كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فيه أقوال
القول الأول المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده ونظيره قوله تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الأنبياء 44 ) وقوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ ( فصلت 53 )
والقول الثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا المراد موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار وقال الواحدي وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع وتقريره أن يقال أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله وقيل نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع
ثم قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ معناه لا راد لحكمه والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب
فإن قيل ما محل قوله لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ
قلنا هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع
ثم قال وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ قال ابن عباس يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعاً قريباً لا يدفعه دافع
أما قوله وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى
ثم قال فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا قال الواحدي معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه أي هو حاصل بتخليقه وإرادته لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد وأيضاً فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمان له من مكرهم كأنه قيل له إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضاً من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من
الله تعالى وذهب بعض الناس إلى أن المعنى فلله جزاء المكر وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم قال الواحدي والأول أظهر لقولين بدليل قوله يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يريد أن اكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك فكان الكل من الله تعالى قالت المعتزلة الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ دلت على قولنا لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر فوجب أن لا يكون للعبد كسب
وجوابه أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال وَسَيَعْلَمْ الْكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وَسَيَعْلَمْ الْكَافِرُ على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( الكفار والكافرون والذين كفروا والكفر ) أي أهله قرأ جناح بن حبيش ( وسيعلم الكافر ) من أعلمه أي سيخبر
المسألة الثانية المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) والمعنى إنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة وذلك كالزجر والتهديد
والقول الثاني وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون
والقول الثالث وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل والقول الأول هو الصواب
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين الأول شهادة الله على نبوته والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقاً في ادعاء الرسالة وهذا أعلى مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله تعالى فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة والثاني قوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وفيه قراءتان إحداهما القراءة المشهورة وَمَنْ عِندَهُ يعني والذي عنده علم الكتاب والثانية وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وكلمة ( من ) ههنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال
القول الأول أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم عبد الله بن سلام وسلمان
الفارسي وتميم الداري ويروى عن سعيد بن جبير أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية مدنية وأيضاً فإثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز وهذا السؤال واقع
القول الثاني أراد بالكتاب القرآن أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزاً فقوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم
القول الثالث ومن عنده علم الكتاب المراد به الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل يعني أن كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهداً على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رسول حق من عند الله تعالى
القول الرابع ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى وهو قول الحسن وسعيد بن جبير والزجاج قال الحسن لا والله ما يعني إلا الله والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم وقال الزجاج الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره وهذا القول مشكل لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزاً في الجملة إلا أنه خلاف الأصل لا يقال شهد بهذا زيد والفقيه بل يقال شهد به زيد الفقيه وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ ( التين 1 ) فأي امتناع فيما ذكره الزجاج
وأما القراءة الثانية وهي قوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ على من الجارة فالمعنى ومن لدنه علم الكتاب لأن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه ثم على هذه القراءة ففيه أيضاً قراءتان ومن عنده علم الكتاب والمراد العلم الذي هو ضد الجهل أي هذا العلم إنما حصل من عند الله
والقراءة الثانية ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله والمعنى أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله والمعنى أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن والله تعالى أعلم بالصواب
تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به أن يخص ولدي محمداً بالرحمة والغفران وأن يذكرني بالدعاء وأقول في مرثية ذلك الولد شعراً أرى معالم هذا العالم الفاني
ممزوجة بمخافات وأحزان
خيراته مثل أحلام مفزعة
وشره في البرايا دائم داني
سورة إبراهيم
مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان
وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
سورة إبراهيمعليه السلام خمسون وآيتان مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ فيكون فيه فائدة عظيمة وقوله الر كِتَابٌ معناه أن السورة المسماة بالر كتاب أنزلناه إليك لغرض كذا وكذا فقوله الر مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ صفة لذلك الخبر وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلاً من عند الله تعالى قالت المعتزلة النازل والمنزل لا يكون قديماً
وجوابنا أن الموصوف بالنازل والمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة بلا نزاع
المسألة الثانية قالت المعتزلة اللام في قوله لِتُخْرِجَ النَّاسَ لام الغرض والحكمة وهذا يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية المصالح
أجاب أصحابنا عنه بأن من فعل فعلاً لأجل شيء آخر فهذا إنما يفعله لو كان عاجزاً عن تحصيل هذا المقصود إلا بهذه الواسطة وذلك في حق الله تعالى محال وإذا ثبت بالدليل أن يمتنع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل ثبت أن كل ظاهر أشعر به فإنه مؤول محمول على معنى آخر
المسألة الثالثة إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته
المسألة الرابعة قال القاضي هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات أحدها أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب وثانيها أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول إنك تقول إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج وثالثها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالماً قادراً حكيماً ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه
والجواب عن الكل أن نقول الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر والأول باطل لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال والثاني عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال وإن لم يكن منه بل من الله تعالى فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم
المسألة الخامسة احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ فإن معنى الآية أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم والمراد بهذا الإذن إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق وحمل الإذن على الأمر محال لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق وأيضاً حمل الإذن على العلم محال لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق وذلك يدل على أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف
قلنا لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول المراد بالإذن إما أن يكون أمراً يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر ألبتة فامتنع أن يقال إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم وقد دللنا في ( الكتب العقلية ) على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا والله أعلم
المسألة السادسة القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والإمام احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم
وجوابنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يكون كالمنبه وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل والله أعلم
المسألة السابعة الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد لأنه تعالى قال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد
المسألة الثامنة في قوله تعالى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وجهان الأول أنه بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( الأعراف 75 ) الثاني يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل إلى أي نور فقيل إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
المسألة التاسعة قالت المعتزلة الفاعل إنما يكون آتياً بالصواب والصلاح تاركاً للقبيح والعبث إذا كان قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات فإنه إن لم يكن قادراً على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز وإن لم يكن عالماً بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل وإن لم يكن غنياً عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة أما إذا كان قادراً على الكل عالماً الكل غنياً عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح فقوله الْعَزِيزُ إشارة إلى كمال القدرة وقوله الْحَمِيدِ إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد في كل أفعاله وذلك إنما يحصل إذا كان عالماً بالكل غنياً عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفاً بكونه شريفاً رفيعاً عالياً لكونه صراطاً مستقيماً للإله الموصوف بكونه عزيزاً حميداً فلهذا المعنى وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام
المسألة العاشرة إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد والله أعلم
اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَة ِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر اللَّهِ مرفوعاً بالابتداء وخبره ما بعده وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفاً على قوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وههنا بحث وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا الله جار مجرى الإسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق والحق عندنا هو الأول ويدل عليه وجوه الأول أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق فلو كان قولنا الله اسماً مشتقاً من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه فلو كان قولنا الله لفظاً مشتقاً لكان مفهومه صالحاً لوقوع الشركة فيه ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجباً للتوحيد لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم الثاني أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولاً قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت الثالث أن ما سوى قولنا الله كلها دالة إما على الصفات السلبية كقولنا القدوس السلام أو على الصفات الإضافية كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا العالم القادر أو على ما يتركب من هذه الثلاثة فلو لم يكن قولنا الله اسماً للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظاً دالة على صفاته ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص والرابع قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله وذلك يدل على أن قولنا الله اسم لذاته المخصوصة وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ ( الحشر 24 ) فإما أن يعكس فيقال هو الخالق المصور البارىء الله فذلك غير جائز
وإذا ثبت هذا فنقول الذين قرؤا اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله اللَّهِ مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبراً عنه وهذا هو الحق الصحيح فأما الذين قرؤا اللَّهِ بالجر عطفاً على الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال الله الخالق وإما أن يقال الخالق الله فهذا لا يحسن وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه الأول قال أبو عمرو بن العلاء القراءة بالخفض على التقديم والتأخير والتقدير صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات والثاني أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولاً ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وتحقيق القول فيه أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحاً محموداً إذا كان صراطاً للعالم القادر الغني والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو فعطف عليها قوله اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إزالة لتلك الشبهة الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الله عطف بيان للعزيز الحميد وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم الرابع قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله
في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جارياً مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم وأما في هذه الآية حيث جعل وصفاً للعزيز الحميد فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظاً مشتقاً فلا جرم بقي صفة الخامس أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزاً حميداً فلما قال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض
المسألة الثانية قوله اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق لكان حاصلاً في السماء وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه فلزم كونه ملكاً لنفسه وهو محال فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال
واعلم أن قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضراً ولا نفعاً ويخلق ولا يخلق ولا إدراك لها ولا فعل فالويل ثم الويل لمن كان كذلك وإنما خص هؤلاء بالويل لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه ونظيره قوله تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع الأول قوله الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى إن شئت جعلت ( الذين ) صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله أُوْلَائِكَ وإن شئت نصبته على الذم
المسألة الثانية الاستحباب طلب محبة الشيء وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محباً لذلك الشيء مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محباً لهما أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلاً عن الحياة الأخروية وعن معايب هذه الحياة العاجلة ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب فأحدها أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام
والغموم والهموم والمخاوف والأحزان وثانيها أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات وثالثها أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء ورابعها أنها حقيرة قليلة وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلاً عن معايبها وكان غافلاً عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية ولذلك قال تعالى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه
المسألة الثالثة إنما قال يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ لأن فيه إضماراً والتقدير يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموماً إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموماً حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة
النوع الثاني من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
واعلم أن من كان موصوفاً باستحباب الدنيا فهو ضال ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا واعلم أن الإضلال على مرتبتين
المرتبة الأولى أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم
والمرتبة الثانية أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال وإليه الإشارة بقوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا قال صاحب ( الكشاف ) الأصل في الكلام أن يقال ويبغون لها عوجاً فحذف الجار وأوصل الفعل ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه
الوجه الأول أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد مثل السواد والبياض فكذا ههنا الضلال الذي يكون واقعاً على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال
والوجه الثاني أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم
والوجه الثالث أن يكون المراد من الضلال الهلاك والتقدير أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم فإنه متى كان الأمر كذلك كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل وعن الغلط والخطأ أبعد فهذا هو وجه النظم
المسألة الثانية احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالإصطلاح
المسألة الثالثة زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف وتمسكوا بهذه الآية من وجهين الأول أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه الثاني قالوا إن قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 ) المراد بذلك اللسان لسان العرب وذلك يقتضي أن يقال إنه ليس له قوم سوى العرب وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط
والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد من قَوْمِهِ أهل بلده وليس المراد من قَوْمِهِ أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ( الأعراف 158 ) بل إلى الثقلين لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 )
المسألة الرابعة تمسك أصحابنا بقوله تعالى فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء على أن الضلال والهداية من الله تعالى والآية صريحة في هذا المعنى قال الأصحاب ومما يؤكد هذا المعنى ما روي أن
أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما فقال عليه السلام ( ما هذا ) فقال بعضهم يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ويقول عمر كلاهما من الله وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر فتعرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما قاله أبو بكر وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال ( أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما ) قالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ والمعنى أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود والثاني أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك وما المقصود من إرسالك وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل الثالث أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وذلك لا يقوله عاقل والرابع أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) يدل على مذهب العدل وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه وهو قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد فوجب المصير إلى التأويل وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) ولا بأس بإعادة بعضها فالأول أن المراد بالإضلال هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال فلان يكفر فلاناً ويضلله أي يحكم بكونه كافراً ضالاً والثاني أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة والثالث أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه قال صاحب ( الكشاف ) المراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ لا يليق به أن يضلهم
قلنا قال الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته ونظيره قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ ( التوبة 32 ) فقوله وَيَأْبَى اللَّهُ في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك لأنه لا يحسن أن يقال يريدون أن يأبى الله فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ونظيره أيضاً قوله لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ ( الحج 5 ) ومن ذلك قولهم أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ومثله قول الشاعر
يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول ههنا قال تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ ثم قال فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى كأنه تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى أما قوله ثانياً لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له ما الفائدة في بيانك ودعوتك فنقول يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً وهل أقدر على جعل علمه جهلاً وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه وأما قوله ثالثاً يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
قلنا ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وأما قوله رابعاً إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) يدل على صحة الاعتزال فنقول قد ذكرنا أن قوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ يدل على صحة مذهب أهل السنة وأما قوله خامساً أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له فنقول وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيراً للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا قال الأصم آيات موسى عليه السلام هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل وإنزال المن والسلوى وقال الجبائي أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه من بني إسرائيل بآياته وهي دلالاته وكتبه المنزلة عليه وأمره أن يبين لهم الدين وقال أبو مسلم الأصفهاني إنه تعالى قال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) وقال في حق موسى عليه السلام أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ والمقصود بيان أن المقصود من البعثة واحد في حق جميع الأنبياء عليهم السلام وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات
المسألة الثانية قال الزجاج قوله أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ أي بأن أخرج قومك ثم قال ءانٍ ههنا تصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي ويكون المعنى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك كأن المعنى قلنا له أخرج قومك ومثله قوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) أي أمشوا والتأويل قيل لهم امشوا وتصلح أيضاً أن تكون المخففة التي هي للخبر والمعنى أرسلناه بأن يخرج قومه إلا أن الجار حذف ووصلت ( أن ) بلفظ الأمر ونظيره قولك كتبت إليه أن قم وأمرته أن قم ثم إن الزجاج حكى هذين القولين عن سيبويه
أما قوله وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فاعلم أنه تعالى أمر موسى عليه السلام في هذا المقام بشيئين أحدهما أن يخرجهم من ظلمات الكفر والثاني أن يذكرهم بأيام الله وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي أيام جمع يوم واليوم هو مقدار المدة من طلوع الشمس إلى غروبها وكانت الأيام في الأصل أيوام فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت إحداهما في الأخرى وغلبت الياء
المسألة الثانية أنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها يقال فلان عالم بأيام العرب ويريد وقائعها وفي المثل من ير يوماً ير له معناه من رؤي في يوم مسروراً بمصرع غيره ير في يوم آخر حزيناً بمصرع نفسه وقال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( آل عمران 140 )
إذا عرفت هذا فالمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد فالترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في سائر ما سلف من الأيام والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ويجذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب
واعلم أن أيام الله في حق موسى عليه السلام منها ما كان أيام المحنة والبلاء وهي الأيام التي كانت بنو
إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى وانفلاق البحر وتظليل الغمام
