كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال إن رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل فقال علي ( لا ) إن الله تعالى قال وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ أي فأمنه حتى يسمع كلام الله وتقرير هذا الكلام أن نقول إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام وإما بالقتل فلما كان هذا الكلام واقعاً في القلب لا جرم ذكر الله هذه الآية إزالة لهذه الشبهة والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالباً للحجة والدليل أو جاء طالباً لاستماع القرآن فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد ويدل أيضاً على أن النظر في دين الله أعلى المقامات وأعلى الدرجات فإن الكافر الذي صار دمه مهدراً لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه
المسألة الثانية أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره وإن استجارك أحد ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره
فإن قيل لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي
قلنا الحكمة فيه ما ذكره سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وقد بينا ههنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار قال الزجاج المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة لأن تكلم الله بهذه الحروف إما أن يكون معاً أو على الترتيب فإن تكلم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم لأن الكلام لا يحصل منتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب فلو حصلت معاً لا متعاقبة لما حصل الانتظام فلم يحصل الكلام وأما إن حصلت متعاقبة لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر
وذلك يوجب الحدوث فدل هذا عن أن كلام الله محدث قالوا فإن قلتم إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام الله إلا هذه الحروف والأصوات وأما الحشوية والحمقى من الناس فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات وثبت أن كلام الله قديم فوجب القول بقدم الحروف والأصوات
واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات وإما أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها والأول هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء
وأما الثاني فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا شيئاً آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمراً آخر مغايراً لها فسقط هذا الكلام
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولاً بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهباً عجيباً فقال كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارىء وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب أن لا يمهل هذا الكافر بل يقال له إما أن تؤمن وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال
إذا ثبت هذا فنقول ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم
المسألة الخامسة المذكور في هذه الآية كونه طالباً لسماع القرآن فنقول ويلتحق به كونه طالباً لسماع الدلائل وكونه طالباً للجواب عن الشبهات والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره لكونه طالباً للعلم مسترشداً للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته
المسألة السادسة في قوله حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ وجوه قيل أراد سماع جميع القرآن لأن تمام الدليل والبينات فيه وقيل أراد سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين وقيل
أراد سماع كل الدلائل وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل وقوله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم
المسألة السابعة قال الفقهاء والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوماً مع ماله إلا أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجا الإسلام أو دخل لتجارة فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان فيجب تبليغه مأمنه وهو أن يبلغ محروساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة أمان ومن دخل ليأخذ مالاً في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
قوله كَيْفَ استفهام بمعنى الإنكار كما تقول كيف يسبقني مثلك أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني من اتقى الله يوفي بعهده لمن عاهد والله أعلم
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
اعلم أن قوله كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد وحذف الفعل كونه معلوماً أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد وَلَمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ هذا هو المعنى ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال
ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه قال الليث الظهور الظفر بالشيء وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) أي ليعليه وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوباً صار كالناقص والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يريد أن يقدروا عليكم وقوله لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ قال الليث رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوباً وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى ( طه 94 ) أي لم تحفظه أما الأول ففيه أقوال الأول أنه العهد قال الشاعر وجدناهم كاذباً الهم
وذو الال والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني قال الفراء الال القرابة قال حسان لعمرك أن الك من قريش
كال السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الأل الحلف قال أوس بن حجر لولا بنو مالك والأل مرقبه
ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف والرابع الأل هو الله عز وجل وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال إن هذا الكلام لم يخرج من إل وطعن الزجاج في هذا القول وقال أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول يا إل الخامس قال الزجاج حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشديد فمن ذلك الألة الحربة وأذن مؤللة فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة السادس قال الأزهري أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية فجائز أن يكون عرب فقيل إل السابع قال بعضهم الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت فالعهد سمى إلا لظهوره وصفائه من شوائب الغدر أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه
أما قوله وَلاَ ذِمَّة ً فالذمة العهد وجمعها ذمم وذمام كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه يعني ما يجتنب فيه الذم يقال تذمم فلان أي ألقى على نفسه الذم ونظيره تحوب وتأثم وتحرج
أما قوله يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ أي يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً طيباً والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ وفيه سؤالان
السؤال الأول الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أقبح وأخبث من الفسق فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم
السؤال الثاني أن الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ فائدة
والجواب عن الأول أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه
فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم
والجواب عن الثاني عين ما تقدم لأن الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ونقض العهد والمكر والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك ومثل هذا الشخص يكون مذموماً عند جميع الناس وفي جميع الأديان فالمراد بقوله وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة وأيضاً قال ابن عباس لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام
أما قوله اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً عَن سَبِيلِهِ ففيه قولان الأول المراد منه المشركون قال مجاهد أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه وترك حلفاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة الثاني لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا المشركين على نقض تلك العهود فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن الله تعالى أعاد قوله لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً ( التوبة 10 ) ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكراراً محضاً ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكراراً فكان ذلك أولى
ثم قال وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( التوبة 10 ) يعني يعتدون ما حده الله في دينه وما يوجبه العقد والعهد وفي ذلك نهاية الذم والله أعلم
( 11 )
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءااتَوُاْ الزَّكَواة َ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
( 12 )
وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّة َ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم فجمع ذلك الشيء بقوله فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وهو يفيد جملة أحكام الإيمان ولو شرح لطال
فإن قيل المعلق على
الشيء بكلمة ءانٍ عدم عند عدم ذلك الشيء فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين وهو مشكل لأنه ربما كان فقيراً أو إن كان غنياً لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة
قلنا قد بينا في تفسير قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) أن المعلق على الشيء بكلمة ءانٍ لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء فزال هذا السؤال ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة ءانٍ عدم عند عدم ذلك الشيء فههنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة ومن لم يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه وجب عليه أن يقر بحكمها فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة وكان ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة وهو قوله والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما بقي في قوله فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ بحثان الأول قوله فَإِخوَانُكُمْ قال الفراء معناه فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ( الأحزاب 5 ) أي فهم إخوانكم الثاني قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة وهذا غلط يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء أخوة وأخوان قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ولم يعن النسب وقال تعالى أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ( النور 61 ) وهذا في النسب قال ابن عباس حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة
ثم قال وَنُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال صاحب ( الكشاف ) وهذا اعتراض وقع بين الكلامين والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها
ثم قال وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه ومنه قوله تعالى مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا ( النحل 92 ) والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم وقيل للحلف يمين وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا وقيل سمي القسم يميناً ليمين البر فيه فقوله وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم أي نقضوا عهودهم وفيه قولان الأول هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان ولذلك قرأ بعضهم وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ والأول أولى للقراءة المشهورة ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد وقوله وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ يقال طعنه بالرمح يطعنه وطعن بالقول السيء يطعن قال الليث وبعضهم يقول يطعن بالرمح ويطعن بالقول فيفرق بينهما والمعنى أنهم عابوا دينكم وقدحوا فيه
ثم قال فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أَئِمَّة َ الْكُفْرِ بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق قال الزجاج الأصل في الأئمة أأمة لأنها جمع إمام مثل مثال وأمثلة لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وألقيت حركتها على الهمزة فصارت أأمة فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة هذا هو الاختيار عند جميع النحويين
إذا عرفت هذا فنقول قال صاحب ( الكشاف ) لفظة ( أئمة ) همزة بعدها همزة بين بين والمراد بين مخرج الهمزة والياء أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ولا يجوز أن يكون قراءة ومن صرح بها فهو لاحن محرف
المسألة الثانية قوله فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ معناه قاتلوا الكفار بأسرهم إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة
المسألة الثالثة قال الزجاج هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام لأن عهده مشروط بأن لا يطعن فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم
ثم قال تعالى إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ قرأ ابن عامر لا أَيْمَانَ لَهُمْ بكسر الألف ولها وجهان أحدها لا أمان لهم أي لا تؤمنوهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الإخافة والثاني أنهم كفرة لا إيمان لهم أي لا تصديق ولا دين لهم والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة وأيمانهم ليست بأيمان وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم ولو لم يكن منعقداً لما صح وصفها بالنكث
ثم قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ وهو متعلق بقوله فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه من الكفر وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان
( 13 )
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما قال قَاتَلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ ( التوبة 12 ) أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع أحدها نكثهم العهد وكل المفسرين حمله على نقض العهد قال ابن عباس والسدي والكلبي نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله واختلفوا فيه فقال بعضهم المراد إخراجه من مكة حين هاجر وقال بعضهم بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل وقال آخرون بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد وإعانة أعدائه فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه وقوله وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ إما
بالفعل وإما بالعزم عليه وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه وثالثها قوله وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ يعني بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه
والقول الثاني أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد وهذا قول الأكثرين وإنما قال بدؤكم تنبيهاً على أن البادىء أظلم ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها فقال مَرَّة ٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه الأول أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية والثاني أنك إذا قلت للرجل أتخشى خصمك كان ذلك تحريكاً منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه والثالث أن قوله فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ يفيد ذلك كأنه قيل إن كنت تخشى أحداً فالله أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة والضرر المتوقع منهم غايته القتل أما المتوقع من الله فالعقاب الشديد في القيامة والذم اللازم في الدنيا والرابع أن قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ معناه أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد
بقي في الآية أبحاث
البحث الأول حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا إذا قلت لا تفعل كذا فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل وليس إنما تستعمل لنفي الحال فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال
البحث الثاني نقل عن ابن عباس أنه قال قوله تعالى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ترغيب في فتح مكة وقوله قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ أي عهدهم يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام فأمر الله رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يستجير بها فأبت وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا فخاطب أبا بكر فأبى ثم خاطب عمر فتشدد ثم خاطب علياً فلم يجبه فاستجار بالعباس وكان مصافياً له فأجاره وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئاً فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً وحصل الفتح عند ذلك فهذا ما قاله ابن عباس وقال الحسن لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار
البحث الثالث قال أبو بكر الأصم دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات قال القاضي إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ولا مقصراً فيه فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا
وهناك كره للقتال لم يصح أيضاً لأنه يجوز أن يحث الله تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع
البحث الرابع دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحداً سواه
بداية الجزء السادس عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت فأولها قوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة
البحث الثاني أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً فيدخل فيه كل ما ذكرناه
فإن قالوا أليس أنه تعالى قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) فكيف قال ههنا يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
قلنا المراد من قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ عذاب الاستئصال والمراد من قوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عذاب القتل والحرب والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب
البحث الثالث احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد وهو صريح قولنا ومذهبنا أجاب الجبائي عنه فقال لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم لأنه تعالى خالق لذلك فلما لم يجز
ذلك عند المجبرة علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير وأجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات ويا مكون الخنافس والديدان فكذا ههنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ثم لا يجوز أن يقال يا مسهل الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها فكذا هنا أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر والدليل القاهر من جانبنا ههنا فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وثانيها قوله تعالى وَيُخْزِهِمْ معناه ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين قال الواحدي قوله وَيُخْزِهِمْ أي بعد قتلكم إياهم وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا وثالثها قوله تعالى وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين
فإن قالوا لما كان حصول ذلك الخزي مستلزماً لحصول هذا النصر كان إفراده بالذكر عبثاً فنقول ليس الأمل كذلك لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر ورابعها قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم فشفى الله صدورهم من بني بكر ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به ويصير ذلك سبباً لقوة النفس وثبات العزيمة وخامسها قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
ولقائل أن يقول قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ معناه أنه يشفي من ألم الغيظ وهذا هو عين إذهاب الغيظ فكان قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ تكرار
والجواب أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار كما قيل الانتظار الموت الأحمر فشفى صدورهم من زحمة الانتظار وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وبين قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة فرغبهم في هذه المعاني لكنها لائقة بطباعهم بقي ههنا مباحث
البحث الأول أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ولهذا المعنى جاز أن يقال الآية واردة فيه
البحث الثاني الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخباراً عن الغيب والأخبار عن الغيب معجز
البحث الثالث هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيماناً حقيقياً لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ومن الحمية لأجل الدين ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين
واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة فإنه تعالى قال في صفتهم أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقال أيضاً أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 290 )
ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء قال الفراء والزجاج هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله قَاتِلُوهُمْ لأن قوله وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار قالوا ونظيره فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ( الشورى 24 ) وتم الكلام ههنا ثم استأنف فقال وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( الشورى 24 ) ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية الثاني أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب الثالث أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه الرابع قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خير عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة وإنما قال عَلَى مَن يَشَاء لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته حَكِيمٌ مصيب في أحكامه وأفعاله
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَة ً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء قوله أَمْ من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها
المسألة الثانية قال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل قال الواحدي يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع
المسألة الثالثة المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين الأول أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم وذكر العلم والمراد منه المعلوم والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده
واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه والثاني قوله وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَة ً والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصاً بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياداً لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلاً
ثم قال وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 الأحقاف 130 ) قال ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواة َ وَءاتَى الزَّكَواة َ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة فأولها ما ذكره في هذه الآية وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ له علي وقال ألكم محاسن فقال نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى رداً على العباس مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله
المسألة الثانية عمارة المساجد قسمان إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه وإما بالعمارة المعروفة في البناء فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظماً والكافر يهينه ولا يعظمه وأيضاً الكافر نجس في الحكم لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( البقرة 125 ) وأيضاً الكافر لا يحترز من النجاسات فدخوله في المسجد تلويث للمسجد وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الأنعام على المسلمين ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ على الواحد والباقون مَسَاجِدَ اللَّهِ على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو وقوله عمارة المسجد الحرام وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه الأول أن يراد المسجد الحرام وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد والثاني أن يقال مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله معناه ما كان للمشركين أن يعمروا شيئاً من مساجد الله وإذا كان الأمر كذلك فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها الثالث قال الفراء العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم وأما وضع الجمع مكان الواحد ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد الرابع أن المسجد موضع السجود فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد
المسألة الرابعة قال الواحدي ذلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذن لم يعزر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم منها وقد أنزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ثقيف
في المسجد وهم كفار وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر
أما قوله تعالى شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ قال الزجاج قوله شَاهِدِينَ حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها الأول وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وكل ذلك كفر فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني قال السدي شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني إذا قيل له من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول أنا عابد الوثن وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول الثالث أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك الرابع أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك الخامس أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك السادس نقل عن ابن عباس أنه قال المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر قال وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ قال القاضي هذا الوجه عدول عن الحقيقة وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز وأقول لو قرأ أحد من السلف شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ من قولك زيد نفيس وعمرو أنفس منه لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر
ثم قال أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ والمراد منه ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر مثل إكرام الوالدين وبناء الرباطات وإطعام الجائع وإكرام الضيف فكل ذلك باطل لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مراراً فلا نعيده
ثم قال وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار من وجهين الأول أن قوله وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يفيد الحصر أي هم فيها خالدون لا غيرهم ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر الثاني أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الله لما صح تهديد الكافر به ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربعة
الصفة الأولى قوله إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه فما لم يكن مؤمناً بالله امتنع أن يبني موضعاً يعبد الله فيه وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد الله ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى
فإن قيل لم لم يذكر الإيمان برسول الله
قلنا فيه وجوه الأول أن المشركين كانوا يقولون إن محمداً إنما ادعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر الثاني أنه لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافياً الثالث أنه ذكر الصلاة والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ذكر الصلاة دليلاً على النبوة من هذا الوجه
الصفة الثانية قوله لَّيْسَ الْبِرَّ والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات فالإنسان ما لم يكن مقراً بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد
الصفة الثالثة قوله لَّيْسَ الْبِرَّ
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيماً للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به وإذا كان مؤتياً للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضاً لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤدياً للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد
والصفة الرابعة قوله وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه وجوه الأول أن أبا بكر رضي الله عنه بني في أول الإسلام على باب داره مسجداً وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى الثاني يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلاناً يبني مسجداً ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ولمجرد تقوية دين الله
فإن قيل كيف قال وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين
قلنا المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره
اعلم أنه تعالى قال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ أي من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة وكلما إِنَّمَا تفيد الحصر وفيه تنبيه على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث وإصلاح مهمات الدنيا وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) وفي الحديث ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) قال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى ( إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( من ألف المسجد ألفه الله تعالى ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة
وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه ) وهذه الأحاديث نقلها صاحب ( الكشاف )
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ وفيه وجوه الأول قال المفسرون عَسَى من الله واجب لكونه متعالياً عن الشك والتردد الثاني قال أبو مسلم عَسَى ههنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء لقوله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول والثالث وهو أحسن الوجوه ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجِّ وَعِمَارَة َ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون أقوالاً في نزول الآية قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن علياً لما أغلظ الكلام للعباس قال العباس إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية وقيل إن المشركين قالوا لليهود نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام فنحن أفضل أم محمد وأصحابه فقالت اليهود لهم أنتم أفضل وقيل إن علياً عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام فلما نزلت هذه الآية قال ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال عليه الصلاة والسلام ( أقيموا على سقياتكم فإن لكم فيها خيراً ) وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أردت بت فيه قال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها قال علي أنا صاحب الجهاد فأنزل الله تعالى هذه الآية قال المصنف رضي الله عنه حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عَندَ اللَّهِ وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه وإما الذين قالوا
إنها جرت بين المسلمين والكافرين فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وبين من آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي وتقرير الكلام أن نقول إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ أن العباس احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام وسقي الحاج فأجاب الله عنه بوجهين
الوجه الأول ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة
والوجه الثاني من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية وهو أن يقال هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج يوجب نوعاً من أنواع الفضيلة إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله والجهاد قليل جداً فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جداً بالشيء الحقير التافه جداً وأنه باطل فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية
واعلم أن السقاية والعمارة فعل قوله مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ إشارة إلى الفاعل فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه محال فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والثاني أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله ونظيره قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 177 ) إلى قوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ
المسألة الثالثة قال الحسن رحمه الله تعالى كانت السقاية بنبيذ الزبيب وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً فكسر منه بالماء ثلاثاً وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال لاَّ يَسْتَوُونَ ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو نبه على الراجح بقوله وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه وأيضاً ظلموا المسجد الحرام فإنه تعالى خلقه ليكون موضعاً لعبادة الله تعالى فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان فكان هذا ظلماً
الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية فقال إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة وتلك الصفات الأربعة هي هذه فأولها الإيمان وثانيها الهجرة وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال ورابعها الجهاد بالنفس وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة الروح والبدن والمال أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الأقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( التوبة 20 )
واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم ولما ترك ذكر المرجوح دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للأنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات
واعلم أن قوله عَندَ اللَّهِ يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية ولذلك قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
فإن قيل لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين فكيف قال في وصفهم أولئك أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ونظيره قوله قُلِ اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( النمل 59 ) وقوله أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ ( الصافات 62 ) الثاني أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه
الصفات تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى الثالث أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر
واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ وهي درجة العندية وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد وهو المراد من قوله عِندَ رَبّهِمْ وهنا يحق الوقوف في الوصول
ثم قال تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين
أما الأول فنقول فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله وقوله وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله فِيهَا نَعِيمٌ إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله مُّقِيمٌ عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات أولها مُّقِيمٌ وثانيها قوله خَالِدِينَ فِيهَا وثالثها قوله أَبَدًا فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم وذلك هو حد الثواب وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة ومن المتكلمين من قال قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ المراد منه خيرات الدنيا وقوله وَرِضْوَانٍ لَهُمْ المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله وَجَنَّاتٍ المراد منه المنافع وقوله لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ المراد منه كون تلك النعم
خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم
واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين أحدهما أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة والثاني أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفاً في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الأكرام فكذلك ههنا قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضاً درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد وذلك لأن العبد ما دام مشغولاً بالحق من حيث أنه راحم فهو غير مستغرق في الحق بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة والنقمة والنعمة والبلاء والآلاء والمحققون وقفوا عند قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشراً بالرحمة والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وههذ المرتبة هي النازلة عند المحققين واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة أولها أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان والثاني أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين وجب أن تكون البشرة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها والثالث أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة والرابع أنه تعالى قال رَّبُّهُمْ فأضاف نفسه إليهم وما أضافهم إلى نفسه والخامس أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم والسادس أن البشارة هي الأخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ألا ترى أن الفقهاء قالوا لو أن رجلاً قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق والذين يخبرون بعده لا يعتقون وإذا كان الأمر كذلك فقوله يُبَشّرُهُمْ لا بد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها البتة رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه
واعلم أنه تعالى لما قال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور أولها قوله بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وثانيها قوله وَرِضْوَانٍ وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) والرحمة كون العبد راضياً بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير
فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الصحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ويجعله راضياً بقضائه ثم إنه تعالى يصير راضياً وهو قوله وَرِضْوَانٍ وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية وهي قوله وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وقد سبق شرح هذه المراتب ولما ذكر هذه الأحوال قال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث ولا يدل على التأبيد واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية وهي قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان الخلود يفيد التأبيد لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جواباً عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافراً والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلماً وحصول المقاصعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها كالشاق الممتنع المتعذر فذكر الله تعالى هذه الآية ليزل هذه الشبهة ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفاراً قال المصنف رضي الله عنه هذا مشكل لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه والأقرب عندي أن يكون محمولاً على ما ذكرته وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد
والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ والاستحباب طلب المحبة يقال استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم وكان لفظ النهي يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم ذكر ما يزيل الشبهة فقال وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم والرضا بالكفر كفر كما أن الرضا بالفسق فسق قال القاضي هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله
قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَة ٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا وهلاك أموالنا وخراب ديارنا وإبقاءنا ضائعين فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره أي بعقوبة عاجلة أو آجلة والمقصود منه الوعيد
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضاً تهديد وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا قال الواحدي قوله وَعَشِيرَتُكُمْ عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه وقرأ أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم بالجمع والباقون على الواحد أما من قرأ بالجمع فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة فإذا جمعت قلت عشيراتكم ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها ويقوي ذلك أن الأخفش قال لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر وقوله وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا الاقتراف الاكتساب
واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وهى أمور أربعة أولها مخالطة الأقارب وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل وهي لفظ العشيرة وثانيها الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة وثالثها الرغبة في تحصيل
الأموال بالتجارة ورابعها الرغبة في المساكن ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَة ٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والأخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن رعاية لمصالح الدين ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جداً على النفوس والقلوب ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضاً وضرب تعالى لهذا مثلاً وذلك أن عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين وتصبيراً لهم عليها ووعداً لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن
المسألة الثانية قال الواحدي النصر المعونة على العدو خاصة والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر فعلى هذا مواطن الحرب مقاماتها مواقفها وامتناعها من الصرف لأنه جمع
على صيغة لم يأت عليها واحد والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله ويقال إنها ثمانون موطناً فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين ومن نصره الله فلا غالب له
ثم قال وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم
المسألة الثالثة لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف واختلفوا في عدد عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفاً وقال قتادة كانوا اثني عشر ألفاً عشرة آلاف الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء وقال الكلبي كانوا عشرة آلاف وبالجملة فكانوا عدداً كثيرين وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف فلما التلقوا قال رجل من المسلمين لن نغلب اليوم من قلة فهذه الكلمة ساءت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي المراد من قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وقيل إنه قالها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل قالها أبو بكر وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعيد لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها
ثم قال تعالى فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً أي لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم وإنما يغلبون بنصر الله فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين وقوله وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ يقال رحب يرحب رحباً ورحابة فقوله بِمَا رَحُبَتْ أي برحبها ومعناه مع رحبها ( فما ) ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لفراركم عن عدوكم قال البراء بن عازب كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث قال البراء والذي إله إلا هو ما ولَّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دبره قط قال ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلاً صيتاً فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده كفاً من الحصى فرماهم بها وقال ( شاهت الوجوه ) فما زال أمرهم مدبراً وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فذلك قوله ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أموراً ثلاثة أحدها إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس ويوجب الأمنة والطمأنينة وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك وإذا أمن سكن وثبت فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن
واعلم أن قوله تعالى ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى
أما بيان الأول فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم فلا جرم لم يحصل السكون والثبات بل فر القوم وانهزموا ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية
وأما بيان الثاني وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح
قوله تعالى ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ والعقل أيضاً دل عليه وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل وهو محال
ثم قال تعالى وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر وقال سعيد بن جبير أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة ولعله إنما ذكر هذا العدد قياساً على يوم بدر وقال سعيد بن المسيب حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا وأيضاً اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين
ثم قال تعالى وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك اليوم والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلاً بيناً ثابتاً وفي هذه المسألة قالت المعتزلة إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره وقد سبق جوابه غير مرة
ثم قال وَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء والجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه فنقول في الجواب عنه الجزاء ليس اسماً للكافي وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية
ثم قال الله تعالى ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَاء يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن الله تعالى قد يتوب عليهم قال أصحابنا إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام قال القاضي معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى إذا أسلموا وتابوا فإن الله تعالى يقبل توبتهم وهذا ضعيف لأن قوله تعالى ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت
لهم من قبل الله تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله فَتَابَ عَلَيْهِ ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي غفور لمن تاب رحيم لمن آمن وعمل صالحاً والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برىء من المشركين ورسوله قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة وأجاب الله تعالى عنها بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً ( التوبة 28 ) أي فقراً وحاجة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فهذا وجه النظم وهو حسن موافق
المسألة الثانية قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان وقال قوم بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة والذي يفيد ههنا التمسك بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) ومعلوم أنه باطل
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً ومعناه ذو نجس وقال الليث النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء ورجل نجس وقوم أنجاس ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب ( الكشاف ) عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم
واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شرب من أوانيهم وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه بأن القرآن أقوى من خبر الواحد وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين الأول أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى الثاني أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان فلو
قلنا إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان أما إذا قلنا إنه كان حلالاً بحكم الأصل والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة فوجب أن يكون هذا أولى أما قول القاضي لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر فهذا تقرير هذا القول وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه الأول قال ابن عباس وقتادة معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث الثاني المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه الثالث أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء
واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة وروى الحسن بن زياد أنه نجس نجاسة غليظة وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر
واعلم أن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يدل على فساد هذا القول لأن كلمة ( إنما ) للحصر وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة وهذا من العجائب ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن والأخبار في هذا الباب لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ولو كانت يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام قال الله تعالى في صفة أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار وقال في صفة مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة
وإذا ثبت هذا فنقول جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى فما الذي حملنا على مخالفته والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة
وعند مالك يمنعون من كل المساجد وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله وبمفهومها تبطل قول مالك أو نقول الأصل عدم المنع وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل
المسألة السادسة اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم والأقرب هو هذا الثاني والدليل عليه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم وهذا استدلال حسن من الآية ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( الإسراء 1 ) مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )
واعلم أن أصحابنا قالوا الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن
المسألة السابعة لا شبهة في أن المراد بقوله بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين وهي السنة التاسعة من الهجرة
ثم قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً والعيلة الفقر يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر والمعنى إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً الأول قال مقاتل أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار والثاني قال الحسن جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك وقيل أغناهم بالفيء الثالث قال عكرمة أنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم
المسألة الثانية قوله فُسُوقٌ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة
ثم قال تعالى إِن شَاء ولسائل أن يسأل فيقول الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود وجوابه من وجوه الأول أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات الثاني أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ الثالث أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ ( البقرة 126 ) وكلمة ( من ) تفيد التبعيض فقوله تعالى في هذه الآية إِن شَاء المراد منه ذلك التبعيض
ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بأحوالكم وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب والله أعلم
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم وفي وجوب مقاتلتهم وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وأورد الإشكالات التي ذكروها وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا أو إلى أن يعطوا الجزية
فالصفة الأولى أنهم لا يؤمنون بالله واعلم أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه فأما الموجود الذي لا يكون جسماً ولا حالاً فيه فهو منكر له وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالاً في جسم فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله
فإن قيل فاليهود قسمان منهم مشبهة ومنهم موحدة كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله فما قولكم في موحدة اليهود
قلنا أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق وأما النصارى فهم يقولون بالأب والابن وروح القدس والحلول والاتحاد وكل ذلك ينافي الإلهية
