كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
القول الثاني أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي ثم ههنا وجوه الأول أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت وذلك لأن ملاقاة الرب مسبب عن الموت فأطلق المسبب والمراد منه السبب وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات إنه لقي ربه إذ ثبت هذا فنقول وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون الموت في كل لحظة وذلك لأن كل من كان متوقعا للموت في كل لحظة فإنه لا يفارق قلبه الخشوع فهم يبادرون إلى التوبة لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة مع خشوعه لا بد في كل حال من أن لا يأمن تقصيرا جرى منه فيلزمه التلافي فإذا كان حاله ما ذكرنا كان ذلك داعيا له إلى المبادرة إلى التوبة الثاني أن تفسر ملاقاة ثواب الرب وذلك مظنون لا معلوم فإن الزهد العابد لا يقطع بكونه ملاقيا لثواب الله بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع الثالث المعنى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح بقي هنا مسألتان
المسألة الأولى استدل بعض الأصحاب بقوله ملاقوا ربهم على جواز رؤية الله تعالى وقالت المعتزلة لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية والدليل عليه الآية والخبر والعرف أما الآية فقوله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه الفرقان 68 والمنافق لا يرى ربه وقال ومن يفعل ذلك يلق آثاما الفرقان 68 وقال تعالى في معرض التهديد واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه البقرة 223 فهذا يتناول الكافر والمؤمن والرؤية لا تثبت للكافر فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية وأما الخبر فقوله عليه السلام { من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } وليس المراد رأى الله تعالى لأن ذلك وصف أهل النار وأما العرف فهو قول المسلمين فيمن مات لقي الله ولا يعنون أنه رأى الله عز وجل وأيضا فاللقاء يراد به القرب ممن يلقاه على زجه يزول الحجاب بينهما ولذلك يقول الرجل إذا حجب عن الأمير ما لقيته بعد وإن كان قد رآه وإذا أذن له في الدخول عليه يقول لقيته وإن كان ضريرا ويقال لقي فلان جهدا شديدا ولقيت من فلان الداهية ولاقى فلان حمامه وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية ويدل عليه أيضا قوله تعالى فالتقى الماء على أمر قد قدر القمر 12 وهذا إنما يصح في حق الجسم ولا يصح على الله تعالى
قال الأصحاب اللقاء في أصل اللغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه بمسطحة يقال لقي هذا ذاك إذا ماسه واتصل به ولما كانت الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الإدراك فحيث يمتنع إجراء اللفظ على المماسة وجب حمله على الإدراك لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز فثبت أنه يجب حمله لفظ اللقاء على الإدراك أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصور لدليل يخصه فوجب إجراؤه على الإدراك في البواقي وعلى هذا التقرير زالت السؤالات أما قوله فاعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه التوبة 77 والمنافق لا يرى ربه قلنا فلأجل هذه الضرورة ففي هذا الموضع لما اضطررنا إليه اعتبرناه وأما في قوله تعالى أنهم ملاقوا ربهم لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره ولا في إضمار هذه الزيادة فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله
تعالى لا بحكم الله فإن اشتغلوا بذكر الدلائل العقلية التي تمنع من جواز الرؤية بينا ضعفها وحينئذ يستقيم التمسك بالظاهر من هذا الوجه
المسألة الثانية المراد من الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى حيث يكون لهم مالك سواه وأن لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا غيره كما كانوا كذلك في أول الخلق فجعل مصيرهم إلى مثل ما كانوا عليه أولا رجوعا إلى الله من حيث كانوا في سائر أيام حياتهم قد يملك غيره الحكم عليهم ويملك أن يضرهم وينفعهم وإن كان الله تعالى مالكا لهم في جميع أحوالهم وقد احتج بهذه الآية فريقان من المبطلين الأول المجسمة فإنهم قالوا الرجوع إلى غير الجسم محال فلما ثبت الرجوع إلى الله وجب كون الله جسما الثاني التناسخية فإنهم قالوا الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت هذه الآية على كون الأرواح قديمة وأنها كانت موجودة في عالم الروحانيات والجواب عنها قد حصل بناء على ما تقدم
قوله تبارك وتعالى
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
اعلم أنه تعالى إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة عليهم وتحذيرا من ترك اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قرنه بالوعيد وهو قوله وتقوا يوما البقرة 48 كأنه قال إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل أما قوله وأني فضلتكم على العالمين ففيه سؤال وهو أنه يلزم أنم يكونوا أفضل من محمد عليه السلام وذلك باطل بالاتفاق والجواب عنه من وجوه
أحدها قال قوم العالم عبارة عن الجمع الكثير من الناس كقولك رأيت عالما من الناس والمراد منه الكثير لا الكل وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل فكل ما كان دليلا على الله تعالى كان عالما فكان من العلم وهذا تحقيق قول المتكلمين العالم كل موجود سوى الله وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ ببعض المحدثات
ثانيها المراد فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه لأن شرط العالم أن يكون موجودا والشيء حال عدمه لا يكون موجودا فالشيء حال عدمه لا يكون من العالمين وأن محمد عليه السلام ما كان موجودا في ذلك الوقت فما كان ذلك الوقت من العالمين فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك الوقت وهذا هو الجواب أيضا عن قوله تعالى إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحد من العالمين المائدة 20 وقال ولقد أخترناهم على علم على العالمين الدخان 32 وأراد به عالمي ذلك الزمان وإنما كانوا أفضل من غيرهم بما أعطوا من الملك والرسالة والكتب الإلهية
وثالثها أن قوله وأني فضلتكم على العالمين عام في العالمين لكنه مطلق في الفضل والمطلق يكفي في صدقه واحدة فالآية تدل على أن بني إسرائيل فضلوا على العالمين في أمرها وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر وعند ذلك يظهر أنه لا يصلح الاستدلال بقوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين آل عمران 33 على أن الأنبياء أفضل من الملائكة بقي ههنا أبحاث
البحث الأول قال ابن زيد أراد به المؤمنون منهم لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير على ما قال تعالى وجعل منهم القردة والخنازير المائدة 60 وقال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل المائدة 78
البحث الثاني أن جميع ما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد قال الله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الزمر 18 وقال واتبعوا ما أحسن ما أنزل إليكم كم ربكم الزمر 55 وقال لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب يوسف 111 ولذلك روى قتادة قال ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول قد مضى والله بنو إسرائيل وما يغني ما تسمعون عن غيركم
البحث الثالث قال القفال النعمة بكسر النون المنة وما ينعم به الرجل على صاحبه قال تعالى وتلك نعمة تمنها علي الشعراء 22 وأما النعمة بفتح النون فهو ما يتنعم به في العيش قال تعالى ونعمة كانوا فيها فاكهين الدخان 27
البحث الرابع قوله تعالى وأني فضلتكم على العالمين يدل على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله تعالى لا في الدنيا ولا في الدين لأن قوله وأني فضلتكم على العالمين يتناول جميع نعم الدنيا والدين فذلك التفضيل إما أن يكون واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان واجبا لم يجز جعله منة عليهم لأن من أدى واجبا فلا منة له على أحد وإن كان غير واجب مع أنه تعالى خصص البعض بذلك دون البعض فهذا يدل على أن رعاية الأصلح غير واجبة لا في الدنيا ولا في الدين فإن قيل لما خصهم بالنعم العظيمة في الدنيا فهذا يناسب أن يخصهم أيضا بالنعم العظيمة في الآخرة كما قيل إتمام المعروف خير من إبتدائه فلم اردف ذلك التخويف الشديد في قوله واتقوا يوما والجواب لأن المعصية مع عظم النعمة تكون أقبح وأفحش فلهذا حذرهم عنها
البحث الخامس في بيان أن أي فرق العالم أفضل يعني أن ايهم أكثر استجماعا لخصال الخير اعلم أن هذا مما وقع فيه النزاع الشديد بين سكان النواحي فكل طائفة تدعي أنها أفضل وأكثر استجماعا لصفات الكمال ونحن نشير إلى معاقد الكلام في هذا الباب بتوفيق الله تعالى وعونه
وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقي ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعاً فالمراد ما ذكرناه ثم إنه تعالى وصف اليوم بأشد الصفات وأعظمها تهويلاً وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله إما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والأخوان فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة بقي على هذا الترتيب سؤالان
السؤال الأول الفائدة من قوله لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا هي الفائدة من قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فما المقصود من هذا التكرار والجواب المراد من قوله لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقاً آخر إن شاء الله تعالى
السؤال الثاني أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه الجواب أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين ولنذكر الآن تفسير الألفاظ أما قوله تعالى لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا فقال القفال الأصل في جزي هذا عند أهل اللغة قضي ومنه الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي بردة بن يسار ( تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك ) هكذا يرويه أهل العربية ( تجزيك ) بفتح التاء غير مهموز أي تقضي عن أضحيتك وتنوب ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئاً ولا تحمل عنها شيئاً مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي على العاصي ما كان واجباً عليه وقد تقع هذه النيابة في الدنيا كالرجل يقضي عن قريبه وصديقه دينه ويتحمل عنه فأما يوم القيامة فإن قضاء الحقوق إنما يقع فيه من الحسنات روى أبو هريرة قال قال عليه السلام ( رحم الله عبداً كان عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال أو جاه فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات حمل من سيئاته ) قال صاحب الكشاف
و ( شيئاً ) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلاً من الجزاء كقوله تعالى وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( مريم 60 ) ومن قرأ ( لا يجزي ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئاً من الإجزاء وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوماً فإن قيل فأين العائد منها إلى الموصوف قلنا هو محذوف تقديره لا تجزي فيه ومعنى التنكير أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس غيرها شيئاً من الأشياء وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع أما قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ فالشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار الشفيع له شفعاً أي صارا زوجاً واعلم أن الضمير في قوله وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا راجع إلى النفس الثانية العاصية وهي التي لا يؤخذ منها عدل ومعنى لا يقبل منها شفاعة إنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها كما لا تجزي عنها شيئاً أما قوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ أي فدية وأصل الكلمة من معادلة الشيء تقول ما أعدل بفلان أحداً أي لا أرى له نظيراً قال تعالى ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( المائدة 36 ) ونظيره هذه الآية قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا ( المائدة 36 ) وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( آل عمران 91 ) وقال وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( الأنعام 70 )
أما قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فاعلم أن التناصر إنما يكون في الدنيا بالمخالطة والقرابة وقد أخير الله تعالى أنه ليس يومئذ خلة ولا شفاعة وأنه لا أنساب بينهم وإنما المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وقرابته قال القفال والنصر يراد به المعونة كقوله ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) ومنه معنى الإغاثة تقول العرب أرض منصورة أي ممطورة والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها فكأنه أغاث أهلها وقيل في قوله تعالى مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ ( الحج 15 ) أي أن لن يرزقه كما يرزق الغيث البلاد ويسمى الانتقام نصرة وانتصاراً قال تعالى وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأنبياء 77 ) قالوا معناه فانتقمنا له فقوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ يحتمل هذه الوجوه فإنهم يوم القيامة لا يغاثون ويحتمل أنهم إذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من الله وفي الجملة كأن النصر هو دفع الشدائد فأخبر الله تعالى أنه لا دافع هناك من عذابه بقي في الآية مسألتان
المسألة الأولى أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء صار حذراً خائفاً في كل حال والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم
المسألة الثانية أجمعت الأمة على أن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفاعة في الآخرة وحمل على ذلك قوله تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( الإسراء 79 ) وقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) ثم اختلفوا بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون أتكون للمؤمنين المستحقين
للثواب أم تكون لأهل الكبائر المستحقين للعقاب فذهبت المعتزلة على أنها للمستحقين للثواب وتأثير الشفاعة في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه وقال أصحابنا تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار وإن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة واتفقوا على أنها ليست للكفار واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه أحدها هذه الآية قالوا إنها تدل على نفي الشفاعة من ثلاثة أوجه
الأول قوله تعالى لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئاً الثاني قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وهذه نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الشفاعة والثالث قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ولو كان محمد شفيعاً لأحد من العصاة لكان ناصراً له وذلك على خلاف الآية لا يقال الكلام على الآية من وجهين الأول أن اليهود كانوا يزعمون أن آباءهم يشفعون لهم فأيسوا من ذلك فالآية نزلت فيهم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعة مطلقاً إلا أنا أجمعنا على تطرق التخصيص إليه في حق زيادة الثواب لأهل الطاعة فنحن أيضاً نخصه في حق المسلم صاحب الكبيرة بالدلائل التي نذكرها لأنا نجيب عن الأول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعن الثاني أنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية نفي الشفاعة في زيادة المنافع لأنه تعالى حذر من ذلك اليوم بأنه لا تنفع فيه شفاعة وليس يحصل التحذير إذا رجع نفي الشفاعة إلى تحصيل زيادة النفع لأن عدم حصول زيادة النفع ليس فيه خطر ولا ضرر يبين ذلك أنه تعالى لو قال اتقوا يوماً لا أزيد فيه منافع المستحق للثواب بشفاعة أحد لم يحصل بذلك زجر عن المعاصي ولو قال اتقوا يوماً لا أسقط فيه عقاب المستحق للعقاب بشفاعة شفيع كان ذلك زجراً عن المعاصي فثبت أن المقصود من الآية نفي تأثير الشفاعة في إسقاط العقاب لا نفي تأثيرها في زيادة المنافع وثانيها قوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) والظالم هو الآتي بالظلم وذلك يتناول الكافر وغيره لا يقال إنه تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع يطاع ولم ينف شفيعاً يجاب ونحن نقول بموجبه فإنه لا يكون في الآخرة شفيع يطاع لأن المطاع يكون فوق المطيع وليس فوقه تعالى أحد يطيعه الله تعالى لأنا نقول لا يجوز حمل الآية على ما قلتم من وجهين الأول أن العلم بأنه ليس فوقه تعالى أحد يطيعه متفق عليه بين العقلاء أما من أثبته سبحانه فقد اعترف أنه لا يطيع أحداً وأما من نفاه فمع القول بالنفي استحال أن يعتقد فيه كونه مطيعاً لغيره فإذا ثبت هذا كان حمل الآية على ما ذكرتم حملاً لها على معنى لا يفيد الثاني أنه تعالى نفى شفيعاً يطاع والشفيع لا يكون إلا دون المشفوع إليه لأن من فوقه يكون آمراً له وحاكماً عليه ومثله لا يسمى شفيعاً فأفاد قوله ( شفيع ) كونه دون الله تعالى فلم يمكن حمل قوله يُطَاعُ على من فوقه فوجب حمله على أن المراد به أن لا يكون لهم شفيع يجاب وثالثها قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعات بأسرها
ورابعها قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) ولو كان الرسول يشفع للفاسق من أمته لوصفوا بأنهم منصورون لأنه إذا تخلص بسبب شفاعة الرسول عن العذاب فقد بلغ الرسول النهاية في نصرته وخامسها قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) أخبر تعالى عن ملائكته أنهم لا يشفعون لأحد إلا أن يرتضيه الله عز وجل والفاسق ليس بمرتضى عند الله تعالى وإذا لم تشفع الملائكة له فكذا الأنبياء عليهم السلام لأنه لا قائل بالفرق وسادسها قوله تعالى فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت الشفاعة قد تنفعهم وذلك ضد الآية وسابعها أن الأمة مجمعة على أنه ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام ويقولون في جملة أدعيتهم واجعلنا من أهل شفاعته فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر لا يقال لم لا يجوز أن يقال إنهم يرغبون إلى الله تعالى في أن يجعلهم من أهل شفاعته إذا خرجوا مصرين لا أنهم يرغبون في أن يختم لهم مصرين كما أنهم يقولون في دعائهم اجعلنا من التوابين وليسوا يرغبون في أن يذنبوا ثم يتوبوا وإنما يرغبون في أن يوفقهم للتوبة إذا كانوا مذنبين وكلتا الرغبتين مشروطة بشرط وهو تقدم الإصرار وتقدم الذنب لأنا نقول الجواب عنه من وجهين الأول ليس يجب إذا شرطنا شرطاً في قولنا اللهم اجعلنا من التوابين أن نزيد شرطاً في قولنا اجعلنا من أهل الشفاعة الثاني أن الأمة في كلتا الرغبتين إلى الله تعالى يسألون منه تعالى أن يفعل بهم ما يوصلهم إلى المرغوب فيه ففي قولهم اجعلنا من التوابين أن يرغبون في أن يوفقهم للتوبة من الذنوب وفي الثاني يرغبون في أن يفعل بهم ما كانوا عنده أهلاً لشفاعته عليه السلام فلو لم تحصل أهلية الشفاعة إلا بالخروج من الدنيا مصراً على الكبائر لكان سؤال أهلية الشفاعة سؤالاً للاخراج من الدنيا حال الإصرار على الكبائر وذلك غير جائز بالإجماع أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج على الكبائر وذلك غير جائز بالإجماع أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج من الدنيا مستحقاً للثواب كان سؤال أهلية الشفاعة حسناً فظهر الفرق وثانيها أن قوله تعالى وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( الانفطار 14 16 ) يدل على أن كل الفجار يدخلون النار وأنهم لا يغيبون عنها وإذا ثبت أنهم لا يغيبون عنها ثبت أنهم لا يخرجون منها وإذا كان كذلك لم يكن للشفاعة أثر لا في العفو عن العقاب ولا في الإخراج من النار بعد الإدخال فيها وتاسعها قوله تعالى يُدَبّرُ الاْمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ( يونس 3 ) فنفى الشفاعة عمن لم يأذن في شفاعته وكذا قوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) وكذا قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( سبأ 38 ) وإنه تعالى لم يأذن في الشفاعة في حق أصحاب الكبائر لأن هذا الإذن لو عرف لعرف إما بالعقل أو بالنقل أما العقل فلا مجال له فيه وأما النقل فأما بالتواتر أو بالآحاد والآحاد لا مجال له فيه لأن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن والمسألة علمية والتمسك في المطالب العلمية بالدلائل الظنية غير جائز وأما بالتواتر فباطل لأنه لو حصل ذلك لعرفه جمهور المسلمين ولو كان كذلك لما أنكروا هذه
الشفاعة فحيث أطبق الأكثرون على الأنكار علمنا أنه لم يوجد هذا الإذن وعاشرها قوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنى الحادي عشر الأخبار الدالة على أنه لا توجد الشفاعة في حق أصحاب الكبائر وهي أربعة الأول ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام دخل المقبرة فقال ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت اخواننا قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال أرأيت إن كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم فهل لا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فانهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأما فرطهم على الحوض ألا فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقاً فسحقاً ) والاستدلال بهذا الخبر على نفي الشفاعة أنه لو كان شفيعاً لهم لم يكن يقول فسحقاً فسحقاً لأن الشفيع لا يقول ذلك وكيف يجوز أن يكون شفيعاً لهم في الخلاص من العقاب الدائم وهو يمنعهم شربة ماء الثاني روى عبد الرحمن ابن ساباط عن جابر بن عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لكعب بن عجرة ( يا كعب بن عجرة أعيذك بالله من إمارة السفهاء إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفيء الماء النار يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ) والاستدلال بهذا الحديث من ثلاثة أوجه أحدها أنه إذا لم يكن من النبي ولا النبي منه فكيف يشفع له وثانيها قوله ( لم يرد على الحوض ) دليل على نفي الشفاعة لأنه إذا منع من الوصول إلى الرسول حتى لا يرد عليه الحوض فبأن يمتنع الرسول من خلاصه من العقاب أولى وثالثها أن قوله ( لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت ) صريح في أنه لا أثر للشفاعة في حق صاحب الكبيرة الثالث عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) وهذا صريح في المطلوب لأنه إذا لم يملك له من الله شيئاً فليس له في الشفاعة نصيب الرابع عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة ومن كنت خصيمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجرته ) والاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام لما كان خصيماً لهؤلاء استحال أن يكون شفيعاً لهم فهذا مجموع وجوه المعتزلة في هذا الباب أما أصحابنا فقد تمسكوا فيه بوجوه
أحدها قوله سبحانه وتعالى حكاية عن عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وجه الاستدلال أن هذه الشفاعة من عيسى عليه السلام إما أن يقال إنها كانت في حق الكفار أو في حق المسلم المطيع أو في حق المسلم صاحب الصغيرة أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة أو المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة والقسم الأول باطل لأن قوله تعالى وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) لا يليق بالكفار والقسم الثاني والثالث والرابع باطل لأن المسلم المطيع والمسلم صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلاً عند الخصم وإذا كان كذلك لم يكن قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ لائقاً بهم وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال إن هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة وإذا صح القول بهذه الشفاعة في حق عيسى عليه السلام صح القول بها في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة أنه لا قائل بالفرق وثانيها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فقوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 36 ) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلاً للمغفرة بالإجماع ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن غفرانه لهم واجب عقلاً عند الخصم فلا حاجة له إلى الشفاعة فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة ومما يؤكد دلالة هاتين الآيتين على ما قلناه ما رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان أنه عليه الصلاة والسلام تلا قوله تعالى في إبراهيم وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وقول عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ الآية ثم رفع يديه وقال ( اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قال فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) رواه مسلم في الصحيح وثالثها قوله تعالى في سورة مريم يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 85 87 ) فنقول ليس في ظاهر الآية أن المقصود من الآية أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم لأن المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول إلا أنا نقول حمل الآية على الوجه الثاني أولى لأن حملها على الوجه الأول يجري مجرى إيضاح الواضحات فإن كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم ورداً لا يملكون الشفاعة لغيرهم فتعين حملها على الوجه الثاني إذا ثبت هذا فنقول الآية تدل على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند الرحمن عهداً فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد والإسلام فوجب أن يكون داخلاً تحته أقصى ما في الباب أن يقال واليهودي اتخذ عند الرحمن عهداً وهو الإيمان بالله فوجب دخوله تحته لكنا نقول ترك العمل به في حقه لضرورة الإجماع فوجب أن يكون معمولاً به فيما وراءه ورابعها قوله تعالى في صفة الملائكة وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) وجه الاستدلال
به أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى وكل من كان مرتضى عند الله تعالى وجب أن يكون من أهل الشفاعة إنما قلنا إن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى لأنه مرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده وكل من صدق عليه أنه مرتضى عند الله بحسب هذا الوصف يصدق عليه أنه مرتضى عند الله تعالى لأن المرتضى عند الله جزء من مفهوم قولنا مرتضى عند الله بحسب إيمانه ومتى صدق المركب صدق المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون من أهل الشفاعة لقوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى نفي الشفاعة إلا لمن كان مرتضى والاستثناء عن النفي إثبات فوجب أن يكون المرتضى أهلاً لشفاعتهم وإذا ثبت أن صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة أنه لا قائل بالفرق فإن قيل الكلام على هذا الاستدلال من وجهين الأول أن الفاسق ليس بمرتضى فوجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة الملائكة وإذا لم يكن أهلاً لشفاعة الملائكة وجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قلنا إنه ليس بمرتضى لأنه ليس بمرتضى بحسب فسقه وفجوره ومن صدق عليه أنه ليس بمرتضى بحسب فسقه صدق عليه أنه ليس بمرتضى بعين ما ذكرتم من الدليل وإذا ثبت أنه ليس بمرتضى وجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة الملائكة لأن قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى يدل على نفي الشفاعة عن الكل إلا في حق المرتضى فإذا كان صاحب الكبيرة غير مرتضى وجب أن يكون داخلاً في النفي الوجه الثاني أن الاستدلال بالآية إنما يتم لو كان قوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى محمولاً على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أما لو حملناه على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله منه شفاعته فحينئذ لا تدل الآية إلا إذا ثبت أن الله تعالى ارتضى شفاعة صاحب الكبيرة وهذا أول المسألة
والجواب عن الأول أنه ثبت في العلوم المنطقية أن المهملتين لا يتناقضان فقولنا زيد عالم زيد ليس بعالم لا يتناقضان لاحتمال أن يكون المراد زيد عالم بالفقه زيد ليس بعالم بالكلام وإذا ثبت هذا فكذا قولنا صاحب الكبيرة مرتضى صاحب الكبيرة ليس بمرتضى لا يتناقضان لاحتمال أن يقال إنه مرتضى بحسب دينه ليس بمرتضى بحسب فسقه وأيضاً فمتى ثبت أنه مرتضى بحسب إسلامه ثبت مسمى كونه مرتضى وإذا كان المستثنى هو مجرد كونه مرتضى ومجرد كونه مرتضى حاصل عند كونه مرتضى بحسب إيمانه وجب دخوله تحت الاستثناء وخروجه عن المستثنى منه ومتى كان كذلك ثبت أنه من أهل الشفاعة وأما السؤال الثاني فجوابه أن حمل الآية على أن يكون معناها ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أولى من حملها على أن المراد ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله شفاعته لأن على التقدير الأول تفيد الآية الترغيب والتحريض على طلب مرضاة الله عز وجل والاحتراز عن معاصيه وعلى التقدير الثاني لا تفيد الآية ذلك ولا شك أن تفسير كلام الله تعالى بما كان أكثر فائدة أولى وخامسها قوله تعالى في صفة الكفار فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) خصهم بذلك فوجب أن يكون حال المسلم بخلافه بناء على مسألة دليل الخطاب وسادسها قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
( محمد 19 ) دلت الآية على أنه تعالى أمر محمداً بأن يستغفر لكل المؤمنين والمؤمنات وقد بينا في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا كان كذلك ثبت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لهم وإذا كان كذلك ثبت أن الله تعالى قد غفر لهم وإلا لكان الله تعالى قد أمره بالدعاء ليرد دعاءه فيصير ذلك محض التحقير والايذاء وهو غير لائق بالله تعالى ولا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فدل على أن الله تعالى لما أمر محمداً بالاستغفار لكل العصاة فقد استجاب دعاءه وذلك إنما يتم لو غفر لهم ولا معنى للشفاعة إلا هذا وسابعها قوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء 86 ) فالله تعالى أمر الكل بأنهم إذا حياهم أحد بتحية أن يقابلوا تلك التحية بأحسن منها أو يردوها ثم أمرنا بتحية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) الصلاة من الله رحمة ولا شك أن هذا تحية فلما طلبنا من الله الرحمة لمحمد عليه الصلاة والسلام وجب بمقتضى قوله فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن يفعل محمد مثله وهو أن يطلب لكل المسلمين الرحمة من الله تعالى وهذا هو معنى الشفاعة ثم توافقنا على أنه عليه الصلاة والسلام غير مردود الدعاء فوجب أن يقبل الله شفاعته في الكل وهو المطلوب وثامنها قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ( النساء 64 ) وليس في الآية ذكر التوبة والآية تدل على أن الرسول متى استغفر للعصاة والظالمين فإن الله يغفر لهم وهذا يدل على أن شفاعة الرسول في حق أهل الكبائر مقبولة في الدنيا فوجب أن تكون مقبولة في الآخرة لأنه لا قائل بالفرق وتاسعها أجمعنا على وجوب الشفاعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتأثيرها إما أن يكون في زيادة المنافع أو في إسقاط المضار والأول باطل وإلا لكنا شافعين للرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلبنا من الله تعالى أن يزيد في فضله عند ما نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو المطلوب فإن قيل إنما لا يطلق علينا كوننا شافعين لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجهين الأول أن الشفيع لا بد أن يكون أعلى رتبة من المشفوع له ونحن وإن كنا نطلب الخير له عليه الصلاة والسلام ولكن لما كنا أدنى رتبة منه عليه الصلاة والسلام لم يصح أن نوصف بكوننا شافعين له الثاني قال أبو الحسين سؤال المنافع للغير إنما يكون شفاعة إذا كان فعل تلك المنافع لأجل سؤاله ولولاه لم تفعل أو كان لسؤاله تأثير في فعلها فأما إذا كانت تفعل سواء سألها أو لم يسألها وكان غرض السائل التقرب بذلك إلى المسؤول وإن لم يستحق المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة فإن ذلك لا يكون شفاعة له ألا ترى أن السلطان إذا عزم على أن يعقد لابنه ولاية فحثه بعض أوليائه على ذلك وكان يفعل ذلك لا محالة سواء حثه عليه أو لم يحثه وقصد بذلك التقرب إلى السلطان ليحصل له بذلك منزلة عنده فإنه لا يقال إنه يشفع لابن السلطان وهذه حالتنا في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما نسأله له من الله تعالى فلم يصح أن نكون شافعين والجواب على الأول لا نسلم أن الرتبة معتبرة في الشفاعة والدليل عليه أن الشفيع إنما سمي شفيعاً مأخوذاً من الشفع وهذا المعنى لا تعتبر فيه الرتبة فسقط قولهم وبهذا الوجه يسقط السؤال الثاني
وأيضاً فنقول في الجواب عن السؤال الثاني إنا وإن كنا نقطع بأن الله تعالى يكرم رسوله ويعظمه سواء سألت الأمة ذلك أم لم تسأل ولكنا لا نقطع بأنه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأمة ذلك على وجه لولا سؤال الأمة لما حصلت تلك الزيادة وإذا كان هذا الاحتمال يجوز وجب أن يبقى تجويز كوننا شافعين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولما بطل ذلك باتفاق الأمة بطل قولهم وعاشرها قوله تعالى في صفة الملائكة الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وصاحب الكبيرة من جملة المؤمنين فوجب دخوله في جملة من تستغفر الملائكة لهم أقصى ما في الباب أنه ورد بعد ذلك قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فإن ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص الحادي عشر الأخبار الدالة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر ولنذكر منها ثلاثة أوجه الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) قالت المعتزلة الإعتراض عليه من ثلاثة وجوه أحدها أنه خبر واحد ورد على مضادة القرآن فإنا بينا أن كثيراً من الآيات يدل على نفي هذه الشفاعة وخبر الواحد إذا ورد على خلاف القرآن وجب رده وثانيها أنه يدل على أن شفاعته ليست إلا لأهل الكبائر وهذا غير جائز لأن شفاعته منصب عظيم فتخصيصه بأهل الكبائر فقط يقتضي حرمان أهل الثواب عنه وذلك غير جائز لأنه لا أقل من التسوية وثالثها أن هذه المسألة ليست من المسائل العملية فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلا يجوز التمسك في هذه المسألة بهذا الخبر ثم إن سلمنا صحة الخبر لكن فيه احتمالات أحدها أن يكون المراد منه الاستفهام بمعنى الانكار يعني أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما أن المراد من قوله هَاذَا رَبّى أي أهذا ربي وثانيها أن لفظ الكبيرة غير مختص لا في أصل اللغة ولا في عرف الشرع بالمعصية بل كما يتناول المعصية بل كما يتناول المعصية يتناول الطاعة قال تعالى في صفة الصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ وإذا كان كذلك فقوله لأهل الكبائر لا يجب أن يكون المراد منه أهل المعاصي الكبيرة بل لعل المراد منه أهل الطاعات الكبيرة فإن قيل هب أن لفظ الكبيرة يتناول الطاعات والمعاصي ولكن قوله أهل الكبائر صيغة جمع مقرونة بالألف واللام فيفيد العموم فوجب أن يدل الخبر على ثبوت الشفاعة لكل من كان من أهل الكبائر سواء كان من أهل الطاعات الكبيرة أو المعاصي الكبيرة قلنا لفظ الكبائر وإن كان للعموم إلا أن لفظ ( أهل ) مفرد فلا يفيد العموم فيكفي في صدق الخبر شخص واحد من أهل الكبائر فنحمله على الشخص الآتي بكل الطاعات فإنه يكفي في العمل بمقتضى الحديث حمله عليه وثالثها هب أنه يجب حمل أهل الكبائر على أهل المعاصي الكبيرة لكن أهل المعاصي الكبيرة أعم من أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضل الله عليه بما انحبط من ثواب طاعته المتقدمة على فسقه سلمنا دلالة الخبر على قولكم لكنه معارض بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) ذكره