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ والمعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صباراً شكوراً لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول كان المؤمن صباراً وإن كان الثاني كان شكوراً وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولاً بالشكر وإن جرى ما لا يلائم طبعه كان مشغولاً بالصبر
فإن قيل إن ذلك التذكيرات آيات للكل فلماذا خص الصبار الشكور بها
قلنا فيه وجوه الأول أنهم لما كانوا هم المنتفعون بتلك الآيات صارت كأنها ليست آيات إلا لهم كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا والثاني لا يبعد أن يقال الانتفاع بهذا النوع من التذكير لا يمكن حصوله إلا لمن كان صابراً أو شاكراً أما الذي لا يكون كذلك لم ينتفع بهذه الآيات
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهم بأيام الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه ذكرهم بها فقال وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ فقوله إِذْ أَنجَاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الأنعام أي اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول ذكر في سورة البقرة يُذَبّحُونَ ( البقرة 49 ) وفي سورة الأعراف يَقْتُلُونَ ( الأعراف 41 ) وههنا وَيُذَبّحُونَ مع الواو فما الفرق
والجواب قال تعالى في سورة البقرة يُذَبّحُونَ بغير واو لأنه تفسير لقوله سُوء الْعَذَابِ وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول أتاني القوم زيد وعمرو لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( الفرقان 68 69 ) فالآثام لما صار مفسراً بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضاً فقوله وَيُذَبّحُونَ نوع آخر من العذاب لا أنه تفسير لما قبله
السؤال الثاني كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم
والجواب من وجهين أحدهما أن تمكين الله إياهم حتى فعلوا ما فعلوا كان بلاء من الله والثاني وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم والبلاء هو الابتلاء وذلك قد يكون بالنعمة تارة وبالمحنة أخرى قال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 ) وهذا الوجه أولى لأنه يوافق صدر الآية وهو قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
السؤال الثالث هب أن تذبيح الأبناء كان بلاء أما استحياء النساء كيف يكون بلاء
الجواب كانوا يستخدمونهن بالاستحياء في الخلاص منه نعمة وأيضاً إبقاؤهن منفردات عن الرجال فيه أعظم المضار
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ
اعلم أن قوله وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ومعنى تَأَذَّنَ أذن ربكم ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبهة والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال لَئِن شَكَرْتُمْ فأجرى تَأَذَّنَ مجرى قال لأنه ضرب من القول وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لَئِن شَكَرْتُمْ
واعلم أن المقصود من الآية بيان أن من اشتغل بشكر نعم الله زاده الله من نعمه ولا بد ههنا من معرفة حقيقة الشكر ومن البحث عن تلك النعم الزائدة الحاصلة عن الاشتغال بالشكر أما الشكر فهو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة وأما الزيادة في النعم فهي أقسام منها النعم الروحانية ومنها النعم الجسمانية أما النعم الروحانية فهي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه ومن كثر إحسانه إلى الرجل أحبه الرجل لا محالة فشغل النفس بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه يوجب تأكد محبة العبد لله تعالى ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته فثبت أن الاشتغال بالشكر يوجب مزيد النعم الروحانية وأما مزيد النعم الجسمانية فلأن الاستقراء دل على أن من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر وبالجملة فالشكر إنما حسن موقعه لأنه اشتغال بمعرفة المعبود وكل مقام حرك العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب السعادة في الدين والدنيا
وأما قوله وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ فالمراد منه الكفران لا الكفر لأن الكفر المذكور في مقابلة الشكر ليس إلا الكفران والسبب فيه أن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمة من الله والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العقاب والعذاب وأيضاً فههنا دقيقة أخرى وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فوجوده إنما يحصل بإيجاد الواجب لذاته وعدمه إنما يحصل بإعدام الواجب لذاته وإذا كان كذلك فكل ما سوى الحق فهو منقاد للحق مطواع له وإذا كانت الممكنات بأسرها منقادة للحق سبحانه فكل قلب حضر فيه نور معرفة الحق وشرف جلاله انقاد لصاحب ذلك القلب ما سواه لأن حضور ذلك النور في قلبه يستخدم كل ما سواه بالطبع وإذا خلا القلب عن ذلك النور ضعف وصار خسيساً فيستخدمه كل ما سواه ويستحقره كل ما يغايره فبهذا الطريق الذوقي يحصل العلم بأن الاشتغال بمعرفة الحق يوجب انفتاح أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة وأما الإعراض عن معرفة الحق بالاشتغال بمجرد الجسمانيات يوجب انفتاح أبواب الآفات والمخافات في الدنيا والآخرة
وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنياً وقد فرضناه غنياً هذا خلف فثبت أن كونه غنياً يوجب كونه واجب الوجود في ذاته وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته كان أيضاً واجب الوجود بحسب جميع كمالاته إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل فحينئذ لا يكون غنياً وقد فرضناه غنياً هذا خلف فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته وإذا كان الأمر كذلك كان حميداً لذاته لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنياً حميداً يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينتقص بكفران الكافرين فلهذا المعنى قال إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ وهذه المعاني من لطائف الأسرار
واعلم أن قولنا إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر فالمعنى لا يتفاوت ألبتة فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله
ثم إنه تعالى قال أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه اتبداء مخاطبة لقوم الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أنه تعالى ذكر أقواماً ثلاثة وهم قوم نوح وعاد وثمود
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه احتمالين الأول أن يكون قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً والثاني أن يقال قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ فيه قولان
القول الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل
والقول الثاني أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد وعن ابن عباس بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان 38 ) وقوله مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( عافر 78 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد وقال ( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق ) قال القاضي وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضاً تحصيل العلم بالأنساب الموصولة
فإن قيل أي القولين أولى
قلنا القول الثاني عندي أقرب لأن قوله تعالى لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ نفى العلم بهم وذلك يقتضي نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم ولما كان ظاهر الآية دليلاً على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور أولها قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وفي معناه قولان الأول أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان والثاني أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازاً وتوسعاً أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أن يكون الضمير في أَيْدِيهِمْ و أَفْوَاهِهِمْ عائداً إلى الكفار وعلى هذا ففيه احتمالات الأول أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم ونظيره قوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران 119 ) وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى وهو اختيار القاضي والثاني أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك فوضع يده على فيه والثالث أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث وهذا مروي عن الكلبي والرابع أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه وليس
عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ألا ترى إلى قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
الوجه الثاني أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان الأول أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم الثاني أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكرم ألبتة
الوجه الثالث أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان الأول أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم ورداً عليهم والثاني أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعاً لهم من الكلام ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك أما على القول الثاني وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه
الوجه الأول قال أبو مسلم الأصفهاني المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن اسماع الحجة انعام عظيم والإنعام يسمى يداً يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد المراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادي وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ونظيره قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ( النور 15 ) فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه فهذا تمام كلام أبي مسلم في تقرير هذا الوجه
الوجه الثاني نقل محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ أنهم سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب رد يده في فيه وتقول العرب كلمت فلاناً في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب ثم إنه زيف هذا الوجه وقال إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
الوجه الثالث المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال فقوله رُدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل ( في ) على معنى الباء لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض
النوع الثاني من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ والمعنى إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا اسكات الأنبياء
عن تلك الدعوى وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة
والنوع الثالث قولهم وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء تَدْعُونَا بادغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر
فإن قيل لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم
قلنا كأنهم قالوا إما أن نكون كافرين برسالتكم أو أن ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم والله أعلم
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( إبراهيم 9 ) قالت رسلهم وهل تشكون في الله وفي كونه فاطر السموات والأرض وفاطراً لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها فكيف قلتم وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب وهذا النظم في غاية الحسن وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَفِى اللَّهِ شَكٌّ استفهام على سبيل الإنكار فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار وهو قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السموات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مراراً وأطواراً فلا نعيدها ههنا
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك وأقول من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه
الوجه الأول قال بعض العقلاء إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على وجوب الصانع وعلى حصول التكليف وعلى وجوب دار الجزاء وعلى وجوب النبي أما دلالتها على وجود
الصانع المختار فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول لم ضربني ذلك الضارب وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة
الوجه الثاني في التنبيه على أن الإقرار بوجود الصانع بديهي هو أن الفطرة شاهد بأن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم وبان حكيم ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقاش والبناء إلى الباني فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى
الوجه الثالث أن الإنسان إذا وقع في محنة شديدة وبلية قوية لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد فكأنه بأصل خلفته ومقضتى جبلته يتضرع إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالإفتقار إلى الصانع المدبر
الوجه الرابع أن الموجود إما أن يكون غنياً عن المؤثر أو لا يكون فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره وإن لم يكن غنياً عن المؤثر فهو محتاج والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار
الوجه الخامس أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة أولها أن الإقرار بوجود الإله أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار وثانيها الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً لأنه لو كان موجباً فلا ضرر في الإقرار بكونه مختاراً أما لو كان مختاراً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار وثالثها الإقرار بأنه كلف عباده لأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار ورابعها الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان
المسألة الثالثة لما أقام الدلالة على وجود الإله بدليل كونه فاطر السموات والأرض وصفه بكمال الرحمة والكرم والجود وبين ذلك من وجهين الأول قوله يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) لو قال قائل ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم ثم أجاب فقال ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 3 4 ) طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ( الأحقاف 31 ) وقال في خطاب المؤمنين هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( الصف 10 ) إلى أن قال يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( آل عمران 31 ) والاستقراء يدل على صحة ما ذكرناه ثم قال وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في المعاد وقيل إنه أراد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم هذا كلام هذا الرجل وقال الواحدي في ( البسيط ) قال أبو عبيدة ( من ) زائدة وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب وإذا قلنا إنها ليست زائدة فههنا وجهان أحدهما أنه ذكر البعض ههنا وأريد به الجميع توسعاً والثاني أن ( من ) ههنا للبدل والمعنى لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب فدخلت من لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة وقال القاضي ذكر الأصم أن كلمة ( من ) ههنا تفيد التبعيض والمعنى أنكم إذا تبتم فإنه يغفر لكم الذنوب التي هي من الكبائر فأما التي تكون من باب الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة قال القاضي وقد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وإنما تكون الصغيرة مغفورة من المؤمنين الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابها فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء منها مغفوراً ثم قال وفيه وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإنابته فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه فهذا جملة أقوال الناس في هذه الكلمة
المسألة الرابعة أقول هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لإنعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عد الكفر من الذنوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال كلمة ( من ) صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول المراد من البعض ههنا هو الكل على ما قاله الواحدي أو نقول المراد منها إبدال السيئة بالحسنة على ما قاله الواحدي أيضاً أو نقول المراد منه تمييز المؤمن عن الكافر في الخطاب على ما قاله صاحب ( الكشاف ) أو نقول المراد منه تخصيص هذا الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم أو نقول المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند الدخول في الإيمان على ما قاله القاضي فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة أما قوله إنها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد والعاقل لا يجوز المصير إليه من غير ضرورة فأما قول الواحدي المراد من كلمة ( من ) ههنا هو الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة لأن حاصله أن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ هو أنه يغفر لكم ذنوبكم وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة وحكي عن سيبويه إنكاره وأما
قوله المراد منه إبدال السيئة بالحسنة فليس في اللغة أن كلمة من تفيد الإبدال وأما قول صاحب ( الكشاف ) المراد تمييز خطاب المؤمن عن خطاب الكافر بمزيد التشريف فهو من باب الطامات لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الجواب فاسداً وأما قول الأصم فقد سبق إبطاله وأما قول القاضي فجوابه أن الكافر إذا أسلم صارت ذنوبه بأسرها مغفورة لقوله عليه السلام ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) فثبت أن جميع ما ذكروه من التأويلات تعسف ساقط بل المراد ما ذكرنا أنه تعالى يغفر بعض ذنوبه من غير توبة وهو ما عدا الكفر وأما الكفر فهو أيضاً من الذنوب وأنه تعالى لا يغفره إلا بالتوبة وإذا ثبت أنه تعالى يغفر كبائر كافر من غير توبة بشرط أن يأتي بالإيمان فبأن تحصل هذه الحالة للمؤمن كان أولى هذا ما خطر بالبال على سبيل الارتجال والله أعلم بحقيقة الحال
النوع الثاني مما وعد الله تعالى به في هذه الآية قوله وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وفيه وجهان الأول المعنى أنكم إن آمنتم أخر الله موتكم إلى أجل مسمى وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال الثاني قال ابن عباس المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت
فإن قيل أليس إنه تعالى قال فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( الأعراف 34 ) فكيف قال ههنا وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى
قلنا قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام 2 ) ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه
فالشبهة الأولى أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن يكون الواحد منهم رسولاً من عند الله مطلعاً على الغيب مخالطاً لزمرة الملائكة والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع وهذه الشبهة هي المراد من قولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا
والشبهة الثانية التمسك بطريقة التقليد وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان قالوا ويبعد أن يقال إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلاماً آخر وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين أما المناظرة مع الميت فسهلة فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضاً ذكروه وهذه الشبهة هي المراد من قوله تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا
والشبهة الثالثة أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلاً وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة وأنها ليست من باب
المعجزات الخارجة عن قدرة البشر وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع والله أعلم
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها
أما الشبهة الأولى وهي قولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فجوابه أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن الله به على من يشاء من عباده فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصاً بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلاً حصول صفة النبوة له وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من الله تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من الله تعالى والعطية منه والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعاً منهم واقتصروا على قولهم وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ بالنبوة لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص كما قال تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
وأما الشبهة الثانية وهي قولهم إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقاً لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم فجوابه عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها
وأما الشبهة الثالثة وهي قولهم إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها وإنما نريد معجزات قاهرة قوية
فالجواب عنها قوله تعالى وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء وطورى الشدة والرخاء فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكاً له أو ملكاً أو روحاً أو جسماً وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم ثم قالوا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم أعادوا قولهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولاً ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلاً حسناً وحاصله أن الإنسان إما أن يكون ناقصاً أو كاملاً أو خالياً عن الوصفين أما الناقص فإما أن يكون ناقصاً في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره وإما أن يكون ناقصاً ويكون مع ذلك ساعياً في تنقيص حال الغير فالأول هو الضال والثاني هو الضال المضل وأما الكامل فإما أن يكون كاملاً ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء وإما أن يكون كاملاً ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل والنبي هو الإنسان الكامل المكمل ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة وذلك مثل روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءاً من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم
ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد ومن التجسيم إلى التنزيه ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم وقولهم في آخر الأمر وعلى الله فليتوكل المتوكلون إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن فمن نظر في علم القرآن وكان غافلاً عنها كان محروماً من أسرار علوم القرآن والله أعلم وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها
وأما قوله في آخر الآية وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين وقيل أيضاً الأول ذكر لاستحداث التوكل والثاني للسعي في إبقائه وإدامته والله أعلم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا والمعنى ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة
فإن قيل هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها
قلنا الجواب من وجوه
الوجه الأول أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا
الوجه الثاني أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه
الوجه الثالث لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار
الوجه الرابع قال صاحب ( الكشاف ) العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب
الوجه الخامس لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة
الوجه السادس لا يبعد أن يكون المعنى أو لتعودن في ملتنا أي إلى ما كنتم عليه قبل إدعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ قال صاحب ( الكشاف ) لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه وقرأ أبو حيوة ليهلكن الظالمين وليسكننكم بالياء اعتباراً لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن والمراد بالأرض أَرْضُ الْظَّالِمِينَ وَدِيَارَهُمْ ونظيره قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( الأعراف 137 ) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ ( الأحزاب 27 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من آذى جاره أورثه الله داره ) واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه
ثم قال تعالى ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه الأول المراد موقفي وهو موقف الحساب لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره قوله وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( النازعات 40 ) وقوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) الثاني أن المقام مصدر كالقيامة يقال قام قياماً ومقاماً قال الفراء ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) الثالث ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف ألبتة الرابع ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى
المفعول الخامس ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي لم خافني وذكر المقام ههنا مثل ما يقال سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد سلام الله على فلان فكذا ههنا
ثم قال تعالى وَخَافَ وَعِيدِ قال الواحدي الوعيد اسم من أوعد إيعاداً وهو التهديد قال ابن عباس خاف ما أوعدت من العذاب
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوله ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى ثم عطف عليه قوله وَخَافَ وَعِيدِ فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايراً للخوف من وعيد الله ونظيره أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق
ثم قال وَاسْتَفْتَحُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى للاستفتاح ههنا معنيان أحدهما طلب الفتح بالنصرة فقوله وَاسْتَفْتَحُواْ أي واستنصروا الله على أعدائهم فهو كقوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ( الأنفال 19 ) والثاني الفتح الحكم والقضاء فقول ربنا وَاسْتَفْتَحُواْ أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 19 )
إذا عرفت هذا فنقول كلا القولين ذكره المفسرون أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم قَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وقال موسى رَبَّنَا اطْمِسْ ( يونس 88 ) الآية وقال لوط رَبّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( العنكبوت 30 ) وأما على القول الثالث وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ومنه قول كفار قريش اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) وكقول آخرين ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( العنكبوت 29 )
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَاسْتَفْتَحُواْ معطوف على قوله فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ وقرىء واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله لَنُهْلِكَنَّ أي أوحى إليهم ربهم وقال لهم لَنُهْلِكَنَّ وقال لهم استفتحوا
ثم قال تعالى وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إن قلنا المستفتحون هم الرسل كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وهم قومهم وإن قلنا المستفتحون هم الكفرة فكان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظناً منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل
المسألة الثانية الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته ومنه قوله تعالى وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ( مريم 14 ) قال أبو عبيدة عن الأحمر يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة وحكى الزجاج الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء قال الواحدي فهي ثمان لغات في مصدر الجبار وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرها أمراً فأبت عليه فقال ( دعوها فإنها جبارة ) أي مستكبرة وأما
العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه قال النضر بن شميل العنود الخلاف والتباعد والترك وقال غيره أصله من العند وهو الناحية يقال فلان يمشي عنداً أي ناحية فمعنى عاند وعند أخذ في ناحية معرضاً وعاند فلان فلاناً إذا جانبه وكان منه على ناحية
إذا عرفت هذا فنقول كونه جباراً متكبراً إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيداً إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً عن الحق منحرفاً عنه ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق كان خائباً عن كل الخيرات خاسراً عن جميع أقسام السعادات
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور الأول قوله مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وفيه إشكال وهو أن المراد أمامه جهنم فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام
وأجابوا عنه من وجوه الأول أن لفظ ( وراء ) اسم لما يوارى عنك وقدام وخلف متوار عنك فصح إطلاق لفظ ( وراء ) على كل واحد منهما قال الشاعر عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً الموت وراء كل أحد الثاني قال أبو عبيدة وابن السكيت الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام والسبب فيه أن كل ما كان خلفاً فإنه يجوز أن ينقلب قداماً وبالعكس فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام ومنه قوله تعالى وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ ( الكهف 79 ) أي أمامهم ويقال الموت من وراء الإنسان الثاني قال ابن الأنباري ( وراء ) بمعنى بعد قال الشاعر
وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد الله مذهب
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
ثم قال وَمِن وَرَائِهِ جَهَنَّمَ أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم
النوع الثاني مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وفيه سؤالات
السؤال الأول علام عطف وَيُسْقَى
الجواب على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد
السؤال الثاني عذاب أهل النار من وجوه كثيرة فلم خص هذه الحالة بالذكر
الجواب يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ
السؤال الثالث ما وجه قوله مِن مَّاء صَدِيدٍ
الجواب أنه عطف بيان والتقدير أنه لما قال وَيُسْقَى مِن مَّاء فكأنه قيل وما ذلك الماء فقال صَدِيدٍ والصديد ما يسيل جلود أهل النار وقيل التقدير ويسقى من ماء كالصديد وذلك بأن يخلق الله تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة وهو أيضاً يكون في نفسه صديداً لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( محمد 15 ) وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ( الكهف 29 )
السؤال الرابع ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه
الجواب التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار ويقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً وأساغه إساغة واعلم أن ( يكاد ) فيه قولان
القول الأول أن نفيه إثبات وإثباته نفي فقوله وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء قال تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 7 ) يعني فعلوا بعد إبطاء والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( الحج 20 ) ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة وأيضاً فإن قوله يَتَجَرَّعُهُ يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه ألبتة
والقول الثاني أن كاد للمقاربة فقول لاَ يَكَادُونَ لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( النور 40 ) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها
فإن قيل فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه
قلنا عنه جوابان أحدهما أن المعنى لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع الثاني أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر إلا أن ذلك ليس بإساغة لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه أي لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة والله أعلم
النوع الثالث مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( إبراهيم 17 ) والمعنى أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده
النوع الرابع قوله وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ وفيه وجهان الأول أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائماً غير منقطع الثاني أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله قال المفضل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد والله أعلم
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَى ْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً وذلك هو الخسران الشديد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في ارتفاع قوله مَثَلُ الَّذِينَ وجوه الأول قال سيبويه التقدير وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم وقوله كَرَمَادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد الثاني قال الفراء التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله أَعْمَالَهُمْ ومثله قوله تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) أي خلق كل شيء وكذا قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة الثالث أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول الرابع أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ والتقدير مثل أعمالهم وقوله كَرَمَادٍ هو الخبر الخامس أن يكون المثل صلة وتقديره الذين كفروا أعمالهم
المسألة الثانية اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه
الوجه الأول أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم ولولا كفرهم لانتفعوا بها
والوجه الثاني أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيماناً وطريقاً إلى الخلاص والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم
والوجه الثالث أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضاً وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى وَذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ
المسألة الثالثة قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك يوم ماطر وليلة ساكرة وإنما السكور لريحها قال الفراء وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف وإن
شئت قلت في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكوراً قبل ذلك وقرىء في يوم عاصف بالإضافة
المسألة الرابعة قوله لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَى ْء أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسباً لأفعاله
واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي خَالِقٌ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات والأرض على الإضافة كقوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( إبراهيم 10 ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الأنعام 95 ) و جَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( الأنعام 96 ) والباقون خلق على فعل الماضي السَّمَاء والاْرْضِ بالنصب لأنه مفعول
المسألة الثالثة قوله بِالْحَقّ نظير لقوله في سورة يونس وَمَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) ولقوله في آل عمران رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) ولقوله في ص وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته وأما المعتزلة فيقولون إلا بالحق أي لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ والمعنى أن من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادراً على الأسهل الأضعف أولى قال ابن عباس هذا الخطاب مع كفار مكة يريد أميتكم يا معشر الكفار وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم
ثم قال وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادراً على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى والله أعلم
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف عذاب هؤلاء الكفار ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر في هذه الآية كيفية خجالتهم عند تمسك أتباعهم وكيفية افتضاحهم عندهم وهذا إشارة إلى العذاب الروحاني الحاصل بسبب الفضيحة والخجالة وفيه مسائل
المسألة الأولى برز معناه في اللغة ظهر بعد الخفاء ومنه يقال للمكان الواسع البراز لظهوره وقيل في قوله وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَة ً ( الكهف 47 ) أي ظاهرة لا يسترها شيء وامرأة برزة إذا كانت تظهر للناس ويقال برز فلان على أقرانه إذا فاقهم وسبقهم وأصله في الخيل إذا سبق أحدها قيل برز عليها كأنه خرج من غمارها فظهر
إذا عرفت هذا فنقول ههنا أبحاث
البحث الأول قوله وَبَرَزُواْ ورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق وحق فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره قوله وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 )
البحث الثاني قد ذكرنا أن البروز في اللغة عبارة عن الظهور بعد الاستتار وهذا في حق الله تعالى محال فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه الأول أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية الثاني أنهم خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه الثالث وهو تأويل الحكماء أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء والوطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله
البحث الثالث قال أبو بكر الأصم قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ هو المراد من قوله في الآية السابقة وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( إبراهيم 17 )
واعلم أن قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ قريب من قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ ( الطارق 9 10 ) وذلك لأن البواطن تظهر في ذلك اليوم والأحوال الكامنة تنكشف فإن كانوا من السعداء برزوا للحاكم الحكيم بصفاتهم القدسية وأحوالهم العلوية ووجوههم المشرقة وأرواحهم الصافية المستنيرة فيتجلى لها نور الجلال ويعظم فيها إشراق عالم القدس فما أجل تلك الأحوال وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف العظمة ومنازل الكبرياء ذليلين مهينين خاضعين خاشعين واقعين في خزي الخجالة ومذلة الفضيحة وموقف المهانة والفزع نعوذ بالله منها ثم حكى الله تعالى أن الضعفاء يقولون للرؤساء هل تقدرون على دفع عذاب الله عنا والمعنى أنه إنما اتبعناكم لهذا اليوم ثم إن الرؤساء يعترفون بالخزي والعجز والذل قالوا سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ومن المعلوم أن اعتراف الرؤساء والسادة والمتبوعين بمثل هذا العجز والخزي والنكال يوجب الخجالة العظيمة والخزي الكامل التام فكان المقصود من ذكر هذه الآية استيلاء عذاب الفضيحة والخجالة والخزي عليهم مع ما تقدم ذكره من سائر وجوه أنواع العذاب والعقاب نعوذ بالله منها والله أعلم
المسألة الثانية كتبوا الضعفاء بواو قبل الهمزة في بعض المصاحف والسبب فيه أنه كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ونظيره علماء بني إسرائيل
المسألة الثالثة الضعفاء الأتباع والعوام والذين استكبروا هم السادة والكبراء قال ابن عباس المراد أكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا أي في الدنيا قال الفراء وأكثر أهل اللغة التبع تابع مثل خادم وخدم وباقر وبقر وحارس وحرس وراصد ورصد قال الزجاج وجائز أن يكون مصدراً سمي به أي كنا ذوي تبع
واعلم أن هذه التبعية يحتمل أن يقال المراد منها التبعية في الكفر ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَى ْء أي هل يمكنكم دفع عذاب الله عنا
فإن قيل فما الفرق بين من في قوله مّنْ عَذَابِ اللَّهِ وبينه في قوله مِن شَى ْء
قلنا كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو عذاب الله أي بعض عذاب الله وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ وفيه وجوه الأول قال ابن عباس معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم قال الواحدي معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم فدعوا أتباعهم إلى الضلال ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى قال صاحب ( الكشاف ) لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( المجادلة 18 )
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه فلا يقبل منه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال لا يجوز حمل هذا على اللطف لأن ذلك قد فعله الله تعالى والثالث أن يكون المعنى لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم والدليل على أن المراد من الهدى هذا الذي ذكرناه أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه فوجب أن يكون المراد من الهداية هذا المعنى
ثم قال سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا أي مستو علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية ونظيره اصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ ( الطور 16 ) ثم قالوا ما لنا من محيص أي منجي ومهرب والمحيص قد يكون مصدراً كالمغيب والمشيب ومكاناً كالمبيت والمضيق ويقال حاص عنه وحاض بمعنى واحد والله أعلم
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاٌّ مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِى َّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه من الإنس فقال تعالى وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ وفي المراد بقوله لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ وجوه
القول الأول قال المفسرون إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم في النار فيما بينهم خطيباً ويقول ما أخبر الله عنه بقوله وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ
القول الثاني أن المراد من قوله قُضِى َ الاْمْرُ لما انقضت المحاسبة والقول الأول أولى لأن آخر أمر أهل القيامة استقرار المطيعين في الجنة واستقرار الكافرين في النار ثم يدوم الأمر بعد ذلك
والقول الثالث وهو أن مذهبنا أن الفساق من أهل الصلاة يخرجون من النار ويدخلون الجنة فلا يبعد أن يكون المراد من قوله لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ ذلك الوقت لأن في ذلك الوقت تنقطع الأحوال المعتبرة ولا يحصل بعده إلا دوام ما حصل فيه قبل ذلك وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان لفظ مفرد فيتناول الواحد وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم فحمل اللفظ عليه أولى لا سيما وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول )
أما قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ففيه مباحث
البحث الأول المراد أن الله تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها ويرغب فيها كما قال وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 )
البحث الثاني قوله وَعْدَ الْحَقّ من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله حُبَّ الْحَصِيدِ ( ق 9 ) ومسجد الجامع على قول الكوفيين والمعنى وعدكم الوعد الحق وعلى مذهب البصريين يكون التقدير وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير وعدكم الحق ثم ذكر المصدر تأكيداً
البحث الثالث في الآية إضمار من وجهين الأول أن التقدير إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى الثاني أن في قوله وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً وحذف ههنا للعلم به والتقدير ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب
أما قوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فاقهركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إلا أن دعوتكم أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني قال النحويون ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ من جنس قولهم ما تحيتهم إلا الضرب وقال الواحدي إنه استثناء منقطع أي لكن دعوتكم وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة ( إلا ) ههنا استثناء حقيقي لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية ثم قال فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله تعالى فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أشياء الأول أنه لو كان الكفر والمعصية من الله لوجب أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه الثاني ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول الحشوية والعوام الثالث أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم
أجاب بعض الأصحاب عن هذه الوجوه بأن هذا قول الشيطان فلا يجوز التمسك به
وأجاب الخصم عنه بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره وأيضاً فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر هذا الكلام الباطل والقول الفاسد ألا ترى أن قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كلام حق وقوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ قول حق بدليل قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( الحجر 42 )
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس وذلك لأن الشيطان بين أنه ما أتى إلا بالوسوسة فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتة فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس
فإن قال قائل بينوا لنا حقيقة الوسوسة
قلنا الفعل إنما يصدر عن الإنسان عند حصول أمور أربعة يترتب بعضها على البعض ترتيباً لازماً طبيعياً وبيانه أن أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصلية والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك والإقدام والإحجام فما لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنه يمتنع صدور الفعل وذلك الميل هو الإرادة الجازمة والقصد الجازم ثم إن تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلا عند حصول علم أو اعتقاد أو ظن بأن ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر فإن لم يحصل فيه هذا الإعتقاد لم يحصل الميل لا إلى الفعل ولا إلى الترك فالحاصل أن الإنسان إذا أحس بشيء ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له أو بكونه منافراً له أو بكونه غير ملائم ولا منافر فإن حصل الشعور بكونه ملائماً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الفعل
وإن حصل الشعور بكونه منافراً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الترك وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل الميل لا إلى ذلك الشيء ولا إلى ضده بل بقي الإنسان كما كان وعند حصول ذلك الميل الجازم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة للفعل
إذا عرفت هذا فنقول صدور الفعل عن مجموع القدرة والداعي الحاصل أمر واجب فلا يكون للشيطان مدخل فيه وصدور الميل عن تصور كونه خيراً أو تصور كونه شراً أمر واجب فلا يكون للشيطان فيه مدخل وحصول كونه خيراً أو تصوراً كونه شراً عن مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه فلم يبق للشيطان مدخل في شيء من هذه المقامات إلا في أن يذكره شيئاً بأن يلقي إليه حديثه مثل أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره فالشيطان لا قدرة له إلا في هذا المقام وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى يعني ما كان مني إلا مجرد هذه الدعوة فأما بقية المراتب فما صدرت مني وما كان لي فيها أثر ألبتة بقي في هذا المقام سؤالان
السؤال الأول كيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه
والجواب للناس في الملائكة والشياطين قولان
القول الأول أن ما سوى الله بحسب القسمة العقلية على أقسام ثلاثة المتحيز والحال في المتحيز والذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً فيه وهذا القسم الثالث لم يقم الدليل ألبتة على فساد القول به بل الدلائل الكثيرة قامت على صحة القول به وهذا هو المسمى بالأرواح فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدسة من عالم الروحانيات القدسية فهم الملائكة وإن كانت خبيثة داعية إلى الشرور وعالم الأجساد ومنازل الظلمات فهم الشياطين
إذا عرفت هذا فنقول فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسماً يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل هو جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشر والنفس الإنسانية أيضاً كذلك فلا يبعد على هذا التقدير في أن يلقى شيء من تلك الأرواح أنواعاً من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية وذكر بعض العلماء في هذا الباب احتمالاً ثانياً وهو أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالنوع فهي طوائف وكل طائفة منها في تدبير روح من الأرواح السماوية بعينها فنوع من النفوس البشرية تكون حسنة الأخلاق كريمة الأفعال موصوفة بالفرح والبشر وسهولة الأمر وهي تكون منتسبة إلى روح معين من الأرواح السماوية وطائفة أخرى منها تكون موصوفة بالحدة والقوة والغلظة وعدم المبالاة بأمر من الأمور وهي تكون منتسبة إلى روح آخر من الأرواح السماوية وهذه الأرواح البشرية كالأولاد لذلك الروح السماوي وكالنتائج الحاصلة وكالفروع المتفرعة عليها وذلك الروح السماوي هو الذي يتولى إرشادها إلى مصالحها وهو الذي يخصها بالإلهامات حالتي النوم واليقظة والقدماء كانوا يسمون ذلك الروح السماوي بالطباع التام ولا شك أن لذلك الروح السماوي الذي هو الأصل والينبوع شعباً كثيرة ونتائج كثيرة وهي بأسرها تكون من جنس روح هذا الإنسان وهي لأجل مشاكلتها ومجانستها يعين بعضها بعضاً على الأعمال اللائقة بها والأفعال المناسبة لطبائعها ثم إنها إن كانت خيرة طاهرة طيبة كانت ملائكة وكانت تلك الإعانة مسماة بالإلهام وإن كانت
شريرة خبيثة قبيحة الأعمال كانت شياطين وكانت تلك الإعانة مسماة بالوسوسة وذكر بعض العلماء أيضاً فيه احتمالاً ثالثاً وهو أن النفوس البشرية والأرواح الإنسانية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق بسبب المشاكلة الحاصلة بين هذا البدن وبين ما كان بدناً لتلك النفس المفارقة فيصير لتلك النفس المفارقة تعلق شديد بهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن ومعاضدة لها على أفعالها وأحوالها بسبب هذه المشاكلة ثم إن كان هذا المعنى في أبواب الخير والبركات كان ذلك إلهاماً وإن كان في باب الشر كان وسوسة فهذه وجوه محتملة تفريعاً على القول بإثبات جواهر قدسية مبرأة عن الجسمية والتحيز والقول بالأرواح الطاهرة والخبيثة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لهم أن ينكروا إثباتها على صاحب شريعتنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وأما القول الثاني وهو أن الملائكة والشياطين لا بد وأن تكون أجساماً فنقول إن على هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة والله سبحانه ركبها تركيباً عجيباً وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم وماء الورد يسري في ورق الورد ودهن السمسم يجري في جسم السمسم فكذا ههنا فظهر بما قررنا أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول الأحق والأولى أن يقال الملائكة على هذا القول مخلوقون من النور والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب كما قال الله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
السؤال الثاني لم قال الشيطان فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ وهو أيضاً ملوم بسبب اقدامه على تلك الوسوسة الباطلة
والجواب أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِى َّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس بمغيثكم ولا منقذكم قال ابن الأعرابي الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث يقال صرخ فلان إذا استغاث وقال واغوثاه وأصرحته أغثته
المسألة الثانية قرأ حمزة بمصرخي بكسر الياء قال الواحدي وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب قال الفراء ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله بِمُصْرِخِى َّ خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال ومما نرى
أنهم وهموا فيه قوله نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ( النساء 115 ) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم
ثم قال تعالى حكاية عنه إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في قوله إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ فيه قولان الأول إنها مصدرية والمعنى كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة والمعنى أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكاً لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك والثاني وهو قول الفراء أن المعنى أن إبليس قال إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم والمعنى أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله ( ما ) في هذا الموضع ( من ) والقول هو الأول لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول ويمكن أن يقال أيضاً الكلام منتظم على التفسير الثاني والتقدير كأنه يقول لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام
أما قوله إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام ولا يبعد أيضاً أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة والله أعلم
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء وقد عرفت أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وكونها دائمة أشير إليه بقوله خَالِدِينَ فِيهَا والتعظيم حصل من وجهين أحدهما أن تلك المنافع إنما حصلت بإذن الله تعالى وأمره والثاني قوله تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ لأن بعضهم يحيي بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) والرب الرحيم يحييهم أيضاً بهذه الكلمة كما قال سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 )
واعلم أن السلام مشتق من السلامة وإلا ظهر أن المراد أنهم سلموا من آفات الدنيا وحسراتها أو فنون
آلامها وأسقامها وأنواع غمومها وهمومها وما أصدق ما قالوا فإن السلامة من محن عالم الأجسام الكائنة الفاسدة من أعظم النعم لا سيما إذا حصل بعد الخلاص منها الفوز بالبهجة الروحانية والسعادة الملكية
المسألة الثانية قرأ الحسن وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ على معنى وأدخلهم أنا وعلى هذه القراءة فقوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ متعلق بما بعده أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَة ً طَيِّبَة ً كَشَجَرة ٍ طَيِّبَة ٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَة ٍ خَبِيثَة ٍ كَشَجَرَة ٍ خَبِيثَة ٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء ذكر مثالاً يبين الحال في حكم هذين القسمين وهو هذا المثل وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها
فالصفة الأولى لتلك الشجرة كونها طيبة وذلك يحتمل أموراً أحدها كونها طيبة المنظر والصورة والشكل وثانيها كونها طيبة الرائحة وثالثها كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة ورابعها كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها ويجب حمل قوله شجرة طيبة على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب
والصفة الثانية قوله أَصْلُهَا ثَابِتٌ أي راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به
والصفة الثالثة قوله وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين الأول أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق والثاني أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب
والصفة الرابعة قوله تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا والمراد أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة
بهذه الصفة وهي أن ثمرتها لا بد أن تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضراً في بعض الأوقات دون بعض فهذا شرح هذه الشجرة التي ذكرها الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها وتملكها فإنه لايجوز له أن يتغافل عنها وأن يتساهل في الفوز بها
إذا عرفت هذا فنقول معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وفي خدمته وطاعته تشبه هذه الشجرة في هذه الصفات الأربع
أما الصفة الأولى وهي كونها طيبة فهي حاصلة بل نقول لا طيب ولا لذيذ في الحقيقة إلا هذه المعرفة وذلك لأن اللذة الحاصلة بتناول الفاكهة المعينة إنما حصلت لأن إدراك تلك الفاكهة أمر ملائم لمزاج البدن فلأجل حصول تلك الملاءمة والمناسبة حصلت تلك اللذة العظيمة وههنا الملائم لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ليس إلا معرفة الله تعالى ومحبته والاستغراق في الابتهاج به فوجب أن تكون هذه المعرفة لذيذة جداً بل نقول اللذة الحاصلة من إدراك الفاكهة يجب أن تكون أقل حالاً من اللذة الحاصلة بسبب إشراق جوهر النفس بمعرفة الله وبيان هذا التفاوت من وجوه
الوجه الأول أن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة بسبب أن سطح الحاس يلاقي سطح المحسوس فقط فأما أن يقال إن جوهر المحسوس نفذ في جوهر الحاس فليس الأمر كذلك لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما ههنا فمعرفة الله تعالى وذلك النور وذلك الإشراق صار سارياً في جوهر النفس متحداً به وكأن النفس عند حصول ذلك الإشراق تصير غير النفس التي كانت قبل حصول ذلك الإشراق فهذا فرق عظيم بين البابين
والوجه الثاني في الفرق أن في الالتذاذ بالفاكهة المدرك هو القوة الذائقة والمحسوس هو الطعم المخصوص وههنا المدرك هو جوهر النفس القدسية والمعلوم والمشعور به هو ذات الحق جل جلاله وصفات جلاله وإكرامه فوجب أن تكون نسبة إحدى اللذتين إلى الأخرى كنسبة أحد المدركين إلى الآخر
الوجه الثالث في الفرق أن اللذات الحاصلة بتناول الفاكهة الطيبة كلما حصلت زالت في الحال لأنها كيفية سريعة الاستحالة شديدة التغير أما كمال الحق وجلاله فإنه ممتنع التغير والتبدل واستعداد جوهر النفس لقبول تلك السعادة أيضاً ممتنع التغير فظهر الفرق العظيم من هذا الوجه
واعلم أن الفرق بين النوعين يقرب أن يكون من وجوه غير متناهية فليكتف بهذه الوجوه الثلاثة تنبيهاً للعقل السليم على سائرها وأما الصفة الثانية وهي كون هذه الشجرة ثابتة الأصل فهذه الصفة في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل وذلك لأن عروق هذه الشجرة راسخة في جوهر النفس القدسية وهذا الجوهر جوهر مجرد عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء وأيضاً مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى وهذا التجلي من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلاً زواله لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته والتغير والفناء والتبدل والزوال والبخل والمنع محال في حقه فثبت أن الشجرة الموصوفة بكونها ثابتة الأصل ليست إلا هذه الشجرة
الصفة الثالثة لهذه الشجرة كونها بحيث يكون فرعها في السماء
واعلم أن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني
وأما النوع الأول فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام ( التعظيم لأمر الله ) ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفة الله تعالى في عالم الأرواح وفي عالم الأجسام وفي أحوال عالم الأفلاك والكواكب وفي أحوال العالم السفلي ويدخل فيه محبة الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والمواظبة على ذكر الله تعالى والاعتماد بالكلية على الله تعالى والانقطاع بالكلية عما سوى الله تعالى والاستقصاء في ذكر هذه الأقسام غير مطموع فيه لأنها أحوال غير متناهية
وأما النوع الثاني فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام ( والشفقة على خلق الله ) ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب والسعي في إيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان وهذه الأقسام أيضاً غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلاً في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل
وأما الصفة الرابعة فهي قوله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 18 ) ونطقه بالصدق والصواب كما قال كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النساء 135 ) وقال عليه السلام ( قولوا الحق ولو على أنفسكم ) وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئاً إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وأيضاً فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة
وأما قوله بِإِذْنِ رَبّهَا ففيه دقيقة عجيبة وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العالية قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال ولذلك قال بعض المحققين من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هادٍ إلى عالم القدس وحضرة الجلال وسرادقات الكبرياء فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاماً لا بأس به فقال إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ
وأصل قائم وأغصان عالية كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء معرفة في القلب وقول باللسان وعمل بالأبدان والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف في نصب قوله كَلِمَة ً طَيّبَة ً وجهان الأول أنه منصوب بمضمر والتقدير جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة وهو تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً الثاني قال ويجوز أن ينتصب مثلاً وكلمة بضرب أي ضرب كلمة طيبة مثلاً بمعنى جعلها مثلاً وقوله كَشَجَرة ٍ طَيّبَة ٍ خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي كشجرة طيبة الثالث قال صاحب ( حل العقد ) أظن أن الأوجه أن يجعل قوله كَلِمَة َ عطف بيان والكاف في قوله كَشَجَرَة ٍ في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة
المسألة الثالثة قال ابن عباس الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين وقال صاحب ( الكشاف ) إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وأراد بشجرة طيبة الثمرة إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت وفرعها أي أعلاها في السماء والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء تُؤْتِى أي هذه الشجرة أُكُلُهَا أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر جاء رجل إلى ابن عباس فقال نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين فقال الحين ستة أشهر وتلا قوله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ وقال مجاهد وابن زيد سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة وقال سعيد بن المسيب شهران لأن مدة إطعام النخلة شهران وقال الزجاج جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت والمراد من قوله تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاء أو صيفاً قالوا والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة وأقول هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب والله أعلم بالأمور
ثم قال وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وانطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب
وأما قوله تعالى وَمَثلُ كَلِمَة ٍ خَبِيثَة ٍ كَشَجَرَة ٍ خَبِيثَة ٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة
الصفة الأولى أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة
وقيل إنها الكراث وقيل إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل إنها شجرة الشوك
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب
والصفة الثانية قوله اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ وهذه الصفة في مقابلة قوله أَصْلُهَا ثَابِتٌ ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها وقوله مِن فَوْقِ الاْرْضِ معناه ليس لها أصل ولا عرق فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة
والصفة الثالثة قوله ما لها من قرار وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية والمعنى أنه ليس لها استقرار يقال قر الشيء قراراً كقولك ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله خَبِيثَة ٍ وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ لَهَا مِن قَرَارٍ والله أعلم
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتاً وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم وثبات ثوابه عليهم والمقصود بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله يُثَبّتُ اللَّهُ أي على الثواب والكرامة وقوله بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا
ثم قال وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه وفي الآية قول آخر وهو القول المشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في قوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ قال ( حين يقال له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمراد في الباء في قوله بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هو أن الله تعالى إنما
ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل قال ابن عباس من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة ههنا بالقبر لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني أن الكفار إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري وإنما قال ذلك لأن الله أضله وقوله وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء يعني إن شاء هدى وإن شاء أضل ولا اعتراض عليه في فعله ألبتة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعرفوا قدر هذه النعمة ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعاً من الأعمال القبيحة
النوع الأول قوله بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وفيه وجوه الأول يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفراً لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً والثاني أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفراً لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلاً من النعمة الثالث أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان
والنوع الثاني ما حكى الله تعالى عنهم قوله وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور ومنه قوله تعالى وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ( الفتح 12 ) وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ أي المقر وهو مصدر سمي به
النوع الثالث من أعمالهم القبيحة قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أنداداً والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء وهذا الشريك يحتمل وجوهاً أحدها أنهم جعلوا للأصنام حظاً فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا وثانيها أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية وثالثها أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو لِيُضِلُّواْ بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل
المسألة الثالثة اللام في قوله لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء بالضم فإنه يحتمل الوجهين وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم فلهذا المعنى قال قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( فصلت 40 ) وكقوله قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( الزمر 8 )
( 31 )
قُل لِّعِبَادِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَة َ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَة ً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي لّعِبَادِى َ بسكون الياء والباقون بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب
المسألة الثانية في قوله يُقِيمُواْ وجهان الأول يجوز أن يكون جواباً لأمر محذوف هو المقول تقديره قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا الثاني يجوز أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه لام الأمر أي ليقيموا كقولك قل لزيد ليضرب عمراً وإنما جاز حذف اللام لأن قوله قُلْ عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز
المسألة الثالثة أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه
الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراماً لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام وقد مر تقرير هذا الكلام مراراً
المسألة الخامسة في انتصاب قوله سِرّا وَعَلاَنِيَة ً وجوه أحدها أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين وثانيها على الظرف أي وقت سر وعلانية وثالثها على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ قال أبو عبيدة البيع ههنا الفداء والخلال المخالة وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصادقة قال مقاتل إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة فكأنه تعالى يقول أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 )
فإن قيل كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 )
قلنا الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى والله أعلم
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته
وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل أولها خلق السموات وثانيها خلق الأرض وإليهما الإشارة بقوله تعالى اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وثالثها وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ورابعها قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وخامسها قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ وسادسها وسابعها قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وثامنها وتاسعها قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وعاشرها قوله وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وهذه الدلائل العشرة قد مر ذكرها في هذا الكتاب وتقريرها وتفسيرها مراراً وأطواراً ولا بأس بأن نذكر ههنا بعض الفوائد فاعلم أن قوله تعالى اللَّهِ مبتدأ وقوله وَالَّذِى خَلَقَ خبره ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السموات والأرض وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم وإنما بدأ بذكرهما ههنا لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك فإنه قال بعده وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب
البحث الثاني قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء وفيه قولان الأول أن الماء نزل من السحاب وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو وهو الارتفاع والثاني أنه تعالى أنزله من نفس السماء وهذا بعيد لأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطراً عليهم وإذا كان هذا أمراً مشاهداً بالبصر كان النزاع فيه باطلاً
البحث الثالث قال قوم إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلباً لهذه الخيرات الحقيرة فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب هذا قول المتكلمين وقال قوم آخرون إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء والمسألة كلامية محضة وقد ذكرناه في سورة البقرة
البحث الرابع قال أبو مسلم لفظ الثَّمَراتِ يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار ويقع أيضاً على الزروع والنبات كقوله تعالى كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ( الأنعام 141 )
البحث الخامس قال تعالى فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقاً لنا والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين لأن الإحسان لا يكون إحساناً إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه
البحث السادس قال صاحب ( الكشاف ) قوله مِنَ الثَّمَراتِ بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقاً حال من المفعول أو نصباً على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق والتقدير ورزق من الثمرات رزقاً لكم
فأما الحجة الرابعة وهي قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ونظيره قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( الشور 32 ) ففيها مباحث
البحث الأول أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية فإن قيل ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد
قلنا أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه
البحث الثاني أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيماً لشأنه ومنهم من حمله على ظاهر قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه
البحث الثالث الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له
الحجة الخامسة قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات وأيضاً ماء البحر لا يصلح للشرب والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار
الحجة السادسة والسابعة قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوح 16 ) ومنها قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) ومنها قوله وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( الفرقان 61 ) ومنها قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) وقوله دَائِبَينَ معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً وقد ذكرنا هذا في قوله قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا ( يوسف 47 ) قال المفسرون قوله دَائِبَينَ معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب
الحجة الثامنة والتاسعة قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) وقوله اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً قال المتكلمون تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان والأعراض لا تسخر
والحجة العاشرة قوله وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئاً وقرىء مِن كُلّ بالتنوين و مَا سَأَلْتُمُوهُ نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة والتقدير آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا قال الواحدي النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال أنعم الله عليه ينعم إنعاماً ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله أنفقت عليه إنفاقاً ونفقة بمعنى واحد ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر ومعنى قوله لاَ تُحْصُوهَا أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها
واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين
المثال الأول أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان منها دماغية ومنها نخاعية أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحد من تلك الشعب أيضاً إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جداً ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه وعرف قطعاً أنه لا سبيل له إلى الوقوق عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والإنفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان وعند هذا تعرف أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين
المثال الثاني أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما
الأمور التي قبلها فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها وأنها لا تنبت إلا معونة الفصول الأربعة وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة وأما النظر فيما بعد حصولها فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ثم إنه تعالى قال إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ قيل يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والمراد من الإنسان ههنا الجنس يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه وههنا بحثان
البحث الأول أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة وأيضاً أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي
البحث الثاني أنه تعالى قال في هذا الموضع إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( النحل 18 ) ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان وهما كونك ظلوماً كفاراً ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً والمقصود كأنه يقول إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّ صْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى
ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء أحدها قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا والمراد مكة آمناً ذا أمن
فإن قيل أي فرق بين قوله ( اجعل هذا بلداً آمناً ) وبين قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا
قلنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون وفي الثاني أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها وهي الخوف ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة وثانيها قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَاجْنُبْنِى وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه قال الفراء أهل الحجاز يقول جنبني يجبني بالتخفيف وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية
المسألة الثانية لقائل أن يقول الإشكال على هذه الآية من وجوه أحدها أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً وما قبل الله دعاءه لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على مكة وثانيها أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام وثالثها أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه ولأن كفار قريش كانوا من أولاده مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام
فإن قالوا إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه والدعاء مخصوص بالأبناء فنقول فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء والمراد منه جعل تلك البلدة آمنة من الخراب والثاني أن المراد جعل أهلها آمنين كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهل القرية وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين
الوجه الأول ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه
والوجه الثاني أن يكون المراد من قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة
والجواب عن السؤال الثاني قال الزجاج معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 128 ) أي ثبتنا على الإسلام
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على
الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان الأول أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب والثاني أن الصوفية يقولون إن الشرك نوعان شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده
والجواب عن السؤال الثالث من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) قوله ( وبني ) أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله وَاجْنُبْنِى والثاني قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم الثالث قال مجاهد لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك الرابع أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ونظيره قوله تعالى لنوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ( هود 46 ) والخامس لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 )
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بقوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ على أن الكفر والإيمان من الله تعالى وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد لأنه عدول عن الظاهر ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ واتفق كل الفرق على أن قوله أَضْلَلْنَ مجاز لأنها جمادات والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم أي افتتنوا بها واغتروا بسببها
ثم قال فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته والدليل عليه أن قوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك والأول باطل من وجهين الأول أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ وأيضاً قوله فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته والثاني أن الأمة
مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة ولما بطل هذا ثبت أن قوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار
وإذا ثبت هذا فنقول تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة والأول والثاني باطلان لأن قوله وَمَنْ عَصَانِى اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجوه الأول أنه لا قائل بالفرق والثاني وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام والثالث أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وقوله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر والله أعلم
إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين قال السدي معناه ومن عصاني ثم تاب وقيل إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة
أما الأول وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه
وأما الثاني وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول هذا أيضاً بعيد لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر
وأما الثالث وهو قوله المراد من كونه غَفُوراً رَّحِيماً أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضاً بعيد لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان والله أعلم
وأما الرابع وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإمانة فنقول هذا باطل لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل والله أعلم
رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواة َ فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْءٍ فَى الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ
اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أموراً سبعة
المطلوب الأول طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( البقرة 126 ) والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة فقال الأمن أفضل والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد
والمطلوب الثاني أن يرزقه الله التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 )
والمطلوب الثالث قوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فقوله مِن ذُرّيَّتِى أي بعض ذريتي وهو إسمعيل ومن ولد منه بِوَادٍ هو وادي مكة غَيْرِ ذِى زَرْعٍ أي ليس فيه شيء من زرع كقوله قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ( الزمر 28 ) بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم وذكروا في تسميته المحرم وجوها الأول أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه الثاني أنه كان لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب الثالث سمي محرماً لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه الرابع أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه الخامس أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل السادس حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السابعة السابع حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له
إسمعيل عليه السلام فقالت سارة كنت أرجو أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي وقالت لإبراهيم أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسمعيل رضيع ثم رجع فقالت هاجر إلى من تكلنا فقال إلى الله ثم دعا الله تعالى بقوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله أم إسمعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً ) ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسمعيل واشتغل هو مع إسمعيل برفع قواعد البيت قال القاضي أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام وأقول أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصاً لإسمعيل عليه السلام لأن ذلك عندنا جائز خلافاً للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام
ثم قال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوماً من ذريتي وهم إسمعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة
ثم قال فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول قال الأصمعي هوى يهوي هوياً بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل وقيل تَهْوِى إِلَيْهِمْ تريدهم وقيل تسرع إليهم وقيل تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل يقال هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل
البحث الثاني أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى وأما الدنيا فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم ويكثر طعامهم ولباسهم
البحث الثالث كلمة مِنْ في قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ تفيد التبعيض والمعنى فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم قال مجاهد لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند وقال سعيد بن جبير لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى المجوس ولكنه قال أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ فهم المسلمون
ثم قال وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ وفيه بحثان
البحث الأول أنه لم يقل وارزقهم الثمرات بل قال وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم
البحث الثاني يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها
ثم قال لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن
يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات
المطلوب الرابع قوله رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها فقال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ والمعنى أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا قيل ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسمعيل وما نعلن من البكاء وقيل ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا فقال إلى الله أكلكم قالت آلله أمرك بهذا قال نعم قالت إذن لا نخشى
ثم قال وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وفيه قولان أحدهما أنه كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( النحل 34 ) والثاني أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان ولفظ ( من ) يفيد الاستغراق كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما
ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وفيه مباحث
البحث الأول اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسمعيل وإسحق على الكبر والشيخوخة فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعاً وتسعين سنة ولما ولد إسحق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسمعيل لأربع وستين سنة وولد إسحق لتسعين سنة وعن سعيد بن جبير لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة وإنما ذكر قوله عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم
فإن قيل إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسمعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحق فكيف يمكنه أن يقول الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
قلنا قال القاضي هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء ويمكن أيضاً أن يقال إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسمعيل وظهور إسحق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه
البحث الثاني على في قوله عَلَى الْكِبَرِ بمعنى مع كقول الشاعر إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه وهب لي في حال الكبر
البحث الثالث في المناسبة بين قوله رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء
وبين قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب بل قال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وذلك يدل ظاهراً على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه لاسلام حاكياً عن ربه أنه قال ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) ثم قال إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله سميع الدعاء من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده
المطلوب الخامس قوله رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرّيَتِى وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرّيَتِى يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أن الكل من الله
المسألة الثانية تقدير الآية رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة ( من ) في قوله وَمِن ذُرّيَتِى للتبعيض وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
المطلوب السادس أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء وقال ابن عباس يريد عبادتي بدليل قوله تعالى وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 )
المطلوب السابع قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعاً بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعاً بحصوله
والجواب المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته
المسألة الثانية إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين
فالجواب عنه من وجوه الأول أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعاً فظن كونه حائزاً الثاني أراد بوالديه آدم وحواء الثالث كان ذلك بشرط الإسلام
ولقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ولو لم يكن لبطل قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وقال بعضهم كانت أمه مؤمنة ولهذا السبب خص أباه
بالذكر في قوله تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) والله أعلم وفي قوله يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ قولان الأول يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل والدليل عليه قولهم قامت الحرب على ساقها ونظيره قوله ترجلت الشمس أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل الثاني أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها والله أعلم
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة وما يدل على صفة يوم القيامة أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون إما غافلاً عن ذلك الظالم أو عاجزاً عن الإنتقام أو كان راضياً بذلك الظلم ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم
فإن قيل كيف يليق بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة
والجواب من وجوه الأول المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ ( القصص 88 ) وكقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والثاني أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالاً والثالث أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير الرابع أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمة وعن سفيان بن عيينة أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات
الصفة الأولى أنه تشخص فيه الأبصار يقال شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة
والصفة الثانية قوله مُهْطِعِينَ وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة
القول الأول قال أبو عبيدة هو الإسراع يقال أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه فالمعنى أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً فبين الله تعالى
أن حالهم بخلاف هذا المعتاد فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين أي مسرعين نحو وذلك البلاء
القول الثاني في الإهطاع قال أحمد بن يحيى المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع
والقول الثالث المهطع الساكت
والقول الرابع قال الليث يقال للرجل إذا قر وذل أهطع
الصفة الثالثة قوله مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع فقوله مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم
الصفة الرابعة قوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص فقوله تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ لا يفيد كون هذا الشخوص دائماً وقوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يفيد دوام هذا الشخوص وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم
الصفة الخامسة قوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفاً فقيل قلب فلان هواء إذا كان خالياً لا قوة فيه والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور لكثرة ما فيه من الحزن إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا في وقت حصولها فقيل إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب وقيل إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق والسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار وقيل بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور والأول أولى للدليل الذي ذكرناه والله أعلم
وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ
اعلم أن قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فيه أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ مفعول ثان لقوله وَأَنذِرِ وهو يوم القيامة
البحث الثاني الألف واللام في لفظ الْعَذَابَ للمعهود السابق يعني وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم
البحث الثالث الإنذار هو التخويف بذكر المضار والمفسرون مجمعون على أن قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ هو يوم القيامة وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة والظاهر يشهد بخلافه لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة ويقال لهم أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة وحجة أبي مسلم أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ( المنافقون 10 ) ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم فقال فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ واختلفوا في المراد بقوله أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فقال بعضهم طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه وقال بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم نجب دعوتك ونتبع الرسل وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيباً لهم أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهو قوله تعالى وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ( النحل 38 ) إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى ومعنى ما لكم من زوال لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى ثم إنه تعالى زادهم تقريعاً آخر بقوله وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم وهم قوم نوح وعاد وثمود وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستوجباً للذم والتقريع
ثم قال وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال
فإن قيل ولماذا قيل وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم
قلنا إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له هذا إذا قرىء بالتاء أما إذا قرىء بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم وليس كل ما بين لهم تبينوه
أما قوله وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الإبتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل وذلك في كتاب الله كثير والله أعلم
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله وَقَدْ مَكَرُواْ إلى ماذا يعود على وجوه الأول أن يكون الضمير عائداً إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والثاني أن يكون المراد به قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والدليل عليه قوله وَأَنذِرِ النَّاسَ ( إبراهيم 45 ) يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ( الأنفال 30 ) وقوله مَكْرِهِمْ أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم الثالث أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض فهذا هو المراد من مكرهم قال القاضي وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة
المسألة الثانية قوله وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ فيه وجهان الأول أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه والثاني أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول والمعنى وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون
أما قوله تعالى وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية
أما القراءة الأولى فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه بل التعظيم والتهويل وهو كقوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ الْكِتَابَ مِنْهُ ( مريم 90 )
وأما القراءة الثانية فالمعنى أن لفظ ( إن ) في قوله وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ بمعنى ( ما ) واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ( آل عمران 179 ) والجبال ههنا مثل لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ( إبراهيم 47 ) أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودلائل شريعته وقرأ علي وعمرو إِن كَانَ مَكْرِهِمْ
فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ( إبراهيم 42 ) وقال في هذه الآية فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين لزم إما كونه غافلاً وإما كونه مخلفاً في الوعد ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً وقوله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني قوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( غافر 51 ) وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 )
فإن قيل هلا قيل مخلف رسله وعده ولم قدم المفعول الثاني على الأول
قلنا ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً إن الله لا يخلف الميعاد ثم قال رُسُلَهُ ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته وقرىء مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بجر الرسل ونصب الوعد والتقدير مخلف رسله وعده وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَزِيزاً أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِى َ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
اعلم أن الله تعالى لما قال عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ بين وقت انتقامه فقال يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ وعظم من حال ذلك اليوم لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
المسألة الثانية اعلم أن التبديل يحتمل وجهين أحدهما أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى والثاني أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز أنه يقال بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل ومنه قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) ويقال بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من
صفة إلى صفة أخرى ويقال تبدل زيد إذا تغيرت أحواله وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 ) وقوله بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ( سبأ 16 ) إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان
القول الأول أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات قال ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ) وقوله والسموات أي تبدل السموات غير السموات وهو كقوله عليه السلام ( لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده ) والمعنى ولا ذو عهد في عهده بكافر وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وكونها أبواباً وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان
والقول الثاني أن المراد تبديل الذات قال ابن مسعود تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة فهذا شرح هذين القولين ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ المراد هذه الأرض والتبدل صفة مضافة إليها وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجوداً فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل وإلا لامتنع حصول التبدل فوجب أن يكون الباقي هو الذات فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام وإنما يعدم صفاتها وأحوالها
واعلم أنه لا يبعد أن يقال المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ويجعل السموات الجنة والدليل عليه قوله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وقوله كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ ( المطففين 7 ) والله أعلم
أما قوله تعالى وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا وإنما ذكر الواحد القهار ههنا لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة ونظيره قوله لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم فقال وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أموراً
فالصفة الأولى كونهم مقرنين في الأصفاد يقال قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان وجاء ههنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد
إذا عرفت هذا فنقول في قوله مُقْرِنِينَ ثلاثة أوجه أحدها قال الكلبي مقرنين كل كافر مع شيطان في غل وقال عطاء هو معنى قوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ ( التكوير 70 ) أي قرنت فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين وأقول حظ البحث العقلي منه أن
الإنسان إذا فارق الدنيا فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته أو ما فعل ذلك بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية والسعادة بالعناية الصمدانية وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد بسبب الميل إلى عالم الجسم وهذا هو المراد بقوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة والحوادث الفاسدة وهو المراد من قول عطاء إن كل كافر مع شيطانه يكون مقروناً في الأصفاد
والقول الثاني في تفسير قوله مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ هو قرن بعض الكفار ببعض والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات والخسارات هي المراد بقوله مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ
والقول الثالث قال زيد بن أرقم قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها وأما قوله فِى الاْصْفَادِ ففيه وجهان أحدها أن يكون ذلك متعلقاً بمقرنين والمعنى يقربون بالأصفاد والثاني أن لا يكون متعلقاً به والمعنى أنهم مقرنون مقيدون وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه
الصفة الثانية قوله تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ السرابيل جمع سربال وهو القميص والقطران فيه ثلاث لغات قطران وقطران وقطرن بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء وبفتح القاف وكسر الطاء وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين وأقول حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال وهذا البدن جارٍ مجرى السربال والقميص له وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه وهو سبب لحصول النتن والعفونة فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر وقرأ بعضهم مّن قَطِرَانٍ والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره قال أبو بكر بن الأنباري وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ونظيره قوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الزمر 24 ) وقوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 )
واعلم أن موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب وموضع الفكر والوهم والخيال هو
الرأس وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ ( الهمزة 6 7 ) وقال في الوجه وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ بمعنى تتغشى ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال لِيَجْزِى َ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ قال الواحدي المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان وأقول يمكن إجراء اللفظ على عمومه لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور ولما كان كسب المؤمنين الأيمان والطاعة كان اللائق بهم هو الثواب وأيضاً أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادي لحصول الآلام الروحانية وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب
ثم قال تعالى هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل إن قوله هذا إشارة إلى كل القرآن وقيل بل إشارة إلى كل هذه السورة وقيل بل إشارة إلى المذكور من قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ إلى قوله سَرِيعُ الْحِسَابِ وأما قوله وَلِيُنذَرُواْ بِهِ فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا وَلِيُنذَرُواْ بِهِ أي بهذا البلاغ
ثم قال وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في هذا الكتاب مراراً أن النفس الإنسانية لها شعبتان القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ورئيس هذه المعارف والجلاء معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله
والشعبة الثانية القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادي لصدور الأفعال الكاملة عنها ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية وقوله وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين
المسألة الثانية هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة
المسألة الثالثة قال القاضي أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله إن شاء أطاع وإن شاء عصى أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية وأما آخر السورة فلأن قوله وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب وإنما بعث الرسل لتذكير أولى الألباب فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولى الألباب لما كان الأمر كذلك
سورة الحجر
مكية إلا آية 87 فمدنيةوآياتها 99 نزلت بعد سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
ال رَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاٌّ مَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب والقرآن المبين الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وتنكير القرآن للتفخيم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان
أما قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم رُّبَمَا خفيفة الباء والباقون مشددة قال أبو حاتم أهل الحجاز يخففون ربما وقيس وبكر يثقلونها وأقول في هذه اللفظة لغات وذلك لأن الراء من رب وردت مضمومة ومفتوحة أما إذا كانت مضمومة فالباء قد وردت مشددة ومخففة وساكنة وعلى كل التقديرات تارة مع حرف ما وتارة بدونها وأيضاً تارة مع التاء وتارة بدونها وأنشدوا أسمى ما يدريك أن رب فتية
باكرت لذتهم بأذكر مسرع
ورب بتسكين الباء وأنشدوا بيت الهذلي أزهير أن يشب القذال فإنني
رب هيضل مرس كففت بهيضل
والهيضل جماعة متسلحة وأيضاً هذه الكلمة قد تجيء حالتي تشديد الباء وتخفيفها مع حرف ( ما )
كقولك ربما وربما وتارة مع التاء وحرف ( ما ) كقولك ربتما وربتما هذا كله إذا كانت الراء من رب مضمونة وقد تكون مفتوحة فيقال رب وربما وربتما حكاه قطرب قال أبو علي من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث نحو ثم وثمت ورب وربت ولا ولات فهذه اللغات بأسرها رواها الواحدي في ( البسيط )
المسألة الثانية رب حرف جر عند سيبويه ويلحقها ( ما ) على وجهين أحدهما أن تكون نكرة بمعنى شيء وذلك كقوله رب ما تكره النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال
فما في هذا البيت اسم والدليل عليه عود الضمير إليه من الصفة فإن المعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد الضمير إليه كان اسماً ولم يكن حرفاً كما أن قوله تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنون 55 ) لما عاد الضمير إليه علمنا بذلك أنه اسم ومما يدل على أن ( ماء ) قد يكون اسماً إذا وقعت بعد رب وقوع من بعدها في قول الشاعر يا رب من ينقص أزوادنا
رحن على نقصانه واغتدين
فكما دخلت رب على كلمة ( من ) وكانت نكرة فكذلك تدخل على كلمة ( ما ) فهذا ضرب والضرب الآخر أن تدخل ما كافة كما في هذه الآية والنحويون يسمون ما هذه الكافة يريدون أنها بدخلوها كفت الحرف عن العمل الذي كان له وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه ألا ترى أن رب إنما تدخل على الإسم المفرد نحو رب رجل يقول ذاك ولا تدخل على الفعل فلما دخلت ( ما ) عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن رب موضوعة للتقليل وهي في التقليل نظيرة كم في التكثير فإذا قال الرجل ربما زارنا فلان دل ربما على تقليله الزيارة قال الزجاج ومن قال إن رب يعني بها الكثرة فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة وعلى هذا التقدير فههنا سؤال وهو أن تمني الكافر الإسلام مقطوع به وكلما رب تفيد الظن وأيضاً أن ذلك التمني يكثر ويتصل فلا يليق به لفظة رُّبَمَا مع أنها تفيد التقليل
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع للتقليل وإذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك والمقصود منه إظهار التوقع والاستغناء عن التصريح بالغرض فيقولون ربما ندمت على ما فعلت ولعلك تندم على فعلك وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك ومنه قول القائل
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والوجه الثاني في الجواب أن هذا التقليل أبلغ في التهديد ومعناه أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً عن هذا الفعل فكيف كثيره
والوجه الثالث في الجواب أن يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل
المسألة الرابعة اتفقوا على أن كلمة ( رب ) مختصة بالدخول على الماضي كما يقال ربما قصدني عبد الله ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها وقال بعضهم ليس الأمر كذلك والدليل عليه قول الشاعر
ربما تكره النفوس من الأمر
وهذا الاستدلال ضعيف لأنا بينا أن كلمة ( رب ) في هذا البيت داخلة على الإسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضياً فأين أحدهما من الآخر إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال ولو أنهم وجدوا بيتاً مشتملاً على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين الأول قالوا إن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ودوا الثاني أن كلمة ( ما ) في قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اسم و يَوَدُّ صفة له والتقدير رب شيء يوده الذين كفروا قال الزجاج ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد الله المقبول وأنت تريد كان عبد الله المقبول
المسألة الخامسة في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على محمل آخر والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً وهذا الوجه هو الأصح وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوهاً قال الضحاك المراد منه ما يكون عند الموت فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلماً وقيل إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم وقيل بل عند دخولهم النار ونزول العذاب فإنهم يقولون أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ( إبراهيم 44 ) وروى أبو موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار فيتفضل الله تعالى بفضل رحمته فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية وعلى هذا القول أكثر المفسرين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة قال فههنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين قال القاضي هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب وهذان الأصلان عنده مردودان فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار والله أعلم
فإن قيل إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه
درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب
قلنا أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا فالله سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ ( الحجر 47 ) والله أعلم
أما قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى المعنى دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ يقال لهيت عن الشيء الهى لهياً وجاء في الحديث أن ابن الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه قال الكسائي والأصمعي كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد صرمت حبالك فاله عنها زينب
ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها قال المفسرون شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذة الآية على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون له مفسدة في الدين والدليل عليه أنه تعالى قال لرسوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فحكم بأن إقبالهم على التمتع واستغراقهم في طول الأمل يلهيهم عن الإيمان والطاعة ثم إنه تعالى أذن لهم فيها وذلك يدل على المقصود قالت المعتزلة ليس هذا إذناً وتجويزاً بل هذا تهديد ووعيد
قلنا ظاهر قوله ذَرْهُمْ إذن أقصى ما في الباب أنه تعالى نبه على أن إقبالهم على هذه الأعمال يضرهم في دينهم وهذا عين ما ذكرناه من أنه تعالى أذن في شيء مع أنه نص على كون ذلك الشيء مفسدة لهم في الدين
المسألة الثالثة دلت الآية على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين وعن بعضهم التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة فمنها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان الحرص على المال وطول الأمل ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نقط ثلاث وقال ( هذا ابن آدم وهذا الأمل وهذا الأجل ودون الأمل تسع وتسعون منية فإن أخذته إحداهن وإلا فالهرم من ورائه ) وعن علي عليه السلام أنه قال إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق والله أعلم
وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلاً والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخراً وذلك نهاية في الزجر والتحذير
المسألة الثانية قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم وقال آخرون المراد بهذا الهلاك الموت قال القاضي والأقرب ما تقدم لأنه في الزجر أبلغ فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكاً فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معاً
المسألة الثالثة قال الفراء لو لم تكن الواو مذكورة في قوله وَلَهَا كِتَابٌ كان صواباً كما في آية أخرى وهي قوله وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ( الشعراء 208 ) وهو كما تقول ما رأيت أحداً إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت إلا عليه ثياب
أما قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي من في قوله مِنْ أُمَّة ٍ زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد وقال آخرون إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد
المسألة الثانية قال صاحب ( النظم ) معنى سبق إذا كان واقعاً على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمراً أي جازه وخلفه وراءه ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه وإذا كان واقعاً على زمان كان بالعكس في ذلك كقولك سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه وإذا كان كذلك فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعاً كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعاً
إذا عرفت هذا فنقول هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما
فإن قالوا هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته أما إذا قلنا المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك
قلنا قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى وحينئذ لا يعود الإلزام
المسألة الثالثة دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله وأن من قال يجوز بأن يموت قبل أجله فمخطى ء
فإن قالوا هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم
قلنا قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك والله أعم
وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته
فالشبهة الأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون وفيه احتمالات الأول أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون والدليل عليه قوله وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ( القلم 51 52 ) وأيضاً قوله أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ ( الأعراف 184 ) والثاني أنم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فالرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل وقوله إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ في هذه الآية يحتمل الوجهين
أما قوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ففيه وجهان الأول أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) وكما قال قوم شعيب إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) وكما قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) لأن البشارة
بالعذاب ممتنعة والثاني وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد لو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعاً وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي ويكون في محل الشكوك والشبهات فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني وإنزال الملائكة الذين يصدقونك ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعاً والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات فلو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء فهذا تقرير هذه الشبهة ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ( الأنعام 8 ) وفيه احتمال آخر وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب الموعود وهذا هو المراد بقوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 53 ) ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ فنقول إن كان المراد من قولهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ هو الوجه الأول كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقاً فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى وقال المفسرون المراد بالحق ههنا الموت والمعنى أنهم لا ينزلون إلا بالموت وإلا بعذاب الاستئصال ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة وأما إن كان المراد من قوله تعالى لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال وحكمنا في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا نفعل بهم ذلك وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم ومن إيمان أولاد الباقين
المسألة الثانية قال الفراء والزجاج لولا ولو ما لغتان معناهما هلا ويستعملان في الخبر والاستفهام فالخبر مثل قولك لولا أنت لفعلت كذا ومنه قوله تعالى لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( سبأ 31 ) والاستفهام كقولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وكهذه الآية وقال الفراء لو ما الميم فيه بدل عن اللام في لولا ومثله استولى على الشيء واستومى عليه وحكى الأصمعي خاللته وخالمته إذا صادقته وهو خلى وخلمي أي صديقي
المسألة الثالثة قوله مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقّ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مَا نُنَزّلُ بالنون وبكسر الزاي والتشديد والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها والمنزل هو الله تعالى وقرأ أبو بكر عن عاصم مَا تُنَزَّلَ عن فعل ما لم يسمى فاعله والملائكة بالرفع والباقون ما تنزل الملائكة على إسناد فعل النزول إلى الملائكة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ يعني لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة قال صاحب ( النظم ) لفظ اذن مركبة من كلمتين من إذا وهو اسم بمنزلة حين ألا ترى أنك تقول أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضم إليها أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن ومجيء لفظة إذن دليل على اضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا وهذا تأويل حسن
ثم قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن القوم إنما قالوا وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 ) لأجل أنهم سمعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( إن الله تعالى نزل الذكر علي ) ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
فأما قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلاً أو قال قولاً قال إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا
المسألة الثانية الضمير في قوله لَهُ لَحَافِظُونَ إلى ماذا يعود فيه قولان
القول الأول أنه عائد إلى الذكر يعني وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) وقال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
فإن قيل فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه
والجواب أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة
والقول الثاني أن الكناية في قوله لَهُ راجعة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه لكونه أمراً معلوماً كما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل والله أعلم
المسألة الثالثة إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم حفظه بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزاً كإحاطة السور
بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها وقال آخرون إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته وقال آخرون أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف وقال آخرون المراد بالحفظ هو أن أحداً لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا فهذا هو المراد من قوله وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير إما في الكثير منه أو في القليل وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وانقضى الآن قريباً من ستمائة سنة فكان هذا إخباراً عن الغيب فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً
المسألة الرابعة احتج القاضي بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان قال لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظاً وهذا الاستدلال ضعيف لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا إنك لمجنون فالله تعالى ذكر أن عادة هؤلاء
الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ أي في أمم الأولين وأتباعهم قال الفراء الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه والشيعة الأمة سموا بذلك لأن بعضهم شايع بعضاً وشاكله وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ( الأنعام 65 ) قال الفراء وقوله فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله لَحَقُّ الْيَقِينِ ( الحاقة 51 ) وقوله بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ ( البينة 5 ) أما قوله وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور الأول أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات والثاني أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة وذلك شاق شديد على الطباع والثالث أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضاً في غاية المشقة والرابع أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد يكون فقيراً ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة والخامس خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم وهذا هو السبب الأصلي فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة
أما قوله تعالى يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون وقيل في قوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَفَرٍ ( المدثر 42 ) أي أدخلكم في جهنم وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد سلكته وأسلكته بمعنى واحد
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار فقالوا قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين قالت المعتزلة لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائداً إليه لا يقال إنه تعالى قال وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وقوله يَسْتَهْزِئُونَ يدل على الاستهزاء فالضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إليه والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا المراد من قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين لأنا نقول إن كان الضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائداً إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائداً أيضاً إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء وذلك يوجب التناقض لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمناً بكفره والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به وأيضاً فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وقال بعده كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عناداً وجهلاً فكان هذا موجباً للحوق الذم الشديد بهم ويدل على صحة هذا التأويل وجهان الأول أن الضمير في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائداً إليه أيضاً لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد والثاني أن قوله كَذالِكَ معناه مثل ما
عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيهاً لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ فوجب أن يكون هذا معطوفاً عليه ومشبهاً به ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم
والجواب لا يجوز أن يكون الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً على الذكر ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ مذكور بحرف النون والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوباً مقهوراً فأما إذا فعل فعلاً ولم يظهر له أثر ألبتة صار المنازع والمدافع غالباً قاهراً فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحاً في هذا المقام والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله نَسْلُكُهُ غير لائق بهذا المقام فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد
والوجه الثاني أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ولا يؤمنون به أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يمؤمنون أما ما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ كالتفسير والبيان لقوله نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم
والوجه الثالث أن قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) بعيد وقوله يَسْتَهْزِئُونَ قريب وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب أما قوله لو كان الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً إلى الاستهزاء لكان في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائداً إليه وحينئذ يلزم التناقض
قلنا الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن مقضتى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء والضمير الثاني عائد إلى الذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الأعراف 189 190 ) فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء عائدة إلى آدم وحواء وأما في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عائدة إلى غيرهما فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا والله أعلم
والوجه الثاني في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ تفسير للكناية في قوله نَسْلُكُهُ والتقدير كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به
والوجه الثالث وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق والعلم والحق وأن أحداً لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لايحصل ذلك وإنما يحصل الكفر والباطل علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه
فإن قالوا إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان فنقول فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى وذلك هو الذي قلناه أن المراد من قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها وأيضاً قدماء المفسرين مثل ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها والتأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين فكان مردوداً وروى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين ثم قال القاضي إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند فلا يصح إضافته إلى الله تعالى فيقال للقاضي إن هذا يجري مجرى المكابرة وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والاصغاء لقوله فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه فكيف يقال إنها حصلت بفعله واختياره
فإن قالوا إنه يمكنه ترك هذه الأحوال والرجوع إلى الانقياد والقبول فنقول هذا مغالطة محضة لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب والنبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الإنقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب وذلك عين ما ذكرناه والله أعلم
أما قوله تعالى وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاْوَّلِينَ ففيه قولان الأول أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية الثاني وهو قول الزجاج وقد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا أليق بظاهر اللفظ
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( الأنعام 7 ) والحاصل أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولاً من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم والحاصل أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم
فإن قيل كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة
أجاب القاضي عنه بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ثم سأل نفسه وقال أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم وأيضاً فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصومين سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنزال الملائكة وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم وكانوا قليلي العدد وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز
المسألة الثانية قوله تعالى فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل والمصدر الظلول وقوله فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال عرج يعرج عروجاً ومنه المعارج وهي المصاعد التي يصعد فيها وللمفسرين في هذه الآية قولان
القول الأول أن قوله فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ من صفة المشركين قال ابن عباس رضي الله عنهما لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله
القول الثاني أن هذه العروج للملائكة والمعنى أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبواباً من السماء مفتوحة وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه ولقالوا إن السحرة سحرونا وجعلونا
بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير سُكّرَتْ بالتخفيف والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري والتشديد يوجب زيادة وتكثيراً وقال أبو عمرو بن العلاء هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى وقال أبو عبيدة سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها وعلى هذا القول أصله من السكون يقال سكرت الريح سكراً إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس جذلت على ليلة ساهرة
فليست بطلق ولا ساكره
ويقال سكرت عينه سكراً إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج وقال أبو علي الفارسي سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو فهذه أقوال أربعة في تفسير سُكّرَتْ وهي في الحقيقة متقاربة والله أعلم
المسألة الثانية قال الجبائي من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل والله أعلم
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ قال الليث البرج واحد من بروج الفلك والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً ونظيره قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 )
وقال وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار وهو المطلوب وأما قوله وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله وَزَيَّنَّاهَا أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
فإن قيل ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه
قلنا لما منعه من القرب منها فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة ثم قيل للقتيل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله لارْجُمَنَّكَ أي لأسبنك والرجم اسم لكل ما يرمى به ومنه قوله وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) أي مرامي لهم والرجم القول بالظن ومنه قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ( الكهف 22 ) لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد وقوله الشيطان الرجيم قد فسروه بكل هذه الوجوه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت الشياطين لا تحجب عن السموات فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات فلما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منعوا من السموات كلها فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب وقوله إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة إِلا ههنا على الاستثناء بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها وإنما يحاولون القرب منها فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق فوجب أن يكون معناه لكن من استرق السمع قال الزجاج موضع مِنْ نصب على هذا التقدير قال وجائز أن يكون في موضع خفض والتقدير إلا ممن قال ابن عباس في قوله إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يريد الخطفة اليسيرة وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري وقوله فَأَتْبَعَهُ ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ( الأعراف 175 ) معناه لحقه والشهاب شعلة نار ساطع ثم يسمى الكواكب شهاباً والسنان شهاباً لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار
واعلم أن في هذا الموضع أبحاثاً دقيقة ذكرناها في سورة الملك وفي سورة الجن ونذكر منها ههنا إشكالاً واحداً وهو أن لقائل أن يقول إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السموات ويختلط بالملائكة ويسمع أخبار الغيوب عنهم ثم إنها تنزل وتلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب
أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً لأن كل غيب يخبر عنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام فيه هذا الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لا يقال إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولاً وكون القرآن حقاً والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز وكون الإخبار عن الغيب معجزاً لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو باطل محال ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز وبهذا الطريق يندفع الدور والله أعلم
وَالاٌّرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
علم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع
النوع الأول قوله تعالى وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء وفيه احتمال آخر وذلك لأن الأرض جسم والجسم هو الذي يكون ممتداً في الجهات الثلاثة وهي الطول والعرض والثخن وإذا كان كذلك فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهياً وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصاً بمقدار معين مع أن الإزدياد عليه معقول والانتقاص عنه أيضاً معقول وإذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصاً بأمر جائز وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو الله سبحانه وتعالى
فإن قيل هل يدل قوله وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا على أنها بسيطة
قلنا نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة فهي كرة في غاية العظمة والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال والدليل عليه قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( النبأ 7 ) سماها أوتاداً مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية فكذا ههنا
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وهي الجبال الثوابت واحدها راسي والجمع راسية وجمع الجمع رواسي وهو كقوله تعالى وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) وفي تفسيره وجهان
الوجه الأول قال ابن عباس لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله
تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها
فإن قيل أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معاً
قلنا كلا الوجهين محتمل
والوجه الثاني في تفسير قوله وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال
النوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ وفيه بحثان
البحث الأول أن الضمير في قوله وَأَنبَتْنَا فِيهَا يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع ومنهم من قال رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى لأن المعادن إنما تتولد في الجبال والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات
البحث الثاني اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه
الوجه الأول أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة قال القاضي وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار ولذلك أتبعه بقوله وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين الأول بحسب الأكل والانتفاع بعينه والثاني أن ينتفع بالتجارة فيه والقائلون بهذا القول قالوا الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا ويتأكد ذلك أيضاً بقوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) وقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 )
والوجه الثاني في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص ومن الماء والهواء كذلك ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع
والوجه الثالث في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسباً حسناً بعيداً عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب فقوله وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن
واللطافة ومطابقة المصلحة
والوجه الرابع في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان المعادن والنبات أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن لأن الحبوب توزن وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم وقوله تعالى وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فيه مسألتان
المسألة الأولى ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ فيه قولان
القول الأول أنه معطوف على محل لكم والتقدير وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين
والقول الثاني أنه عطف على قوله مَعَايِشَ والتقدير وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة
الاحتمال الأول أن كلمة ( من ) مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق
والاحتمال الثاني وهو قول الكلبي قال المراد بقوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الوحش والطير
فإن قيل كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء والدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ ( النور 45 ) والثاني أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله حيث قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ( هود 6 ) فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل ألا ترى أنه قال نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النحل 18 ) فذكرها بصيغة جمع العقلاء وقال في الأصنام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( الشعراء 77 ) وقال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعاً رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها
والاحتمال الثالث أنا نحمل قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ على الإماء والعبيد وعلى الوحش والطير وإنما أطلق عليها صيغة من تغليباً لجانب العقلاء على غيرهم
المسألة الثانية قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور
في لكم لأنه لا يعطف على الضمير المجرور لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 )
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك والله أعلم
وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الخزائن جمع الخزانة وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضاً عمل الخازن ويقال خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة وعامة المفسرين على أن المراد بقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ مّنْ عِنْدِنَا خَزَائِنُهُ هو المطر وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره وقوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ قال ابن عباس رحمهما الله يريد قدر الكفاية وقال الحكم ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون وربما كان في البحر يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء
ولقائل أن يقول لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى فإن قوله تعالى وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكماً من غير دليل وأقول أيضاً تخصيص قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ بالمطر تحكم محض لأن قوله وَإِن مّن شَى ْء يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل وهو الموجود القديم الواجب لذاته وقوله أَنَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهياً لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهياً كان لا محالة مختصاً في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلاً عنه
وكان مختصاً بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلاً عن ذلك الحيز وكان مختصاً بصفات معينة مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلاً عن تلك الصفات وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين والصفات المعينة بدلاً عن أضدادها لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهذا هو المراد من قوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ والمعنى أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وقوله وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( الحديد 25 ) والله أعلم
المسألة الثانية تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدماً على حدوثها ودخولها في الوجود وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد ههنا على سبيل التمثيل والتخييل فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادراً على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال والمباحثات الدقيقة باقية والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه مسائل
المسألة الأولى في وصف الرياح بأنها لواقح أقوال
القول الأول قال ابن عباس الرياح لواقح للشجر وللسحاب وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه
فإن قيل كيف قال لَوَاقِحَ وهي ملقحة
والجواب ما ذهب إليه أبو عبيدة أن ( لواقح ) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه لبيك يزيد يائس ذو ضراعة
وأشعث مما طوحته الطوائح
أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح
والوجه الثاني في الجواب قال الزجاج يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن معناها النسبة وهو كما يقال درهم وازن أي ذو وزن ورامح وسائف أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي هذا الجواب ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم
والوجه الثالث في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين
الطريق الأول أن الريح حاصلة للسحاب والدليل عليه قوله سبحانه وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً ( الأعراف 57 ) أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء
والطريق الثاني قال الزجاج يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير وهذا كما تقول العرب قد لقحت الحرب وقد نتجت ولداً أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركاً لا بد له من سبب وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال فلم يبق إلا أن يقال إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مراراً فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سبباً لحدوث الرياح فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه
وأما قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ففيه مباحث الأول أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء وثانيها أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ قال الأزهري تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شرباً له وجعلت له منها مسقى فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه ولم يقولوا أسقاه والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ ( النحل 66 ) فقرؤا باللغتين ولم يختلفوا في قوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( الإنسان 21 ) وفي قوله وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ( الشعراء 79 ) قال أبو علي سقيته حتى روي وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له وقوله فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ أي جعلناه سقياً لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحاباً أقول وصوبه مني بعيد
يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى
نميرا والقبائل من هلال
فقوله سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه وأما قول ذي الرمة وأسقيه حتى كاد مما أبنه
تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء وأقول سقاه الله وقوله وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار
أما قوله وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ ففيه قولان منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلاً قاطعاً على وجود الإله الفاعل المختار وقوله وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا وقوله وَنَحْنُ الْوارِثُونَ معناه أنه إذا مات جميع الخلائق فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيهاً بالإرث فكان وارثاً من هذا الوجه
وأما قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ ففيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعة الله الثاني أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة وبالمستأخرين الصف الآخر روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رغب في الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنا نجزيهم على قدر نياتهم الثالث قال الضحاك ومقاتل يعني في وصف القتال الرابع قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية الخامس قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال عكرمة المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق
واعلم أنه تعالى لما قال وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ أتبعه بقوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ تنبيهاً على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة
وأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ معناه أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب
المسألة الثانية ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى فقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ إشارة إلى ذلك الإنسان الأول والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام ونقل في ( كتب الشيعة ) عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع
واعلم أن الجسم محدث فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقاً عن عدم محض وأيضاً دل قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) على أن آدم مخلوق من تراب ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين وهي قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ( ص 71 ) وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون والأقرب أنه تعالى خلقه أولاً من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان بل هو قادر على خلقه ابتداء وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه
المسألة الثالثة في الصلصال قولان قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ وإذا طبخ فهو فخار قالوا إذا توهمت في صوته مداً فهو صليل وإذا توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة قال المفسرون خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة فلذلك سماه الله تعالى صلصالاً
والقول الثاني الصلصال والمنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير وهذا القول عندي ضعيف لأنه تعالى قال مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وكونه حمأ مسنوناً يدل على النتن والتغير وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالاً مغايراً لكونه حمأ مسنوناً ولو كان كونه صلصالاً عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه صلصالاً وبين كونه حمأ مسنوناً تفاوت وأما الحمأ فقال الليث الحمأة بوزن فعلة والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن وقال أبو عبيدة والأكثرون حماة بوزن كمأة وقوله مَّسْنُونٍ فيه أقوال الأول قال ابن السكيت سمعت أبا عمر يقول في قوله مَّسْنُونٍ أي متغير قال أبو الهيثم يقال سن الماء فهو مسنون أي تغير والدليل عليه قوله تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ ( البقرة 259 ) أي لم يتغير الثاني المسنون المحكوك وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه والذي يخرج من بينهما يقال له السنن وسمي المسن مسناً لأن الحديد يسن عليه والثالث قال الزجاج هذا اللفظ مأخوذ من أي موضوع على سنن الطريق لأنه متى كان كذلك فقد تغير الرابع قال أبو عبيدة المسنون المصبوب والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سناً الخامس قال سيبويه المسنون المصور على صورة ومثال من سنة الوجه وهي صورته السادس روي عن ابن عباس أنه قال المسنون الطين الرطب وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة لأنه إذا كان رطباً يسيل وينبسط على الأرض فيكون مسنوناً بمعنى أنه مصبوب
أما قوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ فاختلفوا في أن الجان من هو فقال عطاء عن ابن عباس يريد إبليس وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة وقال ابن عباس في رواية أخرى الجان هو أب الجن وهو قول الأكثرين وسمي جاناً لتواريه عن الأعين كما سمي الجنين جنيناً لهذا السبب والجنين متوارٍ في بطن أمه ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك جن الشيء إذا ستره فالجان المذكور ههنا يحتمل أنه سمي جاناً لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول كما يقال في لابن وتامر وماء دافق وعيشة راضية واختلفوا في الجن فقال بعضهم إنهم جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمناً فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافراً يسمى بهذا الإسم والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن وقوله تعالى خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ قال ابن عباس يريد من قبل خلق آدم وقوله مِن نَّارِ السَّمُومِ معنى السموم في اللغة الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار على ما ورد في الخبر أنها لفح جهنم قيل سميت سموماً لأنها بلطفها تدخل في مسام البدن وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه قال ابن مسعود هذه السموم جزء
من سبعين جزأ من السموم التي خلق الله بها الجان وتلا هذه الآية
فإن قيل كيف يعقل خلق الجان من النار
قلنا هذا على مذهبنا ظاهر لأن البنية عندنا ليست شرطاً لإمكان حصول الحياة فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجواهر الفرد فكذلك يكون قادراً على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأول واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس فإنه أبى وتمرد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما تفسير كونه بشراً فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر والبشرة ظاهرة الجلد من كل حيوان وأما كونه صلصالاً من حمأ مسنون فقد تقدم ذكره وأما قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ففيه قولان الأول فإذا سويت شكله بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية والثاني فإذا سويت أجزاء بدنه باعتدال الطبائع وتناسب الأمشاج كما قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ ( الإنسان 2 )
وأما قوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ففيه مباحث الأول أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفاً له وتكريماً وقوله فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فيه مباحث أحدها أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة
البقرة وثانيها أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أو بعضهم أو ملائكة الأرض من الناس من لا يجوز أن يقال إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة الاْعْرَافِ في صفة الملائكة إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ فقوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( الأعراف 20 ) يفيد الحصر وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال إن قوله تعالى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ يفيد العموم إلا أن الخاص مقدم على العام وثالثها أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له لأن قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قال الخليل وسيبويه قوله كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد بعد توكيد وسئل المبرد عن هذه الآية فقال لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كُلُّهُمْ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال أَجْمَعُونَ ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال وقول الخليل وسيبويه أجود لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله إِلاَّ إِبْلِيسَ أجمعوا على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف وتقديره أن قائلاً قال هلا سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه
أما قوله قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ أي قال الله تعالى له يا إبليس وهذا يقتضي أنه تعالى تكلم معه فعند هذا قال بعض المتكلمين إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله إلا أن هذا ضعيف لأن إبليس قال في الجواب لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ فقوله خَلَقْتَهُ خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع الله تعالى بغير واسطة وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم ولعل الجواب عنه أن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا وقوله لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فيه بحثان
البحث الأول اللام في قوله لاِسْجُدَ لتأكيد النفي ومعناه لا يصح مني أن أسجد لبشر
البحث الثاني معنى هذا الكلام أن كونه بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً وهو كان روحانياً لطيفاً فالتفرقة حاصلة بينهما في الحال من هذا الوجه كأنه يقول البشر جسماني كثيف له بشرة وأنا روحاني لطيف والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف والأدون كيف يكون مسجوداً للأعلى وأيضاً أن آدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون فهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هو النار وهي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم والأشرف
يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون فالكلام الأول إشارة إلى الفرق الحاصل بسبب البشرية والروحانية وهو فرق حاصل في الحال والكلام الثاني إشارة إلى الفرق الحاصل بحسب العنصر والأصل فهذا مجموع شبهة إبليس وقوله تعالى قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فهذا ليس جواباً عن تلك الشبهة على سبيل التصريح ولكنه جواب عنها على سبيل التنبيه وتقريره أن الذي قاله الله تعالى نص والذي قاله إبليس قياس ومن عارض النص بالقياس كان رجيماً ملعوناً وتمام الكلام في هذا المعنى ذكرناه مستقصى في سورة الأعراف وقوله فَاخْرُجْ مِنْهَا قيل المراد من جنة عدن وقيل من السموات وقيل من زمرة الملائكة وتمام هذا الكلام مع تفسير الرجيم قد سبق ذكره في سورة الأعراف وقوله وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدّينِ قال ابن عباس يريد يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم مثل قوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 )
فإن قيل كلمة ( إلى ) تفيد انتهاء الغاية فهذا يشعر بأن اللعن لا يحصل إلا إلى يوم القيامة وعند قيام القيامة يزول اللعن
أجابوا عنه من وجوه الأول المراد منه التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية يذكرها الناس في كلامهم كقولهم مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هود 107 ) في التأبيد والثاني أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذاباً ينسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَنظِرْنِى متعلق بما تقدم والتقدير إذا جعلتني رجيماً ملعوناً إلى يوم الدين فأنظرني فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت قيام القيامة لأن قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القايمة وقوله فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة وظاهره أن بعد قيام القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت ألبتة ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ واختلفوا في المراد منه على وجوه أحدها أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن من المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه وقيل إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم
لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال تعالى إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( الأعراف 187 ) وقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وثانيها أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم لأن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم
فإن قيل لما أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضاً فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية
قلنا يحمل قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى ما يكون قريباً منه والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول وثالثها أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى وليس المراد منه يوم القيامة
فإن قيل إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت لأن فيه إغراء بالمعاصي وذلك لا يجوز على الله تعالى
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوماً للمكلف فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي
وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ففيه بحثان
البحث الأول الباء في بِمَآ أَغْوَيْتَنِى للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ونظيره قوله تعالى فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وفي قوله بِمَآ أَغْوَيْتَنِى أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال والفقهاء قالوا القسم بصفات الذات صحيح أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا الباء ههنا بمعنى السبب أي بسبب كوني غاوياً لأزينن كقول القائل أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار وبطاعته ليدخلن الجنة
البحث الثاني اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه الأول أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة الثاني أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون ومجتهدون في الضلال والإغواء فلو كان مراد الله تعالى هو
الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين وحيث فعل بالضد منه علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر الثالث أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترىء حينئذ على أنواع المعاصي والكفر الرابع أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سبباً لمزيد عذابه وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه الخامس أنه صرح بأن الله أغواه فقال رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة وأيضاً فهو معارض بقول إبليس فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأضاف الإغواء إلى نفسه لأنا نقول
أما الجواب عن الأول فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقاً فيما قال
وأما الجواب عن الثاني فهو أنه قال في هذه الآية رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فالمراد ههنا من قوله لازَيّنَنَّ لَهُمْ هو المراد من قوله في تلك الآية لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 )
السؤال السادس أنه اقل رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول إما أن يقال إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه أو ما عرف ذلك فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاوياً لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة وأما إن قلنا بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية
أما الإشكال الأول فللمعتزلة فيه طريقان
الطريق الأول وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته فإن ذلك الكافر والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية فلما كان الأمر كذلك لا جرم أمهله هذه المدة
الطريق الثاني وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن أقواماً يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية أقصى ما في الباب أن يقال الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سبباً لزيادة المشقة في أداء الطاعات وذلك لا يمنع الحكيم من فعله كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سبباً لمزيد الشبهات ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا وهذان الطريقان هما بعينهما
الجواب عن السؤال الثاني
وأما السؤال الثالث وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لايوجب التفاوت ألبتة فالسؤال زائل وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع
وأما السؤال الخامس وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى أحدها المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك وثانيها المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضاً عنه بالدعاء إلى المعصية وثالثها أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة وبالثاني الإضلال ورابعها أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس فأما أن يقال إن ذلك الأمر صار موجباً لذاته لحصول ذلك الغي فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول هذا باطل ويدل عليه القرآن والبرهان أما القرآن فقوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان وقال فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) فأضاف الإخراج إليه وقال موسى عليه السلام هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثراً وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبداً في القبائح وينفره عن الخيرات مثل شخص كان حاله بالضد منه والعلم بهذا التفاوت ضروري وأما قوله إن وجوده يصير سبباً لزيادة المشقة في الطاعة فنقول تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب وكل من يراعي المصالح فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلاً ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة وأما قوله المراد من قوله رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول كل هذا بعيد لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة والله أعلم
وأما قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن إبليس استثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر هذا الإستثناء أن لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام في كل القرآن والباقون بفتح اللام وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد
ومن فتح اللام فمعناه الذين أخلصهم الله بالهداية والإيمان والتوفيق والعصمة وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من الله تعالى
المسألة الثالثة الإخلاص جعل الشيء خالصاً عن شائبة الغير فنقول كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به لله فقط أو لغير الله فقط أو لمجموع الأمرين وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان الله راجحاً أو مرجوحاً أو معادلاً والتقدير الرابع أنيأتي به لا لغرض أصلاً وهذا محال لأن الفعل بدون الداعية محال
أما الأول فهو الإخلاص في حق الله تعالى لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير فهذا هو الإخلاص
وأما الثاني وهو الإخلاص في حق غير الله فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصاً في حق الله تعالى
وأما الثالث وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحاً فهذا يرجى أن يكون من المخلصين لأن المثل يقابله المثل فيبقى القدر الزائد خالصاً عن الشوب
وأما الرابع والخامس فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى والحاصل أن القسم الأول إخلاص في حق الله تعالى قطعاً والقسم الثاني يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعاً والله أعلم
أما قوله تعالى قَالَ هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ ففيه وجوه الأول أن إبليس لما قال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فلفظ المخلص يدل على الإخلاص فقوله هذا عائد إلى الإخلاص والمعنى أن الإخلاص طريق علي وإلي أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي وقال الحسن معناه هذا صراط إلي مستقيم وقال آخرون هذا صراط من مر عليه فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال طريقك علي الثاني أن الإخلاص طريق العبودية فقوله هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم الثالث قال بعضهم لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم الرابع معناه هذا صراط علي تقريره وتأكيده وهو مستقيم حق وصدق وقرأ يعقوب صِراطٌ عَلَى َّ بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله صِراطِ أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه قال الواحدي معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم
إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ
اعلم أن إبليس لما قال لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أوهم هذا الكلام أن له سلطاناً على عباد الله الذين يكونون من المخلصين فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين بل من اتبع منهم إبليس باختياره صار متبعاً له ولكن حصول تلك المتابعة أيضاً ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً فبين تعالى كذبه فيه وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وقال تعالى في آية أخرى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ( النحل 99 100 ) قال الجبائي هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه وفي الآية قول آخر وهو أن إبليس لما قال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فلهذا قال الكلبي العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس
واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ استثناء لأن المعنى أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي
وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء بل تكون لفظة ( إلا ) بمعنى لكن وقوله إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قال ابن عباس يريد إبليس وأشياعه ومن اتبعه من الغاوين
ثم قال تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ وفيه قولان
القول الأول إنها سبع طبقات بعضها فوق البعض وتسمى تلك الطبقات بالدركات ويدل على كونها كذلك قوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 )
والقول الثاني إن قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام ولكل قسم باب وعن ابن جريج أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية قال الضحاك الطبقة الأولى فيها أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون والثانية لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وقوله لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر جُزْء مَّقْسُومٌ والباقون ( جز ) بتخفيف الزاي وقرأ الزهري ( جز ) بالتشديد كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي كقولك خب في خبء ثم وقف عليه بالتشديد
المسألة الثانية الجزء بعض الشيء والجمع الأجزاء وجزأته جعلته أجزاء والمعنى أنه تعالى يجزي أتباع إبليس إجزاء بمعنى أنه يجعلهم أقساماً وفرقاً ويدخل في كل قسم من أقسام جهنم طائفة من
هؤلاء الطوائف والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فلا جرم صارت مراتب العذاب والعقاب مختلفة بالغلظ والخفة والله أعلم
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ قولان
القول الأول قال الجبائي وجمهور المعتزلة القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي قالوا لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك
والقول الثاني وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به وأقول هذا القول هو الحق الصحيح والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضارباً وقاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقياً فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقياً ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن شيء واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم وأيضاً فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) وعقيب قول الله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولاً واعتقاداً سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر
المسألة الثانية قوله تعالى فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أما الجنات فأربعة لقوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ثم قال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فيكون المجموع أربعة وقوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله وَلِمَنْ خَافَ يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله
تعالى في قوله مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ ( محمد 15 ) ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار
فإن قيل أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ يحتمل أن القائل لقوله ادْخُلُوهَا هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم ادْخُلُوهَا
والجواب عنه من وجهين الأول لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ الثاني لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة والأمن من زوالها
ثم قال تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ من قولهم أغل في جوفه وتغلغل أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم وعن علي عليه السلام أنه قال أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالساً عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي مرحباً بك يا ابن أخي أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ فقال الحرث كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد قال عليه السلام فلمن هذه الآية لا أم لك يا أعور وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد وقوله إِخْوَانًا نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقوله عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو سرر وسرر وجدد وجدد قال المفضل بعض تميم وكلب يفتحون لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد وقال بعض أهل المعاني السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور قال الليث وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية وقوله مُّتَقَابِلِينَ التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ والمراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان
واعلم أن للثواب أربع شرائط وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة
أما القيد الأول وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وأما القيد الثاني وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال
وأما القيد الثالث وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية وإما أن تكون جسمانية أما المضار الروحانية فهي الحقد والحسد والغل والغضب وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ إشارة إلى نفي المضار الجسمانية
وأما القيد الرابع وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال فإنهم قالوا المراد من قوله وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرأة عن حوادث الوهم والخيال وقوله إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ والله أعلم
نَبِّى ءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّ لِيمُ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى أثبتت الهمزة الساكنة في ( نبىء ) صورة وما أثبتت في قوله دِفْء لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيراً وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف ( نبىء ) في الخط على تحقيق الهمزة وليس قبل همزة ( نبىء ) ساكن فاجرؤها على قياس الأصل
المسألة الثانية اعلم أن عباد الله قسمان منهم من يكون متقياً ومنهم من لا يكون كذلك فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال بِمُخْرَجِينَ نَبّىء عِبَادِى
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فههنا وصفهم بكونهم عباداً له ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفوراً رحيماً ومن أنكر ذلك كان مستوجباً للعقاب الأليم وفي الآية لطائف أحدها أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله عِبَادِى وهذا تشيف عظيم ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج لم يزد على قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ
( الإسراء 1 ) وثانيها أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله إِنّى وثانيها قوله أَنَاْ وثالثها ادخال حرف الألف واللام على قوله الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ وثالثها أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة ورابعها أنه لما قال نَبّىء عِبَادِى كان معناه نبىء كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى وعن قتادة قال بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه ) أي قتلها وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مر بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال ( أتضحكون والنار بين أيديكم ) فنزل قوله نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والله أعلم
وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى َ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام والضمير في قوله وَنَبّئْهُمْ راجع إلى قوله عِبَادِى والتقدير ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم يقال أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار
المسألة الثانية الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى ثم سمى به ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة
فإن قيل كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل