كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وثانيها المراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها فكان جديراً بأن يطلق عليه اسم الذكر وثالثها قوله وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى عند فرعون وكيفية الذكر هو أن يذكرا لفرعون وقومه أن الله تعالى لا يرضى منهم بالكفر ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب ورابعها أن يذكرا لفرعون آلاء الله ونعماءه وأنواع إحسانه إليه ثم قال بعد ذلك اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وفيه سؤالان الأول ما الفائدة في ذلك بعد قوله اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى قال القفال فيه وجهان أحدهما أن قوله اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرة أخرى اذهبا ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به هرون دون موسى والثاني أن قوله اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ أمر بالذهاب إلى فرعون وحده
السؤال الثاني قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ خطاب مع موسى وهارون عليهما السلام وهذا مشكل لأن هارون عليه السلام لم يكن حاضراً هناك وكذلك في قوله تعالى قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ( طه 45 ) أجاب القفال عنه من وجوه أحدها أن الكلام كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير فالخطاب في تلك الحالة وإن كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وقوله لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) وحكي أن القائل هو عبد الله بن أبي وحده وثانيها يحتمل أن الله تعالى لما قال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى سكت حتى لقي أخاه ثم إن الله تعالى خاطبهما بقوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ وثالثها أنه حكى أنه في مصحف ابن مسعود وحفصة قَالَ رَبُّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أي قال موسى أنا وأخي نخاف فرعون أما قوله تعالى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً ففيه سؤالان
السؤال الأول لم أمر الله تعالى موسى عليه السلام باللين مع الكافر الجاحد الجواب لوجهين الأول أنه عليه السلام كان قد رباه فرعون فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق وهذا تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين الثاني أن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبراً والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر فلهذا أمر الله تعالى بالرفق
السؤال الثاني كيف كان ذلك الكلام اللين الجواب ذكروا فيه وجوهاً أحدها ما حكى الله تعالى بعضه فقال هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى ( النازعات 18 19 ) وذكر أيضاً في هذه السورة بعض ذلك فقال فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ( طه 47 ) إلى قوله وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وثانيها أن تعداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وثالثها كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة ورابعها حكى عن عمرو بن دينار قال بلغني أن فرعون عمر أربعمائة سنة وتسع سنين فقال له موسى عليه السلام إن أطعتني عمرت مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة واعترضوا على هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة أما الأول فقيل لو حصلت له هذه الأمور الثلاثة في هذه المدة الطويلة لصار ذلك كالإلجاء إلى معرفة الله تعالى وذلك لا يصح مع التكليف وأما الثاني فلأن خطابه بالكنية أمر سهل فلا يجوز أن يجعل
ذلك هو المقصود من قوله فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً بل يجوز أن يكون ذلك من جملة المراد وأما الثالث فالاعتراض عليه كما في الأول أما قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فاعلم أنه ليس المراد أنه تعالى كان شاكاً في ذلك لأن ذلك محال عليه تعالى وإنما المراد فقولا له قولاً ليناً على أن تكونا راجيين لأن يتذكر هو أو يخشى واعلم أن أحوال القلب ثلاثة أحدها الإصرار على الحق وثانيها الإصرار على الباطل وثالثها التوقف في الأمرين وأن فرعون كان مصراً على الباطل وهذا القسم أردأ الأقسام فقال تعالى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فيرجع من إنكاره إلى الإقرار بالحق وإن لم ينتقل من الإنكار إلى الإقرار لكنه يحصل في قلبه الخوف فيترك الإنكار وإن كان لا ينتقل إلى الإقرار فإن هذا خير من الإصرار على الإنكار واعلم أن هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لأنه تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان وإذا كان عالماً بذلك فكيف أمر موسى عليه السلام بذلك الرفق وكيف بالغ في ذلك الأمر بتلطيف دعوته إلى الله تعالى مع علمه استحالة حصول ذلك منه ثم هب أن المعتزلة ينازعون في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأنه لايحصل ذلك الإيمان وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العقاب والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بها بطن نفسه ثم يقول إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه يا أخى العقول قاصرة عن معرفة هذه الأسرار ولا سبيل فيها إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ويروى عن كعب أنه قال والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن
قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِأايَة ٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
اعلم أن قوله قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ فيه أسئلة
السؤال الأول قوله قَالاَ رَبَّنَا يدل على أن المتكلم بذلك موسى وهرون عليهما السلام وهرون لم يكن حاضراً هذا المقال فكيف ذلك وجوابه قد تقدم
السؤال الثاني أن موسى عليه السلام قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ( طه 25 ) فأجابه الله تعالى بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) وهذا يدل على أنه قد انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قال بعده إِنَّنَا نَخَافُ فإن
حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر والجواب أن شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواحي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليه السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف
السؤال الثالث أما علم موسى وهرون وقد حملهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل الذي هو مقطعة عن الأداء الجواب قد أمنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما السوء من قبل تمام الأداء أو بعده وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما قال وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 )
السؤال الرابع لما تكرر الأمر من الله تعالى بالذهاب فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية الجواب لو اقتضى الأمر الفور لكان ذلك من أقوى الدلائل على المعصية لا سيما وقد أكثر الله تعالى من أنواع التشريف وتقوية القلب وإزالة الغم ولكن ليس الأمر على الفور فزال السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل أما قوله تعالى أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى فاعلم أن في أَن يَفْرُطَ وجوهاً أحدها فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط يسبق الخيل والمعنى نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة وثانيها أنه مأخوذ من أفرط غيره إذا حمله على العجلة فكان موسى وهارون عليهما السلام خافا من أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقوبة وذلك الحامل هو إما الشيطان أو إدعاؤه للربوبية أو حبه للرياسة أو قومه وهم القبط المتمردون الذين حكى الله تعالى عنهم قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ ( الأعراف 60 ) وثالثها يفرط من الإفراط في الأذية أما قوله أَوْ أَن يَطْغَى فالمعنى يطغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته عليك واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه بأعذار يذكرها فلا بد وأن يختم كلامه بما هو الأقوى وهذا كما أن الهدهد ختم عذره بقوله وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ( النمل 24 ) فكذا ههنا بدأ موسى بقوله أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا وختم بقوله أَوْ أَن يَطْغَى لما أن طغيانه في حق الله تعالى أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون عليهما السلام أما قوله قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فالمراد لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان لأن ذلك هو المفهوم من الكلام يبين ذلك أنه تعالى لم يؤمنهما من الرد ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة أما قوله إِنَّنِى مَعَكُمَا فهو عبارة عن الحراسة والحفظ وعلى هذا الوجه يقال الله معك على وجه الدعاء وأكد ذلك بقوله أَسْمَعُ وَأَرَى فإن من يكون مع الغير وناصراً له وحافظاً يجوز أن لا يعلم كل ما يناله وإنما يحرسه فيما يعلم فبين سبحانه وتعالى أنه معهما بالحفظ والعلم في جميع ما ينالهما وذلك هو النهاية في إزالة الخوف قال القفال قوله أَسْمَعُ وَأَرَى يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى والمعنى يَفْرُطَ عَلَيْنَا بأن لا يسمع منا أَوْ أَن يَطْغَى بأن يقتلنا فقال الله تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه واعلم أن هذه الآية تدل على أن كونه تعالى سميعاً وبصيراً صفتان زائدتان على العلم لأن قوله إِنَّنِى مَعَكُمَا دل على العلم فقوله أَسْمَعُ وَأَرَى لو دل على العلم لكان ذلك تكريراً وهو خلاف الأصل ثم إنه سبحانه أعاد ذلك التكليف فقال فَأْتِيَاهُ لأنه سبحانه وتعالى قال في المرة الأولى لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ( طه 23 24 ) وفي
الثانية اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ وفي الثالثة قَالَ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ ( طه 43 ) وفي الرابعة قال ههنا فأتياه فإن قيل إنه تعالى أمرهما في المرة الثانية بأن يقولا له قَوْلاً لَّيّناً ( طه 44 ) وفي هذه المرة الرابعة أمرهما ءانٍ يَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وفيه تغليظ من وجوه أحدها أن قوله إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فيه أبحاث
البحث الأول انقياده إليهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع
البحث الثاني قوله فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال من بناء أو غيره
البحث الثالث قوله وَلاَ تُعَذّبْهُمْ
البحث الرابع قوله قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ بِكَ فما الفائدة في التليين أولاً والتغليظ ثانياً قلنا لأن الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بد له من التغليظ فإن قيل أليس كان من الواجب أن يقولا إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه قلنا بل هذا أولى من تأخيره عنه لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجزة أما قوله قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ ففيه سؤال وهو أنه تعالى أعطاه آيتين وهما العصا واليد ثم قال اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى ( طه 42 ) وذلك يدل على ثلاث آيات وقال ههنا جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ وهذا يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع أجاب القفال بأن معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال قد جئناك ببيان من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة وأما قوله وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فقال بعضهم هو من قول الله تعالى لهما كأنه قال فقولا إنا رسولا ربك وقولا له والسلام على من اتبع الهدى وقال آخرون بل كلام الله تعالى قد تم عند قوله قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ فقوله بعد ذلك وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وعد من قبلهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة والسلام بمعنى السلامة كما يقال رضاع ورضاعة واللام وعلى ههنا بمعنى واحد كما قال لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ ( الرعد 25 ) على معنى عليهم وقال تعالى مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( فصلت 46 ) وفي موضع آخر إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) أما قوله إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) فاعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم وذلك لأن الألف واللام في قوله الْعَذَابَ تفيد الاستغراق أو تفيد الماهية وعلى التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس فيمن كذب وتولى فوجب في غير المكذب المتولي أن لا يحصل هذا الجنس أصلاً وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام لأن العقاب المتناهي إذا حصل بعده السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يحسن مع حصول ذلك القدر أن يقال إنه لا عقاب وأيضاً فقوله وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وقد فسرنا السلام بالسلامة فظاهره يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى والعارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون صاحب السلامة
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَى ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاٍّ ولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاٌّ وْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى
اعلم أنهما عليهما السلام لما قالا إنا رسولا ربك قال لهما فمن ربكما يا موسى فيه مسائل
المسألة الأولى أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ثم إن موسى عليه السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولاً في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولاً في المناظرة وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضاً على فساد قول التعليمية الذين يقولون نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن موسى عليه السلام اعترف ههنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة
المسألة الثانية تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع
المسألة الثالثة دلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل موسى عليه السلام بفرعون ههنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ( التوبة 6 )
المسألة الرابعة اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفاً بالله تعالى فقيل إنه كان عارفاً إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبراً وتجبراً وزوراً وبهتاناً واحتجوا عليه بستة أوجه أحدها قوله لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الإسراء 102 ) فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطاباً من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالماً بذلك وكذا قوله تعالى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( النمل 14 ) وثانيها أنه كان عاقلاً وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلاً قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر وثالثها قول موسى عليه السلام ههنا رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وكلمة الذي
تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له ورابعها قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد وخامسها أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( القصص 25 ) فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم وسادسها أنه لما قال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قال موسى عليه السلام رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الشعراء 24 ) قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود ومن الناس من قال إنه كان جاهلاً بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجوداً لها ولا خالقاً لها واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة لموجبه ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره
المسألة الخامسة أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى وقال في سورة الشعراء وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدماً على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضاً مما ينبه على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر
المسألة السادسة إنما قال فَمَن رَّبُّكُمَا ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه رباً في قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( الشعراء 18 ) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى رباً آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) قال نمروذ له أَلَمْ تَرَ إِلَى ( البقرة 258 ) ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ
المسألة السابعة اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 1 3 ) قال إبراهيم عليه السلام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور
يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدماً على الهداية ولذلك قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة إلى إبداع القوى وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) إلى أن قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) فظهر أن الخلق مقدم على الهداية والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة قريبة إلى الأفهام أحدها أن الطبيعي يقول الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلاً الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ثم إنه سبحانه قلب هذا الترتيب في خلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما في البدن وهما بمنزلة الأرض ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب التي هي بمنزلة النار فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعرف أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة وثانيها إنك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال البق والبعوض في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بالهام مدبر عالم بجميع المعلومات وثالثها أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال واللآلى من البحار ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لذات الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها وهذا غير مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوانات فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ثم هداه لها ليدوم التناسل وهدى الأولاد لثدي الأمهات بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل في أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأخذ وخلق الرجل على تركيب خاص وأودع فيها قوة المشي وكذا العين والأذن وجميع الأعضاء ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموع واحد وهو الإنسان وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية إما أن يكون واجباً أو جائزاً والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز والجائز لا بد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لايعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً وإن كان جائزاً افتقر إلى سبب آخر والدور والتسلسل محالان فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار والأول محال لأن
الموجب لا يميز مثلاً عن مثل وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية فثبت أن المؤثر والمدبر قادر والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض وجب ( أن ) يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي صفاته عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى
المسألة الثامنة أن فرعون خاطب الاثنين بقوله فَمَن رَّبُّكُمَا ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهرون وزيره وتابعه وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( الزخرف 52 )
المسألة التاسعة في قوله الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وجهان أحدهما التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به وثانيهما أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته وقرىء خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه وأما قوله تعالى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوهاً أحدها أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ما أثبتوه وتركوه فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد وثانيها أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولاً في قوله إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) فقال فرعون فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا وثالثها وهو الأظهر أن فرعون لما قال فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى فذكر موسى عليه السلام دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على هذا المطلوب فقال رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فخاف فرعون أن يريد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَابٍ ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال الَّذِى خَلَقَ لَكُم الاْرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَابٍ فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب وتحقيقه هو أن علم الله تعالى صفته وصفة الشيء قائمة به فأما أن تكون صفة الشيء
حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين الأول معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة ولقائل أن يقول قوله فِى كِتَابِ يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة الوجه الثاني أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى
المسألة الثانية اختلفوا في قوله لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما ثم ذكروا وجوهاً أحدها وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير وثانيها قال مقاتل لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه وثالثها قال الحسن لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه ورابعها قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء وخامسها قال ابن جرير لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صواباً وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول
المسألة الثالثة أنه لما سأله عن الإله وقال فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة أولها قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف مِهَاداً والباقون قرؤوا مهاداً فيهما قال أبو عبيدة الذي اختاره مهاداً وهو اسم والمهد اسم الفعل وقال غيره المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشاً يقال مهد مهداً ومهاداً وفرش فرشاً وفراشاً
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) الَّذِى جَعَلَ مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبراً لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
البحث الثالث المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى
الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وثانيها قوله تعالى وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً قال صاحب ( الكشاف ) سلك من قوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 42 ) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( الشعراء 200 ) أي جعل لكم فيها سبلاً ووسطها بين الجبال والأودية والبراري وثالثها قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَخْرَجْنَا فيه وجوه أحدها أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجاً من نبات شتى وثانيها أن عند قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلاً بالكلام الأول بقوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثم يدل على هذا الاحتمال قوله كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 99 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ( فاطر 27 ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة ٍ ( النمل 60 ) واعلم أن قوله فَأَخْرَجْنَا إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاِوْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ لا يليق بموسى عليه السلام وأيضاً فقوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ثم ابتدىء كلام الله تعالى من قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ويكون التقدير هو الذي جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتاً
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه ألبتة
المسألة الثالثة قوله تعالى أَزْواجاً أي أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض شَتَّى صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم أما قوله كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ فهو حال من الضمير في أخرجنا والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع فهو كقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقوله كُلُواْ أمر إباحة إِنَّ فِى ذَلِكَ أي فيما ذكرت من هذه
النعم لاَيَاتٍ أي لدلالات لذوي النهى أي العقول والنهية العقل قال أبو علي الفارسي النهي يجوز أن يكون مصدراً كالهدى ويجوز أن يكون جمعاً أما قوله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ فاعلم أنه سبحانه لما ذكر منافع الأرض والسماء بين أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى قوله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ مع أنه سبحانه وتعالى خلقنا من نطفة على ما بين ذلك في سائر الآيات والجواب من وجهين الأول أنه لما خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب على ما قال كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) لا جرم أطلق ذلك علينا الثاني أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما يتولدان من الأغذية والغذاء إما حيواني أو نباتي والحيواني ينتهي إلى النبات والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة والثالث ذكرنا في قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ ( آل عمران 6 ) خبر ابن مسعود أن الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرزق والأرض التي يدفن فيها وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة ويذره على النطفة ثم يدخلها في الرحم
السؤال الثاني ظاهر الآية يدل على أن الشيء قد يكون مخلوقاً من الشيء وظاهر قول المتكلمين يأباه والجواب إن كان المراد من خلق الشيء من الشيء إزالة صفة الشيء الأول عن الذات وأحداث صفة الشيء الثاني فيه فذلك جائز لأنه لا منافاة فيه أما قوله تعالى وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ فلا شبهة في أن المراد الإعادة إلى القبور حتى تكون الأرض مكاناً وظرفاً لكل من مات إلا من رفعه الله إلى السماء ومن هذا حاله يحتمل أن يعاد إليها أيضاً بعد ذلك أما قوله تعالى وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ففيه وجوه أحدها وهو الأقرب وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ يوم الحشر والبعث وثانيها ومنها نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج وهذا مذكور في بعض الأخبار وثالثها المراد عذاب القبر عن البراء قال ( خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جنازة رجل من الأنصار فذكر عذاب القبر وما يخاطب به المؤمن والكافر وأنه ترد روحه في جسده ويرد إلى الأرض وأنه تعالى يقول عند إعادتهم إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ) واعلم أن الله تعالى عدد في هذه الآيات منافع الأرض وهي أنه تعالى جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف أرادوا وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلف دوابهم وهي أصلهم الذي منه يتفرعون ثم هي كفاتهم إذا ماتوا ومن ثم قال عليه السلام ( بروا بالأرض فإنها بكم برة )
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى
اعلم أنه تعالى بين أنه أرى فرعون الآيات كلها ثم إنه لم يقبلها واختلفوا في المراد بالآيات فقال بعضهم أراد كل الأدلة ما يتصل بالتوحيد وما يتصل بالنبوة أما التوحيد فما ذكر في هذه السورة من قوله رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 50 ) وقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ( طه 53 ) الآية وما ذكر في سورة الشعراء قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشعراء 23 24 ) الآيات وأما النبوة فهي الآيات التسع التي خص الله بها موسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل وعلى هذا التقرير معنى أريناه عرفناه صحتها وأوضحنا له وجه الدلالة فيها ومنهم من حمل ذلك على ما يتصل بالنبوة وهي هذه المعجزات وإنما أضاف الآيات إلى نفسه سبحانه وتعالى مع أن المظهر لها موسى عليه السلام لأنه أجراها على يديه كما أضاف نفخ الروح إلى نفسه فقال فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ( الأنبياء 91 ) مع أن النفخ كان من جبريل عليه السلام فإن قيل قوله كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملة الأيات ما أظهرها على الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام والذين كانوا بعده قلنا لفظ الكل وإن كان للعموم لكن قد يستعمل في الخصوص عند القرينة كما يقال دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال إن موسى عليه السلام أراه آياته وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء عليهم السلام فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى الله تعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه أنه كذب وأبى قال القاضي الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك ولأن الله تعالى ذمه بأنه كذب وبأنه أبى ولو لم يقدر على ما هو فيه لم يصح واعلم أن هذا السؤال مر في سورة البقرة في قوله إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) والجواب مذكور هناك ثم حكى الله تعالى شبهة فرعون وهي قوله أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى مُوسَى وتركيب هذه الشبهة عجيب وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون به مبغضين له جداً وهو قوله أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا وذلك لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ( النساء 66 ) ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته عليه السلام وهي أن ما جئتنا به سحر لا معجز ولما علم أن المعجز إنما يتميز عن السحر لكون المعجز مما يتعذر معارضته والسحر مما يمكن معارضته قال فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ أما قوله تعالى فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ فاعلم أن الموعد يجوز أن يكون مصدراً ويجوز أن يكون اسماً لمكان الوعد كقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 43 ) وأن يكون اسماً لزمان الوعد كقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ( هود 81 ) والذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلفه لأن الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف أما الزمان والمكان فلا يصح وصفهما بذلك ومما يؤكد ذلك أن الحسن قرأ يوم الزينة بالنصب وذلك لا يطابق المكان والزمان وإنما نصب مكاناً لأنه هو المفعول الثاني للجعل والتقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى أما قوله سُوًى فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة وابن عامر سُوًى بضم السين والباقون بكسرها وهما لغتان مثل طوى وطوى وقرىء أيضاً منوناً وغير منون وذكروا في معناه وجوهاً أحدها قال أبو علي مكاناً تستوي مسافته على الفريقين وهو المراد من قول مجاهد قال قتادة منصفاً بيننا وثانيها قال ابن زيد سُوًى أي مستوياً لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض فسوى على التقدير الأول صفة المسافة وعلى هذا التقدير صفة المكان والمقصود