مع همزة الاستفهام على سبيل الإنكار وروى الحسن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي ) واعلم أن الإنصاف أنه لا يمكن التمسك في مثل هذه المسألة بهذا الخبر وحده ولكن بمجموع الأخبار الواردة في باب الشفاعة وإن سائر الأخبار دالة على سقوط كل هذه التأويلات الثاني روى أبو هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ) رواه مسلم في الصحيح والاستدلال به أن الحديث صريح في أن شفاعته ( صلى الله عليه وسلم ) تنال كل من مات أمته لا يشرك بالله شيئاً وصاحب الكبيرة كذلك فوجب أن تناله الشفاعة والثالث عن أبي هريرة قال ( أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون لم ذلك قالوا لا يا رسول الله قال يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلّغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تذهبون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون أنت إبراهيم نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى ويقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسلاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم موسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى بن مريم فيأتون عيسى فيقولون أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله ولم يذكر له ذنباً نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم النبيين وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فأنطلق واستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني ثم
يقول لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي تبارك وتعالى وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول أرفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم ارجع فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود ) وأكثر هذا الخبر مخرج بلفظه في الصحيحين قالت المعتزلة الكلام على هذا الخبر وأمثاله من وجوه أحدها أن هذه الأخبار أخبار طويلة فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فالظاهر أن الراوي إنما رواها بلفظ نفسه وعلى هذا التقدير لا يكون شيء منها حجة وثانيها أنها خبر عن واقعة واحدة وأنها رويت على وجوه مختلفة مع الزيادات والنقصانات وذلك أيضاً مما يطرق التهمة إليها وثالثها أنها مشتملة على التشبيه وذلك باطل أيضاً يطرق التهمة إليها ورابعها أنها وردت على خلاف ظاهر القرآن وذلك أيضاً بطرق التهمة إليها وخامسها أنها خبر عن واقعة عظيمة تتوافر الدواعي على نقلها فلو كان صحيحاً لوجب بلوغه إلى حد التواتر وحيث لم يكن كذلك فقد تطرقت التهمة إليها وسادسها أن الاعتماد على خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن في المسائل القطعية غير جائز أجاب أصحابنا عن هذه المطاعن بأن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان مروياً بالآحاد إلا أنها كثيرة جداً وبينها قدر مشترك واحد وهو خروج أهل العقاب من النار بسبب الشفاعة فيصير هذا المعنى مروياً على سبيل التواتر فيكون حجة والله أعلم والجواب على جميع أدلة المعتزلة بحرف واحد وهو أن أدلتهم على نفي الشفاعة تفيد نفي جميع أقسام الشفاعات وأدلتنا على إثبات الشفاعة تفيد إثبات شفاعة خاصة والعام والخاص إذا تعارضا قدم الخاص على العام فكانت دلائلنا مقدمة على دلائلهم ثم إنا نخص كل واحد من الوجوه التي ذكروها بجواب على حدة
أما الوجه الأول وهو التمسك بقوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ فهب أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص مثل هذا العام بذلك السبب المخصوص يكفي فيه أدنى دليل فإذا قامت الدلائل الدالة على وجود الشفاعة وجب المصير إلى تخصيصها
وأما الوجه الثاني وهو قوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) فالجواب عنه أن قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ نقيض لقولنا للظالمين حميم وشفيع لكن قولنا للظالمين حميم وشفيع موجبة كلية ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية والسالبة يكفي في صدقها تحقق ذلك السلب في بعض الصور ولا يحتاج فيه إلى تحقق ذلك السلب في جميع الصور وعلى هذا فنحن نقول بموجبه لأن عندنا أنه ليس لبعض الظالمين حميم ولا شفيع يجاب وهم الكفار فأما أن يحكم على كل واحد منهم بسلب الحميم والشفيع فلا
وأما الوجه الثالث وهو قوله مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) فالجواب عنه ما تقدم في الوجه الأول
وأما الوجه الرابع وهو قوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) فالجواب عنه أنه نقيض لقولنا للظالمين أنصار وهذه موجبة كلية فقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ سالبة جزئية فكيون مدلوله سلب العموم وسلب العموم لا يفيد عموم السلب
وأما الوجه الخامس وهو قوله فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) فهذا وارد في حق الكفار وهو يدل بسبب التخصيص على ضد هذا الحكم في حق المؤمنين
وأما الوجه السادس وهو قوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) فقد تقدم القول فيه
وأما الوجه السابع وهو قول المسلمين اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالجواب عنه أن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً فاندفع السؤال
وأما الوجه الثامن وهو التمسك بقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الانفطار 14 ) فالكلام عليه سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الوعيد
وأما الوجه التاسع وهو قوله لم يوجد ما يدل على إذن الله عز وجل في الشفاعة لأصحاب الكبائر فجوابه أن هذا ممنوع والدليل عليه ما أوردنا من الدلائل الدالة على حصول هذه الشفاعة
وأما الوجه العاشر وهو قوله في حق الملائكة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ ( غافر 7 ) فجوابه ما بينا أن خصوص آخر هذه الآية لا يقدح في عموم أولها
وأما الأحاديث فهي دالة على أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يشفع لبعض الناس ولا يشفع في بعض مواطن القيامة وذلك لا يدل على أنه لا يشفع لأحد ألبتة من أصحاب الكبائر ولا أنه يمتنع من الشفاعة في جميع المواطن والذي نحققه أنه تعالى بين أن أحداً من الشافعين لا يشفع إلا بإذن الله فلعل الرسول لم يكن مأذوناً في بعض المواضع وبعض الأوقات فلا يشفع في ذلك المكان ولا في ذلك الزمان ثم يصير مأذوناً في موضع آخر وفي وقت آخر في الشفاعة فيشفع هناك والله أعلم
قالت الفلاسفة في تأويل الشفاعة إن واجب الوجود عام الفيض تام الجود فحيث لا يحصل فإنما لا يحصل لعدم كون القابل مستعداً ومن الجائز أن لا يكون الشيء مستعداً لقبول الفيض عن واجب الوجود إلا أن يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود فيكون ذلك الشيء كالمتوسط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الأول ومثاله في المحسوس أن الشمس لا تضيء إلا للقابل المقابل وسقف البيت لما لم يكن مقابلاً لجرم الشمس لا جرم لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس إلا أنه إذا وضع طست مملوء من الماء الصافي ووقع عليه ضوء الشمس انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف فيكون ذلك الماء الصافي متوسطاً في وصول النور من قرص الشمس إلى السقف الذي هو غير مقابل للشمس وأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق في وصول فيض واجب الوجود إلى أرواح العامة فهذا ما قالوه في الشفاعة تفريعاً على أصولهم
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالاً بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فكأنه قال اذكروا نعمتي واذكروا إذ نجيناكم واذكروا إذ فرقنا بكم البحر وهي إنعامات والمذكور في هذه الآية هو الإنعام الأول أما قوله وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم فقرىء أيضاً أنجيناكم ونجيتكم قال القفال أصل الأنجاء والتنجية التخليص وأن بيان الشيء من الشيء حتى لا يتصلا وهما لغتان نجى وأنجى ونجا بنفسه وقالوا لمكان العالي نجوة لأن من صار إليه نجا أي تخلص ولأن الموضع المرتفع بائن عما انحط عنه فكأنه متخلص منه قال صاحب الكشاف أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم ولا يقال آل الحجام والإسكاف قال عيسى الأهل أعم من الآل يقال أهل الكوفة وأهل البلد وأهل العلم ولا يقال آل الكوفة وآل البلد وآل العلم فكأنه قال الأهل هم خاصة الشيء من جهة تغليبه عليهم والآل خاصة الرجل من جهة قرابة أو صحبة وحكى عن أبي عبيدة أنه سمع فصيحاً يقول أهل مكة آل الله أما فرعون فهو علم لمن ملك مصر من العمالقة كقيصر وهرقل لملك الروم وكسرى لملك الفرس وتبع لملك اليمن وخاقان لملك الترك واختلفوا في فرعون من وجهين أحدهما أنهم اختلفوا في اسمه فحكى ابن جريج عن قوم أنهم قالوا مصعب بن ريان وقال ابن اسحق هو الوليد ابن مصعب ولم يكن من الفراعنة أحد أشد غلظة ولا أقسى قلباً منه وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا إن اسم فرعون كان قابوس وكان من القبط الثاني قال ابن وهب إن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى وهذا غير صحيح إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة وقال محمد بن اسحق هو غير فرعون يوسف وأن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد أما آل فرعون فلا شك أن المراد منه ههنا من كان من قوم فرعون وهم الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل ليكون تعالى منجياً لهم منهم بما تفضل به من الأحوال التي توجب بقاءهم وهلاك فرعون وقومه أما قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ فهو من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً قال عمرو بن كلثوم إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونه بكم والسوء مصدر ساء بمعنى السيىء يقال أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ومعنى سوء العذاب والعذاب
كله سيىء أشده وأصعبه كأن قبحه ( زاد ) بالإضافة إلى ساء واختلف المفسرون في المراد من ( سوء العذاب ) فقال محمد بن إسحق إنه جعلهم خولاً وخدماً له وصنفهم في أعماله أصنافاً فصنف كانوا يبنون له وصنف كانوا يحرثون له وصنف كانوا يزرعون له فهم كانوا في أعماله ومن لم يكن في نوع من أعماله كان يأمر بأن يوضع عليه جزية يؤديها وقال السدي كان قد جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة مثل لنس المبرز وعمل الطين ونحت الجبال وحكى الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم قالوا لموسى أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ( الأعراف 129 ) وقال موسى لفرعون ( وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني اسرائيل ) واعلم أن كون الإنسان تحت يد الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة الصعبة القذرة فإن ذلك يكون من أشد أنواع العذاب حتى أن من هذه حالته ربما تمنى الموت فبين الله تعالى عظيم نعمه عليهم بأن نجاهم من ذلك ثم إنه تعالى أتبع ذلك بنعمة أخرى أعظم منها فقال يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ ومعناه يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث وههنا أبحاث
البحث الأول أن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه أحدها أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال وذلك يقتضي انقطاع النسل لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن ألبتة في ذلك وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء وثانيها أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت لما قد يقع إليها من نكد العيش بالإنفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن والنجاة منها في العظم تكون بحسبها وثالثها أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعاً به مسروراً بأحواله فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه ورابعها أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم ولذلك قال تعالى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ ( النحل 58 ) الآية ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ ( الإسراء 31 ) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور وخامسها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان
البحث الثاني ذكر في هذه السورة يُذَبّحُونَ بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو والوجه فيه أنه إذا جعل قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ مفسراً بقوله يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ لم يحتج إلى الواو وأما إذا جعل قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئاً آخر سوى سوء العذاب احتيج فيه إلى الواو وفي الموضعين يحتمل الوجهين إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال إنه تعالى قال قبل تلك الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ( إبراهيم ) والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى فوجب أن يكون المراد من قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ نوعاً من العذاب والمراد من قوله وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ نوعاً آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة فلهذا وجب ذكر العطف هناك وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 47 122 ) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلاً فظهر الفرق
البحث الثالث قال بعضهم أراد بقوله يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ الرجال دون الأطفال ليكون في مقابلة النساء إذ النساء هن البالغات وكذا المراد من الأبناء هم الرجال البالغون قالوا إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين وهذا هو الأولى لوجوه الأول حملاً للفظ الأبناء على ظاهره الثاني أنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم الثالث أنهم كانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الصنائع الشاقة الرابع أنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه السلام في التابوت حال صغره معنى أما قوله وجب حمله على الرجال ليكون في مقابلة النساء ففيه جوابان الأول أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولية لم يصيروا رجالاً فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم أما البنات لما لم يقتلن بل وصلن إلى حد النساء جاز إطلاق اسم النساء عليهن الثاني قال بعضهم المراد بقوله وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ أي يفتشون حياء المرأة أي فرجها هل بها حمل أم لا وأبطل ذلك بأن ما في بطونهن إذا لم يكن للعيون ظاهراً لم يعلم بالتفتيش ولم يوصل إلى استخراجه باليد
البحث الرابع في سبب قتل الأبناء ذكروا فيه وجوهاً أحدها قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه فلما رأوا كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة فصاروا يتقلون عاماً دون عام وثانيها قول السدي إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده وثالثها أن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة والأقرب هو الأول لأن الذي يستفاد من علم التعبير وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزاً بل يكون أمراً مجملاً والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه فإن قيل إن فرعون كان كافراً بالله فكان بأن يكون كافراً بالرسل أولى وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه السلام عنه قلنا لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوز صدق إبراهيم عليه السلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً
البحث الخامس اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه أحدها أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعاً لعذرهم
وثانيها أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلاً لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين فكأنه تعالى قال لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال فإنه محق لا بد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه وثالثها أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة أما قوله تعالى وَفِي ذالِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ قال القفال أصل الكلمة من الابتلاء وهو الاختيار والامتحان قال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 ) وقال وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ( الأعراف 168 ) والبلوى واقعة على النوعين فيقال للنعمة بلاء وللمحنة الشديدة بلاء والأكثر أن يقال في الخير إبلاء وفي الشر بلاء وقد يدخل أحدهما على الآخر قال زهير جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
إذ عرفت هذا فنقول البلاء ههنا هو المحنة إن أشير بلفظ ( ذلكم ) إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمله على النعمة أولى لأنها هي التي صدرت من الرب تعالى ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
هذا هو النعمة الثانية وقوله فَرَقْنَا أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرىء فَرَقْنَا بالتشديد بمعنى فصلنا يقال فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط فإن قلت ما معنى ( بكم ) قلنا فيها وجهان أحدهما أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما الثاني فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ثم ههنا أبحاث
البحث الأول روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط وذلك لغرضين أحدهما ليخرجوا خلفهم لأجل المال والثاني أن تبقى أموالهم في أيديهم ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي وقال لموسى أخرج قومك ليلاً وهو المراد من قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى ( طه 77 ) وكانوا ستمائة ألف نفس لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً كل سبط خمسون ألفاً فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال لا تتبعوهم حتى يصيح الديك قال الراوي فوالله ما صاح ليلته ديك فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط وقال قتادة اجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله تعالى فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ( الشعراء 60 ) أي بعد طلوع الشمس فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَال
َ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعرا 61 ) فقال موسى كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع بن نون أين أمرك ربك فقال موسى إلى أمامك وأشار إلى البحر فأقحم يوشع بن نون فرسه في البحر فكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر فسبح الفرس وهو عليه ثم رجع وقال له يا موسى أين أمرك ربك فقال البحر فقال والله ما كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله إليه أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( الشعراء 67 ) فانشق البحر اثني عشر جبلاً في كل واحد منها طريق فقال له ادخل فكان فيه وحل فهبت الصبا فجف البحر وكل طريق فيه حتى صار طريقاً يابساً كما قال تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً ( طه 77 ) فأخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه فقالوا لموسى إن بعضنا لا يرى صاحبه فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ وكوى فرأى بعضهم بعضاً ثم أتبعهم فرعون فلما بلغ شاطىء البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهم بأن لا يدخل البحر فجاء جبريل عليه السلام على حجرة فتقدم فرعون وهو كان على فحل فتبعه فرس فرعون ودخل البحر فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم الحقوا آخركم بأولكم فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله الماء حتى نزل عليهم في ذلك قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وقيل كان ذلك اليوم يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى
البحث الثاني اعلم أن هذه الواقعة تضمنت نعماً كثيرة في الدين والدنيا أما نعم الدنيا في حق موسى عليه السلام فهي من وجوه أحدها أنهم لما وقعوا في ذلك المضيق الذي من ورائهم فرعون وجنوده وقدامهم البحر فإن توقفوا أدركهم العدو وأهلكهم بأشد العذاب وإن ساروا غرقوا فلا خوف أعظم من ذلك ثم إن الله نجاهم بفلق البحر فلا فرج أشد من ذلك وثانيها أن الله تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة وذلك سبب لظهور كرامتهم على الله تعالى وثالثها أنهم شاهدوا أن الله تعالى أهلك أعداءهم ومعلوم أن الخلاص من مثل هذا البلاء من أعظم النعم فكيف إذا حصل معه ذلك الإكرام العظيم وإهلاك العدو ورابعها أن أورثهم أرضهم وديارهم ونعمهم وأموالهم وخامسها أنه تعالى لما أغرق آل فرعون فقد خلص بني إسرائيل منهم وذلك نعمة عظيمة لأنه كان خائفاً منهم ولو أنه تعالى خلص موسى وقومه من تلك الورطة وما أهلك فرعون وقومه لكان الخوف باقياً من حيث إنه ربما اجتمعوا واحتالوا بحيلة وقصدوا إيذاء موسى عليه السلام وقومه ولكن الله تعالى لما أغرقهم فقد حسم مادة الخوف بالكلية وسادسها أنه وقع ذلك الإغراق بمحضر من بني إسرائيل وهو المراد من قوله تعالى وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وأما نعم الدين في حق موسى عليه السلام فمن وجوه أحدها أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات فإن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى عليه السلام تقرب من العلم الضروري فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق وثانيها أنهم لما عاينوا ذلك صار داعياً لهم إلى الثبات على تصديق موسى والإنقياد له وصار ذلك داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى عليه السلام والإقدام على تكذيب فرعون وثالثها أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون ولا شدة أشد مما كانت ببني إسرائيل ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً والذليل عزيزاً وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا والإقبال بالكلية على
خدمة الخالق والتوكل عليه في كل الأمور وأما النعم الحاصلة لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر هذه القصة فكثيرة أحدها أنه كالحجة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل الكتاب لأنه كان معلوماً من حال محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط أهل الكتاب فإذا أورد عليهم من أخبارهم المفصلة ما لا يعلم إلا من الكتب علموا أنه أخبر عن الوحي وأنه صادق فصار ذلك حجة له عليه السلام على اليهود وحجة لنا في تصديقه وثانيها أنا إذا تصورنا ما جرى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أن من خالف الله شقي في الدنيا والآخرة ومن أطاعه فقد سعد في الدنيا والآخرة فصار ذلك مرغباً لنا في الطاعة ومنفراً عن المعصية وثالثها أن أمة موسى عليه السلام مع أنهم خصوا بهذه المعجزات الظاهرة والبراهين الباهرة فقد خالفوا موسى عليه السلام في أمور حتى قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ وأما أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمع أن معجزتهم هي القرآن الذي لا يعرف كونه معجزاً إلا بالدلائل الدقيقة انقادوا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما خالفوه في أمر ألبتة وهذا يدل على أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من أمة موسى عليه السلام وبقي على الآية سؤالان
السؤال الأول أن فلق البحر في الدلالة على وجود الصانع القادر وفي الدلالة على صدق موسى كالأمر الضروري فكيف يجوز فعله في زمان التكليف والجواب أما على قولنا فظاهر وأما المعتزلة فقد أجاب الكعبي الجواب الكلي بأن في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء ويختص بالبلادة وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك فاحتاجوا في التنبيه إلى معاينة الآيات العظام كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا ( يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) وأما العرب فحالهم بخلاف ذلك لأنهم كانوا في نهاية الكمال في العقول فلا جرم اقتصر الله تعالى معهم على الدلائل الدقيقة والمعجزات اللطيفة
السؤال الثاني أن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك ما كان من فعله بل لا بد من قادر عالم مخالف لسائر القادرين فكيف بقي على الكفر مع ذلك فإن قلت إنه كان عارفاً بربه إلا أنه كان كافراً على سبيل العناد والجحود قلت فإذا عرف ذلك بقلبه فكيف استخار توريط نفسه في المهلكة ودخول البحر مع أنه كان في تلك الساعة كالمضطر إلى العلم بوجود الصانع وصدق موسى عليه السلام والجواب حب الشيء يعمي ويصم فحبه الجاه والتلبيس حمله على اقتحام تلك المهلكة
وأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ففيه وجوه أحدها أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه وثانيها أن قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى حالهم فسأل موسى عليه السلام ربه أن يريهم إياهم فلفظهم البحر ألف ألف ومائتي ألف نفس وفرعون معهم فنظروا إليهم طافين وإن البحر لم يقبل واحداً منهم لشؤم كفرهم فهو قوله تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً ( يونس 92 ) أي نخرجك من مضيق البحر إلى سعة الفضاء ليراك الناس وتكون عبرة لهم وثالثها أن المراد وأنتم بالقرب منهم حيث توجهونهم وتقابلونهم وإن كانوا لا يرونهم بأبصارهم قال الفراء وهو مثل قولك لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الثالث فأما قوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا فقرأ أبو عمرو ويعقوب وإذ وعدنا موسى بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه وقرأ الباقون واعدنا بالألف في المواضع الثلاثة فأما بغير ألف فوجهه ظاهر لأن الوعد كان من الله تعالى والمواعدة مفاعلة ولا بد من اثنين وأما بالألف فله وجوه أحدها أن الوعد وإن كان من الله تعالى فقبوله كان من موسى عليه السلام وقبول الوعد يشبه الوعد لأن القابل للوعد لا بد وأن يقول أفعل ذلك وثانيها قال القفال لا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ويكون معناه يعاهد الله وثالثها أنه أمر جرى بين اثنين فجاز أن يقال واعدنا ورابعها وهو الأقوى أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور أما موسى ففيه وجوه أحدها وزنه فعلي والميم فيه أصلية أخذت من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وكان موسى عليه السلام كذلك وثانيها وزنه مفعل فالميم فيه زائدة وهو من أوسيت الشجرة إذا أخذت ما عليها من الورق وكأنه سمي بذلك لصلعه وثالثها أنها كلمة مركبة من كلمتين بالعبرانية فمو هو الماء بلسانهم وسى هو الشجر وإنما سمي بذلك لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون فألقته في البحر فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأخذنه فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه وهو الماء والشجر واعلم أن الوجهين الأولين فاسدان جداً أما الأول فلأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلمون بلغة العرب فلا يجوز أن يكون مرادهم ذلك وأما الثاني فلأن هذه اللفظة اسم علم واسم العلم لا يفيد معنى في الذات والأقرب هو الوجه الثالث وهو أمر معتاد بين الناس فأما نسبه ( صلى الله عليه وسلم ) فهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام أما قوله تعالى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ففيه أبحاث
البحث الأول أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل إن خرجنا من البحر سالمين أتيتكم من عند الله بكتاب بين لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والترك فلما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل وأغرق الله فرعون قالوا يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود فذهب إلى ربه ووعدهم أربعين ليلة وذلك قوله تعالى وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ( الأعراف 142 ) واستخلف عليهم هارون ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله التوراة عليه في الألواح وكانت الألواح من زبرجد فقربه الرب نجياً وكلمه من غير واسطة وأسمعه صرير القلم قال أبو العالية وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور
البحث الثاني إنما قال أربعين ليلة لأن الشهور تبدأ من الليالي
البحث الثالث قوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً معناه واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان أي تمام الأربعين والحاصل أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان بل أربعين معيناً وهو الثلاثون من ذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة لأن موسى عليه السلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون وأيضاً فقوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً يحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين حتى تنزل عليه التوراة ويحتمل أن يكون المراد أنه أمر بأن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين ووعد بأنه ستنزل عليه بعد ذلك التوراة وهذا الاحتمال الثاني هو المتأيد بالأخبار
البحث الرابع قوله ههنا وَإِذَا واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين وقوله في الأعراف وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما أجاب الحسن البصري فقال ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً وهو كقوله ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ ( البقرة 196 )
أما قوله تعالى ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ففيه أبحاث
البحث الأول إنما ذكر لفظه ( ثم ) لأنه تعالى وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين وأظهر في ذلك درجة موسى عليه السلام وفضيلة بني إسرائيل ليكون ذلك تنبيهاً للحاضرين على علو درجتهم وتعريفاً للغائبين وتكملة للدين كان ذلك من أعظم النعم فلما أتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر كان ذلك في محل التعجب فهو كمن يقول إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء
البحث الثاني قال أهل السير إن الله تعالى لما أغرق فرعون ووعد موسى عليه السلام إنزال التوراة عليه قال موسى لأخيه هارون اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط قال لهم هارون إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها فجمعوا ناراً وأحرقوها وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدم على فرعون في دخول البحر فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصور منه عجلاً وألقى ذلك التراب فيه فخرج منه صوت كأنه الخوار فقال للقوم هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( طه 88 ) فاتخذه القوم إلهاً لأنفسهم فهذا ما في الرواية ولقائل أن يقول الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز أن يتفقوا على ما يعلم فساده ببديهة العقل وهذه الحكاية كذلك لوجوه أحدها أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب الذي لا يتحرك ولا يحس ولا يعقل يستحيل أن يكون إله السموات والأرض وهب أنه ظهر من خوار ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلهاً وثانيها أن القوم كانوا قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات القاهرة التي تكون قريبة من حد الإلجاء في
الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السلام فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حد الضرورة ومع أن صدور الخوار من ذلك العجل المتخذ من الذهب يستحيل أن يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً والجواب هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلا على وجه واحد وهو أن يقال إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السلام إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات فقال السامري للقوم وأنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه وروح عليهم ذلك بأن جعله بحث خرج منه صوت عجيب فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى عليه السلام في الإتيان بالخوارق أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام فلذلك وقعوا في تلك الشبهة