فإن قيل حاصل الكلام أن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكراً لوجود الله تعالى وحينئذ يلزم أن تقولوا إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً شديداً في هذا الباب فالأشعري أثبت البقاء صفة والقاضي أنكره وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة والباقون أنكروه والقاضي أثبت إدراك الطعوم وإدراك الروائح وإدراك الحرارة والبرودة وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس والأستاذ أبو إسحق أنكره وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالاً سبعة معللة بتلك الصفات ونفاة الأحوال أنكروه وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار ذلك في الإنزال والباقون أنكروه وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات في الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء
والمشهور أن كلام الله تعالى واحد واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد
إذا ثبت هذا فنقول إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجباً إنكار الذات أو لا يوجب ذلك فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال إنهم أنكروا الإله وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله وأيضاً فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى وحشوية المسلمين يقولون إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارىء وفي لسان جميع القراء وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن وفي كل جسم كتب فيه القرآن فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله فهذا تقرير هذا السؤال
والجواب أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة بل في الذات فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة فظهر الفرق وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية فنحن نكفرهم قطعاً فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة اللَّهِ في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة اللَّهِ في ألسنة جميع من قرأ القرآن وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجباً للقول بالتكفير كان أولى
والصفة الثانية من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر
واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني
واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة بحيث يأكلون ويشربون وبالجواري يتمتعون ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني فقد أنكر صريح القرآن ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر
الصفة الثالثة من صفاتهم قوله تعالى وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفيه وجهان الأول أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول والثاني قال أبو روق لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم
الصفة الرابعة قوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه ديناً فهو معتقده فقوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية
ثم قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه واختلفوا في قوله عَن يَدٍ قال صاحب ( الكشاف ) قوله عَن يَدٍ إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان أحدهما أن يكون المراد عَن يَدٍ مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ولذلك يقال أعطى يده إذا انقاد وأطاع ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة كما يقال خلع ربقة الطاعة من عنقه وثانيهما أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد بل على يد المعطي إلى يد الآخذ وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضاً وجهان الأول أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول اليد في هذا لفلان وثانيهما أن يكون المراد عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة
وأما قوله وَهُمْ صَاغِرُونَ فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بلحيته فيقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه فهذا معنى الصغار وقيل معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه
الحكم الأول
استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله قَاتِلُوهُمْ يقتضي إيجاب مقاتلتهم وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه فقد ارتفع ذلك المجموع ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع
إذا ثبت هذا فنقول قوله قَاتَلُواْ طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان
الحكم الثاني
الكفار فريقان فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله وفريق هم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا والمجوس أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله عليه السلام ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) وروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الجزية من مجوس هجر فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة وهي قوله تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز
الحكم الثالث
في قدر الجزية قال أنس قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على كل محتلم ديناراً وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً وعلى الأوساط أربعة وعشرين وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين قال أصحابنا وأقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير والدليل على ما ذكرنا أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ يدل على أخذ شيء فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة فوجب أن يبقى عليها
الحكم الرابع
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها
الحكم الخامس
تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام ( ليس على المسلم جزية ) وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط
الحكم السادس
قال أصحابنا هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضاً مكناهم من أيديهم فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته فأمهلوا لهذا المعنى والله أعلم وبقي ههنا سؤالان
السؤال الأول كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى قوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ( مريم 90 92 )
فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد ثم إنه لما أخذ منهم ديناراً واحداً قررهم عليه وما منعهم منه
والجواب ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله فينتقل من الكفر إلى الإيمان
السؤال الثاني هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا
والجواب أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته ويشاهد الذل والصغار في الكفر فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام فهذا هو المقصود من شرع الجزية
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله وأيضاً بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جداً فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين
المسألة الثانية في قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ أقوال الأول قال عبيد بن عمير إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء الثاني قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى ومالك بن
الصيف وقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزيراً ابن الله فنزلت هذه الآية وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد يقال فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحداً منها وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحداً
والقول الثالث لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع فحكى الله ذلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن حكاية الله عنهم أصدق والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله وقال الكلبي قتل بختنصر علماءهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة وقال السدي العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة فهذا ما قيل في هذا الباب وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون المسيح ابن الله فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة فإن هذا أفحش أنواع الكفر فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال أن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعاً من أصحاب عيسى ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله وعلم رجلاً آخر يقال له يعقوب ذلك ثم دعا رجلاً يقال له ملكاً فقال له إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أذبح نفس لمرضاة عيسى ثم دخل المذبح فذبح نفسه ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى والأقرب عندي أن يقال لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة الحال
المسألة الثالثة قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو عُزَيْرٌ بالتنوين والباقون بغير
التنوين قال الزجاج الوجه إثبات التنوين فقوله عُزَيْرٌ مبتدأ وقوله ابْنُ اللَّهِ خبره وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة لأن عزيراً ينصرف سواء كان أعجمياً أو عربياً وسبب كونه منصرفاً أمران أحدهما أنه اسم خفيف فينصرف وإن كان أعجمياً كهود ولوط والثاني أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أنه أعجمي ومعرفة فوجب أن لا ينصرف
الوجه الثاني أن قوله ابْنُ صفة والخبر محذوف والتقدير عزير ابن الله معبودنا وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب ( دلائل الإعجاز ) وقال الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلماً فلما كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم وحصل كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر وهذا الطعن عندي ضعيف أما قوله إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم وأما قوله ويكون ذلك تسليماً لذلك الوصف فهذا ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذباً لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام
الوجه الثالث قال الفراء نون التنوين ساكنة من عزير والباء في قوله ابْنُ اللَّهِ ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين فحذف نون التنوين للتخفيف وأنشد الفراء فألفيته غير مستعتب
ولا ذاكر الله إلا قليلاً
واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ
ولقائل أن يقول إن كل قول إنما يقال بالفم فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة
والجواب من وجوه الأول أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه والحاصل أنهم قالوا باللسان قولاً ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ليس عند العقل منه أثر ونظيره قوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) والثاني أن الإنسان قد يختار مذهباً إما على سبيل الكناية وإما على سبيل الرمز والتعريض فإذا صرح به وذكره بلسانه فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب والنهاية في كونه ذاهباً إليه قائلاً به والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة والثالث أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواة والألسنة والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب
ثم قال تعالى يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية وجوه الأول أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات الله الثاني أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم الثالث أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم يعني
أنه كفر قديم فهو غير مستحدث
المسألة الثانية المضاهاة المشابهة قال الفراء يقال ضاهيته ضهياً ومضاهاة هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة وقال شمر المضاهاة المتابعة يقال فلان يضاهي فلاناً أي يتابعه
المسألة الثالثة قرأ عاصم يضاهؤن بالهمزة وبكسر الهاء والباقون بغير همزة وضم الهاء يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصماً أحد على الهمزة
ثم قال تعالى قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعاً قاتلهم الله ما أعجب فعلهما أنى يؤفكون الأفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير أي قلب وصرف ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير فقوله تعالى أَنَّى يُؤْفَكُونَ معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق والله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة الأحبار الفقهاء واختلفوا في واحده فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر وقال الأصمعي لا أدري أهو الحبر أو الحبر وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير وينكر الكسر وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن يكون من أهل الكتاب وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني ويحسن البيان عنها والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه وفي عرف الاستعمال صار الأحبار مختصاً بعلماء اليهود من ولد هرون والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع
المسألة الثانية الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال فقلت لسنا نعبدهم فقال ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ) فقلت بلى قال ( فتلك عبادتهم ) وقال الربيع قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار
والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا
فإن قيل إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج
والجواب أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه ويستخف به أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم فظهر الفرق
والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له وكان يقول لهم أنتم عبيدي فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الإلهية فإذا كان مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر فكفروا بالله فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة
ثم قال تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً ومعناه ظاهر وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك
ثم قال لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً ومعبوداً وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى وهو سعيهم في إبطال أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه والمراد من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته وهي أمور كثيرة جداً أحدها المعجزات القاهرة التي ظهرت على
يده فإن المعجز إما أن يكون دليلاً على الصدق أو لا يكون فإن كان دليلاً على الصدق فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق فوجب كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وثانيها القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب وذلك من أعظم المعجزات وثالثها أن حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا والترغيب في سعادات الآخرة والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه ورابعها أن شرعه كان خالياً عن جميع العيوب فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله وليس فيه دعوة إلى غير الله وقد ملك البلاد العظيمة وما غير طريقته في استحقار الدنيا وعدم الالتفات إليها ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة وأنواع كيدهم ومكرهم أرادوا إبطال هذه الدلائل فكان هذا جارياً مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع فكذا ههنا فهذا هو المراد من قوله يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ثم إنه تعالى وعد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
فإن قيل كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً
قلنا أجرى أَبَى مجرى لم يرد والتقدير ما أراد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع والدليل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإن أرادوا ظلمنا أبينا ) فامتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يصح من القوي والضعيف ويقال فلان أبى الضيم والمعنى ما ذكرناه وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره بين كيفية ذلك الإتمام فقال هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ
واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور أولها كثرة الدلائل والمعجزات وهو المراد من قوله أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وثانيها كون دينه مشتملاً على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة وهو المراد من قوله وَدِينِ الْحَقّ وثالثها صيرورة دينه مستعلياً على سائر الأديان غالباً عليها غالباً لأضدادها قاهراً
لمنكريها وهو المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ
واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة وقد يكون بالكثرة والوفور وقد يكون بالغلبة والاستيلاء ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم فالواجب حمله على الظهور بالغلبة
فإن قيل ظاهر قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ يقتضي كونه غالباً لكل الأديان وليس الأمر كذلك فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين والروم وسائر أراضي الكفرة
قلنا أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول أنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد وقع وحصل وكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
الوجه الثاني في الجواب أن نقول روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى وقال السدي ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الخراج
الوجه الثالث المراد ليظهر الإسلام على الدين كله في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار
الوجه الرابع أن المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء
الوجه الخامس أن المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ بالحجة والبيان إلا أن هذا ضعيف لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله والتقوية بالحجة والبيان كانت حاصلة من أول الأمر ويمكن أن يجاب عنه بأن في مبدأ الأمر كثرت الشبهات بسبب ضعف المؤمنين واستيلاء الكفار ومنع الكفار سائر الناس من التأمل في تلك الدلائل أما بعد قوة دولة الإسلام عجزت الكفار فضعفت الشبهات فقوي ظهور دلائل الإسلام فكان المراد من تلك البشارة هذه الزيادة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاٌّ حْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تنبيهاً على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر أخذ أموال الناس بالباطل ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد عرفت أن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى بحسب العرف فالله تعالى حكى عن كثير منهم أنهم ليأكلون أموال الناس بالباطل وفيه أبحاث
البحث الأول أنه تعالى قيد ذلك بقوله كَثِيراً ليدل بذلك على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكل فإن العالم لا يخلو عن الحق وإطباق الكل على الباطل كالممتنع هذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك سائر الأمم
البحث الثاني أنه تعالى عبر عن أخذ الأموال بالأكل وهو قوله لَيَأْكُلُونَ والسبب في هذه الاستعارة أن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده أو يقال من أكل شيئاً فقد ضمنه إلى نفسه ومنعه من الوصول إلى غيره ومن جمع المال فقد ضم تلك الأموال إلى نفسه ومنعها من الوصول إلى غيره فلما حصلت المشابهة بين الأكل وبين الأخذ من هذا الوجه سمى الأخذ بالأكل أو يقال إن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا أقدر على ردها فلهذا السبب سمى الأخذ بالأكل
البحث الثالث أنه قال لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه الأول أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع والثاني أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب الثالث التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأولئك الأحبار والرهبان كانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ويحملونها على محامل باطلة وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب ويأخذون الرشوة والرابع أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجب ثم قالوا ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواماً عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق
ثم قال وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع
قال المصنف رضي الله عنه غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين فالمال هو المراد بقوله لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وأما الجاه فهو المراد بقوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فإنهم لو أقروا بأن محمداً على الحق لزمهم متابعته وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح
ثم قال وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَالَّذِينَ احتمالات ثلاثة لأنه يحتمل أن يكون المراد بقوله الَّذِينَ أولئك الأحبار والرهبان ويحتمل أن يكون المراد كلاماً مبتدأ على ما قال بعضهم المراد منه مانعو الزكاة من المسلمين ويحتمل أن يكون المراد منه كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين فلا شك أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة وروي عن زيد بن وهب قال مررت بأبي ذر فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد فقال كنت بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ فقال معاوية هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فقلت إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبينه فكتب إلى عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنح قريباً إني والله لن أدع ما كنت أقول وعن الأحنف قال لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول بشر الكافرين برضف يحمى عليه في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى تخرج من نغض كتفه حتى يرفض بدنه وتوضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال ما عسى أن يصنع في قريش
قال مولانا رضي الله عنه إن كان المراد تخصيص هذا الوعيد بمن سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع عن إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وإن كان المراد مانعي الزكاة من المؤمنين كان التقدير أنه تعالى وصف قبح طريقتهم في الحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ندب المسلمين إلى إخراج الحقوق الواجبة من أموالهم وبين ما في تركه من الوعيد الشديد وإن كان المراد الكل كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله تنبيهاً على أنه لما
كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والتزوير والمكر
المسألة الثانية أصل الكنز في كلام العرب هو الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم فقال الأكثرون هو المال الذي لم تؤد زكاته وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أديت زكاته فليس بكنز وقال ابن عمر كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض وقال جابر إذا أخرجت الصدقة من تلك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز وقال ابن عباس في قوله وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم قال القاضي تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلاً في الوعيد
والقول الثاني أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور الأول عموم قوله تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه وكذا قوله تعالى وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد 36 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) وقوله عليه السلام ( كل امرىء أحق بكسبه ) وقوله عليه السلام ( ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز ) وإن كان ظاهراً الثاني أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين الثالث أنه عليه السلام ندب إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه الأول عموم هذه الآية ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل والثاني ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً فقالوا له أي مال نتخذ قال لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه وقال عليه السلام ( من برك صفراء أو بيضاء كوى بها وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار فقال عليه السلام ( كية ) وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام ( كيتان ) والثالث ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد وعن أبي هريرة كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن العسير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ويقول جاءت القطار تحمل النار وبشر الكنازين بكى في الجباه والجنوب والظهور والبطون والرابع أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته
ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعاً من ظهور حكمته ومانعاً من وصول إحسان الله إلى عبيده
واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه
الوجه الأول أن الإنسان إذا أحب شيئاً فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر كان حبه له أشد وميله أقوى فالإنسان إذا كان فقيراً فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة فصار ميله أشد فكلما صارت أمواله أزيد كان التذاذه به أكثر وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس وأيضاً قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص لقد كان الأنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشىء من الحرص أكبر وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال رأى الأمر يفضي إلى آخر
فيصير آخره أولاً
والوجه الثاني أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في تعب الحفظ ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات وذلك هو الخسران المبين
والوجه الثالث أن كثرة المال والجاه ثورت الطغيان كما قال تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقعه في الخسران والخذلان
الوجه الرابع أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه
فإن قيل لم قال عليه السلام ( اليد العليا خير من اليد السفلى )
قلنا اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية لأنه أعطى ذلك القليل فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليل حصلت المرجوحية
المسألة الثالثة جاءت الأخبار الكثيرة في وعيد مانعي الزكاة أما منع زكاة النقود فقوله في هذه الآية يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ وأما منع زكاة المواشي فما روي في الحديث أنه تعالى يعذب أصحاب المواشي إذا لم يؤدوا زكاتها بأن يسوق إليه تلك المواشي كأعظم ما تكون في أجسامها فتمر على أربابها
فتطؤهم بأظلافها وتنطحهم بقرونها كلما نفدت أخراها عادت إليهم أولاها فلا يزال كذلك حتى يفرغ الناس من الحساب