أنهم طلبوا موضعاً مستوياً لا يكون فيه ارتفاع ولا انخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري وثالثها مكاناً يستوي حالنا في الرضاء به ورابعها قال الكلبي مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه الآن
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَة ِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن قوله تعالى قَالَ مَوْعِدُكُمْ أن يكون من قول فرعون فبين الوقت ويحتمل أن يكون من قول موسى عليه السلام قال القاضي والأول أظهر لأنه المطالب بالاجتماع دون موسى عليه السلام وعندي الأظهر أنه من كلام موسى عليه السلام لوجوه أحدها أنه جواب لقول فرعون فاجعل بيننا وبينك موعداً وثانيها وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس وثالثها أن قوله موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون إلى موسى وهرون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما أو على أن أقل الجمع إثنان وهو غير جائز أما لو جعلناه من موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استقام الكلام
المسألة الثانية يوم الزينة قرأ بعضهم بضم الميم وقرأ الحسن بالنصب قال الزجاج إذا رفع فعلى خبر المبتدأ والمعنى وقت موعدكم يوم الزينة ومن نصب فعلى الظرف معناه موعدكم يقع يوم الزينة وقوله وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى معناه موعدكم حشر الناس ضحى فموضع أن يكون رفعاً ويجوز فيه الخفض عطفاً على الزينة كأنه قال موعدكم يوم الزينة ويوم يحشر الناس ضحى فإن قيل ألستم قلتم في تفسير قوله أَجَعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً إن التقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى فهذا كيف يطابقه الجواب بذكر الزمان قلنا هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم فبذكر الزمان علم المكان
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في يوم الزينة وجوهاً أحدها أنه يوم عيد لهم يتزينون فيه وثانيها قال مقاتل يوم النيروز وثالثها قال سعيد بن جبير يوم سوق لهم ورابعها قال ابن عباس يوم عاشوراء وإنما قال يحشر فإنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم وقرىء وأن يحشر الناس بالياء والتاء يريد وأن تحشر الناس يا فرعون وأن يحشر اليوم ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم بقوله مَوْعِدُكُمْ وجعل ضمير يحشر لفرعون وإنما أوعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله تعالى وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر
العجيب في كل بدو وحضر ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر قال القاضي إنه عين اليوم بقوله يَوْمُ الزّينَة ِ ثم عين من اليوم وقتاً معيناً بقوله وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وأما قوله فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى فاعلم أن التولي قد يكون إعراضاً وقد يكون انصرافاً والظاهر ههنا أنه بمعنى الانصراف وهو مفارقته موسى عليه السلام على الموعد الذي تواعدوا للاجتماع ( فيه ) قال مقاتل فتولى أي أعرض وثبت على إعراضه عن الحق ودخل تحت قوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة ثُمَّ أَتَى دخل تحت أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات قال ابن عباس كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل أكثر من ذلك ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليهم وكان طول القبة سبعين ذراعاً ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير مما قالوه وأقدموا عليه فقال وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تزعموا بأن الذي جئت به ليس بحق وأنه سحر فيمكنكم معارضتي قال الزجاج يجوز في انتصاب ويلكم أن يكون المعنى ألزمهم الله ويلا إن افتروا على الله كذبا ويجوز على النداء كقوله ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا ( هود 72 ) قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 ) وقوله فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ أي يعذبكم عذاباً مهلكاً مستأصلاً وقرأ حمزة وعاصم والكسائي برفع الياء من الإسحات والباقون بفتحها من السحت والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم والسحت لغة أهل الحجاز فكأنه تعالى قال من افترى على الله كذباً حصل له أمران أحدهما عذاب الاستئصال في الدنيا أو العذاب الشديد في الآخرة وهو المراد من قوله فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ والثاني الخيبة والحرمان عن المقصود وهو المراد بقوله وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ثم بين سبحانه وتعالى أنه لم قال موسى عليه السلام ذلك أعرضوا عن قوله فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وفي تنازعوا قولان أحدهما تفاوضوا وتشاوروا ليستقروا على شيء واحد والثاني قال مقاتل اختلفوا فيما بينهم ثم قال بعضهم دخل في التنازع فرعون وقومه ومنهم من يقول بل هم السحرة وحدهم والكلام محتمل وليس في الظاهر ما يدل على الترجيح وذكروا في قوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى وجوهاً أحدها أنهم أسروها من فرعون وعلى هذا التقدير فيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن نجواهم قالوا إن غلبنا موسى اتبعناه والثاني قال قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر الثالث قال وهب لما قال وَيْلَكُمْ الآية قالوا ما هذا بقول ساحر القول الثاني أنهم أسروا النجوى من موسى وفرعون ونجواهم هو قولهم إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ ( طه 63 ) وهو قول السدي الوجه الثالث أنهم أسروا النجوى من موسى وهرون ومن فرعون وقومه أيضاً وكان نجواهم أنهم كيف يجب تدبير أمر الحبال والعصي وعلى أي وجه يجب إظهارها فيكون أوقع في القلوب للعيوب وهو قول الضحاك
قَالُوا إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القراءة المشهورة إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ ومنهم من ترك هذه القراءة وذكروا وجوهاً أخر أحدها قرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر ( إن هذين لساحران ) قالوا هي قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير والحسن رضي الله تعالى عنه واحتج أبو عمرو وعيسى على ذلك بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن قوله إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ وعن قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ( المائدة 69 ) في المائدة وعن قوله لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إِلَى قَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ( النساء 162 ) فقالت يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب وروى عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها وعن أبي عمرو أنه قال إني لأستحي أن أقرأ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ وثانيها قرأ ابن كثير ( إن هذان ) بتخفيف إن وتشديد نون هذان وثالثها قرأ حفص عن عاصم إن هذان بتخفيف النونين ورابعها قرأ عبد الله بن مسعود وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى إِنْ هَاذانِ بفتح الألف وجزم نونه ( و ) ساحران بغير لام وخامسها عن الأخفش قَالُواْ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ خفيفة في معنى ثقيلة وهي لغة قوم يرفعون بها ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما وسادسها روى عن أبي بن كعب ( ما هذان إلا ساحران ) وروي عنه أيضاً ( إن هذان لساحران ) وعن الخليل مثل ذلك وعن أبي أيضاً ( إن ذان لساحران ) فهذه هي القراءات الشاذة المذكورة في هذه الآية واعلم أن المحققين قالوا هذه القراءات لا يجوز تصحيحها لأنها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر إذ لو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها مع كونها مع القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة ولما كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدى إليه وأما الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ مما تقدم من وجوه أحدها أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كل القرآن وأنه باطل وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة وثانيها أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما أن فيه لحناً وغلطاً وثالثها قال ابن الأنباري إن الصحابة هم الأئمة والقدوة فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الاتباع حتى قال بعضهم اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم فثبت أنه لا بد من تصحيح القراءة المشهورة واختلف النحويون فيه وذكروا وجوهاً الوجه الأول وهو الأقوى أن هذه لغة لبعض العرب وقال بعضهم هي لغة بلحارث بن كعب والزجاج نسبها إلى كنانة وقطرب نسبها إلى بلحارث بن كعب ومراد وخثعم وبعض بني عذرة ونسبها ابن جني إلى بعض بني ربيعة أيضاً وأنشد الفراء على هذه اللغة فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى
مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وأنشد غيره تزود منا بين أذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
قال الفراء وحكى بعض بني أسد أنه قال هذا خط يدا أخي أعرفه وقال قطرب هؤلاء يقولون رأيت رجلان
واشتريت ثوبان قال رجل من بني ضبة جاهلي أعرف منها الجيد والعينانا
ومنخرين أشبها ظبيانا
وقوله ومنخرين على اللغة الفاشية وما وراء ذلك على لغة هؤلاء
وقال آخر طاروا علاهن فطر علاها
واشدد بمثنى حقب حقواها
وقال آخر كأن صريف ناباه إذا ما
أمرهما صرير الأخطبان
قال بعضهم الأخطبان ذكر الصردان فصيرهما واحداً فبقي الاستدلال بقوله صريف ناباه قال وأنشدني يونس لبعض بني الحرث كأن يميناً سحبل ومصيفه
مراق دم لن يبرح الدهر ثاويا
وأنشدوا أيضاً إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وقال ابن جني روينا عن قطرب هناك أن تبكي بشعشعان
رحب الفؤاد طائل اليدان
ثم قال الفراء وذلك وإن كان قليلاً أقيس لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً ولو كان ما بعده ياء ينبغي أن تنقلب ألفاً لانفتاح ما قبلها وقطرب ذكر أنهم يفعلون ذلك فراراً إلى الألف التي هي أخف حروف المد هذا أقوى الوجوه في هذه الآية ويمكن أن يقال أيضاً الألف في هذا من جوهر الكلمة والحرف الذي يكون من جوهر الكلمة لا يجوز تغييره بسبب التثنية والجمع لأن ما بالذات لا يزول بالعرض فهذا الدليل يقتضي أن لا يجوز أن يقال ( إن هذين ) فلما جوزناه فلا أقل من أن يجوز معه أن يقال إن هذان الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن ههنا بمعنى نعم قال الشاعر ويقلن شيب قد علا
ك وقد كبرت فقلت إنه
أي فقلت نعم فالهاء في إنه هاء السكت كما في قوله تعالى هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ( الحاقة 29 ) وقال أبو ذؤيب شاب المفارق إن إن من البلى
شيب القذال مع العذار الواصل
أي نعم إن من البلى فصار إن كأنه قال نعم هذان لساحران واعترضوا عليه فقالوا اللام لا تدخل في الخبر على الاستحسان إلا إذا كانت إن داخلة في المبتدأ فأما إذا لم تدخل أن على المبتدأ فمحل اللام المبتدأ إذ يقال لزيد اعلم من عمرو ولا يقال زيد لأعلم من عمرو وأجابوا عن هذا الاعتراض من وجهين الأول لا نسلم أن اللام لا يحسن دخولها على الخبر والدليل عليه قوله
أم الحليس لعجوز شهر به
ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وقال آخر خالي لأنت ومن جرير خاله
ينل العلاء ويكرم الأخوالا
وأنشد قطرب ألم تكن حلفت بالله العلي
أن مطاياك لمن خير المطي
وإن رويت إن بالكسر لم يبق الاستدلال إلا أن قطرباً قال سمعناه مفتوح الهمزة وأيضاً فقد أدخلت اللام في خبر أمسى قال ابن جني أنشدنا أبو علي مروا عجالى فقالوا كيف صاحبكم
فقال من سئلوا أمسى لمجهودا
وقال قطرب وسمعنا بعض العرب يقول أراك المسالمي وإني رأيته لشيخاً وزيد والله لواثق بك وقال كثير وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها
لكالهائم المقصى بكل بلاد
وقال آخر ولكنني من حبها لعميد
وقال المعترض هذه الأشعار من الشواذ وإنما جاءت كذا لضرورة الشعر وجل كلام الله تعالى عن الضرورة وإنما تقرر هذا الكلام إذا بينا أن المبتدأ إذا لم يدخل عليه إن وجب إدخال اللام عليه لا على الخبر وتحقيقه أن اللام تفيد تأكيد موصوفية المبتدأ بالخبر واللام تدل على حالة من حالات المبتدأ وصفة من صفاته فوجب دخولها على المبتدأ لأن العلة الموجبة لحكم في محل لا بد وأن تكون مختصة بذلك المحل لا يقال هذا مشكل بما إذا دخلت إن على المبتدأ فإن ههنا يجب إدخال اللام على الخبر مع أن ما ذكرتموه حاصل فيه لأنا نقول ذلك لأجل الضرورة وذلك لأن كلمة إن للتأكيد واللام للتأكيد فلو قلنا إن لزيداً قائم لكنا قد أدخلنا حرف التأكيد على حرف التأكيد وذلك ممتنع فلما تعذر إدخالها على المبتدأ لا جرم أدخلناها على الخبر لهذه الضرورة وأما إذا لم يدخل حرف إن على المبتدأ كانت هذه الضرورة زائلة فوجب إدخال اللام على المبتدأ لا يقال إذا جاز إدخال حرف النفي على حرف النفي في قوله
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالبني أنيق أجرب
والغرض به تأكيد النفي فلم لا يجوز إدخال حرف التأكيد على حرف التأكيد والغرض به تأكيد الإثبات لأنا نقول الفرق بين البابين أن قولك زيد قائم يدل على الحكم بموصوفية زيد بالقيام فإذا قلت إن زيداً قائم فكلمة إن تفيد تأكيد ذلك الحكم فلو ذكرت مؤكداً آخر مع كلمة إن صار عبثاً أما لو قلت رأيت فلاناً فهذا للثبوت فإذا أدخلت عليه حرف النفي أفاد حرف النفي معنى النفي ولا يفيد التأكيد لأنه مستقل بإفادة الأصل فكيف يفيد الزيادة فإذا ضممت إليه حرف نفي آخر صار الحرف الثاني مؤكداً للأول فلا يكون عبثاً فهذا هو الفرق بين البابين فهذا منتهى تقرير هذا الاعتراض وهو عندي ضعيف لأن الكل اتفقوا على أنه إذا اجتمع النقل والقياس فالنقل أولى ولأن هذه العلل في نهاية الضعف فكيف يدفع بها النقل الظاهر الوجه الثاني في الجواب عن قولهم اللام لا يحسن دخولها على الخبر إلا إذا دخلت كلمة إن على المبتدأ كما ذكره الزجاج فقال إن وقعت موقع نعم واللام في موقعها والتقدير
نعم هذان لهما ساحران فكانت اللام داخلة على المبتدأ لا على الخبر قال وعرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحق فارتضياه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا قال ابن جنى هذا القول غير صحيح لوجوه الوجه الأول أن الأصل أن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل به ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام لأن التأكيد إنما يحتاج إليه حيث لم يكن العلم به حاصلاً الوجه الثاني أن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب فالجمع بينهما غير جائز ولأن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس الوجه الثالث امتناع أصحابنا البصريين من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو قولك زيد ضربت فلا يجيزون زيد ضربت نفسه على أن يجعل النفس توكيداً للهاء المؤكدة المقدرة في ضربت أي ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم به وإذا كان كذلك فقد استغنى عن تأكيده فكذا ههنا الوجه الرابع أن جميع النحويين حملوا قول الشاعر أم الحليس لعجوز شهر به على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة ولو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لما عدل عنه النحويون ولما حملوا الكلام عليه على الإضطرار إذا وجدوا له وجهاً ظاهراً ويمكن الجواب عن اعتراض ابن جنى بأنه إنما حسن حذف المبتدأ لأن في اللفظ ما يدل عليه وهو قوله هذان أما لو حذف التأكيد فليس في اللفظ ما يدل عليه فلا جرم كان حذف المبتدأ أولى من حذف التأكيد وأما امتناعهم من تأكيد الضمير في قولهم زيد ضربت نفسه فذاك إنما كان لأن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر فإذا قال زيد ضربت نفسه كان قوله نفسه مفعولاً فلا يمكن جعله تأكيداً للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع ههنا لهذه العلة لا لأن تأكيد المحذوف مطلقاً ممتنع وأما قوله النحويون حملوا قول الشاعر أم الحليس لعجوز شهر به على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة فلو جاز ما قاله الزجاج لما عدل عنه النحويون فهذا اعتراض في نهاية السقوط لأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً فما أكثر ما ذهل المتقدم عنه وأدركه المتأخر فهذا تمام الكلام في شرح هذا الوجه الثالث في الجواب أن كلمة إن ضعيفة في العمل لأنها تعمل بسبب مشابهة الفعل فوجب كونها ضعيفة في العمل وإذا ضعفت جاز بقاء المبتدأ على إعرابه الأصلي وهو الرفع
المقدمة الأولى أنها تشبه الفعل وهذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الإسم وهو تأكيد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الإسم
المقدمة الثانية أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل فذلك ظاهر بناء على الدوران
المقدمة الثالثة أنها لم تنصب الاسم وترفع الخبر فتقريره أن يقال إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً أو تنصبهما معاً أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول إن عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر ألبتة ولأنها أعطيت عمل الفعل والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والقسم الثاني أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه والقسم الثالث أيضاً باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين
الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع وفي المفعول بالنصب فلو جعل النصب ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصيلة لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب العمل عدول عن الأصل فذلك يدل على أن العمل بهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض
المقدمة الرابعة لما ثبت أن تأثيرها في نصب الاسم بسبب هذه المشابهة وجب جواز الرفع أيضاً وذلك لأن كون الاسم مبتدأ يقتضي الرفع ودخول إن على المبتدأ لا يزيل عنه وصف كونه مبتدأ لأنه يفيد تأكيد ما كان لا زوال ما كان إذا ثبت هذا فنقول وصف كونه مبتدأ يقتضي الرفع وحرف إن يقتضي النصب ولكن المقتضى الأول أولى بالاقتضاء من وجهين أحدهما أن وصف كونه مبتدأ صفة أصلية للمبتدأ ودخول إن عليه صفة عرضية والأصل راجح على العارض والثاني أن اقتضاء وصف المبتدأ للرفع أصلي واقتضاء حرف إن للنصب صفة عارضة بسبب مشابهتها بالفعل فيكون الأول أولى فثبت بمجموع ما قررنا أن الرفع أولى من النصب فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من أصل الجواز ولهذا السبب إذا جئت بخبر إن ثم عطفت على الاسم إسماً آخر جاز فيه الرفع والنصب معاً الوجه الرابع في الجواب قال الفراء هذا أصله ذا زيدت الهاء لأن ذا كلمة منقوصة فكملت بالهاء عند التنبيه وزيدت ألفاً للتثنية فصارت هذا إن فاجتمع ساكنان من جنس واحد فاحتيج إلى حذف واحد ولا يمكن حذف ألف الأصل لأن أصل الكلمة منقوصة فلا تجعل أنقص فحذف ألف التثنية لأن النون يدل عليه فلا جرم لم تعمل إن لأن عملها في ألف التثنية وقال آخرون الألف الباقي إما ألف الأصل أو ألف التثنية فإن كان الباقي ألف الأصل لم يجز حذفها لأن العامل الخارجي لا يتصرف في ذات الكلمة وإن كان الباقي ألف التثنية فلا شك أنهم أنابوها مناب ألف الأصل وعوض الأصل أصل لا محالة فهذا الألف أصل فلا يجوز حذفه ويرجع حاصل هذا إلى الجواب الأول الوجه الخامس في الجواب حكى الزجاج عن قدماء النحويين أن الهاء ههنا مضمرة والتقدير إنه هذان لساحران وهذه الهاء كناية عن الأمر والشأن فهذا ما قيل في هذا الموضع فأما من خفف فقرأ إن هذان لساحران فهو حسن فإن ما بعد الخفيفة رفع واللام بعدها في الخبر لازمة واجبة وإن كانت في إن الثقيلة جائزة ليظهر الفرق بين إن المؤكدة وإن النافية قال الشاعر وإن مالك للمرتجى إن تضعضعت
رحا الحرب أو دارت على خطوب
وقال آخر إن القوم والحي الذي أنا منهم
لأهل مقامات وشاء وجامل
الجامل جمع جمل ثم من العرب من يعمل إن ناقصة كما يعملها تامة اعتباراً بكان فإنها تعمل وإن نقصت في قولك لم يكن لبقاء معنى التأكيد وإن زال الشبه اللفظي بالفعل لأن العبرة للمعنى وهذه اللغة تدل على أن العبرة في باب الإعمال الشبه المعنوي بالفعل وهو إثبات التوكيد دون الشبه اللفظي كما أن التعويل في باب كان على المعنى دون اللفظ لكونه فعلاً محضاً وأما اللغة الظاهرة وهي ترك إعمال إن الخفيفة دالة على أن الشبه اللفظي في إن الثقيلة أحد جزأي العلة في حق عملها وعند الخفة زال الشبه فلم تعمل بخلاف السكون فإنه عامل بمعناه لكونه فعلاً محضاً ولا عبرة للفظه
المسألة الثانية أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه فأحدها قولهم هَاذانِ لَسَاحِرانِ وهذا طعن منهم في معجزات
موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه وثانيها قوله يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ والمولد شديدة على القلوب وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 57 ) وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها وثالثها قوله وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وههنا بحثان
البحث الأول قال الفراء الطريقة الرجال الأشراف الذين هم قدوة لغيرهم يقال هم طريقة قومهم ويقال للواحد أيضاً هو طريقة قومه وجعل الزجاج الآية من باب حذف المضاف أي ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى وعلى التقديرين فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهارون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا اسرائيل لقول موسى عليه السلام أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 17 ) وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عدداً وأموالاً ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى وَكُلٌّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( الروم 32 ) ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة
البحث الثاني الْمُثْلَى مؤنثة لتأنيث الطريقة واختلفوا في أنه لم سمى الأفضل بالأمثل فقال بعضهم الأمثل الأشبه بالحق وقيل الأمثل الأوضح والأظهر ثم إنه تعالى لما حكى عنهم مبالغتهم في التنفير عن موسى عليه السلام والترغيب في إبطال أمره حكى عنهم أنهم قالوا فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً قرأ أبو عمرو بوصل الألف وفتح الميم من أجمعوا يعني لا تدعوا شيئاً من كيدهم إلا جئتم به دليله قوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ وقرأ الباقون بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان أحدهما قال الفراء الإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء يقال أجمعت على الخروج مثل أزمعت والثاني بمعنى الجمع وقد مضى الكلام في هذا عند قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ( يونس 71 ) قال الزجاج ليكن عزمكم كلكم كاليد مجمعاً عليه لا تختلفوا ثم ائتوا صفاً ذكر أبو عبيدة والزجاج وجهين أحدهما أن الصف موضع الجمع والمعنى ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم والمعنى ائتوا مصلى من المصليات أو كان الصف علماً للمصلى بعينه فأمروا بأن يأتوه والثاني أن يكون الصف مصدراً والمعنى ثم ائتوا مصطفين مجتمعين لكي يكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم وهذا قول عامة المفسرين وقوله وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى اعتراض يعني وقد فاز من غلب فكانوا يقرون بذلك أنفسهم فيما اجتمعوا عليه من إظهار ما يظهرونه من السحر
قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِى َ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاٌّ عْلَى وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
اعلم أنه لما تقدم ذكر الموعد وهو يوم الزينة وتقدم أيضاً قوله ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً ( طه 64 ) صار ذلك مغنياً عن قوله فحضروا هذا الموضع وقالوا إِمَّا أَن تُلْقِى َ لدلالة ما تقدم عليه وقوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى معناه إما أن تلقى ما معك قبلنا وإما أن نلقى ما معنا قبلك وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع له فلا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال بَلْ أَلْقُواْ أما قوله بَلْ أَلْقُواْ ففيه سؤالان
السؤال الأول كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام بَلْ أَلْقُواْ فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفراً والجواب من وجوه أحدها لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيماناً وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال وثانيها ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ ( الشعراء 43 ) إن كنتم محقين كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 23 ) أي إن كنتم قادرين وثالثها أنه لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا ههنا ورابعها أن لا يكون ذلك أمراً بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حساً لكي ينكشف الحق وخامسها أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( طه 61 ) وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمراً لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهياً وآمراً بالفعل الواحد محال فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال
السؤال الثاني لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاؤوا لمعارضته فقال عليه السلام لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سبباً لإزالة الشبهة وأما على التقدير الأول فإنه يكون سبباً لوقوع الشبهة فكان ذلك
أولى أما قوله فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما أَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ميلاً من هذا الجانب وميلاً من هذا الجانب فخيل إلى موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى فخاف فلما قيل له أَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعاً فصاح بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصى كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئاً إلا أكلته فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحراً لبقيت فخروا سجداً وقالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ ( الأعراف 121 122 )
المسألة الثانية اختلفوا في عدد السحرة قال القاسم بن سلام كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل وقال السدي كانوا بضعة وثلاثين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل وقال وهب كانوا خمسة عشر ألفاً وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الاسكندرية وقال الكلبي كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه والأقوال إذا تعارضت تساقطت
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن تكون ناصباً فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي اه
المسألة الرابعة قرىء عصيهم بالضم وهو الأصل والكسر إتباع نحو دلي ودلي وقسي وقسي وقرىء تخيل بالتاء المنقوطة من فوق بإسناد الفعل إلى الحبال والعصي وقرىء بالضم بالياء المنقطة من تحت بإسناد الفعل إلى الكيد والسحر وقال الفراء أي يخيل إليه سعيها
المسألة الخامسة الهاء في قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ كناية عن موسى عليه السلام والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حياً من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة ويقال إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطرب ويتحرك ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلاً بقوله تعالى فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 116 ) وبقوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فهذا غير جائز لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود
فإذن المراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى أما قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى فالإيجاس استشعار الخوف أي وجد في نفسه خوفاً فإن قيل إنه لا مزيد في إزالة الخوف على ما فعله الله تعالى في حق موسى عليه السلام فإنه كلمه أولاً وعرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد ثم إنه تعالى صيرها كما كانت بعد أن كانت كأعظم ثعبان ثم إنه أعطاه الاقتراحات الثمانية وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن الثمانية ثم قال له بعد ذلك كله إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه والجواب عنه من وجوه أحدها أن ذلك الخوف إنما كان لما طبع الآدمي عليه من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى عليه السلام أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره وهذا قول الحسن وثانيها أنه خاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه فيظنوا أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويشتبه ذلك عليهم وهذا التأويل متأكد بقوله لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى وهذا قول مقاتل وثالثها أنه خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه فيدوموا على اعتقاد الباطل ورابعها لعله عليه السلام كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي فلما تأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل الوحي في ذلك الوقت فيبقى في الخجالة وخامسها لعله عليه السلام خاف من أنه لو أبطل سحر أولئك الحاضرين فلعل فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيأتيه بهم فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهكذا من غير أن يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بالإجمال أولاً وبالتفصيل ثانياً أما الإجمال فقوله تعالى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ودلالته على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أن أمره لا يظهر للقوم فآمنه الله تعالى بقوله إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى وفيه أنواع من المبالغة أحدها ذكر كلمة التأكيد وهي إن وثانيها تكرير الضمير وثالثها لام التعريف ورابعها لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وأما التفصيل فقوله وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ وفيه سؤال وهو أنه لمَ لم يقل وألق عصاك والجواب جاز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء عندها فألقه يتلقفها بإذن الله تعالى ويمحقها أما قوله تَلْقَفْ أي فإنك إذا ألقيتها فإنها تلقف ما صنعوا قراءة العامة تلقف بالجزم والتشديد أي فألقها تتلقفها وقرأ ابن عامر تلقف بالتشديد وضم الفاء على معنى الحال أي ألقها متلقفة أو بالرفع على الاستئناف وروى حفص عن عاصم بسكون اللام مع التخفيف أي تأخذ بفيها ابتلاعاً بسرعة واللقف والتلقف جميعاً يرجعان إلى هذا المعنى وصنعوا ههنا بمعنى اختلقوا وزوروا والعرب تقول في الكذب هو كلام مصنوع وموضوع وصحة قوله تَلْقَفْ أنه إذا ألقى ذلك وصارت حية تلقفت ما صنعوا وفي قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً ( طه 70 ) دلالة على أنه ألقى العصا وصارت حية وتلقفت ما صنعوه وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها وقد حكى عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه أحدها ظهور حركة
العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة وثانيها زيادة عظمه على وجه لا يتم ذلك بالحيلة وثالثها ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة ورابعها تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة وخامسها عوده خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة فكيف يحصل التعارض وقرىء كيد ساحر بالرفع والنصب فمن رفع فعلى أن ما موصولة ومن نصب فعلى أنها كافة وقرىء كيد سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر كما يبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو بقي سؤالات
السؤال الأول لم وحد الساحر ولم يجمع الجواب لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد فلو جمع تخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أي هذا الجنس
السؤال الثاني لم نكر أولاً ثم عرف ثانياً الجواب كأنه قال هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ
السؤال الثالث قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى يدل على أن الساحر لا يحصل له مقصوده بالسحر خيراً كان أو شراً وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية الجواب الكلام في السحر وحقيقته قد تقدم في سورة البقرة فلا وجه للإعادة والله أعلم
فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى
اعلم أن في قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً دلالة على أنه ألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر الأمر فخروا عند ذلك سجداً وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر فلما رأوا ما فعله موسى
عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر ألبتة ويقال قال رئيسهم كنا نغالب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقيناه فاستدلوا بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود أما قوله تعالى فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً فليس المراد منه أنهم أجبروا على السجود إلا لما كانوا محمودين بل التأويل فيه ما قال الأخفش وهو أنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا وقال صاحب ( الكشاف ) ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود فما أعظم الفرق بين الإلقاءين وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها وعن عكرمة لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة قال القاضي هذا بعيد لأنه تعالى لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين وذلك لا يليق به قولهم إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ( طه 73 ) وجوابه لما جاز لإبراهيم عليه السلام مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) فلم لا يجوز مثله في حق السحرة واعلم أن هذه القصة تنبه على أسرار عجيبة من أمور الربوبية ونفاذ القضاء الإلهي وقدره في جملة المحدثات وذلك لأن ظهور تلك الأدلة كانت بمرأى من الكل ومسمع فكان وجه الاستدلال فيها جلياً ظاهراً وهو أنه حدثت أمور فلا بد لها من مؤثر والعلم بذلك ضروري وذلك المؤثر إما الخلق وإما غيرهم والأول بديهي البطلان لأن كل عاقل يعلم بالضرورة من نفسه أنه لا يقدر على إيجاد الحيوانات وتعظيم جثتها دفعة واحدة ثم يصغرها مرة أخرى كما كانت وهذه العلوم الجلية متى حصلت في العقل أفادت القطع بأنه لا بد من مدبر لهذا العالم فماذا يقول ألا ترى أن أولئك المنكرين جهلوا صحة هذه المقدمات وهذا في نهاية البعد لأنا بينا أن كل واحد منها بحيث لا يمكن ارتياب العاقل فيه وإذاً فقد عرفوا صحتها لكنهم أصروا على الجهل وكرهوا تحصيل العلم والسعادة لأنفسهم وأحبوا تحصيل الجهل والشقاوة لأنفسهم ما أرى أن عاقلاً يرضى بذلك لنفسه قط فلم يبق إلا أن يقال العقل والدليل لا يكفي بل لا بد من مدبر يخلق هذه المقدمات في القلوب ويخلق الشعور بكيفية ترتيبها وبكيفية استنتاجها للنتيجة حتى أنه متى فعل ذلك حصلت النتائج في القلوب وذلك يدل على أن الكل بقضائه وقدره فإنه لا اعتماد على العقول والقلوب في مجاريها وتصرفاتها ومن طرح التعصب عن قلبه ونظر إلى أحوال نفسه في مجاري أفكاره وأنظاره ازداد وثوقاً بما ذكرناه أما قوله قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى فاعلم أن التعليمية احتجوا بهذه الآية وقالوا إنهم آمنوا بالله الذي عرفوه من قبل هارون وموسى فدل ذلك على أن معرفة الله لا تستفاد إلا من الإمام وهذا القول ضعيف بل في قولهم امَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى فائدتان سوى ما ذكروه
الفائدة الأولى وهي أن فرعون ادعى الربوبية في قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) والإلهية في قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) فلو أنهم قالوا آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( الشعراء 18 ) فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال
الفائدة الثانية وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا رب هارون وموسى لأجل ذلك ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ وهذا الكلام مشتمل على شبهتين إحداهما قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ وتقريره أن الاعتماد على الخاطر الأول غير جائز بل لا بد فيه من البحث والمناظرة والاستعانة بالخواطر فلما لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال لَهُ قَبْلَ دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن البصيرة بل عن سبب آخر وثانيها قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ يعني أنكم تلامذته في السحر فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ قرىء لأقطعن ولأصلبن بالتخفيف والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين خلاف الآخر فإن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال وقوله مّنْ خِلَافٍ في محل النصب على الحال أي لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ثم قال وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ فشبه تمكن المصلوب في الجذع يتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قال في جذوع النخل والذي يقال في المشهور أن في بمعنى على فضعيف ثم قال وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى أراد بقوله أَيُّنَا نفسه لعنه الله لأن قوله أَيُّنَا يشعر بأنه أراد نفسه وموسى عليه السلام بدليل قوله لَهُ قَبْلَ وفيه تصالف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب واستضعاف موسى عليه السلام مع الهزء به لأن موسى عليه السلام قط لم يكن من التعذيب في شيء فإن قيل إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية بتلك العظمة التي شرحتموها وذكرتم أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى عليه السلام من شر ذلك الثعبان فمع قرب عهده بذلك وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ويستهزىء بموسى عليه السلام في قوله أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى قلنا لم لا يجوز أن يقال إنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه كان يظهر تلك الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أن العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء ومما يدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشد من عذاب البشر ثم إنه أنكر ذلك وأيضاً فقد كان عالماً بكذبه في قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ لأنه علم أن موسى عليه السلام ما خالطهم ألبتة وما لقيهم وكان يعرف من سحرته أن أستاذ كل واحد من هو وكيف حصل ذلك العلم ثم إنه مع ذلك كان يقول هذه الأشياء فثبت أن سبيله في كل ذلك ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما ( كانوا في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء )
قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَاذِهِ الْحَيَواة َ الدُّنْيَآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى
اعلم أنه تعالى لما حكى تهديد فرعون لأولئك حكى جوابهم عن ذلك بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة لهم في أصول الدين فقالوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وذلك يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلا فعل بهم ما أوعدهم فقالوا لَن نُّؤْثِرَكَ جواباً لما قاله وبينوا العلة وهي أن الذي جاءهم بينات وأدلة والذي يذكره فرعون محض الدنيا ومنافع الدنيا ومضارها لا تعارض منافع الآخرة ومضارها أما قوله وَالَّذِى فَطَرَنَا ففيه وجهان الأول أن التقدير لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا أي وعلى طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته الوجه الثاني يجوز أن يكون خفضاً على القسم واعلم أنهم لما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان فعل فرعون ما أوعدهم به فقالوا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ لا على معنى أنهم أمروه بذلك لكن أظهروا أن ذلك الوعيد لا يزيلهم ألبتة عن إيمانهم وعما عرفوه من الحق علماً وعملاً ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا وقرىء ( نقضي هذه الحياة الدنيا ) ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف فاتسع في الظرف باجرائه مجرى المفعول به كقولك في صمت يوم الجمعة صيم والمعنى أن قضاءك وحكمك إنما يكون في هذه الحياة الدنيا وهي كيف كانت فانية وإنما مطلبنا سعادة الآخرة وهي باقية والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني المتوصل به إلى السعادة الباقية ثم قالوا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ولما كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وذكروا في ذلك الإكراه وجوهاً أحدها أن الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه فقالوا هذا القول لأجل ذلك أي كنا في التعلم أولاً والتعليم ثانياً مكرهين قاله ابن عباس وثانيها أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين إثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل فقالوا لفرعون أرنا موسى نائماً فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا ما هذا بساحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه وثالثها قال الحسن إن السحرة حشروا من المدائن ليعارضوا موسى عليه السلام فأحضروا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور وربما كانوا مكرهين أيضاً في إظهار السحر ورابعها قال عمرو بن عبيد دعوة السلطان إكراه وهذا ضعيف لأن دعوة السلطان إذا لم يكن
معها خوف لم تكن إكراهاً ثم قالوا وَاللَّهُ خَيْرُ ثواباً لمن أطاعه وَأَبْقَى عقاباً لمن عصاه وهذا جواب لقوله وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ( طه 71 ) قال الحسن سبحان الله القوم كفار وهم أشد الكافرين كفراً ثبت في قلوبهم الإيمان في طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ في ذات الله تعالى والله إن أحدكم اليوم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم إنه يبيع دينه بثمن حقير ثم ختموا هذا الكلام بشرح أحوال المؤمنين وأحوال المجرمين في عرصة القيامة فقالوا في المجرمين إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وفيه مسائل
المسألة الأولى الهاء في قوله أَنَّهُ ضمير الشأن يعني أن الأمر والشأن كذا وكذا
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر قالوا صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم لقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً وكلمة من في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها والإستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل واعترض بعض المتكلمين من أصحابنا على هذا الكلام فقال لا نسلم أن صاحب الكبيرة مجرم والدليل عليه أنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنه قال في هذه الآية وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ وقال إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ ( المطففين 29 ) وأيضاً فإنه قال فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى والمؤمن صاحب الكبيرة وإن عذب بالنار لا يكون بهذا الوصف وفي الخبر الصحيح ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) واعلم أن هذه الاعتراضات ضعيفة أما قوله إن الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فهذا مسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط قوله ثانياً إنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقه إن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى قلنا لا نسلم فإن عذاب جهنم في غاية الشدة قال تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( آل عمران 192 ) وأما الحديث فيقال ( القرآن متواتر فلا يعارضه خبر الواحد ) ويمكن أن يقال ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد وللخصم أن يجيب فيقول ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات فلا يجوز المصير إليها ههنا فإن اعترض إنسان آخر وقال أجمعنا على أن هذه الآية مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطاً بثواب طاعته والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب ولكن عندنا العفو محبط للعقاب وعندنا أن المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم واعلم أن هذا الاعتراض أيضاً ضعيف أما شرط نفي التوبة فلا حاجة إليه لأنه قال مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً أي حال كونه مجرماً والتائب لا يصدق عليه أنه أتى ربه حال كونه مجرماً وأما صاحب الصغيرة فلأنه لا يسمى مجرماً لأن المجرم اسم للذم فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة بل الاعتراض الصحيح أن نقول عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد وهو قوله تعالى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى وكلامنا فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر فإن قيل عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة قلنا لم لا يجوز أن يقال ثواب الإيمان يدفع عقاب المعصية فإن قالوا لو كان كذلك لوجب أن لا يجوز لعنه وإقامة الحد عليه قلنا أما
اللعن الغير جائز عندنا وأما إقامة الحد عليه فقد تكون على سبيل المحنة كما في حق التائب وقد تكون على سبيل التنكيل قالت المعتزلة قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) فالله تعالى نص على أنه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقاً للمدح والتعظيم وإذا لم يبق ذلك لم يبق الثواب كما قلنا فدلنا ذلك على أن عقاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة هذا منتهى كلامهم في مسألة الوعيد قلنا حاصل الكلام يرجع إلى أن النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل صار معارضاً للنصوص الدالة على كونه مستحقاً للثواب فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس وذلك لأن المؤمن كان ينقسم إلى السارق وغير السارق فالسارق ينقسم إلى المؤمن وإلى غير المؤمن فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص فإذا تعارضا تساقطا ثم نقول لا نسلم أن كلمة من في إفادة العموم قطعية بل ظنية ومسألتنا قطعية فلا يجوز التعويل على ما ذكرته وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب المحصول في الأصول
المسألة الثالثة تمسكت المجسمة بقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فقالوا الجسم إنما يأتي ربه لو كان الرب في المكان وجوابه أن الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتياناً إلى الله مجازاً كقول إبراهيم عليه السلام إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ ( الصافات 99 )
المسألة الرابعة الجسم الحي لا بد وأن يبقى إما حياً أو يصير ميتاً فخلوه عن الوصفين محال فمعناه في الآية أنه يكون في جهنم بأسوء حال لا يموت موتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة ثم ذكر حال المؤمنين فقال وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى واعلم أن قوله قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ يقتضي أن يكون آتياً بكل الصالحات وذلك بالإتفاق غير معتبر ولا ممكن فينبغي أن يحمل ذلك على أداء الواجبات ثم ذكر أن من أتى بالإيمان والأعمال الصالحات كانت له الدرجات العلى ثم فسرها فقال جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وفي الآية تنبيه على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى من الجنة لمن أتى ربه بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات التي هي غير عالية لا بد وأن تكون لغيرهم ما هم إلا العصاة من أهل الإيمان أما قوله وَذالِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى فقال ابن عباس يريد من قال لا إله إلا الله وأقول لما دلت هذه الآية على أن الدرجات العالية هي جزاء من تزكى أي تطهر عن الذنوب وجب بحكم ذلك الخطاب أن الدرجات التي لا تكون عالية أن لا تكون جزاء من تزكى فهي لغيرهم ممن يكون قد أتى بالمعاصي وعفا الله بفضله ورحمته عنهم واعلم أنه ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم به ولكن ثبت ذلك في الأخبار
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى
واعلم أن في قوله وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى دلالة على أن موسى عليه السلام في تلك الحالة كثر مستجيبوه فأراد الله تعالى تمييزهم من طائفة فرعون وخلاصهم فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً والسري اسم لسير الليل والإسراء مثله فإن قيل ما الحكمة في أن يسري بهم ليلاً قلنا لوجوه أحدها أن يكون اجتماعهم لا بمشهد من العدو فلا يمنعهم عن استكمال مرادهم في ذلك وثانيها ليكون عائقاً عن طلب فرعون ومتبعيه وثالثها ليكون إذا تقارب العسكران لا يرى عسكر موسى عسكر فرعون فلا يهابوهم أما قوله فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً ففيه وجهان الأول أي فاجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً وضرب اللبن عمله والثاني بين لهم طريقاً في البحر بالضرب بالعصا وهو أن يضرب البحر بالعصا حتى ينفلق فعدى الضرب إلى الطريق والحاصل أنه أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب يبساً ثم بين تعالى أن جميع أسباب الأمن كان حاصلاً في ذلك الطريق أحدها أنه كان يبساً قرىء يابساً ويبساً بفتح الياء وتسكين الباء فمن قال يابساً جعله بمعنى الطريق ومن قال يبساً بتحريك الباء فاليبس واليابس شيء واحد والمعنى طريقاً أيبس ومن قال يبساً بتسكين الباء فهو مخفف عن اليبس والمراد أنه ما كان فيه وحل ولا نداوة فضلاً عن الماء وثانيها قوله لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى أي لا تخاف أن يدركك فرعون فإني أحول بينك وبينه بالتأخير قال سيبويه قوله تَخَافُ رفعه على وجهين أحدهما على الحال كقولك غير خائف ولا خاش والثاني على الإبتداء أي أنت لا تخاف وهذا قول الفراء قال الأخفش والزجاج المعنى لا تخاف فيه كقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ ( البقرة 48 ) أي لا تجزي فيه نفس وقرأ حمزة لا تخف وفيه وجهان أحدهما أنه نهي والثاني قال أبو علي جعله جواب الشرط على معنى إن تضرب لا تخف وعلى هذه القراءة ذكروا في قوله وَلاَ تَخْشَى ثلاثة أوجه أحدهما أن يستأنف كأنه قيل وأنت لا تخشى أي ومن شأنك أنك آمن لا تخشى وثانيها أن لا تكون الألف هي الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله تعالى فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 48 ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 ) وثالثها أن يكون مثل قوله وتضحك مني شيخة عبشمية < / 1 }
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً
وثالثها قوله وَلاَ تَخْشَى والمعنى أنك لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء أما قوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ قال أبو مسلم زعم رواة اللغة أن أتبعهم وتبعهم واحد وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة والمعنى أتبعهم فرعون جنوده كقوله تعالى لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ( طه 94 ) أسرى بعبده وقال الزجاج قرىء ( فأتبعهم فرعون
وجنوده ) أي ومعه جنوده وقرىء بِجُنُودِهِ ومعناه ألحق جنوده بهم ويجوز أن يكون بمعنى معهم أما قوله فَغَشِيَهُمْ فالمعنى علاهم وسترهم وما غشيهم تعظيم للأمر أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقرىء ( فغشاهم من اليم ما غشيهم ) وفاعل غشاهم إما الله سبحانه وتعالى أو ما غشيهم أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب في هلاكهم أما قوله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى فاحتج القاضي به وقال لو كان الضلال من خلق الله تعالى لما جاز أن يقال وأضل فرعون قومه بل وجب أن يقال الله تعالى أضلهم ولأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بشيء لا بد وأن يكون هو غير فاعل لذلك الفعل وإلا لاستحق ذلك الذم وقوله وَمَا هَدَى تهكم به في قوله وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( غافر 29 ) ولنذكر القصة وما فيها من المباحث قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر وكان موسى عليه السلام وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين وقد كان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحير القوم حتى دلتهم عجوز على موضع العظام فأخذوها فقال موسى عليه السلام للعجوز احتكمي فقالت أكون معك في الجنة وذكر ابن عباس أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر هجموا على رجل من العرب وامرأة ليس لهم إلا عنز فذبحوها لهما فقال عليه السلام إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فاته فلعل الله يرزقك منه خيراً فلما سمع بظهور الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه مع امرأته فقال أتعرفني قال نعم عرفتك فقال له احتكم فقال ثمانون ضانية فأعطاه إياها وقال له ( أما إن عجوز بني إسرائيل خير منك ) وخرج فرعون في طلب موسى عليه السلام وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب فلما انتهى موسى إلى البحر قال ههنا أمرت ثم قال موسى عليه السلام للبحر انفرق فأبى فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فقال لهم موسى عليه السلام ادخلوا فيه فقالوا كيف وأرضه رطبة فدعا الله فهبت عليه الصبا فجفت فقالوا نخاف الغرق في بعضنا فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى وكان على فرس حصان وأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون وأبصر الحصان الفرس الحجر فاقتحم بفرعون على أثرها وصاحت الملائكة في الناس الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا ما هذا يا موسى قال قد أغرق الله فرعون وقومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم وذكر ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال يا محمد لو رأيتني وأنا أدس فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب فهذا معنى قوله فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ وفي القصة أبحاث
البحث الأول روي في الأخبار أن موسى عليه السلام لما ضرب بعصاه البحر حصل اثنا عشر طريقاً يابساً يتهيأ طروقه وبقي الماء قائماً بين الطريق والطريق كالطود العظيم وهو الجبل فأخذ كل سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق ومنهم من قال بل حصل طريق واحد وحجة القول الأول الأخبار ومن القرآن قوله تعالى فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( الشعراء 63 ) وذلك لا يحصل إلا إذا حصل هناك طرق
حتى يكون الماء القائم بين الطريقين كالطود العظيم وحجة القول الثاني ظاهر قوله فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً وذلك يتناول الطريق الواحد وإن أمكن حمله على الطرق نظراً إلى الجنس
البحث الثاني روي أن بني إسرائيل بعد أن أظهر موسى عليه السلام لهم الطريق وبينها لهم تعنتوا وقالوا نريد أن يرى بعضنا بعضاً وهذا كالبعيد وذلك أن القوم لما أبصروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الخوف والخائف إذا وجد طريق الفرار والخلاص كيف يتفرغ للتعنت البارد
البحث الثالث أن فرعون كان عاقلاً بل كان في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه إلى التهلكة فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البحر ليس بأمره فعند هذا ذكروا وجهين أحدهما أن جبريل عليه السلام كان على الرمكة فتبعه فرس فرعون ولقائل أن يقول هذا بعيد لأنه يبعد أن يكون خوض الملك في أمثال هذه المواضع مقدماً على خوض جميع العسكر وما ذكروه إنما يتم إذا كان الأمر كذلك وأيضاً فلو كان الأمر على ما قالوه لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور وذلك مما يزيده خوفاً ويحمله على الإمساك في أن لا يدخل وأيضاً فأي حاجة لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة وقد كان يمكنه أن يأخذه مع قومه ويرميه في الماء ابتداء بل الأولى أن يقال إنه أمر مقدمة عسكره بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى
البحث الرابع أن الذي نقل عن جبريل عليه السلام أنه كان يدسه في الماء والطين خوفاً من أن يؤمن فبعيد لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء عليهم السلام
البحث الخامس الذي روي أن موسى عليه السلام كلم البحر قال له انفلق لي لأعبر عليك فقال البحر لا يمر علي رجل عاص فهو غير ممتنع على أصولنا لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على لسان المقال والله أعلم
يابَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاٌّ يْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى
اعلم أنه تعالى لما أنعم على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكرهم إياها ولا شك أن إزالة المضرة يجب أن تكون متقدمة على إيصال المنفعة ولا شك أن إيصال المنفعة الدينية أعظم في كونه نعمة من إيصال المنفعة الدنيوية فلهذا بدأ الله تعالى بقوله أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر فإن فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والإخراج والإتعاب في الأعمال ثم ثنى بذكر
المنفعة الدينية وهي قوله وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك الوقت عليهم كتاباً فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية وهي قوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثم زجرهم عن العصيان بقوله وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ثم بين أن من عصى ثم تاب كان مقبولاً عند الله بقوله وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وهذا بيان المقصود من الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي قد أنجيتكم ووعدتكم إلى قوله مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ كلها بالتاء إلا قوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فإنها بالنون وقرأ الباقون كلها بالنون وقرأ نافع وعاصم وواعدناكم وقرأ حمزة والكسائي وواعدتكم
المسألة الثانية قال الكلبي لما جاوز موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر قالوا له أليس وعدتنا أن تأتينا من ربنا بكتاب فيه الفرائض والأحكام قال بلى ثم تعجل موسى إلى ربه ليأتيهم بالكتاب ووعدهم أن يأتيهم إلى أربعين ليلة من يوم انطلق وإنما قال وَوَاعَدْنَاكُمْ لأنه إنما واعد موسى أن يؤتيه التوراة لأجلهم وقال مقاتل إنما قال واعدناكم لأن الخطاب له وللسبعين المختارة والله أعلم
المسألة الثالثة قال المفسرون ليس للجبل يمين ولا يسار بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام وقرىء الأيمن بالجر على الجوار نحو حجر ضب خرب وانتفاع القوم بذلك إما لأن الله تعالى أنزل التوراة عليهم وفيها شرح دينهم وإما لأن الله تعالى لما كلم موسى على الطور حصل للقوم بسبب ذلك شرف عظيم
المسألة الرابعة قوله كُلُواْ ليس أمر إيجاب بل أمر إباحة كقوله وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( المائدة 2 )
المسألة الخامسة في الطيبات قولان أحدهما اللذائذ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة والثاني وهو قول الكلبي ومقاتل الحلال لأنه شيء أنزله الله تعالى إليهم ولم تمسه يد الآدميين ويجوز الجمع بين الوجهين لأن بين المعنيين معنى مشتركاً وتمام القول في هذه القصة تقدم في سورة البقرة
المسألة السادسة في قوله تعالى وَلاَ تَطْغَوْاْ فيه وجوه أحدها قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تطغوا أي لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه وثانيها قال مقاتل والضحاك لا تظلموا فيه أنفسكم بأن تتجاوزوا حد الإباحة وثالثها قال الكلبي لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تعرضوا على الشكر ولا تعدلوا عن الحلال إلى الحرام
المسألة السابعة قرأ الأعمش والكسائي فيحل ومن يحلل كلاهما بالضم وروى الأعمش عن أصحاب عبد الله فيحل بالكسر ومن يحلل بالرفع وقراءة العامة بالكسر في الكلمتين أما من كسر فمعناه الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ومنه قوله تعالى حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ ( البقرة 196 ) والمضموم في معنى النزول وقوله فَقَدْ هَوَى أي شقي وقيل فقد وقع في الهاوية يقال هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى أسفل
المسألة الثامنة اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً وبأن له غفراناً ومغفرة وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر أما إنه وصف نفسه بكونه غافراً فقوله غَافِرِ الذَّنبِ ( غافر 3 ) وأما كونه غفوراً فقوله وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ ( الكهف 58 ) وأما كونه غفاراً فقوله وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وأما الغفران فقوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ( البقرة 285 ) وأما المغفرة فقوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ ( الرعد 6 ) وأما صيغة الماضي فقوله في حق داود عليه السلام فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ ( ص 25 ) وأما صيغة المستقبل فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وقوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وقوله في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ( الفتح 2 ) وأما لفظ الاستغفار فقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وفي حق نوح عليه السلام فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) وفي الملائكة وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ ( الشورى 5 ) واعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة أما آدم عليه السلام فقال وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) وأما نوح عليه السلام فقال وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى ( هود 47 ) وأما إبراهيم عليه السلام فقال وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وطلبها لأبيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ( يوسف 92 ) وأما موسى عليه السلام ففي قصة القبطي رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( الأعراف 151 ) وأما داود عليه السلام فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ( ص 24 ) أما سليمان عليه السلام رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً ( ص 35 ) وأما عيسى عليه السلام وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقول وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وأما الأمة فقوله وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا ( الحشر 10 ) واعلم أن بسط الكلام ههنا أن نبين أولاً حقيقة المغفرة ثم نتكلم في كونه تعالى غافراً وغفوراً وغفاراً ثم نتكلم في أن مغفرته عامة ثم نبين أن مغفرته في حق الأنبياء عليهم السلام كيف تعقل مع أنه لا ذنب لهم ويتفرع على هذه الجملة استدلال أصحابنا في إثبات العفو وتقريره أن الذنب إما أن يكون صغيراً أو كبيراً بعد التوبة أو قبل التوبة والقسمان الأولان يقبح من الله عذابهما ويجب عليه التجاوز عنهما وترك القبيح لا يسمى غفراناً فتعين أن لا يتحقق الغفران إلا في القسم الثالث وهو المطلوب فإن قيل هذا يناقض صريح الآية لأنه أثبت الغفران في حق من استجمع أموراً أربعة التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء قلنا إن من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ثم أذنب بعد ذلك كان تائباً ومؤمناً وآتياً بالعمل الصالح ومهتدياً ومع ذلك يكون مذنباً فحينئذ يستقيم كلامنا وههنا نكتة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة الظالم والظلوم والظلام فالظالم فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) والظلوم إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ( الأحزاب 72 ) والظلام إذا كثر ذلك منه ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم فكأنه تعالى يقول إن كنت ظالماً فأنا غافر وإن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت ظلاماً فأنا غفار وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ ( طه 82 )
