكيم لا يأمرني إلا بما يوافق لكمال حكمته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ أي بعد ما رأى منه المعجز القاهر ودرجة لوط كانت عالية وبقاؤه إلى هذا الوقت مما ينقص من الدرجة ألا ترى أن أبا بكر لما قبل دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكان نير القلب قبله قبل الكل من غير سماع تكلم الحصى ولا رؤية انشقاق القمر فنقول إن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته وإما بالوحدانية فآمن حيث سمع حسن مقالته وإليه أشار بقوله فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وما قال فآمن لوط
المسألة الثانية ما تعلق قوله وقال إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى بما تقدم فنقول بما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى وَلَمْ يُؤْمِنُواْ وجبت المهاجرة لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع به مع علمه فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث أو يسكت والسكوت دليل الرضا فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة
المسألة الثالثة قال مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى ولم يقل مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة فنقول قوله مُهَاجِرٌ إلى حيث أمرني ربي ليس في الاخلاص كقوله إِلَى رَبّى لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى الموضع الفلاني ثم إن واحداً منهم سافر إليه لغرض ( في ) نفسه يصيبه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه فقال مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى يعني توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة إنما هو طلب لله
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى لاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 7 ) أن أثر رحمة الله في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعاً بحكم وعد الله نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا فإن كثيراً ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( وقنا عذاب الفقر والنار ) فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل وأما الثواب العاجل ففي قوله رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً ( البقرة 201 ) إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع الله عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم عى التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب أعطاه الجزاء الآخر وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وفي الآية لطيفة وهي أن الله بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيداً فريداً فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل الله فيهم النبوة والكتاب وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه الله أجره من المال والجاه فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد إن كان خاملاً حتى قال قائلهم سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ( الأنبياء 60 ) وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس ثم إن الله تعالى قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجاً ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين فإن كون العبد صالحاً أعلى مراتبه لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي يقال الطعام بعد صالح أي هو باق على ما ينبغي ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين وكان قد أسلم لأمر الله بالذبح وانقاد لحكم الله فلم لم يذكر فيقال هو مذكور في قوله وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّة َ ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر ومن الأحفاد واحداً وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل
بالذكر فيظن أنه ليس معه غير المذكورين
المسألة الثانية أن الله تعالى جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه والوالد يستحب منه أن يسوى بين ولديه فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل فنقول الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين والناس أجمعين فالقسم الأول من الزمان بعث الله فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤا تترى واحداً بعد واحد ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة اسحاق عليه السلام ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر وهو إسماعيل واحداً جمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعله خاتم النبيين وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة فلا يبعد أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ
الإعراب في لوط والتفسير كما ذكرنا في قوله وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ( العنكبوت 16 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى قال إبراهيم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ وقال عن لوط ههنا أنه قال لقومه لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ فنقول لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم وكان لوط في زمان إبراهيم لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع أن الرسول لا بد من أن يقول ذلك فنقول حكاية لوط وغيرها ههنا ذكرها الله على سبيل الاختصار فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( الأعراف 59 ) لأن ذلك كان قد أتى به إبراهيم وسبقه فصار كالمختص به ولوط يبلغ ذلك عن إبراهيم وأما المنع من عمل قوم لوط كان مختصاً بلوط فإن إبراهيم لم يظهر ذلك ( في زمنه ) ولم يمنعهم منه فذكر كل واحد بما اختص به وسبق به غيره
المسألة الثانية لم سمى ذلك الفعل فاحشة فنقول الفاحشة هو القبيح الظاهر قبحه ثم إن الشهوة والغضب صفتا قبح لولا مصلحة ما كان يخلقهما الله في الإنسان فمصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد وبقائه بعد الأب فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول لكن الزنا قضاء شهوة ولا يفضي إلى بقاء النوع لأنا بينا أن البناء بالوجود وبقاء الولد بعد الأب لكن الزنا وإن كان يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه لأن المياه إذا
اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته والإنفاق عليه فيضيع ويهلك فلا يحصل مصلحة البقاء فاذن الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة وإذا كان الزنا فاحشة مع أنه يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه فاللواطة التي لا تفضي إلى وجوده أولى بأن تكون فاحشة
المسألة الثالثة الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة لأنها مع الزنا اشتركت في كونهما فاحشة حيث قال الله تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( الإسراء 32 ) واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه فما شرع زاجراً هناك يشرع زاجراً ههنا وهذا وإن كان قياساً إلا أن جامعه مستفاد من الآية ووجه آخر وهو أن الله جعل عذاب من أتى بها إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم حجارة عاجلاً فوجب أن يعذب من أتى به بإمطار الحجارة به عاجلاً وهو الرجم وقوله مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ يحتمل وجهين أحدهما أن قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح وهذا ظاهر والثاني أن قبلهم ربما أتى به واحد في الندرة لكنهم بالغوا فيه فقال لهم ما سبقكم بها من أحد كما يقال إن فلاناً سبق البخلاء في البخل وسبق اللئام في اللؤم إذا زاد عليهم ثم قال تعالى أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ بياناً لما ذكرنا يعنى تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع حتى يظهر أنه قبيح لم يستر قبحه مصلحة وحينئذ يصير هذا كقوله تعالى أَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَة ً مّن دُونِ النّسَاء ( ) يعنى إتيان النساء شهوة قبيحة مستترة بالمصلحة فلكم دافع لحاجتكم لا فاحشة فيه وتتركونه وتأتون الرجال شهوة مع الفاحشة وقوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ يعني ما كفاكم قبح فعلكم حتى تضمون إليه قبح الإظهار وقوله فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ في التفسير كقوله في قصة إبراهيم وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال قوم إبراهيم اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ ( العنكبوت 24 ) وقال قوم لوط ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ وما هددوه مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط فإن لوطاً كان من قومه فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى والقدح في الدين صعب فجعلوا جزاءه القتل والتحريق ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم فقالوا إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب فإن كنت صادقاً فأتنا بالعذاب فإن قيل إن الله تعالى قال في موضع آخر فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ ( النمل 56 ) وقال ههنا فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا فكيف الجمع فنقول لوط كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً عليهم التغيير والنهي والوعيد فقالوا أولا ائتنا ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله وذكرهم بما لا يحب الله فَقَالَ رَبّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ فإن الله لا يحب المفسدين حتى ينجز النصر
واعلم أن نبياً من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 ) يعني المصلحلة إما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا
مصلحة فيهم فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله بطلت المصلحة حالا ومآلا فعدمهم صار خيراً فطلب العذاب
وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
لما دعا لوط على قومه بقوله رَبّ انصُرْنِى استجاب الله دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ يعني أهل سدوم وفي الآية لطيفتان إحداهما أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب ورحمته سبقت غضبه فقدم البشارة على الإنذار وقال جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى ثم قال أَنَاْ الثانية حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل وحين ذكروا الإهلاك عللوا وقالوا الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم وفيه مسألتان
المسألة الأولى لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه
المسألة الثانية قال في قوم نوح فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ( العنكبوت 14 ) وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين وههنا قال إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ولم يقل وإنهم ظالمون فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال فَأَخَذَهُمْ وكانوا ظالمين فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا إنا مهلكوا فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك فقالوا أَنَاْ لأن الله أمرنا وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين فحسن أمر الله عند كل أحد وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله باهلاكهم بياناً لحسن الأمر وأما
أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطاً إشفاقاً عليه ليعلم حاله أو لأن الملائكة لما قالوا أَنَاْ وكان إبراهيم يعلم أن الله لا يهلك قوماً وفيهم رسوله فقال تعجباً إن فيهم لوطاً فكيف يهلكون فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها يعني نعلم أن فيهم لوطاً فلننجينه وأهله ونهلك الباقين وههنا لطيفة وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير أعني إبراهيم والملائكة وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيراً أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة أَنَاْ أظهر الاشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحاً وقال قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ( العنكبوت 32 ) ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه وقالوا إنك ذكرت لوطاً وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله ثم استثنوا من الأهل امرأته وقالوا إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ أي من المهلكين وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة فقالت الملائكة إنها من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى الله على القوم بالإهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطاً وأهله وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك
وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَة ً بَيِّنَة ً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعاً كناية عن العجز في تدبيرهم قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً معقولاً غير ذلك وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال
اتسع ذرعه ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى قال من قبل وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ ( العنكبوت 31 ) وقال ههنا وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا فما الحكمة فيه فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجىء هناك قول الملائكة أَنَاْ وهو لم يكن متصلاً بمجيئهم لأنهم بشروا أولاً ولبثوا ثم قالوا إنا مهلكوا وأيضاً فالتأني واللبث بعد المجىء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئاً من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير إذا علم هذا فقوله ههنا الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا يفيد الاتصال يعني خاف حين المجىء فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود وقال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً من غير أن فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى فقوله هنالك وَلَقَدْ جَاءتْ لا يدل على أن قولهم أَنَّا أَرْسَلْنَا كان في وقت المجىء وقوله وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ دل على أن حزنه كان وقت المجىء إذا علم هذا فنقول هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام ثم قالوا لاَ تَخَفْ ولا تحزن إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فحصل تأخير الإنذار وبقوله في حكاية لوط وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا حصل بيان تعجيل الحزن وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم وَلَمَّا جَاءتْ قال في حكاية لوط وَلَمَّا أَن جَاءتْ لما ذكرنا من الفائدة
المسألة الثانية قال هنا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وقال لإبراهيم لَنُنَجّيَنَّهُ بصيغة الفعل فهل فيه فائدة قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم إِنَّ فِيهَا لُوطاً وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا إِنَّا مُنَجُّوكَ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) لضرورة وقوعه
المسألة الثالثة قولهم لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ لا يناسبه إِنَّا مُنَجُّوكَ لأن خوفه ما كان على نفسه نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن وهي أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ثم قالوا له يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
المسألة الرابعة القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت واحدة منهم ثم إنهم بعد بشارة
لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ رِجْزاً مّنَ السَّمَاء واختلفوا في ذلك فقال بعضهم حجارة وقيل نار وقيل خسف وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا إِنَّا مُنَجُّوكَ ثم قالوا إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ ولم يعللوا التنجية فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد وعللوا الإهلاك بقولهم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقالوا بما كانوا كما قالوا هناك إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ( العنكبوت 31 ) ثم قال تعالى وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءايَة ً بَيّنَة ً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل
المسألة الأولى جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً ( العنكبوت 15 ) وقال فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاَيَاتٍ ( العنبكوت 24 ) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء نقول نعم أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة
المسألة الثانية قال في السفينة وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم
المسألة الثالثة قال هناك للعالمين وقال ههنا لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله تعالى طلباً للنجاة وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ واختلف المفسرون في مدين فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه واشتهر في القوم والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ ( القصص 23 ) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة وقوله أَخَاهُمْ قيل لأن شعيباً كان منهم نسباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الله تعالى في نوح وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ( العنبكوت 14 ) قدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولاً إلى غير معين وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً وقال وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( الأعراف 65 )
المسألة الثانية لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد وذكر عن شعيب ذلك قلنا قد ذكرنا أن لوطاً كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها وإن كان هو أيضاً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلاً أيضاً في التوحيد فدأبه وقال اعْبُدُواْ اللَّهَ
المسألة الثالثة الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ فنقول هذا الأمر يفيد التوحيد وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيداً وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد فإذا قال له أخدم عمراً يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه وكذا إذا كان لواحد دينار واحد وهو يريد أن يعطيه زيداً فإذا قيل له أعطه عمراً يفهم منه لا تعطه زيداً فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب اعْبُدُواْ اللَّهَ ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد ثم قال وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ قال الزمخشري معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلاً ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً وقوله وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ فيه مسائل
المسألة الأولى هذا يدل على صحة مذهبنا فإن عندنا من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلاً ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر ومن
شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده وإن زاده يكون إحساناً منه إليه وإنعاماً عليه فنقول قوله وَارْجُواْ الْيَوْمَ بعد قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به