المسألة الرابعة الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي والدليل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
فإن قيل هذا الوعيد إنما يتناول الرجال لا النساء
قلنا نتكلم في الرجل الذي اتخذ الحلي لنسائه وأيضاً ترتيب هذا الوعيد على جمع الذهب والفضة حكم مرتب على وصف يناسبه وهو أن جمع ذلك المال يمنعه من صرفه إلى المحتاجين مع أنه لا حاجة إليه إذ لو احتاج إلى إنفاقه لما قدر على جمعه وإقدام غير المحتاج على منع المال من المحتاج يناسب أن يمنع منه فثبت أن هذا الوعيد مرتب على وصف يناسبه والحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يجب كونه معللاً به فثبت أن هذا الوعيد لذلك الجمع فأينما حصل ذلك الوصف وجب أن يحصل معه ذلك الوعيد وأيضاً أن العمومات الواردة في إيجاب الزكاة موجودة في الحلي المباح قال عليه السلام ( هاتوا ربع عشر أموالكم ) وقال ( في الرقة ربع العشر ) وقال ( يا علي عليك زكاة فإذا ملكت عشرين مثقالاً فأخرج نصف مثقال ) وقال ( ليس في المال حق سوى الزكاة وقال لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح ثم نقول ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب وهو ظاهر لأنه ليس في القرآن ما يدل على أنه زكاة في الحلي المباح ولم يوجد في الأخبار أيضاً معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبراً وهو قوله عليه السلام ( لا زكاة في الحلي المباح ) إلا أن أبا عيسى الترمذي قال لم يصح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحلي خبر صحيح وأيضاً بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلىء لأنه قال لا زكاة في الحلي ولفظ الحلي مفرد محلى بالألف واللام وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق وجب انصرافه إليه والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلىء قال تعالى وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا ( النحل 14 ) وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلىء فسقطت دلالته وأيضاً الاحتياط في القول بوجوب الزكاة وأيضاً لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس لأن النص خير من القياس فثبت أن الحق ما ذكرناه
المسألة الخامسة أنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة
ثم قال وَلاَ يُنفِقُونَهَا وفيه وجهان الأول أن الضمير عائد إلى المعنى من وجوه أحدها أن كل واحد منهما جملة وآنية دنانير ودراهم فهو كقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وثانيها أن يكون التقدير ولا ينفقون الكنوز وثالثها قال الزجاج التقدير ولا ينفقون تلك الأموال
الوجه الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى اللفظ وفيه وجوه أحدها أن يكون التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء وفي كونهما جوهرين شريفين وفي كونهما مقصودين بالكنز فلما كانا متشاركين في أكثر الصفات كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر وثانيها أن ذكر أحدهما قد يغني عن الآخر كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا
( الجمعة 11 ) جعل الضمير للتجارة وقال وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ( النساء 112 ) فجعل الضمير للإثم وثالثها أن يكون التقدير ولا ينفقونها والذهب كذلك كما أن معنى قوله وإني وقيار بها لغريب
أي وقيا كذلك
فإن قيل ما السبب في أن خصا بالذكر من بين سائر الأموال
قلنا لأنهما الأصل المعتبر في الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز
واعلم أنه تعالى لما ذكر الذين يكنزون الذهب والفضة قال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوسلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل هذا هو الفرج كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم
ثم قال تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كنزتم لأنفسكم وفي قراءة أبي وبطونهم وفيه سؤالات
السؤال الأول لا يقال أحميت على الحديد بل يقال أحميت الحديد فما الفائدة في قوله أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا
والجواب ليس المراد أن تلك الأموال تحمى على النار بل المراد أن النار تحمى على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد وهو مأخوذ من قوله نَارٌ حَامِيَة ٌ ولو قيل يوم تحمى لم يفد هذه الفائدة
فإن قالوا لما كان المراد يوم تحمى النار عليها فلم ذكر الفعل
فلنا لأن النار تأنيثها لفظي والفعل غير مسند في الظاهر إليه بل إلى قوله عَلَيْهَا فلا جرم حسن التذكير والتأنيث وعن ابن عامر أنه قرأ تحمى بالتاء
السؤال الثاني ما الناصب لقوله لايّ يَوْمٍ
الجواب التقدير فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها
السؤال الثالث لم خصت هذه الأعضاء
والجواب لوجوه أحدها أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور وثانيها أن هذه الأعضاء الثلاثة مجوفة قد حصل في داخلها آلات ضعيفة يعظم تألمها بسبب وصول أدنى أثر إليها بخلاف سائر الأعضاء وثالثها قال أبو بكر الوراق خصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير بجنبه تباعد
عنه وولى ظهره ورابعها أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع إما من مقدمه فعلى الجبهة وإما من خلفه فعلى الظهور وإما من يمينه ويساره فعلى الجنبين وخامسها أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء وسادسها أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته أما الجمال فمحله الوجه وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة فإذا وقع الكي في الجبهة فقد زال الجمال بالكلية وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن فالحاصل أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة
السؤال الرابع الذي يجعل كياً على بدن الإنسان هو كل ذلك المال أو القدر الواجب من الزكاة
والجواب مقتضى الآية الكل لأنه لما يخرج منه لم يكن الحق منه جزءاً معيناً بل لا جزء إلا والحق متعلق به فوجب أن يعذبه الله بكل الأجزاء
ثم إنه تعالى قال هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا والغرض منه تعظيم الوعيد لأنهم إذا عاينوا ما يعذبون به من درهم أو من دينار أو من صفيحة معمولة منهما أو من أحدهما جوزوا فيه أن يكون عن الحق الذي منعه وجوزوا خلاف ذلك فعظم الله تبكيتهم بأن يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم لم تأثروا به رضا ربكم ولا قصدتم بالإنفاق منه نفع أنفسكم والخلاص به من عقاب ربكم فصرتم كأنكم ادخرتموه ليجعل عقاباً لكم على ما تشاهدونه ثم يقول تعالى فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ومعناه لم تصرفوه لمنافع دينكم ودنياكم على ما أمركم الله به فَذُوقُواْ وبال ذلك به لا بغيره
إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّة ً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله وذلك لأنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأحكام بسبب النسىء فحينئذ كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمرية والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة
معلقة بسير القمر وأيضاً قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وعند سائر الطوائف عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة والسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار معلوم وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى وكان يشق الأمر عليهم بهذا السبب وأيضاً إذا حضروا الحج حضروا للتجارة فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف وكان يخل أسباب تجاراتهم بهذا السبب فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة على ما هو معلوم في علم الزيجات واعتبروا السنة الشمسية وعند ذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم فهذا النسىء وإن كان سبباً لحصول المصالح الدنيوية إلا أنه لزم منه تغير حكم الله تعالى لأنه تعالى لما خص الحج بأشهر معلومة على التعيين وكان بسبب ذلك النسىء يقع في سائر الشهور تغير حكم الله وتكليفه فالحاصل أنهم لرعاية مصالحهم في الدنيا سعوا في تغيير أحكام الله وإبطال تكليفه فلهذا المعنى استوجبوا الذم العظيم في هذه الآية
واعلم أن السنة الشمسية لما كانت زائدة على السنة القمرية جمعوا تلك الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهراً فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وقال إن حكم الله أن تكون السنة اثني عشر شهراً لا أقل ولا أزيد وتحكمهم على بعض السنين أنه صار ثلاثة عشر شهراً حكم واقع على خلاف حكم الله تعالى ويوجب تغيير تكاليف الله تعالى وكل ذلك على خلاف الدين
واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأما عند اليهود والنصارى فليس كذلك ثم إن بعض العرب تعلم صفة الكبيسة من اليهود والنصارى فأظهر ذلك في بلاد العرب
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بقوله عِدَّة َ لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو قوله اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً وأنه لا يجوز وأقول في إعراب هذه الآية وجوه الأول أن نقول قوله عِدَّة َ الشُّهُورِ مبتدأ وقوله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً خبر وقوله عَندَ اللَّهِ في كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ظروف أبدل البعض من البعض والتقدير إن عدة الشهور اثنا عشر شهراً عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض والفائدة في ذكر هذه الإبدالات المتوالية تقرير أن ذلك العدد واجب متقرر في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم الثاني أن يكون قوله تعالى فِى كِتَابِ اللَّهِ متعلقاً بمحذوف يكون صفة للخبر تقديره اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله ثم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب من الكتب لأنه متعلق بقوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ وأسماء الأعيان لا تتعلق بالظروف فلا تقول غلامك يوم الجمعة بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله أي في حكمه الواقع يوم خلق السموات والثالث أن يكون الكتاب اسماً وقوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ متعلق بفعل محذوف والتقدير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله كتبه يوم خلق السموات والأرض
المسألة الثالثة في تفسير أحكام الآية إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ أي في علمه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ وفي تفسير كتاب الله وجوه الأول قال ابن عباس إن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو الأصل للكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء عليهم السلام الثاني قال بعضهم المراد من الكتاب القرآن وقد ذكرنا آيات تدل على أن السنة المعتبرة في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هي السنة القمرية وإذا كان كذلك كان هذا الحكم مكتوباً في القرآن الثالث قال أبو مسلم فِى كِتَابِ اللَّهِ أي فيما أوجبه وحكم به والكتاب في هذا الموضع هو الحكم والإيجاب كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( البقرة 216 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) قال القاضي هذا الوجه بعيد لأنه تعالى جعل الكتاب في هذه الآية كالظرف وإذا حمل الكتاب على الحساب لم يستقم ذلك إلا على طريق المجاز ويمكن أن يجاب عنه بأنه وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز متعارف يقال إن الأمر كذا وكذا في حساب فلان وفي حكمه
وأما قوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقد ذكرنا في المسألة الثانية وجوهاً فيما يتعلق به والأقرب ما ذكرناه في الوجه الثالث وهو أن يكون المراد أنه كتب هذا الحكم وحكم به يوم خلق السموات والأرض والمقصود بيان أن هذا الحكم حكم محكوم به من أول خلق العالم وذلك يدل على المبالغة والتأكيد
وأما قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ومعنى الحرم أن المعصية فيها أشد عقاباً والطاعة فيها أكثر ثواباً والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له
فإن قيل أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز
قلنا إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة ثم نقول لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارة النفس ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خبث النفس وهذا غير مستبعد عند الحكماء ألا ترى أن فيهم من صنف كتباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك وسئل النبي عليه الصلاة والسلام أي الصيام أفضل فقال عليه الصلاة والسلام ( أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من صام يوماً من أشهر الله الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوماً ) وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الاْشهر وفيه فائدة أخرى وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام حتى أن
الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات وذلك يوجب أنواعاً من الفضائل والفوائد أحدها أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب لأنه يقل القبائح وثانيها أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سبباً لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقاً وثالثها أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلية فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام
ثم قال تعالى ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وفيه بحثان
البحث الأول أن قوله ذالِكَ إشارة إلى قوله إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ وعندي أن الأول أولى لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهراً وكانوا يغيرون مواقع الشهور والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء فوجب حمل اللفظ عليه
البحث الثاني في تفسير لفظ الدين وجوه الأول أن الدين قد يراد به الحساب يقال الكيس من دان نفسه أي حاسبها والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى الثاني قال الحسن ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه الثالث قال بعضهم المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام وقال القاضي حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب لأنه مجاز فيه ويمكن أن يقال الأصل في لفظ الدين الانقياد يقال يا من دانت له الرقاب أي انقادت فالحساب يسمى ديناً لأنه يوجب الانقياد والعدة تسمى ديناً فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب قال أهل العلم الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية
ثم قال تعالى فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول الضمير في قوله فِيهِنَّ فيه قولان الأول وهو قول ابن عباس أن المراد فلا تظلموا في الشهور الإثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر والثاني وهو قول الأكثرين أن الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى الأربعة الحرم قالوا والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات والدليل على أن هذا القول أولى وجوه الأول أن الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى المذكور السابق فوجب عوده إلى أقرب المذكورات وما ذاك إلا قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ الثاني أن الله تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ
فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف الثالث قال الفراء الأولى رجوعها إلى الأربعة لأن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فِيهِنَّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها والأصل فيه أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان بن ثابت لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال تلمع وتقطر هذا هو الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
فقال بهن والسيوف جمع كثرة
البحث الثاني في تفسير هذا الظلم أقوال الأول المراد منه النسىء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والثاني أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر والثالث أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب والأقرب عندي حمله على المنع من النسىء لأن الله تعالى ذكره عقيب الآية
ثم قال وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة ً وفيه مباحث
البحث الأول قال الفراء كَافَّة ً أي جميعاً والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول كافين أو كافات للنساء ولكنها كَافَّة ً بالهاء والتوحيد لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام لأنها في مذهب قولك قاموا معاً وقاموا جميعاً وقال الزجاج كافة منصوب على الحال ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع كما أنك إذا قلت قاتلوهم عامة لم تثن ولم تجمع وكذلك خاصة
البحث الثاني في قوله كَافَّة ً قولان الأول أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعهم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء والثاني قال ابن عباس قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر
البحث الثالث ظاهر قوله قَاتَلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً إباحة قتالهم في جميع الأشهر ومن الناس من يقول المقاتلة مع الكفار محرمة بدليل قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ( البقرة 217 )
ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات قال الزجاج تأويله أنه ضامن لهم النصر
إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُو ءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النَّسِىء قولان
القول الأول أنه التأخير قال أبو زيد نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ إذا أخرتها وأنسأته إنساء إذا أخرته عنه والاسم النسيئة والنسء ومنه أنسأ الله فلاناً أجله ونسأ في أجله قال أبو علي الفارسي النسىء مصدر كالنذير والنكير ويحتمل أيضاً أن يكون نسىء بمعنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول إلا أنه لا يمكن أن يكون المراد منه ههنا المفعول لأنه إن حمل على ذلك كان معناه إنما المؤخر زيادة في الكفر والمؤخر الشهر فيلزم كون الشهر كفراً وذلك باطل بل المراد من النسيء ههنا المصدر بمعنى الإنساء وهو التأخير وكان النسىء في الشهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة وروي عن ابن كثير من طريق شبل النسء بوزن النفع وهو المصدر الحقيقي كقولهم نسأت أي أخرت وروي عنه أيضاً النسىء مخففة الياء ولعله لغة في النسء بالهمزة مثل أرجيت وأرجأت وروي عنه النسي مشدد الياء بغير همزة وهذا على التخفيف القياسي
والقول الثاني قال قطرب النسىء أصله من الزيادة يقال نسأل في الأجل وأنسأ إذا زاد فيه وكذلك قيل للبن النسء لزيادة الماء فيه ونسأت المرأة حبلت جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن وقيل للناقة نسأتها أي زجرتها ليزداد سيرها وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسىء قال الواحدي الصحيح القول الأول وهو أن أصل النسىء التأخير ونسأت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ونسأت الناقة أي أخرتها عن غيرها لئلا يصير اختلاط بعضها ببعض مانعاً من حسن المسير ونسأت اللبن إذا أخرته حتى كثر الماء فيه
إذا عرفت هذين القولين فنقول إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة فعلموا أن
بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران أحدهما أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات والثاني أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران أحدهما الزيادة في عدة الشهور والثاني تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وقد بينا أن لفظ النسىء يفيد التأخير عند الأكثرين ويفيد الزيادة عند الباقين وعلى التقديرين فإنه منطبق على هذين الأمرين
والحاصل من هذا الكلام أن بناء العبادات على السنة القمرية يخل مصالح الدنيا وبناؤها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمرية واعتبروا السنة الشمسية رعاية لمصالح الدنيا وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم وإنما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر لأن الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به وتمرداً عن طاعته وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين فثبت أن عملهم في ذلك النسىء يوجب زيادة في الكفر وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادة الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات وأما المفسرون فإنهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجهاً آخر فقالوا إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم قال الواحدي وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد بل كان ذلك حاصلاً في كل الشهور وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر فقال عليه السلام ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شراً ) وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها
المسألة الثانية قوله تعالى زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفاً من الكفر زيادة في الكفر احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار قال لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماماً فكان ترك هذا التأخير إيماناً وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيماناً قال المصنف رضي الله عنه هذا الاستدلال ضعيف لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلاً من الأشهر القمرية فإذا اعتبرنا السنة الشمسية فربما وقع الحج
في المحرم مرة وفي صفر أخرى فقولهم بأن هذا الحج صحيح يجزى وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام فكان هذا كفراً بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار
أما قوله تعالى يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضاً لأن المضل لغيره ضال في نفسه لامحال وقراءة أهل الكوفة يُضِلَّ بضم الياء وفتح الضاد ومعناه أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه أحدها يضل الله به الذين كفروا والثاني يضل الشيطان به الذين كفروا والثالث وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان
واعلم أن الكناية في قوله يُضِلُّ بِهِ يعود إلى النسىء وقوله يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا فالضمير عائد إلى النسىء والمعنى يحلون ذلك الإنساء عاماً ويحرمونه عاماً قال الواحدي يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم ويحرمون التأخير عاماً آخر وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه قال رضي الله عنه هذا التأويل إنما يصح إذا فسرنا النسىء بأنهم كانوا يؤخرون المحرم في بعض السنين وذلك يوجب أن ينقلب الشهر المحرم إلى الحل وبالعكس إلا أن هذا إنما يصلح لو حملنا النسىء على المفعول وهو المنسوء المؤخر وقد ذكرنا أنه مشكل لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً وأنه غير جائز إلا إذا قلنا إن المراد من النسىء المنسوء وهو المفعول وحملنا قوله إِنَّمَا النَّسِىء زيادة في الكفر على أن المراد العمل الذي به يصير النسىء سبباً في زيادة الكفر وبسبب هذا الإضمار يقوى هذا التأويل
أما قوله لّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قال أهل اللغة يقال واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه قال المبرد يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كان كل واحد يطأ حيث يطأ صاحبه والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما أحلوا شهراً من الحرام إلا حرموا مكانه شهراً من الحلال ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى هذا هو المراد من المواطأة ولما بين تعالى كون هذا العمل كفراً ومنكراً قال زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قال ابن عباس والحسن يريد زين لهم الشيطان هذا العمل والله لا يرشد كل كفار أثيم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَرَضِيتُم بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا مِنَ الاٌّ خِرَة ِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاة ِ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ قَلِيلٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفاء وفضائحهم عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباباً كثيرة موجبة لقتالهم وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 14 ) وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه
المسألة الثانية المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر وطابت ثمار المدينة وأينعت واستعظموا غزو الروم وهابوه فنزلت هذه الآية قال المحققون وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه أحدها شدة الزمان في الصيف والقحط وثانيها بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات وثالثها إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت ورابعها شدة الحر في ذلك الوقت وخامسها مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو والله أعلم
المسألة الثالثة يقال استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفراً ونفوراً إذا حثهم ودعاهم إليه ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا استنفرتم فانفروا ) وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير ومنه قولهم فلان لا في العير ولا في النفير وقوله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ أصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش ومعناه تباطأتم ونظيره قوله ادارأتم وقوله قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ قال صاحب ( الكشاف ) وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بالى والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ونظيره أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( الأعراف 176 ) وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقوله مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ( التوبة 38 ) وإن كان في الظاهر استفهاماً إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار
ثم قال تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم فتركتم جميع هذه الأمور أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة ومنافع
الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات ودائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ولو لم يكن الجهاد واجباً لما كان هذا التثاقل منكراً وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران وأيضاً هو واجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين
المسألة الخامسة لقائل أن يقول إن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب مع كل المؤمنين