البحث الثالث هذه القصة فيها فوائد أحدها أنها تدل على أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خير الأمم لأن أولئك اليهود مع أنهم شاهدوا تلك البراهين القاهرة اغتروا بهذه الشبهة الركيكة جداً وأما أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فانهم مع أنهم محتاجون في معرفة كون القرآن معجزاً إلى الدلائل الدقيقة لم يعتروا بالشبهات القوية العظيمة وذلك يدل على أن هذه الأمة خير من أولئك وأكمل عقلاً وأزكى خاطراً منهم وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الحكاية مع أنه لم يتعلم علماً وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استفادها من الوحي وثالثها فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل فإن أولئك الأقوام لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري ورابعها في تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى بالخلاف عليه وكأنه تعالى أمره بالصبر على ذلك كما صبر موسى عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة النكدة فإنهم بعد أن خلصهم الله من فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت اغتروا بتلك الشبهة الركيكة ثم إن موسى عليه السلام صبر على ذلك فلأن يصبر محمد عليه الصلاة والسلام على أذية قومه كان ذلك أولى وخامسها أن أشد الناس مجادلة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعداوة له هم اليهود فكأنه تعالى قال إن هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد فكيف هؤلاء الأخلاف
أما قوله تعالى وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ففيه أبحاث
البحث الأول في تفسير الظلم وفيه وجهان الأول قال أبو مسلم الظلم في أصل اللغة هو النقص قال الله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 ) والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت واشتغلوا بعبادة العجل فقد صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا والثاني أن الظلم في عرف الشرع عبارة عن الضرر الخالي من نفع يزيد عليه ودفع مضرة أعظم منه والاستحقاق عن الغير في علمه أو ظنه فإذا كان الفعل بهذه الصفة كان فاعله ظالماً ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب والنار قيل إنه ظالم نفسه وإن كان في الحال نفعاً ولذة كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وقال فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) ولما كانت عبادتهم لغير الله شركا ( وكان الشرك مؤدياً إلى النار سمي ظلماً
البحث الثاني استدلت المعتزلة بقوله وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى
من وجوه أحدها أنه تعالى ذمهم عليها ولو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق الذم إلا من فعلها وثانيها أنها لو كانت بإرادة الله تعالى لكانوا مطيعين لله تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد وثالثها لو كان العصيان مخلوقاً لله تعالى لكان الذم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود وأبيض وطويلاً وقصيراً والجواب هذا تمسك بفعل المدح والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذلك مراراً
البحث الثالث في الآية تنبيه على أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة الاتقياء والانتقاص بمعصية الأشقياء
أما قوله تعالى ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ فقالت المعتزلة المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتوبة وهي قتل بعضهم بعضاً وهذا ضعيف من وجهين الأول أن قبول التوبة واجب عقلاً فلو كان المراد ذلك لما جاز عده في معرض الأنعام لأن أداء الواجب لا يعد من باب الأنعام والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله تعالى عليهم الثاني أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحق فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فذاك لا يسمى عفواً ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم فإذا ترك ذلك العذاب لايسمى ذلك الترك عفواً فكذا ههنا وإذا ثبت هذا فنقول لا شك في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ وإذا كان كذلك دلت هذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى قد أسقط عقاب من يجوز عقابه عقلاً وشرعاً وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة وإذا ثبت أنه تعالى عفا عن كفار قوم موسى فلأن يعفو عن فساق أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم ( خير أمة أخرجت للناس ) كان أولى
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فاعلم أن الكلام في تفسير ( لعل ) قد تقدم في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( الأنعام 153 ) ( الأعراف 17 ) ( البقرة 21 33 ) وأما الكلام في حقيقة الشكر وماهيته فطويل وسيجيء إن شاء الله تعالى ثم قالت المعتزلة إنه تعالى بين أنه إنما عفا عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا وذلك يدل على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر والجواب لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك إما بشرط أن يحصل للشاكر داعية الشكر أولاً بهذا الشرط فإن كان هذا الشرط من العبد لزم افتقار الداعية إلى داعية أخرى وإن كان من الله فحيث خلق الله الداعي حصل الشكر لا محالة وحيث لم يخلق الداعي استحال حصول الشكر وذلك ضد قول المعتزلة وإن أراد حصول الشكر منه من غير هذه الداعية فقد أراد منه المحال لأن الفعل بدون الداعي محال فثبت أن الإشكال وارد عليهم أيضاً والله أعلم
وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الرابع والمراد من الفرقان يحتمل أن يكون هو التوراة وأن يكون شيئاً داخلاً في
التوراة وأن يكون شيئاً خارجاً عن التوراة فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها وتقرير الاحتمال الأول أن التوراة لها صفتان كونها كتاباً منزلاً وكونها فرقاناً تفرق بين الحق والباطل فهو كقولك رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة ونظيره قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً ( الأنبياء 48 ) وأما تقرير الاحتمال الثاني فهو أن يكون المراد من الفرقان ما في التوراة من بيان الدين لأنه إذا أبان ظهر الحق متميزاً من الباطل فالمراد من الفرقان بعض ما في التوراة وهو بيان أصول الدين وفروعه وأما تقرير الاحتمال الثالث فمن وجوه أحدها أن يكون المراد من الفرقان ما أوتي موسى عليه السلام من اليد والعصا وسائر الآيات وسميت بالفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل وثانيها أن يكون المراد من الفرقان النصر والفرج الذي آتاه الله بني إسرائيل على قوم فرعون قال تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ( الأنفال 41 ) والمراد النصر الذي آتاه الله يوم بدر وذلك لأن قبل ظهور النصر يتوقع كل واحد من الخصمين في أن يكون هو المستولي وصاحبه هو المقهور فإذا ظهر النصر تميز الراجح من المرجوح وانفرق الطمع الصادق من الطمع الكاذب وثالثها قال قطرب الفرقان هو انفراق البحر لموسى عليه السلام فإن قلت فهذا قد صار مذكوراً في قوله تعالى وَإِذَا فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) وأيضاً فقوله تعالى بعد ذلك لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لا يليق إلا بالكتاب لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى قلت الجواب عن الأول أنه تعالى لم يبين في قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص وعن الثاني أن فرق البحر كان من الدلائل فلعل المراد أنا لما آتينا موسى فرقان البحر استدلوا بذلك على وجود الصانع وصدق موسى عليه السلام وذلك هو الهداية وأيضاً فالهدى قد يراد به الفوز والنجاة كما يراد به الدلالة فكأنه تعالى بين أنه آتاهم الكتاب نعمة في الدين والفرقان الذي حصل به خلاصهم من الخصم نعمة عاجلة واعلم أن من الناس من غلط فظن أن الفرقان هو القرآن وأنه أنزل على موسى عليه السلام وذلك باطل لأن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكل دليل كذلك فلا وجه لتخصيص هذا اللفظ بالقرآن وقال آخرون المعنى وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ يعني التوراة وآتينا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وقد مال إلى هذا القول من علماء النحو الفراء وثعلب وقطرب وهذا تعسف شديد من غير حاجة ألبتة إليه
وأما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فقد تقدم تفسير لعل وتفسير الاهتداء واستدلت المعتزلة بقوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ على أن الله تعالى أراد الاهتداء من الكل وذلك يبطل قول من قال أراد الكفر من الكافر وأيضاً فإذا كان عندهم أنه تعالى يخلق الاهتداء فيمن يهتدي والضلال فيمن يضل فما الفائدة في أن ينزل الكتاب والفرقان ويقول لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو خلق الاهتداء ولا كتاب لحصل الاهتداء ولو أنزل بدلاً من الكتاب الواحد ألف كتاب ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء فكيف يجوز أن يقول أنزلت الكتاب لكي تهتدوا واعلم أن هذا الكلام قد تقدم مراراً لا تحصى مع الجواب والله أعلم
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
اعلم أن هذا الإنعام الخامس قال بعض المفسرين هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وذلك لأنها أمر بالقتل لا يكون نعمة وهذا ضعيف من وجوه أحدها أن الله تعالى نبههم على عظم ذنبهم ثم نبههم على ما به يتخلصون عن ذلك الذنب العظيم وذلك من أعظم النعم في الدين وإذا كان الله تعالى قد عدد عليهم النعم الدنيوية فبأن يعدد عليهم هذه النعمة الدينية أولى ثم إن هذه النعمة وهي كيفية هذه التوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً في تمام النعمة فصار كل ما تضمنته هذه الآية معدوداً في نعم الله فجاز التذكير بها وثانيها أن الله تعالى لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية فكان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي حق الذين كانوا موجودين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام لأنه تعالى لولا أنه رفع القتل عن آبائهم لما وجد أولئك الأبناء فحسن إيراده في معرض الامتنان على الحاضرين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وثالثها أنه تعالى لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يقول لهم لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل بل إن رجعتم عن كفركم وآمنتم قبل الله إيمانكم منكم فكان بيان التشديد في تلك التوبة تنبيهاً على الإنعام العظيم بقبول مثل هذه التوبة السهلة الهينة ورابعها أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه في التوبة فإن أمة موسى عليه السلام لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب الواحد منا في التوبة التي هي مجرد الندم كان أولى ومعلوم أن ترغيب الإنسان فيما هو المصلحة المهمة من أعظم النعم
وأما قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ أي واذكروا إذ قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد اتخذوا العجل يا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ وللمفسرين في الظلم قولان أحدهما أنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه السلام والثاني أن الظلم هو الإصرار الذي ليس بمستحق ولا فيه نفع ولا دفع مضرة لا علماً ولا طباً فلما عبدوا العجل كانوا قد أضروا بأنفسهم لأن ما يؤدي إلى ضرر الأبد من أعظم الظلم ولذلك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) لكن هذا الظلم من حقه أن يقيد لئلا يوهم إطلاقه إنه ظلم الغير لأن الأصل في الظلم ما يتعدى فلذلك قال إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ
أما قوله تعالى بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ففيه حذف لأنهم لم يظلموا أنفسهم بهذا القدر لأنهم لو اتخذوه
ولم يجعلوه إلهاً لم يكن فعلهم ظلماً فالمراد باتخاذكم العجل إلهاً لكن لما دلت مقدمة الآية على هذا المحذوف حسن الحذف
أما قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يقتضي كون التوبة مفسرة بقتل النفس كما أن قوله عليه السلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه ) يقتضي أن وضع الطهور مواضعه مفسر بغسل الوجه واليدين ولكن ذلك باطل لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل القبيح الذي مضى والعزم على أن لا يأتي بمثله بعد ذلك وذلك مغاير لقتل النفس وغير مستلزم له فكيف يجوز تفسيره به والجواب ليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان أن توبتهم لا تتم ولا تحصل إلا بقتل النفس وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن شرط توبتهم قتل النفس كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلوه فلا يمتنع أن يكون من شرع موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل إذا ثبت هذا فنقول شرط الشيء قد يطلق عليه اسم ذلك الشيء مجازاً كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة أن توبتك ردماً غصبت يعني أن توبتك لا تتم إلا به فكذا ههنا
السؤال الثاني ما معنى قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ والتوبة لا تكون إلا للبارىء والجواب المراد منه النهي عن الرياء في التوبة كأنه قال لهم لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله الذي هو مطلع على ضميركم وإنما تبتم إلى الناس وذلك مما لا فائدة فيه فإنكم إذا أذنبتم إلى الله
السؤال الثالث كيف اختص هذا الموضع بذكر البارىء والجواب البارىء هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة فكان ذلك تنبيهاً على أن من كان كذلك فهو أحق بالعبادة من البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة
السؤال الرابع ما الفرق بين الفاء في قوله فَتُوبُواْ والفاء في قوله فَاقْتُلُواْ الجواب أن الفاء الأولى للسبب لأن الظلم سبب التوبة والثانية للتعقيب لأن القتل من تمام التوبة فمعنى قوله فَتُوبُواْ أي فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم
السؤال الخامس ما المراد بقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أهو ما يقتضيه ظاهره من أن يقتل كل واحد نفسه أو المراد غير ذلك الجواب اختلف الناس فيه فقال قوم من المفسرين لا يجوز أن يكون المراد أمر كل واحد من التائبين بقتل نفسه وهو اختيار القاضي عبد الجبار واحتجوا عليه بوجهين الأول وهو الذي عول عليه أهل التفيسر أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين بذلك لصاروا عصاة بترك ذلك الثاني وهو الذي عول عليه القاضي عبد الجبار أن القتل هو نقض البنية التي عندها يجب أن يخرج من أن يكون حياً وما عدا ذلك مما يؤدي إلى أن يموت قريباً أو بعيداً إنما سمي قتلاً على
طريق المجاز إذا عرفت حقيقة القتل فنقول إنه لا يجوز أن يأمر الله تعالى به لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ولا تكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه وهذا بخلاف ما يفعله الله تعالى من الإماتة لأن ذلك من فعل الله فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحاً لمكلف آخر ويعوض ذلك المكلف بالعوض العظيم وبخلاف أن يأمر الله تعالى بأن يجرح نفسه أو يقطع عضواً من أعضائه ولا يحصل الموت عقبه لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحاً في الأفعال المستقبلة ولقائل أن يقول لا نسلم أن القتل اسم للفعل المزهق للروح في الحال بل هو عبارة عن الفعل المؤدي إلى الزهوق إما في الحال أو بعده والدليل عليه أنه لو حلف أن لا يقتل إنساناً فجرحه جراحة عظيمة وبقي بعد تلك الجراحة حياً لحظة واحدة ثم مات فإنه يحنث في يمينه وتسميه كل أهل هذه اللغة قاتلاً والأصل في الاستعمال الحقيقة فدل على أن اسم القتل اسم الفعل المؤدي إلى الزهوق سواء أدى إليه في الحال أو بعد ذلك وأنت سلمت جواز ورود الأمر بالجراحة التي لا تستعقب الزهوق في الحال وإذا كان كذلك ثبت جواز أن يراد الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه سلمنا أن القتل اسم الفعل المزهق للروح في الحال فلم لا يجوز ورود الأمر به قوله لا بد في ورود الأمر به من مصلحة استقبالية قلنا أولاً لا نسلم أنه لا بد فيه من مصلحة والدليل عليه أنه أمر من يعلم كفره بالإيمان ولا مصلحة في ذلك إذ لا فائدة من ذلك التكليف إلا حصول العقاب سلمنا أنه لا بد من مصلحة ولكن لم قلت إنه لا بد من عود تلك المصلحة إليه ولم لا يجوز أن قتله نفسه مصلحة لغيره فالله تعالى أمره بذلك لينتفع به ذلك الغير ثم إنه تعالى يوصل العوض العظيم إليه سلمنا أنه لا بد من عود المصلحة إليه لكن لم لا يجوز أن يقال إن علمه بكونه مأموراً بذلك الفعل مصلحة له مثل أنه لما أمر بأن يقتل نفسه غداً فإن علمه بذلك يصير داعياً له إلى ترك القبائح من ذلك الزمان إلى ورود الغد وإذا كانت هذه الاحتمالات ممكنة سقط ما قال القاضي بل الوجه الأول الذي عول عليه المفسرون أقوى وعلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها ثم فيه وجهان الأول أن يقال أمر كل واحد من أولئك التائبين بأن يقتل بعضهم بعضاً فقوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضاً وهو كقوله في موضع آخر وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) ومعناه لا يقتل بعضكم بعضاً وتحقيقه أن المؤمنين كالنفس الوحدة وقيل في قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) أي إخوانكم من المؤمنين وفي قوله لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً ( النور 12 ) أي بأمثالهم من المسلمين وكقوله فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النور 61 ) أي ليسلم بعضكم على بعض ثم قال المفسرون أولئك التائبون برزوا صفين فضرب بعضهم بعضاً إلى الليل الوجه الثاني أن الله تعالى أمر غير أولئك التائبين بقتل أولئك التائبين فيكون المراد من قوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي استسلموا للقتل وهذا الوجه الثاني أقرب لأن في الوجه الأول تزداد المشقة لأن الجماعة إذا اشتركت في الذنب كان بعضهم أشد عطفاً على البعض من غيرهم عليهم فإذا كلفوا بأن يقتل بعضهم بعضاً عظمت المشقة في ذلك ثم اختلفت الروايات فالأول أنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم وكان المقتولون سبعين ألفاً فما تحركوا حتى قتلوا على ثلاثة
أيام وهذا لقول ذكره محمد بن إسحاق الثاني أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة وأتاهم هارون بالإثني عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل ألبتة وبأيديهم السيوف فقال التائبون إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل يقولون أمين فجعلوا يقتلونهم إلى المساء وقام موسى وهارون عليهما السلام يدعوان الله ويقولان البقية البقية يا إلهنا فأوحى الله تعالى إليهما قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي قال وكان القتلى سبعين ألفاً هذه رواية الكلبي الثالث أن بني إسرائيل كانوا قسمين منهم من عبد العجل ومنهم من لم يعبده ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة ثم قال المفسرون إن الرجل كان يبصر والده وولده وجاره فلم يمكنه المضي لأمر الله فأرسل الله تعالى سحابة سوداء ثم أمر بالقتل فقتلوا إلى المساء حتى دعا موسى وهارون عليهما السلام وقالا يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فانكشفت السحابة ونزلت التوراة وسقطت الشفار من أيديهم
السؤال السادس كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة والتائب من الردة لا يقتل الجواب ذلك مما يختلف بالشرائع فلعل شرع موسى عليه السلام كان يقتضي قتل التائب عن الردة إما عاماً في حق الكل أو كان خاصاً بذلك القوم
السؤال السابع هل يصح ما روي أن منهم من لم يقتل ممن قبل الله توبته الجواب لا يمتنع ذلك لأن قوله تعالى إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ خطاب مشافهة فلعله كان مع البعض أو إنه كان عاماً فالعام قد يتطرق إليه التخصيص
أما قوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ففيه تنبيه على ما لأجله يمكن تحمل هذه المشقة وذلك لأن حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا وضرر الآخرة والأول أولى بالتحمل لأنه متناه وضرر الآخرة غير متناه ولأن الموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقدم والتأخير وأما الخلاص من العقاب والفوز بالثواب فذاك هو الغرض الأعظم
أما قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ ففيه محذوف تم فيه وجهان أحدهما أن يقدر من قول موسى عليه السلام كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم والآخر أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات فيكون التقدير ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم
وأما معنى قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فقد تقدم في قوله فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام السادس بيانه من وجوه أحدها كأنه تعالى قال اذكروا نعمتي حين قلتم لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة ثم أحييتكم لتتوبوا عن بغيكم وتتخلصوا عن العقاب وتفوزوا بالثواب وثانيها أن فيها تحذيراً لمن كان في زمان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك وثالثها تشبيههم في جحودهم معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأسلافهم في جحود نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات الظاهرة وتنبيهاً على أنه تعالى إنما لا يظهر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ولو جحدوها لاستحقوا العقاب مثل ما استحقه أسلافهم ورابعها فيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يلاقي منهم وتثبيت لقلبه على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وخامسها فيه إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب لما أنهم عرفوا خبره وذلك لأنه تعالى بين أن أسلافهم مع مشاهدتهم تلك الآيات الباهرة على نبوة موسى عليه السلام كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ويخالفونه فلا يتعجب من مخالفتهم لمحمد عليه الصلاة والسلام وإن وجدوا في كتبهم الأخبار عن نبوته وسادسها لما أخبر محمد عليه الصلاة والسلام عن هذه القصص مع أنه كان أمياً لم يشتغل بالتعلم ألبتة وجب أن يكون ذلك عن الوحي
البحث الثاني للمفسرين في هذه الواقعة قولان الأول أن هذه الواقعة كانت بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل قال محمد بن اسحاق لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وحرق العجل وألقاه في البحر اختار من قومه سبعين رجلاً من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى سل ربك حتى يسمعنا كلامه فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله إليه ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم ادخلوا وعوا وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام يقول له افعل ولا تفعل فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو ويقول يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فارجع إليهم وليس معي منهم واحد فما الذي يقولون فيّ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى رد الله إليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم
القول الثاني أن هذه الواقعة كانت بعد القتل قال السدي لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل فاختار موسى سبعين رجلاً فلما أتوا الطور قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا فقام موسى يبكي ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بقيتهم هؤلاء فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد فماذا أقول لهم فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً فقال موسى إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) إلى قوله إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ( الأعراف 56 ) ثم إنه تعالى أحياهم فقاموا ونظر كل واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى فقالوا يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً إلا أعطاك فادعه يجعلنا أنبياء فدعاه بذلك فأجاب الله دعوته واعلم أنه ليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر وكذلك ليس فيها ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل أو غيرهم
أما قوله تعالى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ فمعناه لا نصدقك ولا نعترف بنبوتك حتى نرى الله جهرة ( أي ) عياناً قال صاحب الكشاف وهي مصدر من قولك جهرت بالقراءة وبالدعاء كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية والذي يرى بالقب مخافت بها وانتصار بها على المصدر لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما ينصب القرفصاء بفعل الجلوس أو على الحال بمعنى ذوي جهرة وقرىء جهرة بفتح الهاء وهي إما مصدر كالغلبة وإما جمع جاهر وقال القفال أصل الجهرة من الظهور يقال جهرت الشيء ( إذا ) كشفته وجهرت البئر إذا كان ماؤها مغطى بالطين فنقيته حتى ظهر ماؤه ويقال صوت جهير ورجل جهوري الصوت إذا كان صوته عالياً ويقال وجه جهير إذا كان ظاهر الوضاءة وإنما قالوا جهرة تأكيداً لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ( نحو ) ما يراد النائم
أما قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ ففيه أبحاث
البحث الأول استدلت المعتزلة بذلك على أن رؤية الله ممتنعة قال القاضي عبد الجبار إنها لو كانت جائزة لكانوا قد التمسوا أمراً مجوزاً فوجب أن لا تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم العقوبة لما التمسوا النقل من قوت إلى قوت وطعام إلى طعام في قوله تعالى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ ( البقرة 61 ) وقال أبو الحسين في كتاب التصفح إن الله تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا استعظمه وذلك في آيات أحدها هذه الآية فإن الرؤية لو كانت جائزة لكان قولهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) كقول الأمم لأنبيائهم لن نؤمن إلا باحياء ميت في أنه لا يستعظم ولا تأخذهم الصاعقة وثانيها قوله تعالى يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) فسمي ذلك ظلماً وعاقبهم في الحال فلو كانت الرؤية جائزة لجرى سؤالهم لها مجرى من يسأل معجزة زائدة فإن قلت أليس إنه سبحانه وتعالى قد أجرى إنزال الكتاب من السماء مجرى الرؤية في كون كل واحد منهما عتوا فكما أن إنزال الكتاب غير ممتنع في نفسه فكذا سؤال الرؤية قلت الظاهر يقتضي كون كل واحد منهما ممتنعاً ترك العمل به في إنزال الكتاب فيبقى معمولاً به في الرؤية وثالثها قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى
رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ( الفرقان 21 ) فالرؤية لو كانت جائزة وهي عند مجزيها من أعظم المنافع لم يكن التماسها عتواً لأن من سأل الله تعالى نعمة في الدين أو الدنيا لم يكن عاتياً وجرى ذلك مجرى ما يقال لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت
واعلم أن هذه الوجوه مشتركة في حرف واحد وهو أن الرؤية لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً ومنكراً وذلك ممنوع ( و ) قوله إن طلب سائر المنافع من النقل من طعام إلى طعام لما كان ممكناً لم يكن طالبه عاتياً وكذا القول في طلب سائر المعجزات قلنا ولم قلت إنه لما كان طالب ذلك الممكن ليس بعات وجب أن يكون طالب كل ممكن غير عات والاعتماد في مثل هذا الموضع على ضروب الأمثلة لا يليق بأهل العلم وكيف وأن الله تعالى ما ذكر الرؤية إلا وذكر معها شيئاً ممكناً حكمنا بجوازه بالاتفاق وهو إما نزول الكتاب من السماء أو نزول الملائكة وأثبت صفة العتو على مجموع الأمرين وذلك كالدلالة القاطعة في أن صفة العتو ما حصلت لأجل كون المطلوب ممتنعاً أما قوله أبي الحسين الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعاً ترك العمل به في البعض فيبقى معمولاً به في الباقي قلنا إنك ما أقمت دليلاً على أن الاستعظام لا يتحقق إلا إذا كان المطلوب ممتنعاً وإنما عولت فيه على ضروب الأمثلة والمثال لا ينفع في هذا الباب فبطل قولك الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعاً فظهر بما قلنا سقوط كلام المعتزلة فإن قال قائل فما السبب في استعظام سؤال الرؤية الجواب في ذلك يحتمل وجوهاً أحدها أن رؤية الله تعالى لا تحصل إلا في الآخرة فكان طلبها في الدنيا مستنكراً وثانيها أن حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف وهذا على قول المعتزلة أولى لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري والعلم الضروري ينافي التكليف وثالثها أنه لما تمت الدلائل على صدق المدعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتاً والمتعنت يستوجب التعنيف ورابعها لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن في منع الخلق عن رؤيته سبحانه في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا كما علم أن في إنزال الكتاب من السماء وإنزال الملائكة من السماء مفسدة عظيمة فلذلك استنكر طلب ذلك والله أعلم
البحث الثاني للمفسرين في الصاعقة قولان الأول أنها هي الموت وهو قول الحسن وقتادة واحتجوا عليه بقوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وهذا ضعيف لوجوه أحدها قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ولو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة وثانيها أنه تعالى قال في حق موسى وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( الأعراف 143 ) أثبت الصاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتاً لأنه قال فَلَمَّا أَفَاقَ والإفاقة لا تكون عن الموت بل عن الغشي وثالثها أن الصاعقة وهي التي تصعق وذلك إشارة إلى سبب الموت ورابعها أن ورودها وهم مشاهدون لها أعظم في باب العقوبة منها إذا وردت بغتة وهم لا يعلمون ولذلك قال وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ منبهاً على عظم العقوبة القول الثاني وهو قول المحققين إن الصاعقة هي سبب الموت ولذلك قال في سورة الأعراف فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ واختلفوا في أن ذلك السبب أي شيء كان على ثلاثة أوجه أحدها أنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم وثانيها صيحة جاءت من السماء وثالثها أرسل الله تعالى جنوداً سمعوا بخسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة
أما قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لأن البعث قد ( لا ) يكون إلا بعد الموت كقوله تعالى فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( اكلهف 11 12 ) فإن قلت هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام قلت لا لوجهين الأول أنه خطاب مشافهة فلا يحب أن يتناول موسى عليه السلام الثاني أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى فَلَمَّا أَفَاقَ مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت وقال ابن قتيبة إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم أما أنه كلفهم فلقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً ( سبأ 13 ) فإن قيل كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت قلنا الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرهم وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الأحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء ونقل عن الحسن البصري أنه تعالى قطع آجالهم بهذه الإماتة ثم أعادهم كما أحيا الذي أماته حين مر على قرية وهي خاوية على عروشها وأحيا الذين أماتهم بعدما خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وهذا ضعيف لأنه تعالى ما أماتهم بالصاعقة إلا وقد كتب وأخبر بذلك فصار ذلك الوقت أجلاً لموتهم الأول ثم الوقت الآخر أجلاً لحياتهم
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فجوابنا عنه قد تقدم مراراً فلا حاجة إلى الإعادة
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام السابع الذي ذكره الله تعالى وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بهذه الألفاظ في سورة الأعراف وظاهر هذه الآية يدل على أن هذا الإظلال كان بعد أن بعثهم لأنه تعالى قال ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ بعضه معطوف على بعض وإن كان لا يمتنع خلاف ذلك لأن الغرض تعريف النعم التي خصهم الله تعالى بها
قال المفسرون وَظَلَّلْنَا وجعلن الغمام تظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الله إليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه كُلُواْ على إرادة القول وَمَا ظَلَمُونَا يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم أو بأن أخذوا أزيد مما أطلق لهم في أخذه أو بأن سألوا غير ذلك الجنس وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وَمَا ظَلَمُونَا عليه
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الثامن وهذه الآية معطوفة على النعم المتقدمة لأنه تعالى كما بين نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام وأنزل ( عليهم ) من المن والسلوى وهو من النعم العاجلة أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة
واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين
النوع الأول ما يتعلق بالتفسير فنقول أما قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ ( البقرة 58 ) فاعلم أنه أمر تكليف ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى أمر بدخول الباب سجداً وذلك فعل شاق فكان الأمر به تكليفاً ودخول الباب سجداً مشروط بدخول القرية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فثبت أن الأمر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة الثاني أن قوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ( المائدة 21 ) دليل على ما ذكرناه أما القرية فظاهر القرآن لا يدل على عينها وإنما يرجع في ذلك إلى الأخبار وفيه أقوال أحدها وهو اختيار قتادة والربيع وأبي مسلم الأصفهاني أنها بيت المقدس واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة المائدة ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ولا شك أن المراد بالقرية في الآيتين واحد وثانيها أنها نفس مصر وثالثها وهو قول ابن عباس وأبي زيد إنها أريحاء وهي قريبة من بيت المقدس واحتج هؤلاء على أنه لا يجوز أن تكون تلك القرية بيت
المقدس لأن الفاء في قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تقتضي التعقيب فوجب أن يكون ذلك التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى لكن موسى مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس فثبت أنه ليس المراد من هذه القرية بيت المقدس وأجاب الأولون بأنه ليس في هذه الآية أنا قلنا ادخلوا هذه القرية على لسان موسى أو على لسان يوشع وإذا حملناه على لسان يوشع زال الإشكال وأما قوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا فقد مر تفسيره في قصة آدم عليه السلام وهو أمر إباحة