المسألة الثانية قال وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاْخِرَ ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال اعْبُدُواْ ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا وأما في الآخرة فتكفرون بها وقال ههنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا وارجوا اليوم الآخر واعملوا له ثم قال وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائماً أي قياماً ويكون قوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ كقول القائل إجلس قعوداً لأن العيث والفساد بمعنى وجمع الأوامر والنواهي في قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين فحكى الله عنهم ذلك بقوله فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما حكي عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت فنقول كان شعيب يقول الله واحد فاعبدوه والحشر كائن فارجوه والفساد محرم فلا تقربوه وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به
المسألة الثانية قال ههنا وفي الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ وقال في هود فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ ( الحجر 73 ) والحكاية واحدة نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة إما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب إذ يصح أن يقال روى فقوي وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة
المسألة الثالثة حيث قال فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ قال فِى دِيَارِهِمْ وحيث قال فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ قال فِي دَارِهِمْ فنقول المراد من الدار هو الديار والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس وإنما اختلف اللفظ للطيفة وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم
وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ
ثم قال تعالى وَعَاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا عاداً وثمود لأن قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ دل على الإهلاك وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مَّسَاكِنِهِمْ الأمر وما تعتبرون منه ثم بين سبب ما جرى عليهم فقال وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فقوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ يعني عبادتهم لغير الله فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني عبادة الله وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ يعني بواسطة الرسل يعني فلم يكن لهم في ذلك عذر فإن الرسل أوضحوا السبل ثم قال تعالى وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ عطفاً عليهم أي وأهلكنا قارون وفرعون وهامان
ثم قال تعالى وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُّوسَى بِالْبَيّنَاتِ كما قال في عاد وثمود وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ أي بالرسل ثم قال تعالى فَاسْتَكْبَرُواْ أي عن عبادة الله وقوله فِى الاْرْضِ إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين ومن في السماء أقواهم ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته فكيف ( يستكبر ) من في الأرض ثم قال تعالى وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ أي ما كانوا يفوتون الله لأنا بينا في قوله تعالى وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( العنبكوت 22 ) أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة الله
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَة ُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
ذكر الله أربعة أشياء العذاب بالحاصب وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء
ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب والعذاب بالإغراق وهو بالماء فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سبباً لعدمه وما به بقاؤه سبباً لفنائه ثم قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني لم يظلمهم بالهلاك وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
لما بين الله تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده مثل اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً لا يجير آوياً ولا يريح ثاوياً وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال فنقول فيه وجوه الأول أن البيت ينبغي أن يكون له أمور حائط حائل وسقف مظل وباب يغلق وأمور ينتفع بها ويرتفق وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين إما حائط حائل يمنع من البرد وإما سقف مظل يدفع عنه الحر فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء الثاني هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضاً الهواء والماء والنار والتراب والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئاً يظل ويدفع حر الشمس لكن بيت العنكبوت لا يظل فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه الثالث أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتاً يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب
المسألة الثانية مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتاً ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما أن نسجه فيه فائدة له لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتاً أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتاً وكلاهما باطل
المسألة الثالثة كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباءً منثوراً فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 )
المسألة الرابعة قال مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضاً فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ ولياً غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتاً
ثم إنه تعالى قال وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون
إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر فَكَذَلِكَ عَمَلَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَى ْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
قال الزمخشري هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية وهو صحيح والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل إني أعلم أن الله واحد حق يعني أعلم هذه الجملة وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي فقال الله تعالى الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود
إلا الله ولا إله سواه
وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ
قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب
ثم قال تعالى وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ
يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله وفساد عبادة ما عداه وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهراً وكون المدرك عاقلاً ولا يحتاج إلى كونه عالماً بأشياء قبله وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم ثم إنه قد يكون دقيقاً في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالماً إذا علم هذا فقوله وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ يعني هو ضرب للناس أمثالاً وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصاً فيها عبر وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر وبين ضعف دليلهم بالتمثيل ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل وحصل يأس الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّلْمُؤْمِنِينَ
يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكاً في صحة دينكم ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم فإن خلق الله السموات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السموات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) وقال الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى أَن قَالَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) فنقول خلق السموات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب وبيانه من حيث النقل والعقل أما النقل فقوله تعالى مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
( الدخان 39 ) أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الاْرْضِ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات والأرض ويعلم أن لهما خالقاً وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك بل يقول إنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله بِالْحَقّ لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلاً وإذا علم أنه خلقهما متقناً يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله
اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ إِنَّ الصَّلَواة َ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال اتْلُ وما قال عليهم لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتاباً فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال وكثيراً ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب ويكون نصب الأعين فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضاً لنفس المتكلم فإن كثيراً ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ حتى يكاد يبكي من رقته دماً ولو أورثه البكاء عمى إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة
المسألة الثانية لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فنقول لوجهين أحدهما أن الله لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من الله إلى الخلق فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلى وأقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئاً لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمراً والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلاً له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره لكن الذكر ممكن التكرار والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال أتل الكتاب وأقم الصلاة
المسألة الثالثة كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن وهو ينهى أي فيه النهي عنهما وهو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ بعيد من الفهم وقال بعضهم أراد به نفس الصلاة وهي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا وإلا لا يكون مدحاً كاملاً للصلاة لأن غيرها من الأشغال كثيراً ما يكون كذلك كالنوم في وقته وغيره فنقول المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقاً وعلى هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور وهي تنهى حتى نقل عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعداً ) ونحن نقول الصلاة الصحيحة شرعاً تنهى عن الأمرين مطلقاً وهي التي أتى بها المكلف لله حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعاً وتجب عليه الإعادة وهذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة والتبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته الله وغيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول هو أن من كان يخدم ملكاً عظيم الشأن كثير الإحسان ويكون عنده بمنزلة ويرى عبداً من عباده قد طرده طرداً لا يتصور قبوله وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله يستحيل من ذلك المقرب عرفاً أن يترك خدمة الملك ويدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى لله صار عبداً له وحصل له منزلة المصلي يناجي ربه فيستحيل منه أن يترك عبادة الله ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود لكن مرتكب
الفحشاء والمنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر الثاني هو أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات وكلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه وهو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفاً فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي الله واضع يمينه على شماله على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة ولباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفخشاء والمنكر ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه منصباً له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة الله ولم يبق بحكم نفسه وصار له مقام معين إذ صار من أصحاب اليمين فلو أراد أن يقف في غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال لا يترك لكن مرتكب الفحشاء والمنكر من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة الله يعني من صلى عصمه الله عن الفحشاء والمنكر الرابع وهو موافق لما وردت به الأخبار وهو أن من يكون بعيداً عن الملك كالسوقي والمنادي والمتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس والرواس ويجلس مع أحباش الناس فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحداً من الجندارية والقواد والسواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله فإذا زادت قربته وارتفعت منزلته حتى صار أميراً حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخلان كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( العلق 19 ) فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلاً عن الكبائر وفي الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول وهو أن المراد من قوله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هو أنها تنهى عن التعطيل والإشراك والتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح لكن وجود الله أظهر من الشمس وما من شيء إلا وفيه آية على الله ظاهرة وإنكار الظاهر ظاهر الإنكار فالقول بأن لا إله قبيح والإشراك منكر وذلك لأن الله تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفساً إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ ( المجادلة 2 ) فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات الله وينسب إلى من لم يلد ولا يجوز أن يكون له ولد ولداً كيف لا يكون قوله منكراً فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء وهذا المنكر وذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول الله أكبر فبقوله الله ينفي التعطيل وبقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال بسم الله نفى التعطيل وإذا قال الرحمن الرحيم نفى الإشراك لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة والرحيم من يعطي البقاء بالرزق بالرحمة فإذا قال الحمد لله رب العالمين أثبت بقوله الحمد لله خلاف التعطيل وبقوله رَبّ الْعَالَمِينَ خلاف الإشراك فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ بتقديم إياك نفى التعطيل والإشراك وكذا بقوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا قال اهْدِنَا الصّرَاطَ نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد والمعطل لا مقصد له وبقوله الْمُسْتَقِيمَ نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب والمشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله فينفي الإشراك والتعطيل وههنا لطيفة وهي أن الصلاة أولها لفظة الله وآخرها لفظة الله في قوله أشهد أن لا إله إلا الله ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع الله فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله وأشهد أن محمداً رسول الله والصلاة على الرسول والتسليم فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة وذلك لأن الصلاة ذكر الله لا غير لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى الله وحصل مع الله لا يقع في قلبه أنه استقل واستبد واستغنى عن الرسول كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك ولا يلتفت إلى النواب والحجاب فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وغير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول الله ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين واعلم أن
هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي الله كوقوف المملوك بين يدي السلطان ثم إن آخرها جثو بين يدي الله كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس كأن العبد لما وقف وأثنى على الله أكرمه الله وأجلسه فجثا وفي هذا الجثو لطيفة وهي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة ولا يكون من الذين قال الله في حقهم وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ( مريم 72 )
ثم قال تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
لما ذكر أمرين وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم فقال وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك وتذكروهم بملء أفواهكم وقلوبكم لكن ذكر الله أكبر فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم وأما الصلاة فكذلك لأن الله يعلم ما تصنعون وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم وفي قوله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مع حدف بيان ما هو أكبر منه لطيفة وهي أن الله لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال ولذكر الله له الكبر لا لغيره وهذا كما يقال في الصلاة الله أكبر أي له الكبر لا لغيره
وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَاؤُلا ءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ
لما بين الله طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا أي إذا ظلموا زائداً على كفرهم وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه ولهذا قال تعالى في حقهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 ) وقال لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولهم آذان لا يسمعون بها
( الأعراف 179 ) إلى غير ذلك وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم بخلاف المشرك ثم على هذا فقوله إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تبيين له حسن آخر وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون لأن الشرك ظلم عظيم فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله وَقُولُواْ ءامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء ثم بعد ذلك ذكر دليلاً قياسياً فقال وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس ثم قال فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ لوجود النص ومن هؤلاء كذلك واختلف المفسرون فقال بعضهم المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره وبقوله وَمِنْ هَؤُلاء أي من أهل مكة وقال بعضهم المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) زماناً من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب وهذا أقرب فإن قوله هَؤُلاء صرفه إلى أهل الكتاب أولى لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله وَمِنْ هَؤُلاء أي من أهل الكتاب وهو أقرب لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء فإن الله ما آتى الكتاب إلا للأنبياء كما قال تعالى أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( الأنعام 89 ) وقال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وقال وَءاتَانِى الْكِتَابِ ( مريم 30 ) وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد الله بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عدداً قليلاً ويكون المراد بقوله وَمِنْ هَؤُلاء غير المذكورين وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم والوقت وقت جريان ذكرهم فإذا قال هؤلاء يكون منصرفاً إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم وإذا قال أولئك يكون منصرفاً إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا ثم قال تعالى اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ تنفيراً لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم فإن الجاحد بآية يكون كافراً