ثم قال مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف وذلك التثاقل معصية وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة
الجواب أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن وفي سائر أنواع الكلام كقوله إياك أعني واسمعي يا جاره
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في ثواب الآخرة رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي وهي ثلاثة أنواع الأول قوله تعالى يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
ع واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة وقال ابن عباس رضي الله عنهما استنفر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) القوم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر وقال الحسن الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به وقيل إنه تهديد بكل الأقسام وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة الثاني قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم ونظيره قوله تعالى
خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) ثم اختلف المفسرون فقال ابن عباس هم التابعون وقال سعيد بن جبير هم أبناء فارس وقال أبو روق هم أهل اليمن وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأن الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها قال الأصم معناه أن يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة قال القاضي هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها فلا يمتنع أن يظهر الله في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك والثالث قوله وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا والكناية في قول الحسن راجعة إلى الله تعالى أي لا تضروا الله لأنه غني عن العالمين وفي قول الباقين يعود إلى الرسول أي لا تضروا الرسول لأن الله عصمه من الناس ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز فإذا توعد بالعقاب فعل
المسألة الثانية قال الحسن وعكرمة هذه الآية منسوخة بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً قال المحققون إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينفروا وعلى هذا التقدير فلا نسخ قال الجبائي هذه الآية تدل على وعيد أهل الصلاة حيث بين أن المؤمنين إن لم ينفروا يعذبهم عذاباً إليماً وهو عذاب النار فإن ترك الجهاد لا يكون إلا من المؤمنين فبطل بذل قول المرجئة إن أهل الصلاة لا وعيد لهم وإذا ثبت الوعيد لهم في ترك الجهاد فكذا في غيره لأنه لا قائل بالفرق واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية دالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أو لا معه لأنه تعالى قال ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول
فإن قالوا يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ( التوبة 39 ) ولقوله وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا ( التوبة 39 ) إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول
قلنا خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَة َ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة ُ اللَّهِ هِى َ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أن هذا ذكر طريق آخر في ترغيبهم في الجهاد وذلك لأنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم إن لم ينفروا باستنفاره ولم يشتغلوا بنصرته فإن الله ينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد فههنا أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواباً للشرط
وجوابه أن التقدير إلا تنصروه فسينصره من نصره حين ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد والمعنى أنه ينصره الآن كما نصره في ذلك الوقت
المسألة الثانية قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يعني قد نصره الله في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا من مكة وقوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال أي في الحال التي كان فيها ثَانِيَ اثْنَيْنِ وتفسير قوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ سبق في قوله ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وتحقيق القول أنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما يكون ثانياً في ذينك الاثنين للآخر فلهدا السبب قالوا يقال فلان ثاني اثنين أي هو أحدهما قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ثَانِيَ اثْنَيْنِ بالسكون و إِذْ هُمَا بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ والغار ثقب عظيم في الجبل وكان ذلك الجبل يقال له ثور في يمين مكة على مسيرة ساعة مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه مع أبي بكر ثلاثاً وقوله إذ يقول بدل ثان
المسألة الثالثة ذكروا أن قريشاً ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل وإذ يمكر بك الذين كفروا ( الأنفال 30 ) فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار والمراد من قوله أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ هو أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر أول الليل إلى الغار وأمر علياً أن يضطجع على فراشه ليمنعهم السواد من طلبه حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر الله به فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مالك فقال بأبي أنت وأمي الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه السلام ( لا تحزن إن الله معنا ) فقال أبو بكر إن الله لمعنا فقال الرسول ( نعم ) فجعل يمسح الدموع عن خده ويروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاء أبي بكر بكى وإذا ذكر مسحه الدموع مسح هو الدموع عن خده وقيل لما طلع المشركون فوق الغار أشفق أبو بكر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال رسول الله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) وقيل لما دخل الغار وضع أبو بكر ثمامة على باب الغار وبعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعم أبصارهم ) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه الأول أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدل أعداءه عليه وأيضاً لخافه من أن يقدم على
قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره الثاني وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من المخلصين وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين الثالث أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أما هو فما سبق رسول الله كغيره بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد وذلك يوجب الفضل العظيم الرابع أنه تعالى سماه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم والكل آمنوا على يديه ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أيام قلائل فكان هو رضي الله عنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه فكان ثاني اثنين في مجلسه ولما مرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ولما توفي دفن بجنبه فكان ثاني اثنين هناك أيضاً وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 ) ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى
والجواب أن هذا تعسف بارد لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد أما ههنا فالمراد بقوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره فأين أحد الجانبين من الآخر
والوجه الخامس من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام ما ظنك باثنين الله ثالثهما ولا شك أن هذا منصب علي ودرجة رفيعة
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا وحق خمسة سادسهم جبريل وأرادوا به أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلياً وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون فقال رحمه الله لكم ما هو خير منه بقوله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل
والوجه السادس أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل قال الحسين بن فضيل البجلي من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً لأن الأمة مجمعة على أن المراد من إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هو أبو بكر وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له اعترضوا وقالوا إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن وهو قوله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( الكهف 37 )
والجواب أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة
والوجه السابع في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شك أن المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد لزمهم إدخال الرسول فيه وإن حملوها على محمل رفيع شريف لزمهم إدخال أبي بكر فيه ونقول بعبارة أخرى دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) والمراد منه الحصر والمعنى إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين
والوجه الثامن في تقرير هذا المطلوب أن قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار وذلك منصب في غاية الشرف
والوجه التاسع أن قوله لاَ تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت
والوجه العاشر قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ومن قال الضمير في قوله عَلَيْهِ عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه
الوجه الأول أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه
والوجه الثاني أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس
والوجه الثالث أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن ولما لم يكن كذلك بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة وهو قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة
على قلب أبي بكر
فإن قيل وجب أن يكون قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وهذا لا يليق إلا بالرسول والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول
قلنا هذا ضعيف لأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال
الوجه الحادي عشر من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر ) وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس ففرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأخبر به أبا بكر ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه ليعرفوا أن الرسول هو هو فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم ( اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم ) ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم
الوجه الثاني عشر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر والأنصار ما رأوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً إلا أبا بكر وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر فلو قدرنا أنه توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين فالأول قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر ( لا تحزن ) فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه وإن كان خطأ لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن والثاني قالوا يحتمل أن يقال إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر والثالث وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض
النفس للفداء فهذا العمل من علي أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب
والجواب عن الأول أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة قال فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( طه 68 ) أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه وذلك طعن في الأنبياء ويجب في قوله تعالى في إبراهيم حيث قالت الملائكة له لاَ تَخَفْ في قصة العجل المشوي مثل ذلك وفي قولهم للوط لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ( العنكبوت 33 ) مثل ذلك
فإذا قالوا إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله لاَ تَخَفْ ليفيد الأمن وفراغ القلب
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك
فإن قالوا أليس إنه تعالى قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فكيف خاف مع سماع هذه الآية فنقول هذه الآية إنما نزلت في المدينة وهذه الواقعة سابقة على نزولها وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ولكنه ما كان آمناً من الضرب والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ولما خاف وبكى قالوا هذا السؤال الركيك وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق وإنما مقصودهم محض الطعنا
والجواب عن الثاني أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار وقال لهم نحن ههنا ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك
والجواب عن الثالث من وجوه الأول أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي كان غائباً والحاضر أعلى حالاً من الغائب الثاني أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ولم يتعرضوا له أما أبو بكر فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة فكان بلاؤه أشد الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان وكان يذب عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ولهذا السبب فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش
هو علي لم يتعرضوا له ألبتة ولم يقصدوه بضرب ولا ألم فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أشد من خوف علي كرم الله وجهه فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار
أما قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا فاعلم أن تقدير الآية أن يقال إِلاَّ تَنصُرُوهُ فلا بد له ذلك بدليل صورتين
الصورة الأولى أنه قد نصره في واقعة الهجرة إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ
والصورة الثانية واقعة بدر وهي المراد من قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأيد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم فقوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثم قال تعالى وَجَعَلَ كَلِمَة َ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة ُ اللَّهِ هِى َ الْعُلْيَا والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة وكلمة الله هي العليا وهي قوله لا إله إلا الله قال الواحدي والاختيار في قوله وَكَلِمَة ُ اللَّهِ الرفع وهي قراءة العامة على الاستئناف قال الفراء ويجوز كَلِمَة َ اللَّهِ بالنصب ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال وكلمة الله العليا ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك ولا تقول أعتق غلامه أبوك
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصفنا أتبعه بهذا الأمر الجزم فقال انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة والمفسرون ذكروها فالأول خِفَافًا في النفور لنشاطكم له وَثِقَالاً عنه لمشتقه عليكم الثاني خِفَافًا لقلة عيالكم وَثِقَالاً لكثرتها الثالث خِفَافًا من السلاح وَثِقَالاً منه الرابع ركباناً ومشاة الخامس شباناً وشيوخاً السادس مهازيل وسمانا السابع صحاحاً ومراضاً والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي يدخل فيه كل هذه الجزئيات
فإن قيل أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين
قلنا ظاهره يقتضي ذلك عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعلي أن أنفر قال ( ما أنت إلا خفيف أو ثقيل ) فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( الفتح 17 النور 61 ) وقال مجاهد إن أبا أيوب شهد بدراً مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول قال الله انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً وعن صفوان بن عمرو قال كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو قلت يا عم أنت معذور عند الله فرفع حاجبيه وقال يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إن من أحبه ابتلاه وعن الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضرر فقال استنفر الله الخفيف والثقيل فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور فقال أنزل الله علينا في سورة براءة انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( الفتح 17 النور 61 ) وقال عطاء الخراساني منسوخة بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 )
ولقائل أن يقول اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان لكنه من فروض الكفايات فمن أمره الرسول بأن يخرج لزمه ذلك خفافاً وثقالاً ومن أمره بأن يبقى هناك لزمه أن يبقى ويترك النفر وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى التزام النسخ
ثم قال تعالى وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفيه قولان
القول الأول أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد
والقول الثاني أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفراً بنفقة من عنده فيكون مجاهداً بماله لما تعذر عليه بنفسه وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء
ثم قال تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
فإن قيل كيف يصح أن يقال الجهاد خير من القعود عنه ولا خير في القعود عنه
قلنا الجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن لفظ خَيْرٌ يستعمل في معنيين أحدهما بمعنى هذا خير من ذاك والثاني بمعنى أنه في نفسه خير كقوله إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( القصص 24 ) وقوله وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) ويقال الثريد خير من الله أي هو خير في نفسه وقد حصل من الله تعالى فقوله ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ المراد هذا الثاني وعلى هذا الوجه يسقط السؤال
الوجه الثاني سلمنا أن المراد كونه خيراً من غيره إلا أن التقدير أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما ولذلك قال تعالى إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله وكان قد ذكر قوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين وبين أن أقواماً مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد تخلفوا في غزوة تبوك وبين أنه لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى العرض ما عرض لك من منافع الدنيا يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر قال الزجاج فيه محذوف والتقدير لو كان المدعو إليه سفراً قاصداً فحذف اسم كَانَ لدلالة ما تقدم عليه وقوله وَسَفَرًا قَاصِدًا قال الزجاج أي سهلاً قريباً وإنما قيل لمثل هذا قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له مقتصد قال تعالى فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ( فاطر 32 ) وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد فسمي قاصداً وتفسير القاصد ذو قصد كقولهم لابن وتامر ورابح قوله وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ قال الليث الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال شقة شاقة والمعنى بعدت عليهم الشاقة البعيدة والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها ونقل صاحب ( الكشاف ) عن عيسى بن عمر أنه قرأ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ بكسر العين والشين
المسألة الثانية هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم فلهذا السبب تخلفوا ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ إما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( اليمين الغموس تدع الديار بلاقع )
ثم قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج
المسألة الثالثة دلت الآية على أن قوله انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً إنما يتناول من كان قادراً متمكناً إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف
المسألة الرابعة استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل فقال لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً إلى القتال ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم ما كنا نستطيع ذلك ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضاً له وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به ما كان لهم زاد ولا راحلة وما أرادوا به نفس القدرة
وأجاب إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا استطاعة له أولى بالعذر وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال وإذا أريد به المال فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة
وأجاب أصحابنا بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل إلا بوقت واحد فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادراً في هذا الزمان أن يفعل فعلاً في مكان بعيد عنه بل إنما يقدر على أن يفعل فعلاً في المكان الملاصق لمكانه فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا وعند هذا يجب علينا وعليهم أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة وحينئذ يسقط الاستدلال
المسألة الخامسة قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخباراً عن الغيب فكان معجزاً والله أعلم
عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
اعلم أنه تعالى بين بقوله لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك أنه تخلف قوم من ذلك الغزو وليس فيه بيان أن ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا فلما قال بعده عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ دل هذا على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين الأول أنه تعالى قال عَفَا اللَّهُ عَنكَ والعفو يستدعي سابقة الذنب والثاني أنه تعالى قال لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ وهذا استفهام بمعنى الإنكار فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنباً قال قتادة وعمرو بن ميمون اثنان فعلهما الرسول لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون
والجواب عن الأول لا نسلم أن قوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ يوجب الذنب ولم لا يجوز أن يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما صنعت في أمري ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل والتعظيم وقال علي بن الجهم فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه
عفا الله عنك ألا حرمة
تعود بعفوك إن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره
ومولى عفا ورشيداً هدى
أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى
والجواب عن الثاني أن نقول لا يجوز أن يقال المراد بقوله لَمْ عَرَّفَهَا لَهُمْ الإنكار لأنا نقول إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب فإن قلنا إنه ما صدر عنه ذنب امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ إنكار عليه وإن قلنا إنه كان قد صدر عنه ذنب فقوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ يدل على حصول العفو عنه وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال إن قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ يدل على كون الرسول مذنباً وهذا جواب شاف قاطع وعند هذا يحمل قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ على ترك الأولى والأكمل لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا
المسألة الثانية من الناس من قال إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع واحتج عليه بأن قوله فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد والرسول كان سيداً لهم فكان داخلاً تحت هذا الأمر ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم والثاني باطل أيضاً لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( المائدة 45 ) أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( المائدة 47 ) وذلك باطل بصريح القول فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه فإما أن يكون ذلك مبنياً على الاجتهاد أو ما كان كذلك والثاني باطل لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ ( مريم 59 ) فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة بناء على الاجتهاد وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يحكم بمقتضى الاجتهاد
فإن قيل فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ
قلنا إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقاً لأنه قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية فهذا يدل على صحة قولنا
فإن قالوا فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي
قلنا ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم يصير تكليفه أن لا يحكم البتة وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص فلما ترك ذلك كان ذلك كبيرة وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعاً في الاجتهاد فدخل تحت قوله ( ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) فكان حمل الكلام عليه أولى
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ووجوب التثبت والتأني وترك
الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد
المسألة الرابعة قال قتادة عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ثم رخص له في سورة النور فقال فَإِذَا اسْتَذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ( النور 62 )
المسألة الخامسة قال أبو مسلم الأصفهاني قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا ا فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له مع أنه ما كان خروجهم معه صواباً لأجل أنهم كانوا عيوناً للمنافقين على المسلمين فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل فلهذا السبب ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة قال القاضي هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّة ً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس قوله لاَ يَسْتَأْذِنُكَ أي بعد غزوة تبوك وقال الباقون هذا لا يجوز لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان والله أعلم
المسألة الثانية قوله لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ فيه محذوف والتقدير في أن يجاهدوا إلا أنه حسن الحذف لظهوره ثم ههنا قولان
القول الأول إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى فأي فائدة في الاستئذان وكانوا بحيث لو أمرهم
الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول ( أنت مني بمنزلة هرون من موسى )
القول الثاني أنه لا بد ههنا من إضمار آخر قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز وهؤلاء ذمهم الله في ترك هذا الاستئذان فثبت أنه لا بد من الإضمار والتقدير لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا إلا أنه حذف حرف النفي ونظير قوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله وههنا سؤالان
السؤال الأول أن العلم إذا كان استدلالياً كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكاً في المدلول وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال ومعلوم أن ذلك باطل فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه
والجواب أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن فلهذا السبب بقي إيمانه دائماً مستمراً
السؤال الثاني أليس أن أصحابكم يقولون أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وذلك يقتضي حصول الشك
والجواب أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال في تفسير قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ( الأنفال 74 )
المسألة الثانية قالت الكرامية الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين
المسألة الثالثة قوله وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ يدل على أن محل الريب هو القلب فقط ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة والإيمان أيضاً هو القلب لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلاً للضد الآخر ولهذا السبب قال تعالى أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعاً له
المسألة الرابعة قوله فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي
والإثبات غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً فإن كان غير يقين فهو العلم وإلا فهو اعتقاد المقلد وإن كان غير جازم فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين
ثم قال تعالى وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّة ً قرىء عدته وقرىء أيضاً إِنَّ عِدَّة َ بكسر العين بغير إضافة وبإضافة قال ابن عباس يريد من الزاد والماء والراحلة لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف وقال آخرون هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة
ثم قال تعالى وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الانبعاث الانطلاق في الأمر يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به والمعنى أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فصرفهم عنه
فإن قيل إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة
فإن قلنا إنه كان مفسدة فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود وإن قلنا إنه كان مصلحة فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم
والجواب الصحيح أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( التوبة 47 ) بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا فلم عاتب الرسول في الإذن فنقول قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال ليس في قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه وتأكد ذلك بسائر الآيات منها قوله تعالى فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) ومنها قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ ( الفتح 15 ) إلى قوله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم
والوجه الثاني من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود فنقول ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر ولهذا السبب قال تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ والثاني أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم
يغتروا بقولهم فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح والثالث أنهم لما استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غضب عليهم وقال اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فقال تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم الرابع أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد وذلك غير جائز لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك
المسألة الثانية قالت المعتزلة البصرية الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية بدليل قوله تعالى وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ قال أصحابنا معنى كَرِهَ اللَّهُ أراد عدم ذلك الشيء قال البصرية العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر والعدم نفي محض وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به لأن تحصيل الحاصل محال وجعل العدم عدماً محال فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم
أجاب أصحابنا بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء فهو تعالى أراد منهم السكون فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول
المسألة الثالثة احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى فَثَبَّطَهُمْ أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة إن كانت من العبد لزم التسلسل وإن كانت من الله فحينئذ لزم المقصود لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذا القول ممن كان فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاّوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة الأول قوله لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وفيه مسائل
المسألة الأولى الخبال والشر والفساد في كل شيء ومنه يسمى العته بالخبل والمعتوه بالمخبول وللمفسرين عبارات قال الكلبي إلا شراً وقال يمان إلا مكراً وقيل إلا غياً وقال الضحاك إلا غدراً وقيل الخبال الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم أخرين ليختلفوا وتفترق كلمتهم
المسألة الثانية قال بعض النحويين قوله إِلاَّ خَبَالاً من الاستثناء المنقطع وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه كقولك ما زادوكم خيراً إلا خبالاً وههنا المستثنى منه غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم والعام هو الشيء فكان الاستثناء متصلاً والتقدير ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً
المسألة الثالثة قالت المعتزلة إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث لكونه مشتملاً على هذا الخبال والشر والفتنة وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق ولا يرضى إلا بالخير ولا يريد إلا الطاعة
النوع الثاني من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ وفي الإيضاح قولان نقلهما الواحدي
القول الأول وهو قول أكثر أهل اللغة أن الأيضاع حمل البعير على العدو ولا يجوز أن يقال أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً يقال وضع البعير إذا عدا وأوضعه الراكب إذا حمله عليه قال الفراء العرب تقول وضعت الناقة وأوضع الراكب وربما قالوا للراكب وضع
والقول الثاني وهو قول الأخفش وأبي عبيد أنه يجوز أن يقال أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد أنه وضع ناقته روى أبو عبيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر وقال لبيد أرانا موضعين لحكم غيب
ونسخو بالطعام وبالشراب
أراد مسرعين ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل لأنه لم يرد السير في الطريق وقال عمر بن أبي ربيعة تبالهن بالعدوان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
قال الواحدي والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد
واعلم أن على القولين فالمراد من الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم فإن اعتبرنا القول الأول كان المعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي وإن اعتبرنا القول الثاني كان المراد أنهم يسرعون في هذا التضريب
المسألة الرابعة نقل صاحب ( الكشاف ) عن ابن الزبير أنه قرأ ولأوقصوا من وقصت الناقة وقصا إذا أسرعت وأوقصتها وقرىء ولأرفضوا
فإن قيل كيف كتب في المصحف وَلاَ بزيادة الألف
أجاب صاحب ( الكشاف ) بأن الفتحة كانت ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي في ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحتها ألفاً أخرى ونحوه أَوَلاَ
المسألة الخامسة قوله ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ أي فيما بينكم ومنه قوله وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً ( الكهف 33 ) وقوله فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ ( الإسراء 5 ) وأصله من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وجمعه خلال ومنه قوله فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ( النور 43 ) وقرىء من خلله وهي مخارج مصب القطر وقال الأصمعي تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم ويقال جلسنا خلال بيوت الحي وخلال دورهم أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور
إذا عرفت هذا فنقول قوله خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ أي بالنميمة والإفساد وقوله يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ أي يبغون لكم وقال الأصمعي ابغني كذا أي اطلبه لي ومعنى ابغني وابغ لي سواء وإذا قال ابغني فمعناه أعني على ما بغيته ومعنى الْفِتْنِة ِ ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش
واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً والخبال هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك بل يمشون بين الأكابر بالنميمة فيكون الإفساد أكثر وهو المراد بقوله ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ
فأما قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ففيه قولان الأول المراد فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم وهذا قول مجاهد وابن زيد والثاني قال قتادة فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم فإذا ألقوا إليهم أنواعاً من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي
فإن قيل كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد
قلنا لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب فيؤثر قولهم فيهم ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم ولا يمتنع أيضاً أن يقال المنافقون على قسمين منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات والله أعلم
لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَة َ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَة ِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ
اعلم أن المذكور في هذه الآية نوع آخر من مكر المنافقين وخبث باطنه فقال لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَة َ مِن قَبْلُ أي من قبل واقعة تبوك قال ابن جريج هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه وقيل طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك ومعنى الفتنة هو الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة وهو الذي طلبه المنافقون للمسلمين وسلمهم الله منه وقوله وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ تقليب الأمر تصريفه وترديده لأجل التدبر والتأمل فيه يعني اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك يقال في الرجل المتصرف في وجوه الحيل فلان حول قلب أي يتقلب في وجوه الحيل
ثم قال تعالى حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ والمعنى أن هؤلاء المنافقين كانوا مواظبين على وجه الكيد والمكر وإثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء الحق الذي كان في حكم المذاهب والمراد منه القرآن ودعوة محمد وظهر أمر الله الذي كان كالمستور والمراد بأمر الله الأسباب التي أظهرها الله تعالى وجعلها مؤثرة في قوة شرع محمد عليه الصلاة والسلام وهم لها كارهون أي وهم لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله كارهون وفيه تنبيه على أنه لا أثر لمكرهم وكيدهم ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم منذ كانوا في طلب هذا المكر والكيد والله تعالى رده في نحرهم وقلب مرادهم وأتى بضد مقصودهم فلما كان الأمر كذلك في الماضي فهذا يكون في المستقبل
ثم قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج وذكروا فيه وجوها الأول لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية وإن يكونوا أيضاً ذكروه على سبيل الجد وإن كان ذلك المنافق منافقاً كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقاً وإن كان غير قاطع بذلك والثاني لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها والثالث لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي والرابع قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمال
فاتركني وقرىء وَلاَ تَفْتِنّى من أفتنة أَلا فِى الْفِتْنَة ِ سَقَطُواْ والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله والتمرد عن قبول التكليف وأيضاً فهم يبقون خالفين عن المسلمين خائفين من أن يفضحهم الله وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي سُقِطَ لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى قال أهل المعاني وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون
ثم قال تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ قيل إنها تحيط بهم يوم القيامة وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال فكأنهم في وسطها وقال الحكماء الإسلامية إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالاً وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين وقصد الرسول بكل سوء وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبداً في الترقي والاستعلاء والتزايد وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية فكانوا في أشد الخوف بسبب الأحوال العاجلة والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم أنواع العقوبات الروحانية فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ
إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَة ٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن حبث بواطنهم والمعنى إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفراً أو كان غنيمة أو كان انقياداً لبعض ملوك الأطراف يسؤهم ذلك وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم من قبل أي قبل ما وقع وتولوا عن مقام التحدث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم وهم فرحون مسرورون ونقل عن ابن عباس أن الحسنة في يوم بدر والمصيبة في يوم أحد فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه وإلا فالواجب حمله على كل حسنة وعلى كل مصيبة إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره الله ههنا
ثم قال تعالى قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا وفيه أقوال
القول الأول أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر ولا خوف ولا رجاء ولا شدة ولا رخاء إلا وهو
مقدرعلينا مكتوب عند الله وكونه مكتوباً عند الله يدل على كونه معلوماً عند الله مقضياً به عند الله فإن ما سواه ممكن والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن قضاء الله شامل لكل المحدثات وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال وتقرير هذا الكلام من وجوه أحدها أن الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) وثانيها أن الله تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلاً والحكم الصدق كذباً وكل ذلك محال وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
فإن قيل إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه فأي تعلق لهذا المذهب بذلك
قلنا السبب فيه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من علم سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع زالت المنازعة عن النفس وحصل الرضا به
القول الثاني في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم فيكون ذلك اغتياظاً للمنافقين ورداً عليهم في ذلك الفرح
والقول الثالث قال الزجاج المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم والثواب الكثير وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا وإذا كان الأمر كذلك صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة وهذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن الحق الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى هُوَ مَوْلَانَا والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعاً من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده فحسن منه تعالى تلك التصرفات بمجرد كونه مولى لهم ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله
ثم قال تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته لأن قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأساب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو فإن صار مغلوباً مقتولاً فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة وإن صار غالباً فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل وهي الرجولية والشوكة والقوة وفي الآخرة بالثواب العظيم وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموماً منسوباً إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان والعاجزون من النساء ثم يكونون أبداً خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة وإن أذن الله في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة ثم قال تعالى للمنافقين فَتَرَبَّصُواْ بنا إحدى الحالتين الشريفتين إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين قال الواحدي يقال فلان يتربص بفلان الدوائر وإذا كان ينتظر وقوع مكروه به وهذا قد سبق الكلام فيه وقال أهل المعاني التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ولذلك قيل فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره والحسنى تأنيث الأحسن واختلفوا في تفسير قوله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا قيل من عند الله أي بعذاب ينزله الله عليهم في الدنيا أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم وقيل بعذاب من عند الله يتناول عذاب الدنيا والآخرة أو بأيدينا القتل
فإن قيل إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان فكيف يقول تعالى ذلك
قلنا قال الحسن المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حرباً للمؤمنين وقوله فَتَرَبَّصُواْ وإن كان بصيغة الأمر إلا أن المراد منه التهديد كما في قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ والله أعلم
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف ههنا وفي النساء والأحقاف وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك فقيل هما لغتان وقيل بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه
المسألة الثانية قال ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به
واعلم أن السبب وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام فقوله أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وإن كان لفظه لفظ أمر إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء والمعنى سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر أما إقامة الأمر مقام الخبر فكما ههنا وكما في قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( التوبة 80 ) وفي قوله قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( مريم 75 ) وأما إقامة الخبر مقام الأمر فكقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) المطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله المطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يريد طائعين أو كارهين وفيه وجهان الأول طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه والثاني أن يكون التقدير طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم
ثم قال تعالى لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ يحتمل أن يكون المراد أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتقبل تلك الأموال منهم ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله
ثم قال تعالى إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين قال الجبائي دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة وعلل ذلك بكونهم فاسقين ومعنى التقبل هو الثواب والمدح وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين والجمع بينهما محال فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه وهو قوله وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه
لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات لأنه تعالى لما قال إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ فكأنه سأل سائل وقال هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقاً أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقاً بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً فثبت أن هذا الاستدلال باطل
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواة َ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى دل صريح هذه الآية على أنه لا تأثير للفسق من حيث إنه فسق في هذا المنع وذلك صريح في بطلان قول المعتزلة على ما لخصناه وبيناه
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يدل على أن منع القبول بمجموع الأمور الثلاثة وهي الكفر بالله ورسوله وعدم الإتيان بالصلاة إلا على وجه الكسل والإنفاق على سبيل الكراهية
ولقائل أن يقول الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبول وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر فكيف يمكن إسناد هذا الحكم إلى السببين الباقيين
وجوابه أن هذا الإشكال إنما يتوجه على قول المعتزلة حيث قالوا إن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم أما عندنا فإن شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً البتة وإنما هي معرفات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد محال بل نقول إن هذا من أقوى الدلائل اليقينية على أن هذه الأفعال غير مؤثرة في هذه الأحكام لوجوه عائدة إليها والدليل عليه أنه تعالى بين أنه حصلت هذه الأمور الثلاثة في حقهم فلو كان كل واحد منها موجباً تاماً لهذا الحكم لزم أن يجتمع على الأثر الواحد أسباب مستقلة وذلك محال لأن المعلول يستغنى بكل واحد منها عن كل واحد منها فيلزم افتقاره إليها بأسرها حال استغنائه عنها بأسرها وذلك محال فثبت أن القول بكون هذه الأفعال مؤثرة في هذه الأحكام يفضي إلى هذا المحال فكان القول به باطلاً
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر بالله
فإن قيل فكيف الجمع بينه وبين قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ
قلنا وجب أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب ودلت الآية على أن الصلاة لازمة للكافر ولولا ذلك لما ذمهم الله تعالى على فعلهاعلى وجه الكسل
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال الموجب للذم ليس هو ترك الصلاة بل الموجب للذم هو الإتيان بها على وجه الكسل جارياً مجرى سائر تصرفاتها من قيام وقعود وكما لا يكون قعودهم على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعتهم فكذلك كان يجب في صلاتهم لو لم تجب عليهم
المسألة الرابعة مضى تفسير الكسالى في سورة النساء قال صاحب ( الكشاف ) كُسَالَى بالضم والفتح جمع الكسلان نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران قال المفسرون هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل قال المصنف إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفاً من مذمة الناس وهذا القدر لا يدل على الكفر أما لما ذكره الله تعالى بعد أن وصفهم بالكفر دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب وذلك يوجب الكفر
أما قوله وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فالمعنى أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرماً وضيعة بينهم وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله لأن الله تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق وهذا معنى قوله عليه السلام ( أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم ) فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق قال المصنف رضي الله عنه حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة فإن لم يؤت بها لهذا الغرض فلا فائدة فيه بل ربما صارت وبالاً على صاحبها
المسألة الخامسة وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ قرأ حمزة والكسائي ءانٍ يَقْبَلُ بالياء والباقون بالتاء على التأنيث وجه الأولين أن النفقات في معنى الإنفاق كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث قال صاحب ( الكشاف ) قرىء نَفَقَاتُهُمْ و نَفَقَاتُهُمْ على الجمع والتوحيد وقرأ السلمي ءانٍ يَقْبَلُ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ على إسناد الفعل إلى الله عز وجل
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم وعند هذا يظهر
أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا ومن الله التوفيق وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الخطاب وإن كان في الظاهر مختصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد منه كل المؤمنين أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( طه 131 ) الآية
المسألة الثانية الإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء ولذلك قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ) وكان عليه السلام يقول ( هلك المكثرون ) وقال عليه السلام ( مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) وذكر عبيد بن عمير ورفعه إلى الرسول عليه السلام ( من كثر ماله اشتد حسابه ومن كثر بيعه كثرت شياطينه ومن ازداد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً ) والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها قال بعض المحققين الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام الأول الذي يكون أزلياً أبدياً وهو الله جل جلاله والثاني الذي لا يكون أزلياً ولا أبدياً وهو الدنيا والثالث الذي يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا محال الوجود لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه والرابع الذي يكون أبدياً ولا يكون أزلياً وهو الآخرة وجميع المكلفين فإن الآخرة لها أول لكن لا آخر لها وكذلك المكلف سواء كان مطيعاً أو كان عاصياً فلحياته أول ولا آخر لها
وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبني الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا
أما قوله فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال النحويون في الآية محذوف كأنه قيل إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ويجوز أيضاً أن يكون هذا اللام بمعنى ( أن ) كقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( النساء 26 ) أي أن يبين لكم
المسألة الثانية قال مجاهد والسدي وقتادة في الآية تقديم وتأخير والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وقال القاضي وههنا سؤالان الأول وهو أن يقال المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال لأنه يقال بعد هذا التقديم والتأخير
فكيف يكون المال والولد عذاباً فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سبباً للعذاب وأيضاً فلو أنه قال فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا وليس كذلك حال العذاب فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء
المسألة الثالثة الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الدنيا ويحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الآخرة أما كونها سبباً للعذاب في الدنيا فمن وجوه الأول أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب وكان خوفه على فواته أشد وأصعب فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها والثاني أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه فالمشغوف بالمال والولد أبداً يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال فالتعب كثير والنفع قليل والثالث أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره أولا تبقى بل تهلك وتبطل فإن كان الأول فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته لأن مفارقة المحبوب شديدة وترك المحبوب أشد وأشق وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها واشتد تألم قلبه بسببها فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا الرابع أن الدنيا حلوة خضرة والحواس مائلة إليها فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها فيصير ذلك سبباً لحرمانه عن ذكر الله ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر وكلما كان المال والجاه أكثر كانت تلك القسوة أقوى وإليه الإشارة بقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة فيعظم تألمه وتقوى حسرته ثم عند الحشر حلالها حساب وحرامها عقاب فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة
فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب
قلنا المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب أحدها أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا وأما المنافق لمااعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها واشتد حبه لها وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه
وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد وثانيها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل والقوم كانوا يعتقدون أن محمداً ليس بصادق في كونه رسولاً من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ولا شك أن هذا أشق على القلب جداً فهذه الزيادة من التعذيب كانت حاصلة للمنافقين وثالثها أنهم كانوا يبغضون محمداً عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة ورابعها أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهوراً تاماً فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل وسبي الأولاد ونهب الأموال وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب وخامسها أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدراً وكان من الله بمكان وهم خلق كثير مبرؤن عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ويعترضون عليهم والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه فصار حصول تلك الأولاد سبباً لعذابهم وسادسها أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سبباً لحصول هذه الأحوال فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سبباً لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ قالوا لأن معنى الآية أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر
أجاب الجبائي فقال معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريداً للكفر ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب أريد أن تدخل علي في وقت مرضي فهذه الإرادة لا توجب كونه مريداً لمرض نفسه وقد يقول للطبيب أريد أن تطيب جراحتي وهذا لا يقتضي أن يكون مريداً لحصول تلك الجراحة وقد يقول السلطان لعسكره اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب وهذا لا يدل على كونه مريداً لذلك الحرب فكذا ههنا
والجواب أن الذي قاله تمويه عجيب وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء فإذا قال المريض للطبيب أريد أن تدخل علي في وقت مرضي كان معناه أريد أن تسعى في إزالة مرضي وإذا قال له أريد أن تطيب جراحتي كان معناه أريد أن تزيل عني هذه الجراحة وإذا قال السلطان اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب كان معناه طلب إزالة تلك
المحاربة وإبطالها وإعدامها فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مراداً بخلاف هذه الآية وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره وليس أيضاً مستلزماً لتلك الإزالة بل هما أمران متناسبان ولا منافاة بينهما البتة فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريداً لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق كما أنه لو قال أريد ألقى ( أن ) فلاناً حال كونه في الدار فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار وتمام التحقيق في هذا التقدير أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر وثبت أن من أراد شيئاً فقد أراد جميع ما هو من ضروراته لزم كونه تعالى مريداً لذلك الكفر فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ أي على دينكم
ثم قال تعالى وَمَا هُم مّنكُمْ أي ليسوا على دينكم وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ القتل فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق وهو كقوله تعالى وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) والفرق الخوف ومنه يقال رجل فروق وهو الشديد الخوف ومنها أنهم لو وجدوا مفراً يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب فقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ الملجأ المكان الذي يتحصن فيه ومثله اللجأ مقصوراً مهموزاً وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم ومثله التجأ والجأته إلى كذا أي جعلته مضطراً إليه وقوله أَوْ مَغَارَاتٍ هي جمع مغارة وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر قال أبو عبيد كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين وقوله مُّدْخَلاً قال الزجاج أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً لأن التاء مهموسة والدال مهجورة وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول كالمتلج من الولوج ومعناه المسلك الذي يستتر بالدخول فيه قال الكلبي وابن زيد نفقا كنفق اليربوع والمعنى أنهم لو جدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ أي رجعوا إليه يقال ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوههم شيء ومن هذا يقال جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن
المسلمين صاروا بهذه الحالة
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي الملجأ والمغارات والمدخل والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه فالملجأ يحتمل الحصون والمغارات الكهوف في الجبال والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مُّدْخَلاً من دخل و مُّدْخَلاً من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم وقرأ أبي بن كعب متدخلاً وقرأ لَوْ ءاوَى إِلَيْهِ أي لالتجاؤا وقرأ أنس يجمزون فسئل عنه فقال يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد
وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم مالاً إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج فقال اعدل يا رسول الله فقال ( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ) فنزلت هذه الآية قال الكلبي قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً ) فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام ( احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون ) وروى أبو بكر الأصم رضي الله عنه في ( تفسيره ) أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل من أصحابه ( ما علمك بفلان ) فقال مالي به علم إلا إنك ندنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره ) فقال لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه مؤمن أكله إلى إيمانه وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده )
المسألة الثانية قوله مَّن يَلْمِزُكَ قال الليث اللمز كالهمز في الوجه يقال رجل لمزة يعيبك في وجهك ورجل همزة يعيبك بالغيب وقال الزجاج يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر وألمزه بضم الميم إذا عيبته وكذلك همزته أهمزه همزاً إذا عيبته والهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويعيبهم وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز قال الأزهري وأصل الهمز واللمز الدفع يقال همزته ولمزته إذا دفعته وفرق أبو بكر الأصم بينهما فقال اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس يلمزك يغتابك وقال قتادة يطعن عليك وقال الكلبي يعيبك في أمر ما ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ قال أبو علي الفارسي ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تفريق الصدقات قال مولانا العلامة الداعي إلى الله لفظ القرآن وهو قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوهاً أخر سواها فأحدها أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقاً غير جائز لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز أقصى ما في الباب أن يقال يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن الله تعالى أغنى الأغنياء فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول فهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن بعض اليهود وهو أنهم قالوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء وثانيها أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك وثالثها أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه قال أهل المعاني هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا قال الضحاك كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين وقيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم فسخط المنافقون وقوله إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ كلمة إِذَا للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط
ثم قال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ الآية والمعنى ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل وقالوا كفانا ذلك وسيرزقنا الله غنيمة أخرى فيعطينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر مما أعطانا اليوم إنا إلى طاعة الله وإفضاله وإحسانه لراغبون
واعلم أن جواب ( لو ) محذوف والتقدير لكان خيراً لهم وأعود عليهم وذلك لأنه غلب عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم فيتوكلوا على الله حق توكله وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل لو جئتنا ثم لا تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً
المسألة الثانية الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق والأصل في هذا الباب أن يكون راضياً بقضاء الله ألا ترى أنه قال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فذكر فيه مراتب أربعة
المرتبة الأولى الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور وكل ما كان حكماً له وقضاء كان حقاً وصواباً ولااعتراض عليه
والمرتبة الثانية أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم وهو قوله وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية فحسبنا الله
والمرتبة الثالثة وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول حَسْبُنَا اللَّهُ نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل
والمرتبة الرابعة أن يقول إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ ولم يقل إنا إلى ثواب الله راغبون ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال ما الذي يحملكم عليه قالوا الخوف من عقاب الله فقال أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون الله فقال ما الذي يحملكم عليه فقالوا الرغبة في الثواب فقال أصبتم ثم مر على قوم قالق مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال أنتم المحقون المحققون
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَة ً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصدقات بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء ولا تعلق لي بها ولا آخذ لنفسي نصيباً منها فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات وههنا مقامات
المقام الأول بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس
والمقام الثاني بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية
أما المقام الأول فنقول الحكمة في إيجاب الزكاة أمور بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة
أما القسم الأول فهو أمور الأول أن المال محبوب بالطبع والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ولعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فوجب الانتهاء في الآشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوباً لذاته والكمال محبوب لذاته والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال وصفة الكمال محبوبة لذاتها كانت القدرة محبوبة لذاتها والمال سبب لحصول تلك القدرة ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب فكان المال محبوباً فهذا هو السبب في كونه محبوباً إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت
حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ليصير ذلك الإخراج كسراً من شدة الميل إلى المال ومنعاً من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيهاً لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة وهو المراد من قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا
والوجه الثاني وهو أن كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة وتزايد المال يوجب تزايد القدرة وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سبباً لحصول هذه اللذات المتزايدة وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال ولما صارت المسألة مسألة الدور لم يظهر لها مقطع ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه
والوجه الثالث أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة والقدرة محبوبة لذاتها والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه فالإنسان يصير غرقاً في طلب المال فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع وهذا هو المراد بالطغيان وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن
والوجه الرابع أن النفس الناطقة لها قوتان نظرية وعملية فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام ( تخلقوا بأخلاق الله )
والوجه الخامس أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعياً في إيصال الخيرات إليهم وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة على ما قاله عليه الصلاة والسلام ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر أمدوه بالدعاء والهمة وللقلوب آثار وللأرواح حرارة فصارت تلك الدعوات سبباً لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاْرْضِ ( الرعد 17 ) وبقوله عليه الصلاة والسلام حصنوا أموالكم بالزكاة )
والوجه السادس أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة الخلق فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده
أموالاً كثيرة فقد رزقه نصيباً وافراً من باب الاستغناء بالشيء فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء إلى المقام الذي هو أعلى منه وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء
والوجه السابع أن المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه فهو غاد ورائح وهو سريع الزوال مشرف على التفرق فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة وسمعت واحداً يقول الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة
والوجه الثامن وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين فكان البذل أولى
والوجه التاسع أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله وذلك منتهى كمالات الإنسانية
والوجه العاشر أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء الروح والبدن والمال فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقاً في هذا التكليف ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقاً بالذكر والقراءة والبدن مستغرقاً في تلك الأعمال بقي المال فلو لم يصر المال مصروفاً إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه وذلك جهل لأن مراتب السعادات ثلاثة أولها السعادات الروحانية وثانيها السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى وثالثها السعادات الخارجية وهي المال والجاه فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية فإذا صار الروح مبذولاً في مقام العبودية ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي وذلك جهل فثبت أنه يجب على العاقل أيضاً بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى
والوجه الحادي عشر أن العلماء قالوا شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم والزكاة شكر النعمة فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب
والوجه الثاني عشر أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين وزوال الحقد والحسد عنهم وكل ذلك من المهمات فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة الأول أن الله تعالى خلق الأموال وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة وهو ممتاز عنهم بكونه ساعياً في تحصيل ذلك المال فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال أما في حق المالك فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله وأيضاً شدة تعلق قلبه به فإن ذلك التعلق أيضاً نوع من أنواع الحاجة وأما في حق الفقير فاحتياجه إلى ذلك المال
يوجب تعلقه به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به وحصل للفقير حق الاحتياج فرجحنا جانب المالك وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيراً منه توفيقاً بين الدلائل بقدر الإمكان الثاني أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى وهو غير جائز فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية الثالث أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) والأغنياء خزان الله لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ولا يملك ملء بطنه طعاماً وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفواً صفواً
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي
الوجه الرابع أن يقال المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير
الوجه الخامس أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قليلاً تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان أما الفقير ليس له شيء أصلاً فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلاً وليس له ما يجبره فكان ذلك أولى
الوجه السادس أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها
الوجه السابع قال عليه الصلاة والسلام ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) والمال محبوب بالطبع فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر وكأنه قيل أيها الغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين وأيها الفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني فصرت من الشاكرين فكان إيجاب الزكاة سبباً في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معاً
الوجه الثامن كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة ولكني جعلت نفسي مديوناً من قبلك وإن كنت قد أعطيت الغني أموالاً كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار
فإن قال الغني قد أنعمت عليك بهذا الدينار فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة بعضها يقينية وبعضها إقناعية والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله والله أعلم
المقام الثاني في تفسير هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء الآية تدل على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلا لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه وأيضاً فلفظة إِنَّمَا تفيد الحصر ويدل عليه وجوه الأول أن كلمة إِنَّمَا مركبة من ( إن ) و ( ما ) وكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم فوجب أن يفيد الثبوت المذكور وعدم ما يغايره الثاني أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الربا في النسيئة ) ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر وإلا لما كان الأمر كذلك وأيضاً تمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الماء من الماء ) ولولا أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإلا لما كان كذلك وقال تعالى إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) والمقصود بيان نفي الإلهية للغير والثالث الشعر قال الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقال الفرزدق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فثبت بهذه الوجوه أن كلمة إِنَّمَا للحصر ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل ( إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن ) وقال ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السلام في أخذ الصدقات بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤلاء الأصناف الثمانية ولا يأخذها لنفسه ولا لأقاربه ومتصليه وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة والمصلحة اللازمة وإذا كان الأمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة فكان عليه الصلاة والسلام يقول ( ما أوتيكم شيئاً ولا أمنعكم إنما أنا خازن أضع حيث أمرت )
المسألة الثالثة مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي وقال الشافعي رحمه الله لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بأنه تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ قال ولا بد في كل صنف من ثلاثة لأن أقل الجمع ثلاثة فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم الفقراء قال ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف ولزمك أن تتصدق بعشرة
دراهم جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان ولا يجوز التفاضل ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثلاثة ولا يلزمك التسوية بينهم فلك أن تعطي فقيراً درهماً وفقيراً خمسة أسداس درهم وفقيراً سدس درهم هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب الشافعي رحمه الله قال المصنف الداعي إلى الله رضي الله عنه الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رحمه الله لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية وذلك لا يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة هؤلاء الثمانية والدليل عليه العقل والنقل
أما النقل فقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 41 ) الآية فأثبت خمس الغنيمة لهؤلاء الطوائف الخمس ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب تفرقته على هذه الطوائف بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤلاء الأصناف فإما أن يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة موزعاً على كل هؤلاء فلا فكذا ههنا مجموع الصدقات تكون لمجموع هذه الأصناف الثمانية فإما أن يقال إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه الأصناف الثمانية فاللفظ لا يدل عليه البتة
وأما العقل فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره والذي يدل على صحة قولنا وجوه الأول أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً لما وجب عليه إخراج نصف دينار فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسماً لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر الثاني أن هذا التوقيف لو كان معتبراً لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر ولو كان كذلك لما خالفوا فيه وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر الثالث وهو أن الشافعي رحمه الله له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة ولا يمر به أحد من الغرباء واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديوناً فكيف تكليفه فإن قلنا وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه فذاك قول لم يقل به أحدا وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم
المسألة الرابعة في تعريف الأصناف الثمانية فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلفوا فقال بعضهم الذي يكون أشد حاجة هو الفقير وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه وقال آخرون الذي أشد حاجة هو المسكين وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ومن الناس من قال لا فرق بين الفقراء والمساكين والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله واختيار أبي علي الجبائي وفائدته تظهر في هذه المسألة وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين فالذين قالوا الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث والذين قالوا الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف وقال الجبائي إنه
تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية وأيضاً الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم
واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا وهو أن رجلاً لو قال أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله من كان أشد حاجة وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة وحجة الشافعي رحمه الله وجوه
الوجه الأول أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ألا ترى أنه يقال أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي ومن فضل علياً على عثمان يقول علي وعثمان وأنشد عمر قول الشاعر كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال هلا قدم الإسلام على الشيب فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين الوجه الثاني قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالاً من المسكين لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل مطبوخ وطبيخ ومجروح وجريح فثبت أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد
لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار يضرب مثلاً لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ ( القيامة 24 25 ) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي
الوجه الثالث ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من الفقر وقال ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) ثم قال ( اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ) فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان لأنه تعوذ من الفقر ثم سأل حالاً أسوأ منه أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة
الوجه الرابع أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً للمال بدليل قوله تعالى أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ( الكهف 79 ) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيراً مع أنه يملك شيئاً
فإن قالوا الدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) فوصف الكل بالفقر مع أنهم يملكون أشياء
قلنا هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى فإن أحداً سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئاً بالنسبة إلى الله فصح قولنا
الوجه الخامس قوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 14 16 ) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي يذ ألصق بالتراب من شدة الفقر فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه ذَا مَتْرَبَة ٍ وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئاً فهذا يدل على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء
الوجه السادس قال ابن عباس رضي الله عنهما الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئاً قال وهم أهل الصفة صفة مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس
وجه الاستدلال أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحداً شيئاً أشد من أحوال من يحتاج ثم يسأل الناس ويطوف عليهم ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالاً من المسكين
الوجه السابع أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئاً فقد سكن قلبه وزال عنه الخوف والقلق ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير ويقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي ( تأن وتمسكن ) يريد تواضع وتخشع فدل هذا على أن المسكين هو السائل
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال في آية أخرى وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( الذاريات 19 ) فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل وجب أن يكون المحروم هو الفقير ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان فثبت أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين
الوجه الثامن أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أحيني مسكيناً ) الحديث والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكيناً وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) فثبت بهذا أن الفقر أشد حالاً من المسكنة
الوجه التاسع أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا الترفع والتمسكن ضدان فمن كان منقاداً لكل أحد خائفاً منهم متحملاً لشرهم ساكتاً عن جوابهم متضرعاً إليهم قالوا إن فلاناً يظهر الذل والمسكنة وقالوا إنه مسكين عاجز وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكيناً إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعاً عن التواضع والمسكنة فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع والأول ينافي حصول المال والثاني لا ينافي حصوله
الوجه العاشر قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة ( خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ) ولو كانت الحاجة في المساكين أشد لوجب أن يقول وردها على مساكينهم لأن ذكر الأهم أولى فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالاً من الفقير بوجوه الأول احتجوا بقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) وصف المسكين بكونه ذا متربة وذلك يدل على نهاية الضر والشدة وأيضاً أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع الثاني احتجوا بقول الراعي أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سيد
سماه فقيراً وله حلوبة الثالث قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس الرابع نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له وقال يونس الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له وقلت لأعرابي أفقير أنت قال لا والله بل مسكين
والجواب عن تمسكهم بالآية أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا فإنه لما قيد المسكين المذكور ههنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة قوله أنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه قلنا نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين
والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيراً فقد كانت له حلوبه ثم السيد لم يترك له شيئاً فلم لا يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيراً
والجواب عن قولهم المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت
قلنا بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال وسمي مسكيناً إما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن الأنباري رحمهما الله وأيضاً نقل القفال في ( تفسيره ) عن جابر بن عبد الله أنه قال الفقراء فقراء المهاجرين والمساكين الذين لم يهاجروا وعن الحسن الفقير الجالس في بيته والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون والمساكين الذين يسألون قال مولانا الداعي إلى الله هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل والمسكين يسأل ومن سأل وجد فكان المسكين أسهل وأقل حاجة
الصنف الثالث قوله تعالى وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي رحمه الله وقول عبد الله بن عمر وابن زيد وقال مجاهد والضحاك يعطون الثمن من الصدقات وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه الله يقول هذا أجرة
العمل فيتقدر بقدر العمل والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات ليناله منها لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال أما علمت أن مولى القوم منهم وإنما قال وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لأن كلمة على تفيد الولاية كما يقال فلان على بلد كذا إذا كان والياً عليه
الصنف الرابع قوله تعالى وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ قال ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وحويطب بن عبد العزى وسهل بن عمرو من بني عامر والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو الجهني وأبو السنابل وحكيم بن حزام ومالك بن عوف وصفوان بن أمية وعبد الرحمن بن يربوع والجد بن قيس وعمرو بن مرداس والعلاء بن الحرث أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كل رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام إلا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل فقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أحداً من الناس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ثم سأله فزاده عشرة وهكذا حتى بلغ مائة ثم قال حكيم يا رسول الله أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها فقال عليه الصلاة والسلام ( بل التي رغبت عنها ) فقال والله لا آخذ غيرها فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً وشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك العطايا لكن ألفهم بذلك قال المصنف رحمه الله هذه العطايا إنما كانت يوم حنين ولا تعلق لها بالصدقات ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة في تفسير هذه الآية ولعل المراد بيان أنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة فأما أن يجعل ذلك تفسيراً لصرف الزكاة إليهم فلا يليق بابن عباس ونقل القفال أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة وقال المقصود أن يستعين الإمام بهم على استخراج الصدقات من الملاك قال الواحدي إن الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات وأقول إن قول الواحدي إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسماً من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل البتة وأيضاً فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وهذا عام في المسلم وغيره والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه ( لا ) دليل على نسخه البتة
الصنف الخامس قوله وَفِي الرّقَابِ قال الزجاج وفيه محذوف والتقدير وفي فك الرقاب وقد مضى الاستقصاء في ( تفسيره ) في سورة البقرة في قوله وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ ( البقرة 177 ) ثم في تفسير الرقاب أقوال
القول الأول إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رحمه الله والليث بن سعد واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله وَفِي الرّقَابِ يريد المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى ( النور 33 )
والقول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون
والقول الثالث قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويما بها مكاتب لأن قوله وَفِي الرّقَابِ يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه
والقول الرابع قول الزهري قال سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة قال أصحابنا والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك وهو قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال وَفِي الرّقَابِ فلا بد لهذا الفرق من فائدة وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما فِى الرّقَابِ فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا بل يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك والحاصل أن في الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة
الصنف السادس قوله تعالى وَالْغَارِمِينَ قال الزجاج أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام العذاب اللازم وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً ومنه فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له فالمراد بالغارمين المديونون ونقول الدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة والمعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات بين والكل داخل في الآية وروى الأصم في ( تفسيره ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قضى بالغرة في الجنين قال العاقلة لا نملك الغرة يا رسول الله قال لحمد بن مالك بن النابغة ( أعنهم بغرة من صدقاتهم ) وكان حمد على الصدقة يومئذ
الصنف السابع قوله تعالى وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون يعني الغزاة قال الشافعي رحمه الله يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وإسحق وأبي عبيد وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم الله لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً
واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يوجب القصر على كل الغزاة فلهذا المعنى نقل القفال في ( تفسيره ) عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل
والصنف الثامن ابن السبيل قال الشافعي رحمه الله ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة قال الأصحاب ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة
جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل فهذا هو الكلام في شرح هذه الأصناف الثمانية
المسألة الخامسة في أحكام هذه الأقسام
الحكم الأول
اتفقوا على أن قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ دخل فيه الزكاة الواجبة لأن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً ( التوبة 103 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ليس فيما دون خمسة ذود وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل فيها لأن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضاً الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء والأقرب أن المراد من لفظ الصدقات ههنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة الثاني أن ظاهر هذه الآية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إلا لهؤلاء الثمانية وهذا الحصر إنما يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد والرباطات والمدارس وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه الثالث أن قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات وأقسامها حتى ينصرف هذا الكلام إليه والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة فوجب انصراف هذا الكلام إليها
الحكم الثاني
دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخدها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قبله والدليل عليه أن الله تعالى جعل للعاملين سهماً فيها وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات وتأكد هذا النص بقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالى وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فإذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه ابتداء
الحكم الثالث
نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق واختلفوا في أن الإمام هل له فيه حق فمنهم من أثبته قال لأن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته فالعامل في الحقيقة هو الإمام ومنهم من منعه وقال الآية دلت على حصر مال الزكاة في هؤلاء الثمانية والإمام خارج عنهم فلا يصرف هذا المال إليه
الحكم الرابع
اختلفوا في هذا العامل إذا كان غنياً هل يأخذ النصيب قال الحسن لا يأخذ إلا مع الحاجة وقال
الباقون يأخذ وإن كان غنياً لأنه يأخذه أجرة على العمل ثم اختلفوا فقال بعضهم للعامل في مال الزكاة الثمن لأن الله تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن كما أن من أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه وقال الأكثرون بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية والجمع
الحكم الخامس
اتفقوا على أن مال الزكاة لا يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط وقد سبق ذكر دلائل هاتين المسألتين إلا أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط فهذا إنما يجوز في غير العامل وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز بالاتفاق
الحكم السادس
أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان ففيه الأصناف الستة والأولى صرف الزكاة إلى هذه الأصناف الستة على ما يقوله الشافعي لأنه الغاية في الاحتياط أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما بيناه
الحكم السابع
عموم قوله لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ يتناول الكافر والمسلم إلا أن الأخبار دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إلا إذا كانوا مسلمين
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأصناف الثمانية وشرح أحوالهم قال فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ قال الزجاج فَرِيضَة ً منصوب على التوكيد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لهؤلاء جار مجرى قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه ) والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي أعلم بمقادير المصالح حَكِيمٌ لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح والله أعلم
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله أنه أذن على وجه الطعن والذم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية الأعمش وعبد الرحمن عن أبي عكرمة عنه أُذُنُ خَيْرٍ مرفوعين
منونين على تقدير إن كان كما تقولون إنه أذن فأذن خير لكم يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم والباقون أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ بالإضافة أي هو أذن خير لا أذن شر وقرأ نافع أَذِنَ ساكنته الذال في كل القرآن والباقون بالضم وهما لغتان مثل عنق وظفر
المسألة الثانية قال ابن عباس رضي الله عنه أن جماعة من المنافقين ذكروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول فقال الجلاس بن سويد بل نقول ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف أنا ما قلنا فيقبل قولنا وإنما محمد أذن سامعة فنزلت هذه الآية وقال الحسن كان المنافقون يقولون ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له وروى الأصم أن رجلاً منهم قال لقومه إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته فقال والله إنه لحق وإنك أشر من حمارك ثم بلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فقال بعضهم إنما محمد أذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك فنزلت هذه الآية على وفق قوله فقال القائل يا رسول الله لم أسلم قط قبل اليوم وإن هذا الغلام لعظيم الثمن علي والله لأشكرنه ثم قال الأصم أظهر الله تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا فقال وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ
ثم قال وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ ثم قال وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ إلى غير ذلك من الأخبار عن الغيوب وفي كل ذلك دلائل على كونه نبياً حقاً من عند الله
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأنه أذن كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال جعل فلان علينا عيناً أي جاسوساً متفحصاً عن الأمور فكذا ههنا
ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ والتقدير هب أنه أذن لكنه خير لكم وقوله أُذُنُ خَيْرٍ مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل ثم بين كونه أُذُنُ خَيْرٍ بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام أُذُنُ خَيْرٍ فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية
أما الأول وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فلأن كل من آمن بالله خائفاً من الله والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل
وأما الثاني وهو قوله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد سلم لهم ذلك القول وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار
فإن قيل لم عدى الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين باللام
قلنا لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فيتعدى باللام كما في قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( يوسف 17 ) وقوله فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّة ٌ مّن قَوْمِهِ ( يونس 83 ) وقوله أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ
( الشعراء 111 ) وقوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( الشعراء 49 )
وأما الثالث وهو قوله وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ فهذا أيضاً يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم ولا يسعى في هتك أستاركم فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه أُذُنُ خَيْرٍ ولما بين كونه سبباً للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى
المسألة الرابعة أما قراءة من قرأ أُذُنُ خَيْرٍ بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه
الوجه الأول التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ والمعنى أن من كان موصوفاً بهذه الصفات فكيف يجوز الطعن فيه وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار
الوجه الثاني أن يضمر مبتدأ والتقدير هو أذن خير لكم أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فكيف جعلتم هذه الصفة طعناً في حقه
الوجه الثالث وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم فقال أَذِنَ وإن كان رفعاً بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذناً خير إذا كان أذناً فهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم ونظيره وهو حافظاً خير لكم أي هو حال كونه حافظاً لكم إلا أنه لما كان محذوفاً وضع الحال مكان المبتدأ تقديره وهو حافظ خير لكم وإضمار ( هو ) في القرآن كثير قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ أي هم ثلاثة وهذا الوجه شديد التكلف وإن كان قد استحسنه الواحدي جداً
المسألة الخامسة قرأ حمزة وَرَحْمَة ً بالجر عطفاً على خَيْرٌ كأنه قيل أذن خير ورحمة أي مستمع كلام يكون سبباً للخير والرحمة
فإن قيل وكل رحمة خير فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير
قلنا لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير كما في قوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) قال أبو عبيد هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه قال أبو علي الفارسي البعد لا يمنع من صحة العطف ألا ترى أن من قرأ وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ ( الزخرف 88 ) إنما يحمله على قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) تقديره وعنده علم الساعة وعلم قيله
فإن قيل ما وجه قراءة ابن عامر وَرَحْمَة ً بالنصب
قلنا هي علة معللها محذوف والتقدير ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف لأن قوله أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يدل عليه
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة قيل هذا بناء على ما تقدم يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم وقيل نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا ففيهم نزلت الآية والمعنى أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكى عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم وكان من الواجب أن يرضوا الله بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه ونظيره قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا ( البقرة 4 البقرة 76 )
وأما قوله يُرْضُوهُ بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول ففيه وجوه الأول أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيماً له والثاني أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله فاقتصر على ذكره ويروى أن واحداً من الكفار رفع صوته وقال إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد فسمع الرسول عليه السلام ذلك وقال ( وضع الحق في أهله ) الثالث يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
والرابع أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر الخامس لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقاً لرضا الله تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما كما يقال إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني السادس التقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك وقوله إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ فيه قولان الأول إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا والثاني أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسداً وعناداً فلهذا المعنى قال تعالى إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ وفي الآية دلالة على رضا الله لا يحصل بإظهار الإيمان ما لم يقترن به التصديق بالقلب ويبطل قول الكرامية الذين يزعمون أن الإيمان ليس إلا القول باللسان
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْى ُ الْعَظِيمُ
اعلم أن المقصود من هذه الآية أيضاً شرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل المعاني قوله أَلَمْ تَعْلَمْ خطاب لمن حاول الإنسان تعليمه مدة وبالغ في ذلك التعليم ثم إنه لم يعلم فيقال له ألم تعلم بعد هذه الساعات الطويلة والمدة المديدة
وإنما حسن ذلك لأنه طال مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معهم وكثرت نهاياته للتحذير عن معصية الله والترغيب في طاعته فالضمير في قوله أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ ضمير الأمر والشأن والمعنى أن الأمر والشأن كذا وكذا والفائدة في هذا الضمير هو أنه لو ذكر بعد كلمة ءانٍ ذلك المبتدأ والخبر لم يكن له كثير وقع فأما إذا قلت الأمر والشأن كذا وكذا أوجب مزيد تعظيم وتهويل لذلك الكلام وقوله مَن يُحَادِدِ اللَّهَ قال الليث حاددته أي خالفته والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة واشتقاقه من الحد ومعنى حاد فلان فلاناً أي صار في حد غيره حده كقوله شاقه أي صار في شق غير شقه ومعنى يُحَادِدِ اللَّهَ أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة وقال أبو مسلم المحادة مأخوذة من الحديد حديد السلاح ثم للمفسرين ههنا عبارات يحالف الله وقيل يحارب الله وقيل يعاند الله وقيل يعاد الله
ثم قال فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ وفيه وجوه الأول التقدير فحق أن له نار جهنم الثاني معناه فله نار جهنم وإن تكرر للتوكيد الثالث أن نقول جواب مِنْ محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم قال الزجاج ويجوز كسر ءانٍ على الاستئناف من بعد الفاء والقراءة بالفتح ونقل الكعبي في ( تفسيره ) أن القراءة بالكسر موجودة قال أبو مسلم جهنم من أسماء النار وأهل اللغة يكون عن العرب أن البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام عندهم فجاز في جهنم أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ومعنى بعد قعرها أنه لا آخر لعذابها والخالد الدائم والخزي قد يكون بمعنى الندم وبمعنى الاستحياء والندم هنا أولى لقوله تعالى وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
واعلم أنهم كانوا يسمون سورة براءة الحافرة حفرت عما في قلوب المنافقين قال الحسن اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على أمر من النفاق فأخبر جبريل الرسول عليه الصلاة والسلام بأسمائهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إن أناساً اجتمعوا على كيت وكيت فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربهم حتى أشفع لهم ) فلم يقوموا فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ( قم يا فلان ويا فلان ) حتى أتى عليهم ثم قالوا نعترف ونستغفر فقال ( الآن أنا كنت في أول الأمر أطيب نفساً بالشفاعة والله كان أسرع في الأجابة اخرجوا عني اخرجوا عني ) فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكلية وقال الأصم إن عند رجوع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به فأخبره جبريل وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال ( من عرفت من القوم ) فقال لم أعرف منهم أحداً فذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسماءهم وعدهم له وقال ( إن جبريل أخبرني بذلك ) فقال حذيفة ألا تبعث إليهم ليقتلوا فقال ( أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا الله ذلك )