المسألة التاسعة كثير اختلاف المفسرين في قوله تعالى ثُمَّ اهْتَدَى وسبب ذلك أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلا بد وأن يكون مهتدياً فما معنى قوله ثم اهتدى بعد ذكر هذه الأشياء والوجوه الملخصة فيه ثلاثة أحدها المراد منه الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه ويؤكده قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ
( فصلت 30 ) وكلمة ثم للتراخي في هذه الآية وليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين فكأنه تعالى قال الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد ولا صعوبة في ذلك إنما الصعوبة في المداومة على ذلك والاستمرار عليه وثانيها المراد من قوله ثُمَّ اهْتَدَى أي علم أن ذلك بهداية الله وتوفيقه وبقي مستعيناً بالله في إدامة ذلك من غير تقصير عن ابن عباس وثالثها المراد من الإيمان الاعتقاد المبني على الدليل والعمل الصالح إشارة إلى أعمال الجوارح بقي بعد ذلك ما يتعلق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة وهو المسمى بالطريقة في لسان الصوفية ثم انكشاف حقائق الأشياء له وهو المسمى بالحقيقة في لسان الصوفية فهاتان المرتبتان هما المرادتان بقوله ثُمَّ اهْتَدَى
المسألة العاشرة منهم من قال تجب التوبة عن الكفر أولاً ثم الإتيان بالإيمان ثانياً واحتج عليه بهذه الآية فإنه تعالى قدم التوبة على الإيمان واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه
وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلا ءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
اعلم أن في قوله وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى دلالة على أنه قد تقدم قومه في المسير إلى المكان ويجب أن يكون المراد ما نبه عليه في قوله تعالى وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ ( طه 80 ) في هذه السورة وفي سائر السور كقوله وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً ( الأعراف 142 ) يريد الميقات عند الطور وعلى الآية سؤالات
السؤال الأول قوله وَمَا أَعْجَلَكَ استفهام وهو على الله محال الجواب أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه
السؤال الثاني أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يقال إنه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم أو لم يكن ممنوعاً عنه فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء وإن قلنا إنه ما كان ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز من الله تعالى والجواب لعله عليه السلام ما وجد نصاً في ذلك إلا أنه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب
السؤال الثالث قال وَعَجِلْتُ والعجلة مذمومة والجواب إنها ممدوحة في الدين قال تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّة ٍ ( آل عمران 133 )
السؤال الرابع قوله لِتَرْضَى يدل على أنه عليه السلام إنما فعل ذلك لتحصيل الرضا لله تعالى وذلك باطل من وجهين أحدهما أنه يلزم تجدد صفة الله تعالى والآخر أنه تعالى قبل حصول ذلك الرضا وجب أن يقال إنه تعالى ما كان راضياً عن موسى لأن تحصيل الحاصل محال ولما لم يكن راضياً عنه وجب
أن يكون ساخطاً عليه وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام الجواب المراد تحصيل دوام الرضا كما أن قوله ثُمَّ اهْتَدَى المراد دوام الاهتداء
السؤال الخامس قوله وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عينه الله تعالى له وإلا لم يكن ذلك تعجيلاً ثم ظن أن مخالفة أمر الله تعالى سبب لتحصيل رضاه وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله تعالى والجواب ما ذكرنا أن ذلك كان بالاجتهاد وأخطأ فيه
السؤال السادس قوله إِلَيْكَ يقتضي كون الله في الجهة لأن إلى لانتهاء الغاية الجواب توافقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل فالمراد إلى مكان وعدك
السؤال السابع مَا أَعْجَلَكَ سؤال عن سبب العجلة فكان جوابه اللائق به أن يقول طلبت زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وأما قوله هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى فغير منطبق عليه كما ترى والجواب من وجهين الأول أن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين أحدهما إنكار نفس العجلة والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين عند موسى عليه السلام بالجواب هذا الثاني فقال لم يوجد مني إلا تقدم يسير لا يحتفل به في العادة وليس بيني وبين من سبقته إلا تقدم يسير يتقدم بمثله الوفد عن قومهم ثم عقبه بجواب السؤال عن العجلة فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى الثاني أنه عليه السلام لما ورد عليه من هيبة عتاب الله تعالى ما ورد ذهل عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام واعلم أن في قوله وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى دلالة على أنه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين واختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم هم النقباء السبعون الذين قد اختارهم الله تعالى ليخرجوا معه إلى الطور فتقدمهم موسى عليه السلام شوقاً إلى ربه وقال آخرون القوم جملة بني إسرائيل وهم الذين خلفهم موسى مع هارون وأمره أن يقيم فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى يعني بالقرب مني ينتظرونني وعن أبي عمرو ويعقوب إثري بالكسر وعن عيسى بن عمر أثري بالضم وعنه أيضاً أولى بالقصر والأثر أفصح من الأثر وأما الأثر فمسموع في فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَة ِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِى ُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَآ إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى فَنَسِى َ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
اعلم أنه تعالى لما قال لموسى وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ( طه 83 ) وقال موسى في جوابه وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) عرفه الله تعالى ما حدث من القوم بعد أن فارقهم مما كان يبعد أن يحدث لو كان معهم فقال فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ وههنا مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى خلق فيهم الكفر لوجهين الوجه الأول الدلائل العقلية الدالة على أنه لا يجوز من الله أن يفعل ذلك الثاني أنه قال وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ولو كان الله خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامري فيه أثر وكان يبطل قوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ وأيضاً فلأن موسى عليه السلام لما طالبهم بذكر سبب تلك الفتنة قال أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فلو حصل ذلك بخلق الله تعالى لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى عليه السلام وأيضاً فقال أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله فَتَنَّا معنى آخر وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان يقال فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته بالنار لكي يتميز الجيد من الرديء فههنا شدد الله التكليف عليهم وذلك لأن السامري لما أخرج لهم ذلك العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أن لها إلهاً ليس بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف فكان فتنة والتشديد في التكليف موجود قال تعالى أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 2 ) هذا تمام كلام المعتزلة قال الأصحاب ليس في ظهور صوت عن عجل متخذ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون ذلك العجل إلهاً فحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف فلا يصح حمل الآية عليه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم قولهم أضاف الإضلال إلى السامري قلنا أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها هو الله تعالى فكذا ههنا وأيضاً قرىء وأضلهم السامري أي وأشدهم ضلالاً السامري وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة الاستدلال ثم الذي يحسم مادة الشغب التمسك بفصل الداعي على ما سبق تقريره في هذا الكتاب مراراً كثيرة
المسألة الثانية المراد بالقوم ههنا هم الذين خلفهم مع هارون عليه السلام على ساحل البحر وكانوا ستمائة ألف افتتنوا بالعجل غير أثني عشر ألفاً
المسألة الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية سعيد بن جبير كان السامري علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر والذي عليه الأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة قال الزجاج وقال عطاء عن ابن عباس بل كان رجلاً من القبط جاراً لموسى عليه السلام وقد آمن به
المسألة الرابعة روى في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك والتوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ من وجهين الأول أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته الثاني أن السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى عليه السلام وعزم على إضلالهم حال مفارقة موسى عليه السلام وكأنه قدر الفتنة موجودة
المسألة الخامسة إنما رجع موسى عليه السلام بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة
المسألة السادسة ذكروا في الأسف وجوهاً أحدها أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله غضبان يفيد أصل الغضب وقوله أسفاً يفيد كماله وثانيها قال الأكثرون حزناً وجزعاً يقال أسف يأسف أسفاً إذا حزن فهو آسف وثالثها قال قوم الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياط والغضب بأن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب وقد فعل ذلك بقوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) ومجموع تلك المعاتبات أمور أحدها قوله قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وفيه سؤالان
السؤال الأول قوله أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا إلهكم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام الجواب أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام
السؤال الثاني ما المراد بذلك الوعد الحسن الجواب ذكروا وجوهاً أحدها أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ ( طه 80 ) وثانيها أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات وثالثها الوعد هو العهد وهو قول مجاهد وذلك العهد هو قوله تعالى وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ( طه 81 ) إلى قوله ثُمَّ اهْتَدَى ( طه 82 ) والدليل عليه قوله بعد ذلك أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فكأنه قال أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ولا تطغوا فيه ورابعها الوعد الحسن ههنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل ذلك ثم قال أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية واعلم أن طول العهد يحتمل أموراً أحدها أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة
المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحديد 16 ) وثانيها يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بأزاء ليلة وردوه إلى عشرين قال القاضي هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد وثالثها أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد وأما قوله أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد ذلك ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام أما قوله فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان أحدهما أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره والثاني ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور فعند هذا قالوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان الأول أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة الوجه الثاني أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم قلنا هذا غير ممتنع في حق البله من الناس واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل وأما الضم فهو السلطان ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا وَلَاكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَة ِ الْقَوْمِ قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر حملنا مخففة من الحمل وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر حملنا مشددة فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه أحدها أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك وثانيها جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله وثالثها أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزراً لأنه ثقل ثم فيه احتمالات أحدها أنه لكثرتها كانت أثقالاً وثانيها أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالاً وثالثها المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثاماً روي في الخبر أن هارون عليه السلام قال إنها نجسة فتطهروا منها وقال السامري إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثم وذنب ورابعها أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها
أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي أما قوله فَقَذَفْنَاهَا فذكروا فيه وجوهاً في أنهم أين قذفوها الوجه الأول قذفوها في حفرة كان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظاراً لعود موسى عليه السلام والوجه الثاني قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك الوجه الثالث في موضع جمع فيه النار ثم قالوا فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا أما قوله فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حياً أم لا فالقول الأول لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل والقول الثاني أنه صار حياً وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ( طه 96 ) ولو لم يصر حياً لما بقي لهذا الكلام فائدة وثانيها أنه تعالى سماه عجلاً والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسداً وهو إنما يتناول الحي وثالثها أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الإلتباس وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال ما تصنع فقال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هارون قال السامري اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي أما قوله فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك فكيف قالوا هذا إلهكم وإله موسى وجوابه لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة وأما قوله فنسي ففيه وجوه الأول أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لايحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلهاً ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية الوجه الثاني أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين الوجه الثالث فنسي وقت الموعد في الرجوع أما قوله يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي ههنا بحثان
البحث الأول قال الزجاج الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع وهذا كقوله وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ( المائدة 71 ) بمعنى أنه لا تكون وقرىء بالنصب أيضاً على أن أن هذه هي
الناصبة للأفعال
البحث الثاني هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ( الأعراف 148 ) وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط الثالث قال بعض اليهود لعلي عليه السلام ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فقال إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى
اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأموراً من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار فقال إنهم لم يغضبوا لغضبي وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وقال أبو علي الحسن الغوري كنت في بعض المواضع فرأيت زورقاً فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح إيش هذا فقال أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد فقلت له أعطني ذلك المدرى فقال لغلامه اعطه حتى نبصر إيش يعمل فأخذت المدرى وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت قلت المحتسب قال من ولاك الحسبة قلت الذي ولاك الخلافة قال لم كسرت هذه الدنان قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك قال فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته فقال اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطياً وأما الشفقة على المسلمين فلأن الإنسان
يجب أن يكون رقيق القلب مشفقاً على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعاً يتهافتون على النار فيمنعهم منها وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام ( يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي ) وعند عبد الله بن أبي أوفى قال ( خرجت أريد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعاً على ابنها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أدرك المرأة فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك أترون هذه رحيمة بولدها قالوا يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال ( والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها ) ويروى ( أنه بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فسمع الشاب ذلك فولى فقال إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر فهبط جبريل عليه السلام وقال ( يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق ) إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ الآية وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي ( أنت مني بمنزلة هرون من موسى ) ثم إن هرون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره فلو كانت أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب واعلم أن هرون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانياً بقوله وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ثم دعاها ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله فَاتَّبِعُونِى ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله وَأَطِيعُواْ أَمْرِى وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه وإنما قال وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى كأنهم قالوا لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك
قَالَ ياهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى
اعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بهذه الآية من وجوه أحدها أن موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هرون باتباعه أو لم يأمره فإن أمره به فإما أن يكون هرون قد اتبعه أو لم يتبعه فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهارون معصية وذنباً لأن ملامة غير المجرم معصية وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية وأما إن قلنا إن موسى عليه السلام ما أمره باتباعه كانت ملامته إياه بترك الاتباع معصية فثبت أن على جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هرون وثانيها قول موسى عليه السلام أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى استفهام على سبيل الإنكار فوجب أن يكون هارون قد عصاه وأن يكون ذلك العصيان منكراً وإلا لكان موسى عليه السلام كاذباً وهو معصية فإذا فعل هارون ذلك فقد فعل المعصية وثالثها قوله أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى وهذا معصية لأن هارون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه من النصيحة والوعظ والزجر فإن كان موسى عليه السلام قد بحث عن الواقعة وبعد أن علم أن هرون قد فعل ما قدر عليه كان الأخذ برأسه ولحيته معصية وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك أيضاً معصية ورابعها إن هارون عليه السلام قال لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزاً كان قول هارون لا تأخذ منعاً له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى عليه السلام فاعلاً للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب والجواب عن الكل أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ( البقرة 36 ) أنواعاً من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوهاً أحدها أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما موسى وهارون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعَله أحدهما وتركه الآخر فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً وفعل المندوب وتركه لا يجزم به قلنا تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً وثانيها أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض لحيته فأجرى موسى عليه السلام أخاه هرون
مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب فأما قوله لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى فلا يمتنع أن يكون هرون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل من سوء ظنهم أنه منكر عليه غير معاون له ثم أخذ في شرح القصة فقال إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ وثالثها أن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام حتى أن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليه السلام أنت قتلته فلما واعد الله تعالى موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر وكتب له في الألواح من كل شيء ثم رجع فرآى في قومه ما رآى فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون عليه السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقاً على موسى لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم ما لا يليق بك ورابعها قال صاحب ( الكشاف ) كان موسى عليه السلام رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء شديد الغضب لله تعالى ولدينه فلم يتمالك حين رآى قومه يعبدون عجلاً من دون الله تعالى من بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى ألواح التوراة لما غلب على ذهنه من الدهشة العظيمة غضباً لله تعالى وحمية وعنف بأخيه وخليفته على قومه فأقبل عليه إقبال العدو المكاشر واعلم أن هذا الجواب ساقط لأنه يقال هب أنه كان شديد الغضب ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا فإن بقي عاقلاً مكلفاً فالأسئلة باقية بتمامها أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه أتى بغضب شديد وذلك من جملة المعاصي فقد زدت إشكالاً آخر فإن قلتم بأنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما لا يرتضيه مسلم ألبتة فهذه أجوبة من لم يجوز الصغائر وأما من جوزها فلا شك في سقوط السؤال والله أعلم أما قوله مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ففيه وجهان الأول أن لا صلة والمراد ما منعك أن تتبعني والثاني أن يكون المراد ما دعاك إلى أن لا تتبعني فأقام منعك مقام دعاك وفي الاتباع قولان أحدهما ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والثاني أن تتبعني في وصيتي إذ قلت لك اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلم تركت قتالهم وتأديبهم وهذا قول مقاتل ثم قال أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ومعناه ظاهر وهذا يدل على أن تارك المأمور به عاص والعاصي مستحق للعقاب لقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ( الجن 23 ) ولقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب فأجاب هارون عليه السلام وقال قَالَ ابْنَ أُمَّ قيل إنما خاطبه بذلك ليدفعه عنه فيتركه وقيل كان أخاه لأمه لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى واعلم أنه ليس في القرآن دلالة على أنه فعل ذلك فإن النهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهى عنه كقوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) والذي فيه أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه وهذا القدر لا يدل على الاستخفاف به بل قد يفعل ذلك لسائر الأغراض على ما بيناه ومن الناس من يقول إنه أخذ ذؤابتيه بيمينه ولحيته بيساره ثم قال إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى ولقائل أن يقول إن قول موسى عليه السلام ( ما منعك أن لا تتبعن أفعصيت أمري ) يدل على أنه أمره بشيء فكيف يحسن في جوابه أن يقال إنما لم أمتثل قولك خوفاً من أن تقول وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى فهل يجوز مثل هذا الكلام على العاقل والجواب لعل موسى عليه السلام إنما أمره بالذهاب إليه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فساد في القوم فلما قال موسى
( ما منعك أن لا تتبعن ) قال لأنك إنما أمرتني باتباعك إذا لم يحصل الفساد فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقباً لقولك قال الإمام أبو القاسم الأنصاري الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة كانوا أجانب عن الإيمان وما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا العذاب الشديد في الدنيا ولم يرجعوا عن الإيمان وأما قومه فإنهم رأوا انقلاب العصا ثعباناً والتقم كل ما جمعه السحرة ثم عاد عصا ورأوا اعتراف السحرة بأن ذلك ليس بسحر وأنه أمر إلهي ورأوا الآيات التسع مدة مديدة ثم رأوا انفراق البحر إثني عشر طريقاً وأن الله تعالى أنجاهم من الغرق وأهلك أعداءهم مع كثرة عددهم ثم إن هؤلاء مع ما شاهدوا من هذه الآيات لما خرجوا من البحر ورأوا قوماً يعبدون البقر قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ولما سمعوا صوتاً من عجل عكفوا على عبادته وذلك يدل على أنه لا يحصل الغرض بالدلائل بل بالهداية قرأ حمزة والكسائي ( يا ابن أم ) بكسر الميم والإضافة ودلت كسرة الميم على الياء والباقون بالفتح وتقديره يا ابن أماه والله أعلم
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواة ِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّمَآ إِلَاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَى ْءٍ عِلْماً
اعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من مخاطبة هارون عليه السلام وعرف العذر له في التأخير أقبل على السامري ويجوز أن يكون قد كان حاضراً مع هارون عليه السلام فلما قطع موسى الكلام مع هارون أخذ في التكلم مع السامري ويجوز أن يكون بعيداً ثم حضر السامري من بعد أو ذهب إليه موسى ليخاطبه فقال موسى عليه السلام مَا خَطْبُكُمَا والخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك معناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنعه ثم ذكر السامري عذره في ذلك فقال ياسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ بالكسر وقرأ حمزة والكسائي بما لم تبصروا بالتاء المعجمة من فوق والباقون بالياء أي بما لم يبصر به بنو إسرائيل
المسألة الثانية في الإبصار قولان قال أبو عبيدة علمت بما لم يعلموا به ومنه قولهم رجل بصير أي
عالم وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال الزجاج في تقريره أبصرته بمعنى رأيته وبصرت به بمعنى صرت به بصيراً عالماً وقال آخرون رأيت ما لم يروه فقوله بصرت به بمعنى أبصرته وأراد أنه رأى دابة جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب ثم قال فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن قبضة بضم القاف وهي اسم للمقبوض كالغرفة والضفة وأما القبضة فالمرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير وقرىء أيضاً فقبصت قبصة بالضاد والصاد فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع ونظيرهما الخضم والقضم الخاء بجميع الفم والقاف بمقدمه قرأ ابن مسعود من أثر فرس الرسول
المسألة الثانية عامة المفسرين قالوا المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته ثم اختلفوا أنه متى رآه فقال الأكثرون إنما رآه يوم فلق البحر وعن علي عليه السلام أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى عليه السلام إلى الطور أبصره السامري من بين الناس واختلفوا في أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي إنما عرفه لأنه رآه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه فلما رآه عرفه قال ابن جريج فعلى هذا قوله بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ بمعنى رأيت ما لم يروه ومن فسر الكلمة بالعلم فهو صحيح ويكون المعنى علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء قال أبو مسلم الأصفهاني ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسئلة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل فقال بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من سنتك ودينك فقذفته أي طرحته فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا وبماذا يأمر الأمير وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً مع جحده وكفره فعلى مثل مذهب من حكى الله عنه قوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) وإن لم يؤمنوا بالإنزال واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه أحدها أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب وثانيها أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل وثالثها أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف
عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه فبعيد لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبي صادق فكيف يحاول الإضلال وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له في الطفولية في حصول تلك المعرفة ورابعها أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه لكان لقائل أن يقول فلعل موسى عليه السلام اطلع على شيء آخر يشبه ذلك فلأجله أتى بالمعجزات ويرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول لم لا يجوز أن يقال إنهم لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن تفيد حصول تلك المعجزة أتوا بتلك المعجزة وحينئذ ينسد باب المعجزات بالكلية أما قوله وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى فالمعنى فعلت ما دعتني إليه نفسي وسولت مأخوذ من السؤال فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري بل اتبعت هواي فيه ثم إن موسى عليه السلام لما سمع ذلك من السامري أجابه بأن بين حاله في الدنيا والآخرة وبين حال إلهه أما حاله في الدنيا فقوله فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواة ِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وفيه وجوه أحدها أن المراد أني لا أمس ولا أمس قالوا وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فكان إذا أراد أحد أن يمسه صاح خوفاً من الحمى وقال لا مساس وثانيها أن المراد بقوله لاَ مِسَاسَ المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد وقال مقاتل إن موسى عليه السلام أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له اخرج أنت وأهلك فخرج طريداً إلى البراري اعترض الواحدي عليه فقال الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس وإنما يقال له ذلك وهذا الاعتراض ضعيف لأن الرجل إذا بقي طريداً فريداً فإذا قيل له كيف حالك فله أن يقول لا مساس أي لا يماسني أحد ولا أماس أحداً والمعنى إني أجعلك يا سامري في المطرودية بحيث لو أردت أن تخبر غيرك عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى نظم الكلام من الأول وثالثها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النساء فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له ولد يؤنسه فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 46 ) وقرىء لا مساس بوزن فجاز وهو إسم علم للمرة الواحدة من المس وأما شرح حاله في الآخرة فهو قوله وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ والموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا ثم لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين قرأ أهل المدينة والكوفة لن تخلفه بفتح اللام أي لن تخلف ذلك الوعد أي سيأتيك به الله ولن يتأخر عنك وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن بكسر اللام أي تجيء إليه ولن تغيب عنه ولن تتخلف عنه وفتح اللام اختيار أبي عبيد كأنه قال موعداً حقاً لا خلف فيه وعن ابن مسعود لن نخلفه بالنون فكأنه عليه السلام حكى قول الله تعالى بلفظه كما مر بيانه في قوله لاِهَبَ لَكِ ( مريم 19 ) وأما شرح حال إلهه فهو قوله وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً قال المفضل في ظلت إنه يقرأ بفتح الظاء وكسرها وكذلك فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( الواقعة 65 ) وأصله ظللت فحذفت اللام الأولى وذلك إنما يكون إذا كانت اللام الثانية ساكنة تستحب العرب طرح الأولى ومن كسر الظاء نقل كسرة اللام الساقطة إليها ومن فتحها ترك الظاء على حالها وكذلك يفعلون في المضاعف يقولون مسته ومسسته ثم قال لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفاً وفي قوله لَّنُحَرّقَنَّهُ وجهان
أحدهما المراد إحراقه بالنار وهذا أحد ما يدل على أنه صار لحماً ودماً لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار وقال السدي أمر موسى عليه السلام بذبح العجل فذبح فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف رماده وفي حرف ابن مسعود لنذبحنه ولنحرقنه وثانيهما لنحرقنه أي لنبردنه بالمبرد يقال حرقه يحرقه إذا برده وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحماً ولا دماً فإن ذلك لا يصح أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال إنه صار لحماً فذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها قراءة العامة بضم النون وتشديد الراء ومعناه لنحرقنه بالنار وقرأ أبو جعفر وابن محيصن لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة يعني لنبردنه واعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من إبطال ما ذهب إليه السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال إِنَّمَا إِلَاهُكُمُ أي المستحق للعبادة والتعظيم اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَى ْء عِلْماً قال مقاتل يعلم من يعبده ومن لا يعبده
كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَة ً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً ثم مع السامري ثانياً أتبعه بقوله كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ من سائر أخبار الأمم وأحوالهم تكثيراً لشأنك وزيادة في معجزاتك وليكثر الاعتبار والاستبصار للمكلفين بها في الدين وَقَدْ اتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً يعني القرآن كما قال تعالى وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( الأنبياء 50 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ( الزخرف 44 ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( ص 1 ) مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ ( الأنبياء 2 ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 ) ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم وثانيها أنه يذكر أنواع آلاء الله تعالى ونعمائه ففيه التذكير والمواعظ وثالثها فيه الذكر والشرف لك ولقومك على ما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكراً فقال فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ ( النحل 43 ) وكما بين نعمته بذلك بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به من وجوه أولها قوله مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فإنه يحمل يوم القيامة وزراً والوزر هو العقوبة الثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها الذي يثقل على الحامل وينقض ظهره أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم وقرىء يحمل ثم بين تعالى صفة ذلك
الوزر من وجهين أحدهما أنه يكون مخلداً مؤبداً والثاني قوله وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ حِمْلاً أي وما أسوأ هذا الوزر حملاً أي محمولاً وحملاً منصوب على التمييز وثانيها يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ فالمراد بيان أن يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ننفخ بفتح النون كقوله وَنَحْشُرُ وقرأ الباقون ينفخ على ما لم يسم فاعله ونحشر بالنون لأن النافخ ملك التقم الصور والحاشر هو الله تعالى وقرىء يوم ينفخ بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله تعالى أو لإسرافيل عليه السلام وأما يحشر المجرمين فلم يقرأ به إلا الحسن وقرىء في الصور بفتح الواو جمع صورة
المسألة الثانية فِى الصُّورِ قولان أحدهما أنه قرن ينفخ فيه يدعي به الناس إلى المحشر والثاني أنه جمع صورة والنفخ نفخ الروح فيه ويدل عليه قراءة من قرأ الصور بفتح الواو والأول أولى لقوله تعالى فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوق عند الأسفار وفي العساكر
المسألة الثالثة المراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لأن قوله بعد ذلك وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً كالدلالة على أن النفخ في الصور كالسبب لحشرهم فهو نظير قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ( النبأ 18 ) أما قوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ففيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة قوله الْمُجْرِمِينَ يتناول الكفار والعصاة فيدل على عدم العفو عن العصاة وقال ابن عباس رضي الله عنهما يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر وقد تقدم هذا الكلام
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالزرقة على وجوه أحدها قال الضحاك ومقاتل يعني زرق العيون سود الوجوه وهي زرقة تتشوه بها خلقتهم والعرب تتشاءم بذلك فإن قيل أليس أن الله تعالى أخبر أنهم يحشرون عمياً فكيف يكون أعمى وأزرق قلنا لعله يكون أعمى في حال وأزرق في حال وثانيها المراد من الزرقة العمى قال الكلبي زرقاً أي عمياً قال الزجاج يخرجون بصراء في أول مرة ويعمون في المحشر وسواد العين إذا ذهب تزرق فإن قيل كيف يكون أعمى وقد قال تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ وشخوص البصر من الأعمى محال وقد قال في حقهم اقْرَأْ كَتَابَكَ ( الإسراء 14 ) والأعمى كيف يقرأ فالجواب أن أحوالهم قد تختلف وثالثها قال أبو مسلم المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم والأزرق شاخص لأنه لضعف بصره يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره وهو كقوله إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 41 ) ورابعها زرقاً عطاشاً هكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال لأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حتى تزرق ويدل على هذا التفسير قوله تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 ) وخامسها حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال طامعين فيما لا ينالونه الصفة الثالثة من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى يتخافتون أي يتسارون يقال خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير
قوله تعالى فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر
المسألة الثانية اختلفوا في أن المراد بقوله إِن لَّبِثْتُمْ اللبث في الدنيا أو في القبر فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك واحتجوا عليه بقوله تعالى قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ ( المؤمنون 112 113 ) فإن قيل إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا أو ما نسوا ذلك والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه والثاني غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه أحدها لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدينا وما ذكروا إلا القليل فقالوا ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) وثانيها أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم بل ما لبثنا إلا يوماً واحداً أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه الواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد وثالثها أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار ورابعها أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى قول من بالغ في التقليل فقال إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَة ً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً القول الثاني أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ ( الروم 55 ) وقال الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ( الروم 56 ) فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية أما من لم يجوز قال إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام وقال آخرون إنه يوم واحد فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب
المسألة الثالثة الأكثرون على أن قوله إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً أي عشرة أيام فيكون قول من قال إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً أقل وقال مقاتل إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً أي عشر ساعات كقوله كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا ( النازعات 46 ) وعلى هذا التقدير يكون اليوم أكثر والله أعلم واعلم أنه سبحانه وتعالى بين بهذا القول أعظم ما نالهم من الحيرة التي دفعوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى َ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِى َ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَى ِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً
اعلم أنه تعالى لما وصف أمر يوم القيامة حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ وفي تقرير هذا السؤال وجوه أحدها أن قوله يَتَخَافَتُونَ ( طه 103 ) وصف من الله تعالى لكل المجرمين بذلك فكأنهم قالوا كيف يصح ذلك والجبال حائلة ومانعة من هذا التخافت وثانيها قال الضحاك نزلت في مشركي مكة قالوا يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء وثالثها لعل قومه قالوا يا محمد إنك تدعي أن الدنيا ستنقضي فلو صح ما قلته لوجب أن تبتدىء أولاً بالنقصان ثم تنتهي إلى البطلان لكن أحوال العالم باقية كما كانت في أول الأمر فكيف يصح ما قلته من خراب الدنيا وهذه شبهة تمسك بها جالينوس في أن السموات لا تفنى قال لأنها لو فنيت لابتدأت في النقصان أولاً حتى ينتهي نقصانها إلى البطلان فلما لم يظهر فيها النقصان علمنا أن القول بالبطلان باطل ثم أمر الله تعالى رسوله بالجواب عن هذا السؤال وضم إلى الجواب أموراً أخر في شرح أحوال القيامة وأهوالها
الصفة الأولى قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال فَقُلْ مع فاء التعقيب لأن مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمره بالجواب مقروناً بفاء التعقيب لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز أما في المسائل الفروعية فجائزة لذلك ذكر هناك قل من غير حرف التعقيب
المسألة الثانية الضمير في قوله يَنسِفُهَا عائد إلى الجبال والنسف التذرية أي تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية فإذا زالت الجبال الحوائل فيعلم صدق قوله يَتَخَافَتُونَ قال الخليل يَنسِفُهَا أي يذهبها ويطيرها أما الضمير في قوله فَيَذَرُهَا فهو عائد إلى الأرض فاستغنى عن تقديم ذكرها كما في عادة الناس من الإخبار عنها بالإضمار كقولهم ما عليها أكرم من فلان وقال تعالى مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ
وإنما قال فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ليبين أن ذلك النسف لا يزيل الاستواء لئلا يقدر أنها لما زالت من موضع إلى موضع آخر صارت هناك حائلة هذا كله إذا كان المقصود من سؤالهم الاعتراض على كيفية المخافتة أما لو كان الغرض من السؤال ما ذكرنا من أنه لا نقصان فيها في الحال فوجب أن لا ينتهي أمرها إلى البطلان كان تقرير الجواب أن بطلان الشيء قد يكون بطلاناً يقع توليدياً فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان وقد يكون بطلاناً يقع دفعة واحدة وههنا لا يجب تقديم النقصان على البطلان فبين الله تعالى أنه يفرق تركيبات هذا العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة ههنا إلى تقديم النقصان على البطلان
المسألة الثالثة أنه تعالى وصف الأرض ذلك الوقت بصفات أحدها كونها قاعاً وهو المكان المطمئن وقيل مستنقع الماء وثانيها الصفصف وهو الذي لا نبات عليه وقال أبو مسلم القاع الأرض الملساء المستوية وكذلك الصفصف وثالثها قوله لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً وقال صاحب ( الكشاف ) قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان فإن قيل الأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين قلنا اختيار هذا اللفظ له موقع بديع في وصف الأرض بالاستواء ونفي الاعوجاج وذلك لأنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها وبالغت في التسوية فإذا قابلتها المقاييس الهندسية وجدت فيها أنواعاً من العوج خارجة عن الحس البصري قال فذاك القدر في الاعوجاج لما لطف جداً ألحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسر واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأرض تكون ذلك اليوم كرة حقيقية لأن المضلع لا بد وأن يتصل بعض سطوحه بالبعض لا على الاستقامة بل على الاعوجاج وذلك يبطله ظاهر الآية ورابعها الأمت النتوء اليسير يقال مد حبله حتى ما فيه أمت وتحصل من هذه الصفات الأربع أن الأرض تكون ذلك اليوم ملساء خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والإعوجاج
الصفة الثانية ليوم القيامة قوله يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى َ لاَ عِوَجَ لَهُ وفي الداعي قولان الأول أن ذلك الداعي هو النفخ في الصور وقوله لاَ عِوَجَ لَهُ أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل الثاني أنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول أيتها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة قومي إلى ربك للحساب والجزاء فيسمعون صوت الداعي فيتبعونه ويقال إنه إسرافيل عليه السلام يضع قدمه على الصخرة فإن قيل هذا الدعاء يكون قبل الإحياء أو بعده قلنا إن كان المقصود بالدعاء إعلامهم وجب أن يكون ذلك بعد الإحياء لأن دعاء الميت عبث وإن لم يكن المقصود إعلامهم بل المقصود مقصود آخر مثل أن يكون لطفاً للملائكة ومصلحة لهم فذلك جائز قبل الإحياء
الصفة الثالثة قوله وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً وفيه وجوه أحدها خشعت الأصوات من شدة الفزع وخضعت وخفيت فلا تسمع إلا همساً وهو الذكر الخفي قال أبو مسلم وقد علم الإنس والجن بأن لا مالك لهم سواه فلا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس وهو أخفى الصوت ويكاد يكون كلاماً يفهم بتحريك الشفتين لضعفه وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام
فالمعنى أنه لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر
الصفة الرابعة قوله يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِى َ لَهُ قَوْلاً قال صاحب ( الكشاف ) من يصلح أن يكون مرفوعاً ومنصوباً فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف إليه أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن والنصب على المفعولية وأقول الاحتمال الثاني أولى لوجوه الأول أن الأول يحتاج فيه إلى الإضمار وتغيير الأعراب والثاني لا يحتاج فيه إلى ذلك والثاني أن قوله تعالى لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ يراد به من يشفع بها والاستثناء يرجع إليهم فكأنه قال لا تنفع الشفاعة أحداً من الخلق إلا شخصاً مرضياً والثالث وهو أن من المعلوم بالضرورة أن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن أذن الله له فيها وكان عند الله مرضياً فلو حملنا الآية على ذلك صارت جارية مجرى إيضاح الواضحات أما لو حملنا الآية على المشفوع له لم يكن ذلك إيضاح الواضحات فكان ذلك أولى إذا ثبت هذا فنقول المعتزلة قالوا الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه لأن هذه الآية دلت على أن المشفوع له لا بد وأن يكون مرضياً عند الله واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق لأن قوله ورضي له قولاً يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولاً واحداً من أقواله والفاسق قد ارتضى الله تعالى قولاً واحداً من أقواله وهو شهادة أن لا إله إلا الله فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل إنه تعالى استثنى عن ذلك النفي بشرطين أحدهما حصول الإذن والثاني أن يكون قد رضي له قولاً فهب أن الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين وهو أنه تعالى قد رضي له قولاً لكن لم قلتم إنه أذن فيه وهذا أول المسألة قلنا هذا القيد وهو أنه رضي له قولاً كافٍ في حصول الاستثناء بدليل قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) فاكتفى هناك بهذا القيد ودلت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولاً يحصل الإذن في الشفاعة وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود
الصفة الخامسة قوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عائد إلى الذين يتبعون الداعي ومن قال إن قوله مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ المراد به الشافع قال ذلك الضمير عائد إليه والمعنى لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء إلا لمن أذن له الرحمن في أن تشفع له الملائكة والأنبياء ثم قال يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني ما بين أيدي الملائكة كما قال في آية الكرسي وهذا قول الكلبي ومقاتل وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له قال مقاتل يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة وما كان منهم بعد خلقهم
المسألة الثانية ذكروا في قوله تعالى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وجوهاً أحدها قال الكلبي مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الآخرة وَمَا خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا وثانيها قال مجاهد مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا والأعمال وَمَا خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة والثواب والعقاب وثالثها قال الضحاك يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة
المسألة الثالثة ذكروا في قوله وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وجهين الأول أنه تعالى بين أنه يعلم ما بين أيدي العباد وما خلفهم ثم قال وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم
علماً الثاني المراد لا يحيطون بالله علماً والأول أولى لوجهين أحدهما أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا قوله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وثانيهما أنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى
الصفة السادسة قوله وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَى ّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ومعناه أن في ذلك اليوم تعنوا الوجوه أي تذل ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره ومن لفظ العنو أخذوا العاني وهو الأسير يقال عنا يعنو عناء إذا صار أسيراً وذكر الله تعالى الْوجُوهَ وأراد به المكلفين أنفسهم لأن قوله وَعَنَتِ من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وهو كقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَة ٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَة ٌ ( الغاشية 8 9 ) وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر وتفسير الْحَى ُّ الْقَيُّومُ قد تقدم وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث البقرة وآل عمران وطه قال الراوي فوجدنا المشترك في السور الثلاث قال الراوي فوجدنا المشترك في السور الثلاث اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فبين تعالى على وجه التحذير أن ذلك اليوم لا يصح الإمتناع مما ينزل بالمرء من المجازاة وأن حاله مخالفة لحال الدنيا التي يختار فيها المعاصي ويمتنع من الطاعات أما قوله تعالى وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً فالمراد بالخيبة الحرمان أي حرم الثواب من حمل ظلماً والمراد به من وافى بالظلم ولم يتب عنه واستدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من العفو فقالوا قوله وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً يعم كل ظالم وقد حكم الله تعالى فيه بالخيبة والعفو ينافيه والكلام على عمومات الوعيد قد تقدم مراراً واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال يوم القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين فقال وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً يعني ومن يعمل شيئاً من الصالحات والمراد به الفرائض فكان عمله مقروناً بالإيمان وهو قوله وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ( طه 75 ) فقوله فَلاَ يَخَافُ في موضع جزم لكونه في موضع جواب الشرط والتقدير فهو لا يخاف ونظيره وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( المائدة 95 ) فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ( الجن 13 ) وقرأ ابن كثير فلا يخف على النهي وهو حسن لأن المعنى فليأمن والنهي عن الخوف أمر بالأمن والظلم هو أن يعاقب لا على جريمة أم يمنع من الثواب على الطاعة والهضم أن ينقص من ثوابه والهضيمة النقيصة ومنه هضيم الكشح أي ضامر البطن ومنه طَلْعُهَا هَضِيمٌ ( الشعراء 148 ) أي لازق بعضه ببعض ومنه انهضم طعامي وقال أبو مسلم الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفي حقه من الإعظام لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم وقد يدخل النقص في بعض الثواب ويدخل فيما يقارنه من التعظيم فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين
وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً
اعلم أن قوله وَكَذالِكَ عطف على قوله كَذالِكَ نَقُصُّ أي ومثل ذلك لا نزال وعلى نهجه أنزلنا القرآن كله ثم وصف القرآن بأمرين أحدهما كونه عربياً لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه وخروجه عن جنس كلام البشر والثاني قوله وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررناه وفصلناه ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد فعل يتعلق فتكريره يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ والمراد اتقاء المحرمات وترك الواجبات ولفظ لعل قد تقدم تفسيره في سورة البقرة في قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 183 ) أما قوله أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ففيه وجهان الأول أن يكون المعنى إنا إنما أنزلنا القرآن لأجل أن يصيروا متقين أي محترزين عما لا ينبغي أو يحدث القرآن لهم ذكراً يدعوهم إلى الطاعات وفعل ما ينبغي وعليه سؤالات
السؤال الأول القرآن كيف يكون محدثاً للذكر الجواب لما حصل الذكر عند قراءته أضيف الذكر إليه
السؤال الثاني لم أضيف الذكر إلى القرآن وما أضيفت التقوى إليه الجواب أن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يجز إسناده إلى القرآن أما حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إلى القرآن
السؤال الثالث كلمة أو للمنافاة ولا منافاة بين التقوى وحدوث الذكر بل لايصح الإتقاء إلا مع الذكر فما معنى كلمة أو الجواب هذا كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما فكذا ههنا الوجه الثاني أن يقال إنا أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً فعلى هذين التقديرين يكون إنزاله تقوى ثم إنه تعالى لما عظم أمر القرآن ردفه بأن عظم نفسه فقال فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ تنبيهاً على ما يلزم خلقه من تعظيمه وإنما وصفه بالحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به فلهذا وصف بذلك وتعالى تفاعل من العلو وقد ثبت أن علوه وعظمته وربوبيته بمعنى واحد وهو اتصافه بنعوت الجلال وأنه لا تكفيه الأوهام ولا تقدره العقول وهو منزه عن المنافع والمضار فهو تعالى إنما أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وليقدموا على ما ينبغي وأنه تعالى منزه عن التكمل بطاعاتهم والتضرر بمعاصيهم فالطاعات إنما تقع بتوفيقه وتيسيره والمعاصي إنما تقع عدلاً منه وكل ميسر لما خلق له أما قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلقه بما قبله وجهان الوجه الأول قال أبو مسلم إن من قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) إلى ههنا يتم الكلام وينقطع ثم قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ خطاب مستأنف فكأنه قال ويسألونك ولا تعجل بالقرآن الوجه الثاني روى أنه عليه السلام كان يخاف من أن يفوته منه شيء فيقرأ مع الملك فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك ثم يأخذ بعد فراغه في القراءة فكأنه تعالى شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي وأنه موصوف بالإحسان والرحمة ومن كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وإذ حصل الأمان عن السهو والنسيان قال وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ
المسألة الثانية قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ ويحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك ويحتمل أن لا تعجل في تأديته إلى غيرك ويحتمل في اعتقاد ظاهره ويحتمل في تعريف الغير ما يقتضيه ظاهره وأما قوله مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فيحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك تمامه ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك بيانه لأن هذين الأمرين لا يمكن تحصيلهما إلا بالوحي ومعلوم أنه عليه السلام لا ينهى عن قراءته لكي يحفظه ويؤديه فالمراد إذن أن لا يبعث نفسه ولا يبعث غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً لأنه يجب التوقف في معنى الكلام ما لم يأت عليه الفراغ لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات فهذا هو التحقيق في تفسير الآية ولنذكر أقوال المفسرين أحدها أن هذا كقوله تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( القيامة 16 ) وكان عليه السلام يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل مخافة النسيان فقيل له لا تعجل إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون والله تعالى يزيدك فهماً وعلماً وهذا قول مقاتل والسدي ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وثانيها لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحى إليك بيان معانيه وهذا قول مجاهد وقتادة وثالثها قال الضحاك إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا يا محمد أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بأن اليهود قد غلبوا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه إلى جبريل ومنه إليك وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ورابعها روى الحسن أن امرأة أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت زوجي لطم وجهي فقال بينكما القصاص فنزل قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القصاص حتى نزول قوله تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء ( النساء 34 ) وهذا بعيد والاعتماد على التفصيل الأول أما قوله تعالى وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه
المسألة الثالثة الاستعجال الذي نهى عنه إن كان فعله بالوحي فكيف نهى عنه الجواب لعله فعله بالاجتهاد وكان الأولى تركه فلهذا نهى عنه
وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا ياأادَمُ إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى
اعلم أن هذا هي المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف
ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف ثم ههنا واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ ( طه 99 ) ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة انجازاً للوعد في قوله كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وثانيها أنه لما قال وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ( طه 113 ) أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم وثالثها أنه لما قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان ورابعها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما قيل له وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( طه 114 ) دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة وخامسها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما قيل له وَلاَ تَعْجَلْ ضاق قلبه وقال في نفسه لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه فقيل له إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصاً منك على العبادة وحفظاً لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره أما قوله تعالى وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فلا شك أن المراد بالعهد أمر من الله تعالى أو نهي منه كما يقال في أوامر الملوك ووصاياهم أشار الملك إليه وعهد إليه قال المفسرون عهدنا إليه أن لا يأكل من الشجرة ولا يقربها وفي قوله تعالى مِن قَبْلُ وجوه أحدها من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن وثانيها قال ابن عباس من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها وثالثها أي من قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن وهو قول الحسن أما قوله فَنَسِى َ فقد تكلمنا فيه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ونعيد ههنا منه شيئاً قليلاً وفي النسيان قولان أحدهما المراد ما هو نقيض الذكر وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان وكان الحسن رحمه الله يقول والله ما عصى قط إلا بنسيان والثاني أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز عن الشجرة وأكل من ثمرتها وقرىء فنسي أي فنساه الشيطان وعلى هذا التقدير يحتمل أن يقال أقدم على المعصية من غير تأويل وأن يقال أقدم عليها مع التأويل والكلام فيه قد تقدم في سورة البقرة وأما قوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ففيه أبحاث
البحث الأول الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومنه ولم نجد له عزماً وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعدمنا له عزماً
البحث الثاني العزم هو التصميم والتصلب ثم قوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يحتمل ولم نجد له عزماً على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزماً على ترك المعصية أو لم نجد له عزماً على التحفظ والاحتراز عن الغفلة أو لم نجد له عزماً على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد وأما قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى
فهذا يشتمل على مسائل إحداها أن المأمورين كل الملائكة أو بعضهم وثانيتها أنه ما معنى السجود وثالثتها أن إبليس هل كان من الملائكة أم لا وإن لم يكن فكيف صح الاستثناء وبأي شيء صار مأموراً بالسجود ورابعتها أن هذا يدل على أن آدم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا وخامستها أن قوله في صفة إبليس أنه أبى كيف لزم الكفر من ذلك الإباء وأنه هل كان كافراً ابتداء أو كفر بسبب ذلك واعلم أن هذه المسائل مرت على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة أما قوله فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ففيه سؤالات الأول ما سبب تلك العداوة الجواب من وجوه أحدها أن إبليس كان حسوداً فلما رآى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده فصار عدواً له وثانيها أن آدم كان شاباً عالماً لقوله وعلم آدم الأسماء كلها وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله وذلك جهل والشيخ الجاهل أبداً يكون عدواً للشاب العالم وثالثها أن إبليس مخلوق من النار وآدم مخلوق من الماء والتراب فبين أصليهما عداوة فبقيت تلك العداوة
السؤال الثاني لم قال فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ مع أن المخرج لهما من الجنة هو الله تعالى الجواب لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك
السؤال الثالث لم أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حواء مع اشتراكهما في الفعل الجواب من وجهين أحدهما أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على رعاية الفاصلة الثاني أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه أما قوله إِلا أَنْ لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وإنك بالفتح والكسر ووجه الفتح العطف على أن لا تجوع فيها فإن قيل أن لا تدخل على أن فلا يقال أن أن زيداً منطلق والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها قلنا الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن أن إنما هي نائبة عن كل عامل فلما لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كان لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع أن وأن
المسألة الثانية الشبع والري والكسوة والإكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب وذكرها بلفظ النفي لأضدادها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحى ليطرق سمعه شيئاً من أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يبالغ في الاحتراز عن السبب الذي يوقعه فيها وهذه الأشياء كلها كأنها تفسير الشقاء المذكور في قوله فَتَشْقَى
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ ياأادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
واعلم أنه سبحانه بين أنه عظم آدم عليه السلام بأن جعله مسجوداً للملائكة وبين أنه عرفه شدة عداوة إبليس له ولزوجه وأنه لعداوته يدعوهم إلى المعصية التي إذا وقعت زالت تلك النعم بأسرها ثم إنه مع ذلك اتفق منه ومن حواء الإقدام على الزلة ما اتفق والعجب ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال ( لو أن أحلام بني آدم إلى قيام الساعة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم ) ولكن المكادحة مع قضاء الله تعالى ممتنعة واعلم أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ( طه 117 119 ) ورغبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وفي انتظام المعيشة بقوله وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله تعالى ذلك وقدره وأما قوله فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ( الأعراف 20 ) فقد تقدم في سورة البقرة أنه كيف وسوس وبماذا وسوس فإن قيل كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وأخرى بإلى قلنا قوله فوسوس له معناه لأجله وقوله ءاوَى إِلَيْهِ معناه أنهى إليه الوسوسة كقوله حدث له وأسر إليه ثم بين أن تلك الوسوسة كانت بتطميعه في أمرين أحدهما قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها صار مخلداً بزعمه الثاني قوله وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى أي من أكل من هذه الشجرة دام ملكه قال القاضي ليس في الظاهر أن آدم قبل ذلك منه بل لوجدت هذه الوسوسة حال كون آدم عليه السلام نبياً لاستحال أن يكون آدم عليه السلام قبل ذلك منه لأنه لا بد وأن تحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فترة بالموت وبالمعنى فآدم لما كان نبياً امتنع أن لا يعلم ذلك قلنا لا نسلم بأنه لا بد من حصول هذه الفترة بين حال التكليف وحال المجازاة ولم لا يجوز أن يقال لا حاجة إلى الفترة أصلاً وإن كان ولا بد فيكفي حصول الفترة بغشي أو نوم خفيف ثم إن كان ولا بد من حصول الفترة بالموت فلم قلت النبي لا بد وأن يعلم ذلك أليس قوم منكم يقولون إن موسى عليه السلام إنما سأل الرؤية لأنه ما كان يعرف امتناعها على الله تعالى فإذا جاز ذلك الجهل فلم لا يجوز هذا الجهل ثم ما الدليل على أن آدم كان نبياً في ذلك الوقت فإن مذهبنا أن واقعة الزلة إنما حصلت قبل رسالته لا بعدها ثم إن الذي يدل على أن آدم عليه السلام قبل ذلك قوله تعالى عقيب ذكر الوسوسة فأكلا منها وهذا الترتيب مشعر بالعلية كقولهم ( زنى ماعز فرجم ) ( وسها رسول الله
فسجد ) فإن هذه الفاء تدل على أن الرجم كالمسبب للزنا والسجود كالمسبب للسهو فكذلك ههنا يجب أن يكون الأكل كالمعلل باستماع قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى وإنما يحصل هذا التعليل لو قبل آدم ذلك منه فإنه لو رد قوله لما أقدم على الأكل بناء على قوله فثبت أن آدم عليه السلام قبل ذلك من إبليس ثم إنه سبحانه بين أنهما لما أكلا بدت لهما سوآتهما قال ابن عباس عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما وإنما جمع فقيل سوآتهما كما قال صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) فإن قيل هل كان ظهور سوآتهما كالجزاء على معصيتهما قلنا لا شك أن ذلك كالمعلق على ذلك الأكل لكن يحتمل أن لا يكون عقاباً عليه بل إنما ترتب عليه لمصلحة أخرى أما قوله وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ ففيه أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وأخذ وأنشأ وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة وهي للشروع في أول الأمر وكاد لمقاربته والدنو منه
البحث الثاني قرى يخصفان للتكثير والتكرير من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان الورقة على سوآتهما للستر وهو ورق التين أما قوله وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى فمن الناس من تمسك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين الأول أن العاصي اسم للذم فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه والوجه الثاني أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان والغي ضد الرشد ومثل هذا الإسم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه أجاب قوم عن الكلام الأول فقالوا المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون بالواجب والندب فإنهم يقولون أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم لا لكونه تاركاً للواجب بل لكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي مستحق للعقاب والعرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب فإن قيل وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد قلنا لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه أما قوله أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني قلنا لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ولئن سلمنا ذلك ولكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل وأنه لا يجوز الإخلال بذلك الفعل وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن الوجوب حاصلاً وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلم أن الآية تدل على صدور المعصية منه لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر وهذا قول عامة المعتزلة وهو أيضاً ضعيف لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم ولأن ظاهر القرآن يدل على أنه يستحق العقاب وذلك لا يليق بالصغيرة وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف وكذلك القول في غوى وهذا أيضاً بعيد لأن مصالح الدنيا تكون مباحة ومن يفعلها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم للذم ولا يقال ( فدلالهما
بغرور ) وأما التمسك بقوله تعالى فَغَوَى فأجابوا عنه من وجوه أحدها أنه خاب من نعيم الجنة وذلك لأنه لما أكل من تلك الشجرة ليصير ملكه دائماً ثم لما أكل زال فلما خاب سعيه وما نجح قيل إنه غوى وتحقيقه أن الغي ضد الرشد والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء يوصل إلى المقصود فمن توصل بشيء إلى شيء فحصل له ضد مقصوده كان ذلك غياً وثانيها قال بعضهم غوى أي بشم من كثرة الأكل قال صاحب الكشاف هذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا وهم بنو طيء فهو تفسير خبيث واعلم أن الأولى عندي في هذا الباب والأحسم للشغب أن يقال هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة وههنا بحث لا بد منه وهو أن ظاهر القرآن وإن دل على أن آدم عصى وغوى لكن ليس لأحد أن يقول إن آدم كان عاصياً غاوياً ويدل على صحة قولنا أمور أحدها قال العتبي يقال لرجل قطع ثوباً وخاطه قد قطعه وخاطه ولا يقال خائط ولا خياط حتى يكون معاوداً لذلك الفعل معروفاً به ومعلوم أن هذه الزلة لم تصدر عن آدم عليه السلام إلا مرة واحدة فوجب أن لا يجوز إطلاق هذا الاسم عليه وثانيها أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر إنه كافر بمعنى أنه كان كافراً بل وبتقدير أن يقال هذه الواقعة وقعت بعد النبوة لم يجز أيضاً أن يقال ذلك لأنه عليه السلام تاب عنها كما أن الرجل المسلم إذا شرب الخمر أو زنى ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك إنه شارب خمر أو زانٍ فكذا ههنا وثالثها أن قولنا عاص وغاو يوهم كونه عاصياً في أكثر الأشياء وغاوياً عن معرفة الله تعالى ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها فكأنه قال عصى في كيت وكيت وذلك لا يوهم التوهم الباطل الذي ذكرناه ورابعها أنه يجوز من الله تعالى ما لا يجوز من غيره كما يجوز للسيد في عبيده وولده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغير السيد في عبده وولده أما قوله ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى فالمعنى ثم اصطفاه فتاب عليه أي عاد عليه بالعفو والمغفرة وهداه رشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار وقبل الله منه ذلك روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود كان بكاؤه أكثر ولو جمع كل ذلك إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه ولو جمع كل ذلك إلى بكاء آدم لكان بكاء آدم على خطيئته أكثر ) وقال وهب إنه لما كثر بكاؤه أوحى الله تعالى إليه وأمره بأن يقول ( لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ) فقالها آدم عليه السلام ثم قال قل ( لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين ) ثم قال قل ( لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ) قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الكلمات هي التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى َ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِأايَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَشَدُّ وَأَبْقَى
اعلم أن على أول هذه الآية سؤالاً وهو أن قوله اهْبِطَا إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر فإن كان خطاباً لشخصين فكيف قال بعده فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى وهو خطاب الجمع وإن كان خطاباً لأكثر من شخصين فكيف قال اهْبِطَا وذكروا في جوابه وجوهاً أحدها قال أبو مسلم الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فلكونهما جنسين صح قوله اهْبِطَا ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم قال صاحب ( الكشاف ) لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلا للبشر والسبب اللذين منهما تفرعوا جعلا كأنهما البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم فقال فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم على لفظ الجماعة أما قوله بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فقال القاضي يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء للناس والناس أعداء لهم فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام وقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى َ فيه دلالة على أن المراد الذرية وقد اختلفوا في المراد بالهدى فقال بعضهم الرسل وبعضهم قال الآخر والأدلة وبعضهم قال القرآن والتحقيق أن الهدى عبارة عن الدلالة فيدخل فيه كل ذلك وفي قوله فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى دلالة على أن المراد بالهدى الذي ضمن الله على اتباعه ذلك اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها وبأن يعمل بها ومن هذا حاله فقد ضمن الله تعالى له أن لا يضل ولا يشقى وفيه ثلاثة أوجه أحدها لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وثانيها لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة ويمكنه فيها وثالثها لا يضل ولا يشقى في الدنيا فإن قيل المتبع لهدى الله قد يحلقه الشقاء في الدنيا قلنا المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس ولما وعد الله تعالى من يتبع الهدى أتبعه بالوعيد فيمن أعرض فقال وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم بيانه ويحتمل أن يراد به الأدلة وقوله فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنكاً فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال منزل ضنك وعيش ضنك فكأنه قال معيشة ذات ضنك واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره أما الأول فقال به جمع من المفسرين وذلك لأن المسلم لتوكله على الله يعيش في الدنيا عيشاً طيباً كما قال فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً ( النحل 97 ) والكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة أبداً فعيشته ضنك
وحالته مظلمة وأيضاً فمن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره قال تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ( البقرة 61 ) وقال وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ( المائدة 66 ) وقال تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الأعراف 96 ) وقال اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 10 12 ) وقال وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَة ِ لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( الجن 16 ) وأما الثاني وهو عذاب القبر فهذا قول عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس ورفعه أبو هريرة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن عذاب القبر للكافر قال والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً ) قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في الأسود بن عبد العزى المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيها أضلاعه وأما الثالث وهو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين فلا يموتون فيها ولا يحيون وهذا قول الحسن وقتادة والكلبي وأما الرابع وهو الضيق في أحوال الدين فقال ابن عباس رضي الله عنهما المعيشة الضنك هي أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها سئل الشبلي عن قوله عليه السلام ( إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية ) فقال أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأي معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه وعن عطاء قال المعيشة الضنك هي معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب وأما الخامس وهو أن يكون المراد الضيق في كل ذلك أو أكثره فروي عن علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( عقوبة المعصية ثلاثة ضيق المعيشة والعسر في الشدة وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله تعالى ) أما قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى ففيه وجوه أحدها هذا مثل قوله وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ( الإسراء 97 ) وكما فسرت الزرقة بالعمى ثم قيل إنه يحشر بصيراً فإذا سيق إلى المحشر عمى والكلام فيه وعليه قد تقدم في قوله زُرْقاً ( طه 132 ) وثانيها قال مجاهد والضحاك ومقاتل يعني أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القاضي هذا القول ضعيف لأن في القيامة لا بد أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز لهم الحق من الباطل ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً والمراد به أنه كان من قبل ذلك كذلك ولا يليق بهذا قوله وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ولم يكن كذلك في حال الدنيا أقول ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا فلو كان العمى الحاصل في الآخرة بين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما أنه ما كان له في الدنيا بسبب ذلك ضرر واعلم أن تحقيق الجواب عن هذا الاعتراض مأخوذ من أمر آخر وهو أن الأرواح الجاهلة في الدنيا المفارقة عن أبدانها على جهالتها تبقى على تلك الجهالة في الآخرة وأن تلك الجهالة تصير هناك سبباً لأعظم الآلام الروحانية وبين هذه الطريقة وبين طريقة القاضي المبنية على أصول الاعتزال بون شديد وثالثها قال الجبائي المراد من حشره أعمى أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً بل يبقى واقفاً متحيراً كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أما قوله قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ففي تقرير هذا الجواب وجهان أحدهما أنه تعالى إنما أنزل به هذا
العمى جزاء على تركه اتباع الهدى والإعراض عنه والثاني هو أن الأرواح البشرية إذا فارقت أبدانها جاهلة ضالة عن الاتصال بالروحانيات بقيت على تلك الحالة بعد المفارقة وعظمت الآلام الروحانية فلهذا علل الله تعالى حصول العمى في الآخرة بالإعراض عن الدلائل في الدنيا ومن فسر المعيشة الضنك بالضيق في الدنيا قال إنه تعالى بين أن من أعرض عن ذكره في الدنيا فله المعيشة الضنك في الدنيا والعمى في الآخرة أما قوله وَكَذالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَاتِ رَبّهِ فقد اختلفوا فيه فبعضهم قال أشرك وكفر وبعضهم قال أسرف في أن عصى الله وقد بين تعالى المراد بذلك بقوله وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَاتِ رَبّهِ لأن ذلك كالتفسير لقوله أسرف وبين أنه يجزي من هذا حاله بما تقدم ذكره من المعيشة الضنك والعمى وبين بعد ذلك أن عَذَابَ الاْخِرَة ِ أَشَدُّ وَأَبْقَى أما الأشد فلعظمه وأما الأبقى فلأنه غير منقطع
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لاٌّ وْلِى النُّهَى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
اعلم أنه تعالى لما بين أن من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة أتبعه بما يعتبر ( به ) المكلف من الأحوال الواقعة في الدنيا بمن كذب الرسل فقال أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ والقراءة العامة أفلم يهد بالياء المعجمة من تحت وفاعله هو قوله كَمْ أَهْلَكْنَا قال القفال جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أفلم نهد لهم بالنون قال الزجاج يعني أفلم نبين لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا وأما قوله كَمْ أَهْلَكْنَا فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية وأراد بقوله يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ أن قريشاً يشاهدون تلك الآيات العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعم وما حل بهم من ضروب الهلاك وللمشاهدة في ذلك من الاعتبار ما ليس لغيره وبين أن في تلك الآيات آيات لأولى النهى أي لأهل العقول والأقرب أن للنهية مزية على العقل والنهي لا يقال إلا فيمن له عقل ينتهي به عن القبائح كما أن لقولنا أولو العزم مزية على أولو الحزم فلذلك قال بعضهم أهل الورع وأهل التقوى ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كذب وكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى وفيه تقديم وتأخير والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً ولا شبهة في أن الكلمة هي إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمته عليه السلام وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال واختلفوا فيما لأجله لم يفعل ذلك بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال بعضهم لأنه علم أن فيهم من يؤمن
وقال آخرون علم أن في نسلهم من يؤمن ولو أنزل بهم العذاب لعمهم الهلاك وقال آخرون المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا هو وقال أهل السنة له بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل فلهذا قال أهل التحقيق كل شيء صنيعه لا لعلة وأما الأجل المسمى ففيه قولان أحدهما ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب وهو يوم بدر والثاني ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذب وهو أقرب ويكون المراد ولولا كلمة سبقت تتضمن تأخير العذاب إلى الآخرة كقوله بَلِ السَّاعَة ُ مَوْعِدُهُمْ ( القمر 46 ) لكان العقاب لازماً لهم فيما يقدمون عليه من تكذيب الرسول وأذيتهم له ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة ويحتمل أيضاً تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفاً له عن ذلك ثم قال الكلبي ومقاتل هذه الآية منسوخة بآية القتال ثم قال وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وهو نظير قوله وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى بِحَمْدِ رَبّكَ في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه
المسألة الثانية إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى
المسألة الثالثة اختلفوا في التسبيح على وجهين فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص فقال ابن عباس رضي الله عنهما دخلت الصلوات الخمس فيه فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعاً قبل الغروب ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ويكون قوله وَأَطْرَافَ النَّهَارِ كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختصت في قوله حَافِظُواْ عَلَى ( البقرة 238 ) بالتوكيد القول الثاني أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما بقي قوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وأطراف النهار للنوافل القول الثالث أنها تدل على أقل من الخمس فقوله قبل طلوع الشمس للفجر وقبل غروبها للعصر ومن آناء الليل للمغرب والعتمة فيبقى الظهر خارجاً والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة قال أبو مسلم لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره وذلك لأنه تعالى صبره أولاً على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر
والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائماً مظهراً لذلك وداعياً إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات
المسألة الرابعة أفضل الذكر ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر وذلك لسكون الناس وهدء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال ولذلك قال سبحانه وتعالى إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ( المزمل 6 ) وقال أَم مَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ ( الزمر 9 ) ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل
المسألة الخامسة لقائل أن يقول النهار له طرفان فكيف قال وَأَطْرَافَ النَّهَارِ بل الأولى أن يقول كما قال وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ ( هود 114 ) وجوابه من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ومنهم من قال إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود أما قوله تعالى لَعَلَّكَ تَرْضَى ففيه وجوه أحدها أن هذا كما يقول الملك الكبير يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة وهو إشارة إلى قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وقوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وثانيها لعلك ترضى ما تنال من الثواب وثالثها لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة وقرأ الكسائي وعاصم لعلك ترضى بضم التاء والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَة ُ لِلتَّقْوَى وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَة ٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاٍّ ولَى وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله عليه السلام على ما يقولون وأمره بأن يعدل إلى التسبيح أتبع ذلك
بنهيه عن مد عينيه إلى ما متع به القوم فقال تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وجهان أحدهما المراد منه نظر العين وهؤلاء قالوا مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه إعجاباً به كما فعل نظارة قارون حيث قالوا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ ( القصص 79 ) حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بقولهم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( القصص 80 ) وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك كما إذا نظر الإنسان إلى شيء مرة ثم غض ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع قيل وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تفعل ما أنت معتاد له ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغير ذلك لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمقوى لهم على اتخاذها القول الثاني قال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ليس هو النظر بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا
المسألة الثانية قال أبو رافع ( نزل ضيف بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف فقال والله لا أفعل ذلك إلا برهن فأخبرته بقوله فأمرني أن أذهب بدرعه إليه فنزل قوله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) وقال عليه السلام ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم ) وقال أبو الدرداء الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم لها عبيداً وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رآى ما عند السلاطين يتلو هذه الآية وقال الصلاة يرحمكم الله أما قوله عز وجل إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ ( أي ) ألذذنا به والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح يقال أمتعه إمتاعاً ومتعه تمتيعاً والتفعيل يقتضي التكثير أما قوله أَزْواجاً مّنْهُمْ أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار وهي من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة وذلك لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب وقال ابن عباس رضي الله عنهما أصنافاً منهم وقال الكلبي والزجاج رجالاً منهم أما قوله زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ففي انتصابه أربعة أوجه أحدها على الذم وهو النصب على الاختصاص أو على تضمين متعنا معنى أعطينا وكونه مفعولاً ثانياً له أو على إبداله من محل الجار والمجرور أو على إبداله من أزواجاً على تقدير ذوي فإن قيل ما معنى الزهرة فيمن حرك قلنا معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة كما جاء في الجهرة قرىء أرنا الله جهرة وأن يكون جمع زاهر وصفاً لهم بأنهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب أما قوله لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فذكروا فيه وجوهاً أحدها لنعذبهم به كقوله فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( التوبة 55 ) وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما إضلالاً مني لهم وثالثها قال الكبي ومقاتل تشديداً في التكاليف عليهم لأن الإعراض عن الدنيا عند حضورها والإقبال إلى الله أشد من ذلك عند عدم حضورها ولذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة الله تعالى والتضرع إليه أكثر من تضرع الأغنياء ولأن على من أوتي الدنيا ضروباً من التكليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف ولأن القادر على المعاصي يكون الاجتناب
عن المعاصي أشق عليه من العاجز الفقير فمن هذه الجهات تكون الزيادة في الدنيا تشديداً في التكليف ثم قال لرسوله وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى والأظهر أن المراد أن مطلوبك الذي تجده من الثواب خير من مطلوبهم وأبقى لأنه يدوم ولا ينقطع وليس كذلك حال ما أوتوه من في الدنيا ويحتمل أن يكون المراد ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة خير لك من حيث العاقبة وأبقى فذكر الرزق في الدنيا ووصفه بحسن عاقبته إذا رضي به وصبر عليه ويحتمل أن يكون المراد ما أعطى من النبوة والدرجات الرفيعة وأما قوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ فمنهم من حمله على أقاربه ومنهم من حمله على كل أهل دينه وهذا أقرب وهو كقوله وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ ( مريم 55 ) وإن احتمل أن يكون المراد من يضمه المسكن إذ التنبيه على الصلاة والأمر بها في أوقاتها ممكن فيهم دون سائر الأمة يعنى كما أمرناك بالصلاة فامر أنت قومك بها أما قوله وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا فالمراد كما تأمرهم فحافظ عليها فعلاً فإن الوعظ بلسان الفعل أتم منه بلسان القول وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي عليهما السلام كل صباح ويقول ( الصلاة ) وكان يفعل ذلك أشهراً ثم بين تعالى أنه إنما يأمرهم بذلك لمنافعهم وأنه متعال عن المنافع بقوله لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وفيه وجوه أحدها قال أبو مسلم المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج وهو كقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( الذاريات 56 57 ) وثانيها لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك ونرزق أهلك ففرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قول الناس من كان في عمل الله كان الله في عمله وثالثها المعنى أنا لما أمرناك بالصلاة فليس ذلك لأنا ننتفع بصلاتك فعبر عن هذا المعنى بقوله لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً بل نحن نرزقك في الدنيا بوجوه النعم وفي الآخرة بالثواب قال عبد الله بن سلام ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية ) واعلم أنه ليس في الآية رخصة في ترك التكسب لأنه تعالى قال في وصف المتقين رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 ) أما قوله والعاقبة للتقوى فالمراد والعاقبة الجميلة لأهل التقوى يعني تقوى الله تعالى ثم إنه سبحانه بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهتهم فكأنه من تمام قوله فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( طه 130 ) وهي قولهم لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَة ٍ مّن رَّبّهِ أوهموا بهذا الكلام أنه يكلفهم الإيمان من غير آية وقالوا في موضع آخر بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ( الأنبياء 5 ) وأجاب الله تعالى عنه بقوله أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى وفيه وجوه أحدها أن ما في القرآن إذ وافق ما في كتبهم مع أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشتغل بالدراسة والتعلم وما رأى أستاذاً ألبتة كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً وثانيها أن بينة ما في الصحف الأولى ما فيها من البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبنبوته وبعثته وثالثها ذكر ابن جرير والقفال ( أن ) المعنى أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات وكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى واعلم أنه إنما ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل ثم بين أنه تعالى أزاح لهم كل عذر وعلة في التكليف فقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً والمراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذراً لهم فأما الآن وقد أرسلناك وبينا على لسانك لهم ما
عليهم وما لهم فلا حجة لهم البتة بل الحجة عليهم ومعنى مِن قَبْلِهِ يحتمل من قبل إرساله ويحتمل من قبل ما أظهره من البينات فإن قيل فما معنى قوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ لَقَالُواْ ( طه 134 ) والهالك لا يصح أن يقول قلنا المعنى لكان لهم أن يقولوا ذلك يوم القيامة ولذلك قال مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى وذلك لا يليق إلا بعذاب الآخرة روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك لك وتلا قوله لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به ويقول الصبي كنت صغيراً لا أعقل فترفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله تعالى أنه شقي ويبقى من في علمه أنه سعيد فيقول الله تعالى لهم ( عصيتم اليوم فكيف برسلي لو أتوكم ) والقاضي طعن في الخبر وقال لا يحسن العقاب على من لا يعقل واعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال الجبائي هذه الآية تدل على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنه يجب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده ولو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن وهلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك وإن كان المعلوم أنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم الرسول لم يكن في ذلك حجة فصح أنه إنما يكون حجة لهم إذا كان في المعلوم أنهم يؤمنون عنده إذا أطاعوه
المسألة الثانية قال الكعبي قوله لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده وأنه ليس قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) كما ظنه أهل الجبر من أن ما هو جور منا يكون عدلاً منه بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل فإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة
المسألة الثالثة قال أصحابنا الآية تدل على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع إذ لو تحقق العقاب قبل مجيء الشرع لكان العقاب حاصلاً قبل مجيء الشرع
ثم إنه سبحانه ختم السورة بضرب من الوعيد فقال قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ أي كل منا ومنكم منتظر عاقبة أمره وهذا الانتظار يحتمل أن يكون قبل الموت إما بسبب الأمر بالجهاد أو بسبب ظهور الدولة والقوة ويحتمل أن يكون بالموت فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه ويحتمل أن يكون بعد الموت وهو ظهور أمر الثواب والعقاب فإنه يتميز في الآخرة المحق من المبطل بما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله تعالى وعلى المبطل من أنواع إهانته فَسَتَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السَّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَى إليه وليس هو بمعنى الشك والترديد بل هو على سبيل التهديد والزجر للكفار والله أعلم
سورة الأنبياء
عليهم السلاممائة واثنتا عشرة آية مكية
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
اعلم أن قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ فيه مسائل
المسألة الأولى القرب لا يعقل إلا في المكان والزمان والقرب المكاني ههنا ممتنع فتعين القرب الزماني والمعنى اقترب للناس وقت حسابهم
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف وصف بالاقتراب وقد عبر بعد هذا القول قريب من ستمائة عام والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه مقترب عند الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَة ٍ مّمَّا تَعُدُّونَ ( الحج 47 ) وثانيها أن كل آت قريب وإن طالت أوقات ترقبه وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
وثالثها أن المعاملة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر فإنه لا يقال اقترب الأجل أما إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال اقترب الأجل فعلى هذا الوجه قال العلماء إن فيه دلالة على قرب
القيامة ولهذا الوجه قال عليه السلام ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وهذا الوجه قيل إنه عليه السلام ختم به النبوة كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي
المسألة الثالثة إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين فيكون أقرب إلى تلافي الذنوب والتحرر عنها خوفاً من ذلك والله أعلم
المسألة الرابعة إنما لم يعين الوقت لأجل أن كتمانه أصلح كما أن كتمان وقت الموت أصلح
المسألة الخامسة الفائدة في تسمية يوم القيامة بيوم الحساب أن الحساب هو الكاشف عن حال المرء فالخوف من ذكره أعظم
المسألة السادسة يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل له ثم قال ابن عباس المراد بالناس المشركون وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين أما قوله تعالى وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ مُّعْرِضُونَ فاعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الغفلة والإعراض أما الغفلة فالمعنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسىء ثم إذا انتبهوا من سنة الغفلة ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم
أما قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن أبي عبلة محدث بالرفع صفة للمحل
المسألة الثانية إنما ذكر الله تعالى ذلك بياناً لكونهم معرضين وذلك لأن الله تعالى يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً ويظهر لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون فما يزيدهم ذلك إلا لعباً واستسخاراً
المسألة الثالثة المعتزلة احتجوا على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا القرآن ذكر والذكر محدث فالقرآن محدث بيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ص 87 ) وقوله وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وقوله ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ ( ص 1 ) وقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وقوله وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ ( يس 69 ) وقوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( الأنبياء 5 ) وبيان أن الذكر محدث قوله في هذا الموضع مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ وقوله في سورة الشعراء مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ثم قالوا فصار مجموع هاتين المقدمتين المنصوصتين كالنص في أن القرآن محدث والجواب من وجهين الأول أن قوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وقوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات فإذا ضممنا إليه قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ لزم حدوث المركب من الحروف والأصوات وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر الثاني أن قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على ذكر ما محدث كما أن قول القائل لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً بل
على أن في الرجال من هو فاضل وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث فيصير نظم الكلام هكذا القرآن ذكر وبعض الذكر محدث وهذا لا ينتج شيئاً كما أن قول القائل الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس لا ينتج شيئاً فظهر أن الذي ظنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع أما قوله إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن ذلك ذم للكفار وزجر لغيرهم عن مثله لأن الإنتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر وإذا كانوا عند استماعه لاعبين حصلوا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك البهيمة فيه الإنسان ثم أكد تعالى ذمهم بقوله لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ واللاهية من لهى عنه إذا ذهل وغفل وإنما ذكر اللعب مقدماً على اللهو كما في قوله تعالى إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( محمد 36 ) تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه السخرية والإستهزاء معلل باللهو الذي معناه الذهول والغفلة فإنهم أقدموا على اللعب للهوهم وذهولهم عن الحق والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ حالان مترادفان أو متداخلان ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر لقوله وَهُمْ
أما قوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ففيه سؤالان
السؤال الأول النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الجواب معناه بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم
السؤال الثاني لم قال وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الجواب أبدل الذين ظلموا من أسروا إشعاراً بأنهم هم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو جاء على لغة من قال أكلوني البراغيث أو هو منصوب المحل على الذم أو هو مبتدأ خبره أَسَرُّواْ النَّجْوَى قدم عليه والمعنى وهؤلاء أسروا النجوى فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم
أما قوله هَلْ هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويحتمل أن يكون التقدير وأسروا النجوى وقالوا هذا الكلام
المسألة الثانية إنما أسروا هذا الحديث لوجهين أحدهما أنه كان ذلك شبهة التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم الثاني يجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه
المسألة الثالثة أنهم طعنوا في نبوته بأمرين أحدهما أنه بشر مثلهم والثاني أن الذي أتى به سحر وكلا الطعنين فاسد أما الأول فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل لا على الصور إذ لو بعث الملك إليهم لما علم كونه نبياً لصورته وإنما كان يعلم بالعلم فإذا ظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب
وهو به آنس وأما الثاني وهو أن ما أتى به الرسول عليه السلام سحر وأنهم يرون كونه سحراً فجهل أيضاً لأن كل ما أتى به الرسول من القرآن وغيره ظاهر الحال لا تمويه فيه ولا تلبيس فيه فقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن حالاً بعد حال مدة من الزمان وهم أرباب الفصاحة والبلاغة وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأن الفعل عند توافر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع فلما لم يأتوا بها دلنا ذلك على أنه في نفسه معجزة وأنهم عرفوا حاله فكيف يجوز أن يقال إنه سحر والحال على ما ذكرناه وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول وإن كانوا فيه مكابرين
قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَآءِ والأرض وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِأايَة ٍ كَمَآ أُرْسِلَ الاٌّ وَّلُونَ مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
أما قوله قَالَ رَبّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قَالَ رَبّى حكاية لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وقرأ الباقون قل بضم القاف وحذف الألف وسكون اللام
المسألة الثانية أنه تعالى لما أورد هذا الكلام عقيب ما حكى عنهم وجب أن يكون كالجواب لما قالوه فكأنه قال إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك وإنه من وراء عقوبته فتوعدوا بذلك لكي لا يعودوا إلى مثله
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف فإن قلت فهلا قيل له يعلم السر لقوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى ( الأنبياء 3 ) قلت القول علام يشمل السر والجهر فكأن في العلم به العلم بالسر وزيادة فكأن آكد في بيان الإطلاع على نجواهم من أن يقول يَعْلَمُ السّرَّ كما أن قوله تعالى يَعْلَمُ السّرَّ آكد من أن يقول يعلم سرهم فإن قلت فلم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفرقان 6 ) قلت ليس بواجب أن يجيء بالآكد في قوله في كل موضع ولكن يجيء بالتوكيد مرة وبالآكد مرة أخرى ثم الفرق أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى فكأنه أراد أن يقول إن ربي يعلم ما أسروه فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثمة قصد وصف ذاته بأن قال أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهو كقوله عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( سبأ 48 ) عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ ( سبأ 3 )
المسألة الرابعة إنما قدم السميع على العليم لأنه لا بد من سماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه أما قوله بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِئَايَة ٍ كَمَا أُرْسِلَ الاْوَّلُونَ فاعلم أنه
تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله هَلْ هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ ( الأنبياء 3 ) ثم قال بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا ندعي أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله تعالى سلمنا أنه غير مانع ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنها أضغاث أحلام وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزاً ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثاً قال الحسن رحمه الله تعالى إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( المؤمنون 33 ) بقوله وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فبين أن هذه عادة الله تعالى في الرسل من قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً للآيات التي ظهرت عليهم فإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم فلا مقال عليه في كونه بشراً فأما قوله تعالى فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ فالمعنى أنه تعالى أمرهم أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال تعالى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) فإن
قيل إذا لم يوثق باليهود والنصارى فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل قلنا إذا تواتر خبرهم وبلغ حد الضرورة جاز ذلك كما قد يعمل بخبر الكفار إذا تواتر مثل ما يعمل بخبر المؤمنين ومن الناس من قال المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين ثم بين تعالى أنه لم يجعل الرسل قبله جسداً لا يأكلون الطعام وفيه أبحاث
البحث الأول قوله لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ صفة جسد والمعنى وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين
البحث الثاني وحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي ضرب من الأجساد
البحث الثالث أنهم كانوا يقولون مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ( الفرقان 7 ) فأجاب الله بقوله وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ فبين تعالى أن هذه عادة الله في الرسل من قبل وأنه لم يجعلهم جسداً لا يأكلون بل جسداً يأكلون الطعام ولا يخلدون في الدنيا بل يموتون كغيرهم ونبه بذلك على أن الذي صاروا به رسلاً غير ذلك وهو ظهور المعجزات على أيديهم وبراءتهم عن الصفات القادحة في التبليغ أما قوله تعالى ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فقال صاحب ( الكشاف ) هو مثل قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) والأصل في الوعد ومن قومه ومنه صدقوهم المقال وَمَن نَّشَاء هم المؤمنون قال المفسرون المراد منه أنه تقدم وعده جل جلاله بأنه إنما يهلك بعذاب الاستئصال من كذب الرسل دون نفس الرسل ودون من صدق بهم وجعل الوفاء بما وعد صدقاً من حيث يكشف عن الصدق ومعنى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ أي بعذاب الاستئصال وليس المراد عذاب الآخرة لأنه إخبار عما مضى وتقدم ثم بين تعالى بقوله لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ عظيم نعمته عليهم بالقرآن في الدين والدنيا فلذلك قال فيه ذِكْرُكُمْ وفيه ثلاثة أوجه أحدها ذكركم شرفكم وصيتكم كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وثانيها المراد فيه تذكرة لكم لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب ويكون المراد بالذكر الوعد والوعيد كما قال وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 55 ) وثالثها المراد ذكر دينكم ما يلزم وما لا يلزم لتفوزوا بالجنة إذا تمسكتم به وكل ذلك محتمل وقوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ كالبعث على التدبر في القرآن لأنهم كانوا عقلاء لأن الخوض من لوازم الغفلة والتدبر دافع لذلك الخوض ودفع الضرر عن النفس من لوازم الفعل فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ كَانَتْ ظَالِمَة ً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الاعتراضات وكانت تلك الاعتراضات ظاهرة السقوط لأن شرائط الإعجاز لما تمت في القرآن ظهر حينئذ لكل عاقل كونه معجزاً وعند ذلك ظهر أن اشتغالهم بإيراد تلك الاعتراضات كان لأجل حب الدنيا وحب الرياسة فيها فبالغ سبحانه في زجرهم عن ذلك فقال وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ قال صاحب ( الكشاف ) القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف القصم وذكر القرية وأنها ظالمة وأراد أهلها توسعاً لدلالة العقل على أنها لا تكون ظالمة ولا مكلفة ولدلالة قوله تعالى وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ فالمعنى أهلكنا قوماً وأنشأنا قوماً آخرين وقال فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إلى قوله قَالُواْ يأَبَانَا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وكل ذلك لا يليق إلا بأهلها الذين كلفوا بتصديق الرسل فكذبوهم ولولا هذه الدلائل لما جاز منه سبحانه ذكر المجاز لأنه يكون ذلك موهماً للكذب واختلفوا في هذا الإهلاك فقال ابن عباس المراد منه القتل بالسيوف والمراد بالقرية حضور وهي وسحول قريتان باليمن ينسب إليهما الثياب وفي الحديث ( كفن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثوبين سحوليين ) وروى ( حضوريين بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم ) وروى ( أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء ) فندموا واعترفوا بالخطأ وقال الحسن المراد عذاب الاستئصال واعلم أن هذا أقرب لأن إضافة ذلك إلى الله تعالى أقرب من إضافته إلى القاتل ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله تعالى بهذه الآية وأما قوله تعالى فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم والركض ضرب الدابة بالرجل ومنه قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين أما قوله لاَ تَرْكُضُواْ قال صاحب ( الكشاف ) القول محذوف فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم أما قوله وَارْجِعُواْ إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ فهو تهكم بهم وتوبيخ ثم فيه وجوه أحدها أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة وثانيها ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين وثالثها تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم ورابعها يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ أما قوله تعالى فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ فَقَالَ لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم
والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فإن قلت لم سميت دعوى قلت لأنهم كانوا دعوا بالويل فَقَالُواْ يالَيْتَنَا أي يا ويل احضر فهذا وقتك وتلك مرفوع أو منصوب إسماً أو خبراً وكذلك كَانَ دَعْوَاهُمْ قال المفسرون لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) أما قوله حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم كما تقول جعلناهم رماداً أي مثل الرماد فإن قيل كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل قلت حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد وخمدوا كما تخمد النار
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
اعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما بين إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم اتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما تسوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للهو واللعب وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية أما الدينية فليتفكر المتفكرون فيها على ما قال تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى وهذا كقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) وقوله مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) والثاني أن الغرض منه تقرير نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والرد على منكريه لأنه أظهر المعجزة عليه فإن كان محمد كاذباً كان إظهار المعجزة عليه من باب اللعب وذلك منفي عنه وإن كان صادقاً فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن
المسألة الثانية قال القاضي عبد الجبار دلت الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى إذ لو كان كذلك لكان لاعباً فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب فنفى الاسم الموضوع للفعل يقتضي نفي الفعل والجواب يبطل ذلك بمسألة الداعي عن ما مر غيره مرة أما قوله لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ فاعلم أن قوله لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا معناه من جهة قدرتنا وقيل اللهو الولد بلغة اليمن وقيل المرأة وقيل من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس رداً لمن قال بولادة المسيح وعزيز فأما قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فاعلم أن قوله بَلِ اضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا
أن نتخذ اللهو واللعب بل من عادتنا وموجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو فدمغه فأما قوله تعالى وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ يعني من تمسك بتكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام إلى غير ذلك من الأباطيل وهو الذي عناه بقوله مِمَّا تَصِفُونَ
وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما نفى اللعب عن نفسه ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ونفي الحاجة لا يصح إلا بالقدرة التامة لا جرم عقب تلك الآية بقوله وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة الثاني وهو الأقرب أنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الإنقياد بين في هذه الآية أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه
المسألة الثانية قوله وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ معناه أن كل المكلفين في السماء والأرض فهم عبيده وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم فيجب على الكل طاعته والانقياد لحكمه
المسألة الثالثة دلالة قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه قد تقدم بيانها في سورة البقرة
المسألة الرابعة قوله وَمَنْ عِندَهُ المراد بهم الملائكة بإجماع الأمة ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ وهذا لا يليق بالبشر وهذه العندية عندية الشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة فكأنه تعالى قال الملائكة مع كمال شرفهم ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن طاعته فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته
المسألة الخامسة قال الزجاج ولا يستحسرون ولا يتعبون ولا يعيون قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت الاستحسار مبالغة في الحسور فكأن الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور قلت في الأستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فيما يفعلون أما قوله تعالى يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ فالمعنى أن تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا يتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ثم قال جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضاً قال أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( البقرة 161 )
فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح أجاب كعب الأحبار فقال التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذا اشتغالهم بالتبسيح لا يمنعهم من سائر الأعمال فإن قيل هذا القياس غير صحيح لأن الإشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما التسبيح واللعن فهمنا من جنس الكلام فاجتماعهما محال والجواب أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون الله وببعضها يلعنون أعداء الله أو يقال معنى قوله لاَ يَفْتُرُونَ أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن إفلانا يواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبداً مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَة ً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى ههنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالاً وجواباً وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد
أما قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُواْ الِهَة ً مّنَ الاْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أم ههنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة قد أذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها والمنكر هو اتخاذهم آلهم من الأرض ينشرون الموتى ولعمري إن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات فإن قلت كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وبأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث ويقولون مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة ألبتة قلت لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها ولا بد للعبادة من فائدة هي الثواب فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة
المسألة الثانية قوله مّنَ الاْرْضِ كقولك فلان من مكة أو من المدينة تريد مكي أو مدني إذ معنى
نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض
المسألة الثالثة النكتة في هُمْ يُنشِرُونَ معنى الخصوصية كأنه قيل أم اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم
المسألة الرابعة قرأ الحسن ( ينشرون ) وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها
أما قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال أهل النحو إلا ههنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الإستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد وذلك باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه
المسألة الثانية قال المتكلمون القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً إنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس فلو امتنعا معاً لوجدا معاً وذلك محال أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك محال أيضاً لوجهين أحدهما أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا في القدرة وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح وثانيهما أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادراً والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً والعجز نقص وهو على الله محال فإن قيل الفساد إنما يلزم عند اختلافهما في الإرادة وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما في الإرادة بل أقصى ما تدعونه أن اختلافهما في الإرادة ممكن فإذا كان الفساد مبنياً على الإختلاف في الإرادة وهذا الإختلاف ممكن والمبني على الممكن ممكن فكان الفساد ممكناً لا واقعاً فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد قلنا الجواب من وجهين أحدهما لعله سبحانه أجرى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر من حيث إن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والثاني وهو الأقوى أن نبين لزوم الفساد لا من الوجه الذي ذكرناه بل من وجه آخر فنقول لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدّورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما
جميعاً فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً وذلك محال وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد فنقول القول بوجود الإلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحد منهما وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع ألبتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعاً أو نقول لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات فإن قلت لم لا يجوز أن يتفقا على الشيء الواحد ولا يلزم الفساد لأن الفساد إنما يلزم لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو وهذا اختلاف أما إذا أراد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما بعينه فهناك لا يلزم وقوع مخلوق بين خالقين قلت كونه موجداً له إما أن يكون نفس القدرة والإرادة أو نفس ذلك الأثر أو أمراً ثالثاً فإن كان الأول لزم الإشتراك في القدرة والإرادة والاشتراك في الموجد وإن كان الثاني فليس وقوع ذلك الأثر بقدرة أحدهما وإرادته أولى من وقوعه بقدرة الثاني لأن لكل واحد منهما إرادة مستقلة بالتأثير وإن كان الثالث وهو أن يكون الموجد له أمراً ثالثاً فذلك الثالث إن كان قديماً استحال كونه متعلق الإرادة وإن كان حادثاً فهو نفس الأثر ويصير هذا القسم هو القسم الثاني الذي ذكرناه واعلم أنك لما وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل وحدانية الله تعالى بل وجود كل واحد من الجواهر والأعراض دليل تام على التوحيد من الوجه الذي بيناه وهذه الدلالة قد ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه واعلم أن ههنا أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى أحدها وهو الأقوى أن يقال لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتيهما فلا بد وأن يشتركا في الوجود ولا بد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بنفسه وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً مما به يشارك الآخر ومما به امتاز عنه وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف فإذن واجب الوجود ليس إلا الواحد وكل ما عداه فهو ممكن مفتقر إليه وكل مفتقر في وجوده إلى الغير فهو محدث فكل ما سوى الله تعالى محدث ويمكن جعل هذه الدلالة تفسيراً لهذه الآية لأنا إنما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات وحينئذ يلزم الفساد فثبت أنه يلزم من وجود إلهين وقوع الفساد في كل العالم وثانيها أنا لو قدرنا إلهين لوجب أن يكون كل واحد منهما مشاركاً للآخر في الإلهية ولا بد وأن يتميز كل واحد منهما عن الآخر بأمر ما وإلا لما حصل التعدد فما به الممايزة إما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خالياً عن الكمال فيكون ناقصاً والناقص لا
يكون إلهاً وإن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفاً بما لايكون صفة كمال فيكون ناقصاً ويمكن أن يقال ما به الممايزة إن كان معتبراً في تحقق الإلهية فالخالي عنه لا يكون إلهاً وإن لم يكن معتبراً في الإلهية لم يكن الاتصاف به واجباً فيفتقر إلى المخصص فالموصوف به مفتقر ومحتاج وثالثها أن يقال لو فرضنا إلهين لكان لا بد وأن يكونا بحيث يتمكن الغير من التمييز بينهما لكن الامتياز في عقولنا لا يحصل إلا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب والإمكان وكل ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الإمتياز ورابعها أن أحد الإلهين إما أن يكون كافياً في تدبير العالم أو لا يكون فإن كان كافياً كان الثاني ضائعاً غير محتاج إليه وذلك نقص والناقص لا يكون إلهاً وخامسها أن العقل يقتضي احتياج المحدث إلى الفاعل ولا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبراً لكل العالم فأما ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال وسادسها أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يخص نفسه بدليل يدل عليه ولا يدل على غيره أو لا يقدر عليه والأول محال لأن دليل الصانع ليس إلا بالمحدثات وليس في حدوث المحدثات ما يدل على تعيين أحدهما دون الثاني والتالي محال لأنه يفضي إلى كونه عاجزاً عن تعريف نفسه على التعيين والعاجز لا يكون إلهاً وسابعها أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلاً وإن لم يقدر لزم كونه عاجزاً وثامنها لو قدرنا إلهين لكان مجموع قدرتيهما بينهما أقوى من قدرة كل واحد منهما وحده فيكون كل واحد من القدرتين متناهياً والمجموع ضعف المتناهي فيكون الكل منتاهياً وتاسعاً العدد ناقص لاحتياجه إلى الواحد والواحد الذي يوجد من جنسه عدد ناقص ناقص لأن العدد أزيد منه والناقص لا يكون إلهاً فالإله واحد لا محالة وعاشرها أنا لو فرضنا معدوماً ممكن الوجود ثم قدرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً وإن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر يكون إلهاً وإن قدرا جميعاً فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجاً إلى إعانة الآخر وإن قدر كل واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادراً عليه وهو محال لأن إيجاد الموجود محال وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول قد أزال قدرة الثاني وعجزه فيكون مقهوراً تحت تصرفه فلا يكون إلهاً فإن قيل الواجد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز قلنا الواحد إذا أوجده فقد نفذت قدرته فنفاذ القدرة لا يكون عجزاً أما الشريك فإنه لما نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة ألبتة بل زالت قدرته بسبب قدرة الأول فيكون تعجيزاً الحادي عشر أن نقرر هذه الدلالة على وجه آخر وهو أن نعين جسماً وتقول هل يقدر كل واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلاً عن السكون وبالعكس فإن لم يقدر كان عاجزاً وإن قدر فنسوق الدلالة إلى أن نقول إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون فالأول أزال قدرة الثاني وعجزه فلا يكون إلهاً وهذان الوجهان يفيدان العجز نظراً إلى قدرتيهما والدلالة الأولى إنما تفيد العجز بالنظر إلى أرادتيهما وثاني عشرها أنهما لما كانا عالمين بجميع المعلومات كان علم كل واحد منهما متعلقاً بعين معلوم الآخر فوجب تماثل علميهما والذات القابلة لأحد المثلين قابلة للمثل الآخر فاختصاص كل واحد منهما بتلك الصفة مع جواز اتصافه بصفة الآخر على البدل يستدعي مخصصاً يخصص كل واحد منهما بعلمه وقدرته فيكون كل واحد منهما عبداً فقيراً ناقصاً وثالث عشرها أن الشركة عيب ونقص في الشاهد والفردانية والتوحد صفة كمال ونرى الملوك يكرهون الشركة في الملك الحقير المختصر أشد الكراهية ونرى أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة عن الشركة أشد فما ظنك بملك الله عز وجل وملكوته فلو أراد أحدهما استخلاص الملك لنفسه فإن قدر عليه كان المغلوب فقيراً عاجزاً فلا يكون إلهاً وإن لم يقدر عليه كان في أشد الغم والكراهية فلا يكون إلهاً ورابع عشرها أنا لو قدرنا إلهين لكان إما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كل واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر والآخر يستغني عنه فإن كان الأول كان كل واحد منهما ناقصاً لأن المحتاج ناقص وإن كان الثاني كان كل واحد منهما مستغنياً عنه والمستغني عنه ناقص ألا ترى أن البلد إذا كان له رئيس والناس يحصلون مصالح البلد
من غير رجوع منهم إليه ومن غير التفات منهم إليه عد ذلك الرئيس ناقصاً فالإله هو الذي يستغني به ولا يستغنى عنه وإن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس كان المحتاج ناقصاً والمحتاج إليه هو الإله واعلم أن هذه الوجوه ظنية إقناعية والاعتماد على الوجوه المتقدمة أما الدلائل السمعية فمن وجوه أحدها قوله تعالى هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ( الحديد 3 ) فالأول هو الفرد السابق ولذلك لو قال أول عبد اشتريته فهو حر فلو اشترى أولا عبدين لم يحنث لأن شرط الأول أن يكون فرداً وهذا ليس بفرد فلو اشترى بعد ذلك واحداً لم يحنث أيضاً لأن شرط الفرد أن يكون سابقاً وهذا ليس بسابق فلما وصف الله تعالى نفسه بكونه أولاً وجب أن يكون فرداً سابقاً فوجب أن لا يكون له شريك وثانيها قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) فالنص يقتضي أن لا يكون له شريك وثالثها أن الله تعالى صرح بكلمة لاَ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) في سبعة وثلاثين موضعاً من كتابه وصرح بالوحدانية في مواضع نحو قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( البقرة 163 ) وقوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) وكل ذلك صريح في الباب ورابعها قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ حكم بهلاك كل ما سواه ومن عدم بعد وجوده لا يكون قديماً ومن لا يكون قديماً لا يكون إلهاً وخامسها قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا وهو كقوله وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( المؤمنون 91 ) وقوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الإسراء 42 ) وسادسها قوله وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 17 ) وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ ( يونس 107 ) وقال في آية أخرى قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة ٍ هَلْ ( الزمر 38 ) وسابعها قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ( الأنعام 46 ) وهذا الحصر يدل على نفي الشريك وثامنها قوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) فلو وجد الشريك لم يكن خالقاً فلم يكن فيه فائدة واعلم أن كل مسألة لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فإنه يمكن إثباتها بالسمع والوحدانية لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فلا جرم يمكن إثباتها بالدلائل السمعية واعلم أن من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة تقول بإلهيتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم قوله أَمِ اتَّخَذُواْ الِهَة ً مّنَ الاْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وبالله التوفيق
أما قوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أنه سبحانه لما أقام الدلالة القاطعة على التوحيد قال بعده فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي هو منزه لأجل هذه الأدلة عن وصفهم بأن معه إلهاً وهذا تنبيه على أن الإشتغال بالتسبيح إنما ينفع بعد إقامة الدلالة على كونه تعالى منزهاً وعلى أن طريقة التقليد طريقة مهجورة
المسألة الثانية لقائل أن يقول أي فائدة لقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ولمَ لم يكتف بقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وجوابه أن هذه المناظرة إنما وقعت مع عبدة الأصنام إلا أن الدليل الذي ذكره الله تعالى يعم جميع المخالفين ثم إنه تعالى بعد ذكر الدليل العام نبه
على نكتة خاصة بعبدة الأصنام وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين ومدبر الخلائق من النور والظلمة واللوح والقلم والذات والصفات والجماد والنبات وأنواع الحيوانات أجمعين
أما قوله تعالى لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فاعلم أنه مشتمل على بحثين أحدهما أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت والثاني أن الخلائق مسؤولون عن أفعالهم أما البحث الأول ففيه مسألتان
المسألة الأولى وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكاً ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا رأينا في العالم خيراً وشراً ولذة وألماً وحياة وموتاً وصحة وسقماً وغنى وفقراً وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشريراً معاً فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً للخير والآخر فاعلاً للشر ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى وخص ذلك بالموت والألم والفقر فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الإبتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم
المسألة الثانية في الدلالة على أنه سبحانه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه أحدها أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلا بد في قطع التسلسل من الإنتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته وكما أن ذاته منزهة عن الإفتقار إلى المؤثر والعلة وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الإستناد إلى الموجب والمؤثر وثانيها أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلاً وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى أيضاً فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال وثالثها أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل ورابعها أن من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكناً منه فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً والعجز على الله تعالى محال أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وكل ذلك في حق الله تعالى محال وخامسها أنه لو كان فعله معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائداً إلى العباد ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل
شيء وسادسها هو أنه لو فعل فعلاً لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضاً وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك محال فإن قلت وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم قلنا تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية ويعود التقسيم الأول وسابعها وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك وثامنها وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسؤول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضاً محال لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنياً عنها ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالاً أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا
أما البحث الثاني وهو قوله تعالى وَهُمْ يُسْئَلُونَ فهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف واحتجوا على قولهم بوجوه أحدها قالوا التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف بالترجيح تكليفاً بالمحال والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوع ممتنع الوقوع والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق وثانيها قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثاً وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق وثالثها قالوا سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً وهو محال وإن عادت إلى العبد فهو محال لأن سؤاله لما كان سبباً لتوجيه العقاب عليه لم يكن هذا نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرراً عائداً إليه وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثاً وهو غير جائز على الحكيم بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم والجواب عنها من وجهين الأول أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض والثاني وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى لم
كلفت عبادك إلا أن قد بينا أنه سبحانه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فظهر بهذا أن قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كالأصل والقاعدة لقوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ وإن كان متأكداً بقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) وبقوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) إلا أنه يناقضه قوله تُكَذّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) والجواب أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعاً للتناقض
المسألة الثانية قالت المعتزلة فيه وجوه أحدها أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل بل كان يذم بما حقه الذم كما يحمد بما حقه المدح وثانيها أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه وثالثها أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم ورابعها أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم وخامسها أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل وقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 ) ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى وسادسها قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى ما حملك على معصيتي فيقول على مذهب الجبر يا رب إنك خلقتني كافراً وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقاً وقال الله تعالى هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له ومن يدعه يقول هذا الكلام أو يحتج فقال ثمامة أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده وهذا نهاية الانقطاع والجواب عن هذه الوجوه أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه
وأما قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فاعلم أنه سبحانه كرر قوله أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً استعظاماً لكفرهم أي وصفتم الله بأن له شريكاً فهاتوا برهانكم على ذلك أما من جهة العقل أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولاً وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانياً أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثاً
أما قوله تعالى هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره وفيه أقوال أحدها هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي وَهَاذَا ذِكْرٌ مِّن قَبْلِى أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف وليس في شيء منها أنى أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا إِنّى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ كما قال بعد هذا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ وهذا قول ابن عباس واختيار القفال والزجاج والثاني وهو قول سعيد ابن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله وَذِكْرُ مَن قَبْلِى صفة للقرآن فإنه كما يشتمل على أحوال هذه الأمة فكذا يشتمل على أحوال الأمم
الماضية الثالث ما ذكره القفال وهو أن المعنى قل لهم هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على بيان أحوال من معي من المخالفين والموافقين وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين فاختاروا لأنفسكم كأن الغرض منه التهديد
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ( البلد 14 15 ) وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( الروم 2 3 ) وقرىء من معي ومن قبلي بكسر ميم من على ترك الإضافة في هذه القراءة وإدخال الجار على مع غريب والعذر فيه أنه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد فدخل من عليه كما يدخل على إخواته وقرىء ذكر معي وذكر قبلي
وأما قوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد وطالبهم بالدلالة على ما ادعوه وبين أنه لا دليل لهم ألبتة عليه لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو عدم العلم ثم ترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الْحَقّ بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ فاعلم أن يوحى ونوحى قراءتان مشهورتان وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد
وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً
( الصافت 158 ) ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه ثم لا بد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية ولذلك نزه نفسه عنه
أما قوله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرىء مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ من سابقته فسبقته أسبقه والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً كذلك مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به
ثم إنه سبحانه ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات علموا كونه عالماً بظواهرهم هم وبواطنهم فكان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية وذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها قال ابن عباس يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم وثانيها ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا وقيل على عكس ذلك وثالثها قال مقاتل يعلم ما كان قبل أن يخلقهم وما يكون بعد خلقهم وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم وإذا كانت هذه حالتهم فكيف يستحقون العبادة وكيف يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له ثم كشف عن هذا المعنى فقال وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى أي لمن هو عند الله مرضي وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي من خشيتهم منه فأضيف المصدر إلى المفعول ومشفقون خائفون ولا يأمنون مكره وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله تعالى ) ونظيره قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( النساء 38 )
أما قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وههنا مسائل
المسألة الأولى هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه أحدها أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولاً ولا يعملون عملاً إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد وثانيها أنه سبحانه لما كان عالماً بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) وثالثها أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلهاً أو ولداً للإله لا يكون كذلك ورابعها أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد وخامسها نبه تعالى بقوله وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بقوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم والجواب قال ابن عباس رضي الله
عنهما والضحاك إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى أي لمن قال لا إله إلا الله واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أمور ثلاثة أحدها تدل على كون الملائكة مكلفين من حيث قال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ومن حيث الوعيد وثانيها تدل أيضاً على أن الملائكة معصومون لأنه قال وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وثالثها قال القاضي عبد الجبار قوله كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة والجواب أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَى ْءٍ حَى ٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع وهذه الدلائل أيضاً دالة على كونه منزهاً عن الشريك لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ووجود الإلهين يقتضي وقوع الفساد فهذه الدلائل تدل من جهة على التوحيد فتكون كالتوكيد لما تقدم وفيها أيضاً رد على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات الشريفة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا ستة أنواع من الدلائل
النوع الأول قوله أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ألم ير بغير الواو والباقون بالواو وإدخال الواو يدل على العطف لهذا القول على أمر تقدمه قال صاحب ( الكشاف ) قرىء رتقاً بفتح التاء وكلاهما في معنى المفعول كالخلق والنفض
أي كانتا مرتوقتين فإن قلت الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر فما بال الرتق قلت هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئاً رتقاً
المسألة الثانية لقائل أن يقول المراد من الرؤية في قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إما الرؤية وإما العلم والأول مشكل أما أولاً فلأن القوم ما رأوهما كذلك البتة وأما ثانياً فلقوله سبحانه وتعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الكهف 51 ) وأما العلم فمشكل لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا السمع والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال والجواب المراد من الرؤية هو العلم وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه أحدها أنا نثبت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد وثانياً أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً وثالثها أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينها وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك
المسألة الثالثة إنما قال كانتا رتقاً ولم يقل كن رتقاً لأن السموات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس قال الأخفش السموات نوع والأرض نوع ومثله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين ومرت بنا غنمان أسودان لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم
المسألة الرابعة الرتق في اللغة السد يقال رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين قال الزجاج الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق قال المفضل إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الأنبياء 8 ) لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق
المسألة الخامسة اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال أحدها وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية قال كعب خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقهما بها وثانيها وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتفعة فجعلت سبع سموات وكذلك الأرضون وثالثها وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر ونظيره قوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ( الطارق 11 12 ) ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا فإن قيل هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل
من سماء واحدة وهي سماء الدنيا قلنا إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء كما يقال ثوب أخلاق وبرمة أعشار واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار ورابعها قول أبي مسلم الأصفهاني يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشورى 11 ) وكقوله قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ ( الأنبياء 56 ) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود وخامسها أن الليل سابق على النهار لقوله تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( يس 37 ) وكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر فإن قيل فأي الأقاويل أليق بالظاهر قلنا الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحاً ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني وهو أن كل واحد منهما كان رتقاً ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعاً ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج ففتقهما لينزل المطر من السماء ويظهر النبات على الأرض
المسألة السادسة دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقاً لما فيه من المصلحة للملائكة ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقاً لما فيه من منافع العباد
النوع الثاني من الدلائل قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء ( النور 45 ) أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه ومن هذا نحو من في قوله عليه السلام ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) وقرىء حياً وهو المفعول الثاني
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان وقد قال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى ( المائدة 110 ) وقال في حق آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) والجواب اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك
المسألة الثالثة اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله كُلَّ شَى ْء حَى ّ الحيوان فقط وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار نامياً وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر وهذا
القول أليق بالمعنى المقصود كأنه تعالى قال ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حياً قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله تعالى كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) أما قوله تعالى أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ فالمراد أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ويتركوا طريقة الشرك
النوع الثالث قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن تميد بهم كراهة أن تميد بهم أو لئلا تميد بهم فحذف لا واللام الأولى وإنما جاز حذف لا لعدم الالتباس كما ترى ذلك في قوله لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ
المسألة الثانية الرواسي الجبال والراسي هو الداخل في الأرض
المسألة الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفىء بأهلها كما تنكفىء السفينة لأنها بسطت على الماء فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال
النوع الرابع قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الفج الطريق الواسع فإن قلت في الفجاج معنى الوصف فمالها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قلت لم تقدم وهي صفة ولكنها جعلت حالاً كقوله لعزة موحشاً طلل قديم
والفرق من جهة المعنى أن قوله سبلاً فجاجاً إعلام بأنه سبحانه جعل فيها طرقاً واسعة وأما قوله فِجَاجاً سُبُلاً فهو إعلام بأنه سبحانه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى
المسألة الثانية في قوله فِيهَا قولان أحدهما أنها عائدة إلى الجبال أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجاً سبلاً أي طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً الثاني أنها عائدة إلى الأرض أي وجعلنا في الأرض فجاجاً وهي المسالك والطرق وهو قول الكلبي
المسألة الثالثة قوله لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ معناه لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى
المسألة الرابعة في يهتدون قولان الأول ليهتدوا إلى البلاد والثاني ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال قالت المعتزلة وهذا التأويل يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء والكلام عليه قد تقدم وفيه قول ثالث وهو أن الإهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في مفهوم واحد وهو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ تكون الآية متناولة للأمرين ولا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً
النوع الخامس قوله تعالى وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى سمى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت
المسألة الثانية في المحفوظ قولان أحدهما أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( الحج 65 ) وقال وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالاْرْضُ بِأَمْرِهِ ( الروم 25 ) وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) وقال وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ( البقرة 255 ) الثاني محفوظاً من الشياطين قال تعالى وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ( الحجر 17 ) ثم ههنا قولان أحدهما أنه محفوظ بالملائكة من الشياطين والثاني أنه محفوظ بالنجوم من الشياطين والقول الأول أقوى لأن حمل الآيات عليه مما يزيد هذه النعمة عظماً لأنه سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه على المكلفين بخلاف القول الثاني لأنه لا يخاف على السماء من استراق سمع الجن
المسألة الثالثة قوله تعالى وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ معناه عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر في حركاتها وكيفية حركاتها وجهات حركاتها ومطالعها ومغاربها واتصالات بعضها ببعض وانفصالاتها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة
المسألة الرابعة قرىء عن آيتها على التوحيد والمراد الجنس أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمرها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض بأمطارها وهم عن كونها آية بينة على وجود الخالق ووحدانيته معرضون
النوع السادس قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه لما قال وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ فصل تلك الآيات ههنا لأنه تعالى لو خلق السماء والأرض ولم يخلق الشمس والقمر ليظهر بهما الليل والنهار ويظهر بهما من المنافع بتعاقب الحر والبرد لم تتكامل نعم الله تعالى على عباده بل إنما يكون ذلك بسبب حركاتها في أفلاكها فلهذا قال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وتقريره أن نقول قد ثبت بالأرصاد أن للكواكب حركات مختلفة فمنها حركة تشملها بأسرها آخذة من المشرق إلى المغرب وهي حركة الشمس اليومية ثم قال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة وههنا حركة أخرى من المغرب إلى المشرق قالوا وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة واستدلوا عليها بأنا وجدنا الكواكب السيارة كلما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة فإنه بعد ذلك يتقدمه نحو المشرق وهذا في القمر ظاهر جداً فإنه يظهر بعد الإجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها على قريب من نصف الشهر وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقته في ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي وتنكسف تلك الكواكب عنه بطرفه الغربي فعرفنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق وكذلك وجدنا للكواكب الثابتة حركة بطيئة على توالي البروج فعرفنا أن لها حركة من المغرب إلى المشرق هذا ما قالوه ونحن خالفناهم فيه وقلنا إن ذلك محال لأن الشمس مثلاً لو كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ولا شك أنها متحركة بسبب الحركة اليومية من المغرب إلى المشرق لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة احدة وذلك محال لأن الحركة إلى الجهة تقتضي حصول
المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال فإن قيل لم لا يجوز أن يقال الشمس حال حركتها إلى الجانب الشرقي تنقطع حركتها إلى الجانب الغربي وبالعكس وأيضاً فما ذكرتموه ينتقض بحركة الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها تتحرك إلى خلاف ذلك الجانب قلنا أما الأول فلا يستقيم عل أصولكم لأن حركات الأفلاك مصونة عن الانقطاع عندكم وأما الثاني فهو مثال محتمل وما ذكرناه برهان قاطع فلا يتعارضان أما الذي احتجوا به على أن للكواكب حركة من المغرب إلى المشرق فهو ضعيف فإنه يقال لم لا يجوز أن يقال إن جميع الكواكب متحركة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض فيتخلف بعضها عن بعض بسبب ذلك التخلف فيظن أنها تتحرك إلى خلاف تلك الجهة مثلاً الفلك الأعظم استدارته من أول اليوم الأول إلى أول اليوم الثاني دورة تامة وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إلى أول اليوم الثاني دورة تامة إلا مقدار ثانية فيظن أن فلك الثوابت تحرك من الجهة الأخرى مقدار ثانية ولا يكون كذلك بل ذلك لأنه تخلف بمقدار ثانية وعلى هذا التقدير فجميع الجهات شرقية وأسرعها الحركة اليومية ثم يليها في السرعة فلك الثوابت ثم يليها زحل وهكذا إلى أن ينتهي إلى فلك القمر فهو أبطأ الأفلاك حركة وهذا الذي قلناه مع ما يشهد له البرهان المذكور فهو أقرب إلى ترتيب الوجود فإن على هذا التقدير تكون نهاية الحركة الفلك المحيط وهو الفلك الأعظم ونهاية السكون الجرم الذي هو في غاية البعد وهو الأرض ثم إن كل ما كان أقرب إلى الفلك المحيط كان أسرع حركة وما كان منه أبعد كان أبطأ فهذا ما نقوله في حركات الأفلاك في أطوالها وأما حركاتها في عروضها فظاهرة وذلك بسبب اختلاف ميولها إلى الشمال والجنوب إذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب تخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة فإن كانت حارة أفنت الرطوبات فأحالتها كلها إلى النارية وبالجملة فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط المتوسط بينهما على كيفية أخرى فيكون في موضع شتاء دائم ويكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم تكن عودات متتالية وكان الكوكب يتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة والتأثير شديد الإفراط وكان يعرض قريباً مما لو لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت وأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم ينتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة ويبقى في كل جهة برهة تم بذلك تأثيره بحيث يبقى مصوناً عن طرفي الإفراط والتفريط وبالجملة فالعقول لا تقف إلا على القليل من أسرار المخلوقات فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية
المسألة الثانية أنه لا يجوز أن يقول وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولاً فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها والله أعلم
المسألة الثالثة الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك وقال الأكثرون بل هي أجسام تدور النجوم