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ
ثم قال تعالى وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب وذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفاً فيها كقول القائل الزكاة تجب في مال الصغير فإذا قيل له لم فيقول كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر أولا الجامع بينهما فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه وأدرك من نفسه الجامع فذاك وإن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك ههنا ذكر أولا التمثيل بقوله وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( العنكبوت 47 ) ثم ذكر الجامع وهو المعجزة فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة وهذا القرآن ممن لم يكتب ولم يقرأ عين المعجزة فيعرف كونه منزلاً وقوله تعالى إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ فيه معنى لطيف وهو أن النبي إذا كان قارئاً كاتباً ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال وهذا كقوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) أي من مثل محمد عليه السلام وكقوله الم ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 1 2 )
ثم قال تعالى بَلْ هُوَ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ قوله في صدور الذين أوتوا العلم إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي وخاطري وإذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي وصدري فإذا قال فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ لا يكون من صدر أحد منهم والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين فظهوره من الله
ثم قال تعالى وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ قال ههنا الظالمون ومن قبل قال الكافرون مع أن الكافر ظالم ولا تنافي بين الكلامين وفيه فائدة وهي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك كان بليغاً يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما وتلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين كما بينا أن الشرك ظلم عظيم فهذا اللفط ههنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ
وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها ثم إن الله تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ووجهه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى الله ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلاً فالله إن رحمهم بين رسالته وإن لم يرحمهم لا يبين فقال أنا الساعة رسول وأما الآية فالله إن أراد ينزلها وإن لم يرد لا ينزلها وهذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق الله الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق الله إنساناً إلا ويكون قد خلق مكاناً أو يخلقه معه لكن الرسالة والمعجزة ليستا كذلك فالله إذا خلق رسولا وجعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ولم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى وعيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية وهذا لأنهم طلبوا سبق الآية وليست شرطاً حتى تسبقها بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك ولا نصدقك لكنا نريد أن يبين الله لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي وتكذيب النبي ونعلم بها كونك نبياً ونؤمن بك فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة الله أن ينزل آية
ثم قوله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ معناه أن الآية عند الله ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ يعني إن كان إنزال الآية شرطاً فلا يشترط إلا إنزال آية وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسيء أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبىء عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ وهذا لأن القرآن
معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها لوجوه أحدهما أن تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعباناً وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب الله ويكذب بوجود هذه الأشياء لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فنقول له فأت بآية من مثله الثاني هو أن قلب العصا ثعباناً كان في مكان واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد وههنا لطيفة وهي أن آيات النبي عليه السلام كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخسوف إذا وقع عم وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر وغاضت بحيرة ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر وانهدت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمر عام الثالث هو أن غير هذه المعجزة الكافر المعاند يقول إنه سحر عمل بدواء والقرآن لا يمكن هذا القول فيه
ثم إنه تعالى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة لكن الله له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله وَذِكْرَى إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان
ثم قال تعالى لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضباً على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم
ثم قال تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريراً وتأكيداً ثم بين كونه كافياً بكونه عالماً بجميع الأشياء فقال يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وههنا مسألة وهي أن الله تعالى قال في آخر الرعد وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) فأخر شهادة أهل الكتاب وفي هذه السورة قدمها حيث قال فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( العنكبوت 47 ) ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم إن شهادة الله أقوى في إلزامهم من شهادة غير الله وههنا الكلام مع أهل الكتاب وشهادة المرء على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم
ثم إنه تعالى لما بين الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكلام الشامل لهما والانذار العام فقال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي الذين آمنوا بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل لأنه هالك بقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) وكل ما هلك فقد بطل فكل هالك باطل وكل ما سوى الله باطل فمن آمن بما سوى الله فقد آمن بالباطل وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يقتضي الحصر أي من أتى بالإيمان بالباطل والكفر بالله
فهو خاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً فنقول يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر أما الآتي بالإيمان بما سوى الله فلأنه أشرك بالله فجعل غير الله مثل غيره لكن غيره عاجز جاهل ممكن باطل فيكون الله كذلك فيكون إنكاراً لله وكفراً به وأما من كفر به وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجد فوجود العالم من نفسه فيكون قائلاً بأن العالم واجب والواجب إله فيكون قائلاً بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به
المسألة الثانية إذا كان الإيمان بما سوى الله كفراً به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد نقول نعم فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح
المسألة الثالثة هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل وكفروا بالله نقول نعم لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند الله وقطعوا بها وعاندوا وقالوا إنها من عند غير الله يكون كمن رأى شخصاً يرمي حجارة فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص وقيل له من هذا الرجل يقول زيد فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو الله وقالوا بأن محمداً مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو الله تعالى فيكون إيماناً بالباطل وإذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو الله ليس بإله فيكون كفراً به وهذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق الله تعالى أو مخلوق العبد فإنه أيضاً ينسب فعل الله إلى الغير كما أن المعجزة فعل الله وهم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة كمن يرى حجارة رميت ولم ير عين راميها فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة ثم إذا رأى راميها بعينه ويكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد وأما إذا رأى عينه ورميه للحجارة وقال رامي الحجارة زيد يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن الله مظهر تلك المعجزة ويقولون بأنها من عند غير الله
ثم قوله هُمُ الْخَاسِرُونَ كذلك بأتم وجوه الخسران وهذا لأن من يخسر رأس المال ولا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال وتركبه تلك الديون فهم لما عبدوا غير الله أفنوا العمر ولم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلاً من المنافع واجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
لما أنذرهم الله بالخسران وهو أتم وجوه الإنذار لأن من خسر لا يحصل له في مقابلة قدر الخسران شيء من المنافع وإلا لما كان الخسران ذلك القدر بل دونه مثاله إذا خسر واحد من العشرة درهماً لا ينبغي أن يكون حصل له في مقابلة الدرهم ما يساوي نصف درهم وإلا لا يكون الخسران درهماً بل نصف درهم فإذن هم لما خسروا أعمارهم لا تحصل لهم منفعة تخفيف عذاب وإلا يكون ذلك القدر من العمر له منفعة
فيكون للخاسر عذاب أليم فقوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تهديد عظيم فقالوا إن كان علينا عذاب فأتنا به إظهاراً لقطعهم بعدم العذاب ثم إنه أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم لأنه أجله الله لحكمة ورحمة فلكونه حكيماً لا يكون متغيراً منقلباً ولكونه رحيماً لا يكون غضوباً منزعجاً ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته وارتضته رحمته لما كان له رحمة وحكمة فيكون غضوباً منقلباً فيتأثر باستعجالكم ويتغير من سؤالكم فيعجل وليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب وأنتم تسألونه ولا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا ( الحج 22 )
ثم قال تعالى وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَة ً اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم ليأتينهم العذاب بغتة لأن العذاب أقرب المذكورين ولأن مسئولهم كان العذاب فقال إنه ليأتينهم وقال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل لأن الآتي بغتة هو الأجل وأما العذاب بعد الأجل يكون معاينة وقد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتياً بغتة حكمة وهي أنه لو كان وقته معلوماً لكان كل أحد يتكل على بعده وعلمه بوقته فيفسق ويفجر معتمداً على التوبة قبل الموت
قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يحتمل وجهين أحدهما تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة والثاني هو كلام يفيد فائدة مستقلة وهي أن العذاب يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ذكر هذا للتعجب وهذا لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة فيرى من نفسه الجلد ويقول باسم الله هات وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له هات ما تتوعدني به فقال ههنا يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ والعذاب بنار جهنم المحيطة بهم فقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أولاً إخبار عنهم وثانياً تعجب منهم ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم
فقال تعالى يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى لم خص الجانبين بالذكر ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدام فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه وقدامه ويمينه ويساره وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة العاجلة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم
المسألة الثانية قال مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ولم يقل من فوق رءوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرءوس وسواء كان من موضع آخر عجيب فلهذا لم يخصه بالرأس وأما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل وهي تحت فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس وما فوق على الإطلاق
ثم قال تعالى وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون وجعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سبباً لجعل الله إياه سبباً لعذابهم وهذا كثير النظير في الاستعمال
ياعِبَادِى َ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَة ٌ فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ
وجه التعلق هو أن الله تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعوهم من العبادة فقال مخاطباً للمؤمنين تَعْمَلُونَ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَة ٌ فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال وبهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام والخروج منها واجب حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج و ( ر ) دع حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى فِى عِبَادِى لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله فِى عِبَادِى نقول ليس داخلاً في قوله فِى عِبَادِى نقول ليس داخلاً فيه لوجوه أحدها أن من قال في حقه عِبَادِى ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلاً في قوله فِى عِبَادِى الثاني هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف وذلك لأن الله تعالى لما خلق آدم آتاه اسماً عظيماً وهو اسم الخلافة كما قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) والخليفة أعظم الناس مقداراً وأتم ذوي البأس اقتداراً ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم ولم ينهزم بل أقدم عليه بسببه وعاداه وغلبه كما قال تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) ثم إن من أولاده الصالحين من سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان وتضاءل كما قال تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) وقال هو بلسانه لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ فعلم أن المكلف إذا كان عبداً لله يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض ولعل آدم كداود الذي قال الله تعالى في حقه إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ ( ص 26 ) لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال الله تعالى في حقه عبدي وعندما ناداه بقوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) واجتباه بهذا النداء كما قال في حق داود وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ ( ص 17 ) إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة فلا يدخل في قوله فِى عِبَادِى إلا المؤمن الثالث هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن
بسعيه بتوفيق الله وذلك لأن الله تعالى قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) فالمؤمن دعا ربه بقوله رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا ( الزمر 53 ) فأجابه الله تعالى بقوله قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ فالإضافة بين الله وبين العبد بقول العبد إلهي وقول الله عبدي تأكدت بدعاء العبد لكن الكافر لم يدع فلم يجب فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين
المسألة الثانية إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون ويا أيها الرجال العقلاء تمييزاً عن الكافرين والجهال فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون
المسألة الثالثة إذ قال فِى عِبَادِى فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون فنقول فيه فائدتان إحداهما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَإيَّايَ تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك فنقول قوله إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَة ٌ إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني وأما الفاء في قوله تعالى فَاعْبُدُونِ فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله فَإيَّايَ وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون
المسألة الخامسة قال العبد مثل هذا في قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقال عقيبه وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والله تعالى وافقه في قوله فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله فِى عِبَادِى لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة
المسألة السادسة قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك وذلك لأن من يبني بيتاً للسكنى يدخل في ذهنه أولاً فائدة السكنى فيحمله على البناء لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه وأما الله تعالى فيس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود فإن الإعانة قبل العبادة
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان فقال لهم إن ما
تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه فإن إلى الله مرجعكم وفيه وجه أرق وأدق وهو أن الله تعالى قال كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ( الدخان 56 ) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ وَكُلَّ شى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فإذاً التعلق بالله يريح من الموت فقال تعالى فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ أي تعلقوا بي ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( العنكبوت 57 ) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء ( آل عمران 169 ) وقال عليه السلام ( المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار ) فعلى هذا الوجه أيضاً يتبين وجه التعليق
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّة ِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ ( العنكبوت 54 ) فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران وبين أن فيها غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله تعالى نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( العنبكوت 55 ) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذاباً أي ناراً ولم يذكر ههنا فوقهم شيئاً وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار فيكون فوقه طبقات من النار فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين فلم يذكر فوقهم شيئاً إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم
وأما قوله تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( الزمر 20 ) لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقاً ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذاً به فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان ومنها أن هناك قال ذوقوا الإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يهفم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه وأما
إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع قلنا ليس كذلك لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائماً ولا ينقص ولا يزداد وأما المؤمن إذا أعطاه شيئاً فلا يتركه مع ماأعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص
الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّة ٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ذكر أمرين الصبر والتوكل لأن الزمان ماض وحاضر ومستقبل لكن الماضي لا تدارك له ولا يؤمر العبد فيه بشيء بقي الحاضر واللائق به الصبر والمستقبل واللائق به التوكيل فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال ويتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال
واعلم أن الصبر والتوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم بالله والعلم بما سوى الله فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين وإذا علم الله علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق وذكر الصبر والتوكل ههنا مناسب فإن قوله فِى عِبَادِى كان لبيان أنه لا مانع من العبادة ومن يؤذى في بقعة فليخرج منها فحصل الناس على قسمين قادر على الخروج وهو متوكل على ربه يترك الأوطان ويفارق الأخوان وعاجز وهو صابر على تحمل الأذى ومواظب على عبادة الله تعالى
ثم قال تعالى وَكَأَيّن مّن دَابَّة ٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغد ويأتيها كل يوم برزق رغد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كأين لغات أربع ( لا ) غير هذه ( و ) كائن على وزن راع وكأين على وزن ريع وكي على دع ولم يقرأ إلا كأين وكائن قراءة ابن كثير
المسألة الثانية كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ولم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن كأي يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلاً لا كأي رجل يكون فقد حذف المضاف إليه ويقال رأيت رجلاً لا كأي رجل وحينذ لا يكون كأي مركباً فإذا كان كأي ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معد يكرب وبعلبك
موصولاً للفرق وكما تكتب ثمة بالهاء تمييزاً بينها وبين ثمت
المسألة الثالثة كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادراً وكم يستعمل كثيراً من غير من يقال كم رجلاً وكم من رجل وذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم وكأي التي ليست مركبة وذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلاً لا كأي من رجل والمركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها فالتزم للفرق قوله تعالى لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا قيل لا تحمل لضعفها وقيل هي كالقمل والبرغوث والدود وغيرها وقيل لا تدخر اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا بالله فكذلك يرزقكم فتوكلوا فإن قال قائل من قال بأن الله يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظراً إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق أما بالنظر إلى الرزق فلأن الله تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظماً ولحماً وشحماً وما ذاك إلا بحكمة الله تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاصمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة الله وإرادته فهو الذي يرزقها وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق فلأن الله لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعاً من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك فإن كثيراً ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئاً وترك بقية يجدها غداً ما مد إليه أحد يداً والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غداً شيء وأيضاً حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضاً قوت الحيوان مهيأ وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلاً والراكع الساجد غير متوكل لأن من يزرع يكون اعتماده على الله واعتقاده في الله أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل وقلبه مع الله هو متوكل حق التوكل ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل وأما قوله حاجات الإنسان كثيرة فنقول مكاسبه كثيرة أيضاً فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره وبعينه كالناطور وبلسانه كالحادي والمنادي وبفهمه كالمهندس والتاجر وبعلمه كالطبيب والفقيه وبقوة جسمه كالعتال والحمال والحيوان لا مكاسب له فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غداً أو بعد غد بعيد أن لا يرزقه الله مع هذه المكاسب فهو أولى بالتوكل وأيضاً الله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهراً شاؤا أم أبوا وليس كذلك حال الحيوان أصلاً فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان ثم قال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سميع إذا طلبتم الرزق يسمع ويجيب عليم إن سكتم لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطباً معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العنبكوت 56 ) وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد ينصح أولاً المفسد فإن لم يسمع يقول معرضاً عنه ملتفتاً إلى الرشيد إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إن هذا أخاك العجيب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضاً داعياً له إلى سبيل الرشاد مانعاً له من ذلك الفساد فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن العجيب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون وفي الآية لطائف إحداها ذكر في السموات والأرض الخلق وفي الشمس والقمر التسخير وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء فإذاً الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما الثانية في لفظ التسخير وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافياً لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان آلافاً من الفراسخ ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس والشمس على أفق المغرب والقمر على أفق المشرق وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه وأنكره المفسرون الظاهريون ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الثالثة ذكر أمرين أحدهما خلق السموات والأرض والآخر تسخير الشمس والقمر لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات فخلق السموات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها فكأنه ذكر من القبيلين مثالين ثم قال تعالى فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات والأرض ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأن الجماد
دون الحيوان والحيوان دون الإنسان والإنسان دون سكان السموات فكيف يتركون عبادة أعظم الوجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٍ
قوله تعالى اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لما بين الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الإنسان بالرزق فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاقه العبادة وهذه الأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات على الشأن جلي البرهان فله العبادة وإما لكونه ولي الإحسان والله يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضاً قوله لِمَن يَشَاء إشارة إلى كمال الإحسان وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئاً فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك وأما إن كان مختاراً بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة فقال الله تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكراً تاماً وقوله تعالى وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق له إن أراد ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجاً وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الاطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى أو لعدم علمه بجوع العبيد الثانية وهي أن الله بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعاً لا كافراً وقد استوفى الأربع لأن قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى كمال القدرة وقوله يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته وقوله أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ إشارة إلى شمول علمه والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حياً ثم إنه تعالى لما قال اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ ذكر اعترافهم بذلك فقال
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله ثم قال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون كلاماً معترضاً في أثناء كلام كأنه قال فأحيا به الأرض من بعد موتها
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فذكر في أثناء هذا الكلام الْحَمْدُ لذكر النعمة كما قال القائل إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
الثاني أن يكون المراد منه كلاماً متصلاً وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من الله ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون وأنت تعلم وتعمل فكذلك المؤمنون بك فقل الحمد لله وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله لله فيحمدون غير الله على نعمة هي من الله الثالث أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من الله ويقولون بإلهية غير الله فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ على ظهور تناقضهم وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ هذا التناقض أو فساد هذا التناقض
وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاٌّ خِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
لما بين أنهم يعترفون بكون الله هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفرق بين اللهو واللعب حتى يصح عطف أحدهما على الآخر فنقول الفرق من وجهين أحدهما أن كل شغل يفرض فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره ومن لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل ولهو أي إعراض عن الحق الثاني هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية فالأول لعب والثاني لهو والدليل عليه هو أن الشطرنج والحمام وغيرهما مما يقرب منهما لا تسمى آلات الملاهي في العرف والعود وغيره من الأوتار تسمى آلات الملاهي لأنها تلهي الإنسان عن غيرها لما فيها من اللذة الحالية فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية
المسألة الثانية قال الله تعالى في سورة الأنعام وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا ( آل عمران 185 ) ولم يقل وما هذه الحياة وقال ههنا وَمَا هَاذِهِ فنقول لأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا حيث قال تعالى فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا ( البقرة 164 ) فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ( الأنعام 31 ) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا
المسألة الثالثة قال هناك إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وقال ههنا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ فنقول لما كان المذكور هناك من قبل الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوقت يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد وأما ههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق
فيها اللهم إلا لمانع يمنعه من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها ولعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً فكان ههنا الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو
المسألة الرابعة قال هناك وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ ( الأنعام 32 ) وقال ههنا وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ فنقول لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى رادع قوي فقال الآخرة خير ولما كان ههنا الحال حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى رادع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا كما أن العاقل إذا عرض عليه شيئان فقال في أحدهما هذا خير من ذلك يكون هذا ترجيحاً فحسب ولو قال هذا جيد وهذا الآخر ليس بشيء يكون ترجيحاً مع المبالغة فكذلك ههنا بالغ لكون المكلف متوغلاً فيها
المسألة الخامسة قال هناك خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( الأعراف 169 ) ولم يقل ههنا إلا لهي الحيوان لأن الآخرة خير للمتقي فحسب أي المتقي عن الشرك وأما الكافر فالدنيا جنته فهي خير له من الآخرة وأما كون الآخرة باقية فيها الحياة الدائمة فلا يختص بقوم دون قوم
المسألة السادسة كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة مع أن الحيوان نام مدرك فنقول الحيوان مصدر حي كالحياة لكن فيها مبالغة ليست في الحياة والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية فكأنه قال الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة أو نقول لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو كما قال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) وكانت هي محل الإدراك التام الحق كما قال تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 ) أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك
المسألة السابعة قال في سورة الأنعام أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( البقرة 76 ) وقال ههنا لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وذلك لأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً وأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت ههنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع
فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ
ثم قال تعالى لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ وفيه وجهان أحدهما أن اللام لام كي أي يشركون ليكون إشراكهم كفراً بنعمة الإنجاء وليتمتعوا بسبب الشرك فسوف يعلمون بوبال عملهم حين زوال أملهم والثاني أن تكون اللام لام الأمر ويكون المعنى ليكفروا على التهديد كما قال تعالى
اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( فصلت 40 ) وكما قال اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( الأنعام 135 ) فساد ما تعملون
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ
التفسير ظاهر وإنما الدقيق وجه تعلق الآية بما قبلها فنقول الإنسان في البحر يكون على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين حالهم عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله تعالى ذكرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث كل من حولها يمتنع من قتال من حصل فيها والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس ويكفها يعني أنكم في أخوف ما كنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير فهذه النعمة العظيمة التي حصلت وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله كيف تكفرون بها والأصنام التي قطعتم في حال الخوف أن لا أمن منها كيف آمنتم بها في حال الأمن
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
لما بين الله الأمور على الوجه المذكور ولم يؤمن به أحد بين أنهم أظلم من يكون لأن الظلم على ما بين وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضع واحد شيئاً في موضع ليس هو موضعه يكون ظالماً فإذا وضعه في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول لأن كل ما لا يمكن لا يحصل وليس كل ما لا يحصل لا يمكن فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك وجعلوا له شريكاً فلو كان ذلك في حق ملك مستقل في الملك لكان ظلماً يستحق من الملك العقاب الأليم فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب يكون ظلماً فمن يكذب صادقاً لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله فإذا ليس أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ويكذب الله في تصديق نبيه والنبي في رسالة ربه والقرآن المنزل من الله إلى الرسول والعجب من المشركين أنهم قبلوا المتخذ من خشب منحوت بالإلهية ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بالرسالة والآية تحتمل وجهاً آخر وهو أن الله تعالى لما بين التوحيد والرسالة والحشر وقرره ووعظ وزجر قال لنبيه ليقول للناس وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
أي إني جئت بالرسالة وقلت إنها من الله وهذا كلام الله وأنتم كذبتموني فالحال دائر بين أمرين أما أنا مفتر متنبىء إن كان هذا من عند غير الله أو أنتم مكذبون بالحق إن كان من عنده لكني معترف بالعذاب الدائم عارف به فلا أقدم على الافتراء لأن جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ ( الزمر 32 ) والمتنبىء كافر وأنتم كذبتموني فجهنم مثواكم إذ هي مثوى للكافرين وهذا حيئنذٍ يكون كقوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 )
وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى ما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ فقوله لَنَهْدِيَنَّهُمْ إشارة إلى الحسنى وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا أي الذين نظروا في دلائلنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا أي لنحصل فيهم العلم بنا ولنبين هذا فضل بيان فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي والله يخلق في الناظر علماً عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية وعلى هذا يكون الترتيب حسناً وذلك لأن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيداً لا يتقرب وهم الكفار ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريباً منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله وَمَنْ أَظْلَمُ إشارة إلى الأول وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا إشارة إلى الثاني وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى الثالث
والله أعلم بأسرار كتابه والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين
سورة الروم
ستون آية مكية ( إلا آية 17 فمدنية نزلت بعد الانشقاق )ال م غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاٌّ مْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
وجه تعلق أول هذه السورة بما قبلها يتبين منه سبب النزول فنقول لما قال الله تعالى في السورة المتقدمة وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( البقرة 171 ) وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله كما قال وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ ( العنكبوت 46 ) وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله بل كثير منهم كانوا مؤمنين به كما قال وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( العنكبوت 47 ) أي أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور فلما وقعت الكرة عليهم حين قاتلهم الفرس المجوس فرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله تعالى قد يريد مزيد ثواب في المحب فيبتليه ويسلط عليه الأعادي وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد للمعادي وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في افتتاح هذه السورة بحروف التهجي فنقول قد سبق منا أن كل سورة افتتحت بحروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) المص كِتَابٌ ( الأعراف 1 ) طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( طه 1 2 ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( فصلت 2 ) يس وَالْقُرْءانِ ( يس 1 2 ) ص وَالْقُرْءانِ ( ص 1 ) إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت وقد ذكرنا ما الحكمة فيهما في موضعهما