أما قوله تعالى وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ففيه بحثان
الأول اختلفوا في الباب على وجهين أحدهما وهو قول ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة إنه باب يدعى باب الحطة من بيت المقدس وثانيهما حكى الأصم عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القرية ومدخلاً إليها
الثاني اختلفوا في المراد بالسجود فقال الحسن أراد به نفس السجود الذي هو الصاق الوجه بالأرض وهذا بعيد لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك ومنهم من حمله على غير السجود وهؤلاء ذكروا وجهين الأول رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد هو الركوع لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء وهذا بعيد لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً فما كان يحتاج فيه إلى الأمر الثاني أراد به الخضوع وهو الأقرب لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاضعاً مستكيناً أما قوله تعالى وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ففيه وجوه أحدها وهو قول القاضي المعنى أنه تعالى بعد أن أمرهم بدخول الباب على وجه الخضوع أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب لأن التوبة لا تتم إلا به إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه وكذلك من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول عنه التهمة في الثبات على الباطل وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته فلهذا السبب ألزم الله تعالى بني إسرائيل مع الخضوع الذي هو صفة القلب أن يذكروا اللفظ الدال على تلك التوبة وهو قوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) فالحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق ثانيها قول الأصم إن هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية وثالثها قال صاحب الكشاف ( حطة ) فعلة من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله
صبر جميل فكلانا مبتلي
والأصل صبراً على تقدير اصبر صبراً وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب ورابعها قول أبي مسلم الأصفهاني معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها وزيف القاضي ذلك بأن قال لو كان
المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقاً به ولكن قوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ( البقرة 58 ) يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجداً مع التواضع كان الغفران متعلقاً به وخامسها قول القفال معناه اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا إنما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك فحط عنا ذنوبنا فإن قال قائل هل كان التكليف وارداً بذكر هذه اللفظة بعينها أم لا قلنا روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها وهذا محتمل ولكن الأقرب خلافه لوجهين أحدهما أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بالعربية وثانيهما وهو الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على لتوبة والندم والخضوع حتى أنهم لو قالوا مكان قولهم حِطَّة ٌ اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً لأن المقصود من التوبة إما القلب وإما اللسان أما القلب فالندم وأما اللسان فذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها
أما قوله تعالى نَّغْفِرْ لَكُمْ فالكلام في المغفرة قد تقدم ثم ههنا بحثان
الأول أن قوله نَّغْفِرْ لَكُمْ ذكره الله تعالى في معرض الامتنان ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً على ما تقوله المعتزلة لما كان الأمر كذلك بل كان أداء للواجب وأداء الواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان
الثاني ههنا قراءات أحدها قرأ أبو عمرو وابن المنادي بالنون وكسر الفاء وثانيها قرأ نافع بالياء وفتحها وثالثها قرأ الباقون من أهل المدينة وجبلة عن المفضل بالتاء وضمها وفتح الفاء ورابعها قرأ الحسن وقتادة وأبو حيوة والجحدري بالياء وضمها وفتح الفاء قال القفال والمعنى في هذه القراءات كلها واحد لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت وإذا غفرت فإنما يغفرها الله والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث كقوله وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) والمراد من الخطيئة الجنس لا الخطيئة الواحدة بالعدد أما قوله تعالى خَطَايَاكُمْ ففيه قراءات أحدها قرأ الجحدري ( خطيئتكم ) بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة على واحدة وثانيها الأعمش ( خطيئاتكم ) بمدة وهمزة وألف بعد الهمزة قبل التاء وكسر التاء وثالثها الحسن كذلك إلا أنه يرفع التاء ورابعها الكسائي خطاياكم بهمزة ساكنة بعد الطاء قبل الياء وخامسها ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الياء وقبل الكاف وسادسها الكسائي بكسر الطاء والتاء والباقون بإمالة الياء فقط
أما قوله تعالى وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسناً بالطاعة في هذا التكليف أو من كان محسناً بطاعات أخرى في سائر التكاليف أما على التقدير الأول فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين أما الاحتمال الأول وهو أن تكون من منافع الدنيا فالمعنى أن من كان محسناً بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية وأما الاحتمال الثاني وهو أن تكون من منافع الآخرة فالمعنى أن من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) أي نجازيهم بالإحسان إحساناً وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشراً وأكثر من ذلك وأما إن كان المراد من ( المحسنين ) من كان محسناً بطاعات أخرى بعد هذه التوبة فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم
الباب سجداً وقولكم حطة مؤثراً في غفران الذنوب ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم الثواب على تلك الطاعات الزائدة وفي الآية تأويل آخر وهو أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ومن لم يكن خاطئاً بل كان محسناً زدنا في إحسانه أي كتبنا تلك الطاعة في حسناته وزدناه زيادة منا فيها فتكون المغفرة للمؤمنين والزيادة للمطيعين
أما قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ففيه قولان الأول قال أبو مسلم قوله تعالى فَبَدَّلَ يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لا على أنهم أتوا له ببدل والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ مّنَ الاْعْرَابِ ( الفتح 11 ) إلى قوله يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ ( الفتح 15 ) ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا ههنا فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه الثاني وهو قول جمهور المفسرين إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل فلا بد من حصول البدل وهذا كما يقال فلان بدل دينه يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر ويؤكد ذلك قوله تعالى قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ثم اختلفوا في أن ذلك القول والفعل أي شيء كان فروي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً زاحفين على أستاههم قائلين حنطة من شعيرة وعن مجاهد أنهم دخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة استهزاء وقال ابن زيد استهزاء بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شيء حطة
أما قوله تعالى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم وذلك ظلم على ما تقدم
أما قوله تعالى فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ففيه بحثان
الأول أن في تكرير الَّذِينَ ظَلَمُواْ زيادة في تقبيح أمرهم وإيذاناً بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم الثاني أن الرجز هو العذاب والدليل عليه قوله تعالى وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ أي العقوبة وكذا قوله تعالى لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) وذكر الزجاج أن الرجز والرجس معناهما واحد وهو العذاب
وأما قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ( الأنفال 11 ) فمعناه لطخه وما يدعوا إليه من الكفر ثم إن تلك العقوبة أي شيء كانت لا دلالة في الآية عليه فقال ابن عباس مات منهم بالفجأة أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة وقال ابن زيد بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي خمس وعشرون ألفاً ولم يبق منهم أحد
أما قوله تعالى بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فالفسق من الخروج المضر يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفي الشرع عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته قال أبو مسلم هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وفائدة التكرار التأكيد والحق أنه غير مكرر لوجهين الأول أن الظلم قد يكون من الصغائر وقد يكون من الكبائر ولذلك وصف الله الأنبياء بالظلم في قوله تعالى رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) ولأنه تعالى قال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) ولو لم يكن الظلم إلا عظيماً لكان ذكر العظيم تكريراً والفسق لا بد وأن يكون من
الكبائر فلما وصفهم الله بالظلم أولاً وصفهم بالفسق ثانياً ليعرف أن ظلمهم كان من الكبائر لا من الصغائر الثاني يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل فنزل الرجز عليهم من السماء بسبب ذلك التبديل بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل وعلى هذا الوجه يزول التكرار
النوع الثاني من الكلام في هذه الآية اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة الأعراف وهو قوله وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ ( الأعراف 161 162 ) واعلم أن من الناس من يحتج بقوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ على أن ما ورد به التوقيف من الأذكار أنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها بغيرها وربما احتج أصحاب الشافعي رضي الله عنه في أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ولا تجوز القراءة بالفارسية وأجاب أبو بكر الرازي بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول فلا جرم استوجبوا الذم فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك والجواب أن ظاهر قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أو لم يتفقا وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال في سورة البقرة وَإِذْ قُلْنَا وقال في الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ الجواب أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) ثم أخذ يعدد ( نعمه ) نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول وَإِذْ قُلْنَا أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة
السؤال الثاني لم قال في البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ وفي الأعراف اسْكُنُواْ الجواب الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة
السؤال الثالث لم قال في البقرة فَكُلُواْ بالفاء وفي الأعراف وَكُلُواْ بالواو والجواب ههنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا وفي الأعراف فَكُلاًّ
السؤال الرابع لم قال في البقرة نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وفي الأعراف نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ الجواب الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة ( ة ) وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة
السؤال الخامس لم ذكر قوله رَغَدًا في البقرة وحذفه في الأعراف الجواب عن هذا السؤال كالجواب
في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه
السؤال السادس لم ذكر في البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وفي الأعراف قدم المؤخر الجواب الواو للجمع المطلق وأيضاً فالمخاطبون بقوله ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّة ٌ يحتمل أن يقال إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدماً على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولاً ( حطة ) ثم يدخلوا الباب سجداً وأما الذي لا يكون مذنباً فالأولى به أن يشتغل أولاً بالعبادة ثم يذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ثم يقولوا حطة ثانياً فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى
السؤال السابع لم قال وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ في البقرة مع الواو وفي الأعراف سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ من غير الواو الجواب أما في الأعراف فذكر فيه أمرين أحدهما قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة وثانيها دخول الباب سجداً وهو إشارة إلى العبادة ثم ذكر جزأين أحدهما قوله تعالى نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وهو واقع في مقابلة قول الحطة والآخر قوله سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجداً فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحداً لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة
السؤال الثامن قال الله تعالى في سورة البقرة فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً وفي الأعراف فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً فما الفائدة في زيادة كلمة ( منهم ) في الأعراف الجواب سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ ( من ) لأنه تعالى قال وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 159 ) فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم فلما انتهت القصة قال الله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فذكر لفظة مِنْهُمْ في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة وههنا ذكر أمة جابرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق
السؤال التاسع لم قال في البقرة فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا وقال في الأعراف فَأَرْسَلْنَا الجواب الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية وذلك إنما يحدث بالآخرة
السؤال العاشر لم قال في البقرة بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وفي الأعراف بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ الجواب أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ
قراءة العامة اثنتا عشرة بسكون الشين على التخفيف وقراءة أبي جعفر بكسر الشين وعن بعضهم بفتح الشين والوجه هو الأول لأنه أخف وعليه أكثر القراء واعلم أن هذا هو الإنعام التاسع من الإنعامات المعدودة على بني إسرائيل وهو جامع لنعم الدنيا والدين أما في الدنيا فلأنه تعالى أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا في التيه كما لولا إنزاله المن والسلوى لهلكوا فقد قال تعالى وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الأنبياء 8 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) بل الإنعام بالماء في التيه أعظم من الإنعام بالماء المعتاد لأن الإنسان إذا اشتدت حاجته إلى الماء في المفازة وقد انسدت عليه أبواب الرجاء لكونه في مكان لا ماء فيه ولا نبات فإذا رزقه الله الماء من حجر ضرب بالعصا فانشق واستقى منه علم أن هذه النعمة لا يكاد يعدلها شيء من النعم وأما كونه من نعم الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ومن أصدق الدلائل على صدق موسى عليه السلام وههنا مسائل
المسألة الأولى جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر وأنكر أبو مسلم حمل هذه المعجزة على أيام مسيرهم إلى التيه فقال بل هو كلام مفرد بذاته ومعنى الاستسقاء طلب السقيا من المطر على عادة الناس إذا أقحطوا ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسقيا وإنزال الغيث والحق أنه ليس في الآية ما يدل على أن الحق هذا أو ذاك وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التيه ويدل عليه وجهان أحدهما أن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النادر الثاني ما روي أنهم كانوا يحملون الحجر مع أنفسهم لأنه صار معداً لذلك فكما كان المن والسلوى ينزلان عليهم في كل غداة فكذلك الماء ينفجر لهم في كل وقت وذلك لا يليق إلا بأيامهم في التيه
المسألة الثانية اختلفوا في العصا فقال الحسن كانت عصا أخذها من بعض الأشجار وقيل كانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة والذي يدل عليه القرآن أن مقدارها كان مقداراً يصح أن يتوكأ عليها وأن تنقلب حية عظيمة ولا تكون كذلك إلا ولها قدر من الطول والغلظ وما زاد على ذلك فلا دلالة عليه
واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها
المسألة الثالثة اللام في ( الحجر ) إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم فروي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً وقيل اهبط مع آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة ففر به فقال له جبريل يقول الله تعالى ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر وعن الحسن لم يأمروه أن يضرب حجراً بعينه قال وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة وروي أنهم قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة فحمل حجراً في مخلاته فحينما نزلوا ألقاه وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله إليه لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك واختلفوا في صفة الحجر فقيل كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان والمختار عندنا تفويض علمه إلى الله تعالى
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَانفَجَرَتْ متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أو فإن ضربت فقد انفجرت بقي هنا سؤالات
السؤال الأول هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يستغني عن تقدير هذا المحذوف الجواب لا يمتنع في القدرة أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة لأن ذلك لو قيل إنه أبلغ في قيل إنه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب لكن الصحيح أنه ضرب فانفجرت لأنه تعالى لو أمر رسوله بشيء ثم إن الرسول لا يفعله لصار الرسول عاصياً ولأنه إذا انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا عبثاً كأنه لا معنى له ولأن المروي في الأخبار أن تقديره فضرب فانفجرت كما في قوله تعالى فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) من أن المراد فضرب فانفلق
السؤال الثاني أنه تعالى ذكر ههنا فَانفَجَرَتْ وفي الأعراف فَانبَجَسَتْ ( الأعراف 16 ) وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروجه قليلاً الجواب من ثلاثة أوجه أحدها الفجر الشق في الأصل والانفجار الانشقاق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق والانبجاس اسم للشق الضيق القليل فهما مختلفان اختلاف العام والخاص فلا يتناقضان وثانيها لعله انبجس أولاً ثم انفجر ثانياً وكذا العيون يظهر الماء منها قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه وثالثها لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر أي يخرج الماء كثيراً ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلاً
السؤال الثالث كيف يعقل خروج المياه العظيمة من الحجر الصغير الجواب هذا السائل إما أن يسلم وجود الفاعل المختار أو ينكره فإن سلم فقد زال السؤال لأنه قادر على أن يخلق الجسم كيف شاء كما خلق البحار وغيرها وإن نازع فلا فائدة له في البحث عن معنى القرآن والنظر في تفسيره وهذا هو الجواب عن كل ما يستبعدونه من المعجزات التي حكاها الله تعالى في القرآن من إحياء الموتى وإبراء الأكمه
والأبرص وأيضاً فالفلاسفة لا يمكنهم القطع بفساد ذلك لأن العناصر الأربعة لها هيولى مشتركة عندهم وقالوا إنه يصح الكون والفساد عليها وإنه يصح انقلاب الهواء ماء وبالعكس وكذلك قالوا ( الهواء ) إذا وضع في الكوز الفضة جمد فإنه يجتمع على أطراف الكوز قطرات الماء فقالوا تلك القطرات إنما حصلت لأن الهواء انقلب ماء فثبت أن ذلك ممكن في الجملة والحوادث السفلية مطيعة للاتصالات الفلكية فلم يكن مستبعداً أن يحدث اتصال فلكي يقتضي وقوع هذا الأمر الغريب في هذا العالم فثبت أن الفلاسفة لا يمكنهم الجزم بفساد ذلك
أما المعتزلة فإنهم لما اعتقدوا كون العبد موجداً لأفعاله لا جرم قلنا لهم لم لا يجوز أن يقدر العبد على خلق الجسم فذكروا في ذلك طريقين ضعيفين جداً سنذكرهما إن شاء الله تعالى في تفسير آية السحر ونذكر وجه ضعفهما وسقوطهما وإذا كان كذلك فلا يمكنهم القطع بأن ذلك من فعل الله تعالى فتنسد عليهم أبواب المعجزات والنبوات أما أصحابنا فإنهم لما اعتقدوا أنه لا موجد إلا الله تعالى لا جرم جزموا أن المحدث لهذه الأفعال الخارقة للعادات هو الله تعالى فلا جرم أمكنهم الاستدلال بظهورها على يد المدعي على كونه صادقاً
السؤال الرابع أتقولون إن ذلك الماء كان مستكناً في الحجر ثم ظهر أو قلب الله الهواء ماء أو خلق الماء ابتداء والجواب أما الأول فباطل لأن الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم إلا على سبيل التداخل وهو محال أما الوجهان الأخيران فكل واحد منهما محتمل فإن كان على الوجه الأول فقد أزال الله تعالى اليبوسة عن أجزاء الهواء وخلق الرطوبة فيها وإن كان على الوجه الثاني فقد خلق تلك الأجزاء وخلق الرطوبة فيها واعلم أن الكلام في هذا الباب كالكلام فيما كان من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء فوضع يده في متوضئه ففار الماء من بين أصابعه حتى استكفوا
السؤال الخامس معجزة موسى في هذا المعنى أعظم أم معجزة محمد عليه السلام الجواب كل واحدة منهما معجزة باهرة قاهرة لكن التي لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ألبتة فكان ذلك أقوى
السؤال السادس ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً والجواب أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير من الناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عين لكل سبط منهم ماء معيناً لا يختلط بغيره والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين
السؤال السابع من كم وجه يدل هذا الانفجار على الإعجاز والجواب من وجوه أحدها أن نفس ظهور الماء معجز وثانيها خروج الماء العظيم من الحجر الصغير وثالثها خروج الماء بقدر حاجتهم ورابعها خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا وخامسها انقطاع الماء عند الاستغناء عنه فهذه الوجوه الخمسة لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة في كل الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات وحكمة عالية على الدهر والزمان وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى
أما قوله تعالى قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ فنقول إنما علموا ذلك لأنه أمر كل إنسان أن لايشرب إلا من جدول معين كيلا يختلفوا عند الحاجة إلى الماء وأما إضافة المشرب إليهم فلأنه تعالى لما أباح لكل سبط من الأسباط ذلك الماء الذي ظهر من ذلك الشق الذي يليه صار ذلك كالملك لهم وجازت إضافته إليهم
أما قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللَّهِ ففيه حذف والمعنى فقلنا لهم أو قال لهم موسى كلوا واشربوا وإنما قال كلوا لوجهين أحدهما لما تقدم من ذكر المن والسلوى فكأنه قال كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب واشربوا من هذا الماء والثاني أن الأغذية لا تكون إلا بالماء فلما أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال قالوا لأن أقل درجات قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ الإباحة وهذا يقتضي كون الرزق مباحاً فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز
أما قوله تعالى وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ فالعثي أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه والمقصود منه ما جرت العادة بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه فكأنه تعالى قال إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع والله أعلم
وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
اعلم أن القراءة المعروفة يخرج لنا بضم الياء وكسر الراء تنبت بضم التاء وكسر التاء وقرأ زيد بن علي بفتح الياء وضم الراء تنبت بفتح التاء وضم الباء ثم اعلم أن أكثر الظاهريين من المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية وعندنا أنه ليس الأمر كذلك والدليل عليه أن قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ من
قبل هذه الآية عند إنزال المن والسلوى ليس بإيجاب بل هو إباحة وإذا كان كذلك لم يكن قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ معصية لأن من أبيح له ضرب من الطعام يحسن منه أن يسأل غير ذلك إما بنفسه أو على لسان الرسول فلما كان عندهم أنهم إذا سألوا موسى أن يسأل ذلك من ربه كان الدعاء أقرب إلى الإجابة جاز لهم ذلك ولم يكن فيه معصية
واعلم أن سؤال النوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض الأول أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره الثاني لعلهم في أصل الخلقة ما تعودوا ذلك النوع وإنما تعودوا سائر الأنواع ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفاً الثالث لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة الرابع أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ كالإجابة لما طلبوا ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية وهي غير جائزة على الأنبياء لا يقال إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ( الشورى 20 ) لأنا نقول هذا خلاف الظاهر واحتجوا على أن ذلك السؤال كان معصية بوجوه الأول أن قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ دلالة على أنهم كرهوا إنزال المن والسلوى وتلك الكراهة معصية الثاني أن قول موسى عليه السلام أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ استفهام على سبيل الإنكار وذلك يدل على كونه معصية الثالث أن موسى عليه السلام وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير وذلك يدل على ما قلناه والجواب عن الأول أنه ليس تحت قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ دلالة على أنهم ما كانوا راضين به فقط بل اشتهوا شيئاً آخر ولأن قولهم لَن نَّصْبِرَ إشارة إلى المستقبل لأن كلمة لن للنفي في المستقبل فلا يدل على أنهم سخطوا الواقع وعن الثاني أن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة وعن الثالث بقريب من ذلك فإن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث كان الانتفاع به حاضراً متيقناً ومن حيث إنه يحصل عفواً بلا كد كما يقال ذلك في الحاضر فقد يقال في الغائب المشكوك فيه إنه أدنى من حيث لا يتيقن ومن حيث لا يوصل إليه إلا بالكد فلا يمتنع أن يكون مراده أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ هذا المعنى أو بعضه فثبت بما ذكرنا أن ذلك السؤال ما كان معصية بل كان سؤالاً مباحاً وإذا كان كذلك فقوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ
وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ لا يجوز أن يكون لما تقدم بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ فبين أنه إنما ضرب الذلة والمسكنة عليهم وجعلهم محل الغضب والعقاب من حيث كانوا يكفرون لا لأنهم سألوا ذلك
المسألة الثانية قوله تعالى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ليس المراد أنه واحد في النوع بل أنه واحد في النهج وهو كما يقال إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغير عن نهجه
المسألة الثالثة القراءة المعروفة وَقِثَّائِهَا بكسر القاف وقرأ الأعمش وطلحة وقثائها بضم القاف والقراءة المعروفة وَفُومِهَا بالفاء وعن علقمة عن ابن مسعود وثومها وهي قراءة ابن عباس قالوا وهذا أوفق لذكر البصل واختلفوا في الفوم فعن ابن عباس أنه الحنطة وعنه أيضاً أن الفوم هو الخبز وهو أيضاً المروي عن مجاهد وعطاء وابن زيد وحكي عن بعض العرب فوموا لنا أي اخبزوا لنا وقيل هو الثوم وهو مروي أيضاً عن ابن عباس ومجاهد واختيار الكسائي واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه في حرف عبد الله بن مسعود وثومها الثاني أن المراد لو كان هو الحنطة لما جاز أن يقال أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ لأن الحنطة أشرف الأطعمة الثالث أن الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة
المسألة الرابعة القراءة المعروفة أَتَسْتَبْدِلُونَ وفي حرف أبي بن كعب ( أتبدلون ) بإسكان الباء وعن زهير الفرقبي ( أدنأ ) بالهمزة من الدناءة واختلفوا في المراد بالأدنى وضبط القول فيه أن المراد إما أن يكون أدنى في المصلحة في الدين أو في المنفعة في الدنيا والأول غير مراد لأن الذي كانوا عليه لو كان أنفع في باب الدين من الذي طلبوه لما جاز أن يجيبهم إليه لكنه قد أجابهم إليه بقوله اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ فبقي أن يكون المراد منه المنفعة في الدنيا ثم لا يجوز أن يكون المراد أن هذا النوع الذي أنتم عليه أفضل من الذي تطلبونه لما بينا أن الطعام الذي يكون ألذ الأطعمة عند قوم قد يكون أخسها عند آخرين بل المراد ما بينا أن المن والسلوى متيقن الحصول وما يطلبونه مشكوك الحصول والمتيقين خير من المشكوك أو لأن هذا يحصل من غير كد ولا تعب وذلك لا يحصل إلا مع الكد والتعب فيكون الأول أولى فإن قيل كان لهم أن يقولوا هذا الذي يحصل عفواً صفواً لما كرهناه بطباعنا كان تناوله أشق من الذي لا يحصل إلا مع الكد إذا اشتهته طباعنا قلنا هب أنه وقع التعارض من هذه الجهة لكنه وقع الترجيح بما أن الحاضر المتيقن راجع على الغائب المشكوك
المسألة الخامسة القراءة المعروفة اهْبِطُواْ بكسر الباء وقرىء بضم الباء القراءة المشهورة مِصْرًا بالتنوين وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث لسكون وسطه كقوله وَنُوحاً هَدَيْنَا وَلُوطاً ( الأنعام 84 86 ) وفيهما العجمة والتعريف وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش اهْبِطُواْ مِصْرًا بغير تنوين كقوله أَدْخِلُواْ مِصْرًا واختلف المفسرون في قوله اهْبِطُواْ مِصْرًا روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب ترك التنوين وقال الحسن الألف في مصراً زيادة من الكاتب فحينئذ تكون معرفة فيجب أن تحمل على ما هو المختص بهذا الاسم وهو البلد الذي كان فيه فرعون وهو مروي عن أبي العالية والربيع وأما الذين قرؤوا بالتنوين وهي القراءة المشهورة فقد اختلفوا فمنهم من قال المراد البلد الذي كان فيه فرعون ودخول التنوين فيه كدخوله في نوح ولوط وقال آخرون المراد الأمر بدخول أي بلد كان كأنه قيل لهم ادخلوا بلداً أي بلد كان لتجدوا فيه هذه الأشياء وبالجملة فالمفسرون قد اختلفوا في أن المراد من مصر هو البلد الذي كانوا فيه أولاً أو بلد آخر
فقال كثير من المفسرين لا يجوز أن يكون هو البلد الذي كانوا فيه مع فرعون واحتجوا عليه بقوله تعالى ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ( المائدة 21 ) والاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه الأول أن قوله تعالى ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ إيجاب لدخول تلك الأرض وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى والثاني أن قوله كِتَابِ اللَّهِ يقتضي دوام كونهم فيه والثالث أن قوله وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس الرابع أنه تعالى بعد أن أمر بدخول الأرض المقدسة قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ فإذا تقدم هذا الأمر ثم بين تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدة فعند زوال العذر وجب أن يلزمهم دخولها وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها فإن قيل هذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأن قوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ أمر والأمر للندب فلعلهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة مع أنهم ما منعوا من دخول مصر أما الثاني فهو كقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فذلك يدل على دوام تلك الندبية وأما الثالث وهو قوله تعالى وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فلا نسلم أن معناه ولا ترجعوا إلى مصر بل فيه وجهان آخران الأول المراد لا تعصوا فيما أمرتم به إذ العرب تقول لمن عصى فيما يؤمر به ارتد على عقبه والمراد من هذا العصيان أن ينكر أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى الثاني أن يخصص ذلك النهي بوقت معين فقط قلنا ثبت في أصول الفقه أن ظاهر الأمر للوجوب فيتم دليلنا بناء على هذا الأصل وأيضاً فهب أنه للندب ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب وذلك لا يليق بالأنبياء قوله لا نسلم أن المراد من قوله وَلاَ تَرْتَدُّوا لا ترجعوا قلنا الدليل عليه أنه لما أمر بدخول الأرض المقدسة ثم قال بعده وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ تبادر إلى الفهم أن هذا النهي يرجع إلى ما تعلق به ذلك الأمر قوله أن يخصص ذلك النهي بوقت معين قلنا التخصيص خلاف الظاهر أما أبو مسلم الأصفهاني فإنه جوز أن يكون المراد مصر فرعون واحتج عليه بوجهين الأول أنا إن قرأنا اهْبِطُواْ مِصْرًا بغير تنوين كان لا محالة علماً لبلد معين وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سوى هذه البلدة المعينة فوجب حمل اللفظ عليه ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علماً وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى من حمله على الصفة مثل ظالم وحادث فإنهما لما جاءا علمين كان حملهما على العلمية أولى أما إن قرأناه بالتنوين فإما أن نجعله مع ذلك اسم علم ونقول إنه إنما دخل فيه التنوين لسكون وسطه كما في نوح ولوط فيكون التقرير أيضاً ما تقدم بعينه وأما إن جعلناه اسم جنس فقوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا يقتضي التخيير كما إذ قال أعتق رقبة فإنه يقتضي التخيير بين جميع رقاب الدنيا الوجه الثاني أن الله تعالى ورث بني إسرائيل أرض مصر وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها بيان أنها موروثة لهم قوله تعالى فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ إلى قوله كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 57 59 ) ولما ثبت أنها موروثة لهم وجب أن لا يكونوا ممنوعين من دخولها لأن الإرث يفيد الملك والملك مطلق للتصرف فإن قيل الرجل قد يكون مالكاً للدار وإن كان ممنوعاً عن دخولها بوجه آخر كحال من أوجب على نفسه اعتكاف أيام في المسجد فإن داره وإن
كانت مملوكة له لكنه يحرم عليه دخولها فلم لا يجوز أن يقال إن الله ورثهم مصر بمعنى الولاية والتصرف فيها ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها من حيث أوجب عليهم أن يسكنوا الأرض المقدسة بقوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ قلنا الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل أجاب الفريق الأول عن هاتين الحجتين اللتين ذكرهما أبو مسلم فقالوا أما الوجه الأول فالجواب عنه أنا نتمسك بالقراءة المشهورة وهي التي فيها التنوين قوله هذه القراءة تقتضي التخيير قلنا نعم لكنا نخصص العموم في حق هذه البلدة المعينة بما ذكرناه من الدليل
أما الوجه الثاني فالجواب عنه أنا لا ننازع في أن الملك مطلق للتصرف ولكن قد يترك هذا الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمناه من الدلالة
أما قوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ فالمعنى جعلت الذلة محيطة بهم حتى مشتملة عليهم فهم فيها كمن يكون في القبة المضروبة أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه والأقرب في الذلة أن يكون المراد منها ما يجري مجرى الاستحقاق كقوله تعالى فيمن يحارب ويفسد ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا فأما من يقول المراد به الجزية خاصة على ما قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( التوبة 29 ) فقوله بعيد لأن الجزية ما كانت مضروبة عليهم من أول الأمر
أما قوله تعالى وَالْمَسْكَنَة ُ فالمراد به الفقر والفاقة وتشديد المحنة فهذا الجنس يجوز أن يكون كالعقوبة ومن العلماء من عد هذا من باب المعجزات لأنه عليه السلام أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ووقع الأمر كذلك فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً
أما قوله تعالى وَبَاءوا ففيه وجوه أحدها البوء الرجوع فقوله باءو أي رجعوا وانصرفوا بذلك ولا يقال باء إلا بشر وثانيها البوء التسوية فقوله باءو أي استوى عليهم غضب الله قال الزجاج وثالثها باؤ أي استحقوا ومنه قوله تعالى الْعَالَمِينَ إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ ( المائدة 29 ) أي تستحق الإثمين جميعاً وأما غضب الله فهو إرادة الانتقام
أما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فهو علة لما تقدم ذكره من ضرب الذلة والمسكنة عليهم وإلحاق الغضب بهم قالت المعتزلة لو كان الكفر حصل فيهم بخلق الله تعالى كما حصلت الذلة والمسكنة فيهم بخلقه لما كان جعل أحدهما جزاء الثاني أولى من العكس وجوابه المعارضة بالعلم والداعي وأما حقيقة الكفر فقد تقدم القول فيها
أما قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ فالمعنى أنهم يستحقون ما تقدم لأجل هذه الأفعال أيضاً وفيه سؤالات
السؤال الأول أن قوله تعالى يَكْفُرُونَ دخل تحته قتل الأنبياء فلم أعاد ذكره مرة أخرى الجواب المذكور ههنا الكفر بآيات الله وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء
السؤال الثاني لم قال بِغَيْرِ الْحَقّ وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه الجواب من وجهين الأول أن الإتيان بالباطل قد يكون حقاً لأن الآتي به اعتقده حقاً لشبهة وقعت في قلبه وقد يأتي به
مع علمه بكونه باطلاً ولا شك أن الثاني أقبح فقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقاً في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه وثانيها أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان وثالثها أن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا أليس أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق
وأما قوله تعالى ذالِكَ بِمَا عَصَواْ فهو تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول وهو بمنزلة أن يقول الرجل لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها هذا بما عصيتني وخالفت أمري هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي هذا بكذا فيعد عليه ذنوبه بألفاظ مختلفة تبكيتاً أما قوله تعالى وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ فالمراد منه الظلم أي تجاوزوا الحق إلى الباطل واعلم أنه تعالى لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين علة ذلك فبدأ أولاً بما فعلوه في حق الله تعالى وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ثم ربع بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية حسن الترتيب فإن قيل قال ههنا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذكر الحق بالألف واللام معرفة وقال في آل عمران إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ ( آل عمران 21 ) نكرة وكذلك في هذه السورة وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ لَيْسُواْ سَوَاء ( آل عمران 112 113 ) فما الفرق الجواب الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه السلام لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث ( كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن القراءة المشهورة هَادُواْ بضم الدال وعن الضحاك ومجاهد بفتح الدال وإسكان الواو والقراءة المعروفة الصابئين والصابئون بالهمزة فيهما حيث كانا وعن نافع وشيبة والزهري والصابين بياء ساكنة من غير همز والصابون بباء مضمومة وحذف الهمزة وعن العمري يجعل الهمزة فيهما وعن أبي جعفر بياءين خالصتين فهما بدل الهمزة فأما ترك الهمزة فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشيء فأحبه والآخر قلب الهمزة فنقول الصابيين والصابيون والاختيار الهمز لأنه قراءة الأكثر وإلى معنى التفسير أقرب لأن أهل العلم قالوا هو الخارج من دين إلى دين واعلم أن عادة الله إذا ذكر
وعداً أو وعيداً عقبه بما يضاده ليكون الكلام تاماً فههنا لما ذكر حكم الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم والثواب الكريم دالاً على أنه سبحانه وتعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 ) فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ واختلف المفسرون في المراد منه وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ غير المراد منه في قوله تعالى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ونظيره في الإشكال قوله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ ( النساء 136 ) فلأجل هذا الإشكال ذكروا وجوهاً أحدها وهو قول ابن عباس المراد الذين آمنوا قبل مبعث محمد بعيسى عليهما السلام مع البراءة عن أباطيل اليهود والنصارى مثل قس بن ساعدة وبحيرى الراهب وحبيب النجار وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري ووفد النجاشي فكأنه تعالى قال إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والذين كانوا على الدين الباطل الذي للنصارى كل من آمن منهم بعد مبعث محمد عليه السلام بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم وثانيها أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري وثالثها المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ هم المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة وهو عائد إلى الماضي ثم قوله تعالى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ يقتضي المستقبل فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل وهو قول المتكلمين
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ هَادُواْ فقد اختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها إنما سموا به حين تابوا من عبادة العجل وقالوا إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ( الأعراف 156 ) أي تبنا ورجعنا وهو عن ابن عباس وثانيها سموا به لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب وإنما قالت العرب بالدال للتعريب فإن العرب إذا نقلوا أسماء من العجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها وثالثها قال أبو عمرو بن العلاء سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة وأما النصارى ففي اشتقاق هذا الاسم وجوه أحدها أن القرية التي كان ينزلها عيسى عليه السلام تسمى ناصرة فنسبوا إليها وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج وثانيها لتناصر هم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضاً وثالثها لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله قال صاحب الكشاف النصارى جمع نصران يقال رجل نصران وامرأة نصرانة والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري لأنهم نصروا المسيح
أما قوله تعالى وَالصَّابِئِينَ فهو من صبأ إذا خرج من دينه إلى دين آخر وكذلك كانت العرب
يسمون النبي عليه السلام صابئاً لأنه أظهر ديناً بخلاف أديانهم وصبأت النجوم إذا أخرجت من مطلعها وصبأنا به إذا خرجنا به وللمفسرين في تفسير مذهبهم أقوال أحدها قال مجاهد والحسن هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وثانيها قال قتاد هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات وقال أيضاً الأديان خمسة منها للشيطان أربعة وواحد للرحمن الصابئون وهم يعبدون الملائكة والمجوس وهم يعبدون النار والذين أشركوا يعبدون الأوثان واليهود والنصارى وثالثها وهو الأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان الأول أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه سبحانه أمربتعظيم هذه الكواكب واتخاذه قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم والثاني أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم ثم إنه سبحانه بين في هذه الفرق الأربعة أنهم إذا آمنوا بالله فلهم الثواب في الآخرة ليعرف أن جميع أرباب الضلال إذا رجعوا عن ضلالهم وآمنوا بالدين الحق فإن الله سبحانه وتعالى يقبل إيمانهم وطاعتهم ولا يردهم عن حضرته ألبتة واعلم أنه قد دخل في الإيمان بالله الإيمان بما أوجبه أعني الإيمان برسله ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب
أما قوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ فليس المراد العندية المكانية فإن ذلك محال في حق الله تعالى ولا الحفظ كالودائع بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم
وأما قوله تعالى وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقيل أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا ومنهم من قال في الآخرة في حال الثواب وهذا أصح لأن قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عام في النفي وكذلك وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصاً في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً عن الخوف والحزن وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً لأنهم لو جوزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الحزن العظيم فإن قال قائل إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ ( المائدة 69 ) وفي سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى ( الحج 17 ) فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع ( الصابئين ) في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك والجواب لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أن هذا هو الإنعام العاشر وذلك لأنه تعالى إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم
أما قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ففيه بحثان
الأول اعلم أن الميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة والمفسرون ذكروا في تفسير الميثاق وجوهاً أحدها ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود لأنها لا تحتمل الخلف والتبديل بوجه ألبتة وهو قول الأصم وثانيها ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم إن فيها كتاب الله فقالوا لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق وذلك لأن رفع الطور آية باهرة عجيبة تبهر العقول وترد المكذب إلى التصديق والشاك إلى اليقين فلما رأوا ذلك وعرفوا أنه من قبله تعالى علماً لموسى عليه السلام علماً مضافاً إلى سائر الآيات أقروا له بالصدق فيما جاء به وأظهروا التوبة وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهداً موثقاً جعلوه لله على أنفسهم وهذا هو اختيار أبي مسلم وثالثها أن لله ميثاقين فالأول حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم والثاني أنه ألزم الناس متابعة الأنبياء والمراد ههنا هو هذا العهد هذا قول ابن عباس وهو ضعيف الثاني قال القفال رحمه الله إنما قال ( ميثاقكم ) ولم يقل مواثيقكم لوجهين أحدهما أراد به الدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي كل واحد منكم والثاني أنه كان شيئاً واحداً أخذ من كل واحد منهم كما أخذ على غيره فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً ولو قيل مواثيقكم لأشبه أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد والله أعلم
وأما قوله تعالى وَرَفَعْنَا بِجَانِبِ الطُّورِ فنظيره قوله تعالى وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ ( الأعراف 171 ) وفيه أبحاث
البحث الأول الواو في قوله تعالى وَرَفَعْنَا واو عطف على تفسير ابن عباس والمعنى أن أخذ
الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفع عليهم الجبل وأما على تفسير أبي مسلم فليست واو عطف ولكنها واو الحال كما يقال فعلت ذلك والزمان زمان فكأنه قال وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم الثاني قيل إن الطور كل جبل قال العجاج داني جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذا البازي كسر
أما الخليل فقال في كتابه إن الطور اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله على جبل معهود عرف كونه مسمى بهذا الاسم والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة عليه وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم لأن القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضاً على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد وقال ابن عباس أمر تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجوداً يلاحظون الجبل فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم الثالث من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فلا جرم وقفت في المركز ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فوجب أن يكون الله قادراً عليه وتمام تقرير هاتين المقدمتين معلوم في كتب الأصول الرابع قال بعضهم إظلال الجبل غير جائز لأن ذلك لو وقع لكان يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان وهو ينافي التكليف أجاب القاضي بأنه لا يلجيء لأن أكثر ما فيه خوف السقوط عليهم فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة فوقهم بلا عماد جاز ههنا أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف
أما قوله تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل قال الجبائي هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال اكتب بالقلم ولا قلم وأجاب أصحابنا بأن المراد خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة وعندنا العزيمة قد تكون متقدمة على الفعل
وأما قوله تعالى وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ أي احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه فإن قيل هلا حملتموه على نفس الذكر قلنا لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى فكيف يجوز الأمر به فأما إذا حملناه على المدارسة فلا إشكال
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا واحتج الجبائي بذلك على أنه تعالى أراد فعل الطاعة من الكل وجوابه ما تقدم
واعلم أن المفهوم من قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أنهم
فعلوا ذلك وإلا لم يكن ذلك أخذاً للميثاق ولا صح قوله من بعد ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فدل ذلك منهم على القبول والالتزام
أما قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ أي ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به قال القفال رحمه الله قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا التوراة وتركوا العمل بها وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة فالجملة معروفة وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب وجحودهم لحقه وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر والله أعلم
أما قوله تعالى فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ ففيه بحثان
الأول ذكر القفال في تفسيره وجهين الأول لولا ما تفضل الله به عليكم من إمهالكم وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم فدل هذا القول على أنهم إنما خرجوا عن هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليهم بالإمهال حتى تابوا الثاني أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ ثم قيل فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رجوعاً بالكلام إلى أوله أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم فلطف بكم بذلك حتى تبتم
البحث الثاني أن لقائل أن يقول كلمة لَوْلاَ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فهذا يقتضي أن انتفاء الخسران من لوازم حصول فضل الله تعالى فحيث حصل الخسران وجب أن لا يحصل هناك لطف الله تعالى وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية وذلك خلاف قول المعتزلة أجاب الكعبي بأنه تعالى سوى بين الكل في الفضل لكن انتفع بعضهم دون بعض فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك فضلك لكنت فقيراً وهذا الجواب ضعيف لأن أهل اللغة نصوا على أن ( لولا ) تفيد اتنفاء الشيء لثبوت غيره وبعد ثبوت هذه المقدمة فكلام الكعبي ساقط جداً
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ
اعلم أنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولاً ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات وهذا هو النوع الأول وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أن هؤلاء القوم كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة وهي القرية المذكورة في قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ ( الأعراف 163 ) فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة فلما طال العهد استسن الأبناء بسنة الآباء واتخذوا الأموال فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم فلم ينتهوا وقالوا نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً فقيل لهم لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا
المسألة الثانية المقصود من ذكر هذه القصة أمران الأول إظهار معجزة محمد عليه السلام فإن قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ كالخطاب لليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه السلام فلما أخبرهم محمد عليه السلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي الثاني أنه تعالى لما أخبرهم بما عامل به أصحاب السبت فكأنه يقول لهم أما تخافون أن ينزل عليكم بسبب تمردكم ما نزل عليهم من العذاب فلا تغتروا بالإمهال الممدود لكم ونظيره قوله تعالى قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ( النساء 47 )
المسألة الثالثة الكلام فيه حذف كأنه قال ولقد علمتم اعتداء من اعتدى منكم في السبت لكي يكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك ولفظ الاعتداء يدل على أن الذي فعلوه في السبت كان محرماً عليهم وتفصيل ذلك غير مذكور في هذه الآية لكنه مذكور في قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ ثم يحتمل أن يقال إنهم إنما تعدوا في ذلك الاصطياد فقط وأن يقال إنما تعدوا لأنهم اصطادوا مع أنهم استحلوا ذلك الاصطياد
المسألة الرابعة قال صاحب الكشاف السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت فإن قيل لما كان الله نهاهم عن الإصطيات يوم السبت فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام كما قال تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذالِكَ نَبْلُوهُم ( الأعراف 163 ) وهل هذا إلا إثارة الفتنة وإرادة الاضلال قلنا أما على مذهب أهل السنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب
أما قوله تعالى فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف ( قردة خاسئين ) خبر أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد
المسألة الثانية قوله تعالى كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ليس بأمر لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة بل المراد منه سرعة التكوين كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 4 ) وكقوله تعالى قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء بل لما قال لهم كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ كذلك أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد وهو كقوله نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( النساء 47 ) ولا يمتنع أيضاً أن يتكلم الله بذلك عند هذا التكوين إلا أن المؤثر في هذا التكوين هو القدرة والإرادة فإن قيل لما لم يكن لهذا القول أثر في التكوين فأي فائدة فيه قلنا أما عندنا فأحكام الله تعالى وأفعاله لا تتوقف على رعاية المصالح ألبتة وأما عند المعتزلة فلعل هذا القول يكون لفظاً لبعض الملائكة أو لغيرهم
المسألة الثالثة المروي عن مجاهد أنه سبحانه وتعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله تعالى كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ( الجمعة 5 ) ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تعليمه كن حماراً واحتج على امتناعه بأمرين الأول أن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد والبنية المحسوسة فإذا أبطلها وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله كان ذلك إعداماً للإنسان وإيجاداً للقرد فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنساناً وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قرداً فهذا يكون إعداماً وإيجاداً لا أنه يكون مسخاً والثاني إن جوزنا ذلك لما آمنا في كل ما نراه قرداً وكلباً أنه كان إنساناً عاقلاً وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات وأجيب عن الأول بأن الإنسان ليس هو تمام هذا الهيكل وذلك لأن هذا الإنسان قد يصير سميناً بعد أن كان هزيلاً وبالعكس فالأجزاء متبدلة والإنسان المعين هو الذي كان موجوداً والباقي غير الزائل فالإنسان أمر وراء هذا الهيكل المحسوس وذلك الأمر إما أن يكون جسماً سارياً في البدن أو جزءاً في بعض جوانب البدن كقلب أو دماغ أو موجوداً مجرداً على ما يقوله الفلاسفة وعلى جميع التقديرات فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ وبهذا التقدير يجوز في المالك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول عليه السلام وعن الثاني أن الأمان يحصل بإجماع الأمة ولما ثبت بما قررنا جواز المسخ أمكن إجراء الآية على ظاهرها ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد رحمه الله وإن كان ما ذكره غير مستبعد جداً لأن الإنسان إذا أصر على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البينات فقد يقال في العرف الظاهر إنه حمار وقرد وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور ألبتة بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول أنه بعد أن يصير قرداً لا يبقى له فهم ولا عقل ولا علم فلا يعلم ما نزل به من العذاب ومجرد القردية غير مؤلم بدليل أن القرود حال سلامتها غير متألمة فمن أين يحصل العذاب بسببه الجواب لم لا يجوز أن يقال أن الأمر الذي به يكون الإنسان إنساناً عاقلاً فاهماً كان باقياً إلا أنه لما تغيرت الخلقة والصورة لا جرم أنها ما كانت تقدر على النطق والأفعال الإنسانية إلا أنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب شؤم المعصية وكانت في نهاية الخوف والخجالة فربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء ولا يلزم من عدم تألم القرود الأصلية بتلك الصورة عدم تألم الإنسان بتلك الصورة الغريبة العرضية
السؤال الثاني أولئك القردة بقوا أو أفناهم الله وإن قلنا إنهم بقوا فهذه القردة التي في زماننا هل يجوز أن يقال إنها من نسل أولئك الممسوخين أم لا الجواب الكل جائز عقلاً إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا
المسألة الرابعة قال أهل اللغة الخاسىء الصاغر المبعد المطرود كالكلب إذا دنا من الناس قيل له اخسأ أي تباعد وانطرد صاغراً فليس هذا الموضع من مواضعك قال الله تعالى يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4 ) يحتمل صاغراً ذليلاً ممنوعاً عن معاودة النظر لأنه تعالى قال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ فكأنه قال ردد البصر في السماء ترديد من يطلب فطوراً فإنك وإن أكثرت من ذلك لم تجد فطوراً فيرتد إليك طرفك ذليلاً كما يرتد الخائب بعد طول سعيه في طلب شيء ولا يظفر به فإنه يرجع خائباً صاغراً مطروداً من حيث كان يقصده من أن يعاوده
أما قوله فَجَعَلْنَاهَا فقد اختلفوا في أن هذا الضمير إلى أي شيء يعود على وجوه أحدها قال الفراء ( جعلناها ) يعني المسخة التي مسخوها وثانيها قال الأخفش أي جعلنا القردة نكالاً وثالثها جعلنا قرية أصحاب السبت نكالاً رابعها جعلنا هذه الأمة نكالاً لأن قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ يدل على الأمة والجماعة أو نحوها والأقرب هو الوجهان الأولان لأنه إذا أمكن رد الكناية إلى مذكور متقدم فلا وجه لردها إلى غيره فليس في الآية المتقدمة إلا ذكرهم وذكر عقوبتهم أما النكال فقال القفال رحمه الله إنه العقوبة الغليظة الرادعة للناس عن الإقدام على مثل تلك المعصية وأصله من المنع والحبس ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها ويقال للقيد النكل وللجام الثقيل أيضاً نكل لما فيهما من المنع والحبس ونظيره قوله تعالى إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ( المزمل 12 ) وقال الله تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( النساء 84 ) والمعنى أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء القوم عقوبة رادعة لغيرهم أي لم نقصد بذلك ما يقصده الآدميون من التشفي لأن ذلك إنما يكون ممن تضره المعاصي وتنقص من ملكه وتؤثر فيه وأما نحن فإنما نعاقب لمصالح العباد فعقابنا زجر وموعظة قال القاضي اليسير من الذم لا يوصف بأنه نكال حتى إذ عظم وكثر واشتهر يوصف به وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في السارق المصر القطع جزاء ونكالاً وأراد به أن يفعل على وجه الإهانة والاستخفاف فهو بمنزلة الخزي الذي لا يكاد يستعمل إلا في الذم العظيم فكأنه تعالى لما بين ما أنزله بهؤلاء القوم الذين اعتدوا في السبت واستحلوا من اصطياد الحيتان وغيره ما حرمه عليهم ابتغاء الدنيا ونقضوا ما كان منهم من المواثيق فبين أنه تعالى أنزل بهم عقوبة لا على وجه المصلحة لأنه كان لا يمتنع أن يقلل مقدار مسخهم ويغير صورهم بمنزلة ما ينزل بالمكلف من الأمراض المغيرة للصورة ويكون محنة لا عقوبة فبين تعالى بقوله فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً أنه تعالى فعلها عقوبة على ما كان منهم
أما قوله تعالى لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ففيه وجوه أحدها لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغ إليه خبر هذه الواقعة من الآخرين وثانيها أريد بما بين يديها ما يحضرها من القرون والأمم وثالثها المراد أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما
ارتكبوه من هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن
أما قوله تعالى وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ ففيه وجهان أحدهما أن من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ به ويخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم وإن لم ينزل عاجلاً فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأدوم وأما تخصيصه المتقين بالذكر فكمثل ما بيناه في أول السورة عند قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ لأنهم إذا اختصموا بالاتعاظ والانزجار والانتفاع بذلك صلح أن يخصوا به لأنه ليس بمنفعة لغيرهم الثاني أن يكون معنى قوله وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ أن يعظ المتقون بعضهم بعضاً أي جعلناها نكالاً وليعظ به بعض المتقين بعضاً فتكون الموعظة مضافة إلى المتقين على معنى أنهم يتعظون بها وهذا خاص لهم دون غير المتقين والله أعلم
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِى َ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَة ٌ لاَّ شِيَة َ فِيهَا قَالُواْ اأانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التشديدات روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلاً من بني
إسرائيل قتل قريباً لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له سل لنا ربك حتى يبينه فسأله فأوحى الله إليه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً فتعجبوا من ذلك ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال واستقصوا في طلب الوصف فلما تعينت لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها وأمرهم موسى أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حياً وسمي لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى أن الإيلام والذبح حسن وإلا لما أمر الله به ثم عندنا وجه الحسن فيه أنه تعالى مالك الملك فلا اعتراض لأحد عليه وعند المعتزلة إنما يحسن لأجل الأعواض
المسألة الثانية أنه تعالى أمر بذبح بقرة من بقر الدنيا وهذا هو الواجب المخير فدل ذلك على صحة قولنا بالواجب المخير
المسألة الثالثة الاقئلون بالعموم اتفقوا على أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً معناه اذبحوا أي بقرة شئتم فهذه الصيغة تفيد هذا العموم وقال منكروا العموم إن هذا لا يدل على العموم واحتجوا عليه بوجوه الأول أن المفهوم من قول القائل اذبح بقرة يمكن تقسيمه إلى قسمين فإنه يصح أن يقال اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت ويصح أيضاً أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت فأذن المفهوم من قولك ( اذبح ) معنى مشترك بين هذين القسمين والمشترك بين القسمين لا يستلزم واحداً منهما فأذن قوله اذبحوا بقرة لا يستلزم معناه معنى قوله اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم فثبت أنه لا يفيد العموم لأنه لو أفاد العموم لكان قوله اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريراً ولكان قوله اذبحوا بقرة معينة نقضاً ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول الثاني أن قوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد فأذن قوله اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفاداً من اللفظ الثالث أن قوله تعالى بَقَرَة ٌ لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فرداً معيناً في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فرداً أي فرد كان بدليل أنه إذا قال رأيت رجلاً فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك واحتج القائلون بالعموم بأنه لو ذبح أي بقرة كانت فإنه يخرج عن العهدة فوجب أن يفيد العموم والجواب أن هذا مصادرة على المطلوب الأول فإن هذا إنما يثبت لو ثبت أن قوله اذبح بقرة معناه اذبح أي بقرة شئت وهذا هو عين المتنازع فيه فهذا هو الكلام في هذه المسألة إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في أن قوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ هل هو أمر بذبح بقرة معينة مبينة أو هو أمر بذبح بقرة أي بقرة كانت فالذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا إنه كان أمراً بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة وقال المانعون منه هو وإن كان أمراً بذبح أي بقرة
كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك وذلك لأن التكليف الأول كان كافياً لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقر إذ ذاك هو الصلاح فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختياراً فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا ههنا واحتج الفريق الأول بوجوه الأول قوله تعالى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ و مَا لَوْنُهَا وقول الله تعالى إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَاء إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة الثاني أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما أن يقال إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولاً أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجباً عليهم قبل ذلك والأول هو المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخراً وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم فإن قيل أما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة فلم لا يجوز أن يقال إنها كنايات عن القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لبقي ما بعد هذه الكنايات غير مفيد لأنه لا فائدة في قوله بَقَرَة ٌ صَفْرَاء بل لا بد من إضمار شيء آخر وذلك خلاف الأصل أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولاً لم يلزم هذا المحذور وثانيها أن الحكم برجوع الكناية إلى القصة والشأن خلاف الأصل لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فبقي ما عداه على الأصل وثالثها أن الضمير في قوله مَا لَوْنُهَا وَمَا هِى َ لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَاء عائداً إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقاً للسؤال الثالث أنهم لو كانوا سائلين معاندين لم يكن في مقدار ما أمرهم به موسى ما يزيل الاحتمال لأن مقدار ما ذكره موسى أن تكون بقرة صفراء متوسطة في السن كاملة في القوة وهذا القدر موضع للاحتمالات الكثيرة فلما سكتوا ههنا واكتفوا به علمنا أنهم ما كانوا معاندين واحتج الفريق الثاني بوجوه أحدها أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً معناه يأمركم أن تذبحوا بقرة أي بقرة كانت وذلك يقتضي العموم وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفاً جديداً وثانيها لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم الله تعالى في قوله فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ وفي قوله فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولاً ذبح بقرة معينة الثالث ما روي عن ابن عباس أنه قال لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت منهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
ورابعها أن الوقت الذي فيه أمروا بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها فلو كان المأمور به ذبح بقرة معينة مع أن الله تعالى ما بينها لكان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز والجواب عن الأول ما بينا في أول المسألة أن قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً لا يدل على أن المأمور به ذبح بقرة أي بقرة كانت وعن الثاني أن قوله تعالى وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة وأنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلونه وعن الثالث أن هذه الرواية عن ابن عباس من باب الآحاد وبتقدير الصحة فلا تصلح أن تكون معارضة لكتاب الله تعالى وعن الرابع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما يلزم أن لو دل الأمر على الفور وذلك عندنا ممنوع
واعلم أنا إذا فرعنا على القول بأن المأمور به بقرة أي بقرة كانت فلا بد وأن نقول التكاليف مغايرة فكلفوا في الأول أي بقرة كانت وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون مع ذلك لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث ثم اختلف القائلون بهذا المذهب منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً لكل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارض ولا بكر وصفراء فاقع ومنهم من يقول إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند تردد الامتثال وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدل على أن الأسهل قدينسخ بالأشق ويدل على جواز النسخ قبل الفعل ولكنه لا يدل على جواز النسخ قبل وقت الفعل ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام وله أيضاً تعلق بمسألة أن الزيادة على النسخ هل هو نسخ أم لا ويدل على حسن وقوع التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً
أما قوله تعالى قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء هُزُواً بالضم وهزؤا بسكون الزاي نحو كفؤاً وكفء وقرأ حفص ( هزواً ) بالضمتين والواو وكذلك كفواً
المسألة الثانية قال القفال قوله تعالى قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا استفهام على معنى الانكار والهزء يجوز أن يكون في معنى المهزوء به كما يقال كان هذا في علم الله أي في معلومه والله رجاؤنا أي مرجونا ونظيره قوله تعالى الرحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ( المؤمنون 110 ) قال صاحب ( الكشاف ) ( أتتخذنا هزؤاً ) أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوأ بنا والهزء نفسه فرط الاستهزاء
المسألة الثالثة القوم إنما قالوا ذلك لأنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال موسى اذبحوا بقرة لم يعرفوا بين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة فظنوا أنه عليه السلام يلاعبهم لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ضربوا القتيل ببعضها فيصير حياً فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ويحتمل أنه عليه السلام وإن كان قد بين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يصير حياً بأن يضربوه ببعض أجزاء البقرة فظنوا أن ذلك يجزي مجرى الاستهزاء
المسألة الرابعة قال بعضهم إن أولئك القوم كفروا بقولهم لموسى عليه السلام أتتخذنا هزؤاً لأنهم إن قالوا ذلك وشكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله تعالى فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي وذلك أيضاً كفر ومن الناس من قال إنه لا يوجب الكفر وبيانه من وجهين الأول أن الملاعبة على الأنبياء جائزة فلعلهم ظنوا به عليه السلام أنه يلاعبهم ملاعبة حقة وذلك لايوجب الكفر الثاني أن معنى قوله تعالى أَتَتَّخِذُنَا أي ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء
أما قوله تعالى هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ففيه وجوه أحدها أن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء فلم يستعذ موسى عليه السلام من نفس الشيء الذي نسبوه إليه لكنه استعاذ من السبب الموجب له كما قد يقول الرجل عند مثل ذلك أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى والحاصل أنه أطلق اسم السبب على المسبب مجازاً هذا هو الوجه الأقوى وثانيها أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد والوعيد العظيم فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء وثالثها قال بعضهم إن نفس الهزء قد يسمى جهلاً وجهالة فقد روي عن بعض أهل اللغة إن الجهل ضد الحلم كما قال بعضهم إنه ضد العلم
واعلم أن هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الاستهزاء من الكبائر العظام وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 )
واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة
السؤال الأول ما حكى الله تعالى عنهم أنهم قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ فأجاب موسى عليه السلام بقوله إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ واعلم أن في الآية أبحاثاً
الأول أنا إذا قلنا إن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام أما على قول من يقول إنه في أصل اللغة للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار وفيه وجوه أحدها أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً تعجبوا من أمر تلك البقرة وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواص إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه السلام وثانيها لعل القوم أرادوا بقرة أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة لما وقعت المنازعة فيه رجعوا عند ذلك إلى موسى وثالثها أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه فسألوا طلباً لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة
البحث الثاني أن سؤال ( ما هي ) طلب لتعريف الماهية والحقيقة لأن ( ما ) سؤال و ( هي ) إشارة إلى الحقيقة فما هي لا بد وأن يكون طلباً للحقيقة وتعريف الماهية والحقيقة لا يكون إلا بذكر أجزائها ومقدماتها لا بذكر صفاتها الخارجة عن ماهيتها ومعلوم أن وصف السن من الأمور الخارجة عن الماهية فوجب أن لا يكون هذا الجواب مطابقاً لهذا السؤال والجواب عنه أن الأمر وإن كان كما ذكرتم لكن قرينة الحال تدل على أنه ما كان مقصودهم من قولهم ما البقر طلب ماهيته وشرح حقيقته بل كان مقصودهم طلب الصفات التي بسببها يتميز بعض البقر عن بعض فلهذا حسن ذكر الصفات الخارجة جواباً عن هذا السؤال
البحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الفارض المسنة وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها والبكر الفتية والعوان النصف قال القاضي أما البكر فقيل إنها الصغيرة وقيل ما لم تلد وقيل إنها التي ولدت مرة واحدة قال المفضل بن سلمة ( الضبي ) إنه ذكر في الفارض أنها المسنة وفي البكر أنها الشابة وهي من النساء التي لم توطأ ومن الإبل التي وضعت بطناً واحداً قال القفال البكر يدل على الأول ومنه الباكورة لأول الثمر ومنه بكرة النهار ويقال بكرت عليهما البارحة إذا جاء في أول الليل وكأن الأظهر أنها هي التي لم تلد لأن المعروف من اسم البكر من الإناث في بني آدم ما لم ينز عليها الفحل وقال بعضهم العوان التي ولدت بطناً بعد بطن وحرب عوان إذا كانت حرباً قد قوتل فيها مرة بعد مرة وحاجة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة
البحث الرابع احتج العلماء بقوله تعالى عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد وههنا سؤالان
الأول لفظة ( بين ) تقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك الجواب لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر
السؤال الثاني كيف جاز أن يشار بلفظه ( ذلك ) إلى مؤنثين مع أنه للإشارة إلى واحد مذكر الجواب جاز ذكر ذلك على تأويل ما ذكر أو ما تقدم للاختصار في الكلام
أما قوله تعالى فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ففيه تأويلان الأول فافعلوا ما تؤمرون به من قولك أمرتك الخير والثاني أن يكون المراد فافعلوا أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير واعلم أن المقصود الأصلي من هذا الجواب كون البقرة في أكمل أحوالها وذلك لأن الصغيرة تكون ناقصة لأنها بعدما وصلت إلى حالة الكمال والمسنة كأنها صارت ناقصة وتجاوزت عن حد الكمال فأما المتوسطة فهي التي تكوى في حالة الكمال ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثاني وهو قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا واعلم أنهم لما عرفوا حال السن شرعوا بعده في تعرف حال اللون فأجابهم الله تعالى بأنها صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا والفقوع أشدها يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع وأسود حالك وأبيض يقق وأحمر قانٍ وأخضر ناضر وههنا سؤالان
الأول ( فاقع ) ههنا واقع خبراً عن اللون فكيف يقع تأكيداً لصفراء الجواب لم يقع خبراً عن اللون إنما وقع تأكيداً لصفراء إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون سببها وملتبس بها فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها
السؤال الثاني فهلا قيل صفراء فاقعة وأي فائدة في ذكر اللون الجواب الفائدة فيه التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده وجنون مجنون وعن وهب إذ نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها
أما قوله تعالى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فالمعنى أن هذه البقرة لحسن لونها تسر من نظر إليها قال الحسن الصفراء ههنا بمعنى السوداء لأن العرب تسمي الأسود أصفر نظيره قوله تعالى في صفة الدخان كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ ( المرسلات 33 ) أي سود واعترضوا على هذا التأويل بأن الأصفر لا يفهم منه الأسود ألبتة فلم يكن حقيقة فيه وأيضاً السواد لا ينعت بالفقوع إنما يقال أصفر فاقع وأسود حالك والله أعلم وأما السرور فإنه حالة نفسانية تعرض عند حصول اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثالث وهو قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الحسن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً ) واعلم أن ذلك يدل على أن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في كل عمل يراد تحصيله ولذلك قال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 ) وفيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء الله فائدة
المسألة الثالثة احتجت المعتزلة على أن مشيئة الله تعالى محدثة بقوله إِن شَاء اللَّهُ من وجهين الأول أن دخول كلمة ( أن ) عليه يقتضي الحدوث والثاني وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء فلما لم يكن حصول الاهتداء أزلياً وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية ولنرجع إلى التفسير فأما قوله تعالى يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ ففيه السؤال المذكور وهو أن قولنا ما هو طلب بيان الحقيقة والمذكور ههنا في الجواب الصفات العرضية المفارقة فكيف يكون هذا الجواب مطابقاً للسؤال وقد تقدم جوابه
أما قوله تعالى إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا فالمعنى أن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح وقرىء تشابه بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين و ( قرىء ) تشابهت ومتشابهة ومتشابه
أما قوله تعالى وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ففيه وجوه ذكرها القفال أحدها وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عدها وثانيها وإنا إن شاء الله تعريفها إيانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها وثالثها وإنا إن شاء الله على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة أي نرجوا أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ورابعها إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما به تمتاز هي عما سواها ثم أجاب الله تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ وقوله لاَّ ذَلُولٌ صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض
ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقى الحرث و ( لا ) الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقى على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقى الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص
أما قوله تعالى مُّسَلَّمَة ٌ ففيه وجوه أحدها من العيوب مطلقاً وثانيها من آثار العمل المذكور وثالثها مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس ورابعها مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا تكراراً غير مفيد بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله مُّسَلَّمَة ٌ إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر
أما قوله تعالى وَأَنزَلْنَا فِيهَا فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون والوشي خلط لون بلون ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل قال القاضي قوله تعالى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقه وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً
أما قوله تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ فالمعنى فذبحوا البقرة وما كادوا يذبحونها وههنا بحث وهو أن النحويين ذكروا ( لكاد ) تفسيرين الأول قالوا إن نفيه إثبات وإثباته نفي فقولنا كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه ما فعله وقولنا ما كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه فعله والثاني وهو اختيار الشيخ عبد القاهر ( الجرجاني ) النحوي أن كاد معناه المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرب منه وللأولين أن يحتجوا على فساد هذا الثاني بهذه الآية لأن قوله تعالى وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ معناه وما قاربوا الفعل ونفي المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل فلو كان كاد للمقاربة لزم وقوع التناقض في هذه الآية وههنا أبحاث
البحث الأول روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللهم إني استودعتكها لابني حتى تكبر وكان براً بوالديه فشبت وكانت من أحسن البقر واسمنها فتساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة
البحث الثاني روي عن الحسن أن البقرة تذبح ولا تنحر وعن عطاء أنها تنحر قال فتلوت الآية عليه فقال الذبح والنحر سواء وحكي عن قتادة والزهري إن شئت نحرت وإن شئت ذبحت وظاهر الآية يدل على أنهم أمروا بالذبح وأنهم فعلوا ما يسمى ذبحاً والنحر وإن أجزأ عن الذبح فصورته مخالفة لصورة الذبح فالظاهر يقتضي ما قلناه حتى لو نحروا ولا دليل يدل على قيامه مقام الذبح لكان لا يجزي
البحث الثالث اختلفوا في السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون فعن بعضهم لأجل غلاء ثمنها وعن آخرين أنهم خافوا الشهرة والفضيخة وعلى كلا الوجهين فالاحجام عن المأمور به غير جائز أما الأول فلأنهم لما أمروا بذبح البقرة المعينة وذلك الفعل ما كان يتم إلا بالثمن الكثيرو جب عليهم أداؤه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا أن يدل الدليل على خلافه وإنما لا يلزم المصلي أن يتطهر بالماء إذا لم يجده إلا بغلاء من حيث الشرع ولولاه للزم ذلك إذا وجب التطهر مطلقاً وأما الثاني وهو خوف الفضيحة فذاك لا يرفع التكليف فإن القود إذا كان واجباً عليه لزمه تسليم النفس من ولي الدم إذا طالب وربما لزمه التعريف ليزول الشر والفتنة وربما لزمه ذلك لتزول التهمة في القتل عن القوم الذين طرح القتيل بالقرب منهم لأنه الذي عرضهم للتهمة فيلزمه إزالتها فكيف يجوز جعله سبباً للتثاقل في هذا الفعل
البحث الرابع احتج القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية وذلك لأنه لم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر ثم إنه تعالى ذم التثاقل فيه والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه وذلك يدل على أن الأمر للوجوب قال القاضي إذا كان الغرض من المأمور إزالة شر وفتنة دل ذلك على وجوبه وإنما أمر تعالى بذبحها لكي يظهر القاتل فتزول الفتنة والشر المخوف فيهم والتحرز عن هذا الجنس الضار واجب فلما كان العلاج إزالته بهذا الفعل صار واجباً وأيضاً فغير ممتنع أن في تلك الشريعة أن التعبد بالقربان لا يكون إلا سبيل الوجوب فلما تقدم علمهم بذلك كفاهم مجرد الأمر وأقول حاصل هذين السؤالين يرجع إلى حرف واحد وهو أنا وإنا كنا لا نقول إن الأمر يقتضي الوجوب فلا نقول إنه ينافي الوجوب أيضاً فلعله فهم الوجوب ههنا بسبب آخر سوى الأمر وذلك السبب المنفصل إما قرينة حالية وهي العلم بأن دفع المضار واجب أو مقالية وهي ما تقدم بيانه من أن القربان لا يكون مشروعاً إلا على وجه الوجوب والجواب أن المذكور مجرد قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً فلما ذكر الذم والتوبيخ على ترك الذبح المأمور به علمنا إن منشأ ذلك هو مجرد ورود الأمر به لما ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم
البحث الخامس احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قالوا لأنه ورد التعنيف على ترك المأمور به عند ورود الأمر المجرد فدل على أنه للفور
أما قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا فاعلم أن وقوع ذلك القتل لا بد وأن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح أما الإخبار عن وقوع ذلك القتل وعن أنه لا بد وأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأول في الوجود فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يتقدم ذكر السبب على ذكر الحكم وأخرى على العكس من ذلك فكأنه لما وقعت
لهم تلك الواقعة أمرهم تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال وإذ قتلتم نفساً من قبل واختلفتم وتنازعتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة وذلك مستقيم فإن قيل هب أنه لا خلل في هذا النظم ولكن النظم الآخر كان مستحسناً فما الفائدة في ترجيح هذا النظم قلنا إنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من بينية التفريع
أما قوله تعالى فَادرَأْتُمْ فِيهَا ففيه وجوه أحدها اختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدافعه ويزاحمه وثانيها ( أدارأتم ) أي يغي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره وثالثها دفع بعضكم بعضاً عن البراءة والتهمة وجملة القول فيه أن الدرء هو الدفع فالمتخاصمون إذا تخاصموا فقد دفع كل واحد منهم عن نفسه تلك التهمة ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه عن تلك الفعلة ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه في إسناد تلك التهمة إلى غيره وحجة صاحبه في براءته عنه قال القفال والكناية في ( فيها ) للنفس أي فاختلفتم في النفس ويحتمل في القتلة لأن قوله قُتِلْتُمْ يدل على المصدر
أما قوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل فإن قيل كيف اعمل ( مخرج ) وهو في معنى المضي قلنا قد حكى ما كان مستقبلاً في وقت التدارء كما حكى الحاضر في قوله بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ( ادارأتم فقلنا ) ثم فيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة قوله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي لا بد وأن يفعل ذلك وإنما حكم بأنه لا بد وأن يفعل ذلك لأن الاختلاف والتنازع في باب القتل يكون سبباً للفتن والفساد والله لا يحب الفساد فلأجل هذا قال لا بد وأن يزيل هذا الكتمان ليزول ذلك الفساد فدل ذلك على أنه سبحانه لا يريد الفساد ولا يرضى به ولا يخلقه
المسألة الثانية الآية تدل على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وإلا لما قدر على إظهار ما كتموه
المسألة الثالثة تدل الآية على أن ما يسره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فإن الله سيظهره قال عليه الصلاة والسلام ( إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس ) وكذلك المعصية وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ( قل لبني إسرائيل يخفون إلى أعمالهم وعلي أن أظهرها لهم )
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجوز ورود العام لإرادة الخاص لأن قوله مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ يتناول كل المكتومات ثم إن الله تعالى أراد هذه الواقعة
أما قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس أن صاحب بقرة بني إسرائيل طلبها أربعين سنة حتى وجدها ثم ذبحت إلا أن هذه الرواية على خلاف ظاهر القرآن لأن الفاء في قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا للتعقيب وذلك يدل على أن قوله اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا حصل عقيب قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً
المسألة الثانية الهاء في قوله تعالى اضْرِبُوهُ ضمير وهو إما أن يرجع إلى النفس وحينئذ يكون التذكير على تأويل الشخص والإنسان وإما إلى القتيل وهو الذي دل عليه قوله مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
المسألة الثالثة يجوز أن يكون الله تعالى إنما أمر بذبح البقرة لأنه تعلق بذبحها مصلحة لا تحصل إلا بذبحها ويجوز أن يكون الحال فيها وفي غيرها على السوية والأقرب هو الأول لأنه لو قام غيرها مقامها لما وجبت على التعيين بل على التخير بينها وبين غيرها وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء الجواب الفائدة فيه لتكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد فقد كان يجوز لملحد أن يوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإنه إذا حيي عندما يضرب بقطعة من البقرة المذبوحة انتفت الشبهة في أنه لم يحي بشيء انتقل إليه من الجسم الذي ضرب به إذا كان ذلك إنما حيي بفعل فعلوه هم فدل ذلك على أن إعلام الأنبياء إنما يكون من عند الله لا بتمويه من العباد وأيضاً فتقديم القربان مما يعظم أمر القربان
السؤال الثاني هلا أمر بذبح غير البقرة وأجابوا بأن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيه ثم ذكروا فيها فوائد منها التقرب بالقربان الذي كانت العادة به جارية ولأن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكلفة في تحصيل هذه البقرة على غلاء ثمنها ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة
المسألة الرابعة اختلفوا في أن ذلك البعض الذي ضربوا القتيل به ما هو والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به فإنهم كانوا ممتثلين لمقتضى قوله اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العهدة على ما ثبت في أصول الفقه وذلك يقتضي التخيير واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل فقيل لسانها وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها وقيل العظم الذي يلى الغضروف وهو أصل الآذان وقيل البضعة بين الكتفين ولا شك أن القرآن لا يدل عليه فإن ورد خبر صحيح قبل وإلا وجب السكوت عنه
المسألة الخامسة في الكلام محذوف والتقدير فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وعليه هو كقوله تعالى اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) أي فضرب فانفجرت روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً وقتلاً
أما قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية وجهان أحدهما أن يكون إشارة إلى نفس ذلك الميت والثاني أنه احتجاج في صحة الإعادة ثم هذا الاحتجاج أهو على المشركين أو على غيرهم فيه وجهان الأول قال الأصم إنه على المشركين لأنه إن ظهر لهم بالتواتر أن هذا الإحياء قد كان على هذا الوجه علموا صحة الإعادة وإن لم يظهر ذلك بالتواتر فإنه يكون داعية لهم إلى التفكر قال القاضي وهذا هو الأقرب لأنه تقدم منه تعالى ذكر الأمر
بالضرب وأنه سبب إحياء ذلك الميت ثم قال كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى فجمع الْمَوْتَى ولو كان المراد ذلك القتيل لما جمع في القول فكأنه قال دل بذلك على أن الإعادة كالابتداء في قدرته الثاني قال القفال ظاهر الكلام يدل على أن الله تعالى قال لبني إسرائيل إحياء الله تعالى لسائر الموتى يكون مثل هذا الإحياء الذي شاهدتم لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا به إلا من طريق الاستدلال ولم يشاهدوا شيئاً منه فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم وانتفت عنهم الشبهة التي لا يخلو منها المستدل وقد قال إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى إلى قوله لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 26 ) فأحيا الله تعالى لبني إسرائيل القتيل عياناً ثم قال لهم كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى أي كالذي أحياه في الدنيا يحيي في الآخرة من غير احتياج في ذلك الإيجاد إلى مادة ومدة ومثال وآلة
المسألة الثانية من الناس من استدل بقوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى على أن المقتول ميت وهو ضعيف لأنه تعالى قاس على إحياء ذلك القتيل إحياء الموتى فلا يلزم من هذا كون القتيل ميتاً
أما قوله تعالى وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فلقائل أن يقول إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات والجواب أنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع وعلى صدق موسى عليه السلام وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لما دلت على هذه المدلولات الكثيرة لا جرم جرت مجرى الآيات الكثيرة
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ففيه بحثان
الأول أن كلمة ( لعل ) قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الثاني أن القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم وإذا كان العقل حاصلاً امتنع أن يقال إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً فإذن لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها بل لا بد من التأويل وهو أن يكون المراد لعلكم تعملون على قضية عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا البعث هذا آخر الكلام في تفسير الآية واعلم أن كثيراً من المتقدمين ذكر أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا قالوا لا لأنه روي عن عبيدة السلماني أن الرجل الذي كان قاتلاً في هذه الواقعة حرم من الميراث لأجل كونه قاتلاً قال القاضي لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية لأنه ليس في الظاهر أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا وبتقدير أن يكون وارثاً له فهل حرم الميراث أم لا وليس يجب إذا روي عن أبي عبيدة أن القاتل حرم لمكان قتله الميراث أن يعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدل عليه لا مجملاً ولا مفصلاً وإذا كان لم يثبت أن شرعهم كشرعنا وأنه لا يلزم الاقتداء بهم فإدخال هذا الكلام في أحكام القرآن تعسف
واعلم أن الذي قاله القاضي حق ومع ذلك فلنذكر هذه المسألة فنقول اختلف المجتهدون في أن القاتل هل يرث أم لا فعند الشافعي رضي الله عنه لا يرث سواء كان القتل غير مستحق عمداً كان أو خطأ أو كان مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا
قتل الباغي فإنه يرثه وكذا القاتل إذا كان صبياً أو مجنوناً يرثه لا من ديته ولا من سائر أمواله وهو قول علي وعمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وقال عثمان البتي قاتل الخطأ يرث وقاتل العمد لا يرث وقال مالك لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله وهو قول الحسن ومجاهد والزهري والأوزاعي واحتج الشافعي رضي الله عنه بعموم الخبر المشهور المستفيض أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليس للقاتل من الميراث شيء ) إلا أن الاستدلال بهذا الخبر إنما يصح لو جوزنا تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ثم ههنا دقيقة وهي أن تطرق التخصيص إلى العام يفيد نوع ضعف فلو خصصنا هذا الخبر ببعض الصور فحينئذ يتوالى عليه أسباب الضعف فإن كونه خبر واحد يوجب الضعف وكونه على مصادمة الكتاب سبب آخر وكونه مخصوصاً سبب آخر فلو خصصنا عموم الكتاب به لكنا قد رجحنا الضعيف جداً على القوي جداً أما إذا لم يخصص هذا الخبر ألبتة اندفع عنه بعض أسباب الضعف فحينئذ لا يبعد تخصيص عموم الكتاب به واحتج أبو بكر الرازي على أن العادل إذا قتل الباغي فإنه لا يصير محروماً عن الميراث بأنا لا نعلم خلافاً أن من وجب له القود على إنسان فقتله قوداً أنه لا يحرم من الميراث واعلم أن الشافعية يمنعون هذه الصورة والله أعلم
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أن قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فيه مسائل
المسألة الأولى الشيء الذي من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر فيقال لذلك القابل إنه صار صلباً غليظاً قاسياً فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار جسم الحجر غير قابل وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر وتأثره عبارة عن ترك التمرد والعتو والاستكبار وإظهار الطاعة والخضوع لله والخوف من الله تعالى فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيهاً بالحجر فيقال قسا القلب وغلظ ولذلك كان الله تعالى وصف المؤمنين بالرقة فقال كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 )
المسألة الثانية قال القفال يجوز أن يكون المخاطبون بقوله قُلُوبُكُمْ أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم
والأمور التي جرت عليهم والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم فاخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب وهذا أولى لأن قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ خطاب مشافهة فحمله على الحاضرين أولى ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم
المسألة الثالثة قوله تعالى مِن بَعْدِ ذالِكَ يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره الله تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل فإنه روي أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع فعنده قال تعالى واصفاً لهم إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم أي صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية في القسوة كالحجارة ويحتمل أن يكون قوله مِن بَعْدِ ذالِكَ إشارة إلى جميع ما عدد الله سبحانه من النعم العظيمة والآيات الباهرة التي أظهرها على يد موسى عليه السلام فإن أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتهم لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه السلام وذلك بين في أخبارهم في التيه لمن نظر فيها
أما قوله تعالى أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً فيه مسائل
المسألة الأولى كلمة ( أو ) للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب فلا بد من التأويل وهو وجوه أحدها أنها بمعنى الواو كقوله تعالى إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) بمعنى ويزيدون وكقوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( النور 31 ) والمعنى وآبائهن وكقوله لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ ( النور 61 ) يعني وبيوت آبائكم ومن نظائره قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً ( المرسلات 5 6 ) وثانيها أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه وثالثها أن يكون المراد فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة ورابعها أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله ( المرسلات 5 6 ) وثانيها أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه وثالثها أن يكون المراد فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة ورابعها أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( النجم 9 ) أي في نظركم واعتقادكم وخامسها أن كلمة ( أو ) بمعنى بل وأنشدوا فوالله ما أدري أسلمى تغولت
أم القوم أو كل إلي حبيب
قالوا أراد بل كل وسادسها أنه على حد قولك ما آكل إلا حلواً أو حامضاً أي طعامي لا يخرج عن هذين بل يتردد عليهما وبالجملة فليس الغرض إيقاع التردد بينهما بل نفي غيرهما وسابعها أن ( أو ) حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقاً كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيباً ولو جالستهما معاً كنت مصيباً أيضاً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( أشد ) معطوف على الكاف إما على معنى أو مثل ( أشد قسوة ) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما على أو هي أنفسها أشد قسوة
المسألة الثالثة إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه أحدها أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كما قال لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) وثانيها أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) إلى قوله تعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( الأنعام 39 ) كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم وثالثها أو أشد قسوة لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ويظهر منها الماء في بعض الأحوال أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها ألبتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه
المسألة الرابعة قال القاضي إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم وهذا النمط من الكلام قد تقدم تقريراً وتفريعاً مراراً وأطواراً
المسألة الخامسة إنما قال أَشَدُّ قَسْوَة ً ولم يقل أقسى لأن ذلك أدل على فرط القسوة ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة وقرىء ( قساوة ) وترك ضمير المفضل عليه لعدم الالباس كقولك زيد كريم وعمرو أكرم ثم إنه سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع فأولها قوله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ( وإن ) بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة ومنها قوله تعالى وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( يس 32 )
المسألة الثانية التفجر التفتح بالسعة والكثرة يقال انفجرت قرحة فلان أي انشقت بالمدة ومنه الفجر والفجور وقرأ مالك بن دينار ( ينفجر ) بمعنى وإن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار قالت الحكماء إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجرياً اجتمعت تلك الأبخرة ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهاراً وثانيها قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عيناً لا نهراً جارياً أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار وقد تقل وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء وقوله تعالى يَشَّقَّقُ أي يتشقق فأدغم التاء كقوله يُذْكَرِ أي يتذكر وقوله عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ
( المزمل 1 ) يا أيها المدثر ( المدثر 1 ) وثالثها قوله تعالى ( المدثر 1 ) وثالثها قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ
واعلم أن فيه إشكالاً وهو أن الهبوط من خشية الله صفة الأحياء العقلاء والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوهاً أحدها قول أبي مسلم خاصة وهو أن الضمير في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا راجع إلى القلوب فإنه يجوز عليها الخشية والحجارة لا يجوز عليها الخشية وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلا أن هذا الوصف لما كان لائقاً بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة واعترضوا عليه من وجهين الأول أن قوله تعالى فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً جملة تامة ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ فيجب في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أن يكون راجعاً إليها الثاني أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية وثانيها قول جمع من المفسرين إن الضمير عائد إلى الحجارة لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاملة بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى له ربه وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك وهذا غير مستبعد في قدرة الله ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء ( فصلت 21 ) فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل فكذلك الجبل وصفه بالخشية وقال أيضاً لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك وروي أنه حن الجزع لصعود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار فكلها كانت تقول السلام عليك يا رسول الله قالوا فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد فوجب أن لا يلتفت إليهم وثالثها قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم وذكروا على هذا القول أنواعاً من التأويل الأول أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر فكأن الهبوط من العلو جعل مثلاً للانقياد وقوله مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشياً لله وهو كقوله فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ( الكهف 77 ) أي جداراً قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريداً للانقضاض ونحو هذا قول بعضهم بخيل تضل البلق من حجراته
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وقول جرير
لما أتى خبر الزبير تضعضعت
سور المدينة والجبال الخشع
فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر وكذلك الثاني جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع وعلى هذا الوجه تأول أهل
النظر قوله تعالى تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسرا 44 ) وقوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النحل 49 ) الآية وقوله تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) الوجه الثاني في التأويل أن قوله تعالى مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية الله تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط فكلمة ( من ) لابتداء الغاية فقوله مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي بسبب أن تحصل خشية الله في القلوب الوجه الثالث ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده ليزجرهم به قال وقوله تعالى مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي خشية الله أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية لله كما يقال نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس قال القاضي هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فالمعنى أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا فإن قيل هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل قلنا قال القاضي لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه بدليل قوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ والله أعلم
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود إلى ههنا شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال القفال رحمه الله إن فيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقصد أحدها الدلالة بها على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخبر عنها من غير تعلم وذلك لا يمكن أن يكون إلا بالوحي ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلاً علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار وثانيها تعديد النعم على بني إسرائيل وما
منّ الله تعالى به على أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل كالإنجاء من آل فرعون بعدما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكاً وتمكينه لهم في الأرض وفرقه بهم البحر وإهلاكه عدوهم وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلى الله جهرة ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة وثالثها إخبار النبي عليه السلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة فدل على بلادتهم ثم لما أمروا بدخول الباب سجداً وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة فكأن الله تعالى يقول إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه السلام فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق ورابعها تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة وخامسها تحذير مشركي العرب أن ينزل العذاب عليهم كما نزل على أولئك اليهود وسادسها أنه احتجاج على مشركي العرب المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء وهو المراد من قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) إذا عرفت هذا فنقول إنه عليه السلام كان شديد الحرص على الدعاء إلى الحق وقبولهم الإيمان منه وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم فقص الله تعالى عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية لرسوله فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلة القبول والاستجابة فقال تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وههنا مسائل
المسألة الأولى في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وجهان الأول وهو قول ابن عباس أنه خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة لأنه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة واللفظ وإن كان للعموم لكنا حملناه على الخصوص لهذه القرينة روي أنه عليه السلام حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب الله وكذبوه فأنزل الله تعالى هذه الآية الثاني وهو قول الحسن أنه خطاب مع الرسول والمؤمنين قال القاضي وهذا أليق بالظاهر لأنه عليه السلام وإن كان الأصل في الدعاء فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ويظهر لهم الدلائل وينبههم عليها فصح أن يقول تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ويريد به الرسول ومن هذا حاله من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحاً فلا وجه لترك الظاهر
المسألة الثانية المراد بقوله أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام لأنهم الذين يصح فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه لأن الطمع إنما يصح في المستقبل لا في الواقع
المسألة الثالثة ذكروا في سبب الاستبعاد وجوهاً أحدها أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه السلام وكان هو السبب في أن الله خلصهم من الذل وفضلهم على الكل ومع ظهور المعجزات المتوالية على يده وظهور أنواع العذاب على المتمردين الثاني أفتطمعون أن يؤمنوا ويظهروا التصديق ومن علم منهم الحق لم يعترف بذلك بل غيره وبدله الثالث أفتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء من طريق النظر والاستدلال وكيف وقد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام الله ويعلمون أنه حق ثم يعاندونه
المسألة الرابعة لقائل أن يقول القوم مكلفون بأن يؤمنوا بالله فما الفائدة في قوله أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ الجواب أنه يكون إقراراً لهم بما دعوا إليه ولو كان الإيمان لله كما قال تعالى فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ لما أقر بنبوته وبتصديقه ويجوز أن يراد بذلك أن يؤمنوا لأجلكم ولأجل تشددكم في دعائهم إليه فيكون هذا معنى الإضافة
أما قوله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ فقد اختلفوا في ذلك الفريق منهم من قال المراد بالفريق من كان في أيام موسى عليه السلام لأنه تعالى وصف هذا الفريق بأنهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات ومنهم من قال بل المراد بالفريق من كان في زمن محمد عليه الصلاة والسلام وهذا أقرب لأن الضمير في قوله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ راجع إلى ما تقدم وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وقد بينا أن الذين تعلق الطمع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فإن قيل الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات قلنا لا نسلم بل قد يجوز فيمن سمع التوراة أن يقال إنه سمع كلام الله كما يقال لأحدنا سمع كلام الله إذا قرىء عليه القرآن
أما قوله تعالى ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال التحريف التغيير والتبديل وأصله من الانحراف عن الشيء والتحريف عنه قال تعالى إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ ( الأنفال 16 ) والتحريف هو إمالة الشيء عن حقه يقال قلم محرف إذا كان رأسه قط مائلاً غير مستقيم
المسألة الثانية قال القاضي إن التحريف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى وحمل التحريف على تغيير اللفظ أولى من حمله على تغيير المعنى لأن كلام الله تعالى إذا كان باقياً على جهته وغيروا تأويله فإنما يكونون مغيرين لمعناه لا لنفس الكلام المسموع فإن أمكن أن يحمل على ذلك كما روي عن ابن عباس من أنهم زادوا فيه ونقصوا فهو أولى وإن لم يمكن ذلك فيجب أن يحمل على تغيير تأويله وإن كان التنزيل ثابتاً وإنما يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهوراً متواتراً كظهور القرآن فأما قبل أن يصير كذلك فغير ممتنع تحريف نفس كلامه لكن ذلك ينظر فيه فإن كان تغييرهم له يؤثر في قيام الحجة به فلا بد من أن يمنع الله تعالى منه وإن لم يؤثر في ذلك صح وقوعه فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه فأما تحريف المعنى فقد يصح على وجه ما لم يعلم قصد الرسول باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم الخنزير والميتة والدم على غيرها
المسألة الثالثة اعلم أنا إن قلنا بأن المحرفين هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) روي أن قوماً من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به موسى وما نهى عنه ثم قالوا سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس وأما إن قلنا المحرفون هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد عليه الصلاة والسلام وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته أو لأنهم حرفوا الشرائع كما حرفوا آية الرجم وظاهر القرآن لا يدل على أنهم أي شيء حرفوا
المسألة الرابعة لقائل أن يقول كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين أجاب القفال عنه فقال يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ولا يلتفتون إلى قول أهل الحق وهو كقولك للرجل كيف تفلح وأستاذك فلانا أي وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله أَفَتَطْمَعُونَ فقال قائلون آيسهم الله تعالى من إيمان هذه الفرقة وهم جماعة بأعيانهم وقال آخرون لم يؤيسهم من ذلك إلا من جهة الاستبعاد له منهم مع ما هم عليه من التحريف والتبديل والعناد قالوا وهو كما لا نطمع لعبيدنا وخدمنا أن يملكوا بلادنا ثم إنا لا نقطع بأنهم لا يملكون بل نستبعد ذلك ولقائل أن يقول إن قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ استهفام على سبيل الإنكار فكان ذلك جزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة فإيمان من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن ممتنع فحينئذ تعود الوجوه المقررة للخبر على ما تقدم
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ فالمراد أنهم علموا بصحته وفساد ما خلقوه فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد فلأجل ذلك يجب أن يحمل الكلام على أنهم العلماء منهم وأنهم فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى من بعد في قوله تعالى وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( آل عمران 187 ) وقال تعالى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( البقرة 146 ) ( الأنعام 20 ) ويجب أن يكون في عددهم قلة لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون لأنا إن جوزنا ذلك لم يعلم المحق من المبطل وإن كثر العدد
أما قوله تعالى وَهُمْ يَعْلَمُونَ فلقائل أن يقول قوله تعالى عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكرار لا فائدة فيه أجاب القفال عنه من وجهين الأول من بعد ما عقلوه مراد الله فأولوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى الثاني أنهم عقلوا مراد الله تعالى وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم الوزر والعقوبة من الله تعالى ومتى تعمدوا التحريف مع العلم بما فيه من الوزر كانت قسوتهم أشد وجراءتهم أعظم ولما كان المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى قال القاضي قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ على ما تقدم تفسيره يدل على أن إيمانهم من قبلهم لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغير حال الطمع فيهم بصفة الفريق
الذي تقدم ذكرهم ولما صح كون ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين لأن على هذا القول أمرهم في الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك وزواله موقوف على أن لا يخلقه فيهم ومن وجه آخر وهو أعظامه تعالى لذنبهم في التحريف من حيث فعلوه وهم يعلمون صحته ولو كان ذلك من خلقه لكان بأن يعلموا أو لا يعلموا لا يتغير ذلك وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم تدل على ذلك واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثانية قال أبو بكر الرازي تدل الآية على أن العالم المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الجاهل لأن قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لهم آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق وأن قوله حق ونجده بنعته وصفته في كتابنا ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة واعترف بشهادة التوراة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلا حجة أقوى من ذلك فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضاً من الاعتراف بذلك عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قال القفال قوله فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه
أما قوله عِندَ رَبّكُمْ ففيه وجوه أحدها أنهم جعلوا محاجتهم به وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد وثانيها قال الحسن أي ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه وثالثها قال الأصم المراد يحاجوكم يوم القيامة وعند التساؤل فيكون ذلك زائداً في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف لأنه ليس من اعتراف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة ورابعها قال
القاضي أبو بكر إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه فقال القوم عند الخلوة قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي فإن قبلت أحسنت إلى نفسك وإن جحدت كنت الخاسر الخائب وخامسها قال القفال يقال فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي وهذا عند الشافعي حلال وعند أبي حنيفة حرام أي في حكمهما وقوله لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله وتأول بعض العلماء قوله تعالى فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( النور 13 ) أي في حكم الله وقضائه لأن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً
أما قوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ففيه وجوه أحدها أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم وهو قول الحسن وثانيها أنه راجع إليهم فكأن عند ما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم
أما قوله تعالى أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ففيه قولان الأول وهو قول الأكثرين إن اليهود كانوا يعرفون الله ويعرفون أنه تعالى يعلم السر والعلانية فخوفهم الله به الثاني أنهم ما علموا بذلك فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم رباً يعلم سرهم وعلانيتهم وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم وعلى القولين جميعاً فهذا الكلام زجر لهم عن النفاق وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر أولا يعلم كيت وكيت إلا وهو عالم بذلك الشيء ويكون ذلك الشيء زاجراً له عن ذلك الفعل وقال بعضهم هؤلاء اليهود كيف يستجيزون أن يسر إلى إخوانهم النهي عن إظهار دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ليسوا كالمنافين الذين لا يعلمون الله ولا يعلمون كونه عالماً بالسر والعلانية فشأنهم من هذه الجهة أعجب قال القاضي الآية تدل على أمور أحدها أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال وثانيها أنها تدل على صحة الحجاج والنظر وأن ذلك كان طريقة الصحابة والمؤمنين وأن ذلك كان ظاهراً عند اليهود حتى قال بعضهم لبعض ما قالوه وثالثها أنها تدل على أن الحجة قد تكون إلزامية لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة وباشتمالها على ما يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة ورابعها أنها تدل على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً ووزراً والله أعلم
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِى َّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
اعلم أن المراد بقوله وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه والفرقة الثانية المنافقون والفرقة الثالثة الذين يجادلون المنافقين والفرقة الرابعة هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحداً بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطاً وفيهم من يكون عامياً محضاً مقلداً وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الأمي فقال بعضهم هو من لا يقر بكتاب ولا برسول وقال آخرون من لا يحسن الكتابة والقراءة وهذا الثاني أصوب لأن الآية في اليهود وكانوا مقرين بالكتاب والرسول ولأنه عليه الصلاة والسلام قال ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وذلك يدل على هذا القول ولأن قوله لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ لا يليق إلا بذلك
المسألة الثانية ( الأماني ) جمع أمنية ولها معانٍ مشتركة في أصل واحد أحدها ما تخيله الإنسان فيقدر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه ومن هذا قولهم فلان يعد فلاناً ويمنيه ومنه قوله تعالى يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ( النساء 12 ) فإن فسرنا الأماني بهذا كان قوله ( إلا أماني إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله تعالى لا يؤاخذهم بخطاياهم ) وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة وثانيها إِلاَّ أَمَانِى َّ إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته وثالثها إِلاَّ أَمَانِى َّ أي إلا ما يقرأون من قوله تمنى كتاب الله أول ليلة قال صاحب ( الكشاف ) والاشتقاق منى من إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا قال أبو مسلم حمله على تمنى القلب أولى بدليل قوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ( البقرة 111 ) أي تمنيهم وقال الله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وقال تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( البقرة 111 )
وقال تعالى وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ ( الجاثية 24 ) بمعنى يقدرون ويخرصون وقال الأكثرون حمله على القراءة أولى كقوله تعالى إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) ولأن حمله على القراءة أليق بطريقة الاستثناء لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلق فكأنه قال لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً
المسألة الثالثة قوله تعالى إِلاَّ أَمَانِى َّ من الاستثناء المنقطع قال النابغة حلفت يميناً غير ذي مثنوية
ولا علم إلا حسن ظن بغائب
وقرىء ( إلا أماني ) بالتخفيف أما قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فكالمحقق لما قلناه لأن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها فهي ظن ويكون ذلك تكراراً ولقائل أن يقول حديث النفس غير والظن غير فلا يلزم التكرار وإذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه فكأنه تعالى قال ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه وإلا بأن يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق وفي الآية مسائل أحدها أن المعارف كسبية لا ضرورية فلذلك ذم من لا يعلم ويظن وثانيها بطلان التقليد مطلقاً وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا وثالثها أن المضل وإن كان مذموماً فالمغتر بإضلال المضل أيضاً مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة ورابعها أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم أما قوله تعالى فَوَيْلٌ فقالوا الويل كلمة يقولها كل مكروب وقال ابن عباس إنه العذاب الأليم وعن سفيان الثوري إنه مسيل صديد أهل جهنم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ) قال القاضي ( ويل ) يتضمن نهاية الوعيد والتهديد فهذا القدر لا شبهة فيه سواء كان الويل عبارة عن وادٍ في جهنم أو عن العذاب العظيم
أما قوله تعالى يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ففيه وجهان الأول أن الرجل قد يقول كتبت إذا أمر بذلك ففائدة قوله بِأَيْدِيهِمْ أنه لم يقع منهم إلا على هذا الوجه الثاني أنه تأكيد وهذا الموضع مما يحسن فيه التأكيد كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه يا هذا كتبته بيمينك أما قوله تعالى ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ فالمراد أن من يكتب هذه الكتابة ويكسب هذا الكسب في غاية الرداءة لأنهم ضلوا عن الدين وأضلوا وباعوا آخرتهم بدنياهم فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم فإن المعلوم أن الكذب على الغير بما يضر يعظم إثمه فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال ويضم إليهما حب الدنيا والاحتيال في تحصيلها ويضم إليها أنه مهد طريقاً في الإضلال باقياً على وجه الدهر فلذلك عظم تعالى ما فعلوه فإن قيل إنه تعالى حكى عنهم أمرين أحدهما كتبة الكتاب والآخر إسناده إلى الله تعالى على سبيل الكذب فهذا الوعيد مرتب على الكتبة أو على إسناد المكتوب إلى الله أو عليهما معاً قلنا لا شك أن كتبة الأشياء الباطلة لقصد الإضلال من المنكرات والكذب على الله تعالى أيضاً كذلك والجمع بينهما منكر عظيم جداً أما قوله تعالى لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فهو تنبيه على أمرين الأول أنه تنبيه على نهاية شقاوتهم لأن العاقل يجب أن لا يرضى بالوزر القليل في الآخرة لأجل الأجر
العظيم في الدنيا فكيف يليق به أن يرضى بالعقاب العظيم في الآخرة لأجل النفع الحقير في الدنيا الثاني أنه يدل على أنهم ما فعلوا ذلك التحريف ديانة بل إنما فعلوه طلباً للمال والجاه وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضا ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه
أما قوله تعالى فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فالمراد أن كتبتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده وكذلك أخذهم المال عليه فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب ولو لم يعد ذكره كان يجوز أن يقال إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما فأزال الله تعالى هذه الشبهة واختلفوا في قوله تعالى مِّمَّا يَكْسِبُونَ هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد لم يحسن الوعيد عليه لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام فلا بد من تقييده وأولى ما يقيد به ما تقدم ذكره قال القاضي دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ذلك حقيقة لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فهب أن العبد مكتسب إلا أن انتساب الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب فكان اسناد تلك الكتبة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العبد فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها إنها من عند الله ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتبة ليست مخلوقة لله تعالى والجواب أن الداعية الموجبة لها من خلق الله تعالى بالدلائل المذكورة فهي أيضاً تكون كذلك والله أعلم
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً قليلة وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل ألبتة أما على قولنا فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي وأما على قول المعتزلة فلأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم فلما دل العقل على ذلك احتج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك فثبت أن على المذهبين لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بذلك وههنا مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير الأيام المعدودة وجهين الأول أن لفظ الأيام لا تضاف إلا إلى العشرة
فما دونها ولا تضاف إلى ما فوقها فيقال أيام خمسة وأيام عشرة ولا يقال أيام أحد عشر إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 183 184 ) هي أيام الشهر كله وهي أزيد من العشرة ثم قال القاضي إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها فالأشبه أن يقال إنه الأقل أو الأكثر لأن من يقول ثلاثة يقول أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ومن يقول عشرة يقول أحمله على الأكثر وله وجه فأما حمله على الواسطة أعني على ما هو أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له لأنه ليس عدد أولى من عدد اللهم إلا إذا جاءت في تقديرها رواية صحيحة فحينئذ يجب القول بها وجماعة من المفسرين قدروها بسبعة أيام قال مجاهد إن اليهود كانت تقول الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان كل ألف سنة يوماً فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وهذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه ليس بين كون الدنيا سبعة آلاف سنة وبين كون العذاب سبعة أيام مناسبة وملازمة ألبتة وأما الثاني فلأنه لا يلزم من كون المعصية مقدرة بسبعة أيام أن يكون عذابها كذلك أما على قولنا فلأنه يحسن من الله كل شيء بحكم المالكية وأما عند المعتزلة فلأن العاصي يستحق على عصيانه العقاب الدائم ما لم توجد التوبة أو العفو فإن قيل أليس أنه تعالى منع من استيفاء الزيادة فقال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فوجب أن لا يزيد العقاب على المعصية قلنا إن المعصية تزداد بقدر النعمة فلما كانت نعم الله على العباد خارجة عن الحصر والحد لا جرم كانت معصيتهم عظيمة جداً
الوجه الثاني روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها والكلام عليه أيضاً كالكلام على السبعة
الوجه الثالث قيل في معنى ( معدودة ) قليلة كقوله تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ ( يوسف 20 ) والله أعلم
المسألة الثانية ذهبت الحنفية إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة واحتجوا عليه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعي الصلاة أيام إقرائك ) فمدة الحيض ما يسمى أياماً وأقل عدد يسمى أياماً ثلاثة وأكثره عشرة على ما بيناه فوجب أن يكون أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة والإشكال عليه ما تقدم
المسألة الثالثة ذكر ههنا وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) ولقائل أن يقول لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو ( أياماً ) والجواب أن الاسم إن كان مذكراً فالأصل في صفة جمعه التاء يقال كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادراً نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ و فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران بما هو الفرع
أما قوله تعالى قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد والخبر وإنما سمي خبره سبحانه عهداً لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر فالعهد من الله لا يكون إلا بهذا الوجه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( فلن يخلف الله ) متعلق بمحذوف وتقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده
المسألة الثالثة قوله تعالى اتَّخَذْتُمْ ليس باستفهام بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير
المسألة الرابعة قوله تعالى فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده قال أصحابنا لأن الكذب صفة نقص والنقص على الله محال وقالت المعتزلة لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنياً عنه والكذب قبيح لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنياً عنه يستحيل أن يفعله فدل على أن الكذب منه محال فلهذا قال فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فإن قيل العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز ثم العقل يطابق ذلك لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم قلنا الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب
المسألة الخامسة قال الجبائي دلت الآية على أنه تعالى لم يكن وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده على أنه تعالى يخرج أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التكذيب لأنه لو وعدهم بذلك لما جاز أن ينكر على اليهود هذا القول وإذا ثبت أنه تعالى ما دلهم على ذلك وثبت أنه تعالى دلهم على وعيد العصاة إذا كان بذلك زجرهم عن الذنوب فقد وجب أن يكون عذابهم دائماً على ما هو قول الوعيدية وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذ كان قدر المعصية من الجميع لا يختلف واعلم أن هذا الوجه في نهاية التعسف فنقول لا نسلم أنه تعالى ما وعد موسى أنه يخرج أهل الكبائر من النار قوله لو وعدهم بذلك لما أنكر على اليهود قولهم قلنا لم قلت إنه تعالى لو وعدهم ذلك لما أنكر على اليهود ذلك وما الدليل على هذه الملازمة ثم إنا نبين شرعاً أن ذلك غير لازم من وجوه أحدها لعل الله تعالى إنما أنكر عليهم لأنهم قللوا أيام العذاب فإن قولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً يدل على أيام قليلة جداً فالله تعالى أنكر عليهم جزمهم بهذه القلة لا أنه تعالى أنكر عليهم انقطاع العذاب وثانيها أن المرجئة يقطعون في الجملة بالعفو فأما في حق الشخص المعين فلا سبيل إلى القطع فلما حكموا في حق أنفسهم بالتخفيف على سبيل الجزم لا جرم أنكر الله عليهم ذلك وثالثها أنهم كانوا كافرين وعندنا عذاب الكافر دائم لا ينقطع سلمنا أنه تعالى ما وعد موسى عليه السلام أنه يخرج أهل الكبائر من النار فلم قلت أنه لا يخرجهم من النار بيانه أنه فرق بين أن يقال إنه تعالى ما وعده إخراجهم من النار وبين أن يقال إنه أخبره أنه لا يخرجهم من النار والأول لا مضرة فيه فإنه تعالى ربما
لم يقل ذلك لموسى إلا أنه سيفعله يوم القيامة وإنما رد على اليهود وذلك لأنهم جزموا به من غير دليل فكان يلزمهم أن يتوقفوا فيه وأن لا يقطعوا لا بالنفي ولا بالإثبات سلمنا أنه تعالى لا يخرج عصاة قوم موسى من النار فلم قلت إنه لا يخرج عصاة هذه الأمة من النار وأما قول الجبائي لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم فهو تحكم محض فإن العقاب حق الله تعالى فله أن يتفضل على البعض بالإسقاط وأن لا يتفضل بذلك على الباقين فثبت أن هذا الاستدلال ضعيف أما قوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فهو بيان لتمام الحجة المذكورة فإنه إذا كان لا طريق إلى التقدير المذكور إلا السمع وثبت أنه لم يوجد السمع كان الجزم بذلك التقدير قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً لا محالة وهذه الآية تدل على فوائد أحدها أنه تعالى لما عاب عليهم القول الذي قالوه لا عن دليل علمنا أن القول بغير دليل باطل وثانيها أن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي وثالثها أن منكري القياس وخبر الواحد يتمسكون بهذه الآية قالوا لأن القياس وخبر الواحد لا يفيد العلم فوجب أن لا يكون التمسك به جائزاً لقوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ذكر ذلك في معرض الإنكار والجواب أنه لما دلت الدلالة على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد كان وجوب العمل معلوماً فكان القول به قولاً بالمعلوم لا بغير المعلوم
بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِي أتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قال صاحب الكشاف ( بلى ) إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله تعالى لَن تَمَسَّنَا النَّارُ أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) ولما كان من الجائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النار لا جرم بين تعالى أن الذي يستحق به الخلود أن يكون سيئة محيطة به ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السور بالبلد والكوز بالماء وذلك ههنا ممتنع فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين أحدهما أن المحيط يستر المحاط به والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالساترة لتلك الطاعات فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة والثاني أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطاعات فكأنها استولت على تلك الطاعات وأحاطت بها كما يحيط عسكر العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص منه فكأنه تعالى قال بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فإن قيل هذه الآية وردت في حق اليهود قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هذا هو الوجه الذي استدلت المعتزلة به في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر
واعلم أن هذه المسألة من معظمات المسائل ولنذكرها ههنا فنقول اختلف أهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر فمن الناس من قطع بوعيدهم وهم فريقان منهم من أثبت الوعيد المؤبد وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً وهو قول بشر المريسي والخالد ومن الناس من قطع بأنه لا وعيد لهم وهو قول شاذ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر والقول الثالث أنا نقطع بأنه سبحانه وتعالى يعفو عن بعض المعاصي ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا ونقطع بأنه تعالى إذا عذب أحداً منهم مدة فإنه لا يعذبه أبداً بل يقطع عذابه وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة وأكثر الإمامية فيشتمل هذا البحث على مسألتين إحداهما في القطع بالوعيد والأخرى في أنه لو ثبت الوعيد فهل يكون ذلك على نعت الدوام أم لا
المسألة الأولى في الوعيد ولنذكر دلائل المعتزلة أولاً ثم دلائل المرجئة الخالصة ثم دلائل أصحابنا رحمهم الله أما المعتزلة فإنهم عولوا على العمومات الواردة في هذا الباب وتلك العمومات على جهتين بعضها وردت بصيغة ( من ) في معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع أما النوع الأول فآيات إحداها قوله تعالى في آية المواريث تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( البقرة 187 ) إلى قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) وقد علمنا أن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وارتكب شرب الخمر والزنا وقتل النفس المحرمة فهو متعد لحدود الله فيجب أن يكون من أهل العقاب وذلك لأن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر دون المؤمن كان ذلك على خلاف الدليل ثم الذي يبطل قوله وجهان أحدهما أنه تعالى بين حدوده في المواريث ثم وعد من يطيعه في تلك الحدود وتوعد من يعصيه فيها ومن تمسك بالإيمان والتصديق به تعالى فهو أقرب إليها إلى الطاعة فيها ممن يكون منكراً لربوبيته ومكذباً لرسله وشرائعه فترغيبه في الطاعة فيها أخص ممن هو أقرب إلى الطاعة فيها وهو المؤمن ومتى كان المؤمن مراداً بأول الآية فكذلك بآخرها الثاني أنه قال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولا شبهة في أن المراد به الحدود المذكورة ثم علق بالطاعة فيها الوعد وبالمعصية فيها الوعيد فاقتضى سياق الآية أن الوعيد متعلق بالمعصية في هذه الحدود فقط دون أن يضم إلى ذلك تعدي حدود أخر ولهذا كان مزجوراً بهذا الوعيد في تعدي هذه الحدود فقط ولو لم يكن مراداً بهذا الوعيد لما كان مزجوراً به وإذا ثبت أن المؤمن مراد بها كالكافر بطل قول من يخصها بالكافر فإن قيل إن قوله تعالى وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( النساء 14 ) جمع مضاف والجمع المضاف عندكم يفيد العموم كما لو قيل ضربت عبيدي فإنه يكون ذلك شاملاً لجميع عبيده وإذا ثبت ذلك اختصت هذه الآية بمن تعدى جميع حدود الله وذلك هو الكافر لا محالة دون المؤمن قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم نظراً إلى اللفظ لكنه وجدت قرائن تدل على أنه ليس المراد ههنا تعدي جميع الحدود أحدها أنه تعالى قدم على قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فانصرف قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إلى تلك الحدود وثانيها أن الأمة متفقون على أن المؤمن مزجور بهذه الآية عن المعاصي ولو صح ما ذكرتم لكان المؤمن غير مزجور بها وثالثها أنا لو حملنا الآية على تعدي جميع الحدود لم يكن للوعيد بها فائدة لأن أحداً من المكلفين لا يتعدى
جميع حدود الله لأن في الحدود ما لا يمكن الجمع بينها في التعدي لتضادها فإنه لا يتمكن أحد من أن يعتقد في حالة واحدة مذهب الثنوية والنصرانية وليس يوجد في المكلفين من يعصي الله بجميع المعاصي ورابعها قوله تعالى في قاتل المؤمن عمداً وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( النساء 93 ) دلت الآية على أن ذلك جزاؤه فوجب أن يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وخامسها قوله تعالى النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلى قوله وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ( الأنفال 15 16 ) وسادسها قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وسابعها قوله تعالى ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلى قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( النساء 29 30 ) وثامنها قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ( طه 74 75 ) فبين تعالى أن الكافر والفاسق من أهل العقاب الدائم كما أن المؤمن من أهل الثواب وتاسعها قوله تعالى وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ( طه 111 ) وهذا يوجب أن يكون الظالم من أهل الصلاة داخلاً تحت هذا الوعيد وعاشرها قوله تعالى بعد تعداد المعاصي وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ( الفرقان 68 69 ) بين أن الفاسق كالكافر في أنه من أهل الخلود إلا من تاب من الفساق أو آمن من الكفار والحادية عشرة قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ ( النمل 89 90 ) الآية وهذا يدل على أن المعاصي كلها متوعد عليها كما أن الطاعات كلها موعود عليها والثانية عشرة قوله تعالى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 37 ) والثالثة عشرة قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) الآية ولم يفصل بين الكافر والفاسق والرابعة عشرة قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الآية فحكي في أول الآية قول المرجئة من اليهود فقال وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) ثم إن الله كذبهم فيه ثم قال بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فهذه هي الآيات التي تمسكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة ( من ) في معرض الشرط واستدلوا على أن هذه اللفظة تفيد العموم بوجوه أحدها أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص أو مشتركة بينهما والقسمان باطلان فوجب كونها موضوعة للعموم أما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلم أن يعطي الجزاء لكل من أتى بالشرط لأن على هذا التقدير لايكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كل من دخل داره فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص وأما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للاشتراك أما أولاً فلأن الاشتراك خلاف الأصل وأما ثانياً فلأنه لو كان كذلك لما عرف كيفية ترتيب الجزاء على الشرط إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال من دخل داري أكرمته فيقال له أردت الرجال أو النساء فإذا قال أردت الرجال يقال له أردت العرب أو العجم فإذا قال أردت العرب يقال له أردت ربيعة أو
مضر وهلم جراً إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل وثانيها أنه إذا قال من دخل داري أكرمته حسن استثناء كل واحد من العقلاء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يكون بحيث يصح دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يعتبر مع الصحة الوجوب أو لا يعتبر والأول باطل أما أولاً فلأنه يلزم أن لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله جاءني الفقهاء إلا زيداً وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله جاءني الفقهاء إلا زيداً فرق لصحة دخول زيد في الكلامين لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة وأما ثانياً فلأن الاستثناء من العدد يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته فوجب أن يكون هذا فائدة الاستثناء في جميع المواضع لأن أحداً من أهل اللغة لم يفصل بين الاستثناء الداخل على العدد وبين الداخل على غيره من الألفاظ فثبت بما ذكرنا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على أن صيغة ( من ) في معرض الشرط للعموم وثالثها أنه تعالى لما أنزل قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) الآية قال ابن الزبعري لأخصمن محمداً ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى ابن مريم فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليه ذلك فدل على أن هذه الصيغة تفيد العموم النوع الثاني من دلائل المعتزلة التمسك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام وهي في آيات إحداها قوله تعالى وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 14 ) واعلم أن القاضي والجبائي وأبا الحسن يقولون إن هذه الصيغة تفيد العموم وأبو هاشم يقول إنها لا تفيد العموم فنقول الذي يدل على أنها للعموم وجوه أحدها أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام ( الأئمة من قريش ) والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قولنا بعض الأئمة من قريش لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين أما كون كل الأئمة من قريش ينافي كون بعض الأئمة من غيرهم وروي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) احتج على أبي بكر بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال ( إلا بحقها ) وإن كان الزكاة من حقها وثانيها أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد الاستغراق أما أنه يؤكد فلقوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( ص 73 ) وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالاجماع وأما أنه متى كان كذلك وجب كون المؤكد في أصله للاستغراق لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلاً في الأصل وإنما حصل
بهذه الألفاظ ابتداء لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية الحكم بل في إعطاء حكم جديد وكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلاً في الأصل وثالثها أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار الاسم معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بصرفه إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب وأما صرفه إلى ما دون الكل فإنه لا يفيد المعرفة لأنه ليس بعض الجمع أولى من بعض فكان يبقى مجهولاً فإن قلت إذا أفاد جمعاً مخصوصاً من ذلك الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالاً أفاد تعريف ذلك الجنس وتميزه عن غيره فدل على أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق ورابعها أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم وخامسها الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رأيت رجالاً من الرجال ولا يقال رأيت الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع إذا ثبت هذا فنقول إن المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف وقد علمت أن المنتزع منه أكثر فوجب أن يكون الجمع المعرف مفيداً للكل والله أعلم أما على طريقة أبي هاشم وهي أن الجمع المعرف لا يفيد العموم فيمكن التمسك بالآية من وجهين آخرين الأول أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يقتضي أن الفجور هي العلة وإذا ثبت ذلك لزم عموم الحكم لعموم علته وهو المطلوب وفي هذا الباب طريقة ثالثة يذكرها النحويون وهي أن اللام في قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ ليست لام تعريف بل هي بمعنى الذي ويدل عليه وجهان أحدهما أنها تجاب بالفاء كقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) وكما تقول الذي يلقاني فله درهم الثاني أنه يصح عطف الفعل على الشيء الذي دخلت هذه اللام عليه قال تعالى إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( الحديد 18 ) فلولا أن قوله إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ بمعنى إن الذين أصدقوا لما صح أن يعطف عليه قوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ وإذا ثبت ذلك كان قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ معناه إن الذين فجروا فهم في الجحيم وذلك يفيد العموم الآية الثانية في هذا الباب قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 85 86 ) ولفظ المجرمين صيغة جمع معرفة بالألف واللام وثالثها قوله تعالى وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ( مريم 72 ) ورابعها قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ ( النحل 61 ) بين أنه يؤخر عقابهم إلى يوم آخر وذلك إنما يصدق أن لو حصل عقابهم في ذلك اليوم
النوع الثالث من العمومات صيغ الجموع المقرونة بحرف الذي فأحدها قوله تعالى وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( المطففين 1 2 ) وثانيها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وثالثها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) فبين ما يستحق على ترك الهجرة وترك النصرة وإن كان معترفاً بالله
ورسوله ورابعها قوله تعالى وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ( يونس 27 ) ولم يفصل في الوعيد بين الكافر وغيره وخامسها قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 ) وسادسها قوله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( النساء 18 ) ولو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد والعذاب لم يكن لهذا القول معنى بل لم يكن به إلى التوبة حاجة وسابعها قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 ) فبين ما على الفاسق من العذاب في الدنيا والآخرة وثامنها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( آل عمران 77 )
النواع الرابع من العمومات قوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 180 ) توعد على منع الزكاة
النوع الخامس من العمومات لفظة ( كل ) وهو قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ( يونس 54 ) فبين ما يستحق الظالم على ظلمه
النوع السادس ما يدل على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( ق 28 29 ) بين أنه لا يبدل قوله في الوعيد والاستدلال بالآية من وجهين أحدهما أنه تعالى جعل العلة في إزاحة العذر تقديم الوعيد أي بعد تقديم الوعيد لم يبق لأحد علة ولا مخلص من عذابه والثاني قوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وهذا صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دل اللفظ عليه فهذا مجموع ما تمسكوا به من عمومات القرآن أما عمومات الأخبار فكثيرة
فالنوع الأول المذكور بصيغة ( من ) أحدها ما روى وقاص بن ربيعة عن المسور بن شداد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله من نار جهنم ومن أخذ بأخيه كسوة كساه الله من نار جهنم ومن قام مقام رياء وسمعة أقامه الله يوم القيامة مقام رياء وسمعة ) وهذا نص في وعيد الفاسق ومعنى أقامه أي جازاه على ذلك وثانيها قال عليه السلام ( من كان ذا لسانين وذا وجهين كان في النار ذا لسانين وذا وجهين ) ولم يفصل بين المنافق وبين غيره في هذا الباب وثالثها عن سعيد بن زيد قال عليه السلام ( من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ورابعها عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هاجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه ) وهذا الخبر يدل على وعيد الفاسق الظالم ويدل على أنه غير مؤمن ولا مسلم على ما يقوله المعتزلة من المنزلة بين المنزلتين وخامسها عن ثوبان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جاء يوم القيامة بريئاً من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين ) وهذا يدل على أن صاحب هذه الثلاثة لا يدخل الجنة وإلا لم يكن لهذا الكلام معنى والمراد من الدين من مات عاصياً مانعاً ولم يرد التوبة ولم يتب عنه وسادسها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً من طرق الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) وهذا نص في أن الثواب لا يكون إلا بالطاعة والخلاص من النار لا يكون إلا بالعمل الصالح وسابعها عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مسكر خمر
وكل خمر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة ) وهو صريح في وعيد الفاسق وأنه من أهل الخلود لأنه إذا لم يشربها لم يدخل الجنة لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وثامنها عن أم سلمة قالت قال عليه السلام ( إنما أنا بشر مثلكم ولعلكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما قطعت له قطعة من النار ) وتاسعها عن ثابت بن الضحاك قال قال عليه السلام ( من حلف بملة سوى الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء يعذب به في نار جهنم ) وعاشرها عن عبد الله بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام في الصلاة ( من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة ولا ثواباً وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف ) وهذا نص في أن ترك الصلاة يحبط العمل ويوجب وعيد الأبد الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه السلام ( من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن ) ولما ثبت أنه لا يكفر علمنا أن المراد منه إحباط العمل الثاني عشر عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يهوي في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل متعمداً فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) الثالث عشر عن أبي ذر قال عليه السلام ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت يا رسول الله من هم خابوا وخسروا قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف كاذباً ) يعني بالمسبل المتكبر الذي يسبل إزاره ومعلوم أن من لم يكلمه الله ولم يرحمه وله عذاب أليم فهو من أهل النار ووروده في الفاسق نص في الباب الرابع عشر عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ومن لم يجد عرف الجنة فلا شك أنه في النار لأن المكلف لا بد وأن يكون في الجنة أو في النار ) الخامس عشر عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة ) السادس عشر عن ابن مسعود قال قال عليه السلام ( من حلف على يمين كاذباً ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان ) وذلك لأن الله تعالى يقول إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا ( آل عمران 77 ) إلى آخر الآية وهذا نص في الوعيد ونص في أن الآية واردة في الفساق كورودها في الكفار السابع عشر عن أبي أمامة قال قال عليه السلام ( من حلف على يمين فاجرة ليقطع بها مال امرىء مسلم بغير حقه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قيل يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً قال وإن كان قضيباً من أراك ) الثامن عشر عن سعيد بن جبير قال كنت عند ابن عباس فأتاه رجل وقال إني رجل معيشتي من هذه التصاوير فقال ابن عباس سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من صور فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيه الروح وليس بنافخ ومن استمع إلى حديث قوم يفرون منه صب في أذنيه الآنك ومن يرى عينيه في المنام ما لم يره كلف أن يعقد بين شعرتين ) التاسع عشر عن معقل بن يسار قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) العشرون عن ابن عمر في مناظرته مع عثمان حين أراد أن يوليه القضاء قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان قاضياً يقضي بالجهل كان من أهل النار ومن كان قاضياً يقضي بالجور كان من أهل النار ) الحادي والعشرون قال عليه السلام ( من ادعى أباً في الإسلام وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) الثاني والعشرون عن الحسن عن أبي بكرة قال عليه السلام ( من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ) وإذا
كان في قتل الكفار هكذا فما ظنك بقتل أولاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث والعشرون عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه السلام ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) وإذا لم يلبسه في الآخرة وجب أن لا يكون من أهل الجنة لقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ ( الزخرف 71 )
النوع الثاني من العمومات الإخبارية الواردة لا بصيغة ( من ) وهي كثيرة جداً الأول عن نافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال قال عليه السلام ( لا يدخل الجنة مسكين متكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله ومن لم يدخل الجنة من المكلفين فهو من أهل النار بالإجماع ) الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد وعبد نصح سيده وأحسن عبادة ربه وعفيف متعفف وثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله وفقير فخور ) الثالث عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( إن الله خلق الرحم فلما فرغ من خلقه قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فهو ذاك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاقرؤوا إن شئتم ) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( محمد 33 ) وهذا نص في وعيد قاطع الرحم وتفسير الآية وفي حديث عبد الرحمن بن عوف قال الله تعالى ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وفي حديث أبي بكرة أنه عليه السلام قال ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) الرابع عن معاذ بن جبل قال قال عليه السلام لبعض الحاضرين ( ما حق الله على العباد قالوا الله ورسوله أعلم قال أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً قال فما حقهم على الله إذا فعلوا ذلك قال أن يغفر لهم ولا يعذبهم ) ومعلوم أن المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فيلزم أن لا يغفر لهم إذا لم يعبدوه الخامس عن أبي بكرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقال يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) رواه مسلم السادس عن أم سلمة قالت قال عليه السلام ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) السابع عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لا يبغض أهل البيت رجل إلا أدخله الله النار ) وإذا استحقوا النار ببعضهم فلأن يستحقوها بقتلهم أولى الثامن في حديث أبي هريرة أنا خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عام خيبر إلى أن كنا بوادي القرى فبينما يحفظ رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه سهم وقتله فقال الناس هنيئاً له الجنة قال رسول الله ( كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم حنين من الغنائم لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً ) فلما سمع الناس بذلك جاء رجل بشراك أو بشراكين إلى رسول الله فقال عليه السلام شراك من نار أو شراكين من النار التاسع عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق السحر ) العاشر عن أبي هريرة قال عليه السلام ( ما من عبد له مال لا يؤدي زكاته إلا جمع الله له يوم القيامة عليه صفائح من نار جهنم يكوي بها جبهته وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) هذا مجموع استدلال المعتزلة بعمومات القرآن والأخبار أجاب أصحابنا عنها من وجوه أولها أنا لا نسلم أن صيغة ( من ) في معرض الشرط للعموم ولا نسلم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة باللام للعموم والذي يدل عليه أمور
الأول أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللفظتين كل من دخل داري أكرمته وبعض من دخل داري أكرمته ويقال أيضاً كل الناس كذا وبعض الناس كذا ولو كانت لفظة ( من ) للشرط تفيد الاستغراق لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقضاً وكذلك في لفظ الجمع المعرف فثبت أن هذه الصيغ لا تفيد العموم الثاني وهو أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله والمراد منها تارة الاستغراق وأخرى البعض فإن أكثر عمومات القرآن مخصوصة والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أنه يفيد الاستغراق أو لا يفيد الثالث وهو أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها لأنها تحصيل الحاصل محال فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة سلما أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية الأول ممنوع وباطل قطعاً لأن من المعلوم بالضرورة أن الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل والجميع على سبيل المبالغة كقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) فإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية لم يجز التمسك فيها بهذه العمومات سلمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ولكن لا بد من اشتراط أن لا يوجد شيء من المخصصات فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام فلم قلتم إنه لم يوجد شيء من المخصصات أقصى ما في الباب أن يقال بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات لكنك تعلم أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ لمعنى الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات وهذا الشرط غير معلوم كانت الدلالة موقوفة على شرط غير معلوم فوجب أن لا تحصل الدلالة ومما يؤكد هذا المقام قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى إلا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعلمون لأجلها أن مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص وأما ما كان هناك فلم يجوز مثله ههنا سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها والرجحان معنا لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام والخاص مقدم على العام لا محالة سلمنا أنه لم يوجد المخصص ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد ولا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه الأول أن الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد والثاني أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه فكان ترجيح عمومات الوعد أولى الثالث وهو أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى سلمنا أنه لم يوجد المعارض ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفار فلا تكون قاطعة في العمومات فإن قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قلنا هب أنه كذلك ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة
وردت في الأسباب الخاصة والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أن إفادتها للعموم لا يكون قوياً والله أعلم
أما الذين قطعوا بنفي العقاب عن أهل الكبائر فقد احتجوا بوجوه الأول قوله تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) وقوله تعالى إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) دلت هذه الآية على أن ماهية الخزي والسوء والعذاب مختصة بالكافر فوجب أن لا يحصل فرد من أفراد هذه الماهية لأحد سوى الكافرين الثاني قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) حكم تعالى بأنه يغفر كل الذنوب ولم يعتبر التوبة ولا غيرها وهذا يفيد القطع بغفران كل الذنوب الثالث قوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( الرعد 6 ) وكلمة ( على ) تفيد الحال كقولك رأيت الملك على أكله أي رأيته حال اشتغاله بالأكل فكذا ههنا وجب أن يغفر لهم الله حال اشتغالهم بالظلم وحال الاشتغال بالظلم يستحيل حصول التوبة منهم فعلمنا أنه يحصل الغفران بدون التوبة ومقتضى هذه الآية أن يغفر للكافر لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) إلا أنه ترك العمل به هناك فبقي معمولاً به في الباقي والفرق أن الكفر أعظم حالاً من المعصية الرابع قوله تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( الليل 14 16 ) وكل نار فإنها متلظية لا محالة فكأنه تعالى قال إن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي هو المكذب المتولي الخامس قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( الملك 8 9 ) دلت الآية على أن جميع أهل النار مكذب لا يقال هذه الآية خاصة في الكفار ألا ترى أنه يقول قبله وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِى َ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ وهذا يدل على أنها مخصوصة في بعض الكفار وهم الذين قالوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء ( الملك 6 9 ) وليس هذا من قول جميع الكفار لأنا نقول دلالة ما قبل هذه الآية على الكفار لا تمنع من عموم ما بعدها
أما قوله إن هذا ليس من قول الكفار قلنا لا نسلم فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون ما نزل الله من شيء على محمد وإذا كان كذلك فقد صدق عليهم أنهم كانوا يقولون ما نزل الله من شيء السادس قوله تعالى وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ ( سبأ 17 ) وهذا بناء المبالغة فوجب أن يختص بالكفر الأصلي السابع أنه تعالى بعدما أخبر أن الناس صنفان بيض الوجوه وسودهم قال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( آل عمران 106 ) فذكر أنهم الكفار و الثامن أنه تعالى بعدما جعل الناس ثلاثة أصناف السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة بين أن السابقين وأصحاب الميمنة في الجنة وأصحاب المشأمة في النار ثم بين أنهم كفار بقوله وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الواقعة 47 ) التاسع إن صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من أدخل النار فإنه يخزى فإذن صاحب الكبيرة لا يدخل النار وإنما قلنا إن صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى وإنما قلنا إنه مؤمن لما سبق بيانه في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) من أن صاحب الكبيرة مؤمن وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لوجوه
أحدها قوله تعالى يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) وثانيها قوله إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) وثالثها قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) إلى أن حكى عنهم أنهم قالوا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 ) ثم إنه تعالى قال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) ومعلوم أن الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض يدخل فيه العاصي والزاني وشارب الخمر فلما حكى الله عنهم أنهم قالوا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ثم بين أنه تعالى استجاب لهم في ذلك ثبت أنه تعالى لا يخزيهم فثبت بما ذكرنا أنه تعالى لا يخزي عصاة أهل القبلة وإنما قلنا إن كل من أدخل النار فقد أخزي لقوله تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( آل عمران 192 ) فثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار العاشر العمومات الكثيرة الواردة في الوعد نحو قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 4 5 ) فحكم بالفلاح على كل من آمن وقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ ( البقرة 62 ) فقوله وَعَمِلَ صَالِحَاً نكرة في الإثبات فيكفي فيه الإثبات بعمل واحد وقال وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ ( النساء 124 ) وإنها كثيرة جداً ولنا فيه رسالة مفردة من أرادها فليطالع تلك الرسالة والجواب عن هذه الوجوه أنها معارضة بعمومات الوعيد والكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض وتوقفوا في البعض فقد احتجوا من القرآن بآيات الحجة الأولى الآيات الدالة على كون الله تعالى عفواً غفوراً كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( الشورى 25 ) وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( الشورى 30 ) وقوله وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( الشورى 32 ) إلى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ( الشورى 34 ) وأيضاً أجمعت الأمة على أن الله يعفو عن عباده وأجمعوا على أن من جملة أسمائه العفو فنقول العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أو عمن لا يحسن عقابه وهذا القسم الثاني باطل لأن عقاب من لا يحسن عقابه قبيح ومن ترك مثل هذا الفعل لا يقال إنه عفا ألا ترى أن الإنسان إذا لم يظلم أحداً لا يقال أنه عفا عنع إنما يقال له عفا إذا كان له أن يعذبه فتركه ولهذا قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ولأنه تعالى قال وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 ) فلو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان ذلك تكريراً من غير فائدة فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وذلك هو مذهبنا الحجة الثانية الآيات الدالة على كونه تعالى غافراً وغفوراً وغفاراً قال تعالى غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ( غافر 3 ) وقال وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ ( الكهف 58 ) وقال وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ ( طه 82 ) وقال غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) والمغفرة ليست عبارة عن إسقاط العقاب عمن لا يحسن