فنقول ما يتعلق بهذه السور وهو أن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت وهذه ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع
المسألة الثانية قوله تعالى فِى أَدْنَى الاْرْضِ أي أرض العرب لأن الألف واللام للتعريف والمعهود عندهم أرضهم وقوله تعالى وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ أية فائدة في ذكره مع أن قوله سَيَغْلِبُونَ بعد قوله غُلِبَتِ الرُّومُ لا يكون إلا من بعد الغلبة فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا دل على أن ذلك بأمر الله فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم وإنما ذلك بأمر الله تعالى وقوله فِى أَدْنَى الاْرْضِ لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله
المسألة الثالثة قال تعالى فِى بِضْعِ سِنِينَ قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه ولما وردت الآية ذكر أبو بكر رضي الله عنه أن الروم ستغلب وأنكره أبي بن خلف وغيره وناحبوا أبا بكر أي خاطروه على عشرة قلائص إلى ثلاث سنين فقال عليه السلام لأبي بكر البضع ما بين الثلاثة والعشرة فزايده في الإبل وماده في الأجل فجعلا القلائص مائة والأجل سبعاً وهذا يدل على علم النبي عليه السلام بوقت الغلبة
( قوله تعالى لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ )
ثم قال تعالى لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ أي من قبل الغلبة ومن بعدها أو من قبل هذه المدة ومن بعدها يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة وبنيا على الضم لما قطعا عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتحة والكسرة يشتبه بما يدخل عليهما وهو النصب والجر أما النصب ففي قولك جئت قبله أو بعده وأما الجر ففي قولك من قبله ومن بعده فنياً على الضم لعدم دخول مثلهما عليه في الإعراب وهو الرفع وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ قيل يفرحون بغلبة الروم على الفرس كما فرح المشركون بغلبة الفرس على الروم والأصح أنهم يفرحون بغلبتهم المشركين وذلك لأن غلبة الروم كانت يوم غلبة المسلمين المشركين ببدر ولو كان المراد ما ذكروه لما صح لأن في ذلك اليوم بعينه لم يصل إليهم خبر الكسر فلا يكون فرحهم يومئذٍ بل الفرح يحصل بعده
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاٌّ خِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ
قوله تعالى بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء قدم المصدر على الفعل حيث قال بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ ( الأنفال 62 ) وقدم الفعل على المصدر في قوله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ وذلك لأن المقصود ههنا بيان أن النصرة بيد الله إن أراد نصر وإن لم يرد لا ينصر وليس المقصود النصرة ووقوعها والمقصود هناك إظهار النعمة عليه بأنه نصره فالمقصود هناك الفعل ووقوعه فقدم هناك الفعل ثم بين أن ذلك الفعل مصدره عند الله والمقصود ههنا كون المصدر عند الله إن أراد فعل فقدم المصدر
ثم قال تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ذكر من أسمائه هذين الإسمين لأنه إن لم ينصر المحب بل سلط العدو عليه فذلك لعزته وعدم افتقاره وإن نصر المحب فذلك لرحمته عليه أو نقول إن نصر الله المحب فلعزته واستغنائه عن العدو ورحمته على المحب وإن لم ينصر المحب فلعزته واستغنائه عن المحب ورحمته في الآخرة واصلة إليه
ثم قال تعالى وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ يعني سيغلبون وعدهم الله وعداً ووعد الله لا خلف فيه قوله تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون وعده وأنه لا خلف في وعده
ثم قال تعالى يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا يعني علمهم منحصر في الدنيا وأيضاً لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهي ملاذها وملاعبها ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها ويعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ والمعنى هم عن الآخرة غافلون وذكرت هم الثانية لتفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهذا كما يقول القائل لغيره غفلت عن أمري فإذا قال هو شغلني فلان فيقول ما شغلك ولكن أنت اشتغلت
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
قوله تعالى أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ لما صدر من الكفار الإنكار بالله عند إنكار وعد الله وعدم الخلف فيه كما قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( الأعراف 187 ) والإنكار بالحشر كما قال تعالى وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ ( الروم 7 ) بين أن الغفلة وعدم العلم منهم بتقدير الله وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهو ( أن ) أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وحدانية الله وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله خلقهم على
أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزأ من ألف ألف جزء وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه والآخر لخروج الطعام منه فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ولا بالرشح وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجاً صالحاً ثم يخرج من المنفذ الآخر وخلق تحت المعدة عروقاً دقاقاً صلاباً كالمصفاة التي يصفى بها الشيء فينزل منها الصافي إلى الكبد وينصب الثفل إلى معى مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجهاً إلى الخروج وما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمى الماساريقا بالعبرية والعبرية عربية مفسودة في الأكثر يقال لموسى ميشا وللاله إيل إلى غير ذلك فالماساريقا معناها ماساريق اشتمل عليه الكبد وأنضجه نضجاً آخر ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق وينذرق في العروق الدقاق المذكورة وفي الكبد يستغني عن ذلك الماء فيتميز عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان وهذه كفاية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً شاملاً علمه ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عند إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال وأجزاءه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثاً وإليه أشار بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وهذا ظاهر لأن من يفعل شيئاً للعبث فلو بالغ في إحكامه وإتقانه يضحك منه فإذا خلقه للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الآفاق فقال مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ( الروم 8 ) فقوله إِلاَّ بِالْحَقّ إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِلْمُؤْمِنِينَ ( العنكبوت 44 ) ونعيده فإن التكرير في الذهن يفيد التقرير لذي الذهن فنقول إذا كان بالحق لا يكون فيها بطلان فلا يكون فيها فساد لأن كل فاسد باطل وإذا لم يكن فيها فساد لا تكون آلهة وإلا لكان فيها فساد كما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وقوله وَأَجَلٌ مُّسَمًّى يذكر بالأصل الآخر الذي أنكروه
ثم قال تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وفي قوله تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) قدم دلائل الآفاق وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره فإن فهمه السامع المستفيد فذلك وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد آخراً مفهوم عند السامع أولاً إذا علم هذا فنقول ههنا الفعل كان منسوباً إلى السامع حيث قال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً وأما في قوله سَنُرِيهِمْ الأمر منسوب إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس لأن دلائل الأنفس
لا ذهول للإنسان عنها وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بدلائل الآفاق
المسألة الثانية وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو فنقول وقوع تخريب السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبداً كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً والخلق دليل إمكان العدم لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعباً ولهواً كما بين بقوله تعالى وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ( العنبكوت 64 ) وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث والعبث ليس بحق وخلق السموات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه
المسألة الثالثة قال ههنا كَثِيراً مّنَ النَّاسِ وقال من قبل وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو فقال بعد إقامة الدليل وَإِنَّ كَثِيرًا وقبله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن إمكن هو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم
أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وقال في الدليلين المتقدمين أَوَلَمْ يَرَوْاْ ولم يقل أَوَلَمْ يَسيرُواْ إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض وقال ههنا أَوَلَمْ يَسيرُواْ فَيَنظُرُواْ ذكرهم بحال أمثالهم ووبال أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدم من عاد وثمود كانوا أشد منهم قوة ولم تنفعهم قواهم وكانوا
أكثر مالاً وعمارة ولم يمنع عنهم الهلاك أموالهم وحصونهم واعلم أن اعتماد الإنسان على ثلاثة أشياء قوة جسمية فيه أو في أعوانه إذ بها المباشرة وقوة مالية إذ بها التأهب للمباشرة وقوة ظهرية يستند إليها عند الضعف والفتور وهي بالحصون والعمائر فقال تعالى كانوا أشد منهم قوة في الجسم وأكثر منهم مالاً لأنهم أثاروا الأرض أي حرثوها ومنه بقرة تثير الأرض وقيل منه سمي ثوراً وأنتم لا حراثة لكم فأموالهم كانت أكثر وعمارتهم كانت أكثر لأن أبنيتهم كانت رفيعة وحصونهم منيعة وعمارة أهل مكة كانت يسيرة ثم هؤلاء جاءتهم رسلهم بالبينات وأمروهم ونهوهم فلما كذبوا أهلكوا فكيف أنتم وقوله فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يعني لم يظلمهم بالتكليف فإن التكليف شريف لا يؤثر له إلا محل شريف ولكن هم ظلموا أنفسهم بوضعها في موضع خسيس وهو عبادة الأصنام واتباع إبليس فكأن الله بالتكليف وضعهم فيما خلقوا له وهو الربح لأنه تعالى قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم والوضع في ( أي ) موضع كان الخلق له ليس بظلم وأما هم فوضعوا أنفسهم في مواضع الخسران ولم يكونوا خلقوا إلا للربح فهم كانوا ظالمين وهذا الكلام منا وإن كان في الظاهر يشبه كلام المعتزلة لكن العاقل يعلم كيف يقوله أهل السنة وهو أن هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه كان منهم ومضافاً إليهم
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّو ءَى أَن كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
ثم قال تعالى ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ أَسَاءواْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ أَسَاءواْ السُّوءى أَن كما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وقوله تعالى أَن كَذَّبُواْ قيل معناه بأن كذبوا أي كان عاقبتهم ذلك بسبب أنهم كذبوا وقيل معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيراً لأساؤا وفي هذه الآية لطائف إحداها قال في حق الذين أحسنوا لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وقال في حق من أساء ثُمَّ كَانَ عَاقِبَة َ الَّذِينَ إشارة إلى أن الجنة لهم من ابتداء الأمر فإن الحسنى اسم الجنة والسوآى اسم النار فإذا كانت الجنة لهم ومن الابتداء ومن له شيء كلما يزداد وينمو فيه فهو له لأن ملك الأصل يوجب ملك الثمرة فالجنة من حيث خلقت تربو وتنمو للمحسنين وأما الذين أساؤا فالسوآى وهي جهنم في العاقبة مصيرهم إليها الثانية ذكر الزيادة في حق المحسن ولم يذكر الزيادة في حق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة مثلها الثالثة لم يذكر في المحسن أن له الحسنى بأنه صدق وذكر في المسيىء أن له السوأى بأنه كذب لأن الحسنى للمحسنين فضل والمتفضل لو لم يكن تفضله لسبب يكون أبلغ وأما السوآى للمسيىء عدل والعادل إذا لم يكن تعذيبه لسبب لا يكون عدلاً فذكر السبب في التعذيب وهو الإصرار على التكذيب ولم يذكر السبب في الثواب
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
لما ذكر أن عاقبتهم إلى الجحيم وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال يبدأ الخلق يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة فإليه ترجعون ثم بين ما يكون وقت الرجوع إليه فقال
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم والإبلاس يأس مع حيرة يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمراً غير
ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن كان ضرورياً بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال وهو أن نقول مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي ولديه ما يفتخر به ويباهي فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد ولا يصده صاد إذا جاءه لا يبلعه ريقاً ولا يترك له إلى الخلاص طريقاً فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص فيقول له طفل أو مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمداً على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيراً آيساً مفتقراً فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه ويأتيه عذاب يخزيه فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس وشافعة لك عند خمود الحواس فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق ويحق عليه عذاب الحريق فييأس حينئذٍ أي إياس ويبلس أشد إبلاس وإليه الإشارة بقوله تعالى يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( الروم 13 ) يعني يكفرون بهم ذلك اليوم
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ
ثم بين أمراً آخر يكون في ذلك اليوم وهو الافتراق كما قال تعالى في آية أخرى وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فكأن هذه الحالة مترتبة على الإبلاس فكأنه أولاً يبلس ثم يميز ويجعل فريق في الجنة وفريق في السعير وأعاد قوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ لأن قيام الساعة أمر هائل فكرره تأكيداً للتخويف ومنه اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله
فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ
ثم بين كيفية التفرق فقال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ أي في جنة يسرون بكل مسرة
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَّخِرَة ِ فَأُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
يعني لا غيبة لهم عنه ولا فتور له عندهم كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وقال لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ( آل عمران 88 ) وفي الآيتين مسائل فيها لطائف
المسألة الأولى بدأ بذكر حال الذين آمنوا مع أن الموضع موضع ذكر المجرمين وذلك لأن المؤمن يوصل إليه الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب فيكون أنكى ولو أدخل الكافر النار أولاً لكان يظن أن الكل في العذاب مشتركون فقدم ذلك زيادة في إيلامهم
المسألة الثانية ذكر في المؤمن العمل الصالح ولم يذكر في الكافر العمل السيىء لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره فلو قال والذين كفروا وعملوا السيئات في العذاب محضرون لكان العذاب لمن يصدر منه المجموع فإن قيل فمن يؤمن ويعمل السيئات غير مذكور في القسمين فنقول له منزلة بين المنزلتين لا على ما يقوله المعتزلة بل هو في الأول في العذاب ولكن ليس من المحضرين دوام الحضور وفي الآخرة هو في الرياض ولكنه ليس من المحبورين غاية الحبور كل ذلك بحكم الوعد
المسألة الثالثة قال في الأول فِى رَوْضَة ٍ على التنكير وقال في الآخر في العذاب على التعريف لتعظيم الروضة بالتنكير كما يقال لفلان مال وجاه أي كثير وعظيم
المسألة الرابعة قال في الأول يُحْبَرُونَ بصيغة الفعل ولم يقل محبورون وقال في الآخر مُحْضَرُونَ بصيغة الاسم ولم يقل يحضرون لأن الفعل ينبىء عن التجدد والاسم لا يدل عليه فقوله يُحْبَرُونَ يعني يأتيهم كل ساعة أمر يسرون به وأما الكفار فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَيُحْى ِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
لما بين الله تعالى عظمته في الابتداء بقوله مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الروم 8 ) وعظمته في الانتهاء وهو حين تقوم الساعة ويفترق الناس فريقين ويحكم على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي أمر بتنزيهه عن كل سوء ويحمده على كل حال فقال فَسُبْحَانَ اللَّهِ أي سبحوا الله تسبيحاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في معنى سبحان الله ولفظه أما لفظه ففعلان اسم للمصدر الذي هو التسبيح سمي التسبيح بسبحان وجعل علماً له وأما المعنى فقال بعض المفسرين المراد منه الصلاة أي صلوا وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس وقال بعضهم أراد به التنزيه أي نزهوه عن صفات النقص وصفوه بصفات الكمال وهذا أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الأول وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعاً وهو العمل الصالح والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئاً ظهر
من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله وأفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان وهو تنزيه في التحقيق فإذا قال نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه فيكون أيضاً هذا أمراً بالصلاة ثم إن قولنا يناسب ما تقدم وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة ٍ يُحْبَرُونَ ( الروم 15 ) قال إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان والكل تنزيهات وتحميدات فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض والحضور على الحياض
المسألة الثانية خص بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح وذلك لأن أفضل الأعمال أدومها لكن أفضل الملائكة ملازمون للتسبيح على الدوام كما قال تعالى يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) والإنسان ما دام في الدنيا لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجاً إلى أكل وشرب وتحصيل مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فأشار الله تعالى إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله فيها يكون كأنه لم يفتر وهي الأول والآخر والوسط أول النهار وآخره ووسطه فأمر بالتسبيح في أول الليل ووسطه ولم يأمر بالتسبيح في آخر الليل لأن النوم فيه غالب والله منَّ على عباده بالاستراحة بالنوم كما قال وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ ( الروم 23 ) فإذا صلى في أول النهار تسبيحتين وهما ركعتان حسب له صرف ساعتين إلى التسبيح ثم إذا صلى أربع ركعات وقت الظهر حسب له صرف أربع ساعات أخر فصارت ست ساعات وإذا صلى أربعاً في أواخر النهار وهو العصر حسب له أربع أخرى فصارت عشر ساعات فإذا صلى المغرب والعشاء سبع ركعات أخر حصل له صرف سبع عشرة ساعة إلى التسبيح وبقي من الليل والنهار سبع ساعات وهي ما بين نصف الليل وثلثيه لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع وهذا القدر لو نام الإنسان فيه لكان كثيراً وإليه أشار تعالى بقوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( المزمل 2 4 ) وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم فيقول الله عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم نَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) على سبيل الانحصار بل هم مثلكم فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين واعلم أن في وضع الصلاة في أوقاتها وعدد ركعاتها واختلاف هيئاتها حكمة بالغة أما في عدد الركعات فما تقدم من كون الإنسان يقظان في سبع عشرة ساعة ففرض عليه سبع عشرة ركعة وأما على مذهب أبي حنيفة حيث قال بوجوب الوتر ثلاث ركعات وهو أقرب للتقوى فنقول هو مأخوذ من أن الإنسان ينبغي أن يقلل نومه فلا ينام إلا ثلث الليل مأخوذاً من قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ويفهم من هذا أن قيام ثلثي الليل مستحسن مستحب مؤكد باستحباب ولهذا قال عقيبه عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ( المزمل 20 ) ذكر بلفظ التوبة وإذا كان كذلك يكون الإنسان يقظان في عشرين ساعة فأمر بعشرين ركعة وأما النبي عليه السلام فلما كان من شأنه أن لا ينام أصلاً كما قال ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) جعل له كل الليل كالنهار فزيد له التهجد فأمر به وإلى هذا أشار تعالى في قوله وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ( الإنسان 26 ) أي كل الليل لك
للتسبيح فصار هو في أربع وعشرين ساعة مسبحاً فصار من الذين لا يفترون طرفة عين وأما في أوقاته فما تقدم أيضاً أن الأول والآخر والوسط هو المعتبر فشرع التسبيح في أول النهار وآخره وأما الليل فاعتبر أوله ووسطه كما اعتبر أول النهار ووسطه وذلك لأن الظهر وقته نصف النهار والعشاء وقته نصف الليل لأنا بينا أن الليل المعتبر هو المقدار الذي يكون الإنسان فيه يقظان وهو مقدار خمس ساعات فجعل وقته في نصف هذا القدر وهو الثلاثة من الليل وأما أبو حنيفة لما رأى وجوب الوتر كان زمان النوم عنده أربع ساعات وزمان اليقظة بالليل ثمان ساعات وأخر وقت العشاء الآخرة إلى الرابعة والخامسة ليكون في وسط الليل المعتبر كما أن الظهر في وسط النهار وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان ليله نهاراً ونومه انتباهاً قال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وتأخير العشاء إلى نصف الليل ) ليكون الأربع في نصف الليل كما أن الأربع في نصف النهار وأما التفصيل فالذي يتبين لي أن النهار اثنتا عشرة ساعة زمانية والصلاة المؤداة فيها عشر ركعات فيبقى على المكلف ركعتان يؤديهما في أول الليل ويؤدي ركعة من صلاة الليل ليكون ابتداء الليل بالتسبيح كما كان ابتداء النهار بالتسبيح ولما كان المؤدى من تسبيح النهار في أوله ركعتين كان المؤدى من تسبيح الليل في أوله ركعة لأن سبح النهار طويل مثل ضعف سبح الليل لأن المؤدى في النهار عشرة والمؤدى في الليل من تسبيح الليل خمس
المسألة الثانية في فضيلة السبحلة والحمدلة في المساء والصباح ولنذكرها من حيث النقل والعقل أما النقل فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب مسنداً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لبعض أصحابه ( أتعجز عن أن تأتي وقت النوم بألف حسنة فتوقف فقال النبي عليه السلام قل سبحان الله والحمد لله والله أكبر مائة مرة يكتب لك بها ألف حسنة ) وسمعته يقول رحمه الله مسنداً ( من قال خلف كل صلاة مكتوبة عشر مرات سبحان الله وعشر مرات الله أكبر أدخل الجنة ) وأما العقل فهو أن الله تعالى له صفات لازمة لا من فعله وصفات ثابتة له من فعله أما الأولى فهي صفات كمال وجلال خلافها نقص فإذا أدرك المكلف الله بأنه لا يجوز أن يخفي عليه شيء لكونه عالماً بكل شيء فقد نزهه عن الجهل ووصفه بضده وإذا عرفه بأنه لا يعجز عن شيء لكونه قادراً على كل شيء فقد نزهه عن العجز وإذا علم أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لكونه مريداً لكل كائن فقد وصفه ونزهه وإذا ظهر له أنه لا يجوز عليه الفناء لكونه واجب البقاء فقد نزهه وإذا بان له أنه لا يسبقه العدم لاتصافه بالقدم فقد نزهه وإذا لاح له أنه لا يجوز أن يكون عرضاً أو جسماً أو في مكان لكونه واجباً بريئاً عن جهات الإمكان فقد نزهه لكن صفاته السلبية والإضافية لا يعدها عاد ولو اشتغل بها واحد لأفنى فيها عمره ولا يدرك كنهها فإذا قال قائل مستحضراً بقلبه سبحان الله متنبهاً لما يقوله من كونه منزهاً له عن كل نقص فإتيانه بالتسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل لكن لا ريب في أن من أتى بالتسبيح عن كل واحد على حدة مما لا يجوز على الله يكون قد أتى بما لا تفي به الأعمار فيقول هذا العبد أتى بتسبيحي طول عمره ومدة بقائه فأجازيه بأن أطهره عن كل ذنب وأزينه بخلع الكرامة وأنزله بدار المقامة مدة لا انتهاء لها وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار وآخره ووسطه فإن الله تعالى يطهره في أوله وهو دنياه وفي آخره وهو عقباه وفي وسطه وهو حالة كونه في قبره الذي يحويه إلى أوان حشره وهو مغناه وأما الثانية وهو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق الله السموات يعلم أنها نعمة وكرامة
فيقول الحمد لله فإذا رأى الشمس فيها بازغة فيعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله وكذلك القمر وكل كوكب والأرض وكل نبات وكل حيوان يقول الحمد لله لكن الإنسان لو حمد الله على كل شيء على حدة لا يفي عمره به فإذا استحضر في ذهنه النعم التي لا تعد كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) ويقول الحمد لله على ذلك فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل ويقول عبدي استغرق عمره في حمدي وأنا وعدت الشاكر بالزيادة فله علي حسنة التسبيح الحسنى وله على حمده الزيادة ثم إن الإنسان إذا استغرق في صفات الله قد يدعوه عقله إلى التفكر في الله تعالى بعد التفكر في آلاء الله فكل ما يقع في عقله من حقيقته فينبغي أن يقول الله أكبر مما أدركه لأن المدركات وجهات الإدراكات لا نهاية لها فإن أراد أن يقول على سبيل التفصيل الله أكبر من هذا الذي أدركته من هذا الوجه وأكبر مما أدركته من ذلك الوجه وأكبر مما أدركته من وجه آخر يفني عمره ولا يفي بإدراك جميع الوجوه التي يظن الظان أنه مدرك لله بذلك الوجه فإذا قال مع نفسه الله أكبر أي من كل ما أتصوره بقوة عقلي وطاقة إدراكي يكون متوغلاً في العرفان وإليه الإشارة بقوله
العجز عن درك الإدراك إدراك
فقول القائل المستيقظ ( سبحان الله والحمد لله والله أكبر ) مفيد لهذه الفوائد لكن شرطه أن يكون كلاماً معتبراً وهو الذي يكون من صميم القلب لا الذي يكون من طرف اللسان
المسألة الرابعة قوله وَعَشِيّاً عطف على حِينٍ أي سبحوه حين تمسون وحين تصبحون وعشياً وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بين لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه وهذا كما في قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( الحجرات 17 )
المسألة الخامسة قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخره في قوله وَسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الأحزاب 42 ) وذلك لأن ههنا أول الكلام ذكر الحشر والإعادة من قوله اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( الروم 11 ) إلى قوله فَأُوْلَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( الروم 16 ) وآخر هذه الآية أيضاً ذكر الحشر والإعادة بقوله وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ والإمساء آخر فذكر الآخر ليذكر الآخرة
المسألة السادسة في تعلق إخراج الحي من الميت والميت من الحي بما تقدم عليه هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم واختلف المفسرون في قوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ فقال أكثرهم يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان وقال بعضهم المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ويمكن أن يقال المراد يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ أي اليقظان من النائم والنائم من اليقظان وهذا يكون قد ذكره للتمثيل أي إحياء الميت عنده وإماتة الحي كتنبيه النائم وتنويم المنتبه
ثم قال تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حيوانيته وأما نفسه الناطقة فتفارقه وتبقى بعده كما قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً
( آل عمران 169 ) لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ولا يحس والأرض الميتة لا يكون فيها نماء ثم إن النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض الميتة بعد موتها تنمو بنباتها فكما أن تحريك ذلك الساكن وإنماء هذا الواقف سهل على الله تعالى كذلك إحياء الميت سهل عليه وإلى هذا أشار بقوله وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ
لما أمر الله تعالى بالتسبيح عن الأسواء وذكر أن الحمد له على خلق جميع الأشياء وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ إلى قوله وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( الروم 16 20 ) ذكر ما هو حجة ظاهرة وآية باهرة على ذلك ومن جملتها خلق الإنسان من تراب وتقريره هو أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الأحياء وذلك من حيث كيفيته فإنه بارد يابس والحياة بالحرارة والرطوبة ومن حيث لونه فإنه كدر والروح نير ومن حيث فعله فإنه ثقيل والأرواح التي بها الحياة خفيفة ومن حيث السكون فإنه بعيد عن الحركة والحيوان يتحرك يمنة ويسرة وإلى خلف وإلى قدام وإلى فوق وإلى أسفل وفي الجملة فالتراب أبعد من قبول الحياة عن سائر الأجسام لأن العناصر أبعد من المركبات لأن المركب بالتركيب أقرب درجة من الحيوان والعناصر أبعدها التراب لأن الماء فيه الصفاء والرطوبة والحركة وكلها على طبع الأرواح والنار أقرب لأنها كالحرارة الغريزية منضجة جامعة مفرقة ثم المركبات وأول مراتبها المعدن فإنه ممتزج وله مراتب أعلاها الذهب وهو قريب من أدنى مراتب النبات وهي مرتبة النبات الذي ينبت في الأرض ولا يبرز ولا يرتفع ثم النباتات وأعلى مراتبها وهي مرتبة الأشجار التي تقبل التعظيم ويكون لثمرها حب يؤخذ منه مثل تلك الشجرة كالبيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة قريبة من أدنى مراتب الحيوانات وهي مرتبة الحشرات التي ليس لها دم سائل ولا هي إلى المنافع الجليلة وسائل كالنباتات ثم الحيوان وأعلى مراتبها قريبة من مرتبة الإنسان فإن الأنعام ولا سيما الفرس تشبه العتال والحمال والساعي ثم الإنسان وأعلى مراتب الإنسان قريبة من مرتبة الملائكة المسبحين لله الحامدين له فالله الذي خلق من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء حياً هو في أعلى المراتب لا يكون إلا منزهاً عن العجز والجهل ويكون له الحمد على إنعام الحياة ويكون له كمال القدرة ونفوذ الإرادة فيجوز منه الإبداء والإعادة وفي الآية لطيفتان إحداهما قوله إِذَا وهي للمفاجأة يقال خرجت فإذا أسد بالباب وهو إشارة إلى أن الله تعالى خلقه من تراب بكن فكان لا أنه صار معدناً ثم نباتاً ثم حيواناً ثم إنساناً وهذا إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولاً إنساناً فينبهه أنه يحيي حيواناً ونامياً وغير ذلك لا أنه خلق أولاً حيواناً ثم يجعله إنساناً فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى فالله تعالى جعل المرتبة الأخيرة في الشيء البعيد عنها غاية من غير انتقال من مرتبة إلى مرتبة من المراتب التي ذكرناها اللطيفة الثانية قوله بُشّرَ إشارة إلى القوة المدركة لأن البشر بشر لا بحركته فإن غيره من الحيوانات أيضاً كذلك وقوله تَنتَشِرُونَ إلى القوة المحركة وكلاهما من التراب عجيب أما الإدراك فلكثافته وجموده وأما الحركة فلثقله وخموده وقوله تَنتَشِرُونَ إشارة إلى أن العجيبة غير مختص
بخلق الإنسان من التراب بل خلق الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب فضلاً عن خلق البشر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى وهي أن الله خلق آدم من تراب وخلقنا منه فكيف قال خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما ما قيل إن المراد من قوله خَلَقَكُمْ أنه خلق أصلكم والثاني أن نقول إن كل بشر مخلوق من التراب أما آدم فظاهر وأما نحن فلأنا خلقنا من نطفة والنطفة من صالح الغذاء الذي هو بالقوة بعض من الأعضاء والغذاء إما من لحوم الحيوانات وألبانها وأسمانها وإما من النبات والحيوان أيضاً له غذاء هو النبات لكن النبات من التراب فإن الحبة من الحنطة والنواة من الثمرة لا تصير شجرة إلا بالتراب وينضم إليها أجزاء مائية ليصير ذلك النبات بحيث يغذو
المسألة الثانية قال تعالى في موضع آخر خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً ( الفرقان 2 ) وقال مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 ) وههنا قال من تُرَابٍ فكيف الجمع قلنا أما على الجواب الأول فالسؤال زائل فإن المراد منه آدم وأما على الثاني فنقول ههنا قال ما هو أصل أول وفي ذلك الموضع قال ما هو أصل ثان لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعاً وهو المني ثم ينعقد ويتكون بخلق الله منه إنساناً أو نقول الإنسان له أصلان ظاهران الماء والتراب فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ففي النبات الذي هو أصل غذاء الإنسان تراب وماء فإن جعل التراب أصلاً والماء لجمع أجزائه المتفتتة فالأمر كذلك وإن جعل الأصل هو الماء والتراب لتثبيت أجزائه الرطبة من السيلان فالأمر كذلك فإن قال قائل الله تعالى يعلم كل شيء فهو يعلم أن الأصل ماذا هو منهما وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال مِنَ الْمَاء بَشَراً وإن كان الماء فكيف قال خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ وإن كانا هما أصلين فلم لم يقل خلقكم منهما فنقول فيه لطيفة وهي أن كون التراب أصلاً والماء أصلاً والماء ليس لذاتيهما وإنما هو يجعل الله تعالى فإن الله نظراً إلى قدرته كان له أن يخلق أول ما يخلق الإنسان ثم يفنيه ويحصل منه التراب ثم يذوبه ويحصل منه الماء لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل يكون وسيلة إلى الناقص فخلق التراب والماء أولاً وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان فإن كان كونهما أصلين ليس أمراً ذاتياً لهما بل بجعل جاعل فتارة جعل الأصل التراب وتارة الماء ليعلم أنه بإرادته واختياره فإن شاء جعل هذا أصلاً وإن شاء جعل ذلك أصلاً وإن شاء جعلهما أصلين
المسألة الثالثة قال الحكماء إن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار وقالوا التراب فيه لثباته والماء لاستمساكه فإن التراب يتفتت بسرعة والهواء لاستقلاله كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ولولاه لما كان فيه استقلال ولا انتصاب والنار للنضج والالتئام بين هذه الأشياء فهذا هذا صحيح أم لا فإن كان صحيحاً فكيف اعتبر الأمرين فحسب ولم يقل في موضع آخر إنه خلقكم من نار ولا من ريح فنقول أما قولهم فلا مفسدة فيه من حيث الشرع فلا ننازعهم فيه إلا إذا قالوا بأنه بالطبيعة كذلك وأما إن قالوا بأن الله بحكمته خلق الإنسان من هذه الأشياء فلا ننازعهم فيه وأما الآيات فنقول ما ذكرتم لا يخالف هذا لأن الهواء جعلتموه للاستقلال والنار للنضج فهما يكونان بعد امتزاج الماء بالتراب فالأصل الموجود أولاهما لا غير فلذلك خصهما ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء ولا سيما كونهما في الإنسان ظاهر لكل أحد فخص الظاهر المحسوس بالذكر
وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
لما بين الله خلق الإنسان بين أنه لما خلق الإنسان ولم يكن من الأشياء التي تبقى وتدوم سنين متطاولة أبقى نوعه بالأشخاص وجعله بحيث يتوالد فإذا مات الأب يقوم الابن مقامه لئلا يوجب فقد الواحد ثلمة في العمارة لا تنسد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله خَلَقَ لَكُمْ دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ ( البقرة 29 ) وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف فنقول خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى أما النقل فهذا وغيره وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي لكن الصبي لم يكلف فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم ولولا ذلك لظهر الفساد
المسألة الثانية قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ بعضهم قال المراد منه أن حواء خلقت من جسم آدم والصحيح أن المراد منه من جنسكم كما قال تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) ويدل عليه قوله لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا ( الروم 21 ) يعني أن الجنسين الحيين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه
المسألة الثالثة يقال سكن إليه للسكون القلبي ويقال سكن عنده للسكون الجسماني لأن كلمة عند جاءت لظرف المكان وذلك للأجسام وإلى للغاية وهي للقلوب
المسألة الرابعة قوله وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً فيه أقوال قال بعضهم مودة بالمجامعة ورحمة بالولد تمسكاً بقوله تعالى ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( مريم 2 ) وقال بعضهم محبة حالة حاجة نفسه ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه وهذا لأن الإنسان يحب مثلاً ولده فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب الرحمة ويمكن أن يقال ذكر من قبل أمرين أحدهما كون الزوج من جنسه والثاني ما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه فالجنسية توجب السكون وذكر ههنا أمرين أحدهما يفضي إلى الآخر فالمودة تكون أولاً ثم إنها تفضي إلى الرحمة ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها وبالعكس وقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ يحتمل أن يقال المراد إن في خلق الأزواج لآيات ويحتمل أن يقال في جعل المودة بينهم آيات أما الأول فلا بد له من فكر لأن خلق الإنسان من الوالدين يدل على كمال القدرة ونفوذ الإرادة وشمول العلم لمن
يتفكر ولو في خروج الولد من بطن الأم فإن دون ذلك لو كان من غير الله لأفضى إلى هلاك الأم وهلاك الولد أيضاً لأن الولد لو سل من موضع ضيق بغير إعانة الله لمات وأما الثاني فكذلك لأن الإنسان يجد بين القرينين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام وليس ذلك بمجرد الشهوة فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة فهو من الله ولو كان بينهما مجرد الشهوة والغضب كثير الوقوع وهو مبطل للشهوة والشهوة غير دائمة في نفسها لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حريم حرمه هي من عند الله ولا يعلم ذلك إلا بفكر
وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ
لما بين دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق وأظهرها خلق السموات والأرض فإن بعض الكفار يقول في خلق البشر وغيره من المركبات إنه بسبب ما في العناصر من الكيفيات وما في السموات من الحركات وما فيها من الاتصالات فإذا قيل له فالسماء والأرض لم تكن لامتزاج العناصر واتصالات الكواكب فلا يجد بداً من أن يقول ذلك بقدرة الله وإرادته ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كثرة عددهم وصغر حجم خدودهم وقدودهم لا يشتبه بغيره والسموات مع كبرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة والثاني اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوباً عنهما لا يبصرهما يقول هذا صوت فلان وهذا صوت فلان الآخر وفيه حكمة بالغة وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع بها التمييز ومن الناس من قال المراد اختلاف اللغة كالعربية والفارسية والرومية وغيرها والأول أصح ثم قال تعالى لايَاتٍ لّلْعَالَمِينَ لما كان خلق السموات والأرض لم يحتمل الاحتمالات البعيدة التي يقولها أصحاب الطبائع واختلاف الألوان كذلك واختلاف الأصوات كذلك قال لّلْعَالَمِينَ لعموم العلم بذلك
وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو اختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة طلباً للرزق بالنهار فذكر من اللوازم أمرين ومن المفارقة أمرين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ قيل أراد به النوم بالليل والنوم بالنهار وهي القيلولة ثم قال وَابْتِغَاؤُكُمْ أي فيهما فإن كثيراً ما يكتسب الإنسان بالليل وقيل أراد منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف البعض بالبعض ويدل عليه آيات أخر منها قوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَة َ ( الإسراء 12 ) وقوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) ويكون التقدير هكذا ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله فأخر الابتغاء وقرته في اللفظ بالفعل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 ) وقوله وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( النحل 14 )
المسألة الثانية قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل
المسألة الثالثة قال لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَسْمَعُونَ وقال من قبل لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وقال لّلْعَالَمِينَ فنقول المنام بالليل والابتغاء من فضله يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله فلم يقل آيات للعالمين ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عامة وأما قوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فاعلم أن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر ومنها ما يكفي فيه مجرد الفكرة ومنها ما لا يخرج بالفكر بل يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ومنها ما يحتاج إلى بعض الناس في تفهمه إلى أمثلة حسية كالأشكال الهندسية لكن خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكر خامد الذكر فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد
وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْى ِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
لما ذكر العرضيات التي للأنفس اللازمة والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق وقال يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لما قدم دلائل الأنفس ههنا قدم العرضيات التي للأنفس وأخر العرضيات التي للآفاق كما أخر دلائل الآفاق بقوله وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الروم 22 )
المسألة الثانية قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم
المنام والابتغاء وقدم في الآفاق العوارض المفارقة على اللوازم حيث قال يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ وذلك لأن الإنسان متغير الحال والعوارض له غير بعيدة وأما اللوازم فيه فقريبة وأما السموات والأرض فقليلة التغير فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو أعجب لكونه أدخل في كونه آية ونزيده بياناً فنقول الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم وله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز عن غيره وهو يتغير في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء والأرض ثابتان لا يتغيران ثم يرى في بعض الأحوال أمطار هاطلة وبروق هائلة والسماء كما كانت والأرض كذلك فهو آية دالة على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحل ويزيل أمراً مع ثبات المحل
المسألة الثالثة كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء
المسألة الرابعة كما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقدم البرق والرعد على المطر منفعة وذلك لأن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً العرب من أهل البوادي فلا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب واعلم أن فوائد البرق وإن لم تظهر للمقيمين بالبلاد فهي ظاهرة للبادين ولهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية وأما كونه آية فظاهر فإن في السحاب ليس إلا ماء وهواء وخروج النار منها بحيث تحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق هو الله قالت الفلاسفة السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء فالهواء ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت ريح قوية تخرق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار كمساس جسم جسماً بعنف وهذا كما أن النار تخرج من وقوع الحجر على الحديد فإن قال قائل الحجر والحديد جسمان صلبان والسحاب والريح جسمان رطبان فيقولون لكن حركة يد الإنسان ضعيفة وحركة الريح قوية تقلع الأشجار فنقول لهم البرق والرعد أمران حادثان لا بد لهما من سبب وقد علم بالبرهان كون كل حادث من الله فهما من الله ثم إنا نقول هب أن الأمر كما تقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة لا بد من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كيفما فرضتم ذلك
المسألة الخامسة قال ههنا لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة من المختلف لكن البرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير متخلف إذ يقع ببلدة دون بلدة وفي وقت دون وقت وتارة تكون قوية وتارة تكون ضعيفة فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن له عقل إن لم يتفكر تفكراً تاماً
وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ والأرض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة ً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
لما ذكر من العوارض التي للسماء والأرض بعضها ذكر من لوازمها البعض وهي قيامها فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم فإن الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه والسماء كذلك لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه فإن قيل إنها تتحرك في مكانها كالرحى ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها لا تخرج عنه وهذه آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه وعلى الموضع الذي هما عليه من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يخرجا منه فلما لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار والفلاسفة قالوا كون الأرض في المكان الذي هي فيه طبيعي لها لأنها أثقل الأشياء والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط والسماء كونها في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها فقيامهما فيهما بطبعهما فنقول قد تقدم مراراً أن القول بالطبيعة باطل والذي نزيده ههنا أنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعر الفلك لا يخالف محدبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محدبة وذلك بالخروج والزوال فإذن الزوال عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها محددة الجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت تجوز عليها الحركة الدورية كما تقولون على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الله من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله خَلَقَ لَكُمْ استدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض في قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارضه المنام والابتغاء ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ومن لوازمها قيام السماء وقيام الأرض لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار بالحق ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يفيد الظن وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 )
المسألة الثانية قوله بِأَمْرِهِ أي بقوله قوما أو بإرادته قيامهما وذلك لأن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في الأمر الذي للتكليف لا في الأمر الذي للتكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله كُنَّ و كُونُواْ قُلْنَا يانَارُ كُونِى موافق للإرادة
المسألة الثالثة قال ههنا وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ وقال قبله وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ ولم يقل أن يريكم وإن قال بعض المفسرين إن أن مضمرة هناك معناه من آياته أن يريكم ليصير كالمصدر بأن وذلك لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل وجعله مصدراً لأن المستقبل ينبىء عن التجدد وفي البرق لما كان ذلك من الأمور التي تتجدد في زمان دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه شيئاً من الحروف المصدرية
المسألة الرابعة ذكر ستة دلائل وذكر في أربعة منها إن في ذلك لآيات ولم يذكر في الأول وهو قوله وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( الروم 20 ) ولا في الآخر وهو قوله وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالاْرْضُ ( الروم 25 ) أما في الأول فلأن قوله بعده وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم أيضاً دليل الأنفس فخلق الأنفس وخلق الأزواج من باب واحد
على ما بينا غير أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير بالتكرير فإذا قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ كان عائداً إليهما وأما في قيام السماء والأرض فنقول في الآيات السماوية ذكر أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون لظهورها فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الدلائل يكون أظهر فلم يميز أحداً عن أحد في ذلك وذكر ما هو مدلوله وهو قدرته على الإعادة وقال ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَة ً مّنَ الاْرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ وفيها مسائل
المسألة الأولى ما وجه العطف يتم وبم تعلق ثم فنقول معناه والله أعلم إنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء
المسألة الثانية قول القائل دعا فلان فلاناً من الجبل يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائل يا فلان إصعد إلى الجبل فيقال دعاه من الجبل ويحتمل أن يكون المدعو يدعى من الجبل كما يقول القائل يا فلان انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الأرض إذا كان الداعي هو الله فالمدعو يدعى من الأرض يعني أنتم تكونون في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون
المسألة الثالثة قوله تعالى إِذَا أَنتُمْ قد بينا أنه للمفاجأة يعني يكون ذلك بكن فيكون
المسألة الرابعة قال ههنا إذا أنتم تخرجون وقال في خلق الإنسان أولاً ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( الروم 20 ) فنقول هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج فلم يقل ههنا ثم
وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
لما ذكر الآيات وكان مدلولها القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليها بقوله وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يعني لا شريك له أصلاً لأن كل من في السموات وكل من في الأرض ونفس السموات والأرض له وملكه فكل له منقادون قانتون والشريك يكون منازعاً مماثلاً فلا شريك له أصلاً ثم ذكر المدلول الآخر فقال تعالى وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي في نظركم الإعادة أهون من الإبداء لأن من يفعل فعلاً أولاً يصعب عليه ثم إذا فعل بعد ذلك مثله يكون أهون وقيل المراد هو هين عليه كما قيل في قول القائل الله أكبر أي كبير وقيل المراد هو أهون عليه أي الإعادة أهون على الخالق من الإبداء لأن في البدء يكون علقة ثم مضغة ثم لحماً ثم عظماً ثم يخلق بشراً ثم يخرج طفلاً يترعرع إلى غير ذلك فيصعب عليه ذلك كله وأما في الإعادة فيخرج
بشراً سوياً بكن فيكون أهون عليه والوجه الأول أصح وعليه نتكلم فنقول هو أهون يحتمل أن يكون ذلك لأن في البدء خلق الأجزاء وتأليفها والإعادة تأليف ولا شك أن الأمر الواحد أهون من أمرين ولا يلزم من هذا أن يكون غيره فيه صعوبة ولنبين هذا فنقول الهين هو ما لا يتعب فيه الفاعل والأهون ما لا يتعب فيه الفاعل بالطريق الأولى فإذا قال قائل إن الرجل القوي لا يتعب من نقل شعيرة من موضع إلى موضع وسلم السامع له ذلك فإذا قال فكونه لا يتعب من نقل خردلة يكون ذلك كلاماً معقولاً مبقي على حقيقته
ثم قال تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي قولنا هو أهون عليه يفهم منه أمران أحدهما هو ما يكون في الآخر تعب كما يقال إن نقل الخفيف أهون من نقل الثقيل والآخر هو ما ذكرنا من الأولوية من غير لزوم تعب في الآخر فقوله وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى إشارة إلى أن كونه أهون بالمعنى الثاني لا يفهم منه الأول وههنا فائدة ذكرها صاحب ( الكشاف ) وهي أن الله تعالى قال في موضع آخر هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ ( مريم 21 ) وقال ههنا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فقدم هناك كلمة على وأخرها هنا وذلك لأن المعنى الذي قال هناك إنه هين هو خلق الولد من العجوز وأنه صعب على غيره وليس بهين إلا عليه فقال هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ يعني لا على غيري وأما ههنا المعنى الذي ذكر أنه أهون هو الإعادة والإعادة على كل مبدىء أهون فقال وهو أهون عليه لا على سبيل الحصر فالتقديم هناك كان للحصر وقوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على الوجه الأول وهو قولنا أهون عليه بالنسبة إليكم له معنى وعلى الوجه الذي ذكرناه له معنى أما على الوجه الأول فلما قال وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى وكان ذلك مثلاً مضروباً لمن في الأرض من الناس فيفيد ذلك أن له المثل الأعلى من أمثلة الناس وهم أهل الأرض ولا يفيد أن له المثل الأعلى من أمثلة الملائكة فقال وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يعني هذا مثل مضروب لكم وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات وأما على الوجه الثاني فمعناه أن له المثل الأعلى أي فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكن ذاته ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وهو منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل المثل الأعلى أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله وقوله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي كامل القدرة على الممكنات شامل العلم بجميع الموجودات فيعلم الأجزاء في الأمكنة ويقدر على جمعها وتأليفها
ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
لما بين الإعادة والقدرة عليها بالمثل بعد الدليلين بين الوحدانية أيضاً بالمثل بعد الدليل ومعناه أن يكون له مملوك لا يكون شريكاً له في ماله ولا يكون له حرمة مثل حرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله
شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله تعالى حتى يعبدوا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ينبغي أن يكون بين المثل والممثل به مشابهة ما ثم إن كان بينهما مخالفة فقد يكون مؤكداً لمعنى المثل وقد يكون موهناً له وههنا وجه المشابهة معلوم وأما المخالفة فموجودة أيضاً وهي مؤكدة وذلك من وجوه أحدها قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ يعني ضرب لكم مثلاً من أنفسكم مع حقارتها ونقصانها وعجزها وقاس نفسه عليكم مع عظمها وكمالها وقدرتها وثانيها قوله مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يعني عبدكم لكم عليهم ملك اليد وهو طار ( ىء ) قابل للنقل والزوال أما النقل فبالبيع وغيره والزوال بالعتق ومملوك الله لا خروج له من ملك الله بوجه من الوجوه فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدمية حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقتل وقطع وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه شريكاً له وثالثها قوله مّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ يعني الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو من الله ومن رزقه والذي من الله فهو في الحقيقة له فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك في مالكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما له من حيث الحقيقة وقوله فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء مما يملكه لكن كل شيء فهو لله فما تدعون إلهيته لا يملك شيئاً أصلاً ولا مثقال ذرة من خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم منه وأما قولكم هؤلاء شفعاؤنا فليس كذلك لأن المملوك هل له عندكم حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوجوه وإلى هذا أشار بقوله تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ( الروم 28 )
المسألة الثانية بهذا نفى جميع وجوه حسن العبادة عن الغير لأن الأغيار إذا لم يصلحوا للشركة فليس لهم ملك ولا ملك فلا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم ولا يرتجى منهم منفعة لعدم ملكهم حتى يعبدوا لنفع وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد والعبد المملوك لا يقدر على شيء فلا تخافوهم كما تخافون أنفسكم فكيف تخافونهم خوفاً أكثر من خوفكم بعضاً من بعض حتى تعبدوهم للخوف
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي نبينها بالدلائل والبراهين القطعية والأمثلة والمحاكيات الاقناعية لقوم يعقلون يعني لا يخفى الأمر بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
ثم قال تعالى بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّاصِرِينَ أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم من غير علم وأثبتوا شركاء من غير
دليل ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي هؤلاء أضلهم الله فلا هادي لهم فينبغي أن لا يحزنك قولهم وههنا لطيفة وهي أن قوله فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مقو لما تقدم وذلك لأنه لما قال لأن الله لا شريك له بوجه ما ثم قال تعالى بل المشركون يشركون من غير علم يقال فيه أنت أثبت لهم تصرفاً على خلاف رضاه والسيد العزيز هو الذي لا يقدر عبده على تصرف يخالف رضاه فقال إن ذلك ليس باستقلاله بل بإرادة الله وما لهم من ناصرين لما تركوا الله تركهم الله ومن أخذوه لا يغني عنهم شيئاً فلا ناصر لهم
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية ولم يهتد المشرك فلا تلتفت أنت إليهم وأقم وجهك للدين وقوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ أي أقبل بكلك على الدين عبر عن الذات بالوجه كما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) أي ذاته بصفاته وقوله حَنِيفاً أي مائلاً عن كل ما عداه أي أقبل على الدين ومل عن كل شيء أي لا يكون في قلبك شيء آخر فتعود إليه وهذا قريب من معنى قوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( الروم 31 ) ثم قال الله تعالى عَبْدُ اللَّهِ أي الزم فطرة الله وهي التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخذهم من ظهر آدم وسألهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ ( الأعراف 172 ) فقالوا بلى وقوله تعالى لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فيه وجوه قال بعض المفسرين هذه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشقاوة ومن كتب شقياً لا يسعد وقيل لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغير لها حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون الله لكن الإيمان الفطري غير كاف ويحتمل أن يقال خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً لإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية وهذا لبيان فساد قول من يقول العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف وقول المشركين إن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلهاً فقال لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك
ثم قال تعالى ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ الذي لا عوج فيه وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن ذلك هو الدين المستقيم
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
لما قال حنيفاً أي مائلاً عن غيره قال مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ أي مقبلين عليه والخطاب في قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ مع النبي والمراد جميع المؤمنين وقوله وَاتَّقُوهُ يعني إذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا فلا تأمنوا
فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة وأقيموا الصلاة أي كونوا عابدين عند حصول القربة كما قلتم قبل ذلك ثم إنه تعالى قال وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال المفسرون يعني ولا تشركوا بعد الإيمان أي ولا تقصدوا بذلك غير الله وههنا وجه آخر وهو أن الله بقوله مُّنِيبِينَ أثبت التوحيد الذي هو مخرج عن الإشراك الظاهر وبقوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أراد إخراج العبد عن الشرك الخفي أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله فإن الدنيا والآخرة تحصيل وإن لم تطلبوها إذا حصل رضا الله وعلى هذا فقوله مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً يعني لم يجتمعوا على الإسلام وذهب كل أحد إلى مذهب ويحتمل أن يقال وكانوا شيعاً يعني بعضهم عبد الله للدنيا وبعضهم للجنة وبعضهم للخلاص من النار وكل واحد بما في نظره فرح وأما المخلص فلا يفرح بما يكون لديه وإنما يكون فرحه بأن يحصل عند الله ويقف بين يديه وذلك لأن كل ما لدينا نافد لقوله تعالى مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ( النحل 96 ) فلا مطلوب لكم فيما لديكم حتى تفرحوا به وإنما المطلوب ما لدى الله وبه الفرح كما قال تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( آل عمران 170 ) جعلهم فرحين بكونهم عند ربهم ويكون ما أوتوا من فضله الذي لا نفاد له ولذلك قال تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ( يونس 58 ) لا بما عندهم فإن كل ما عند العبد فهو نافد أما في الدنيا فظاهر وأما في الآخرة فلأن ما وصل إلى العبد من الالتذاذ بالمأكول والمشروب فهو يزول ولكن الله يجدد له مثله إلى الأبد من فضله الذي لا نفاد له فالذي لا نفاد له هو فضله
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَة ً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعرفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدة فإن عند انقطاع رجائه عن الكل يرجع إلى الله ويجد نفسه محتاجة إلى شيء ليس كهذه الأشياء طالبة به النجاة ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَة ً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ يعني إذا خلصناه يشرك بربه ويقول تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني لا بل ينبغي أن لا يعتقد أنه تخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً فإنه شرك خفي مثاله رجل في بحر أدركه الغرق فيهيىء له لوحاً يسوقه إليه ريح فيتعلق به وينجو فيقول تلخصت بلوح أو رجل أقبل عليه سبع فيرسل الله إليه رجلاً فيعينه فيقول خلصني زيد فهذا إذا كان عن اعتقاد فهو شرك خفي وإن كان بمعنى أن الله خلصني على يد زيد فهو أخفى وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أَذَاقَهُمْ فيه لطيفة وذلك لأن الذوق يقال في القليل فإن العرف ( أن ) من أكل مأكولاً كثيراً لا يقول ذقت ويقال في النفي ما ذقت في بيته طعاماً نفياً للقليل ليلزم نفي الكثير بالأولى ثم إن تلك الرحمة لما كانت خالية منقطعة ولم تكن مستمرة في الآخرة إذ لهم في الآخرة عذاب قال أذاقهم
ولهذا قال في العذاب ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 48 ) ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( العنكبوت 55 ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) لأن عذاب الله الواصل إلى العبد بالنسبة إلى الرحمة الواصلة إلى عبيد آخرين في غاية القلة
المسألة الثانية قوله تعالى مِنْهُ أي من الضر في هذا التخصيص ما ذكرناه من الفائدة وهي أن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي عن ذلك الضر وحده وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة
المسألة الثالثة قال ههنا إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ وقال في العنكبوت فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( العنكبوت 65 ) ولم يقل فريق وذلك لأن المذكور هناك ضر معين وهو ما يكون من هول البحر والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل والذي لا يشرك به بعد الخلاص فرقة منهم في غاية القلة فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من المشركين وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون والمتخلص من أنواع الضر خلق كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما وتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضر ولم يبقوا مشركين وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضر البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر من المؤمنين جمعاً كثيراً جعل الباقي فريقاً
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ
قوله تعالى لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قد تقدم تفسيره في العنكبوت بقي بيان فائدة الخطاب ههنا في قوله فَتَمَتَّعُواْ وعدمه هناك في قوله وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ فنقول لما كان الضر المذكور هناك ضراً واحداً جاز أن لا يكون في ذلك الموضع من المخلصين من ذلك الضر أحد فلم يخاطب ولما كان المذكور ههنا مطلق الضر ولا يخلو موضع من المخلصين عن الضر فالحاضر يصح خطابه بأنه منهم فخاطب
ثم قال تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ لما سبق قوله تعالى بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ ( الروم 29 ) أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى الله حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الانكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى أم للاستفهام ولا يقع إلا متوسطاً كما قال قائلهم أيا ظبية الوعاء بين جلاجل
وبين النقا آأنت أم أم سالم
فما الاستفهام الذي قبله فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول أهم يتبعون الأهواء من غير علم أم لهم دليل على ما يقولون وليس الثاني فيتعين الأول
المسألة الثانية قوله تعالى فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا وفيه معنى لطيف وهو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له لأن الكلام هو المسموع وما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به وما لا دليل عليه لا يقبل فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل وحسن جاز إثبات التكلم للدليل وحسن
وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا لما بين حال المشرك الطاهر شركه بين حال المشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته الله للدنيا فإذا آتاه رضي وإذا منعه سخط وقنط ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة والرخاء فمن الناس من يعبد الله في الشدة كما قال تعالى وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ ( الروم 33 ) ومن الناس من يعبده إذا آتاه نعمة كما قال تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا والأول كالذي يخدم مكرها مخافة العذاب والثاني كالذي يخدم أجيراً لتوقع الأجر وكلاهما لا يكون من الثبتين في ديوان المرتبين في الجرائد الذين يأخذون رزقهم سواء كان هناك شغل أو لم يكن فكذلك القسمان لا يكونان من المؤمنين الذين لهم رزق عند ربهم وفيه مسألة وهي أن قوله تعالى فَرِحُواْ بِهَا إشارة إلى دنو همتهم وقصور نظرهم فإن فرحهم يكون بما وصل إليهم لا بما وصل منه إليهم فإن قال قائل الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ ( يونس 58 ) وههنا ذمهم على الفرح بالرحمة فكيف ذلك فنقول هناك قال فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله وهو كما أن الملك لو حط عند أمير رغيفاً على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطوا عنده زبدية طعام يفرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيراً غير ملتفت إليه رغيفاً أو زبدية طعام أيضاً يفرح لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك وفرح الفقير بكون ذلك رغيفاً وزبدية
ثم قال تعالى بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لم يذكر عند النعمة سبباً لها لتفضله بها وذكر عند العذاب سبباً لأن الأول يزيد في الإحسان والثاني يحقق العدل قوله إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ إذا للمفاجأة أي لا يصبرون على ذلك قليلاً لعل الله يفرج عنهم وإنه يذكرهم به
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لم يعلموا أن الكل من الله فالمحقق ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد وهو الله فلا يكون
له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولكن ذلك مرتبة المؤمن الموحد المحقق ولذلك قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
فَأاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين أن العبادة لا ينبغي أن تكون مقصورة على حالة الشدة بقوله وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ ( الروم 33 ) ولا أن تكون مقصورة على حالة أخذ شيء من الدنيا كما هو عادة المدوكر المتسلسل يعبد الله إذا كان في الخوانق والرباطات للرغيف والزبدية وإذا خلا بنفسه لا يذكر الله بقوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً فَرِحُواْ بِهَا وبين أنه ينبغي أن يكون في حالة بسط الرزق وقدره عليه نظره على الله الخالق الرازق ليحصل الإرشاد إلى تعظيم الله والإيمان قسمان تعظيم لأمر الله وشفقة على خلق الله فقال بعد ذلك فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وفيه وجه آخر هو أن الله تعالى لما بين أن الله يبسط الرزق ويقدر فلا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالانفاق وإذا قدر لا يزداد بالإمساك وفيه مسائل
المسألة الأولى في تخصيص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات فنقول أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال سواء كان زكوياً أو لم يكن وسواء كان بعد الحول أو قبله لأن المقصود ههنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد أما القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كعقار أو مال لم يحل عليه الحول والمسكين كذلك فإن من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن يلزمه ذلك وإن لم تكن عليه زكاة والفقير داخل في المسكين لأن من أوصى للمساكين شيئاً يصرف إلى الفقراء أيضاً وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم واعتبر ذلك في العامل والمكاتب والمؤلفة والمديون ثم اعلم أن على مذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث قال المسكين من له شيء ما فنقول وإن كان الأمر كذلك لكن لا نزاع في أن إطلاق المسكين على من لا شيء له جائز فيكون الاطلاق هنا بذلك الوجه والفقير يدخل في ذلك بالطريق الأولى
المسألة الثانية في تقدم البعض على البعض فنقول لما كان دفع حاجة القريب واجباً سواء كان في
شدة ومخمصة أو لم يكن كان مقدماً على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة ولما كان المسكين حاجته ليست مختصة بموضع كان مقدماً على من حاجته مختصة بموضع دون موضع
المسألة الثالثة ذكر الأقارب في جميع المواضع كذا اللفظ وهو ذو القربى ولم يذكر المسكين بلفظ ذي المسكنة وذلك لأن القرابة لا تتجدد فهي شيء ثابت وذو كذا لا يقال إلا في الثابت فإن من صدر منه رأي صائب مرة أو حصل له جاه يوماً واحداً أو وجد منه فضل في وقت يقال ذو رأي وذو جاه وذو فضل وإذا دام ذلك له أو وجد منه ذلك كثيراً يقال له ذو الرأي وذو الفضل فقال ذَا الْقُرْبَى إشارة إلى أن هذا حق متأكد ثابت وأما المسكنة فتطرأ وتزول ولهذا المعنى قال مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) فإن المسكين يدوم له كونه ذا متربة ما دامت مسكنته أو يكون كذلك في أكثر الأمر
المسألة الرابعة قال فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ثم عطف المسكين وابن السبيل ولم يقل فآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم لأن العبارة الثانية لكون صدور الكلام أولاً للتشريك والأولى لكون التشريك وارداً على الكلام كأنه يقول أعط ذا القربى حقه ثم يذكر المسكين وابن السبيل بالتبعية ولهذا المعنى إذا قال الملك خل فلان يدخل وفلاناً أيضاً يكون في التعظيم فوق ما إذا قال خل فلاناً وفلاناً يدخلان وإلى هذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله ( بئس خطيب القوم أنت ) حيث قال الرجل من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى ولم يقل ومن عصى الله ورسوله
المسألة الخامسة قوله ذالِكَ خَيْرٌ يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره ويمكن أن يقال ذلك خير في نفسه وإن لم يقس إلى غيره لقوله تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ ( الحج 77 ) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ( البقرة 148 ) والثاني أولى لعدم احتياجه إلى إضمار ولكونه أكثر فائدة لأن الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة عند نزول درجة ما يقاس إليه كما يقال السكوت خير من الكذب وما هو خير في نفسه فهو حسن ينفع وفعل صالح يرفع
المسألة السادسة قوله تعالى لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارة إلى أن الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل فإن من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة من يتصدق برغيف لله وقوله وَجْهُ اللَّهِ أي يكون عطاؤه لله لا غير فمن أعطى للجنة لم يرد به وجه الله وإنما أراد مخلوق الله
المسألة السابعة كيف قال وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مع أن للإفلاح شرائط أخر وهي المذكورة في قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) فنقول كل وصف مذكور هناك يفيد الإفلاح فقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواة ِ فَاعِلُونَ ( المؤمنون 4 ) وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 المعارج 32 ) إلى غير ذلك عطف على المفلح أي هذا مفلح وذاك مفلح وذاك الآخر مفلح لا يقال لا يحصل الإفلاح لمن يتصدق ولا يصلي فنقول هذا كقول القائل العالم مكرم أي نظراً إلى علمه ثم إذا حد في الزنا على سبيل النكال وقطعت يده في السرقة لا يبطل ذلك القول حتى يقول القائل إنما كان ذلك لأنه أتى بالفسق فكذلك إيتاء المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللهم إلا إذا وجد مانع من ارتكاب محظور أو ترك واجب
المسألة الثامنة لم لم يذكر غيره من الأفعال كالصلاة وغيرها فنقول الصلاة مذكورة من قبل لأن الخطاب ههنا بقوله فَأْتِ مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره تبع وقد قال له من قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً ( الروم 30 ) وقال
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ ( الروم 31 )
المسألة التاسعة قوله تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) يفهم منه الحصر وقد قال في أول سورة البقرة وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة وآمن بما أنزل على رسوله وبما أنزل من قبله وبالآخرة فلو كان المفلح منحصراً في أولئك المذكورين في سورة البقرة فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً فنقول هذا هو ذاك لأنا بينا أن قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ متصل بهذا الكلام فإذا أتى بالصلاة وآتى المال وأراد وجه الله فقد ثبت أنه مؤمن مقيم للصلاة مؤت للزكاة معترف بالآخرة فصار مثل المذكور في البقرة
وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَواة ٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
ذكر هذا تحريضاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ترغبون فيه وتؤتونه وذلك لا يربوا عند الله والزكاة تنمو عند الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ( إن الصدقة تقع في يد الرحمن فتربوا حتى تصير مثل الجبل ) فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر وقوله تعالى وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ أي أولئك ذوو الأضعاف كالموسر لذي اليسار وأقل ذلك عشرة أضعاف كل مثل لما آتى في كونه حسنة لا في المقدار فلا يفهم أن من أعطى رغيفاً يعطيه الله عشرة أرغفة بل معناه أن ما يقتضيه فعله من الثواب على وجه الرحمة يضاعفه الله عشرة مرات على وجه التفضل فبالرغيف الواحد يكون له قصر في الجنة فيه من كل شيء ثواباً نظراً إلى الرحمة وعشر قصور مثله نظراً إلى الفضل مثاله في الشاهد ملك عظيم قبل من عبده هدية قيمتها درهم لو عوضه بعشرة دراهم لا يكون كرماً بل إذا جرت عادته بأنه يعطي على مثل ذلك ألفاً فإذا أعطى له عشرة آلاف فقد ضاعف له الثواب
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَى ْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
قوله تعالى اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ أي أوجدكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أي أبقاكم فإن العرض مخلوق وليس بمبقي ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَى ْء جمع في هذه الآية بين إثبات
الأصلين الحشر والتوحيد أما الحشر فبقوله ثُمَّ يُحْيِيكُمْ والدليل قدرته على الخلق ابتداء وأما التوحيد فبقوله هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَى ْء ثم قال تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحاً أي نزهوه ولا تصفوه بالإشراك وقوله وَتَعَالَى أي لا يجوز عليه ذلك وهذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك وإذا قال وتعالى فكأنه قال ولا يجوز عليه ذلك
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( المؤمنون 71 ) كما قال تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ( مريم 90 ) وإلى هذا أشار بقوله تعالى لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ واختلفت الأقوال في قوله فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ فقال بعض المفسرين المراد خوف الطوفان في البر والبحر وقال بعضهم عدم إنبات بعض الأراضي وملوحة مياه البحار وقال آخرون المراد من البحر المدن فإن العرب تسمى المدائن بحوراً لكون مبنى عمارتها على الماء ويمكن أن يقال إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار واعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول والاعتقاد فيسمى فسقاً وعصياناً وذلك لأن المعصية فعل لا يكون لله بل يكون للنفس فالفاسق مشرك بالله بفعله غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه ولسانه فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما وقوله تعالى لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم وكل موجب افترائهم وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن الله يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام فيقول القائل لماذا لا تؤدبه بالكلام فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع فإذا زجره ولم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد ويطمئن قلبه
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين